الشخصية الفلسطينية والسلاح
لدى
غسان كنفاني
بقلم الكاتبة:
د. ماجدة حمود
يعترف غسان كنفاني في إحدى رسائله لغادة السمان قائلا "كل قيمة
كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح، وأنها تنحدر الآن أمام
شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون من أجل شيء أحترمه."(1)
لم يجد كنفاني مع تفتح وعيه السلاح الذي يحرر به فلسطين، فبحث عن
سلاح يمهد السبيل إليها، ولم يجد أمامه سوى الكلمة يلجأ إليها، لكنه رغم ما
قدّمه من إنجازات إبداعية لم يكن راضيا عن ذلك الطريق الذي اختاره تعويضا عن
السلاح، لذلك وصف كلماته بتلك الصفات السلبية (الصفيقة، التافهة، المنحدرة)
وقد عايش كنفاني حلم الثورة الفلسطينية منذ تفتّح فكرتها إلى أن
صارت وليدا، عبر الكلمة الأدبية والسياسية، ثم التحم بشكل عملي بأحد أهم رموزها
(السلاح) إذ كان هدّافا!
حين نتأمل في إبداع كنفاني نلمس أهمية السلاح لديه، فقد رآه الدم
الذي يمدّ الثورة بالحياة! ويعيد الأمل في عودة الوطن، لذلك لن نستغرب أن يجعل
عنوان بعض قصصه مرتبطا بالسلاح "المدفع" "السلاح المحرم" بل يجعله عنوانا
لمجموعته القصصية "عن الرجال والبنادق" حيث تقترن الرجولة بالبندقية، ويخص
الكاتب في هذه المجموعة الفلاح الفلسطيني ليبرز علاقته الحميمة بالسلاح!
وقد نجد عنوانا رمزيا ذا دلالة جمالية مدهشة كعنوان إحدى قصصه
"العروس" التي هي البندقية، فجعلها معادلا رمزيا لفرح الإنسان واستقراره في
الحياة، بل جعلها سفينة إنقاذ حين يشتدّ طوفان الحرب "تستطيع أن تحمل الإنسان
عبر ذلك الموج إلى شاطئ النجاة، أو شاطئ موت شريف". فهي التي تنقذ كرامة
الإنسان حيا وميتا! لذلك لن نستغرب أن يفقد الفلسطيني عقله حين تسرق منه!
إن المتأمل يلاحظ أن كنفاني أرّخ للإرادة الفلسطينية في لحظة
انهيارها ونهوضها! حين أرّخ لعلاقتها بالسلاح! فقد ابتعد الفلسطيني عنه، إثر
النكبة، حيث كان يعيش زمن اشتباك مع الجوع، الذي صار العدو الأول له في المخيم،
إذ غاب السلاح ليحلّ محلّه الرغيف، فالجائع لا يملك القوة الجسدية لحمله كما لا
يملك الإمكانية المادية لشرائه! وقد بيّن لنا الكاتب عبر إبداعه كيف عاش
الفلسطيني الذل والهوان حين ابتعد عن سلاحه! لذلك حين عاد لحمله أزهر حلم
العودة ثانية في المخيم، وعاد إليه شعور الكرامة!
وقد رصد لنا كنفاني علاقة الفلسطيني بالسلاح سفي فترة ما قبل
النكبة، أي في تلك الفترة التي واجه الفلسطيني عدوه الصهيوني والإنكليزي، كما
رصد علاقة الفلسطيني بالسلاح إثر النكبة فلم نجد ذكرا له في رواياته، إلا بعد
مرور حوالي ستة عشر عاما من حدوثها في رواية "ما تبقى لكم" عام (1964) في حين
لم نجد ذكرا له في روايته الأولى "رجال في الشمس" لذلك سنتناول هاتين الفترتين
بالدراسة.
الفلسطيني والسلاح قبل النكبة:
لقد أرّخ لنا إبداع كنفاني لمكانة السلاح لدى الفلسطيني، وسلط
الأضواء على فترة قبل النكبة، فأبرز معاناة الفلاح الفقير في الحصول عليه، خاصة
في مجموعته القصصية التي ظهرت إثر حزيران (1969) فربط بين الفلسطيني والسلاح
ربطا مدهشا في جمالياته، ظهر ذلك منذ الرسالة الأولى التي أرسلها الكاتب
للمتلقي (العنوان) "عن الرجال والبنادق" فيربط بين حمل السلاح والرجولة، فيصبح
السلاح رديفا للقيم والمثل العليا بكل ما تعنيه من قيم العزة والكرامة والحرية،
فهو يريد أن يحفّز اللاجئ الفلسطيني على حمل السلاح متخذا من أبطاله قدوة له،
كما يدافع عن الإنسان الفلسطيني المفترى عليه بأنه باع أرضه الفلسطينية ولم
يدافع عنها!
ففي قصة "المدفع" يحس البطل الفلاح (سعيد الحمضوني) بأن الأرض ستضيع
دون سلاح، مما يعني ضياع الفرح والأمان، لذلك حاول الحصول عليه، وشعر أن
البندقية لن تقوى على مواجهة العدو الصهيوني لذلك يقرر شراء مدفع، وهو الفلاح
الفقير، فيبيع كل ما يملك ويجمع من أهل قريته (السلمة) وحين لا يكفي المال
المجموع ثمنا له، نجده يبيع دمه في إحدى المستشفيات ليكمل ثمنه! وحين يستشهد
قبل إيفاء ثمنه نجده يورّث أولاده ذلك الدين! فيوصيهم بأن يبيعوا دمهم ليوفوا
ثمن المدفع!
