سميرة
عزام
(1926_ 1967)
مناضلة آلمها حزيران حتى الموت ومبدعة غفت عنها الدراسات
الاحد ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٥
بقلم الكاتبة:
نجمة خليل
حبيب
"لم تظلم كاتبة في الوطن العربي كما ظلمت سميرة عزام . . . هذه المرأة الخضراء
الظل . المبدعة المناضلة، الشامخة المقاتلة. هي رائدة القصة القصيرة ولم تأخذ
حقها من النقاد , ولم تنشر أعمالها كما ينبغي لكاتبة في مثل مقدرتها". "1 " لعل
في هذه الشهادة، ولو متأخرة، ردّ اعتبارٍ لكاتبة مبدعة كان غيابها دراماتيكيا
في توقيته وطريقة حدوثه. إذ أن سميرة عزام قضت إثر نوبة قلبية وهي في طريقها من
بيروت الى الاردن للم شمل جماعتها السياسية التي بلبلتها الهزيمة الحزيرانية.
ويعتقد الكثيرون ممن عرفوا الكاتبة معرفة حقيقية، ومنهم صاحبة هذه المقالة، أن
الهمَّ الحزيراني هو المسؤول الاول عن موتها. ونحن اليوم إذ نتذكر سميرة عزام
نتذكر فيها الاديبة المبدعة التي لم يشغلها إبداعها عن هموم قضيتها ولا أخذت
قضيتها من مستوى إبداعها
وللكاتبة خمس مجموعات قصصية هي : ـ أشياء صغيرة ( 4591 ) ـ الظل الكبير ( 6591
) ـ . . . وقصص أخرى (0 691 ) ـ الساعة والانسان (؟. . . ) ـ العيد من النافذة
الغربية (؟. . . ) كما ان لها رواية لم تكتمل بعنوان " سيناء بلا حدود " وبعض
القصص القصيرة غير المنشورة.
رغم ان الدراسات التي تناولت أدب سميره عزام قليلة ومتسرعه، إلا أن هنالك رأيين
متناقضين بالنظر الى أدبها. إذ يرى أحدهما فيه أدب فلسطيني بامتياز سواء ما كان
منه مباشراً أو غير مباشر، فيما يرى آخرون ان الكاتبة التي ابتعدت عن شعبها
وأوجدت لنفسها مكانا بعد هجرتها من فلسطين (كانت تعمل في أذاعة الشرق الاوسط)،
لم تستطع ان تتحسس معاناة هذا الشعب في مخيماته واقتصرت اهتماماتها على موضوع
المرأة. . . فأين تقع سميرة عزام من هذين الرأيين ؟
الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن أدب سميرة عزام كان في مرحلته الاولى يزخر
بمشاعر الالم والخيبة والمرارة, فصور البؤس تكاد تهيمن على مجموعاتها الثلاث
الاول هيمنة شبه كاملة. والقضية الفلسطينية التي هي في جزئها الاكبر , مأساة
إنسانية, يقوم بينها وبين نماذج الكاتبة القصصية قاسم مشترك هو مزيج من خيبة
ويأس والم وصراع بقاء. من ناحية اخرى نلاحظ لدى قراءتنا لأدبها، ان تغييرا في
المنهج والطرح بدأ يطرأ على هذا الادب مع بداية التغيير الذي بدأ يطرأ على حياة
الفلسطيني. لقد أخذت قصصها تنبض بالتفاؤل والامل ابتداء من اوائل الستينات مع
ظهور فجر المقاومة الفلسطينية. ولعله من المفيد قبل الشروع قي البحث عن فلسطين
في هذا الادب ,إلقاء الضوء على رؤية صاحبته السياسية .
تعتقد الكاتبة, ان الشعب الفلسطيني مر قبل الستينات, في مراحل سياسية ثلاث:
مرحلة الضياع وهي الفترة الاولى, اول عهده باللجؤ , ما بين 1948 وحتى منتصف
الخمسينات, حيث كان همه إيجاد المأكل والمأوى والملبس, وإن اعتنق مبادئ ما فهي
مبادئ تعتمد على القوى الدينية والسلطة التقليدية. هاتان السلطتان اللتان .كان
وقتها يأمل فيهما خيرا, ولكن . . . وبعد ان خاب أمله ولم تستطيعا أن تعيدا له
فلسطينه, بدأ ينضم الى اعدائها المتمثلين بالاحزاب السرية والمرخصة. وقد كان
الفلسطيني مادة دسمة لهذه الاحزاب، لذا كان حضوره قويا بارزا في معظمها على
امتداد الوطن العربي, سواء منها اليمينية أو اليسارية. إلا أنه ما لبث ان اكتشف
ان هذه الاحزاب تعتبر قضيته مجرد واحدة من قضاياها العديدة بينما يريدها هو
اللب والاول والاخير "2". فحركة القوميين العرب مثلا, والتي كانت تستقطب قسما
كبيرا من الشعب الفلسطيني, كانت تنظر الى الوحدة العربية كحركة شاملة تجمع
الامة من المحيط الى الخليج لتكون قوة فاعلة في العالم, بينما كان الفلسطيني
ينظر اليها كقوة فاعلة تستطيع ان تعيد اليه فلسطينه. لذلك بدأ ينظم نفسه في
تشكيلات خاصة لها خصائصها داخل هذه الاحزاب فكانت مثلا حركة شباب الثأر داخل
حركة القوميين العرب .
هذه المراحل الثلاث , ما لبثت ان تطورت فيما بعد لتصل الى قناعة جديدة هي ضرورة
الاعتماد على النفس وبدء حركة الكفاح المسلح فكان ان ظهرت "منظمة العاصفة "
التي قامت بأول عمل عسكري ضد الدولة الصهيونية والتي نمت وتطورت حتى وصلت الى
منظمة شرعية تحمل اسم منظمة التحرير الفلسطينية . والسؤال الذي نحن بصدده هو:
أين يقع ادب سميرة عزام من قضية شعبها ؟ ! . . . علما ان القدر لم يمهلها لتشهد
تطورات هذه القضية، فقد قضت بعد فترة وجيزة من حرب حزيران.
إن القراءة المتأنية لهذا الأدب تظهر أن عزام كانت من حيث تدري او لا تدري
مسكونة بالهمّ الفلسطيني. فما مشاعر الالم والتحسر والضياع إلا ترجمة لمعاناة
الفلسطينيين في زمن كتابة تلك النصوص. وهي وان لم تخلع على شخصياتها صبغة
فلسطينية صريحة, الا ان ملامحهم كانت تطل وكأنها خارجة لتوها من احدى المخيمات
الفلسطينية "3". ففي مجموعتها الاولى "أشياء صغيرة ", صور لأناس يبحثون لأنفسهم
عن مكان في هذا العالم . . . يصارعون البقاء , يحتالون بشتى الوسائل لتأمين
معاشهم إلا أنهم دائما مخيبون. ففي قصة "حكايتها ""4" تصوير دقيق لصورة من صور
الظلم الاجتماعي يقع على بطلة القصة, وما هذا الظلم الفردي الا جزء من الظلم
العام الذي وقع على الشعب الفلسطيني. فكأن الكاتبة أذ تبرر لبطلتها سقوطها فهي
إنما تبرر سقوط شعبها. فكما ان الحياة قست على بطلة القصة وتركتها وحيدة قاصرا
في خضم الحياة, كذلك ترك الشعب الفلسطيني وحيدا يصارع قوى عالمية لا طاقة له
على مجابهتها. وكما ان الحرقة والالم جاءاها من إدانة أخيها لها كذلك كان
الفلسطينيون يتألمون ويتحرقون لآن اصابع الاتهام كانت توجه إليهم بانهم باعوا
أرضهم لليهود وتخلوا عن قضيتهم كمثل ما اتهمت البطلة ببيع شرفها. وكما تشفق
البطلة على اخيها رغم انه حكم عليها بالموت وتجد له الاعذار هكذا كانت حال
الفلسطينيين في دول اللجؤ المضيفة. وبالعودة الى زمن كتابة القصة نرى ان هذه
الحالة كانت تعمّ الشعب الفلسطيني بمجمله. كما ان لعلاقة التجاذب والتنافر التي
كانت قائمة بين الفتاة وأخيها مقابل لما قام بين االفلسطيني وإخوانه في الدول
المضيفة. فهي تحتمي به من المعلّم ومن عوض ومن الناس ومن الاحاسيس التي تعصف
بقلبها. وهي تشفق عليه بعد ان صار كبيرا من ان يبيع حياته رخيصة. وهو من جهته
يتحسس الامها حتى دون ان تبوح بها وييبكي لبكائها دون ان يدري دوافعها لهذا
البكاء . . . وفي زمن آخر يشتري سلاحا ليقضي به عليها. لا تحتاج الصورة الى
كبير جهد لاستشفاف العلاقة بينها وبين علاقة الفلسطيني بمحيطه في مطلع
الخمسينات . ثم ان الكاتبة تصف الفتاة بانها مرذولة في منفاها إذ طردها النذل
إلى الشارع مطعونة الكرامة, سليبة الاباء, وجلى، حيرى, باكية محطمة . . . تعصف
بها النقمة وتلاحقها الرزاية الى كل مكان . . . وهناك , في القرية , تعلمت أن
تحقد وأن تنتقم , تعلمت ان تصهر بشريتها , تعلمت أشياء واشياء . فلو اننا
استبدلنا كلمة قرية بكلمة مخيم , ألا يكون ذلك تصوير لحال الفلسطيني يومذاك؟ !
. . .
الخييبة في قصة الى حين"5" رغم الطابع الاجتماعي الذي تنحوه أقصوصة "إلى حين",
ورغم تركيزها على عيب اجتماعي وتحليل دقيق لظاهرة متفشية في مجتمعنا, إلا أن
حيثياتها تحمل معاني فلسطينية, وتكشف عن معاناة عميقة من الالم والمرارة والاسى,
وإلا لكانت الكاتبة انجحت الخطة التي حبكتها العمتان , وجعلت العريس يقع في
الشرك. إذ أن ظروفا مؤاتية كثيرة كانت كفيلة بإنجاح الخطة . فالفتاة "حلوة"
وابنة "عيله" وحكم الجيرة يجعل الاتصال ممكنا والشاب لطيف وقد استهوته الفتاة.
فلو ان نفس الكاتبة لم تكن مشحونة بخيبة عميقة لكانت سارت بشخصياتها غير هذا
المسار الدرامي . ولعل قائل يرى مرد هذه النهاية الفاشلة الى فلسفة تعتنقها
الكاتبة , لا الى حالة ذهنية تعيشها. ولكن لو كان الامر كذلك حقا, لكانت القصة
سارت مسارا اخر. لكانت الخطوبة تمت, مثلا, أو حتى الزواج, ومن ثم يعقبهما فشل.
كما انه لا يخفى ما تحمّله الكاتبة للشخصية المحورية سعاد من أدانة على
سلبيتها, فهي تؤمر فتطيع, تخطط لمستقبلها عمتان فشلتا في إنشاء اسرة فلا تعترض.
. . ألا يتضمن هذا الطرح إدانة للفلسطيني الذي أسلم أمره للقيادات العربية
العاجزة ؟ ! . . . لماذا تغاضت الكاتبة عن رسم ما يدور في خلد الفتاة من مشاعر
ـ اللهم إلا تلك الومضة العابرة (فهي في احلامها أجرا منها في الحقيقة ) ـ ثم
لماذا اختارت عمتين عانسين للعب دور القيادة في حياة الفتاة , لماذا غيبت الام
مثلا. أليس في تغييبها تمهيد لكسر هارمونية الحدث وجره الى نهايته الدراماتيكية
تلك؟ . . ولماذا جعلت العريس وهو شخصية محورية في القصة طالبا, والطالب شخصية
لم تتحق استقلاليته بعد، فهو لا يزال عالة على المجتمع ولا يملك حرية القرار؟
لماذا كل هذه الشخصيات العاجزة في القصة ؟! . . . العمتان, العريس, الفتاة,
الام المغيبة . . . إن القصة، على قصرها، تؤدي في النفس مثل الاحساس الذي تؤديه
رواية الكاتب غسان كنفاني "رجال في الشمس ""6". فمثلما قاد عملية التهريب داخل
الخزان هناك رجل عاجز جنسيا , كذلك كانت القيادة هنا لعمتين فشلتا في تاليف
أسرة اسوة ببقية ابناء البشر . العقم, رمز العجز, كان هناك جسديا , اما هنا فهو
نفسي. ومثلما أدَّت قيادة ابي خيزران الى فشل عملية التهريب, كذلك أدت قيادة
العمتين إلى فشل الزواج. وحتى لهجة المرارة في نهاية القصتين هى ذاتها. في
الاولى انتهى امر المهربين الى كومة زبالة وهنا انتهى أمر الفتاة بالعودة الى
ما كانت عليه من أمر مزرٍ قبل بدء الحدث. الفرق الوحيد بين القصتين هو ان
الاولى كانت واضحة قي رمزيتها, فأشخاصها فلسطينيون ومأساتهم فلسطينية, في حين
كانت شخصيات قصة "الى حين" شخصيات قي المطلق لا تنتسب الى زمان او مكان معينين.
ولكن أعماقها الحقيقية تنتسب االى زمن البؤس الفلسطيني, يوم كانت النكبة ما
تزال صدمة على الدماغ, تذهل وتحبط وتخلخل الكيان . . . أما لماذا كان القصد في
رواية كنفاني مباشرا وهنا لا, فلأن الرواية كانت قد كتبت في زمن متأخر عن القصة
بثماني سنوات, أي حين بدأ الفلسطيني يستفيق من صدمته, يقبل الهزيمة ويعترف بها,
في حين كانت ولادة قصة سميرة عزام في زمن الغيبوبة, في زمن كان الفلسطيني
خلالها لا يجرؤ على كشف نفسه , كان احساسه بالعار قويا, فهو لم يع بعد حقيقة ما
حدث , وأثر الخطيئة يحمله في دمه كالزانية التي يفضحها امر حملها "7"
صراع البقاء في "عقب سيجارة" "يائع الصحف" و "نافخ الدواليب" مسالة المعاش
مسالة عامة يشترك فيها جميع أبناء البشر وتأمين الكفاية الاقتصادية غاية كل
مخلوق على هذه الارض, اذ انها صورة من صور صراع البقاء. وان رفلت بعض المجتمعات
في نعيم ورخاء اقتصادي لفترة زمنية ما, فهي مع ذلك لم تعدم وجود حالات من البؤس
والبطالة وضيق ذات اليد المذلة احيانا. واذ تكثر مثل هذه الحالات فانما تكثر
إبان الحروب أو عقبها حصيلة ما يصيب الفرد من تشرد واكراه على ترك ارضه أو مصدر
رزقه فينشأ عن ذلك افواج من الجياع الذين تضطرهم الحاجة الى الاحتيال على
معاشهم بشتى السبل. لذلك تكثر مثل هذه الصور في اعمال المجلين من الادباء على
مر العصور , خصوصا في فترات الكساد الاقتصادي. فمن "دافيد كبرفيلد", الى
"البؤساء"، الى "بائعة الخبز", الى ام مكسيم غوركي الى معذَّبي طه حسين, صور
لصراع الانسان مع الرغيف . . . وأدب سميرة عزام مليء بمثل هذا الصراع وهي,
كعادتها, تختار نماذجها مطلقة حرة خارج حدود الزمان والمكان. الا ان معرفة
بسيطة بخلفية الكاتبة تجعلنا نستشعر ملامحها الفلسطينية , ولربما, على حد تعبير
جبرا ابراهيم جبرا , طالعة لتوها من احدى المخيمات . ففي قصة "عقب سيجارة " نرى
المرأة مرمية على السرير الفقير تعاني آلام المخاض وزوجها قابع ذليل بعد ان
أدّى به فقدان نور عينيه الى خسارة عمله. ألا توحي هذه الحالة التي صارت اليها
العائلة المذكورة بحالات مماثلة لآلاف من الفلسطينين الذين كانوا يعانون
الإملاق والفاقة نتيجة خسارتهم لأرضهم مصدر رزقهم ؟ ! . . الا يمكن ان يكون
فقدان البصر رمزا لفقدان الوطن؟ ! . . . وهؤلاء الصبية الذين يحتالون على
معاشهم بجمع اعقاب السجائر واستبدالها بقطع صغيرة من الهريسة, ألا يشبهون اطفال
غسان كنفاني أمثال حميد بائع الكعك وطفل المنزلق وطفل زمن الاشتباك ؟ ! . . .
كلهم يصارع البقاء وكلهم يحتال على معاشه. الفرق الوحيد هو ان اطفال كنفاني
ينتمون الى هوية محددة وأنساب فلسطينية واضحة في حين كان الاطفال هنا اطفالا في
المطلق بلا انساب. ولعل في نهاية القصة إضاءة تثبت هذه المقولة, فضابط الشرطة
يظهر ليشهد على ماضي الرجل العريق ويزيح عنه تهمة الذل التي الصقت به ( ألا
يدعي كل فلسطيني عندما يلاقي نفسه في موقف مهين أنه كان له ماض عريق في وطنه ؟
! ! . . . ) في قصة بائع الصحف يتساءل بعض النقاد لماذا لجأت الكاتبة الى هذه
النهاية التعسة في قصة "بائع الصحف", ويعزون الامر الى سوداوية في نفس الكاتبة
هي بعض من مرض العصر وواحدة من صفات الشخصية الرومانسية . الا انني من جهتي ارى
فيها انعكاسا للقضية الفلسطينية. فبائع الصحف شخص نشيط ممتلئ حيوية, ناجح مخلص
لعمله, انتقاه مما يناسب اهواءه, فقد أعرض عن اعمال اخرى كأن يكون بائع امشاط
ودبابيس في محطات السيارات، وهو متقن لصنعته يعرف أصولها والطريقة المثلى
للوصول الى مبتغاه. كل الدلائل تشير إلى أن الشخصية صاعدة في خط إيجابي, ولربما
أخذ القارئ يهيء نفسه للوصول بهذه الشخصية الى نهاية مفرحة, ولكنه لا يلبث ان
يفاجأ بانكسار الحدث انكسارا صادما مؤلما. والقارئ المتسرع قد يعتقد ان مثل هذه
النهاية لعبة فنية لجأت اليها الكاتبة لتعطي قصتها صفة المميز الذي يثبت اكثر
في الاذهان. اما القراءة المعمقة فترى ابعد من ذلك.
لقد اتفق معظم النقاد العالميين ان نفس المبدع كالمرآة تعكس صور الحياة, فهو إذ
تقع الاحداث عليه يستقبلها كغيره من البشر, ولكنه لفرط حساسيته ورهافة مشاعره,
يكون احساسه بها اشد واعمق , فتنصهر في داخله ويعيدها الينا بصورة اخرى, تماما
كمثل النحلة التي تمتص رحيق الزهر فتحوله الى مادة مغايرة هي العسل. هذا الرحيق
هو نفسه العسل ولكن بصورة تختلف عما الفناه نحن. وهذا ما فعلته الكاتبه في هذه
القصة، لقد امتصت نفسها نكبة شعبها فصهرتها وحولتها الى شيء مغاير للمألوف,
لذلك كان من غير الممكن ان تنتهي هذه القصة نهاية سعيدة, وإلا لكانت الكاتبة في
واد وشعبها في واد آخر. ولعل هذه النهاية هي صك البراءة الذي أزاح عنها تهمة
الانسلاخ عن شعبها وعدم تحسسها ماسيه، فالاديب الحق هو من كانت اغواره بعيدة,
يستطيع ان يحول العادي الى مدهش, وان يأخذ من صورالحياة ابسطها ويعبر بواسطتها
عن رؤيا عميقة, وبقدر ما يكون موضوعه بسيطا وعاديا بقدر ما يكون تاثيره افعل,
لانه بذلك يكون بعيدا عن الخطابي والمباشر الذي تمجه النفوس عادة. يكون
كالموسيقى المنبعثة من زقزقة العصفور تنساب الى داخل النفس على مهل دون جلبة
ولا ضجيج .
بهذه الطريقة عبرت سميرة عزام عما جرى في فلسطين عام 1948. وبقالب قصة بسيطة
عادية بطلها بائع صحف ولكنه بالحقيقة نموذج تمثل همومه هموم شعب. فالايدي
الخفية والترام الاخر الاتي من وراء المنعطف, تصنع له مصيره كمثل ما صنعت
المؤامرات الخفية مصير الشعب الفلسطيني الذي كان يشبه عبود باندفاعه وحيويته
واقباله على الحياة. فمثلما انكسر الحدث في القصة حدثت النكبة . . يقول غسان
كنفاني في قصة رمزية قصيرة "الاخضر والاحمر": كان ماض الى الزوج والولد وجدران
اللحم والدم التي كانت دائما هناك, في ايار وفي غير ايار . . . لم يكن يظن لحظة
واحدة ان بينه وبين الزوج والولد وجدران اللحم والدم والحب لحظة موت واحدة,
واقفة عند المنعطف, مشهرة اظافرها . . . ولم يكن يعرف انها هناك"8". إن ما
قالته هذه القصة مباشرة عبرت عنه قصة "الى حين" باسلوب مختلف
الهم الفلسطيني في أدب سميرة عزام
إذا كانت كتابات سميرة عزام الاولية تنحو في ظاهرها منحى اجتماعيا, وتتحاشى
الظهور بثوب فلسطيني واضح, فان هذا الامر بدأ يتغير مع تقدم عمر القضية, وبدأت
نماذجها تعلن عن نسبها الصريح. من بين هذه النماذج, ما عالج خاصية الانسان
الفلسطيني: موقعه الجديد في هذا العالم , العقبات التي برزت في وجهه والمشاكل
اليومية التي كان عليه ان يعالجها ويتخطاها. ومنها ما عالج مواضيع نضالية وابرز
صورا بطولية وقسم آخر تحدث في لواعج الشوق والحنين الى ذلك الوطن المسلوب. وبين
هذه وتلك طرحت الكاتبة رؤيتها السياسية , مقنعة حينا سافرة احيانا اخرى.
معاناة اللجؤ في: "فلسطيني", "لانه يحبهم" و"عام آخر" في قصة بعنوان "فلسطيني"
"9" من مجموعة "الساعة والانسان", تعالج الكاتبة هماً عاناه وأحس به معظم
الفلسطينين عموما, واولئك الذين لجأوا الى لبنان خصوصا ـ عنيت به مسالة
الانتماء ـ فالفلسطيني ـ كونه لاجئا ـ محروم من ابسط الحقوق المدنية, محروم من
حق الحصول على عمل ـ اللهم الا ما تؤمنه هيئة اغاثة وتشغيل اللاجئين ـ محروم من
حرية التنقل, من جواز السفر, من نعمة المناداة باسم محدد, من نعمة الاستقرار .
. .لذا امسى امر الحصول على الجنسية اللبنانية هاجسا يراود البعض. لا لنقص في
وطنيتهم ولا انسلاخا منهم عن قضيتهم بل لانها باب يسهل لهم الولوج في المجتمع
الجديد ( كما كانوا يبررون ). فاستغل المراوغون هذه اللهفة واصطادوا في الماء
العكر. وخلاصة القصة أن فلسطينيا ملّ حالته الشاذة هذه, وأراد التخلص من ادران
اللجؤ بالحصول على الجنسية اللبنانية. وقد كان الثمن الذي طلبه ذلك الشخص
المتعارف عليه بالسمسار , باهظا جدا , ولكنه بعد ان عدد مساوئ كونه لا يحمل
جنسية, قرر ان يضحي ببيع قسم كبير من مخزنه, ليؤمن المبلغ المطلوب ثمنا للهوية.
وعلق على تصرفه بسخرية قائلا : "ساعلق فيها ( يعني واجهة الدكان) تلك الهوية ,
فقد يعرف لنا الناس اسما" . . . لكنه صعق وآلت أمانيه الى سراب بعد عدة اسابيع
, عندما تبين له ان الرجل الذي مهر له الهوية كان مزورا مشهورا وقد القي القبض
عليه، فذهبت امانيه ونقوده هدرا
لقد استوفت الكاتبة في قصتها جميع الشروط التقنية التي تواضع عليها المنظرون
للقصة القصيرة : وحدة في الزمان والمكان. وحدة في النسيج والبناء. سيطرة
الاحساس الواحد. كشف رائع لما يعتمل في داخل الشخصية المحورية. إلا ان جملة
واحدة اخرجت القصة من فنيتها واسقطتها في الخطاب الشعاري المباشر : " ستظل
حقيقتك مفرغة حتى تملاها بغير الزور , بغير خديعة المزورين "10" وفي قصة "لإنه
يحبهم" "11" تعرض الكاتبة الى الحالة المزرية التي آل اليها الفلسطينيون. فقد
دفعت الظروف الصعبة بعضهم الى الانحراف فبرز بينهم اللص والمجرم والبغي. تقول
القصة على لسان احد الشخصيات: "في مثل ظروفكم يا صاحبي لا يدري المرء في اية
لحظة يمكن ان يصبح لصا" "12"، ولكنها تعود وترد على هذا الادعاء على لسان بطل
القصة: "وصفي ليس نذلا . . . كاد يضرب طبيبا لانه رفض ان يكتب تقريرا لامرأة
فقيرة يخولها دخول المستشفى . . ليس لصا. . . مساعداته الصغيرة لعمته الارملة
وابن خالته العاطل عن العمل تاتي قبل اي حساب في مرتبه""13". وكذلك القول عن
"فياض الحج علي" فهو لم يكن مجرما, إلا انه فقد الكرامة حين فقد الارض . . .
وكذلك البغي التي احترفت الاثم . . . وبعد ان يستعرض كل هذه المآسي يخلص الى
قرار بضرورة حرق مخازن المؤن في وكالة الغوث, لانها برأيه، هي المسؤولة عن
الخدر الذي اصاب شعبه وهو يريد لهم ان يجوعوا ليتمرد فيهم اليأس على الرغيف
الذليل.
لقد وقفت الكاتبة في بداية القصة وقفة محايدة لا يتعدى دورها دور ساعي البريد
الذي ينقل الخبر، فكادت تقنعنا لوهلة بهذا الدور, إلا ان النهاية اربكت القصة
واوقعتها بوعظية مباشرة, وبدا الحدث لامنطقيا والعقدة مصطنعة غير مقنعة. وبدت
الاسقاطات والشعارات السياسية واضحة مفروضة على سير الاحداث :" انظروا ها انا
أدوس دقيقكم بحذائي ,أعفر قدمي بتراب فولكم . . . أعلمكم ان جوعوا ليتمرد فيكم
الياس . . . لتكبروا على الرغيف الذليل ""14". أما أسباب هذا السقوط، برأيي
المتواضع، فيعود الى الجو المشحون الذي كانت الكاتبة تعيش تحت وطاته زمن القص.
وكوني شاهدة من تلك الحقبة، أستطيع ان اتحسس مشاعر الكاتبة والألم النفسي الذي
عانته في حينه. لقد كانت الصحف اليومية تطلع وصفحات حوادثها تمتلئ بأخبار الجنح
والجرائم، مركزة بالتفصيل الدقيق على جنسية وعمر ومكان إقامة صاحب الفعلة عندما
يكون الجاني فلسطينيا. فهذا فلان ابن فلان . . من مخيم كذا . . . قتل . . . سرق
. . . اعتدى . . . وكان هذا التشهير المتعمد يؤلم الكاتبة ويؤذي مشاعرها,
ولطالما وقفت في حيلتها اليومية موقف المتهم الذي يجهد لدفع التهمةعن نفسه.
ولعل هذه القصة هي بالاساس من هذا الباب
الملاحظ في أدب عزام ان العقال ينفلت من يدها عندما يكون الموضوع فلسطينيا
مباشرا في حين تبقى مسيطرة على كل خيوط حبكها في غير ذلك . . . هل هو الهم الذي
يرخي بثقله على قلبها وعقلها فيخرجها عن فنيتها ؟! . . . أم ان الكاتبة ارادت
ان تسخر فنها لغرضها السياسي (الوطني) متخطية كل القيم الجمالية والموازين التي
تحكم فن القص, فالموضوع خطير ومصيري ترخص إزاءه كل التضحيات ؟ ! .
يعرف كل من مارس الكتابة الابداعية انه ليتم له عمل أدبي ناجح لا بد ان تكون
هنالك مسافة بينه وبين الموضوع الذي يعالجه. ويحضرني بالمناسبة رد للشاعر
أدونيس عندما سئل عن موقع زوجته الدكتورة خالدة السعيد في أدبه فقال: انا لا
استطيع ان اكتب شيئا عن خالدة انها لصيقة الى النفس فلا استطيع ان اجعل بيني
وبينها مسافة تمكنني من رؤياها موضوعا"15". ويعلم كل من عرف سميرة عزام ان
فلسطين لم تكن عندها في القلب بل كانت القلب كله. وفي قصة "عام اخر" "16" عرض
للمعاناة من جانبها النفسي. تأكيد على حرص اللاجئ الفلسطيني وسعيه الدؤوب لرأب
الشرخ الذي أصاب عائلته وذلك عن طريق تصوير لهفة أم لملاقاة ابنتها بعد ان
حرمتها لسنوات طوال ووصف المشقة التي عانتها هذه الام في رحلتها من لبنان الى
القدس العربية لتحظى بهذا اللقاء. ولكي يستطيع القارئ فهم أبعاد المعاناة في
القصة يجب ان يعي الظروف التي كانت قائمة آنذاك والتي تتلخص بالاتي: لغاية ما،
كانت سلطات الاحتلال الاسرائلي تسمح لعرب فلسطين المسيحيين المقيمين في الداخل
بالذهاب مرة في العام الى القدس العربية لزيارة الاماكن المقدسة خلال فترة عيد
الميلاد. وكانوا هم من جهتهم يستغلون هذه المناسبة لملاقاة افراد اسرهم
المقيمين في دول اللجؤ والتعرف على احوالهم. وتصور القصة بفنية عالية رحلة الام
ومعاناتها للقاء ابنتها التي لم تتمكن من المجيء الى القدس ذاك العام لان زوجها
مريض. فتعود مخيبة مكسورة الخاطر. إلا ان الامل يظل يحدوها بامكانية التعويض في
العام التالي ."إذا عشت عاما اخر فسآتي اليها زاحفة . . وإذا عاجلتني رحمة الله
. . فلن أموت الا بحسرتين حسرة بلدي وحسرة ماري وقبلة على خدها ! "17".
يلاحظ ان الكاتبة تحاشت ما وقعت فيه من وهن في القصتين السابقتين. فلا وعظ ولا
حكمة صارخة , انما انسياب طبيعي للاحداث ورشاقة عبارة تقودنا بهدوء للنهاية
المؤلمة وتترك للمتلقي متعة استشفاف الرؤية الخفية التي ارادتها. ولعل اصدق
وادق تعليق على هذه القصة هو ما اورده الباحث هاشم ياغي , يقول: ان القصة غنية
بالحياة وفيها استطاعت الكاتبة ان تملأ الجو بحيوية رائعة على لسان بطلتها
العجوز (أم عبود) وكانت البراعة من الدقة بحيث انهمرت العجوز بحديثها الذي كان
يفيض ملتصقا بالاماكن وايحاءاتها بلا مشقة ولا تدبير عميق منها . "18"
نضال, بطولة. . . في "خبز الفداء", "الطريق الى برك سليمان"
"19"
قد تكون قصة "خبز الفداء " من انجح القصص التي عالجت موضوع المقاومة الفلسطينية
عام48. وتكمن قيمتها بتلك المقدرة التي مكنت الكاتبة من سرد الحقيقة التاريخية
بطريقة فنية مبدعة: فالأسلوب سلس مكثف بالعبارة الشعرية والصور تتلاحق بتسلسل
طبيعي لا مبالغة فيه ولا إدعاء ولا حتى عاطفة مسطحة . . . لا وعظ ولا إرشاد الى
ان تاتي النهاية مقنعة على قساوتها. وباختصار, تتحدث القصة عن ضراوة المعركة
وعدم التكافؤ بين الفلسطيني وعدوه المدرَّب. كما أنها تؤرخ لمعركة حيفا وما نجم
عنها من نزوح وضغوط على المواقع الاخرى. وتمتزج في القصة معاني الحب والبطولة .
وقد تكون سميرة عزام من اوائل الذين ابرزوا للمراة دورا إيجابيا في النضال
نابعا من قناعاتها الشخصية لا ردّ فعل على حادثة ما أو استجابة لظروف خارجية
قاهرة. فسعاد اختارت المقاومة إيمانا محضاً وحاربت كل الضغوط التي وقفت في وجه
اختيارها: تمردت على قرار الاسرة ولم يستطع اخوها ان يحملها على النزوح الى
لبنان مع بقية العائلة بل قاومته فضربها "ولم تجد امامها الا الفرار . . . إنها
آخر من يسافر" . وتخاف الكاتبة ان يساء فهم دوافع بطلتها , فتوضح: "وانفجرت في
وجهه [حبيبها]: "لا ليس بسببك . . صحيح انني أحبك ولكنك لست كل شيء؟ ! ! . . .
""20" لم ترهق الكاتبة الفكرة بكثير من الشروحات ولم تطلق لبطلتها العنان لتعطي
حبيبها درسا بالبطولة والوطنية, بل اكتفت بقول "ولكنك لست كل شيء." فكانت هذه
العبارة على قصرها كافية لتقول لنا وللحبيب الشيء الكثير. كما أن القصة تتميز
بحرارة وانسيابية الحوار الداخلي الذي قام في نفس البطل. أيسمح او لا يسمح
لرفاقه ونفسه ان يتغذوا خبزا مغموسا بدم الحبيبة؟. وقبل ان ينتهي به القرار الى
نعم, تكون الكاتبة قد هيأتنا لقبول الامر على صعوبته. "ثم يحمل خبزاتها وبكل
الجو الشعائري الذي يقدم كاهن كنيسة شرقية خبز المسيح يقول لهم : كلوا هذا هو
جسدي . . . وهذا هو دمي فاشربوا" "21" . رمزية لا يغفل عنها قارئ متمعن رمزية
تماهي الفلسطيني الفدائي بالسيد المسيح الذي قدم نفسه على الصليب الذي قدم نفسه
فداء لبني للانسان. "في الطريق الى برك سليمان" صورة أخرى من صور النضال
الفلسطيني, وفيها تصوير لضغط الظروف على مقاتلي48, الامر الذي اضطرهم الى ترك
المعركة والهروب مكرهين. وتسرف الكاتبة في وصف حالة بطلها الذي تخلى عن سلاحه
بعد ان سدت جميع السبل في وجهه ولم يعد لمقاومته اي معنى سوى انها انتحار رخيص.
فكأنها بذلك ارادت ردا على الاتهامات التي كان يرمى بها الفلسطينيون زمن القص
من انهم تخاذلوا وجبنوا وباعوا بلادهم لليهود. وتهيئنا القصة للحدث منذ الجملة
الاولى : "كان يدري أنها معركة غير متكافئة , فرصاصاته رغم حقدها لا تفعل اكثر
من ان تستثير زخة دمار جديدة . وكان يدري ان إطلاقها لون من الوان العبث ,
فرشاشه ليس أكثر من لعبة اطفال امام القذائف التي تتوالى . . [ رغم كل هذا صمد
على امل ان تتغير الظروف] وكانت زوجته تقف وراءه تقوي فيه عزيمة الصمود ,
وتحاول ان تغالب هلعها امام إلتماعات القذائف" "22". يسيطرعلى القصة عجز شامل
ممثل باسم القرية وموقعها وصولا الى سقوطها في ايدي العدو: كانت بتر (اسم
القرية) ترتمي ضعيفة على كتف الوادي . . . كانت الطريق خالية البيوت، ساكنة
كأنها أنصاب في مقبرة أثرية . . . ولم يقرأ صلاة ما فقد اخرسه الحقد ""23" .
هكذا الى ان تنتهي القصة بماساوية سوداء, موت الطفل وضياع الزوجة بين الزاحفين
الى برك سليمان وانضمام حسن الى جموع العجزة الزاحفين. قد يكون في القصة بعض
وهن, إذ يقول قائل : ولماذا ترك حسن زوجته تضيع منه . . لماذا دفن ابنه بسرية
وصمت مطبق ثم أكمل زحفه مع النازحين ؟ ! . . إلا أنّ لامنطقية الاحداث التي
وقعت في حينه تبرر للكاتبة لامنطقيتها, فكأنها تقول: إذا كان كل شيء قد سرى ذلك
اليوم عكس المنطقي والمبرر والمعقول, لماذا تكون حياة حسن غير ذلك ؟ ! . .
.ويرى الباحث هاشم ياغي ان سميرة عزام ضغطت على المغزى في هذه القصة. فهي برأيه
قد قفزت عن المحطات الطبيعية في مأساة هذا النضال فحولت القصة بذلك الى مغالاة
ومبالغة وما يقرب الموعظة. ثم يتساءل لماذا جاءت الشظية بالطفل وحده دون امه
وابيه , ولماذا الاصرار من الزوج على كتمان الامر عن زوجته ثم دفنه دون علمها
فيقول: "أحس ان المبالغة وضغط المغزى هما اللذان لعبا دورا في مثل هذه النتيجة
التي تكاد تعترض بناء هذه القصة "24".
ناستولجيا ورومانسية لمقاومة النسيان والامحاء
عندما يكون الموضوع فلسطينيا فان لغة سميرة عزام تشف وترق في رومانسية عذبة حتى
تكاد تبلغ نوعا رقيقا من التعبد. وتنتهي مجموعتها الخامسة "العيد من النافذة
الغربية "بمجموعة من النصوص بعنوان " وجدانيات فلسطينية" "25". وفيها تنطلق
الكاتبة مغردة جمال بلادها, مسبحة بمجدها. . ولن يستطيع قلم ان يختصر هذه
الصفحات مهما برع. فكل لوحة منها هي اختصار لقطعة من وطن عزيز: "وتسالني عن
ربيعنا فماذا اقول ؟ سخاء كيفما تلفتّ وخضرة ولون حتى لكأن الحجر يوشك ان يورق
. . . ربيعا يأتيك محمولا على غمامات من أريج البرتقال, قداح ابيض يتنفس في
حنايا البيارات" "26". وعن جبال بلادها تقول : "على مدارجها السمر تنعقد أعياد
الكرمة ومواسم الزيتون والرمان والمشمش . . . هواء يحمل لك العافية وبلدان وقرى
رشت كيفما اتفق للناس ان يجتمعوا على رزق او جمال . . . "27". وعن حنين الاحباب
للاحباب تقول: "على البوابة اللقاء . . . فرحة شحيحة كبرق صيفي , يوم منتزع في
غفلة من الايام" "28". لن اجهد هذا البحث بالامثلة على شاعرية هذه النصوص,
فالمجموعة متوفرة في معظم المكتبات العربية العامة. وحتى بعض الاجنبية: أقله
مكتبات بانكستون ومكتبة فشر التابعة لجامعة سدني
سميرة عزام في راي معاصريها رغم ان الدراسات التي تناولت ادب الكاتبة قليلة
ومتسرعة, إلا انها، في مجملها، سواء كانت تعليقا في صحيفة او دراسة اكاديمية,
كلها اجمعت على اعتبارها اديبة رائدة في مجال القصة القصيرة. يقول الباحث سهيل
ادريس في معرض تعليقه على مجموعتها "اشياء صغيرة ": "ينهض فن سميرة عزام في هذه
المجموعة على قوة ايحاء في خلق الجو النفسي, وتبلغ المؤلفة في عدد من الاقاصيص
درجة رفيعة من التحليل تشهد بان موهبتها القصصية عظيمة الامكانات . . . يرفدها
في ذلك اسلوب حي مشرق فيه اختيار وصناعة, ولا اقول تصنع, وعصبية وموسيقية "
"29". وفي معرض دراسة عن القصة القصيرة في فلسطين والاردن يقول هاشم ياغي: إن
هذه المجموعة (الظل الكبير) تدل بوضوح على ان كاتبتها ممن يحترفون فن القصة
احترافا ويعرفون ابعادها معرفة علمية خصبة, وهذه المجموعة تدل على ان قدم
كاتبتها أرسخ منها في مجموعتها الاولى , مع ان مجموعتها الاولى "اشياء صغيرة"
تدل ايضا على مستوى رفيع في فن القصص وبناء احداثه "30". أما الشاعر ابوسلمى
فيقول : "لا أدري إذا كانت هنالك قاصة عربية تجاري سميرة عزام في قصصها
الرائعة, إشراق عبارة وسمو فكرة ووضوح لوحة ورشاقة ريشة وحرارة عاطفة ورهافة
احساس" "31". في حين يرى رجاء النقاش ان الحقيقة الاجتماعية والانسانية
والوطنية واضحة ساحقة الوضوح في كتاباتها . وهي برايه استطاعت ان تقرأ نماذجها
فتحسن . . . "كانت سميرة عزام تحمل في قلبها مأساة فلسطين سواء عبرت عن ذلك
مباشرة او عبرت عنه بطريقة غير مباشرة " "32", ويقول في مكان اخر : "ادب ميرة
عزام ادب ثوري ." "33". . .
سميرة عزام المناضلة
لم تكن سميرة عزام من تلك الفئة التي لحضورها صخب وجلب بل كان عملها صامتا
يتوخى الفعل لا رنينه . هي واحدة من مؤسسي التنظيم السري (ج ت ف ) الذي كان
يعمل بين لبنان والاردن لتوعية الاجيال العربية وتهيئتها لخوض معركة التحرير
وقد تتلمذ في مدرستها الوطنية العديد من شبان وشايات فترة الستينات وهي :
"العربية الفلسطينلة الصميمة ـ الودودة قلبا, الصلبة موقفا ـ والتي لم يذكرها
احد في تاريخ نضالنا مع أنها أوّل من أسهم في تاسيس وتشكيل تنظيم فلسطيني . .
"34" كان لها مدرسة وطنية متميزة عما كان سائدا في الاوساط الفلسطينية في تلك
الحقبة. لقد قاومت بشدة تلك الاقليمية التي تدعي ان فلسطين لا يحررها الا
ابناؤها . وآمنت أنّ الصراع مع اسرائيل هو صراع بين حضارتين. لذا فمعركة فلسطين
هي معركة كل العرب , وما الفلسطينيون إلا جزء طليعي منها. كانت تدعو الى
العقلانية والتكتم في العمل النضالي, وقد ادانت نشرات تنظيمها السرية انطلاقة
شعلة الكفاح المسلح في حينه, إلا ان التيار العاطفي الذي واكب الانطلاقة اخمد
مثل تلك الاصوات, بل ذهب ابعد من ذلك فخوّنها. . . من تعاليمها السياسية الدعوة
لتامين الجوار قبل البدء بالمعركة , وبرأيها لا يمكن ان تبدأ حركة مقاومة ناجحة
ان لم يكن لها حكومات وطنية مساندة .
حاولت سميرة عزام ان تتجلد بعد نكسة حزيران وتظهر لمن تتلمذوا عليها, تفاؤلا
وإيمانا بالمستقبل. هذا ما كانت تنطق به الشفاه، اما ما كان يبطنه القلب فقد
أدى به الى الانفجار. كانت سميرة عزام في طريقها الى الاردن للاتصال ببعض
مجموعات تنظيمها السري هناك فوافتها المنية في الطريق . . . " لم تمت سميرة
بداء او مرض وإنما ماتت نتيجة الجرح النازف من خاصرتها , وماتت لأنها عربية
[صميمة]تحمل في قلبها هموم الامة كلها وكان تعبها الشخصي هو حلمها الكبير في ان
ترى أمتها منتصرة , وان ترى الوحدة حقيقة والانسان حراً . . . والليل قد ازاح
سدوله عن رؤوسنا وقلوبنا. " "43".
هوامش
(1) ـ سميرة عزام , الساعة والانسان , الغلاف , دار العودة , ط
: 2 , 1982, بيروت ـ لبنان (سيعتمد البحث هذه الطبعة في جميع إشاراته اللاحقة .
(2) ـ كانت الكاتبة تعلن عن رايها هذا في مجالسها الخاصة والعامة . وهي ليست
معتقداتها الشخصية فقط بل معتقدات الحركة السياسية التي كانت هي واحدة من
مؤسسيها . وهي موجودة في نشرات الحركة الداخلية ل (ج ت ف ) (3) ـ التعبير
مستوحى من قراءة نقدية لجبرا ابراهيم جبرا في ادب غسان كنفاني . (4) ـ سميرة
عزام، أشياء صغيرة، دار العودة ، ط : 2 ، 1982، بيروت ـ لبنان، ص : 7 - 25 (5)
ـ مصدر نفسه , ص : 29ـ 39 (6) ـ غسان كنفاني , الاثار الكاملة , الروايات , ص :
37ـ 152, ط: 3 , 1968, مؤسسة الابحاث العربية, بيروت , لبنان (7) ـ اشياء صغيرة
, مصدر سابق , ص : 49, 91, 99 . (8) ـ غسان كنفاني , القصص القصيرة , مصدر سابق
, ص : 354 (9)ـ الساعة والانسان، مصدر سابق، ص: 83 (10)_ مصدر نفسه، 92 (11)_
مصدر نفسه، 5 (12) _ مصدر نفسه، 12 (13) _ مصدر نفسه، 7 (14) ـ مصدر نفسه, 25
(15) ـ جريدة النهار الاسترالية , عدد , 7 ـ 1ـ 97 ص: 13 (16) _ سميرة عزام،
الظل الكبير, دار العودة , ط : 2 , 1982, بيروت ـ لبنان، ص: 69 (17) _ مصدر
نفسه، 77 (18) ـ هاشم ياغي, القصة الفصيرة في فلسطين والاردن, ص : 282 , ط: 2 ,
1986, المؤسسة العربية للدراسات والنشر , بيروت ـ لبنان (19) ـ وقصص اخرى ,
مصدر سابق , ص : 37 , 32 (20, 21, 22، 23) ـ مصدر نفسه , ص : 85, 92, 26، 23
(24) ـ هاشم ياغي , مصدر سابق , ص : 192 (25) ـ سميرة عزام، العيد من النافذة
الغربية، دار العودة ، ط : 2،, 1982، بيروت، ص: 93ـ 143 (26, 27, 28) ـ مصدر
نفسه , ص: 39 , 831 , 901 (29) ـ سهيل ادريس , مواقف وقضايا ادبية , ص : 201 ,
دار الاداب , ط : 2 , 1891, بيروت , لبنان (30) ـ القصة القصيرة في فلسطين
والاردن , مصدر سابق , ص : 179 (31) ـ مجلة الاداب , عدد : يناير , 68 ص:43
(32) ـ مصدر نفسه, ص: 36 (33) ـ مصدرنفسه، ص: نفسها (34، 35) ـ هامش "1"
أضيفت في10/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
الشعر الفلسطيني في الشَّتات
الشعراء الفلسطينيون في سورية ناجي علوش
بقلم الكاتب:
محمود حامد
... الشعر الفلسطيني إصرار على الهوية والأرض، وترسيخ هذه الفكرة في الذاكرة
الفلسطينية، بحيث لا تغيبُ، ولا تنأى من وجدان الأجيال لحظةً واحدةً عبر حقب
الزمان القادمة، والمتعاقبة، وظلّت الفكرة تنمو وتكبر حتى غدت الهاجس الأهم لدى
أبناء شعبنا في المخيمات، وأكواخ الصفيح، وعواصم الشتات المتناثرة فوق خارطة
الكون على امتدادها واتساعها فوق رقعة العالم، يولد الطفل الفلسطيني فيربى على
فلسطين انتماءً ومصيراً وهوية، وعلى المأساة قدراً غاشماً لابد أن ينتهي،
ويزول، وعلى الشعر حافزاً لتعميق التطلعات والأحلام تجاه الأرض والتراب الوطني
العظيم. الشعرُ الفلسطيني، وشعر نضالنا الوطني، لم يكونا شعر ترف ومتعة، ونشوة
عابرة في عالم الصفيح والقهر والدم. الشعر كان ممارسة نضالية في كافة الأوقات،
وعلى كافة الجبهات... كان مدرسة وطنية فذة تعلم أبناءها منذ نعومة أظفارهم حب
الوطن والأرض حتى الموت، والتفاني في الدفاع عنها لأنها شرف الحياة لشعبها
وأجيالها، والشهادة في سبيلها لأنها هي التي تستحق الشهادة لتحيا غريزة
الكبرياء، كريمة الجانب أبداً، مرفوعة الرأس والجبهة واللواء حتى أعلى أعالي
السماء القصية، والرحبة، والشاسعة. مرت الأيام، وكبرت أجيال الدم والشعر
والصفيح، وكبرت المعاناة والمأساة والغربة، ولكن حب فلسطين كان أكبر وأعمق
وأقوى، وذهب الحب بأبنائها، وخاصة الأطفال منهم واليافعين، مذهباً جديداً في
الحياة لم يسبقهم إليه بشر في التاريخ من قبل، ولا من بعدُ أبداً، ذلك مذهب
الشهادة المبكر الطفولي الساحر لدرجة المستحيل، وهذا ما لمسناه، ونلمسهُ في
الشهداء الأبطال.. شهداء الانتفاضات المستمرة، والتي خرجت مدرستها للحياة
أجيالاً من المقاومين العمالقة والشهداء، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة...
ففي أية أمة في الدهر مثل هؤلاء!؟...
من هُنا... فقد خسر الذين راهنوا على شعبنا ما قالوه في رهانِ الأجيال... إن
الأجيال الفلسطينية القادمة ستكون أقل حباً، وولاءً لفلسطين...، وارتباطاً
بها.. واهتماماً بقضاياها... الجيل الذي يأتي سينسى، والجيل الذي سيأتي بعده
سينسى أكثر، والجيل الثالث، أو الرابع، سينسى تماماً شيئاً اسمه فلسطين، فإذا
ما جاء الجيل الخامس أو السادس سيكون هذا المسمى قد اندثر تماماً من ذاكرة
الفلسطينيين، وحل محله مسمى الواقع الجديد، وفرض نفسه واقعاً على الخرائط
والأذهان على امتداد العالم.. وقد خاب وخسئ كل من راهن على هذا الاحتمال
المجنون والخاسر... كان الجيل الفلسطيني الذي يجيء أكثر عشقاً لفلسطين
وارتباطاً بها ووجداً لها.. كان أقرب إليها باستشهاده المبكر/المستحيل، كان
أكثر حدة ودموية تجاه المحتلين والغاصبين... ولذا كانت نسبةُ الاستشهاد الطفولي
فوق تراب فلسطين أعلى نسبة استشهاد طفولية في التاريخ... طفولة رضعت من أول
نبضة لها في الحياة حليب حب الوطن، والانتماء إليه، والموت في سبيله،
والاستشهاد لأجل عيون أرضه وسمائه وترابه وزيتونه وبرتقاله... أهناك أمة في
الدهر ينتسب المجد لأطفالها، كما ينتسب المجد لمثل هؤلاء!!؟... والله ماكان ولن
يكون... وما نخشاهُ.. بل أشد ما نخشاه أن تظل بعض الوجوه الصفراء تلعب بورق
القضية لمصالحها الخاصة –حتماً وقطعاً- فيجير بحر الدم لحساب المصالح الغادرة
والملوثة بالإثم والدم، وعندها... تختلطُ اللعبةُ والأوراق، ويحيد الطريق
تماماً عن مضمونه الأزلي والمصيري المعبد بالدم والشهداء... ولكن الأمل المختزن
في الأعماق... والثقة الكبرى بشعبنا الوفيّ للآباء والأجداد والتراب، والطفولة
التي تُقرر سير حركة الأحداث.. هذه الأشياء كلها مجتمعة تجعلنا ننام، ونحن
مطمئنين تماماً على سير حركة التاريخ والنضال والمقاومة... أنها أبداً بألف خير
وعافية... وأنه لا يصحُّ في النهاية إلا الصحيح... وأن قيمة الدم والشهداء لن
تذهب هدراً أبداً...
لقد ذهبت سنة الحياة أن تذهب الأجيال من الحياة على الموت... والطفولة
الفلسطينية تعكس الآية تماماً.. بل الأجيال الفلسطينية كلها هكذا... تنهض من
الموت للحياة للاستشهاد والانبعاث الخالد..!؟... هي تنهضُ من مَوْتِ الصَّفيح
والمأساة، من ركام القهر،والمعاناة، من أنفاق الانسحاق والظلمة، في أعلى درجات
ثقافتها ووعيها وانتمائها ونضالها الوطني والمعيشي، وتغادر للشهادة وهي في أعلى
تلك الدرجات كذلك... فنسبة الشهداء المثقفين أيضاً من أبناء شعبنا هي أعلى نسبة
في العالم، ولو أضفنا لأولئك الشهداء الأحياء الذاهبين بقوة لثقافتهم وموتهم
لشكلت هذه الظاهرة الفريدة من نوعها في التاريخ معاييرها المدهشة والمذهلة
والتي ترسم حدود نضالها وثقافتها ووعيها أعلى كثيراً مما يظنه التاريخ، ويرصده،
ويخمنه... نأتي الآن على شارع من شجرة الظاهرة المذهلة.. كرس عمره كله لفلسطين
والنضال والشعر...وعرف خنادق الكفاح كلها، وتتلمذ على يد الموت الوطني حتى
الانبعاث، وظل مقاوماً بالرصاصة والكلمة، وهكذا عاش، وهكذا يظلُّ... ناجي علوش
اسماً وطنياً ومناضلاً، وصاحب رؤية وفلسفة نضالية واعية لما تعمله وتريده،
وتسعى من أجله... وهو واحد من الآلاف أمثاله... بل هو واحد من الملايين التي
منذ خطوتها الأولى في الدهر خطت تجاه ما رسمته،وخططت له، وعملت له بقوة.. ومشت
إليه بوعيها وإدراكاتها وقدراتها الخارقة.... منهم من قضى نحبه، ومنهم من
ينتظر، وما بدلوا تبديلاً... ناجي علوش، الذي عاش وفياً لفلسطين وهويته
ولمبادئه، وظلَّ، ويظل هكذا...ما امتدت به الحياة.. ملايين أمتنا هكذا.. وأما
قلة الردة المرتدة، والتي تجاوزت فلسطين والدم والشهداء، وتجاوزت الأعراف
السماوية والوطنية كافة،وغالت في هيمنتها، وعربدتها، وانتقاصها من حقوق وطنها
وشعبها، وتملكت مفاتيح القضايا تمشي بها للهوان والخراب، فهذه قلة قليلة عابرة
في الهامش لأبعد من التصور والاحتمال والمناقشة، هي تذهب، ويبقى نضالنا الوطني،
ورجالنا، وطفولتنا وفلسطين بألف خير من الله...
منذ يفاعته، وعى ناجي علوش الحياة على فلسطين والشعر، وعلى بيرزيت... جنة
الأوطان والتي لا يعادلها، ولا يوازيها شيء في الوجود أبداً... ومنذ نعومة
أظفاره اعتبر الكتابة نضالاً بالكلمة، ولكن تفتح عينيه على الدم والموت
والكارثة، وعنف ما أحاط به، وبشعبه من خطوب وأحداث جسام، ومرارة النكبة، واتساع
مأساتها عبر مفارق الحياة... هذه الأشياء كلها جعلته يتجه في مرحلة مامن الشعر
لنضال الساحة والخندق والمقاومة، ويهجر الشعر لحين، ولكنه لم يتركه تماماً...
بل ظل الشعر يخفق في نبضه وفي أعماقه، وظل يحنُّ له، ويعود إليه بين الحين
والحين حتى أصدرته له وزارة الثقافة والإعلام في العراق عن دار الرشيد للنشر
المجموعة الشعرية الكاملة، ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث وذلك عام
1979م، وناجي إبراهيم سالم علوش، كما ورد في سيرته الذاتية التي بين يدي، هو من
مواليد بئرزيت في فلسطين عام 1935م، شهر حزيران، اليوم السادس والعشرون منه.
أردني من أصل فلسطيني [قضى عمراً نضالياً مديداً في سورية]... يحمل الثانوية
العامة من الأردن، وهو حسبما ورد في مهنته "مؤلف وصحفي" وكما ورد في تسلسل
الأعمال التي مارسها من بداياتِ عمره.
1-قام بالتدريس في مدرسة خاصة في منطقة الفحيص بالأردن من أيلول عام 1955م،
ولغاية نيسان 1956م.
2-ثم سافر إلى الكويت، وعمل في وزارة الصحة هناك من تشرين أول عام 1956م،
ولغاية شباط 1965م.
3-مدير النشر في دار الطليعة، ورئيس تحرير "دراسات عربية"، من آذار 1965،
ولغاية آذار 1969، ومن كانون ثاني 1971م، ولغاية شباط 1972م.. وله ولد هو
د.إبراهيم ناجي علوش، وابنة هي سلوى. وقد دخل المعترك النضالي العربي من
البدايات،وعلى النحو التالي:
1-دخل بل انتسب لحزب البعث العربي الاشتراكي من عام 1954م، وحتى عام 1960م.
2-طلائع الثورة العربية من عام 1961م ولغاية 1966م.
3-حركة التحرير الوطني الفلسطيني –فتح- من عام 1967 حتى عام 1978م، وعضو المجلس
الثوري من عام 1970 ولغاية 1978م.
4-حركة التحرر الشعبية العربية عام 1978م.
5-الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين عام 1968م. الأمين العام من عام
1972م، ولغاية عام 1980م
6-الاتحاد العام للصحفيين العرب-نائب الرئيس من عام 1974م، حتى عام 1976م.
7-الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب –أمين عام مساعد..
8-المنظمة العالمية للصحفيين "I.O.J"
–عضو الأمانة العامة.
9-لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية في الأردن-الرئيس منذ تشرين الأول عام
1984م.
10-[عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق].
11-عضو مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.
12-عضو مجلس أمناء المجلس القومي للثقافة العربية، وعضو اللجنة التنفيذية.
أما بالنسبة لانتمائه الأدبي... فالأهمَّ يدخلُ في نطاق الدراسات، والمقالات
وكتابة الشعر، والنقد الأدبي، زار غالبية دول العالم مُناضلاً وكاتباً
وشاعراً.. وتنوعت إصداراته، وتعددت على النحو التالي:
1-الثوري العربي المعاصر، عن دار الطليعة في بيروت عام 1960م[دراسة].
2-في سبيل الحركة العربية الثورية الشاملة [دراسة] عن دار الطليعة في بيروت عام
1963م.
3-الثورة والجماهير [دراسة]، عن دار الطليعة في بيروت، عام 1963م.
4 و5-"المسيرة إلى فلسطين والمقاومة العربية في فلسطين"-[دراسة]، صادرة. عن
مركز الأبحاث في بيروت عام 1964م صدرت المسيرة وعام 1967م صدرت المقاومة
العربية في فلسطين عن مركز الأبحاث المذكور.. إذاً هاتان الدراستان تحت رقم 4
و5.
6-هدية صغيرة [شعر] عن دار الكاتب العربي في القاهرة عام 1967م.
7-الماركسية والمسألة اليهودية [دراسة] عن دار الطليعة في بيروت، عام 1969م.
8-الثورة الفلسطينية: أبعادها وقضاياها [دراسة] عن دار الطليعة في بيروت عام
1970م.
9-مناقشات حول الثورة الفلسطينية [دراسة ووثائق] عن دار الطليعة في بيروت عام
1972م.
10-نحو ثورة فلسطينية جديدة [مجموعة دراسات ومقالات] عن دار الطليعة في بيروت
عام 1972م.
11-الخط الاستراتيجي العام لحركتنا وثورتنا [مجموعة دراسات ومقالات]. عن دار
الطليعة في بيروت عام 1974م.
12-النوافذ التي تفتحُها القنابل مجموعة شعرية] صادرة عن دار الطليعة في بيروت
عام1971م.
13-التجربة الفيتنامية: من الدروس السياسية والعسكرية [دراسة] صادرة عن دار
الطليعة في بيروت عام....
14-حرب الشعب، وحرب الشعب العربية [دراسة] صادرة عن دار الطليعة في بيروت عام
1973م.
15-الحركة الوطنية الفلسطينية أمام اليهود والصهيونية [مجموعة مقالات ودراسات]
صادرة عن مركز الأبحاث في بيروت عام 1974م.
16-حول الحرب الأهلية في لبنان [مجموعة مقالات ودراسات] صادرة عن مركز الأبحاث
في بيروت عام 1974م.
17-الحركة القومية العربية [دراسة] صادرة عن دار الطليعة في بيروت عام 1975م.
18-خط النضال والقتال، وخط التسوية والتصفية [مجموعة مقالات ودراسات] صادرة عن
دار الطليعة في بيروت عام 1976م.
19-حول الحرب الأهلية اللبنانية [مجموعة مقالات ودراسات] صادرة عن دار الكاتب
عام 1978م في بيروت.
20-حوار حول قضايا الثورة العربية [مجموعة مقالات ودراسات] صادرة عن دار الكاتب
في بيروت عام 1980م.
21-حوار حول قضايا الثورة العربية [مجموعة مقالات ودراسات] صادرة عن دار الكاتب
في بيروت عام 1980م.
22-حوار حول الأُمَّة والقومية والوحدة [مُحاضرة وحوار ومناقشات] صادرة عن دار
الطليعة في بيروت عام 1980م.
23-المجموعة الشعرية الكاملة صادرة عن وزارة الثقافة في بغداد ضمن سلسلة "ديوان
الشعر العربي الحديث"، رقم 113، عن دار الرشيد للنشر عام 1979م.
24-ديوان بدر شاكر السياب [مجلدان]، إعداد وتقديم: أدبه وسيرته، "جمع وتقديم"،
عن دار العودة في بيروت، دراسة مُوَسَّعة.
25-أديب اسحاق: الكتابات السياسية والاجتماعية، صادرة عن دار الطليعة في بيروت
[التاريخ أُغفل]. دراسة الكتابات، السياسية والاجتماعية الأساسية.
26-عبد الغني العريسي: مُختارات المُفيد "تقديم"... دراسة صادرةعن دار الطليعة
في بيروت[التاريخ أُغفل].
27-إنشاء "تكوين الجيش الإسرائيلي" إيغال آلون –دراسة البُنية الأساسية للكتاب،
صادرة عن دار الطليعة في بيروت [التاريخ أُغفل].
28-بعض مظاهر التجريد والالتزام في الأدب العربي [مجموعة دراسات ومقالات] صادرة
عن الدار العربية للكتاب [التاريخ أُغفل].
29-الوطن العربي: الجغرافية الطبيعية والبشرية [دراسة]، صادرة عن مركز دراسات
الوحدة العربية عام 1985م.
30-مُختارات قوميَّة لمحمد عزت دروزة [اختيار وتقديم] صادرة عن مركز دراسات
الوحدة العربية عام 1988م.
31-الوحدة العربية: "عوائق ومشكلات" [دراسة] صادرة عن المجلس القومي للثقافة
العربية في الرباط عام 1991م.
32-المشروع القومي من الدفاع للهجوم [مجموعة دراسات] صادرة عن الدار العربية
للكتاب [ليبيا-تونس] عام 1991.
33-عن الزَّهر والنَّار [مجموعة دراسات] صادرة عن المجلس القومي للثقافة
العربية في الرباط عام 1991م.
السيرة الذاتية هذه لناجي علوش [مُناضلاً وشاعراً وكاتباً]، استقيتُها من ملف
سيرته "ضمن بيانات" اتحاد الكتاب العرب في دمشق عن الكتاب والأدباء العرب...
وكتابة السيرة والإصدرات كاملة هي عملية توثيق تاريخي وطني وأدبي لمبدعينا
الفلسطينيين الذين يُقيمون في سورية، أو أقاموا، وعبروا... والتوثيق لحفظ
الكينونة الأدبية ذاتاً وإبداعاً، ولوضعها كاملة أمام الدَّارسين والباحثين
والقراء للاستفادة منها في دراساتهم وأبحاثهم وأيضاً في مُطالعاتهم الشخصيَّة.
إن إعادة تجميعه في الذاكرة الفلسطينية والعربية، وتثبيتهِ في تلك الذاكرة هو
عمل وطني وإنساني وعربي. من هنا ابتدأت، ومن هنا انطلقت، ومن هنا عملت خلال
السنتين الماضيتين، وأعمل الآن، وأعمل مستقبلاً، على تنفيذ المشروع/الحلم:
"الشعر الفلسطيني في الشتات... الشعراء الفلسطينيون في سورية"، ملفاً توثيقياً،
ووفاءً لفلسطين قضيةً، ولمبدعيها مناضلي الحرف والكلمة... وإنني لآمل من الله
أن يمدني بالقوة والقدرة على استكمال هذا المشروع/الحلم، والجهد والمثابرة
والاتصالات استطعت والحمد لله تجميع ملف جيد عن الشعر الفلسطيني والشعراء
الفلسطينيين في سورية .
يجملُ ناجي علوش –في مجموعة أعماله الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة ببغداد
رؤيته الخاصة فيما يكتبُ من شعر، وتأثير انغماسه في العمل النضاليّ والسياسيّ
على كتاباته الشعرية... ومع هذا فقد ظل الشعرُ هاجسَهُ، وغناءه المُحبب... يقول
من ص 190، وما يتبع: "منذ سنة 1957م، أخذتُ أتجهُ اتجاهاً آخر [في الشعر] صحيح
أن التحول في شعري كان تحولاً في الشكل، في تعدد التفعيلات [بعد أن كان
عمودياً] ولكنه كان تحولاً على أنه حال، قاد خلال السنوات التالية: 1958م،
1959م، 1960م، إلى تحول حقيقي، يبرز واضحاً في مجموعتي "هدية صغيرة"، إن هذه
المرحلة من عام 1957م، ولغاية عام 1960، هي مرحلة انتقالية تبرزفيها كل ملامح
مرحلة الانتقال... وبين مرحلة [ماقبل، ومابعد مرحلة الانتقال]، كان هناك حَدٌّ
فاصل بين المرحلتين تمثِّل في قصيدته أماه"، التي نشرتها جريدة الحوادث التي
كانت تصدر في عمان، وذلك عام 1954م...يقول فيها، وقد انتقل إلى شعر التفعيلة:
(1): أُمَّاهُ أين أبي!!؟..
وَقَطَّبَ حاجبيهِ، وصاحَ صيحةَ مُتعبٍ
ومتى يعودْ!!؟...
ومتى أراهُ يضمني
فَيَقِرُّ ثائِرُ أضلعي... وهكذا تمضي بقية القصيدة...
وقصيدته في ذكرى المعراج: 1954م، أيضاً:
(2):
هو النور إلاَّ أنها الوثبةُ الكبرى
تهادى بها الصحراءُ فانطلقت فجرا
وراحت تُنادي، والظلامُ مُخيِّمٌ
حُطاماً على رَمْلِ الخطيئة قَد ْقَرَّا
أيدري الذي أسرى بأنَّ جموعنا
قد انتفضت ذعراً، وقد هتفت ثأرا
ملاحظة:
[طبعاً الذي أسرى يدري، وهو الذي يدري، ولا سواهُ يدري!!!]...
وأَنَّا وقفنا في وُجُوهِ عُداتنا
عمالقةً غُلباً وألويةً حمرا
وَلَمْ نَرْضَ من غير العُروبةِ رايةً
ومن غيرِ ما أوحت لثورتنا سِفْرا
لَئِنْ كانتِ الأُولى جلالاً وَعِزَّةً
فما أَعْظَمَ الأولى، وما أَعْظَمَ الأخرى
يقول ناجي علوش متابعاً: "وخلال عام 1959م-1960م، عكفتُ على دراسة الفكر العربي
المعاصر منذُ مُنتصف القرن الماضي، وكانت نتيجةُ هذه الدراسة كتابي (الثوري
العربي المُعاصر) الذي صدر سنة 1960م.عن دار الطليعة. وَخَفَّتْ مع زيادة
اهتمامي بالدراسات حماستي لكتابة الشعر، مع أنني ظللتُ أقرأ الشِّعْرَ بانتظام،
وأحرصُ على على مُتابعة المجموعات التي تصدر، والقصائد التي تنشر حتَّى سنتين
خَلَتَا...(3)...
رغم كل شيء ظل ناجي علوش يكتب الشعر، ويمشي إلى أرجائه الفسيحة كُلَّما أحسَّ
بوطأة وثقل الأعباء عليه، كان يعتبره المخلص الذي ينقذه من ضراوة الأحداث،
ومرارة المأساة، وعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه كالآخرين من أبناء
شعبه،ويعتبره أيضاً فسحة الأمل الذي تحمله فلسطين، وبيرزيت، والثرى الوطنيَّ
الحبيب... والمرادف لوهج البنادق:
(4):رأيتُ وجهكَ المُضيء بالإصرارْ
يستنبتُ الأشجارَ والأزهارَ في القفار
ويطلع الزَّنابقْ
رأيتهُ يفيضُ بالخضرة في الحدائقْ...
ويمنح البراعِمَ الصِّغارْ
الدِّفْءَ، والأمان...
هكذا يظل النور يغطي على الظلمة، والأمل يقفز فوق اليأس، وخضرة الحدائق تُغطي
مساحات الروح والأعماق الصفراء اليابسة اليائسة، ويظل الإصرار هو الطريق الوحيد
للثوار، وهو الطريق الوحيد للانتصار... صور شعرية بسيطة، وجميلة، وشفافة غير
مُعقدة، وتبعث الأمل في كل شيء...
ومع هذا الشعر البسيط والجميل والمُريح للنفس والوجدان، يتابع ناجي علوش قوله:
(5): ومنذ سنة 1960م، وحتى الآن، وأنا أكتبُ الشعر لِماماً، وعندما أُحسُّ
بحاجة ماسة لا أستطيع التعبير عنها بغير الشعر، ولا أستطيع الهروب منها...
وكانت حصيلة ما كتبت في السنوات "1960م-1966م"، القصائد التي نشرتها في
مجموعتي "هدية صغيرة"، بالإضافة إلىعدد محدد من القصائد التي لم أنشرها في
المجموعة"... ضمن أشعارهم وقصائدهم الكثيرة هنا وهناك، المنثورة كنجمات ما قبل
الفجر، أبحث في أشعار وقصائد المناضلين السياسيين عن خبز الحب والوجد....
فأتعثر حتى أجده،وأستمتع بهِ... إنه خبزخاص بهم، وبعيدعن مُتناول الآخرين
العاديين، ولكنَّ الفطرة الشعرية، أو هي الذائقة الشعرية التي تكتشفهُ في خبايا
الشاعر، وأقاصيهِ البعيدة...هو موجود، وحادٌّ جداً، ولكن لا يعبر عنه بالتصريح،
وربما بالتلميح النائي جداً، لأنه في نظر أولئك... هناك شيء أهمّ في عُرْفِ
الوطن والقضية.. حتىعندما سئل نا جي عن هذا وضع إشارة... هكذا ... كأنه غير
موجود....ولكنه حقيقةً، موجود وبكثافة فائقة.. ولكنه... كما قلنا: بعيدٌ،
وغائبٌ في الذاكرة البعيدة... حيث يحلُّ محله وجد آخر لبئر زيت البعيدة...
الجريحة هناك فوق ثرى فلسطين السَّليب... اُنثى الأرض التي يعشقها فارسها
بجنون:
(6): "آهِ يا –بِئْرَ زيت التي حَمَّلَتْني الصليبْ
ورمتني على طرقات الأسى واللهيبْ
عن خيالي...
فكيف... وقد قام ما بنينا السُّورُ،
وانْسَدَّ بابُ المحبَّةّ!!؟
وغدونا بعيدينَ عَنْكِ... بعيدينْ
لا نسمةٌ من رُباكِ تهبُّ، ولا
طارقٌ يطرقُ البابَ دوني
وَمِلْءَ يديهِ حكاياتُ شَوْقٍ وَحُبٍّ وَغُرْبَهْ!!؟..
هكذا يأتي جنون الحُبِّ كاسحاً عندما يكون عن الأرض/الأنثى مُعبراًعن أرقى
أنواع الوجد، والصبابة الخارقة. في استبيان الكتاب العرب هكذا الحب عند علوش
استكمالاً لرؤيته في الشعر... يتابع نادي علوش قوله في ص 191 من مجموعته
الكاملة: (7):وخلال سنة 1964م، وسنة 1965م، تبلورت لَدَيَّ فكرة أن أنصرف عن
الشعر، وكانت تحدوني إلى ذلك مجموعة دوافع يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولاً: أنني لا أملكُ موهبةً غير عاديَّة تُخولني تطوير تجربتي الشعرية.
ثانياً: إنَّ انغماسي في العمل السياسيّ يزيد تجربتي غنىً، ولكنه في الوقت
ذاتهِ يُدخلُ الكثيرَ من العوامل القاتلة للشاعريّة.
ثالثاً: إنَّ اهتمامي بالدراسات، وعكوفي عليها يحدُّ من قدرتي على مُتابعة
ثقافتي الشعرية والنقدية.
رابعاً: إنَّ الاتجاه الذي بدأ يظهرُ في شعري منذ سنة 1960م، وهو اتجاه الغربة
والانطلاق [الانتقال من الشعر العمودي لشعر التفعيلة الذي كان يرفضه الشاعر
علوش ولا يرضاه] بديلاً للشعر العربيّ الأصيل... هذا سبب أخير في العزوف عن
تطوير التجربة الشعرية...".
يُضيف ناجي علوش(8):"فالشاعرفي نظري هو الذي يكتبُ للجماهير، وأنا أكتبُ
لمثقفين مثلي..والشارع هوالذي يكتب بلغة الجماهير، وأنا أكتبُ بلغتي ولغة
زملائي من المثقفين، وقد تبلورت هذه المشاعر والأفكار فيما بعد وخلال السنوات
(1967م-1970م)...
ومع هذا، فقد كتب الشاعر ناجي علوش قصائد كثيرة بلغة الجماهير، وخاطبها بتلك
القصائد البسيطة والشفيفة والمُعبرة، وظلَّ يكتب الشعر حتى صدرت مجموعته
الشعرية الكاملة –كما ذكرنا آنفاً-عن وزارة الثقافة والإعلام في بغداد عام
1979م، عن دار الرشيد للنشر، ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث-113-.
وظلَّ شعره وطنياً إنسانياً ثائراً متفائلاً شفيفاً بتوهجاته المُضيئة، لَمْ
يأتِ عليه الوهن، ولا الانكسار، ولا ضراوة اليأس، ومرارة الهزيمة:
(9): وَجْهُكَ مرسومٌ على الوجوهْ
طيفُكَ محفور على الدُّروبِ والجدرانْ
وأنتَ فوق هذهِ الجزيرهِ
ملحمةُ الزمان والمكانْ
وقصة البطولةِ الكبيره...
أَرَيْتَني
كيف تُطِلُّ أجملُ الزَّنابقْ
مِنْ وَهَجِ البنادِقْ
أَرَيْتَني
كيف تطلعُ أروعُ الحدائق
من لهب الحرائِقْ...
ظلت الكلمة عنده طلقة مقاومة... وظلَّت الطلقةُ والكلمةُ عند ناجي علوش
مشروعين للخلاص والحرية واستعادة الوطن السليب لا بديل عنهما تلاحماً في
النهاية ضمن إطار المشروع المصيري الواحد.. وكما غنَّى علوش للأرض والوطن غنى
لكل الأحرار في العالم... وظلت هدية العيد في نفسهِ لمقاتلي ومناضلي التحرير في
الأمة حتى يوم التحرير القادم بإذن الله في صُبْحِهِ المرتقب الإلهي المُحتم:
(10): لأننا نعيشُ من سنينْ
في مُدن الأسلاك والأسوار والردَّى
لأننا نعيش من سنينْ
حياتَنا وَمَوْتَنا سُدى
بحثتُ يومَ العيد هن هديَّهْ
لكل من أحبهم
فلم أَجِدْ
يا كُلَّ مَنْ أحبهم
هديتي لكم
العزم والحميةْ
والبدل الكاكيَّهْ
هديتي لكل واحدٍ
"سلجلكٌ" أُثقلَ باللظى
وبندقية... السلجلك: أجناد الذخيرة.
هذه رحلة ناجي علوش مع فلسطين والنضال والشعر... إنه الوفيُّ أبداً لتلك
الأقانيم الثلاثة، وشاعر متوهج العطاء في شجرة الشعراء الفلسطينيين والعرب
المناضلين بإصرار في سبيل الأرض والخلاص والحرية، وشعره شفيف وعذب ومتوهج
كإصراره الذي لا ينطفئ، ولا تخمد ناره أبداً وصوته... صوت الأرض الوطنيّ
العظيم... ومع صوت شاعر آخر يجيء في سلسلة شعراء فلسطين المبدعين....
الشعر الفلسطينيّ في الشتات-الشعراء الفلسطينيون في سورية... الحلقة: الحادية
عشرة/11/.
الهوامش:
1-قصيدةً أُمَّاه من مجموعة الشعر الكاملة لناجي علوش الصادرة
عن وزارة الثقافة ببغداد ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث برقم 113 عن دار
الرشيد ببغداد ص 187-و188
2-من قصيدة "المعراج" ص 1880 -المصدر السابق ذاته.
3-من دراسته عن كتاباته السياسية والشعر-المصدر السابق نفسه، ص
191.
4-من قصيدة: "وهج البنادق"، المجموعة الكاملة، ص 202، مؤرخة
هافانا 68م
5-من دراسته في مجموعته –ص191-المصدر السابق ذاته.
6-من قصيدة باب المحبة-ص195-في المجموعة الكاملة ذاتها، مؤرخة
في: 11/6/1967م..
7-من دراسته عن رؤيته في الشعر-ص191من مجموعته السابقة ذاتها.
8-تتمة السابق ص 192.
9-من قصيدة وهج البنادق المثبتة في مجموعته الكاملة ص 202 مؤرخة
هافانا: 16/1/1968م.
10-قصيدة: "هدية" المجموعة-ص203 مؤرخة بيروت: 25/12/1968م.
أضيفت في10/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الأسبوع الأدبي (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
رواية الكابوس الفلسطيني في بلاد الحواجز
عزمي بشارة في حب في منطقة الظل... الجهر بالحقيقة
بقلم الكاتب:
د. فيصل دراج
يعود تميّز إميل حبيبي ربما إلى أمرين: فهو أول من صاغ رواية عن وضع الإنسان
الفلسطيني في شرط الاحتلال, الذي يجعل صاحب الأرض غريباً ويؤكد المحتل الغريب
سيداً على الأرض وأصحابها. ويعود الأمر الثاني إلى الشكل الفني الذي ترجم
مفارقة المصير الفلسطيني, متوسّلاً السخرية السوداء, أعطى حبيبي نموذجه الكتابي
وانصرف, تاركاً لغيره الأخذ بالنموذج أو الانصراف عنه, لأن الاحتلال أوغل في
احتلاله, دافعاً بالسخرية إلى آفاق جديدة.
قبل حوالي عامين أعطى عزمي بشارة كتاباً عنوانه: "الحاجز" أضاءه بعنوان ثانوي
هو: شظايا رواية عن مكان, وإذا كان في الشظايا ما يحيل على وجود كان متماسكاً
ودمّرته ضربة مستقيمة ثقيلة, سدّدتها اليد الإسرائيلية, فإن في تعبير شظايا
رواية ما يفصح عن كتابة مجتهدة لا تلتفت إلى التحديد, كما لو كان المؤلف لا
يقتصد في البوح ويقتصد في تحديد ماهية الكلام الذي يبوح به.
وواقع الأمر أنه كان في كتاب الحاجز ما يدرجه في حقل الكتابة الروائية اعتماداً
على عنصرين: السرد الذي حدّث عن نماذج بشرية مختلفة مقيّدة بأوضاع مختلفة
يمليها الحاجز, الذي هو قهر جامع رغم صيغة المفرد, فالحاجز الإسرائيلي مادي
ومعنوي ورمزي وإشاري, يوزّع أبعاده المختلفة ناقلاً الفلسطيني من عفوية المعيش
إلى جحيم الوجود, تمثّل العنصر الثاني, الذي صاغ دلالة الحاجز في أبعاده
المختلفة, بالمركز اللغوي, الذي يوكل إلى لغة خاصة به توصيف أحوال الفلسطيني
المغترب وتحليلها. حاذر عزمي بشارة الذي كتب رواية دون أن يدري الحديث عن
الرواية مكتفياً بـ "شظاياها" كان في "الحاجز" ما يؤرق الكاتب الذي ينحّي صورة
الأديب, وما يثير فضول جمهور عربي عرف المثقف والمناضل ولم ينتظر "الروائي".
يبد أن عزمي لم يرد أن ينتظره طويلاً الجمهور الذي وضع لـه صورة معينة, فكتب
عملاً جديداً في أربع مئة صفحة, دعاه بوضوح يُجهر على كل التباس: "رواية شظايا
مكان", والتحديد الأخير عنوان ثانوي لا أكثر, لأن العنوان الأساسي هو: "حب في
منطقة الظل", كان عنوان الكتاب الأول: "الحاجز" يتلوه عنوان ثانوي "شظايا رواية
عن مكان",وعنوان الكتاب الجديد هو: "حب في منطقة الظل" يعقبه عنوان ثانوي:
"رواية شظايا مكان" بدّل عزمي في أمرين: فما كان شظايا رواية أصبح رواية, وما
كان مكاناً صار شظايا مكان, وقد لا يكون في الأمر الأول ما يوقظ القول, لأن من
يقف على تخوم الرواية في لحظة يتوغل في أرجائها لاحقاً, غير أن الفضول يذهب إلى
ذلك الانتقال من مكان فلسطيني إلى شظايا مكان, أو إلى مكان رحل وأبقى نزراً منه
يدل عليه, والواقع أن بشارة لم يغيّر في الكتابين ولم يتغيّر بينهما, بل شاء
التصريح بصوت عالٍ غاضب عن وقائع مستمرة لامسها سابقاً بهدوء مكبوت, والسؤال
المتوقع هو التالي: ما الذي دفع السياسي المحترف الذي شاء أن يكون روائياً إلى
هذا الانتقال؟
أسباب أربعة ربما تقف على رأس الكلام: أولها الجهر بالحقيقة, بلغة إدوارد سعيد,
الذي يتسلّح بمسؤولية الوضوح بعيداً عن لغة الأماني وثقافة الأدعية, ذلك أن
بشارة السياسي الوطني يوجّه كلامه إلى الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي
الفلسطيني, كاشفاً العيوب مندداً بالتخلّف زاجراً أكثر من مرض, مصرّحاً بجلاء
لا نقصان فيه: إن الوعي الفلسطيني الراهن في المناطق المحتلة, أضيق بكثير من
التحدي الملقى عليه, يحيل السبب الثاني إلى عنف الحاجز الإسرائيلي, الذي يبدّد
أوصال الأرض, والروح الفلسطينية ربما, بأسرع مما يظن أصحاب الأرض, كما لو كان
عنف الحياة اليومية يمنع الفلسطينيين عن الانتباه إلى الكارثة التي تسقط عليهم,
بلا توقف, يقوم السبب الثالث في اغتراب المثقف, الذي يشتق الظاهر من الجوهري,
منتقلاً من أفعال البشر إلى عقولهم ومن لغتهم إلى مصالحهم الضيقة, ومنتقلاً
أيضاً من الموجود إلى واجب الوجود ومن اليوم إلى الغد الذي يليه ومن الشظايا
إلى وَهْن الغبار, لم يشأ عزمي أن يكتفي بـ "الوعي الشقي", الذي ينسب أحياناً
إلى المثقفين الحقيقيين, بل آثر أن يضع أمام الآخرين شقاءهم, لأن المصير
الفلسطيني كان ولا يزال, شأناً جماعياً لا يحلّه الأفراد, إلا إذا أرادوا أن
يذبحوا حله لا أكثر, يأتي السبب الرابع من خصوصية الجنس الروائي الذي يتيح
للمثقف الذي درس الفلسفة, أن ينتقل من المفاهيم النظرية, التي تتسم بالتجريد
والشمول, إلى تفاصيل الوقائع اليومية, حيث في الحكايات ما يجلو المفاهيم وفي
الشخصيات ما يعيد شرح اللغة النظرية, إضافة إلى ذلك فإن في الحيّز الروائي ما
يسمح للمثقف المغترب أن ينتقل من التنظير إلى البوح, حين يتحوّل إلى شخصية بين
الشخصيات الأخرى, أو إلى شخصية مرجعية تضع ما تشاء من الكلام على لسان شخص تحنو
عليه, أو على لسان آخر بينه وبين الكرم الإنساني مسافة صاعقة.
لا تعني الأسباب السابقة على الإطلاق أن بشارة التمس ذريعة روائية يقول فيها
بالحكاية ما لا يقدر على قوله باللغة النظرية, فقد كتب رواية, عن وضع لا
تستوعبه الحكايات التقليدية, لأن فيه ما يختلف عن "التقليدي" وينقضه. ولعل تلك
اللغة الذاتية الرهيفة المحتشدة بجدل داخلي, المنثورة في صفحات الرواية, شهادة
على وعي الروائي, الذي قصد هدفاً يعرفه وتعرّف على الأدوات التي تفضي إليه, كيف
يوحّد الكاتب فضاءً فلسطينياً متشظياً مسكوناً بمصائر فلسطينية مختلفة؟ هذا هو
السؤال الذي تمليه الرواية وهذا هو السؤال الذي يفضي إليه أيضاً, يأتي الجواب
من الكتابة التي توحّد, تخييلاً, ما يمنع الواقع عن توحيده, أو يأتي من
المجتمعات المتخيلة, التي تخلقها الكتابة وهي تخلق زمناً وطنياً موحداً, لا
سبيل إلى توحيده في الواقع المعيش, يوحد الفضاء المتخيّل بين فلسطيني "الحاجز"
وفلسطيني "الشتات" ويضعهم جميعاً أمام مأساة تسيطر عليهم ولا يسيطرون عليها,
اتكاء على الفضاء المتخيّل يقيم المؤلف علاقة حب على "الإنترنت" بين فلسطيني من
بلاد الحواجز وفلسطينية في الشتات تختلف إلى أكثر من مكان, ومع أن في هذه
العلاقة دلالات كثيرة, ليس آخرها الحب والحرمان والوطن والمنفى, فإن فيها ما
يؤسس لـ "الفعل الروائي" ويؤثّثه لأن الحديث بين الطرفين, الذين يكتسحهما
الاغتراب, مناسبة لبوح محسوب, قوامه صور متواترة عن البلد الذي يعرف ظلال
الأشياء, وصور شخصيات يعرفها الطرفان, أو عرفا بعضهما في زمن سبق.
هل تنبثق السخرية من الأديب وتضاف إلى الأشياء, أم أنها قائمة في الأشياء
المعيشة تدعو الأديب إلى صياغتها؟ أنجز أميل حبيبي في "المتشائل" نصاً تلفّه
السخرية من الألف إلى الياء, مستغرقة الراوي وشخصياته وحاضره وماضيه,, نصاً
ساخراً إبداعياً يرى إلى وطن كان يتأهب للرحيل, ومع أن السخرية, من حيث هي, فعل
هجائي مقاتل, فقد آثر عزمي بشارة, الذي يرتكن عمله إلى شكل معين من السخرية, أن
يفصل بين الراوي ومواضيع كلامه, وأن يقيم مسافة بين القول الساخر وموضوع
السخرية. فهذا الراوي يتمتع بوظيفتين: يأخذ أولاً موقع الناقد الشامل, الذي
ينقد الآخرين بعنف, مميزاً بين القول الساخر وصاحب القول, فلا مجال للتخليط بين
السخرية الواعية لأغراضها والسخرية من أجل السخرية, وهو ثانياً ينأى بالسخرية
عن العدمية باحثاً عن أفق, أي إنه يرفض ما يرفض باحثاً عن بديل, فقد خلق إميل
حبيبي راوياً يسخر من ذاته ويثير السخرية مكتفياً باحتجاج على وضع مأساوي لا
سبيل إلى الخروج منه إلا بالتساذج الدفاعي, حيث إيجابية المقهور المتاحة تكمن
في لا إيجابيّته الظاهرية, شيء يعادل جدل الوجه والقناع, حيث على الأخير أن
ينطق بما لا ينطق الوجه به, من أجل البقاء في الوطن, غير أن في هذا الجدل, الذي
يراوغ العدو ويخادعه في ذاته خطراً واضحاً محدداً هو: التباس الوجه بالقناع إلى
درجة تلغي الوجه وتجعل من القناع المؤقت وجهاً دائماً.
لم ينجرف عزمي بشارة إلى سخرية لا حسبان فيها, تلغي المسافة بين الوجه والقناع,
بل ذهب إلى سخرية محسوبة ثنائية البعد: اشتق السخرية من القهر الإسرائيلي الذي
يمحو إرهاب الفلسطينيين بـ "ديمقراطية" الذين يحتلون بلادهم, غير أنه أضاف إلى
هذه السخرية, التي اكتفى إميل حبيبي بها, سخرية أخرى موضوعها الفلسطينيون
أنفسهم. تأمل الكاتب في الحالين, "فائض القهر", إذ في الحاجز ما يحجز الأرض
والإنسان والعشق واللغة, وإذا في "المحجوز" ما يعبث بالأرض والعقل والحسبان
المفترض, اتكأ الروائي في الشكل الأول من السخرية, على "الحاجز" كموضوع وإشارة
في آن فالحاجز من حيث هو موضوع, يختلس من الطريق إلى طرق مفضياً, في النهاية,
إلى مآسي يومية متناسلة.
والحاجز من حيث هو إشارة فصل بين زمنين وهويتين ولونين من البشر, إن لم يكن
إعلاناً عن خالق ومخلوق جديدين, الحاكم الوحيد بينهما هو القوة التي تنشىء
الطرق الالتفافية, حينما تشاء, وتغدق عليها ما شاءت من السماء, ولهذا يبدو
الحاجز هو الموقع الشاهد على ثنائية الخالق والمخلوق التي تضع الأخلاق والحس
السليم
جانباً مسترشدة بالقوة وبتفاوت جواهر البشر, موقع مسكون بالمفارقة, تصفه اللغة
وتتهمه وترد عليه بالهجاء المسترسل المحدّث عن: ظل الحاجز, اللغة الحاجزية,
دولة الحاجز, سكان بلاد الحواجز, العميل الحاجزي, الحاجزيون, الديمقراطية
الحاجزية... إنه اللامعقول في شكله الاغترابي الأعلى الذي يجعل الحاجز, وهو فعل
مصطنع قهري طارىء, يمتزج بالحياة اليومية ويكتسب وجوداً لـه شكل البداهة, حين
يتبادل "العاشق" الحديث مع المرأة الفلسطينية التي تعيش في المنفى يقول: ليس
للحب المحجوز وطن, وفي هذه البلاد لا يوجد حتى وطن يحجز الحب, ولولاك لكان وطن
مفقود وحب مفقود, ولا يقبل الحب الحرمان وطناً لـه.
إذا كان في الحاجز الذي يعيد المقهورين, ما يثير السخرية, فإن الأخيرة تمتزج
بالرثاء حين يرتضي المحجوزون بلغة الحاجز ويتكيّفون مع إشاراته, ينتقل الروائي
من الحاجز, وهو العنصر الروائي الذي يحيل إلى العسف الإسرائيلي, إلى الظل, أو
ظل الحاجز, الذي يحيل إلى فلسطينيين جاؤوا من رحم الحاجز واطمأنوا إليه. تنطوي
الرواية, بهذا المعنى, على مستويين: الحاجز الذي يشوّه الأمكنة والأزمنة
والبشر, والظل الذي تحتشد فيه مخلوقات مشوّهة, فقدت قوامها واستبقت ظلالاً لا
تدل عليه, حالها كحال الوطن القديم الذي ضاع وجهه واحتفظ بوشم فوق وجه لا وجود
لـه: لم يُبقِ من الصالح العام على الكثير من الأرض, تقول الرواية, ولم يبق من
صاحب الأرض إلا ظله, ليس للظلال وزن عادة, بل إن بعض الفلسطينيين قصُر ظله, أو
قصَّر ظله, أملاً أن يشبه سكان "دولة الحاجز" وما الظل إلا الانقسام, الذي يمحو
الجوهري ويحتفظ بما لا وزن له, منهياً إلى مأساة تثير الضحك, نقرأ: وفي بلاد
الحواجز التي تحتلها دولتكم وحيث يقيم أبناء جلدتنا يحسبوننا على دولة الحاجز
التي تحجزهم, وأنتم تحسبوننا على المحجوزين وراء الحاجز... تتكاثر سطوة الحاجز
ويتكاثر العجز في الرد عليه: لو كانت النفوس منقسمة لكانت جذابة وممتعة ومركبة,
لا, أنا لا أتحدث عن نفوس منقسمة, بل أنصاف نفوس.... بل أنصاف نفوس تلعب دورين,
أو نصفي دورين متنافرين, نصفي صراع, أي بلغة ظل الحاجز صراع نصفي...
استولد بشارة السلطة الإسرائيلية من "الحاجز" الذي يجهز على كل منطق سليم,
واستولد "الوزن الفلسطيني" من ظل "الحاجز" الذي يحتشد بلا معقولية تتاخم
الكابوس, يتكشف معنى الحاجز, ظاهرياً, في الطرق التي يلغيها ويتكشف, جوهرياً,
في ظله أي في انقسام الفلسطينيين إلى شظايا متناثرة فوق شظايا مكان, وإذا كان
في اشتقاق الدلالات المتنوعة من جدل الحاجز والظل ما يضيء فنية الرواية, فإن في
تحليل وجوه الظل ما يفصح عن تميزها, أي عن تلك الكتابة المشدودة إلى الهُنا
والآن في شرط فلسطيني لا يشبه غيره. ولعل هذا التميز, الذي يتجلّى في بنية
الرواية ومنظورها, هو الذي وضع في الطبقات الحكائية طبقات من الوثائق
الاجتماعية, ذلك أن كابوسية الوضع الفلسطيني, التي تفيض على السخرية
السوداء, تستلزم معاينة الحالة الفلسطينية واختبارها, لا غرابة والحال هذه أن
تحتقب كل حكاية صورة اجتماعية, وأن تكون جملة الصور المأساوية هي جملة الحكايات
الساخرة, توحّد الكتابة الأدبية بين الحكاية والوثيقة الاجتماعية متسولة سخرية,
تحوّل الوثيقة, بصيغة الجمع, إلى عناصر حكائية متكاملة, الأمر يجعل من
"الوثائق" كلها مادة أدبية, لذا تكون الحكايات صوراً عن البلديات, الانتخابات,
الصحافة, التحالفات العائلية, السياسية التي هي ظل السياسة, الحزب الذي هو ظل
الحزب, والقرية التي هي ظل القرية, والبلاد التي هي قرية تزور قرية أخرى,
والهوية التي لا زمن لها... نقرأ ما يلي: يتبنى الناس في شظايا المكان شظايا
هويات, وتتألف القرية من بيوت طمست معالم ما قبلها, وتنقسم الحمائل في اللعبة
الأخيرة لكاس العالم كما تنقسم حول انتخابات البلدية.... أخذ عزمي بشارة بتنقية
حكائية, تنفتح فيها كل حكاية على أخرى, وكل حكاية ـ صورة على حكاية ـ صورة
لاحقة. بحث السياسي الفلسطيني عن شكل كتابي, يقول به ما يجب أن يقال, وقاده
بحثه إلى رواية مغايرة, ولعل هذه المغايرة هي ما يعطي رواية حب في منطقة الظل
جديّتها وجديدها معاً بعيداً عن رؤى قاصرة جاهزة تقيس الرواية بمقياس جاهز, لا
وجود لـه على أية حال, وربما تكون حكاية رينوار في بلاد الأغوار, على سبيل
المثال, آية على التمازج المبدع بين الواقع والمتخيّل في كتابة بشارة, حيث
الواقعي, أو "الوثائقي" موجود وغير موجود في آن, لأن الكتابة تستدعيه وتصرفه في
آن.
وضع عزمي في روايته سبعة عشر فصلاً, من عناوينها: حب في زمن الحب, بلدة, عموم
الناس في الحيّز العام بلدية, صحافة, حوار عمر مع دنيا حول الجمهور.... تتوزّع
الحكايات على "الأرشيف" وعلى ما هو غير أرشيفي أيضاً.
غير أن هذا التوزيع لا معنى لـه, لأن المواضيع جميعاً موحدة في سرد مفتوح,
يمليه الحوار بين طرفين مغتربين, يردّان على الغربة بالمحبة ويواجهان آماد
الكابوس بدفء والحب والبحث عن المعنى, وفي الحالات جميعاً, فإن رواية بشارة لا
تختزل إلى السياسة أو علم الاجتماع أو الفلسفة, كما يتوههم البعض ولا إلى شظايا
الفلسطينيين في شظايا المكان, إنما تأتي من مفرد مغترب, يعيّن اغترابه الذاتي
مرجعاً لحكايات مأساوية متواترة.
قليلة هي الأعمال الروائية الفلسطينية التي حملت رؤية, أو حملتها الرؤية, منذ
أن رأى الراحل جبرا إبراهيم جبرا في الثقافة, أو في المعرفة بشكل أدق, دليلاً
إلى استرجاع الوطن, ربما يكون في عمل عزمي بشارة أشياء من هذا الدليل البصير,
مع فرق جوهري بين الطرفين, هو أن دليل بشارة ينير طريق فلسطيني لم يعرف الهجرة
والمنافي, وانتظر طويلاً وسيطاً عاقلاً يوحد بين الماضي والمستقبل, نقرأ في
الرواية الجملة التالية: ربما كانت إقامة الدولة الوطنية هي أقصر الطرق
للهجرة..... شيء قريب من ذلك الإنسان العطِش الذي رأى بئراً وسقط فيه غريقاً
قبل أن يبلل شفتيه بقطرة ماء.
أضيفت في10/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الأسبوع الأدبي (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
الأرض... المرأة... فلسطين الحكاية...
بقلم الكاتب: د. وليد مشوّح
من يقرأ التاريخ العربي بعمق وحيدة؛ لا بد له من العودة إلى قراءة أدبيات
الإسلام كعقيدة مثلى حملها العرب أمانة وجودية عظيمة قامت عليها ذواتهم الفردة
وبالتالي الجمعية؛ وبها تشكلّت شخصيتهم عبر تاريخ طويل، وعليه كان ارتباطهم
بالأرض كون التراب من مقدساتهم لأنه الجوهر المادة لخلق الإنسان؛ وعلى هذا
الأساس بدأت حيواتهم في هذا الوجود، كذلك فهم أول خلق الله الذين قدّسوا المرأة
لأنها خصب التراب وجذر الأرض حيث تبذر بذاراً يثبّت الأرض القيمة، ويطهّر
التراب إذا ما اجتاحته جائحة.
وعلى هذا الإبراق الخاطف تتجلى الذات العربية بأسمى صورها، حيث حكمة الرب التي
وضعت هذه الخصوصية بمنزلة الطقس الإيماني، وكان الهبوط القدسي على هذه الأرض،
ومنها أشرقت الرسالات على العالم، وما خصوبة ترابنا إلاّ تشكيل حيوي من نجيع
وأجساد ما أنكر مؤرخ وجداني ذرة من تراب إلا وتتوأمت مع ذرة من جسد، وقد تغذى
هذا التراب القدسي بتهطال من دم الشهداء الذين رووّها ذرة ذرة كسباً لصداقة
التاريخ ونزاهته، وللآخرة بمعنوياتها التفسيرية المختلفة التي تنصب على رضاء
صاحب الأمانة الذي إئتمنهم عليها وخصهم بها.. هي ذي افتتاحية المعنى في درس
الوجود العربي الأمثل. تاريخ، وأساطير، وحكايا، وخرافات، واصطراع دموي بين الحق
والباطل، بين الحقيقة والبهتان، بين الخلف والأمام، فوق المسرح وخلف الستارة،
أحداث وأهوال، دسائس ومؤامرات، مزادات وغش وتدليس، اعتقال للتاريخ، وفسحة
لشذّاذ الآفاق.. حركة مستمرة..؛ وتسوّق الدودة (كطراز من طرز "المودة" الآتية
من هناك..". أقول: الدودة زرعت وكان كيان أخطؤوا لجهلهم- مع بساطة العرض الآنف
ونصاعته- بذره في أرض العرب، وهم لا يعرفون عن التراب إلا لكونه تراباً.. وكانت
الخطيئة الثانية؛ إذا كانت التفاحة هي الخطيئة الأولى!!.
ولقد صرف المحللون السياسيون، والدبلوماسيون، وبعض المؤرخين الكثير من وقتهم
وسوّدوا المزيد من صحائفهم، وأهدروا الكم الهائل من أحبارهم؛ لتحليل ظاهرة
سياسية يشهدها العالم –مع قناعتهم المترسبة في أعماقهم بكونها طارئة زمانية ليس
إلاّ-، وهذه الظاهرة أخذت عنواناً عريضاً يعني بُعداً سياسياً، وسموها –على
ظلال- بـ "إسرائيل"، وراحوا يلهثون وراء تحليل أبعاد السياسة الإسرائيلية، مع
إدراكهم بعدم وجود سياسة إسرائيلية؛ وإنما توجد ممارسة إسرائيلية مستمدة من
عقدة نسجتها الخرافة، والعقدة بدورها تتوجه صوب ثور جانح ببهيمية متوحشة يقتل
ويطرد ويدمّر، لأنه بلا قضية أساساً، كون ذاته الوجودية دون جذر إطلاقاً.
فالإسرائيلي يَقُتُل لأنه يَقتُل؛ هكذا تقول الخرافة، وهكذا يدفع به الهاجس
الخرافي المتموضع خارج الإطار الحضاري للعالم بمفهوماتها المختلفة.
وجاء المصطلح بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، ليكتسح المنطق؛ كونه جاء على شكل
جائحة شكّلتها معطيات نفسية تأتت من ردة فعل آني، فسوّق مصطلح الإرهاب...
واختلط الحابل بالنابل.. واستفاد الصهاينة كعادتهم من مصائب الآخرين حتى ولو
كانوا أصدقاءها، وحماتها ورعاتها.
والفارق بين النضال والإرهاب واضح وضوح الشمس وتعرفه الشعوب وتقره منطقية
التاريخ، وأكدنا عليه فرادى وجماعات، ودعونا إلى مؤتمرات دولية لتضع الخطوط
الفاصلة بين النضال والإرهاب، ولكن إسرائيل شاءت أن تديف السم بالدسم على
عادتها ولمصلحة شرورها أولاً وأخيراً.
وثمة فارق آخر بين المنازلة في حدود الحق ومن أجله، وبين التقتيل من أجل هضم
الحق، وإجراء الباطل مجراه.
فالإسرائيلي يقتل لأن الحاخام الدموي الشرّير الذي ابتدع الخرافة سيطر على
دواخله الإحساسية ثم حوّلـه إلى كتلة صدئة من التنك وبالتالي أمره بالقتل،
والإسرائيلي يقتل لأن توراته وتلموده يحضانه على ذلك ظاهراً وباطناً، مباشرة
وخفية، وتلويحاً وتلميحاً. إذن فقتاله لا يقوم على شرعة إنسانية أو كونية؛ بقدر
قيامه على غاية القتل بحد ذاتها.
أما الفلسطيني فمناضلٌ ينازل قاتلاً، وهو لا يقاتل؛ بقدر قيامه بفعل نضالي،
وممارسة وجدانية وروحية وصولاً إلى حقه في التاريخ والحياة، ولا غرو في ذلك،
وهو من أرومة مسالمة، طيبة، كريمة؛ لكنها –في الوقت نفسه- غضوبة، ماضيةٌ،
شموسٌ، عنودٌ؛ إذا هضم حقها.
ونضال الفلسطيني؛ ينصّبُ على استعادة الحق أولاً، وطرد مغتصب أرضه وحقه
بالطمأنينة والسلام ركني الحياة الأساسيين، ينازل عدوه وليس بالضرورة يقتله؛
إلاّ إذا مارس عدوه فعل القتل عن سابق عمد وإصرار؛ فأعرافه ونواميسه وشرائعه،
التي اقتضتها طبيعة أمته، تحرّم عليه السكوت والاستكانة للواقع المهين، وتدفعه
وتحضّه بل تأمره بوجوب المناضلة، والتشدد بها إلى أن يعود إليه حقّه.. بل نجد
اللغة العربية تقدم أشنع النعوت وتسم بها المتوانيَّ عن الإقدام في سبيل الحق؛
فتنعته: بـ "الجبان، الخانع، المستكين" وهي أدنى الصفات في لغتنا؛ لذا يقدم
العربي على الموت غير هيّاب ولا وجل.
هي ذي طبيعة العربي، وتلكم تركيبته النفسانية والروحانية والوجدانية التي كان
يتوجب على دارسي طبائع وسلوكيات ونفسيات الشعوب وضعها بتصرف قوى الاستكبار
العالمي.
لقد عجزت إسرائيل في سنواتها العجاف ومن ورائها المؤسسة الصهيونية الإمبريالية؛
من تغيير طبيعة الفلسطيني؛ لا لمعجزة فيه؛ وإنما لجهل فيها.
فلو قرأ قادة الكيان الصهيوني؛ الطبيعة الخاصة في الإنسان العربي ذي العمق
التاريخي والعقيدي المستمد من خصوصية الجغرافية، والمنزلة المتميزة في التاريخ؛
لوفّروا الكثير من دمائهم واقتصدوا في شرورهم، ولظلوا آمنين في الرقاع التي
جاؤوا منها، يعيشون كمواطنين في تلك المواطن (يشاركون الإنسان السوي، فوق الكرة
الأرضية في صنع الحضارة، ووضعها بتصرف الإنسان)، ولكنه.. هذاك الداء العضال
التي يتمركز في (الكروموزوم)، ضمن التركيبة الدموية أو الزمرة الدموية التي
تقوم عليها الشخصية الصهيونية؛ تمنع صاحبها من الفعل في الواقع الكوني لصناعة
الحياة؛ هي عقيدة تنحاز إلى الموت وحرق العالم وإلغاء الكون.
وأخيراً لا بد من أن يقرأ قادة الكيان طبيعة حياة العربي، فهو ينعم بالخيمة كما
في المنزل الاسمنتي، فإن دمروا بيتاً فهو القادر أن يعود إلى بيت الشعر، كذلك
فإن العربي يقدس شهداء أي قضية حقوقية أو أخلاقية أو عقيدية، والدليل على ذلك
وضعنا أسماء الشهداء منذ آلاف السنين في صفحات التاريخ حسب القدم متساوين فمن
المسيح مروراً بالحسين وانتهاء وليس نهاية بمحمد الدرة، لذا يسير العربي على
درب الشهادة منذ نعومة أظفاره.. إذن لا تجربوا وسائلكم القهرية، وعودوا من حيث
أتيتم بسلام، وعوا تاريخ العرب النفسي والنضالي جيداً، واعرفوا أن العربي لا
يستكين لقهر أو لموت؛ كونه يحمل خصوصيته الذاتية، واعلموا أن العروبة والإسلام
يزدادان قوة وتحدياً وإصراراً وانتشاراً في الظروف الصعبة، وفي أزمنة التحدي
والقهر والتدمير والتقتيل.. فقط اقرؤوا التاريخ وتعرفوا على الذات العربية
الإسلامية؛ توفرون على أنفسكم الكثير.. وعلى سادتكم وحُماتكم أيضاً...
أضيفت في10/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الأسبوع الأدبي (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
ثلاثة محاور في قراءة قصة
النخلة المائلة لمحمد علي طه
بقلم الكاتب:
د . فاروق
مواسي
هذه القصة هي حكاية الحنين للوطن ، للماضي ، وللأحبة ، فيها المزج
الرائع بين الواقع والفانتازيا ، وبين الصدمة والحلم ، وبين الإنسان والأرض .
يوسف العلي في الستين من عمره يزور أطلال بلاده ، حيث مرتع الطفولة
وموطن الأهل ، ولا يجد من معالم بلاده سوى النخلة " مبروكة " ، فهي ما زالت
راسخة . يعبر الراوي عن لواعج شوقه وحرقته ومعاناته بسبب الغربة التي نشأت إثر
التشريد قبل خمسة عقود .
يخاطب النخلة فـ " يشخصنها " أو " يؤنسنها " ، فهي "عشيرة الطفولة "
، فلا بد إلا أن يحكي لها عن كل ما مر به من نكبات أو وثبات . فها هي الأرض
/النخلة رسخت في وجدانه ، حيث لا ينسى الروائح في الطبيعة ، بل يعرف أسماء
التلال والدروب والشعاب والسبل . ويراوح بين الماضي الجميل والحاضر الممض ،
ويسترجع أمامها غناءه لها ، بل عشقه إياها ، فقد ورث هذا العشق عن أبيه الذي
مات ولم يفتر عن ذكرها . ويخيل له أن النخلة تخاطبه ، وتؤكد له حفاظها على
العهد ، بل إنها ترد على أغنيته بأغنية ، فيختلط الأمر على الراوي ، ولا يكاد
يصدق .
وفي خضم ذكرياته تطل شخصية فاطمة بنت الجيران التي كان يكتب لها
الرسائل القصيرة ، ويدسها في جذع " مبروكة " لتأخذها ، ونتعرف من خلال تداعياته
على مصير فاطمة التي لاقت مصرعها في مخيم " عين الحلوة " .
ها هو يبحث عن أَثر لفاطمة في جذع النخلة ، وفيما هو مقبل على ذلك
يتنبه إلى انحناء جذع النخلة – إنه مائل كثيرًا... .يتساءل عن سبب انحنائها :
أتصمد أمام الريح ؟ أم أنها انحنت لتشم رائحة الأهل في الأرض ؟ ولا يملك إلا
أن يمضي في غنائه الحزين :
مبروكة يا مبروكـه
يا عين أمك وابوك
لومي مش ع الزمن
لومي على اللي راحوا وهجروك .
قراءة القصة:
سأعمد إلى هذه القصة من خلال ثلاثة محاور أو أنماط قرائية مختلفة ،
وذلك حتى أطل عليها من جوانب مضمونية وشكلية تؤلف كلاً قصيًا واحدًا ، وإليك
هذه المحاور :
1- قراءة ما ورائية –نصية:
وهي القراءة التي تجمع الخلفية التراثية التي تواشجت في القصة ،
لنرى أن "النخلة" لم تنشأ في ذهن القاص من فراغ أو مجرد اختيار ، وإنما هي
مرتبطة كرمز في الوجود الفلسطيني ، وإلى حد بعيد ومدى واسع .
النخلة_ أولاً - هي شجرة عشتار المقدسة " إلهة الخصب" _ويقال إن
هناك علاقة بين النخيل وتوالي الولادة والاستمرار أو معنى "الفينيق" ، بل هناك
من يرى أن طائر الفينيق هو طائر النخيل ، وتبعًا لذلك فقد كانت بلاد فنيقيا /
بلاد كنعان وطنًا يكثر فيه النخل، مما أكسب النخل مكانة هامة تواصلت جيلاً بعد
جيل.
أذكر ذلك لأن بداية القصة توحي بذلك . يقول الراوي :
" اغتالوني... قتلوني مرات عديدة ، نهضت من بين جثث الموتى ... "
أليست هذه الأقوال دالة على أسطورة الفينيق أو موحية بثباته أيضًا
كالنخلة أو الفينيق ؟
وإذا انتقلنا إلى لقطات أخرى ، فإننا سنجد نخلة "نجران" التي عبدها
بعض العرب ، كما سنرى أن المسيح ولد تحت النخلة ، فخاطب القرآن مريم :
" وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا وجنيًا " .
ويرى بعض المفسرين أن الشجرة كانت قديمة العهد منذ أكثر من ألفي سنة
" وكانت منحنية " لاحظ تسمية القصة لدى الكاتب.
والوقوف على النخل ليس مستحدثًا في تاريخنا الأدبي ، فهذا الشاعر
مطيع بن إياس يقف على نخلتي حلوان ، ويبكي أحزانه ، ويتحدث عن الفرقة التي حالت
دون اللقاء بهما ، ولا أرى بعدًا كبيرًا بين معاني القصيدة وبين كثير من معاني
الراوي ومعاناته .
يقول الشاعر :
أسعداني يا نخلتي حلوان وارثيا لي في ريب هذا الزمان
واعلمـــا أن ريبه لم يزل يفرق بين الألاّف والجيران
ولعمــــــري لو ذقتما ألم الفرقة أبكاكما كمــــــا أبكانــــي
كم رمتني به صروف الليالي من فراق الأحباب والخلان
أما كاتبنا أو الراوي فيقف على نخلة واحدة هي رفيقته التي واكبت
طفولته ، وانتظرته حتى عودته ، وهو يخاطبها من خلال التنفيس عن نفسه والتعبير
عن ألم الفرقة الذي أبكاه ، وعن صروف الليالي ، وكيف " أتى عليه ذو أتى " .
إن وقفته تجعلنا نستحضر في أذهاننا كذلك وقفة عبد الرحمن الداخل
أمام النخلة ، فقد رآها أمام قصره في الرصافة ، فخاطبها قائلا :
نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
وفي القصة الفلسطينية سبق أن قرأنا لنجاتي صدقي قصة " الأخوات
الحزينات " التي كتبها في يافا سنة 1947 ، حيث يتحدث فيها عن خمسة جميزات يقفن
في صف واحد ، وكان يقابلهن بناء عربي قديم ، وذلك من منطقة بيارات عربية . وإذا
بالشجرات يصبحن ( تصبح ) أسيرات في عالم غريب عن العالم الذي نشأن فيه . يسند
الراوي رأسه إلى جذع شجرة ، ويحلم أن الخمس شجرات يصبحن خمسة شخوص أو أخوات
يتذاكرن جوانب المأساة الفلسطينية . وتنتهي القصة أيضًا بمعنى الثبات والصمود :
"وصحوت من غفوتي ، وكانت رياح الخريف تعصف بشدة ، فتهز كل شيء ، إلا أنها لم
تقو على تلك الشجرات ، فقد ظلت راسخة كالطود .
أما النخلة في القصة التي نتناولها فهي باقية على العهد ، صابرة ،
متحدية ، ومشاركة ، وقد اختار الشاعر هذا النوع من الأشجار بسبب صبرها على
الظمأ وثباتها في الأرض ، وحتى يكون مبرر لهذا البقاء وتواصل التاريخ وعودته
كطائر الفينيق ، فالنخلة لها معنى يختلف عن معنى الجميز ، ووحدتها لها دلالة
أعمق من اجتماع عدد من الأشجار معًا . وهي شجرة متفاعلة مع الحدث أكثر من
سواها .
وإذا عدنا إلى القصة وتناصاتها فسنجد هناك الغناء الشعبي ، كما نجد
الآيات الكريمة غير مباشرة أو مستخدمة بتغيير ما في الكلمة لتلائم الموقف ، فها
هو يخاطب النخلة بجملة : "ما ضل صاحبك وما هوى " ، وهو قول مستقى من الآية :
"ما ضل صاحبكم وما غوى " _ يفعل ذلك ليستخدم لفظ صاحبك - أيتها النخلة - وما
هوى سواك ولا أحب إلا أرضك .
أما قول امرئ القيس
" ضيعني أبي صغيرًا ، وحملني دمه كبيرًا "
فيحوره الكاتب إلى " ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم كبيرًا "
كما أنه ينقل تجربة أيوب ، ويتحدث عن " الفردوس المفقود " بالمعنى
الحرفي للوطن ، أو سنة الخروج _ ويعني سنة التشريد أو التهجير . بالإضافة إلى
الاقتباسات الأخرى المباشرة ، من القرآن : [ والنخل ذات الأكمام ] ، يا يوسف
العلي ... كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبي وليدها " .
***
يمثل هذا الحشد الزاخر من الإيحاءات أو المرجعيات منطلقًا للقصة ،
فترتفع النخلة بسموقها القصصي ، وهي بالتالي توصلنا إلى لوحة تتجلى فيها النخلة
مرسومة ، أو يتجلى فيها المتلقي الصابر ، أو المهاجر الذي عاد للنخلة الصابرة
- سيان . هي لقطة من مصورة يقف القاص فيها مسترجعًا ، مستوحيًا ، مستلهمًا ،
وبانيًا لعالم من الواقع والخيال معًا .
***
ب -قراءة أسلوبية - نصية:
إن الخطاب الأدبي يقدم نفسه من خلال اللغة . واللغة بإشاراتها
الخفية والظاهرة ترتبط لدى الكاتب بواقعها الاجتماعي ومؤشراتها البيئية ، ولما
أن كانت اللغة هي الفاعلة في النص فإننا سنجد أنها تغوص في الأرض وتنداح عليها
، ذلك أن المعجم اللغوي الدال على الأرض ومفرداتها وما يستخرج منها ظل المكون
الأول والفعلي لحبكة النص .
قدمت اللغة في القصة قدرة سردية من استرسال العبارات وتلاحق المعاني
، كما مزجت بين تعابير من التراث وأخرى من واقع الحال ، واستعانت بلغة غنائية
متصلة إلى حد مكين بمشيمة المعنى .
لنلج إلى دوالّ من ذلك :
يقول الكاتب : "يفتح خوخة للذكريات النائمة في أعماقها ... " ( ص 8
) ، فهو لم يقل مدخلاً ، أو بوابة أو بابًا وكلها جائزة له ، ولكنه استحضر "
خوخة " ليتواصل مع ماض وواقع .
ويقول : " يتنشف بالنور ، " ما قعدت يومًا ولا عرفت القعود " ( ص 7
) ، " ملعون أبو الغياب وأبو الفراق " ، " في أثناء زرقة الشمس " ( ص 6 ) ...
الخ .
ومثل هذه التعابير مستسقاة من اللغة الدارجة هي أقرب ما تكون
لمحاورة أو على الأقل لملامسة واقعية . فإذا قال " من شفتيه الناشفتين " ( ص 12
) فهو يتعمد الوصف حتى نستسقي صورة التشقق على هاتين الشفتين ، وإذا قال "
ولكنك رحت " فهو يعني الموت وما هو أكثر منه ، يعني كذلك الحسرة عليه ، ويعني
الزمن الذي تلا ذلك . وتورد القصة أسماء للأماكن ( البياضة ، رباع الست ،
المراح .. الخ ) وأسماء لنباتات ، وأخرى لطيور ، وتصب هذه كلها بمعنى التشبث
بالوطن ، حتى لتدل هي بذاتها على معنى الوطن . إن الراوي خبير كذلك في الروائح
بالوطن ، وها هو يحبب لنا حتى " هواء المراح " الذي يحمل رائحة الأنعام _
الأبقار والماعز والأغنام ، فيحول بذلك رائحة القرف إلى حالة التشوق والارتباط
، إذ أن قلب العاشق دليله ، والراوي
" يعرف " رائحة هذه الهضبة في سويعات الصباح ، ويعرف رائحة النسيم
فوق ذاك المنحنى
" ، ولا عجب فالمكان راسخ في وجدانه ، وما المكان إلا البيت الذي
أشار إليه غاستون باشلار : " وهكذا فإن الكون الفسيح يصبح إمكانية لكل الأحلام
عن البيوت . الرياح تنبعث من قلبه ، والنوارس تطير من نوافذه . إن بيتًا يملك
هذه الدينامية يتيح للشاعر ( القاص ) أن يسكن في الكون... أو يفتح نفسه للكون
ليسكن فيه ، ولكن في لحظات الطمأنينة يعود الى قلب هذا المأوى - كل شيء يتنفس
من جديد " .
أكاد أقول إن الكاتب جند لهذه القصة كل ما تحتضنه طبيعة الأرض
الفلسطينية وعاداتها ( نحو حذوة الفرس ، الخرزة الزرقاء ) ، وبناياتها ( نحو
الخوخة ، القنطرة ... ) ، وهي - على العموم - تضفي هذه الواقعية بشحناتها
المؤلمة.... فتحديد الطبيعة التكوينية يسوق إلى تبيان يساعد الشخصية المحورية
- هذه الشخصية التي قد تكون هنا :
أ_ الراوي ، ب_ النخلة ، ج _ المكان بتفاصيله وجزئياته . فكل من
هذه الافتراضات له / لها سيادة في إنتاج النص . وتأتي أهمية المكان في كل
افتراض كمية وكيفية ، ذلك لأن الكمّ هنا مخفي ، فقد كانوا وعاشوا وسعدوا وراحوا
وهلكوا .أما على مستوى الكيف فيبدو أن للمكان طاقته الاختيارية في تعميق
العلاقة بينه وبين الراوي ، وقبل ذلك بينه وبين الوالد علي ( يلاحظ أن اسم والد
الكاتب هو علي ؛ وهذا من شأنه أن يقودنا لحالة المطابقة بين الفن والمرئي ) ،
فمشاركة المتلقي في إنتاج النص تأتي من توقعه بأن الكاتب قد عاش حقًا- بصورة
ما - أو على الأقل أن له معايشة وجودية ونفسية - هي معايشة الرؤية العميقة
الشاملة المتحركة من زمن إلى زمن وصولاً إلى زمن آخر.
اللفظة على المستوى الكمي والكيفي تكتسب قوة وإيحاء ، فإذا قرأنا
قوله " ستون عامًا يربضون على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل ... "(ص9) فإن
استخدام لغة الجمع المذكر ليدل بذلك قصدًا على القوة والتسلط والعتو .
أما استخدام الحال - نحويًا - في بداية الجملة فقد كان دليلاً على
منطلق الراوي الأولي :
-" مستنشقًا هواء الفجر المضمخ بعبير البرتقال ساعة ... "(ص7)
- " محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة "(ص7)
-" نابشاً بليونة الفجر ذاكرته الغنية " (ص8)
-" قادمًا من ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلاً ... "(ص10)
وعلى غرار ذلك كان يقدم ( خبر كان ) وكأنه نوع من بيان الحال :
" محدقًا في جذعها كان يتسلق عليها "(ص13) أو يقدم المصدر : قبلاً
سأقبلك ، بل إنه يحذف أحيانًا الفعل الذي يجعل الاسم منصوبًا نحو :
" واقفًا مشدوهًا
- أين ؟ "(ص12)
( بدلاً من " وكان واقفًا مشدوهًا " ... )
أو
" باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة "(ص13)
بدلاً من " وكان ...... "
وهذه النماذج وغيرها تؤدي إلى التوصيل البدئي . إنه يبدأ بالحالة
الأهم - وهي مدار الحديث أو الحدث . وهذا التقديم كان مصاحبًا لغنائية لفظية
...وكأنها ترانيم حزن في مبنى النص .
وما دام الكاتب يسترسل في أداء العبارات ملاحقًا المعنى بالمعنى
فإنه يخلق نوعًا من الدرامية ؟ فإذا سأل " أين ؟ "(ص12) فإنه يواصل ذلك
بتكرارية نعهدها في الشعر الحديث _ وبصورة بارزة ، فكل سؤال بلاغي يحمل إثارة ،
كما يحمل شحنة من استيحاء الماضي . فكانت أسئلة " أين ... " تدور حول المادة
المحسوسة والمعنى ، وهذه كلها تصب في إرض الوطن ، في أرض النخلة .
ثم إن الجمل المتصلة المتراسلة تأتي في القصة بغية التوضيح أو
إلقاء ضوء آخر معبر ، وذلك على غرار :
" يعرفها . يسير إليها .يهرول . يقفز . يعدو(ص12) . "فهذه الأفعال
المتعاقبة هي حركية تدل على معناها ، وبالتالي فهي انفعالية . وعلى نحوها :
" مبروكة تعرفني . تحبني .تنتظرني "(ص9)،
" يلهث ، يتعب ، يقف "(ص98)، ومثلها كثير .
أما التشبيهات فقد كانت تُستقَى غالبًا من جو المكان والبيئة :
"ذراعاي مثل جناحي نسر"(ص7)،
" فاطمة جفت مثل عدو يابس "(ص13) ،
" نعدو مثل الحملان ، ونطير مثل الفراشات الملونة "(ص18) ،
" يتعثر بعود يابس استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة " (ص8)،
ففي هذا النموذج الأخير نجد في آلـية النقل من حالة الراوي إلى
حالة العود اليابس ، وهو تشبيه فني وإسقاطي _ حسب مفاهيم علم النفس .
وهذه التشبيهات من واقع الحال نجدها كذلك في قوله :
" وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة " (ص8) ،
فسوداء مثل الغربة هو نقل حاسة إلى أخرى.... وتراسلها على صياغة ما اصطلح عليه
في البلاغة الحديثة " الحس المتزامن .
وإذا أضفنا إلى لقطات الواقعية سردًا على النحو " وهو يقول ...
ويقول " أو نقل التساؤل المعبر " لماذا تضحكون ؟ " ( ص 9 ) ، فإننا ندرك أن هذه
القصة وظفت لغويًا بما يعكس المضمون ، وشحنت المعنى بواسطة المبـنى المعبّر
والموصِل .
ج - قراءة تأويلية - نصية :
التقديم أو " الفرش " الذي سبق القصة مستقى من " أرض حقيقية -
الفتوحات المكية لابن عربي " ، حيث أنه يعمد إلى بيان فضائل النخلة إلى درجة
كونها أختًا لآدم - خلقت من فضلة التراب الذي خلق منه فهي لنا " عمة " .
كمان يمكن أن أقبل هذا النص مقصورًا على المستوى الثقافي المحض ،
ذلك لأنه ليس موظفًا على المستوى الفلسطيني خاصة ، بل هو وارد في سياق ديني أو
إسلامي قِيمي أو صوفي .
فالحديث " أكرموا عماتكم النخل "، يشرحه القزويني : " إنما سماها
عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام "، ومضى بعد ذلك يشرح مبلغ
التشابه بين الناس والنخلة:
" ... ولو قطع رأسها لهلكت.. ولها غلاف كالمشيمة التي يكون الجنين
فيها ... ولو قطع منها غصن لا يرجع بدله كعضو الإنسان، وعليها ليف كالشعر يكون
على الإنسان ... وإذا قاربت بين ذكران النخل وإناثها فإنه يكثر حملها لأنها
تستأنس بالمجاورة " ، فأنسنة النخلة لدى الكاتب كان موقفًا ، كما أن اختيار
الصفة " المائلة"، يُعيدنا إلى نخلة مريم "المنحنية" ،وبالتالي فالنخلة هي رمز
فلسطيني كنعاني هو الفينيق- رمز التجديد والانطلاق ، ورمز الصبر والثبات مهما
تناوحت الرياح وكانت هوجاء.
ويجيز خطاب الحداثة أن يحمل العنوان ما قد يفترض من أن المبدع
يتعامل مع اللفظة بقدر من الحساسية ،لذا فإنّ النفاذ إلى أعماق اللفظة وكنهها
والتغلغل في احتمالات أبعادها من شأنه أن يتجه بنا إلى الجوهر – هذا الجوهر
المشحون بكثير من الموروث النفسي والتاريخي سواء كان المبدع على وعي بذلك أم
لا.
إن النخلة المائلة بكل ما تحمله من مصابرة ومرابطة ترتبط بصبر
الراوي - أو لنقل بصبر الفلسطيني المشرد. فالصبر كان مترددًا –موتيفًا
–لازمًا، يمثُل تارة بصورة مباشرة، وطورًا بالرمز "أيوب"، الذي ذكر في القصة في
سياقين مختلفين:
أما الأول فقد كان مباشرًا ووصفًا مجردًا ، و أما الثاني فقد ورد
على صورة حكاية قصيرة جدًا تقول إنه تقاوى على نفسه ...حتى وصل إلى البحر فخرج
معافى. فلا بدع إذن أن يصل الراوي إلى مسقط رأسه، وإلى النخلة حتى يعود أيوب
الجديد معافى كذلك.
يتمثل الراوي في أثناء عودته أن الهواء كله له، أنه يشم التربة،
يستجلي محاسن الأرض، يعانق النخلة فتخزه أضلاعها الجافة. ولكن لا بأس! (ص13).
يربط بين تكرارية علاقته بالنخلة كتكرارية قراءة الفاتحة وما من ملل.(ص9)،
والتساؤل (أين؟) جزء من المبحث عن كينونته، فأين طيور الدوري التي كانت تقفز
حوله في ساحات البيت؟ ولكن أين البيت؟ (لاحظ هذا التدريج أو التدرج في المبنى
المتناقص).
ثم "أين فاطمة اليانعة الخضراء التي جفت مثل عود يابس؟" ؟ - وفاطمة
مثال لهذا الضياع الفلسطيني المريع.
وتظل القصة تؤكد هذا الحنين الرومانسي حتى في تصميم الراوي الذي كان
يستلقي في المنفى وبندقيته إلى جانبه.
النخلة المائلة إذن هي منحنية أمام الصدمات والنكبات، وها هو يتساءل
عن سر انحنائها ، ويضع لذلك ثلاثة احتمالات كلها تصب في مراح واحد، وكلها تعكس
مشاركتها الإنسان في عذابه ووصبه، وكذلك في أشواقه وحنينه.
إن هذه القراءة في المعنى التأويلي هي احتمالية أو افتراضية، وإن
صدق الزعم فإنّ لكل موضوع دال - عددًا أكبر من المعاني ،وبعضها يتداخل فيما
بينه. وبالتالي فإن الكتابة إذا انطلقت مجازية أو استعارية فهي تدل على حشد من
الصور ، وعلى طاقة بنائية خلاقة- وهي خلاف الكتابة الواقعية المجردة التي تنشأ
من فراغ.... أو تؤدي إلى فراغ.
***
غير أن القصة تفاجئنا في السطر الأخير بهذه الحدة الموقفية:
"لومي مش ع الزمن
لومي ع اللي راحوا وهجروكِ "
إن هذا الخطاب حتى ولو ورد في صورة أغنية قد يحتمل معنى أن نتهم
–مباشرة وغير مباشرة- مثل هذا الولد المعذب يوسف ومثل أبيه علي - الذي ظلت
أحلامه تعانق النخلة حتى رمقه الأخير ، فأغفى وهو يحتضنها ، وهو يتلمس كل
رائحة من تلك الأرض التي نزح عنها ، وبالطبع فهذا الموقف في الأغنية هو آني
وعاطفي وعابر.
المصدر:
طه، محمد علي: النخلة المائلة، دار الهدى، كفر قرع، 1995.
المراجع:
1. القرآن الكريم
2. الأصبهاني، أبو الفرج: الأغاني، ج 13، دار الثقافة - د .ت.
3.باشلار، غاستون: جماليات المكان(ترجمة غالب هلسا)،ط3 ،المؤسسة
الجامعية، بيروت-1987.
4. بيومي مهران: دراسات في الشرق الأدنى القديم، دار المعرفة
الجامعية، القاهرة،1997.
5. الثعالبي: ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، دار
المعارف،القاهرة، 1985.
6. خان، محمد: الأساطير والخرافات عند العرب،دار الحداثة،
بيروت-د.ت.
7. شوقي ،عبد الحكيم : موسوعة الفولكلور،مكتبة مدبولي ،
القاهرة-1995.
8.القزويني:عجائب المخلوقات،ج1، دار التحرير للطباعة والنشر،
القاهرة،د.ت.
9. ياغي ، عبد الرحمن: حياة الأدب الفلسطيني الحديث، منشورات
المكتب التجاري للطباعة، بيروت-د.ت.
أضيفت في15/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر
د فاروق مواسي (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
أرض الزيتون في نشيد الزيتون
قضية الأرض في الرواية الفلسطينية
بقلم الكاتب:
حسن النيفي
لعله من البدهي أن تكون قضية الأرض هي المؤرق الأقوى لأذهان ونفوس أفراد الأمة،
ليس على المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي فحسب، بل على المستوى الفني
والأدبي والوجودي بشكل عام. ولعلنا لا نذهب بعيداً إن قلنا: إن البواعث
الوجدانية والشعورية لمفهوم الأرض تتجاوز كونها (محرّضات إبداعية) بل أضحت
هدفاً في طليعة الأهداف التي يتحدد على أساسها مصير الفرد، ليس على المستوى
القومي فحسب، بل على المستوى الإنساني العام. ولئن كانت الانكسارات التي تمر
بها الأمة العربية ما تزال تقذف بشظاياها في النفوس، فتغدو رياح الفواجع هي
الهواء الذي يستنشقه المرء، ويصبح الإحساس بالإحباط والانهزام والإذلال الذي
ترسمه كل يوم توهجات الدم المراق، واستغاثات الشرف المستباح، سواء في فلسطين أو
العراق حالة مألوفة، أقول: إن كان الأمر على هذه الحال، على مستوى الواقع
المعيش، فإن الأدب (كمجال إبداعي) ما زال، في شطر كبير منه، مستعصياً على حالات
الاحتلال والهيمنة والتدنيس، وما زال، أيضاً، يعلن عن مشروعيته في الدفاع عن
منظومة القيم الإنسانية المتجذرة في النفوس. وانطلاقاً من هذه الحقيقة أقول: إن
وقفتنا أو قراءتنا لكتاب (نشيد الزيتون) لمؤلفه الدكتور نضال الصالح، لم تكن
نتيجة نزوع جمالي أو فني أو بدافع الفضول العلمي فحسب، بل هي، أيضاً، نتيجة
الرغبة في إعادة الاعتبار إلى الذات، والبحث عن تجليات الوجدان المقاوم.
يتألف الكتاب من مدخل وأربعة فصول، ويستهل الباحث مدخله بالإشادة بدور الصحافة
كونها حدثاً هاماً في عالم الثقافة، استطاع أن يسهم في عملية التواصل المعرفي
بين الناس كما أسهم في فتح آفاق رحبة لظهور فنّي (القصة والرواية) ووصولهما إلى
القراء. ثم يستعرض الناقد بعد ذلك البواكير الأولى لظهور الرواية الفلسطينية،
فيتوقف عند بعض العناوين، لعل أهمها: (ظلم الوالدين) ليوحنا دكرت، ورواية خليل
بيدس (الوارث) وقد صدرت الروايتان عام (1920م) ثم يستعرض الناقد بعض الروايات
التي تتالت تباعاً، مثل رواية (الملاك والسمسار) لمحمد عزة دروزة، 1934،
و(مذكرات دجاجة) لإسحق موسى الحسيني، التي تشكل، وفقاً للدكتور نضال، منعطفاً
هاماً في تاريخ الرواية الفلسطينية، كونها النص الروائي الوحيد، من أعمال تلك
المرحلة، الذي حقق رواجاً استثنائياً وقت صدوره، ص 14. ثم يخلص الباحث إلى رأي
مفاده: أن ما صدر من روايات فلسطينية قبل سنة 1974، (لم يكن سوى محاولات سردية
مبعثرة لم تستطع أن تشكل إرثاً وجذراً تتنامى منهما المحاولات الروائية
الفلسطينية في السنوات اللاحقة، بسبب عدم قدرة كتابها على الإمساك بأدوات
الكتابة الروائية، وبسبب ابتعادهم عن معالجة الواقع الذي كان يواجه محاولات
مسعورة لنفي الفلسطينيين خارج أرضهم، ولتشويه حقائق وجودهم التاريخي على هذه
الأرض) ص: 6. ويمكن أن تكون رواية جبرا إبراهيم جبرا (صراخ في ليل طويل) 1955،
وفقاً للناقد، هي الرواية الأولى، بالمعنى الدقيق لمصطلح الرواية، التي استطاعت
أن تحوز شروط الفن الروائي، وذلك بفضل عدم رضوخها لشروط الرواية التقليدية من
جهة، واستفادتها من تقنيات الرواية الغربية من جهة أخرى. ص: 17 ثمّة مسوّغان،
وفقاً للدكتور نضال، يجعلان من قضية الأرض نقطة استقطاب في النشاط الروائي
العربي الفلسطيني، أما المسوّغ الأول فيكمن في كون الفلاحين يشكلون الغالبية
العظمى من المجتمع العربي، إضافةً إلى كونهم يرْكزون في قاع السلم الطبقي
الاجتماعي، أما المسوّغ الثاني فيكمن في كون غالبية الكتّاب ينحدرون من أصول
ريفية. وسواء أكان هذان المسوّغان كافيين أم لا، فإنه بوسعنا القول: إن مفهوم
الأرض لم يعد يقف عند تخوم المسوّغات الموضوعية للبحث، بل نظنه يتعدى ذلك ليأخذ
بعداً رمزياً في وجدان المواطن العربي، لكون الأرض، على مرّ العصور جسّدت مكمن
السعادة والشقاء في آن معاً، فحينما يحوزها الإنسان وتجود عليه فإنه يسعد،
وحينما تشحّ عليه، أو تسلب منه فإنه يشقى، أما مفهوم الأرض في الرواية
الفلسطينية، فنظنه يكتسي طابعاً حسّاساً للغاية، لأن قضية فلسطين كانت النواة
الأساسية في الصراع العربي الصهيوني.
تجليات الأرض في الرواية العربية
لقد تباين تعاطي الروائيين العرب لقضية الأرض في مرحلة الثلاثينيات وحتى
الخمسينيات من القرن العشرين، ولعلّ مردّ هذا التباين يعود إلى تفاوتٍ في الوعي
الاجتماعي والثقافي لدى الكتّاب أنفسهم من جهة، ثم إلى تفاوت امتلاكهم لتقنيات
الرواية الحديثة من جهة أخرى، ففي الوقت الذي أخفقت فيه رواية (زينت) لمحمد
حسين هيكل، في تجسيد علاقة الفلاح بأرضه، وذلك بسبب نزوعها الرومانسي الذي
اكتفى بتصوير المشاهد الأخّاذة للريف المصري، على حساب إدراك الصراع القائم بين
البنى الاجتماعية، فإن رواية (الأرض) لعبد الرحمن الشرقاوي، يمكن أن تكون
الرواية الرائدة في إدراكها، واقعياً وجمالياً، لطبيعة العلاقة بين الفلاح
وأرضه ومستغليه. أما بالنسبة إلى الرواية السورية، فإن انشغالها بقضية الأرض
جاء متأخراً، ويمكن أن تُعد رواية (المذنبون) لفارس زرزور، في طليعة الأعمال
الروائية التي انشغلت بهاجس الأرض، وعلى الرغم من ذلك، فإن الدكتور نضال يأخذ
على الرواية السورية رضوخها للمفاهيم الروائية التقليدية، إلى درجة تجعل
الروائي يتدخل في صياغة الأحداث وإنطاق الشخصيات وفقاً لما يرتئيه هو، لا وفقاً
لما يقتضيه منطق الأحداث وسيرورة تنامي الشخصيات. وربما كان الشأن مختلفاً
بالنسبة إلى الرواية المغربية، كون مرحلة النضال الوطني في الشمال الإفريقي
تجسّدت على جبهتين: مناهضة الإقطاع والمستغلين من جهة، ومناهضة الاستعمار
الخارجي من جهة أخرى. وفي هذا السياق يقف الدكتور نضال عند رواية (الريح
الشتوية) لمبارك ربيع، ويرى فيها رواية رائدة بسبب (تثمينها للمستوى الفطري
لعلاقة الإنسان بأرضه، وتأكيدها على نحو غير مباشر، أن هذا المستوى أشدّ
تأثيراً وفعالية في معركة النضال الوطني من أي كم معرفي عن الفداء والتضحية من
أجل الأرض) ص 31 ولعله من الطبيعي أن نؤكد في هذا السياق، أن الحاضن المنهجي
للناشط الروائي المعني بقضية الأرض هو المنهج الواقعي، والواقعي الاشتراكي،
ولعل ذلك يعود إلى إدراك الكتّاب الروائيين أنفسهم لطبيعة الصراع الطبقي في
المجتمع آنذاك، ولإدراكهم طبيعة العلاقة بين البنى الاجتماعية المتصارعة، أضف
إلى ذلك، أن قضية الفلاحين هي من طليعة اهتمامات المنظومة الفكرية الماركسية
التي انبثق منها التيار الواقعي الاشتراكي.
فلسطين والرواية العربية
لعله من البدهي القول: إن قضية فلسطين هي محور الكفاح العربي منذ أربعينيات
القرن المنصرم، وقد تجسّد هذا المحور النضالي في النشاط الروائي العربي من خلال
استلهام العديد من الروائيين العرب قضية فلسطين في نتاجهم، ويرى الدكتور نضال،
إن تعاطي الروائيين العرب لقضية فلسطين تجلى عبر نمطين: الأول لا تحظى فيه قضية
فلسطين على أكثر من التعاطف المجرد، بمعنى أن فلسطين هي كسائر المشكلات التي
يعني بها الكاتب. أمّا النمط الثاني، تشكل قضية فلسطين فيه مركز الاستقطاب،
بحيث ينهض البناء الفني والجمالي للرواية على همّ واحد، هو فلسطين.
وعلى أية حال، فإن الدكتور نضال يؤكد على قضية هامة، مفادها: أنْ ليس كل ما
كُتب عن فلسطين من روايات يمكن أن يحظى بالجودة الفنية أو النجاح الجمالي، وذلك
بسبب (نحول أدواته الفنية وقصور الوعي لدى كتّابه بالواقع) ص 36. وهذا يؤكد لنا
على الدوام أن حضور الإيديولوجيا في العمل الفني، مهما كانت قيمتها، لا تعصمه
من السقوط إن كان متهافتاً جمالياً. وينهي الدكتور نضال هذا الفصل بالحديث عن
ثلاث روايات جعلت من القضية الفلسطينية هاجساً أساسياً لها، الأولى رواية حليم
بركات (ستة أيام 1961)، والثانية لفتحي سلامة (المزامير 1968)، والثالثة لأديب
نحوي (عرس فلسطيني 1970).
قضية الأرض في الرواية الفلسطينية
ثمة نوعان للرواية الفلسطينية، تجلى فيهما مفهوم الأرض، وفقاً للدكتور نضال،
أما النوع الأول: فهو الرواية التي كتبت في الشتات، أما النوع الثاني فهو
الرواية التي كتبت داخل الأرض المحتلة، وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي، أما تجليات
الأرض كما ظهرت في النوع الأول فتتبدى بطرائق متعددة، وتتمظهر بمظاهر وأفكار
ذات صلة بالجانب الاجتماعي والإيديولوجي لمؤلفها من جهة، وذات صلة بالبنية
الجمالية للرواية من جهة أخرى. حيث يقف الدكتور نضال عند عدد من الروايات
محللاً ودارساً، فيستنتج أن مفهوم الأرض يتبدى عند غسان كنفاني في رواية (ما
تبقى لكم) كمصدر قوة وحب وحنان، لأن الأرض وحدها (تحنو عليه وتمده بالقوة) ص
51، 52. في حين أن قضية الأرض عند أمين شنار في روايته (الكابوس 1968) تظهر على
أنها حالة من التمازج والتماهي بين الإنسان الفلسطيني وأرضه، إلى درجة يشعر
أنها تحدثه و تلامسه وتناجي خلجات نفسه ص 54. أما حضور الأرض في نتاج جبرا
إبراهيم جبرا، فيتجلى عبر أكثر من صورة، فهو تارةً، يتخذ بعداً رمزياً يتمظهر
في المرأة، وما تجسده من حنان ولذة نفسية، كما في رواية (السفينة). وتارة أخرى
يتخذ شكل الحنين الجارف إلى فلسطين، باعتباره صورة القدس حلماً يقبع في أعماق
الفلسطيني أينما حلّ، كما في رواية (صيادون في شارع ضيق). أما رواية (عصافير
الشمال) لحسين علي خلف 1980، فتظهر فيها قضية الأرض من خلال تصور الطبقة
الفلاحية، تحوّل حسهم الفطري إلى وعي مقاوم (يؤثْر الموت فوق تراب الأرض على
الحياة بعيداً عنها) ص 70.
في رواية الأرض المحتلة
على الرغم من نصاعة وعراقة الثقافة التي أفرزها الأدب الفلسطيني المقاوم، وعلى
الرغم، أيضاً، من كون هذه الثقافة نموذجاً متقدماً وعلامةً مميزة (لآداب
المقاومة على مصر العصور) فإن هذه النصاعة لا تمثل الأجناس الأدبية كافة، بل
تكاد تكون الرواية أقل إسهاماً في هذا المجال من الشعر والقصة القصيرة، ولكن
أياً كان الشأن، فإن الناقد نضال الصالح يرى في العديد من الروايات الفلسطينية
ملامح تجسّد ارتباط الفلسطيني بأرضه، بل يكفي أنها كتبت تحت هاجس القضية
الفلسطينية، فاستطاعت أن تقارب مجريات المعركة من جوانبها العديدة. وانطلاقاً
من هذا الموقف أو الحكم، يقف الدكتور نضال أمام العديد من الأعمال الروائية
محللاً وناقداً ومتقصياً الظاهرة التي يحاول تلمسها. ولئن كان مفهوم الأرض
بتجلياته العميقة، لم يظهر إلا بشكل عفوي وساذج وفطري، ينحدر إلى حدود الفجاجة
في رواية (حارة النصارى) لنبيل خوري، بسبب ضعف الحوامل الفنية التي اتكأت عليها
الرواية، فإن الأمر يغدو على النقيض من ذلك لدى التوقف عند رواية أميل حبيبي
(الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل)، فهذه الرواية، فضلاً عن
بنائها الفني المتميز، واكتنازها بعدد من الرموز ذات الصلة بقضية الأرض، فإنها
تؤكد الوشائج التي تربط الفلسطيني بأرضه، بل يغدو حب الفلسطيني لأرضه ضرباً من
(الإيمان العارم الذي يغمر الذات الفلسطينية بالعودة إلى الأرض مهما طالت فترة
النزوح عنها) ص 77 ولعل أبرز سمة في هذه الرواية ـ وفقاً للمؤلف ـ هي نجاح
مؤلفها في امتلاك قدرة استثنائية على صياغة شخصية ـ أبي سعيد المتشائل ـ التي
تنطوي بداخلها على تناقضات ومفارقات تؤكد ـ في النتيجة ـ أن حبّ الأرض لدى
الإنسان الفلسطيني متجذّر حتى في نفوس من انحرفوا أو جنحوا نحو الخطأ أو
الخيانة.. وفي السياق ذاته، تأتي رواية سحر خليفة (الصبار).
لتكشف لنا عن ثلاثة أنماط للشخصية الفلسطينية، يتجسّد النمط الأول في قدرة
المرء على الانبعاث من جديد والمضي في طريق المقاومة حتى التحرير، أما النمط
الثاني فيتجسّد في حالة الاندماج التدريجي في المجتمع الإسرائيلي تحت وطأة
الظروف المعيشية والمادية، أما النمط الثالث، فهو الأشدّ سلبية، وهو النوع الذي
لا يهمه سوى مصلحته الفردية دون أي اعتبار لقيمة أو مبدأ أو وطن.
تطور قضية الأرض في الرواية الفلسطينية
ثمة صلة تتأكّد على الدوام بين حركة الواقع الاجتماعي، والظاهرة الثقافية التي
توازيه أو تحايثه، ولئن كانت هذه الصلة لا تخضع للضبط أو الدقة في أحيان كثيرة
من التاريخ، إلا أنها في تاريخ الأدب الفلسطيني تكتسي طابعاً واضح المعالم،
وذلك لسبب أساسي مؤداه:
أن الثقافة الفلسطينية الحديثة برمتها تكاد تكون ثقافة مقاومة وكفاح، وإن
اختلفت تجلياتها. وبناء على ذلك يمكن القول: إن انطلاقة الكفاح المسلح
الفلسطيني سنة (1965) كانت منعطفاً هاماً، ليس في تاريخ الثقافة الفلسطينية
فحسب، بل في تاريخ الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين. والرواية
الفلسطينية ـ بالطبع ـ هي إحدى تجليات هذه الثقافة، فمن الطبيعي أن يكون لها
منحاها الخاص الذي واكب تطورات القضية الفلسطينية عبر مساراتها.
ولكن تنبغي الإشارة إلى أن حركة الإبداع الروائي الفلسطيني لم تكن تسير في خط
تصاعدي واحد، بل ثمة تشظّيات وانكسارات، ففي حين تجاوز العديد من الروائيين
حالة النواح والبكاء والنكوص، والتخبط في شباك اليأس، وأخذوا يتطلعون إلى
المستقبل بوعي أكثر عمقاً، فإنه من جهة أخرى، ظلّت روايات عديدة، إن على
المستوى الفني الجمالي، أو المستوى الفكري أسيرة النزعة التشاؤمية التي لم
تستطع أن تستشرف أفاقاً نضالية تفتح أمام الإنسان نافذة للضوء، ومن أبرز
الروايات التي تمثل الاتجاه الثاني ـ وفقاً للدكتور نضال ـ كتابات سمير قطب
وعوني مصطفى وباسم سرحان. وثمة سمات عديدة اتسمت بها الرواية الفلسطينية بعد
انطلاقة الثورة ـ كما يرى الدكتور الباحث نذكر منها: 1 ـ مواكبة الرواية
الفلسطينية لمعظم مراحل التاريخ الفلسطيني منذ الألف السابع قبل الميلاد وحتى
النصف الثاني من القرن العشرين. 2 ـ قدرة هذه الرواية على سبر الجغرافية
الفلسطينية وتجذيرها في ذاكرة المتلقي. 3 ـ أبرزت مدى تعلّق الفلسطيني بأرضه. 4
ـ جهرت هذه الرواية بتعرية الذات. 5 ـ أسهمت في تعرية المزاعم الصهيونية
وادعاءاتها بحيازة الحق التاريخي في فلسطين.
علاقة الإنسان بالأرض في الرواية الفلسطينية
لئن كنا فيما سبق من الكتاب، قد تعرفنا على مدى تجذّر حب الأرض في وجدان
الإنسان الفلسطيني، وتوقه العارم إلى ترابه، وتمسكه بأرضه وأشجارها، وعشقه
لرائحتها، فإن ما يهمنا الآن أن نتعرف على طبيعة هذا التعلق. ولمعرفة ذلك قام
الدكتور نضال بإجراء يتقوّم على تقسيم أو تصنيف للشرائح الاجتماعية بحسب
انتمائها الاجتماعي والوظيفي ويتصدر هذا التقسيم طبقة الفلاحين، باعتبارهم
الفئة الألصق بالأرض.
وفي هذا السياق يؤكد الدكتور نضال أن من الروايات التي أبدت حفاوة بعلاقة
الفلاح بأرضه روايتي رشاد أبو شاور (أيام الحب والموت، والعشاق) حيث نتبين في
هاتين الروايتين لافنان قاسم، تنمو في الاتجاه ذاته إلاّ أنها تتعثر في النهاية
ـ وفقاً للباحث ـ بسبب عدم قدرتها على إقناع القارئ بواقعية أبطال الرواية،
وبسبب المصير المأسوي الذي انتهوا إليه. ويكاد الأمر ذاته ينطبق على رواية ـ
عصافير الشمال ـ لعلي حسين خلف، التي تحاول إنطاق الشخصيات بما يفوق إمكاناتها،
وفي هذا إخلال في الجانب الفني والجمالي للرواية. أما أعمال غسان كنفاني وجبرا
إبراهيم جبرا فلا يبدو الفلاح فيها إلا بصورة عرضية ولعل مرد ذلك ـ بحسب
الدكتور نضال ـ عدم ربط الكاتب لشخصياته بأصولها الطبقية ص 97 ـ أما نموذج
الإقطاعي، فإنه يحظى بمساحات واسعة من النتاج الروائي الفلسطيني حيث بدا دوره
السلبي والمتواطئ مع العدو الصهيوني والبريطاني، هذا ما فعله رشاد أبو شاور في
روايته ـ أيام الحب والموت ـ وافنان قاسم في روايته (الباشا) حيث تظهر
الروايتان أن الخطر الإقطاعي والخطر الصهيوني هنا بمنزلة واحدة. أما نموذج
المختار، فيكاد يكون حضوره حصراً على رواية الشتات الفلسطيني دون رواية الأرض
المحتلة، وهو لم يكن أقل سلبيةً من الإقطاعي، فهو على الدوام مستبدّ، أناني،
ممالئ للاستعمار على حساب كل القيم الوطنية والإنسانية. ثم تأتي شخصية رجل
الدين الذي تبدّى لنا في الرواية الفلسطينية بصورتين متناقضتين، حيث يظهر في
الأولى بمظهر سلبي مخاتل، ذي نزعة إنهزامية، إن لم نقل متواطئة، وهذا ما فعله
علي حسين خلف في روايته ـ عصافير الشمال ـ في حين يظهر في الصورة الثانية على
أنه الإنسان المتنور الذي يواكب تطورات عصره، ويقوم بدور إيجابي في مضمار
الكفاح والمقاومة، كما ظهر ذلك في رواية ـ العشاق ـ لرشاد أبو شاور، ورواية ـ
بير الشؤم ـ لفيصل حوراني. أما صورة المقاتل كما استخلصها الدكتور نضال، فهي
صورة نمطية رُسمت وفق مواصفات محددة، وكأنه قد تم التواضع عليه مسبقاً، وهي
مواصفات تقترب من الكمال والمثالية، ولعل الروائيين، إذ فعلوا ذلك، أرادوا أن
يقدموا صورة للمقاومة وليس للمقاومين. ثم نواجه بعد ذلك شخصية المثقف، التي
أعارها جبرا إبراهيم جبرا أهميّة بارزة من نتاجه الروائي، وكذلك شخصية ـ المرأة
ـ التي اكتست بعداً رمزياً ـ على الرغم من ندرة حضورها في الرواية الفلسطينية،
فهي تارة المعادل الحقيقي لجمال فلسطين، كما هو الحال عند جبرا في رواية ـ
صيادون في شارع ضيّق وهي تارة، رمز معادل للأرض، كما هو الحال عند رشاد أبو
شاور ـ في روايته، أيام الحب والموت.
وسائل التعبير الفني
لا تعدو الرواية الفلسطينية حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كونها
رواية حنين رومانسي في الغالب الأعم، إلا أن الظروف التي واكبت مسار القضية
الفلسطينية أثرت تأثيراً بالغاً في مسار الفن الروائي، نتيجة كشفها لمستويات من
الوعي الفكري والفني والجمالي لم تكن معروفة من قبل. ويمكن الذهاب مع الدكتور
نضال، إلى أن الاتجاه الواقعي يكاد يكون هو الحاضن الأمثل للاتجاه الناجح
روائياً على المستوى الفلسطيني، وذلك بفضل سمتين وسمتا الرواية الفلسطينية
وهما: البنية الروائية واللغة. حيث يقدم الباحث في هذا السياق استجلاءً فنياً
نقدياً لبعض أعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، مؤكداً على الجوانب
الجمالية والفنية والتقنيات الجديدة التي استخدمها الكاتبان، من خلال تجاوزهما
للأسس والأعراف التقليدية للرواية.
جماليات المكان في الرواية الفلسطينية
ثمة مكوّنات ثلاثة للمكان في الرواية الفلسطينية: 1 ـ الريف، وهو الأكثر حضوراً
في ساحة المنجز الروائي، لأنه الأكثر تعرضاً لحملات الاستيطان التي قام، ويقوم
بها الكيان الصهيوني وقد ظهر الريف في النشاط الروائي الفلسطيني بصورتين
متناقضتين، الصورة الأولى تُظهر مفاتن الطبيعة وسحر جاذبيتها، كما في رواية ـ
الكابوس ـ لامين شنار، والصورة الثانية تُظهر الريف بملامحه البائسة، حيث شظف
العيش والفقر وقسوة الطبيعة. ولعل بعض أعمال غسان كنفاني تكون استثناءً في هذا
السياق، (حيث تتجاوز الأرض معطاها الواقعي، أي بوصفها مكاناً وحسب، إلى مستوى
إنساني برع كفناني من خلاله في تقديم صورة مميزة من معظم النتاج الروائي
العربي) ص ـ 150 ـ وما يميز حضور الريف في النتاج الروائي الفلسطيني هو دور
العديد من أسماء القرى والأمكنة بأسمائها الحقيقية وليس من الفضاء التخييلي
للكاتب. أما حضور المدينة فقد اكتسى طابعاً جمالياً مميزاً، والسبب في ذلك ـ
وفقاً للدكتور نضال ـ يكمن في أن صورة المدينة ليست صادرة عما هو واقعي فحسب،
بل بكل ما في الخيال من تحيّز ص 151. وانطلاقاً من ذلك تبدو المدينة في أعمال
غسان كنفاني (كائناً حياً متحركاً وفياضاً بالأحاسيس والمشاعر). أما صورة
المخيم، المكوّن الثالث من مكوّنات المكان، فقد ظهرت بمظهرين، الأول تتجلى فيه
ملامح البؤس والشقاء وسوء الأحوال المعيشية، أما المظهر الثاني فيظهر المخيم
على أنه موئل المناضلين وفضاء رحب لإعادة بناء الذات وتنامي الوعي المقاوم.
وينهي الدكتور نضال بحثه بالحديث عن الرمز في الرواية الفلسطينية، حيث يؤكد أن
سمات الرمز في الرواية الفلسطينية هي ذاتها في الرواية العربية، حيث تبدّت
بطريقتين:
الأولى رمزية خالصة، وهي ما كانت (فيه الرواية قد توصلت بأسلوب رمزي خالص
للتعبير عن مضمونها) ص 157، ويؤكد المؤلف أن ثمة أربع روايات فقط، من المنجز
الروائي الفلسطيني تنتمي إلى هذه الطريقة، وهي (1 ـ مذكرات دجاجة للدكتور اسحق
موسى الحسيني 2 ـ الكابوس لامين شنار 3 ـ نزل القرية غريب لأحمد عمر شاهين 4 ـ
الخيوط لوليد أبو بكر) أما النمط الثاني للرمز، فيكون في رمزية الدلالة، (أي
تلك المعالجات الجزئية التي استخدمت الرمز من خلال ما يمتلكه من قوة وإيحاء،
ليعمل على توضيح فكرة أو موقف للمساهمة في تفسير الرمز العام للرواية) ص 157.
ومهما يكن من أمر، فإن السمة المميزة لمنهج الدكتور نضال في هذه الدراسة هي
عملية التحليل والتركيب، ومن ثمة إعادة البناء، ونعني بذلك أن هذا النهج ذو
منحى تطبيقي إذ قلّما يلجأ إلى التنظير، ولعل ذلك يعود أيضاً، إلى إدراك المؤلف
أن طبيعة النصوص المعنية بالدراسة تسهم كثيراً في تحديد المنهج الذي عليه
اتباعه. وتنبغي الإشارة إلى أن هذا المنهج هو ذاته الذي اعتمده الدكتور نضال في
أغلب دراساته النقدية، نذكر منها:
(النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، المغامرة الثانية، تحولات
الرمل) ولعلنا لا نحيد عن الصواب إن قلنا: إن السمة الإبداعية عند المؤلف ـ
كونه روائياً وقاصاً ـ قد زوّدته بقدرة نادرة على اختراق النصوص وتفكيكها
بسهولة ويسر، بغية استبطان ملامحها الجمالية والفنية، ودون أن يكون ذلك على
حساب وحدة العمل الفني وتماسكه. وقبل أن ننهي قراءتنا لهذه الدراسة الممتعة
والمفيدة، لا بدّ من إبداء بعض التساؤلات التي تتعلق بصميم الرؤية النقدية
للدكتور نضال الصالح، ولعل أولها هو أن القارئ يستشفّ بطريقة غير مباشرة أن
المؤلف يؤكد أن الرواية الناجحة ـ جمالياً وفنياً ـ فيما يتعلق بقضية الأرض، هي
الرواية التي أدرك أصحابها طبيعة الصراع بين الطبقات الاجتماعية، بل يعدّ
الدكتور نضال إدراك التناقض الطبقي مقياساً لنمو الوعي الجمالي. والذي يعنينا
من هذا الأمر هو إذا كان الانحياز إلى إيديولوجيا معينة أمراً مشروعاً على
الصعيد الفكري أو السياسي، فإنه على صعيد الفن، يبدو الجانب الجمالي هو الأولى
بالأهمية، أقول هذا الكلام وأنا على يقين من أن الهاجس الجمالي هو ما يؤرق
الدكتور نضال قبل أي هاجس آخر، ليس في دراسته هذه فحسب، بل في معظم إنجازه
النقدي، ولهذا قلت في البداية إنها تساؤلات.
وثمة شأن آخر، وهو صورة المثقف في نتاج جبرا إبراهيم جبرا، وأظن أن هذا الموضوع
بحاجة إلى دراسة مستقلة ومستفيضة، ولئن كان هذا الأمر متعذراً طرحه ـ في سياق
قضية الأرض ـ فإن التنويه إلى ذلك أمر ممكن.
وبعد: إذا كانت الرواية الفلسطينية تعدُ خطوة نضالية على المستوى الثقافي
الإبداعي، فإن كتاب (نشيد الزيتون) للدكتور نضال الصالح، هو خطوة نضالية رافدة
للإبداع الذي انشغل بالقضية الفلسطينية.
أضيفت في25/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الأسبوع الأدبي (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
اليوميات والمقاومة الفلسطينية
بقلم الكاتب:
السيد
نجم
يرجع فن كتابة السير والتراجم الى مدونات الانسان فى كل الحضارات
القديمة ، منذ أن نقش الانسان اسمه على جدران المعابد بل و المقابر قبلها. ربما
سعيا الى الخلود و مواجهة النسيان .
التراث النثرى العربى زاخر بالعديد من تلك السير التى تتسم بما هو
ذاتى الطابع /عامى الاهتمام , بل مزيجا بينهما. لعل أهم و أكثر تلك السير .. هى
أصدقها , والمعبرة عن خصوصية صاحبها بما يكشف عن تجربة/تجارب يمكن أن تعد اضافة
الى القارىء عموما..وربما اضافة الى التاريخ نفيا أو اثباتا لوقائع ما.تكشف تلك
السير العربية عموما عن الملامح الثقافة التى قد نسعى للبحث عنها ولا نعثر
عليها بسهولة بين سطور الكتابات النثرية الأخرى.
فعلى تنوع تلك السير وكثرتها , تكشف عن وحدة ثقافية حقيقية وبلا
افتعال بين ارجاء العالم العربى/الاسلامى.. ما من كاتب الا و له محطات و خبرات
و عروض و تجارب بين ارجاء الاقطار المختلفة على اختلاف مسمياتها من الشام
والاندلس ومصر والجزيرة عربية وغيرها . كما تبرز تلك السير ذاك الازدهار الفكرى
و التفاعل الثقافى مع الآخر, سواء فى الشرق البعيد أو الغرب الاوروبى. كذلك
تعكس هذه السير قدر هائل من انماط التفكير وغريب التجارب ليس فقط على المستوى
الشخصى أو الاقليمى بل والانسانى .. خصوصا تلك التى كتبت و صنفت على أنها من
أدب الرحلات فى بلاد آسيا البعيدة .
قد يدهش القارىء من الوهلة الأولى اذا ما تأمل أغلب تلك السير..
تكاد لا تخلو من ملامح انسانية نعيها حتى اليوم .فالقضايا الانسانية والفكرية
تكاد تشترك فى العديد منها, مثل صراع الاجيال بين القديم والجديد, والاعتراف (فى
بعضها على درجة عالية) و الصراع بين العلماء و التكالب على المراكز المرموقة,
ثم الحلول الفردية باعتزال المجتمع والاحساس بالغربة .. و غيرها من الظواهر
الانسانية التى قد يعانى منها المثقف حتى أيامنا تلك .
لعل أشهر تلك السير , ما كتبه "ابن سينا" , " لسان الدين الخطيب", "
الغزالى" و غيرهم. أما "أسامة بن منقذ" (488 – 548 هجرية) فله وقفة خاصة. فهو
فارس من فرسان الاسلام و خاض غمار الحروب الصليبية , وقد عاش عهود الحكام
الثلاثة ( عماد الدين, نور الدين و صلاح الدين ) و لكل منهم مواقفة البطولية فى
مواجهة الفرنج الصليبيين ..ربما أغلب ما عرف عنه وعن مواقفه كمفكر وكاتب الى
جانب القائد صلاح الين الأيوبى, لما لتلك الفترة من أهمية تاريخية.
أهم خصائص سيرة أسامة بن منقذ أن كتبها على شكل اليوميات فى كتابه الهام
"الاعتبار", وهو بذلك دون أن يدرى أضاف شكلا غير مسبوق الى النثر العربى ..
خصوصا عندما تناول فترة الصراع مع الصليبيين . فقد عمد فى عرضه على تسجيل اليوم
و أحداثه تفصيليا , فأصبح رائدا فى فن كتابة اليوميات فى العربية , وقد شاع هذا
الشكل من بعده , وان عرف فى النثر الغربى من قبل "اسامة" .
هناك اعتقاد بأن الكاتب اطلع على هذا الشكل , خصوصا بعد احتكاكه مع
بعض الفرنجة (هناك الكثير من الاشارات و الاحداث داخل الكتاب تشى بأنه كان على
علآقة و احتكاك
معهم , كما ذكر أنه سافر وهو فى مطلع شبابه الى "انطاكية" فقط من
(أجل التعرف على حياتهم, و التعرف على مصدر و مسببات قوتهم كما ذكر فى كتابه) .
يرجح أنه فضل الكتابة على شكل اليوميات يرجع الى حرصه على التسجيل
السريع و المباشر و اليومى لكل الأحداث الهامة و الخطيرة التى مرت به
وبالمنطقة, وهو حس تاريخى فكرى يضاف الى خصائص الكاتب أثناء تناول كتاباته. فقد
شارك فى أحداثها, وخلال المعارك , ربما يمكن أن نطلق عليه أنه قام بوظيفة
المستشار العسكرى لصلاح الدين الايوبى قبل و أثناء و بعد المعارك المتجددة
دوما .
وربما هناك أسباب أخرى , الا أننا نصل بعدها الى حقيقة يقينية ..
أنه أضاف الى النثر العربى شكلا لم تعرفه العربية من قبل فى كتابة التراجم و
السير. يمكننا اليوم القول بأنه الشكل الذى أصبح منفصلا و له خصوصيته حتى
بالنسبة للسير و التراجم. هل لنا أن نشير الى الكاتب وكتابه على جانب آخر؟ فقد
كان "الكاتب" مقيما على الأرض الفلسطينية, أثناء كتابة كتابه الرائد
"الاعتبار", وكل ما تضمنه هو تعبيرا عن الصراع القديم/الجديد على تلك المنطقة
المحورية من العالم. لم نبتعد كثيرا ونحن نتناول موضوع ريادة "أسامة" فى فن
"اليوميات" التى هى وليدة "أدب المقاومة" على الأرض الفلسطينية.
تعرض "أسامه" فى كتابه الى مرحلة طفولته , حيث تحدث طويلا عن أبيه
و عن شجاعته و أنه من المقاتلين و محترفى الصيد ولا يترك المصحف من بين يديه
حتى أثناء فترات الراحة خلال رحلات الصيد .
اما الجانب الحربى و رصده للصراع العسكرى مع الفرنجة , يلاحظ
القارىء أنه لم يتحدث عن نفسه . كل ما جمع عن بسالته و بطولاته العسكرية يمكن
ان يعرفها القارىء من كتابات الاخرين عنه . ففى كتاب " الروضتين" لكاتبه "أبوشامه"
قدم وصفا و سرد احداثا هامة حول شجاعة " أسامة" أثناء حصار قلعة "حارم" وغيرها
من الوقائع.
الا أنه وضح من كتاب "الاعتبار" قدر اعزاز و تقدير "أسامة" لصلاح
الدين. يتحدث عن أفضاله فيقول:
" نادانى اليه
مكاتبة مولانا ناصر الدنيا و الدين , سلطان الاسلام و المسلمين , جامع
كلمة الايمان ,
رافع علم العدل و الاحسان , محى دولة أمير المؤمنين.. فاستنقذنى
من أنياب
النوائب برأيه الجميل , و حملنى الى بابه العالى الغامر الجزيل , وجبر ما هاضه
الزمان منى , ونفق على كرمه ما كسد عنه سواه".
لعل مجمل ما يمكن الاشارة اليه اجمالا حول تلك اليوميات .. أن
الكاتب استخدم الشعر أحيانا تعبيرا عن ارائه و أفكاره .كما أن اليوميات تخلو من
النرجسية و تفضيل الذات عكس الكثير من السير و اليوميات . سمة الصدق و الشجاعة
و قول الحق يغلب أى اعتبار غير الموضوعى, حتى أنه وعلى ما فى تجربته من قسوة مع
الفرنج الا انه لم يرى فيهم آبالسة و شياطين كما قال البعض من معاصريه .. بل
ناقش أفكارهم و سلوكهم دون انفعال . ولا يبدو منفعلا شديد البأس الا عندما يسرد
المعارك و أحداثها.
..... ...... .....
رأيت رام الله"..بين السيرة والقص
"مريد البرغوثى"..يبدأ
بقوله:
"الطقس شديد
الحرارة على الجسر. قطرة العرق تنحدر من جبيني الى إطار نظارتي..غبش شامل يغلل
ما أراه, وما أتوقعه, وما أتذكره" . عندما انتهى من أداء امتحان ليسانس الآداب
بالقاهرة, كانت حرب يونيو 67,واحتلال "رام الله", حيث منعت السلطات الإسرائيلية
عودة الشباب الى مدينتهم. وكانت بداية المنافي .فكانت الغربة الأولى حيث منفى
الشباب وهم داخل أوطانهم, وحيث كانت قصيدته الشعرية الأولى منشورة
بعنوان"اعتذار الى جندي بعيد" وكأنها النبؤة, فقد نشرت بمجلة المسرح فى الخامس
من يونيو 67!!فلما عبر الجسر ..بعد ثلاثين سنة من الغربة وطول انتظار.."الآن
أمر من غربتي الى..وطنهم؟ الضفة وغزة؟ الأراضي المحتلة؟ المناطق؟ يهودا
والسامرة؟ الحكم الذاتي؟ إسرائيل؟ فلسطين؟". وبعد طول انتظار وإجراءات طالت عبر
بوابة الصالة الحدودية والمبنى كله إلى الشارع: " بوابة الأبواب/لا مفتاح فى
يدنا. ولكنا دخلنا/لاجئين إلى ولادتنا من الموت الغريب/ولاجئين الى منازلنا
التى كانت منازلنا وجئنا",وبعد طول سؤال "مريد" على عنوان الدار التى يبحث
عنها, اتصل بأحبابه فى عمان والقاهرة, أخبرهم:" أنا فى رام الله"!!
.." الصباح
الأول فى رام الله.أستيقظ وأسارع بفتح النافذة:" شو هالبيوت الأنيقة؟" ..سألت
وأنا أشير بيدي الى "جبل الطويل" المطل على رام الله والبيرة.."مستوطنة"."وكانت
ذكريات الطفولة والمراهقة.. ثم كانت التيارات السياسية الداخلية والخارجية ,
العربية منها بالذات..حرب 56 والوحدة بين مصر وسوريا ثم الانفصال والبكاء.وفى
العودة تعرف "مريد" على وجوه عرب48:"أسميناهم لاجئين! أسميناهم مهاجرين!"."من
يعتذر لهم؟" "من يعتذر لنا؟".لكن الاحتلال يمنعك من تدبير أمورك على طريقتك,
إسرائيل تغلق أية منطقة تريدها فى أي وقت تشاء.. انه موجز ما يقال عن حالة
الكاتب فى "هنا رام الله".
.. "لكل بيت فى
دير غسانة اسم".. وحيث التعرف على الأشياء والبحث فى قاع الذاكرة البعيدة, ربما
الأبعد من المتذكر "مريد" نفسه. البحث عن/فى الجذور وان بدت بحثا فى أصول ألقاب
العائلات !..لكن هناك الفتى الشهيد بسبب المظاهرات, وحنقه الأهالي من سلوك
المحتل بمنع التوسع والبناء خارج حدود القرى...ولكنه فى النهاية الإحساس
السخيف:"سخيف أن تطرح فى مسقط رأسك أسئلة السياح:من هذا وما هذا..".ومع هذا كله
شعر الكاتب أنه عندما شاهد ماضيه ككلب ملقى على الأرض, تمنى لو يقبض عليه ليقذف
به الى أيامه التالية.
.. "لم أنبذ
الرومانسية لأن نبذها موضة فنية, بل الحياة ذاتها هي التى لا شغل لها إلا إسقاط
رومانسية البشر..". أخيرا عاد مريد الى القاهرة وأسرته بعد ممانعة من السلطات
لمدة سبعة عشر عاما. لكن البهجة لا تأتى بمجرد أن تضغط الحياة زرا يدير دولاب
الأحداث لصالحك, لأن السنوات محمولة على أكتاف المرء.
وفى القاهرة تبدل كل شئ ..الأشخاص والأماكن والحالات , لكن:"شهوة
اللصوصية الطفل فينا/نغافل بخل العجوز التى وجهها/مثل كعك تبلل بالماء,/كي نسرق
اللوز من حقلها./متعة العمر أن لا ترانا".."اقتادوني إلى دائرة الجوازات فى
مجمع التحرير.ثم أعادوني فى المساء الى البيت لإحضار حقيبة السفر وثمن تذكرة
الطائرة..في الطائرة قلت:"وداعا أفريقيا"..لم أقم بأي فعل لمعارضة زيارة
السادات لإسرائيل..لكنها وشاية لفقها زميل معنا فى اتحاد الكتاب
الفلسطينيين"..يبدو أنه من المستحيل التشبث بمكان, انتقل "مريد" من عمان الى
بغداد الى بودابست الى القاهرة ثانية.فكان التخلي عن نباتات الشرفة التى يرعاها
بنفسه, وعن مقتنيات الغربة بشكل خال من المشاعر, ودخل سلوك حياة الفنادق عنوة
الى حياته.. ففيه الخلود القصير الى النفس مع التخلص من الالتزامات الاجتماعية
ثم التخلص من سطوة الجار على جاره!!. لكنه فى الحقيقة مازال يقيم فى رام
الله..فقط يتذكر ماكان بالقاهرة. وفى زيارة لمبنى الإذاعة والتليفزيون سأله
المذيع: "ألسنا شعبا معجزة؟ شعبا مختلفا؟"..فقال له:"كل الشعوب
تحارب في سبيلها إذا اقتضى الأمر,المعتقلات والسجون مكتظة بمناضلى
العالم الثالث."
.." الغربة لا
تكون واحدة. إنها دائما غربات"
كما يتعود المرء العتمة شيئا فشيئا, هكذا يكون حال السجين والمهجر
والغريب والمنفى, يعتاد الكل مدنهم وأماكنهم الجديدة. وعزاء"مريد" أنه لا توجد
أسرة فلسطينية لا تشكو من الشتات بين أفرادها.فكانت الغربة فى بودابست,
والقاهرة, وعمان, وغيرها. لكنه قابل صديقه "أبو وائل" فى حديقة رام الله وأعرب
عن عدم اعتراضه على اتفاقية "أسلو" بين السلطة الفلسطينية والإسرائيلية. لكنه
المنفى الذي يحمل الأوطان مع المنفى فى كل مكان:" السمكة,/حتى وهى فى شباك
الصيادين,/تظل تحمل/ رائحة البحر!"
ونجح "مريد" في اعتماد شهادة ميلاد ابنه بالمكتب الرسمي
الفلسطيني.."تميم سيعيش هنا ذات يوم". كانت فترة الثمانينات أسوأ فترة , حيث
حرب المخيمات الفلسطينية فى لبنان, حرب الفصائل داخل المنظمة الفلسطينية, شهداء
صبرا وشتيلا...وغيرها.أما وقد جاءت الليلة الأخيرة له فى رام الله..قدم طلبا
للم الشمل مع زوجته وابنه. لكنه سمع من قبل بموت منيف شقيقه, وأكد أن أمه لن
تبقى على الحياة من بعده.. وتذكر كل الفرقات التى ألمت به وبأهله .
.." مستلقيا على
ظهري فى السرير, أصابع يدي تتشابك تحت رأسي على المخدة, لم أعرف ما الذي أبقى
عيني مفتوحتين باتجاه السقف..هذه ليلتي الأخيرة فى رام الله...الليلة اسأل
سؤلا:
" ما الذي يسلب
الروح ألوانها؟"
..... ....... .....
"فلسطين حبيبتى"..رسالة الى كل أم عربية
"ساما عويضة"
كاتبة فلسطينية, تكتب القصة, لكنها كتبت حكايات فى كتاب صدر بعنوان "فلسطين
حبيبتي..لو عرفوها كما عرفتها". لم تكن حكايات قبل النوم, مسلية وطريفة. لو
سمعها الصغار لفقدوا القدرة على النوم, ولما قرأها الكبار امتلأت المآقي وبكت
القلوب.
لكنها فى النهاية رسالة سردية ويوميات غير متتالية من أم فلسطينية
الى كل الأمهات العرب. تقول "د.شيرين أبوالنجا" فى المفتتح:
"الكتابة
كالحجارة, أحيانا أقوى من الأسلحة. فاذا كان الضغط يولد الانفجار فان القصف ,فى
حالة ساما عويضة ..ولد الكتابة. كتبت هذه النصوص فى الفترة ما بين عام 2000
وعام 2002م.ودأبت (الكاتبة) على ارسالها الى عدة أطراف , ما بين أفراد وهيئات
ومؤسسات, عبر البريد الالكترونى"
انها اذن كتابات ساخنة حية خلال فترة الانتقاضة, حيث يتعرض الأطفال
قبل الكبار الى مهالك عدوانية تتجدد كل يوم, وكما يردد المثل الشعبي نقول:"كثرة
البكا يعلم النواح"!
بداية توجه الكاتبة رسالة الى ملكة السويد (وقد حملت الملكة مسئولية
الانتفاضة وما يصنعه الإسرائيليين فى الأطفال على عاتق الأمهات الفلسطينيات!).
فقالت لها ضمن قالت:
"أمهات نحن
نصحوا مع الفجر ولا ننام إلا بعد أن ينام جميع أفراد العائلة...أمهات نحن لا
تقدر أي أم فى العالم ما نقاسيه حين يخرج أطفالنا من البيت الى المدرسة فى
أجواء غير آمنة...أمهات نحن لم نكن من الغباء حتى نفهم بأن المستقبل الكريم لا
يمكن أن يتحقق فى ظل الاستعمار العنصري, حرم أطفالنا من أبسط حقوق
الإنسان..الحق فى الحياة, الحق فى العيش فى ظل أب وأم, الحق فى
التعلم...الحق...الحق فى التعبير عن أنفسهم فى وطن ..."
ثم كانت حكاية "أحمد" الطفل الصغير الذي فقد القدرة على النوم, وإذا
غفلت جفونه يصرخ وهو نائم :"أبعدوهم..أبعدوهم"!. ولا تنتهي الحكاية, عندما
يستيقظ وينتبه لا ينفك يتحدث عن حلم يراوده كل ليلة يرى فيه البحر مياهه حمراء
, وهو يسبح فيه ويصرخ مستنجدا؟ ولا من مجيب إلا صدر أمه وكلماتها العاجزة!
وهذه حكاية ابن الكاتبة, وقد قررت القوات المسلحة الإسرائيلية
معاقبة مدينة رام الله كلها على عملية عسكرية فلسطينية نفذت منذ قليل. كان
عليها اصطحاب ولديها من المدرسة قبل نهاية اليوم الدراسي, حتى يجتمع شمل كل
الأسرة أثناء العملية الانتقامية بطائرات الأباتشى والدبابات بعد قليل..الموت
معا أو الحياة معا. نجحت..عادت الى البيت, ولكن أحد طفليها لم ينتبه لكل حسابات
وأفكار أمه, تسلل الى الشارع كي يلعب. لحظات واصبح يركض فى الهواء ويقفز باكيا
وقد بات لونه أسود تماما ويصيح بأعلى صوته "ماما..ماما"... وكان عليه وعلى أهله
البقاء فى المستشفى لأكثر من شهرين حتى استعاد الصغير عافيته. ربما لارادة داخل
الصغير الذي كان يقول لسائق سيارة الإسعاف حين نقله :"أسعفني..لا أريد أن
أموت..حرام عليكم..أنا صغير"..ثم يردد كلمات أغنية لماجدة الرومي تقول:"قوم
تحدى الظلم تمرد..كسر هالصمت اللى فيك"..!
كما أن "رحمة" البالغة من العمر 52سنة, قضت أيامها القليلة الأخيرة
فى وداع الأحبة والأقارب, ولكن بطريقتها وبفعل العدوان. هاهي ذي ابنة عمها
تتعرض لغارة وقذف مباشر, فيتحطم منزلها. تنتقل رحمة اليها باكية. ولم تمض أيام
قليلة أخرى ويتكرر المشهد نفسه لبيت أحد أقربائها أيضا. ولا تتردد فى مشاركته
وأهل بيته المصيبة . لكنها وفى طريقها لبيتها تسقط مدرجة فى دمائها وتتمزق
ملابسها عنها..ولا تقول إلا جملة وحيدة لأحدهم (مصابا الى جوارها على
الأرض":"أستر على يستر عليك". ولا عزاء للجميع إلا لأنها استشهدت مع المناضل
"حسين عبيات" الذي تصادف مروره بالشارع فى تلك اللحظة , وكان مرصودا من قوات
الأعداء. رحمها الله "رحمة" فقد كانت أما للجميع !
بقرار من جيش الاحتلال الإسرائيلي يطلب من العروس "مريم" (17عاما)
إزالة المكياج, وإغلاق خزينتها على كل ما اشترته من ملابس جديدة احتفاء بعرسها
وارتداء اللباس الأسود وحتى إشعار آخر .
"محمود"
(22عاما) الزوج الشاب الصغير, عريس "مريم" , قتلوه بعد حفلة عرسه بأيام قليلة,
لأنه تجرأ وكان من شباب المقاومة أثناء إحدى عمليات الاقتحام لقوات الأعداء
لقريتهم, تجرأ وقاوم, فقرروا قتله..ونجحوا أن تلبس مريم الحداد!
لكن الكاتبة تقول:
" أن محمود
اغتيل أكثر من مرة من قبل..اغتالوه عندما حرموه طفلا من الحياة الطبيعية التى
يجب أن يعيشها الأطفال..اغتالوه عندما حول الأعداء ساحات اللعب والنزهة فى
القرية الى ثكنات عسكرية.. اغتالوه عندما أغلقوا مدرسته ..اغتالوه عندما أطلقوا
عليه رصاصة مطاطية لم تمته فى حينه وهو فى العاشرة من عمره.. اغتالوه عندما
اعتقلوه وهو فى الثانية عشرة من عمره....اغتالوه الف مرة من قبل!
عندما كانت "منى" مع بقية أفراد العائلة تقلم وتهذب وترعى شجر
الزيتون قدم الجنود الإسرائيليين إليهم فى حوار حول الزيتون وزراعته. كان
الحوار ممتدا ومتكررا, ومع ذلك تعرض بيت العائلة للقذف المباشر من هؤلاء الجنود
ومن سكان المستوطنة القريبة .
الحادثة أن "منى" تركت رضيعها بالطابق السفلي, بينما الرصاص موجه
الى المنزل مباشرة بحيث يصعب اختراق درجات السلم للوصول الى الصغير الباكي. ولم
يهدأ القذف إلا بعد ربع الساعة. إلا أنه لم يهدأ من بعد أن ليلا أو نهارا..كيف
لهؤلاء الجنود والمستوطنين أن يقيموا حوارا ذات يوم وفى نفس اليوم يقذفون
بالموت الى محدثيهم بلا سبب واضح؟؟
فتركت منى منزلها مع بقية أفراد العائلة الى شقة فى مكان آخر بعيد,
لكنها لا تعرف متى ستعود الى بيتها..بيت العائلة فى القرية التى نشأت وعاشت
وتتمنى أن تموت فيها مهما تعرضت من مهالك و أهوال!
وتتعددت الحكايات والأهوال, والرسالة صادقة وأليمة من أم وامرأة
فلسطينية الى كل الأمهات والمرأة العربية .
..... ...... ......
خاتمة مشتركة:
لقد تعددت الكتابات النثرية الراصدة للحياة اليومية خلال فترات
ساخنة لرحلة صراع الفلسطينى على أرضه. الا أن النماذج السابقة لها وقفة
خاصة..أن نشأة كتابة فن "اليوميات" فى النثرية العربية يسجل على الأرض
الفلسطينية. وان راج فى العربية من بعد, الا أن ما كتب بأقلام المحدثين , جاء
مزيجا بين السردية الفنية فى القص والتقريرية فى اليوميات.
كما ارتبط كاتب هذا الشكل بتوافر المناخ المعيشى الشرس فى مواجهة
فظاظة الحياة اليومية تحت وطأة الاحتلال والعدوان اليومى..ليس على المسلحين أو
هى مواجهة بين جيشين..بل مواجهة بين جندى مدجج وأعزل لا يملك سوى جسده, وربما
حجرا!!
ثم اختلاف كاتبا النصين..من حيث الجنس , والتجربة المعاشة داخل
العمل , وموطن كليهما حيث "البرغوثى" وصل فلسطين زائرا , بعد غياب ثلاثين
سنة..و"ساما" امرأة تعيش داخل فلسطين, وأما ترعى أولادها, وكل أولاد الجيران
والوطن, جعل النموذجين يكملان بعضهما البعض..لتكشف لنا الصورة التى قد نغفلها,
أو تنسينا اياها الأيام.
أضيفت في05/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
تماهي النص بالايقونة
نموذج اسماعيل شموط وغسان
كنفاني
بقلم الكاتبة:
نجمة خليل
حبيب
لك ان تتصور دهشة فتاة في عمر السذاجة والمراهقة حين يتسنى لها دخول
صومعة فنان احبته وزينت جدران غرفتها برسوماته حيث كانت "عروسان على الحدود
"آخر ما تنطبق عليه عيناها و"فلسطين على الصليب" أول ما تنفتحان عليه. كان ذلك
ايام كان العمل الفلسطيني لا يزال سريا حيث ضمني والفنانة تمام شموط خلية
واحدة. كنت يومها أتخيل صاحب هذه الرسوم شيخاً جليلاً بلحية منفوشة وغليون عابق
لا ينطفئ ونظرة متعالية ترمق من مقعدها الوثير الواقع وترسمه على مزاجها، إلا
انني صدمت عندما رأيت اسماعيل بجسده النحيل، يومها، وتواضعه الذي لا تصنع فيه
ونظرته الخجولة، وصدمت أكثر عندما جاء يقدم لرفيقات زوجته القهوة بيديه التي
كنت أظن انهما لا تصلحان إلا لحمل الريشة والالوان. انكمشت خجلاً وكدت أذوب في
مقعدي، ملت نحو أمي الروحية الاديبة سميرة عزام متسائلة بسذاجة: اهذا هو
اسماعيل شموط صاحب عروسان على الحدود وفلسطين على الصليب؟ ظلت سميرة متكئة على
عصاها واكتفت بهز رأسها إيجابا. لست أدري لماذا يومها تراءات لي صورة يسوع
الناصري وهو يغسل أقدام تلاميذه في خميس الاسرار.
لا ادعي انني قارئة لوحات موهوبة. وأشعر بالاحراج في كثير من
الاحيان عندما يدور الحديث حول فنية هذه اللوحة او تلك، إلا انني أمام لوحات
اسماعيل أشعر بالارتياح، فهي عندي كتاب أو قصيدة تقرأ بعيداً عن فذلكات
المتأولين، وقد تعلمت فيما بعد ان اتثقف على قراءة اسماعيل شموط تماماً كما كنت
أتثقف على مقالات غسان كنفاني وشفيق الحوت. ما ان أقف أمام لوحة حتى تأخذني الى
رواية او قصة قرأتها لغسان او سميرة أو مقالة لشفيق. وإذ وقفت أول مرة أمام
لوحة "الربيع الذي كان" حضرني واضحا قوياً نص سميرة عزام في "وجدانيات
فلسطينية" فقد كانت اللوحة هازجة بليغة مؤثرة تأثير النص المكتوب إن لم يكن
أكثر. ولطالما جاب في خيالي أطفال كنفاني، من بائع الكعك حميد، الى طفل
المنزلق، الى أطفال زمن الاشتباك، في الكثير من أعمال شموط كمثل: :أطفال مخيم
الدهيشة"، "وهم أيضاً أطفال" أو "الكمين". وإذ اقول في الكثير فلأن اطفال شموط
اقرب الى المفهوم العالمي الكلاسيكي للطفولة: البراءة، الضعف، الاستغلال،
والشقاوة البريئة. في حين كان أطفال كنفاني رجالاً كبروا قبل الاوان، فيهم
الكذاب (كعك على الرصيف) والمحتال على معاشه (زمن الاشتباك) والثوري الذي يتفوق
على الكبار في صموده وشموخه ( كان يوم ذاك طفلاً) والمبدع الخلاق صاحب الرؤيا
(المنزلق)
وإذ أن المجال لا يتسع الى استعراض جميع هذه المواقف أو تناول جميع
أعمال الفنان وهي كثيرة فساكتفي بنماذج ثلاث علها تفي بالغرض
بين قصة "العروس" ولوحة "القيد"
يتماهى هذان العملان في رؤية واحدة تهدف الى تصوير ما في الشخصية
الفلسطينية من عزم وثبات واصرار على المواجهة رغم كل ما في هذه المواجهة من
عدم تكافؤ ولامعقولية التي هي على حد تعبير الباحث سامي اليوسف بطولة ترعش
بالمأساة. رعشة المأساة هذه نحسها في اصرار صاحب "العروس" على البحث عن بندقيته
رغم كل المعوقات التي اعترضته. تابعها وجرى وراءها من معركة الى معركة ومن قرية
الى قرية. من الدامون الى شعب الى ترشيحا الى غيرها.....متحديا كل ما لخصمه
عليه من تفوق ولم ييأس حتى بعد سقوط كل فلسطين. وهي الرعشة ذاتها في لوحة شموط؛
يقول بها هذا التحفز في وقفة الشاب والعضلات المتوثبة رغم القيود التي تسربل
اليدين والرجلين. الخطوة الواسعة التي كأنها لا تعترف بالقيد وتصر على متابعة
المسير. الصدر المنفوخ كبرياء والرأس الذي يرفض أن ينحني والذي برفضه هذا يتغلب
على قيوده، والشمس المشرقة التي تنير الوجه فكأنها تهزأ بالواقع وتنبئ بتغييره.
وقد تماهى النص بالقصة حتى لجهة الصفات الجسدية للبطلين، فصاحب العروس: رجل
طويل جدا،ً صلب جداً، يسيرمحنيا بعض الشئ بكفين مفتوحتين متحفزتين وله عينان
تنقبان وجوه الناس كأنهما محراثين عتيقين....كان محاطا بما يشبه الضوء. كان
محاطا بشيء يشبه الغبار المضيء كما رسمه فنانو عصر النهضة حول جسد الاله وهو
يقدم عونه للفقراء. نظرة ولو عابرة تجعلنا نرى ان ما في صفات بطل اللوحة يطابق
ما رسمته كلمات الاقصوصة فهو ايضا يحمل صفات إله يوناني. إله الخصب، ربما، لما
في ملامحه من فحولة، او الإله سيزيف الذي حمل صخره قدراً لا مناص للهروب منه
رغم كل ما في العملين من تماه، إلا ان المتعة التي يحدثها احدهما
عند التلقي لا تغني عن الاخر ولا تلغيه، فان كان النص متعة للخيال فاللوحة متعة
للعين ودعوة للخيال ليحلق ويستمتع وينسج على هواه الف معنى ومعنى
"ما تبقى لكم" و "هذا ما بقي"
رغم تقارب العنوان في كلا الرواية واللوحة إلا ان كل منهما تلتزم
برؤية مختلفة. اقرأ في اللوحة، وهو اجتهاد شخصي بحت، قد يخطى وقد يصيب، ملاح
غير واضحة، لا تقول صراحة بالغضب او الحياد او الحيرة ورغم ان نظرة العينين
وإطباق الشفتين الى الداخل تحيل الى غضب مبهم، ولكنه ليس الغضب الفاعل، فهو إن
وجد يبقى غضباً هجيناً، لم يتفلتَ بعد من مرحلة الذهول والانتظار. قد توحي
الشفتان المزموتان عزما ما ولكنه عزم غير واضح، فقد غابت عن اللوحة دلائل العزم
واتخاذ القرار كأن تكون العينين تتجهان بنظرتهما الى البعيد, أو انحناء الجسم
الى الامام او اظهار توتر في وضع الذراعين يشي بالانفعال. أما أن تكون اليدان
مضموتين على الشكل الذي هما عليه فانما هو ايحاء بالرضوخ والطاعة لذا تراني
أقرأ في اللوحة مجرد عرض حالة، تسجيل موقف، ولك كمتلقي ان تستشف ما وراء هذا
الموقف، فخلفية اللوحة تعرض الخسارات ومقدمها يعرض "ما تبقى" هذا الوجه المفتوح
على كل الاحتمالات التي لم يشأ الفنان أن يحصرها بواحدة فترك الخيار للمستقبل
ليقول كلمته. وهذا برأي المتواضع، إعلاء لقيمة اللوحة الفنية، فهي لا تفرض
نفسها ورؤية صاحبها، ولا تتنصب واعظة مبشرة ، ولا هي داعية في المحافل الساسية.
هي حسب مقولات النقد الادبي، لوحة مفتوحة النهايات، وسؤالها يحتمل عدة اجابات.
هي حالة فنية راقية تطلق العنان للذهن ليس فقط في طرح الاسئلة بل في الاجابة
عنها أيضاً
أما حامد، بطل كنفاني في "ما تبقى لكم"، فقد صهرته المرارة، أوصلته
الخسارات (خسارة يافا وامه وابيه وشرف اخته) الى حزم امره بعد طول تردد. فأخذ
قراره برفض اللجوء والمنفى المتمثلين بالمخيم والتوجه نحو الوطن، جاهزاً لكل ما
يستلزمه هذا التوجه من تضحيات. ولأن مجال النص أوسع من مجال اللوحة فقد تمكن
الكاتب ان يرسم لحامد شخصية متطورة يزيد عليها او ينقص منها تطور الحدث.
فنتعَّرف على حامد الضعيف العاجز طفلاً والغاضب الناقم على عجزه يافعا،ً ثم
الشاب الذي انضجته المأساة فعرف طريق خلاصه: واخذ يغوص في الليل مثل كرة من
خيوط الصوف مربوط اولها الى بيته في غزة، طوال ستة عشر عاما لفوا فوقه خيطان
الصوف حتى تحول الى كرة وهو الان يفكها تاركا نفسه يتدحرج في الليل. ثم نراه
خاشعاً أمام خطورة الخطوة التي اتخذها "وقف فجأة. نظر الى السماء فجأة ثم الى
ساعته وعرفت الصحراء أنه يفكر مثلهم كلهم . . . ولكنه مثلهم كلهم خاف من
الانبساط الى ما لا نهاية . . . ثم نراه يتخطى هذه الرهبة فيسير فجأة، شاباً
كما كان دائما مملوءاً بالغيظ والاختناق والحزن. الى ان ينتهي ممتلئاً ثقة
بالنفس عند اول مواجهة له مع العدو فقد كشفت له هذه المواجهة مكامن القوة التي
كانت غائبة عنه: "كنت مسلحاً بقدرتي على مفاجأته فقط ....وفي اللحظة التي امسكت
بها عضديه بكفي وانا اضغط جسدي فوقه، تيقنت انني اقوى منه". الى أن انتهى وقد
وضحت رؤيته ووثقت خطوته وصار بوسعه ان ينظر مباشرة الى قرص الشمس معلقا على سطح
الافق
أرض البرتقال الحزين وأوديسة الشتات (الى المجهول)
في هذه اللوحة التي تحمل عنوان "إلى المجهول" وقصة "أرض البرتقال
الحزين" تكامل لا يخفى على عين. فالنظرات الذاهلة التي ترتسم في عيون الطفلين
اللذين على يسار الرسم، ليس إلا رسم بالالوان لما قالته الرواية بالكلمات: مجرد
أن أفكر في أنني سأقضي الليل على الرصيف كان يستثير في نفسي شتى المخاوف . . .
ولكنه خوف قاسٍ جاف. . . لم يكن أحد على استعداد لان يشفق علي. . . لم أكن
استطيع ان اجد بشراً ألتجئ اليه. . . وأن نظرة والدك الصامتة تلقي رعباً جديداً
في صدري والبرتقالة في يد أمك تبعث في رأسي النار. نظرة التيه والقلق وحشود
الناس هي ذاتها والامهات الملتاعات وحراس الحدود الذين عبر عنهم كنفاني بجيش
الانقاذ، هم نفسهم في مؤخرة اللوحة بثيابهم السود ورماحهم المرفوعة في وجه
الذاهلين، يحاصرونهم من وراء وأمام ليسدوا طريق الرجوع على من اراده وتوجيه
الذاهلين الذين اخذتهم المفاجأة الى حيث يراد لهم التوجه. إلا ان لوحة شموط
تفترق عن قصة كنفاني في ان هذه الاخيرة جعل الاب ينهار ويفكر بقتل نفسه وابنائه،
فيما جعله شموط السند واليد القوية التي تحضن وتجمع، فحركة الاصابع فوق كتفي
الولدين تكاد تنغرس فيهما لدرئ ما يمكن ان يحدثه الشتات من تمزق وفرقة وضياع.
ورغم ما في قسمات هذا الاب من اسى وهرم (الاكتاف المحنية والعينين الغائرتين
والفمم المزموم) إلا انه يصر ولا يفرط ويستمر في لعب دوره الابوي الذي اوكلته
اليه الطبيعة، دور الحامي والمؤازر ودارئ الخطر. وفي حين تغرق "أرض البرتقال
الحزين" في الغيبة والجنون فتنتهي والاب يرى خلاصه باشهار مسدس يريد ان يطلقه
على نفسه واولاده، يضيئ لوحة شموط خلفية بيضاء رمز التفاؤل والامل بالمستقبل
رغم كل السواد الذي يحيطها
ما يلفت في رسومات شموط اصراره على ابقاء المرأة في دورها التقليدي،
فهي جميلة دائما في ملمحها وفي قدها. قل أن نرى امراة سمينة او قبيحة. وهي في
معظم ما رسم، كي لا أقول كله، إما اماً أو حبيبة او جزءاً من حالة فولكلورية.
لقد بحثت طويلا عن امرأة كأم السعد المراة التي تشققت يديها من العمل في تنظيف
بيوت الاغنياء، التي تلحق بابنها الى المعركة، أو التي تشارك في المعركة على
قدر طاقتها، ولكني لم اجدها. كما أنني بحثت عن "سعاد"، بطلة برقوق نيسان،
الرفيقة الملتزمة، المناضلة الندية التي لا يقل ولا يتميز دورها عن دور الرجل
فلم ار لها إلا رؤيا ضبابية كأن نستشف بعض تلك الملامح في لوحة
"رنده" أو "وجه
فلسطيني"
والجدير بالقول ان تماهي الاعمال الفنية لا يغمط اي من هذه الاعمال
حقها ولا يضيع خصوصيتها وأن مقالتي هذه لا تنتصر لعمل على آخر بل تهدف الى لفت
الانتباه الى شيء جميل في ثقافتنا الجمعية. فنحن، الفلسطينيين، مهما باعدت
بيننا المسافات والاعمار والاجناس الادبية وربما حتى الخلافات العقائدية يظل
يجمعنا هم أساسي ورؤية واحدة. ورغم ذلك فنحن لسنا نسخاً كربونية، بل لكل عمل
فني عندنا رؤيته وخصوصيته ولا يعيبه ان تماهى او تشابه مع أي عمل آخر
ويبقى اسماعيل شموط الفنان التشكيلي الكبير في فنه، وربما الرائد
أيضاً، الذي نذرموهبته وصحته الجسدية في سبيل قضيته وقضية شعبه وما هذه المقالة
الا تحية احترام وتقدير في ذكرى رحيله الذي يعد خسارة للفن والثقافتين العربية
والعالمية
نجمه خليل حبيب سدني استراليا
31 آب 2006
أضيفت في10/10/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
بحثا عن المنطلقات الفكرية في النص القصصي
"موت سرير رقم 12" مصداقا
لغسان كنفاني
بقلم الكاتب:
د.عبد الهادي أحمد
الفرطوسي
مدخل
ابتداء تفتح لفظة "موت" من العنوان نافذة على التجلي الدلالي
الأول للنص ، ونلمس علاماته من خلال حضور الراوي شخصية مشاركة في الأحداث
مقابل حضور المروي له شخصية واضحة المعالم ، يبرز الأول بوصفه مريضا راقدا في
المستشفى وتلك حالة وسطى بين الحياة والموت أو طريق من الحياة إلى الموت ، اما
الثاني فهو شخص معافى لكن الموت يظهر في أدائه اللغوي بوصفه الذروة العليا
للحياة. ثم يأخذ الراوي الواحد موقعين متقابلين: الأول موقع الراوي العليم
الذي يرصد البطل من الداخل والخارج ، والثاني موقع الراوي الخارجي ، وبازدواج
الموقعين تولد وجهة النظر المزدوجة إلى الموت .
وتحيل عبارة "رقم 12" من العنوان على مقولة آلان روب غرييه ومفادها
ان الحقبة الحالية هي حقبة الشخص المرقم ، الذي أنتجه المجتمع الرأسمالي
المتطور ، فتنشأ بذلك الموضوعة الأهم في النص التي تحقق حضورها عبر عدة
مفارقات:
أولها أن في الوقت الذي يبشر غرييه في هذه المقولة بموت قصة الشخصية
"باعتبارها أصبحت ملك الماضي" ، فإن النص الذي أمامنا هو قصة شخصية لا قصة
حدث.
والثانية أن سبب موت الشخصية عند غرييه هو وصول المجتمع إلى عصر
الرأسمالية ، أما قصة غسان كنفاني فتدور أحداثها في مجتمع متخلف ، كما يتضح من
سياق النص ووصف الأمكنة وتصوير العلاقات الاجتماعية.
والثالثة ، وهي مرتبطة بالثانية اختيار النصف الثاني من القرن
العشرين ، وهو عصر الإمبريالة بوصفها أعلى مراحل الرأسمالية، زمانا لأحداث
القصة واختيار منطقة الخليج بما يحمله من تخلف حضاري في خمسينيات القرن العشرين
مكانا للأحداث .
وتجر هذه المفارقة إلى مفارقة رابعة ، هي أن المكان ينقسـم على
موضعين ، فتبدأ الأحداث في مدينة أبخا العمانية الأشد تخلفا ، وتنتهي في الكويت
البلد النفطي الذي يتجه مسرعا نحو الرأسمالية.
تشكل النقاط الأربع الآنفة الذكر علامات أولى على التجلي الدلالي
الثاني الذي تشي به عبارة "رقم 12 " من العنوان .
ويتحقق التجلي الدلالي الثالث بعبارة "سرير" التي تتوسط مساحة
الفضاء النصي للعنوان واقعة بين لفظة "موت " وعبارة "رقم 12" ، والتي تدل على
النوم ، ولعل النوم حالة وسطى بين الموت والحياة ، ولما كانت اللفظة المذكورة
متضمنة الدلالة على الظرفية المكانية ، وبإحالتها على النوم فهي تومئ إلى
الفضاء الوسطي الذي يقترب كثيرا من فضاء العتبة الذي أشار إليه باختين في
دراسته عن دستوفسكي.
هكذا تتشابك التجليات الدلالية الثلاثة التي أوحى بها العنوان ،
وبتشابكها في النص تقودنا إلى المعنى العميق للعمل.
* * *
الراوي والمروي له
يأخذ العمل شكل رسالتين يبعثهما الراوي إلى صديقه المروي له ، وبهذه
التقنية يحقق المؤلف جملة أهداف أهمها أنه يضع الراوي وجها لوجه مقابل المروي
له، وبالحوار بينهما يكشف لنا عن علاقة كل منهما بموضوعة الموت : فالراوي يقول
: " إنني أقضي شهري الثاني في هذه المستشفى، إنني أشكو من قرحة في أمعائي" ،
وهو بهذا المكان يرى بعينه قبح الموت وبشاعته ، والفرق بين من يرى الموت بعينه
وبين من يسمع عنه " فرق شاسع لا يستطيع أن يدركه إلا من يشاهد إنسانا ينكمش على
سريره …. " .
أما المروي له فلا يرى قبح الموت ولا يشعر ببشاعته ؛ لذلك يجده
الطرفَ الآخرَ لكل شيء ، او هو ذروة كل شيء ، هكذا يقدمه الراوي : " كنت
تستعمل كلمة الموت ، للتدليل على التطرف ، لطالما سمعت منك أمثال هذه الجمل :
كاد يموت من الضحك ، وإني تعب حتى الموت ، وإن الموت لا يستطيع أن يسكت حبي …"
، وفي الرسالة الثانية يرفض المروي له الرؤيا التراجيدية للموت بالطريقة التي
قدمها الراوي :" الناس يموتون ببساطة أشد ، ذلك الذي وقع عند الرصيف فانطلق
مسدسه المحشو ومزقت الرصاصة عنقه ، كان ذاهبا مع فتاة رائعة الجمال ، والذي
قتلته نوبة قلبية في الطريق …. " .
يتكررهذا التقابل بين الراوي والمروي له في أكثر من موضع مسلطا
الضوء على كلا الشخصيتين :" لقد كان فقيرا ، فقيرا جدا أكثر مما تتصوّر أنت
بخيالك الباذخ المتسكع في المقهى" ، تقابله صورة الراوي :" حينما استطعت أن
أسير على قدمي لأول مرة بعد عملية الترقيع"
بين وجهة نظر الراوي ووجهة نظر المروي له ينشطر البطل إلى شخصيتين :
واقعية ومتخيلة ، وقبل ذلك ينشطر الراوي إلى راويين بموقعين مختلفين أحدهما راو
خارجي يتابع الأحداث من خلال الوثائق ، والآخر راو عليم يعرف كل شيء عن البطل
القابع في زاوية من مخيلته، وبانشطاره ينشطر المتن الحكائي إلى متنين : متن
واقعي وآخر متخيل .
يقدم الراوي البطل الواقعي من خلا ل بطاقة معلقة على سريره فيقرأ :"
الإسم : محمد علي اكبر . العمر : 25 عاما ، الجنسية عماني (….) سرطان في
الدم" ، ثم تتضح شخصيته في الصفحات الأخيرة من العمل ، من خلال التقرير الذي
كتبه الطبيب عنه : كان أبا لخمسة أطفال وكان بحارا …. وصل قبل أربع سنوات إلى
الكويت باحثا عن عمل ، وقبل شهرين فتح شبه دكان على الرصيف ، ثم مرض ورقد في
المستشفى شاغلا السرير رقم 12 ، وكان أن عميت عيناه قبل خمس ساعات من موته .
ذلك هو المتن الحكائي الأول ، أما المتن الثاني فهو فرع يتشعب عن
المتن الأساسي الأول مقدما الشخصية المتخيلة بوصفه سقاء في مدينة أبخا ، يقع في
حب فتاة سمراء فيكلف أخته ان تخطبها له ، لكن أهلها يرفضون تزويجها إياه ؛ بسبب
تشابه في الاسم بينه وبين لص يحمل اسم محمد علي ؛ لذلك تضيق أبخا بعين البطل ،
وتبزغ في ذهنه فكرة تعوض عن إحساسه بالخيبة هي فكرة جمع الثروة الكبيرة ، هكذا
يقرر الرحيل إلى الكويت ، ويعمل فراشا في إحدى الدوائر.
في هذين المتنين يعرض المؤلف رؤيتين متباينتين للموت :
الموت بوصفه مأساة انطولوجية كما يصورها المتن الحكائي المتخيل ،
والموت بوصفه حدثا يوميا مألوفا يشكل نهاية منطقية لحياة كل فرد ، كما يعرضه
المتن الحكائي الواقعي .
* * *
بؤرة الحكي
تتشكل الدلالة الكلية للنص من خلال تشابك المتنين المذكورين في
مبنى حكائي واحد ، يستفيد من تقنيات تيار الوعي ، فيبدأ عرض المتن الحكائي من
نهاية الأحداث، بتصوير لحظة الموت :" ينكمّش بغطاء سريره بكل ما في أصابعه
الراجفة من قوة كي يقاوم انزلاقا رهيبا إلى الفناء …" ، وبعد خمسة أسطر : " عدت
أحدق إلى الوجه النحيل الأسمر والعيون الراعفة (….) لقد دارت العيون حتى استقرت
على وجهي وخيّل الي أنه يستغيث بي ، لماذا ؟ … لقد بقي يحدق الي تم ببساطة مات"
.
بهذه السطور القليلة يعرض وجهة النظر الأولى تجاه الموت بوصفه مأساة
أنطولوجية ، لكنه سرعان ما ينتقل إلى تقديم وجهة النظر الثانية باستكماله
لتصوير الموت ذاته : " سمعت صوت الممرض يقول ببساطة في الممر المجاور للباب :
-مات سرير رقم 12 " .
لن نجانب الصواب إذا اعتبرنا هذه السطور نموذجا لما أسماه سعيد
يقطين بـ " بؤرة الحكي" والتي وصفها بالوظيفة الأم والنواة المركزية ، وهي فعل
واحد تظل كل الأفعال متصلة به ، فإن السطور الآنفة الذكر تتسم بالظواهر الآتية:
1 في الوقت الذي تعرض وجهتي النظر المتضادتين ، يبدأ منها تشعب
المتن الحكائي المتخيل : " لقد دارت العيون حتى استقرت على وجهي وخيل إلي أنه
يستغيث بي ، لماذا؟ ألأنني كنت أطرح السلام عليه كل صباح ؟ أم لأنه شاهد في
وجهي فهما للرعب الذي يعانيه ؟ لقد بقي يحدق إلي …" .
لا نكتشف ارتباط هذا الكلام بالمتن المتخيل حتى نصل إلى نهاية النص
: " لقد قرأت في التقرير الذي وضعه الطبيب ان المريض قد عميت عيناه قبل موته
بست ساعات" .
2من هذه البؤرة ينهض التجلي الدلالي الآخر " الإنسان المرقم "
معانقا التجلي الأول ، ففي الوقت الذي نقرأ اسم محمد علي أكبر كاملا غير قابل
للتجزئة مقترنا بجنسه وعمره في البطاقة المعلقة على سريره ، نسمع صوت الممرض
يعلن موت سرير رقم 12 .
في بؤرة الحكي الممتدة على ستة عشر سطرا ، من قوله :" وحين كان ينهض
…" إلى قوله : - مات سرير رقم 12 " تتجلى التقابلات الآتية:
1 التقابل الرئيس بين النظرة المأساوية إلى الموت والنظرة الهامشية،
فتعرض الأولى على امتداد الأسطر الأحد عشر الأولى ، وتعرض الثانية في سياق
السطور الخمسة الأخيرة .
2 الزمان : تتجسد الرؤية الأولى في اللحظات الأخيرة من عمر البطل
وتختم بموته ، بينما تأتي الثانية بعد تحقق الموت فعلا.
3 المكان : ترد الأحداث المعبرة عن الرؤية الأولى ، أمام أنظار
الراوي في غرفة البطل ، وهو يشارك الأطباء والممرضين الوقوف حول سريره ، أما
الرؤية الثانية فتأتي في مكان بعيد عن المكان الذي يجري عليه الموت ، يسمعها
الراوي بصورة خبر عابر من مكان آخر. 0
4تتحقق الرؤيا المأساوية للموت مقترنة بالاتصال بين الراوي والبطل ،
فالراوي كان يرى موت البطل بأمّ عينيه وكانت عينا البطل تستقر عليه و تتشبث به
مستنجدة ، أما الرؤية الثانية فتتحقق والراوي منفصل عن البطل في غرفة أخرى : "
اكتشفني الطبيب جرني غاضبا إلى غرفتي …." . 5 يولد التجلي الدلالي الآخر بصورة
التقابل بين الاسم الكامل للبطل ورقم سريره ، مقترنا بالتقابل بين طرفي التجلي
الدلالي الأول ، وعلى وفق الثنائيات الآتية :
أ - الاسم كاملا في الجزء الأول من النص الذي يمثل بؤرة الحكي ، أما
الشخص المرقم فلم يرد إلا في السطر الأخير من النص.
ب - ورد الاسم موثقا على بطاقة مكتوبة ومعلقة على سرير البطل ، أما
الرقم فقد ورد مسموعا بصورة عابرة.
ج - جرى تدوين الاسم والمعلومات المرافقة له من قبل الطبيب المختص ،
أما الرقم فقد ذكر من قبل الممرض.
د - صورة الاسم الكامل للبطل توجد في الردهة التي تمثل مسرح الأحداث
، أما رقمه فيذكر في ممر جانبي.
تشكل التقابلات المذكورة في بؤرة الحكي علامات سيميائية على ثلاثة
أمور:
الأول التواشج الوثيق بين التجليين الدلاليين المذكورين.
الثاني: ارتباط الطرف الأول من التجلي الثاني ( الفرد المسمى)
بالطرف الأول من التجلي الأول (الموت المأساوي) وارتباط الطرف الثاني من
التجلي الثاني (الفرد المرقم) بالطرف الثاني من التجلي الأول ( مجانية الموت).
الثالث :هيمنة الرؤيا الأولى التي يجسدها الطرف الأول على المستوى
الدلالي العام للنص مقابل هامشية الرؤيا الثانية.
* * *
من الشخصيات التي أنتجها النص نقف أمام شخصيتين متقابلتين : شخصية
الأخت ، و شخصية الممرضة :
الأولى تبرز من المتن المتخيل ، بوصفها أخت البطل الذي أفقده الموت
أمه ، و أقعد العجز أباه ، فصارت تلك الأخت أبا وأما للبطل ، وكانت المعين له
في الوصول إلى هدفه الأسمى الزواج ، لقد أدى فشلها في تحقيق الهدف إلى انفصال
البطل عنها برحيله بعيدا ، كان سبب الفشل هو تجزئة الاسم : " - حدث خطأ قلت
لهم في أول مرة أن اسمك محمدعلي، لم أقل محمد علي أكبر لأني لم أشعر بحاجة لكي
أقول.. " .
يتأكد ذلك على لسان الراوي:
"كلمة واحدة وقفت في حلق القضية فماتت" .
هكذا يتشابك التجليان الدلاليان ببعضهما ، ففشل الزواج ( العلامة
الأقوى على الحياة) يأتي نتيجة تجزئة الأسم .
على هذا الحدث الذي تكون شخصية الأخت بطلة له تنعقد حبكة المتن
الحكائي المتخيل، فهو يمثل - بحسب بروب - وظيفة الإساءة ، التي لا تنتهي
الحبكة إلإ بإصلاحها ، يمنح ذلك شخصية الأخت وظيفة سيميائية مهمة في النص ،
فإذا تذكرنا أن المشكلة من وجهة نظر الراوي هي " مشكلة انعدام أو خلود" فإن
وظيفة الأخت ستكون مزدوجة بين الأمرين ، فهي بسعيها في سبيل زواج البطل تسهم في
تحقيق الخلود ، وبخطئها الذي أدى إلى منع الزواج تسهم في إيصال البطل إلى
الفناء ، وتبقى شخصيتها المزدوجة تهيمن على أحداث المتن المتخيل، فالبطل في
مواجهته للعالم الجديد لا يستطيع أن يراه أنيسا الا حين ينظر إليه بعيني أخته
سبيكة وأهل قريته : " بدأت ملامح الشوارع ومعاني الجدران تدخل إلى رأسه…أحسّ
بشيء من الألفة ولكنها ألفة ملصوقة على خلفية من شعور قاتم بأنه إنما يلاحق
بعيون أخته سبيكة" ، هكذا تجمع سبيكة بين الألفة والشعور القاتم . وتبقى محفوظة
في ذاكرته علامة من الماضي الجميل في أبخا مشيرة إلى مستقبل اجمل :
" كان ثمة في الصندوق حلق خزفي لأخته سبيكة تزين به أذنيها إذ يعود
لأبخا" ، وهنا لا بد من الانتباه إلى أن الأخت التي تحمل الاسم "سبيكة"، الذي
يحيل على الذهب والفضة ، لا تتزيّن الا بالخزف، لأن البطل جاء حاملا في
ذاكرته أسم سبيكة من مدينة ابخا الفقيرة البدائية إلى مجتمع الذهب والفضة ، أما
القرط الخزفي فهو يحمله من العالم الثري المتطوّر إلى مجتمع أبخا البدائي
الفقير ، هكذا يؤدي التقابل بين لفظة سبيكة والحلق الخزفي وظيفة كنائية تكشف
عن توق المجتمع البدائي متمثلا بالبطل إلى التطور السريع وصولا إلى المجتمع
الرأسمالي الذي تحكمه سبائك الذهب ، ثم يكشف عن توق الفقراء في المجتمع
الرأسمالي إلى الوصول إلى المجتمع اللاطبقي الذي يكون كل الناس فيه سواء :
"كلنا في أبخا سواء" .
وأخيرا فإن الأخت سبيكة لا يقتصر حضورها على المتن الحكائي المتخيل،
وإنما نجدها في خاتمة النص تقفز إلى المتن الحكائي الواقعي متمثلة بالحلق
الخزفي الذي يكتشفه الراوي في صندوق البطل بعد موته، وتتأكد واقعية ذلك الحلق
باعتماد الراوي حاسة اللمس إلى جانب حاسة البصر :
" قبل أن أخرج من الغرفة شاهدت ما صعقني ، لقد أزاحت الممرضة فواتير
محمد علي أكبر جانبا، فبرق في قاع الصندوق حلق خزفي طويل.. شعرت بالدوار وتقدمت
إلى الصندوق ورفعت الحلق بإصبعي" ، ولعل انتقال سبيكة وحلقها الخزفي من المتن
المتخيل إلى المتن الواقعي تعبير عن واقعية حلم الفقراء في الانتقال إلى
المجتمع اللا طبقي ، ولعل وجود الحلق تحت الفواتير في ذلك الصندوق تعبير كنائي
عن القانون الجدلي في أن الظاهرة تحمل نقيضها في داخلها.
أما الثانية فتبرز من المتن الحكائي الواقعي، عجوزا قبيحة يتكئ
الراوي على ذراعها أثناء سيره في المستشفى ، تضحك "عن أسنان ناقصة مسودة" ،
ولعل في صورة هذه العجوز القبيحة ذات الأسنان المتآكلة دلالة رمزية على الموت
وإذا كانت الأخت قد جزّأت اسم البطل مرة واحدة عن غير قصد، فحصلت
الإساءة - كما مر- فإن الممرضة كانت تمارس ذلك دائما بقصد مسبق:
" كانت الممرضة تسأله في كل صباح : - كيف حالك يا محمد علي ؟ وكان
محمد علي لا يجيب ، إذ أنه كان يعتبر أن اسمه هو محمد علي أكبر" ، وهنا تتأكد
الدلالة السلبية للممرضة، ويترسخ الارتباط بين الموت و ترقيم البطل ، وفي ذلك
تأكيد لوجهة النظر التي يصرح بها الراوي بعد موت البطل وإعلان الممرض عن ذلك :"
لقد فقد محمد علي أكبر اسمه ، إنه سرير رقم 12!"
وإذا كانت الأخت تقدم رؤيا مشرقة لمجتمع الفقراء اللاطبقي - كما مر
قبل قليل- فإن الممرضة تقدم نظرة طبقية متحاملة على الفقراء ، مشككة بما
يعلنونه، فحين يسألها الراوي عن محتويات البطل تجيبه :
"قالت الممرضة وهي تضحك :
-لا أحد يدري، إنه يرفض أن يتخلى عن هذا الصندوق لحظة واحدة. ثم
مالت عليه وهمست :
-هؤلاء الفقراء المظهر يخفون عادة ثروة ما ، قد تكون هي ثروته! "
بهذا التقابل يتحقق الارتباط بين الحياة والطبقات الفقيرة، وبين
الموت والطبقات الغنية المستغلة التي تعبر الممرضة عن وجهة نظرهم .
وأخيرا يختم النص بالتقابل بين شخصية الأخت وشخصية الممرضة : " لا
أدري لماذا نظرت إلى الممرضة وقلت فجأة :
-هذا الحلق كان اشتراه لأخته سبيكة ..أنا أعرف هذا جيدا..
لقد حدقت إلي مستغربة بعض الشيء ، ثمّ ضحكت بعنف ، وضحك الطبيب
للنكتة" ، واستكمالا للتحليل السابق فإن سخرية الممرضة تشكل تعبيرا كنائيا عن
رفض الطبقات االمستغـِلـّة ، للفكر التقدمي الذي ينشد الوصول إلى المجتمع
اللاطبقي .
* * *
الفضاء
يرى باختين أن الفضاء الروائي يكتسي من خلال تداخل مكوناته طابعا
رمزيا ، إن قراءة متفحصة للفضاء في هذه القصة تؤيد بشدة ما قاله باختين وتكشف
عن الأبعاد الرمزية لصور الأمكنة ، وتسلط الضوء على عملية التحويل - باصطلاح
سيزا قاسم - التي ينتقل وصف المكان بموجبها من معناه الحرفي إلى معنى خيالي .
عطفا على ما جاء في مدخل هذه الدراسة ، وانطلاقا من النافذة التي
تفتحها لفظة "سرير" من العنوان على فضاء النص ، نجد المكان الذي يختاره الراوي
موقعا له في رصد الأحداث يؤيد الدلالة التي تضمنتها لفظة "سرير"، فهو يتوسط
المسافة بين مكانين متضادين :"إن غرفتي تطل من ناحية بابها على الممر الرئيس
لجناح الأمراض الداخلية ، وتطل نافذتها على حديقة المستشفى الصغيرة ، وهكذا
فإنني أستطيع أن ألاحظ وأنا متكئ على وسادتي : المرضى الذين يمرون بلا انقطاع
أمام الباب والعصافير التي تطير بلا انقطاع أمام النافذة" ، هكذا اختار الراوي
موقعا وسطا بين مكانين :الأول يحيل على الموت والآخر يحيل على الحياة، وبهذا
التقابل بين عالمين متضادين وبالوصف الدقيق للعصافير التي تطير أمام النافذة ،و
المرضى الذين يمرون أمام الباب "آتين على أقدامهم (…) مغادرين على عربة الموت
ملفوفين بغطاء أبيض" … بهذا الاستقصاء الدقيق والتضاد العنيف تترسخ نظرة
الراوي إلى الموت بوصفه مأساة انطولوجية، و تتهمش نظرة المروي له المضادة التي
ترى إلى الموت بوصفه حدثا يوميا مألوفا يشكل نهاية منطقية لحياة كل فرد.ويتأكد
ارتباط عالم ما وراء النافذة على الحياة في الرسالة الثانية من النص، فالبطل
يقيس درجة شفائه بطول مسافة الأرض المعشبة التي يبلغها عقب السيجارة حين يرميه
البطل .
يأتي هذا التقابل بين عالمي العصافير والمرضى صورة مكثفة ترادف
التقابل الأوسع بين عالم أبخا المنبثق عن المتن المتخيل وعالم الكويت في المتن
الواقعي:
تنبثق من خيال الراوي صورة لمدينة أبخا العُمانية التي لم يرها ولم
يعرف الكثير عن جغرافيتها وأوضاعها العامة : فيراها مدينة فقيرة يشح فيها الماء
، ولم تصلها الحضارة بعد ، يجلس أهلها على الحصران المصنوعة من القشّ ويسيرون
في طرقات متربة. وعلى الرغم من ان الراوي لم يعتمد الاستقصاء في وصف المدينة
لكن ملامح الألفة كانت تطفح على الأحداث والشخصيات التي تتحرك في فضائها (
الأخت ، والحبيبة ، وقربتا الماء …) ، فهي بحق المكان الأليف الذي وصفه باشلار،
إنها بيت الطفولة الذي لم يبذل الراوي جهدا في وصف ملامحه الدقيقة ليترك للقارئ
حرية تخيله كما يشتهي، وليفسح في المجال لسيلان أحلام يقظته .
أما الكويت فأول ما يظهر من صورتها: " زبد البحر الكبير" ومنه : "
أطلت صواري المراكب مستلقية في ميناء الكويت الهادئ" ، لكنها لن تظل هادئة
فسرعان ما :" بدت له الشوارع الغاصة والأبنية ذات الجدران الصلبة ، والسماء
الرمادية، والقيظ ، والهواء الشمالي الساخن ، والطرق المزدحمة بالسيارات،
والوجوه الجادة .. " ، ذلك هو المكان المعادي، ملامح الكويت تصير "سدودا تقف
بينه وبين حلمه" ، كل شيء فيها "بلا بدء بلا نهاية بلا ملامح" ، إنها صور
مرادفة للإنسان المرقم.
بهذا التقابل بين أبخا والكويت يتحقق التقابل بين المكان الأليف
والمكان المعادي، ومن رحم المكان المعادي تنفتح عين الذاكرة ، فيرى البطل بيت
طفولته: " كانت أبخا هناك ملفوفة بالهدوء..موجودة على أي حال.. كل حي فيها له
بدء وله نهاية .. وكل جدار يحمل ملامحه الخاصة" ، يقول باشلار: " ان حلم
اليقظة يتعمق إلى حد أن منطقة من التاريخ البعيد جدا تنفتح أمام الحالم بالبيت
، منطقة تتجاوز أقدام ذكريات الانسانية " ، فأبخا إذاً هي صورة الإنسانية في
طفولتها الباكرة ، بينما تقف الكويت على الطرف الآخر من الزمن ، انها تمثل آخر
ما وصلت اليه الحضارة ، الحضارة المبنية على استغلال الإنسان للإنسان ، البحر
الكبير ذو الزبد ، الذي رآه البطل وهو يقترب من الكويت، كان عنوانا لجوهرها ،
وحين توغل إلى أعماقها ، لم يجد غير"الضياع العميق الذي يشبه الدوار" ، والذي
انتهى به إلى الموت ، ومن ثم "الانزلاق إلى الفناء" والانعدام بفقدانه اسمه
وتحوله إلى رقم 12.
* * *
من العلامات السيميائية الأساسية في هذا النص الصندوق ، فهو كأي
شيء آخر له حقيقة واقعة في العالم الخارجي ، ويحمل دلالة خاصة في النص، وقد
يتحول إلى رمز ، وتكمن أهمية الصندوق هنا في حضوره المتواصل على مستوى المتنين
الحكائيين معا ، مما يجعل منه دالا مهيمنا ، وفي الوصف المستقصي الدقيق له، وفي
الغموض والإبهام الذين يحيطانه ، فيبدأ ظهوره عند أول لقاء بين الراوي والبطل
:" يضع إلى جانب وسادته صندوقا خشبيا عتيقا منقوشا عليه اسمه بحروف نصف فارسية
مربوطا ربطا محكما بخيط من القنب" ، ولعل في الحروف نصف الفارسية علامة على
الغموض والإبهام والعجمة، ويزداد ذلك الغموض بالحوار الذي يدور بين الراوي
والممرضة حول محتوياته والتكهن بماهيتها ، فيكون ذلك من المسوّغات المنطقية
لولادة المتن الحكائي المتخيل، فما المعنى الذي يحمله هذا الصندوق ؟
الصناديق - بحسب باشلار- أدوات لحياتنا النفسية الخفية ، وهي " ملأى
بضجيج الذكريات الأخرس" ، وهي "مساحة أليفة لأنها مساحة غير متاحة للجميع" ،
لكن المساحة الأليفة هنا تولد في المكان المعادي بعيدة عن المكان الأليف ، ففي
الكويت ، وبعد أن بدأت الثروة ترد ، نبعت فكرة محمد علي أكبر "في أن يصنع
صندوقا خشبيا متماسكا يحفظ فيه ثروته" فما مفردات تلك الثروة؟ … إنها - كما هو
الأمر في كل الصناديق - تحوي أحلام يقظة صاحبها(عباءة مذهبة .. حلق خزفي ..
زجاجة عطر .. وصرة نقود ، لكنها معقودة على أمل أن تزداد، ذلك الأمل هو حلم
يقظة آخر) ، يقول باشلار:" هنا يتكشف الماضي والحاضر والمستقبل، فالعلبة هي
ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من الزمن" ، هكذا تكون العباءة المذهبة خارطة للزمن
بكل تعرجاته وانحناءاته، فنرى فيها "هناك في ركن من العباءة كان الماضي
منزويا…" ، ونرى حاضر البطل وهو في منفاه يمرر أصابعه فوق العباءة وينشرها
أمام عينيه فيمنح المكان المعادي ألفة، كما نرى فيها مستقبل أبخا بكل شوارعها
ونوافذها الواطئة … تطل من خلفها عيون الصبايا على محمد علي أكبر وهو يرفل
بالعباءة المذهبة، هكذا " يكون بيت المستقبل أحسن بناء وأكثر ضوءا وأكبر من كل
بيوت الماضي ، فتصبح صورة بيت الحلم مواجهة ومعارضة لبيت الطفولة" ، تتعزز هذه
الأحلام بحضور الحلق الخزفي مشيرا إلى سبيكة، وزجاجة العطر التي تومئ إلى
الفتاة السمراء ..
تلك هي محتويات الصندوق العائد إلى البطل المتخيل، وهو شخصية مركبة
تتماهى فيها شخصية الراوي بشخصية البطل الواقعي، أما الصندوق الذي رافق البطل
الواقعي فحين تم فتحه، لم ينته جدل الخارج والداخل لأن جوّا من الألفة فاض من
الداخل إلى الخارج - كما توقع باشلار - وإنما فاض المكان المعادي إلى الداخل ،
فحين تكشفت الفواتير التي تملأ الصندوق،غامت على المكان روائح البنوك والأرباح
ورأس المال وفائض القيمة ، وفي النهاية حين بزغ الحلق الخزفي أمام عيني الراوي
فاضت عليه نفحة من الألفة ، لكن سرعان ما ذبحتها الضحكة الجشاء للممرضة العجوز.
ترتبط بالصندوق شخصية شبحية ، تبرز في المتن المتخيل في اللحظات
التي تسبق موت البطل، ثم تختفي:
" سمع صوتا إلى جانبه :
-ماذا في هذا الصندوق العتيق ؟
نظر إلى مصدر الصوت وشاهد كمن يحلم ، وجها لشاب حليق بشعر أشقر يشير
إلى الصندوق وينظر إلى شيء ما" .
يغيب الأشقر الحليق بضع سطور تم يعود ليكون الصورة الأخيرة التي
يراها البطل قبل موته ، فيشعر بالخوف منه على صندوقه ، وفي داخل الصندوق وبعد
فتحه من قبل الطبيب نكتشف بين أكوام الفواتير صورة قديمة لوجه ملتح، وحين
يتقابل الداخل والخارج تتضح العلامات السيميائية ، وتتكشف دلالاتها ، فلم يعد
الصندوق مخزنا لذكريات البطل وأحلام يقظته وحده ، وإنما يصير مخزنا لموروث أمة
بأكملها: عقائدها وتاريخها وقيمها الضاربة في العمق، متمثلة بالصورة القديمة
للرجل الملتحي ، بينما تومئ صورة الأشقر الحليق إلى ذلك القادم من وراء البحار
ليمحق الأمة بكل خصائصها الحضارية عن الوجود.
* * *
وللبحر حضوره المهيمن بوصفه علامة سيميائية أيضا ، فأوّل ما يبرز
في النص متشابكا بالموت ضمن صورة بيانية يكون التشبيه أداتها " الشفاه التي
ترتجف كبحر من مياه بنفسجية" ، تأتي هذه الجملة في سياق تصوير لحظات موت البطل،
ويستمر هذا التشابك قائما بين البحر والموت على امتداد النص، حتى يصل مداه
الأقصى في نهاية الرسالة الأولى، إذ يصير البحر صورة للموت، فحين أحس البطل
بأعراض المرض "تصور نفسه للحظة واقفا على شاطئ البحر ووهج الشمس …يكاد يعميه"
، وحين وقع في غيبوبة " كان يحس أن مد البحر يعلو قدميه شيئا فشيئا" ، وحين
حانت ساعة الموت " أحس فجأة بأن الماء قد على حتى وسطه وأن الماء برد إلى درجة
لا تحتمل (…) فيما استمر الماء يعلو ويعلو حتى حجب عن عينيه ذلك الوجه الأشقر
الحليق ..
-لقد مات سرير رقم 12
هتف الممرض"
ولما كان النص - كما يراه السيميائيون - " لا يمكن أن يقرأ أو يفهم
الا من خلال إدخاله في شبكة أعم من النصوص " ، فإن هذا التشابك يفتح النص على
أكثر من متفاعل نصي ميثولوجي :
أوّلها أسطورة لإيكير سيد الماء في الميثولوجيا السكندنافية الذي
يبتلع الكنوز إذ تتجمع في قعره عند تحطم السفن ، نتذكر ذلك ونحن نقرأ السطور
الآتية : " صار البحر يمتزج بنوافذ مشبكة الخشب واطئه على طرف الطريق ، وبحلق
من الخزف وبعباءة مبلولة بماء مالح ، وبمركب معلق فوق الموج لا يتحرك وبصندوق
خشبي عتيق " ، هكذا يبتلع لايكير الحضارةِ الرأسماليةِ كنزَ ذكريات البطل
وأحلامه وموروثه التاريخي ، وتتحدد هوية البحر أكثر بتماهيه بشخصية الأشقر
الحليق الذي جرت الإشارة إليه.
والمتفاعل النصي الآخر هو ملحمة بعل وعناة الفينيقية ، إذ يتناصّ
البحر بالإله الشرير يم إله مياه البحر المتمردة الذي يرمز له بالتنين الخرافي
، وهو سيد العالم السفلي عالم الأموات ، ويترسخ هذا التناص بالتقابل القائم في
النص الجديد بين البحر والماء العذب ، والذي يتحقق حضوره على عدة مستويات،
أهمها:
1 - أن المكان الأليف يقترن بالماء العذب محمولا بقربتين على كتف
البطل يجوب بهما أزقة أبخا ، أما المكان المعادي فأول ما يظهر منه زبد البحر
الكبير وصواري المراكب مستلقية في ميناء الكويت
2- أن البطل في المتن المتخيل يأتي سقاء ، أما في المتن الواقعي فهو
بحار.
أما في النص الفينيقي فإن التقابل يقوم بين يم إله البحر وبعل إله
المطر ، إذ يقع بين الإثنين صراع عنيف ينتهي بموت يم وانتصار بعل وتتويجه ملكا
.
يأتي التناص هنا مقلوبا ، وبهذا القلب يتحقق التحريف الأسطوري الذي
يفرضه العقل المتحضر ، فينتصر البحر (وسيده الأشقر الحليق) ويغرق الصندوق
(صندوق أحلام يقظة البطل السقـّاء) ، وتتلوث محتوياته بماء البحر ، ومن بينها
صورة الرجل الملتحي ، هكذا تأتي وجهة نظر المؤلف متخفية وراء طيـّات رموزها ،
تشي بموت الأفكار الرومانسية التي كان ينادي بها رواد الفكر القومي في بعث
المجد العربي من جديد ، والتي ورثها عنهم غسان كنفاني وحركة القوميين العرب.
أن النهاية المأساوية التي تختم بها القصة - حيث تصير أفكار الراوي
مثارا للسخرية - تعبّر عن نهاية لمرحلة مهمة في تاريخ الفكر العربي الحديث ،
وبذلك فأن التناص المقلوب مع أسطورة بعل وعناة قد حقق هدما لأيديولوجية قائمة
، تمهيدا لبناء أيديولوجية جديدة تظهر ملامحها في قصة " لو كنت حصانا" من
مجموعة أرض البرتقال الحزين ، والتي كتبها بعد عام واحد من كتابة " موت سرير
رقم 12" ، وقد جرى تحليلها في بحثتا الموسوم بـ " تعدد الأصوات في القصة
القصيرة" .
مصادر البحث:
الآثار الكاملة : 2 : غسان كنفاني: دار الطليعة : 1973 .
بناء الرواية : د .سيزا قاسم : الهيئة المصرية العامة للكتاب:
1984 .
التفاعل النصي : نهلة فيصل الأحمد :مؤ سسة اليمامة الصحفية :
كتاب الرياض 104 - 1319 هـ .
•جماليات المكان : جاستون باشلار : ت غالب هلسا :بغداد :1980 .
•الفضاء الروائي في الغربة : منيب محمد البوريمي :بغداد :
* قال الراوي : سعيد يقطين : المركز الثقافي العربي : ط1 :
1997 .
•معجم الأساطير : 2 :
•ملاحم وأساطير من أوغاريت : أنيس فريح : بيروت : دار النهار :
•مورفولوجيا الخرافة : فلادمير بروب :ت ابراهيم الخطيب : الدار
البيضاء : 1986 .
•نحو رواية جديدة : آلان روب غرييه : مصطفى ابراهيم مصطفى :دار
المعارف - مصر .
•خلاصات البحوث للمؤتمر العلمي السنوي لكلية الآداب - جامعة
المستنصرية 2003.
أضيفت في03/02/2008/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
|