إننا أمام علاقة استثنائية بين الإنسان والسلاح والأرض، لذلك ربطها
الكاتب برابطة الدم، إذ جعل دم البطل ثمنا له، لذلك حين يصيبه مكروه يحس سعيد
أن قوى جبارة تنتزع عزيزا من داخله، شيئا يمتزج بقلبه، فيستمد الحياة من وجوده
"كان يشعر بكل هذا وهو منطلق عبر الحقول الباهتة النائمة في آخر الليل، ووصل
إلى حيث كان (المدفع) يتكئ كالطفل على الأغصان …وهزّ سعيد الحمضوني رأسه وكأنه
يواسي نفسه بمصاب ابنه."(2) وبذلك لم يكن المدفع آلة جامدة، بل جسّده الكاتب
لنا في هيئة إنسان عزيز (الابن) فتعمّد أن يشبه المدفع المعطّل بالطفل المريض،
ليبرز قلق والده (الفلسطيني) على مصيره!
تدهشنا هذه الرابطة الدموية بين الفلسطيني والسلاح، حتى إنه أثناء
المعركة يحاول أن ينقذه، بعد أن يتعطل، بعضو من أعضائه: اليد! وذلك "حين احتاج
المدفع إلى شيء قوي لا يملكه، يمسك الفوهة الهاربة إلى بطن المدفع" يقول لرفيقه
في المعركة "اسمع سأشدّ الماسورة إلى بطن المدفع …وحاول أن تطلق…لا يوجد أية
دقيقة لتضيع في الكلام…دعنا نجرب."(3)
إذاً كما يفدي الأب ابنه بروحه حين يتعرض لخطر، كذلك نجد الفلسطيني
يفدي المدفع! فتصبح يده آلة من آلاته، ويغذي دمه حركته، عندئذ تتحول روحه إلى
قذائف في وجه الأعداء! وبذلك يتوّج كنفاني هذه العلاقة الاستثنائية بفداء
الفلسطيني المدفع بدمه!
إن هذه الرابطة الدموية بالسلاح تمنح الفلسطيني "شعورا هائلا
بالطمأنينة، شعورا يوحي بالمتعة…" لذلك بدا هذا السلاح لنا مرادفا لمشاعر الأمن
والطمأنينة، لدى الكبار (من أمثال سعيد الحمضوني) ولدى الصغار (من أمثال
المراهق منصور) الذي أحس بالرعب في طريقه الوعر إلى صفد "انتابه رعب مفاجئ إلا
أن البندقية كانت هناك مستريحة وراء فخذيه، مثل شيء أسطوري يبعث في صدر الإنسان
اطمئنانا مجهولا." يبدد كل رعب يمكن أن يحس به وهو يسير وحيدا في العراء
والجبال!
تعمّد الكاتب ألا يجعل هذه العلاقة بين الفلسطيني والسلاح علاقة
فردية، بل أضفى عليها طابعا جماعيا، لذلك امتدت العلاقة بين سعيد الحمضوني
لتشمل أبناء القرية جميعا!، فنسمعه يقول: تكاد لا تراه إلا وهو يدرب شباب
القرية على استعماله…" لهذا أصبح المدفع الذي اشتراه (سعيد الحمضوني) قوة هائلة
تكمن في نفوس أبناء قريته.
رغم حرص كنفاني على الكتابة باللغة الفصيحة وجدناه يدعو البندقية
أحيانا بالعامية الفلسطينية، أي بلغة البسطاء الفلاحين (المرتينة)
كيفية الحصول على السلاح:
وقد بيّن لنا أن أمر الحصول على السلاح لدى الفلسطيني الفقير لم يكن
سهلا، فعايشنا معاناته في البحث عمن يعيره سلاحا، كما فعل منصور في مجموعة "عن
الرجال والبنادق" وكان هذا البحث يشعره بالعار، إذ يتخيل نفسه يستجدي بندقية من
خاله كالشحاذ! لذلك قرر الحصول على بندقية خاصة به، مهما كان الثمن "رأسمال
المرتينة لحظة شجاعة واحدة، ربما جرح من الحربة المثبتة فوقها أيضا، ولكن من
قال أن السماء تمطر بنادق كما أمطرت منا وسلوى…إنها الثورة وأنت لا تستطيع أن
تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية…"(4)
يلاحظ المتأمل في هذين السطرين فقط ورود لفظة البندقية أو أحد
أجزائها أربع مرات (مرتينة، حربة، بنادق، بندقية) مما يدل على إلحاح هم السلاح
على ذهن الكاتب والشخصية معا، إذ لا يمكن أن نعرف المعنى الحقيقي للثورة دون أن
يقترن بها السلاح، فتهجس به الشخصية حتى تجد وسيلة للحصول عليه.
نجد شخصية أخرى (في قصة "العروس") تغامر بحياتها من أجل الحصول على
بندقية، فيتقدم خطوط العدو الأمامية، ويحصل عليها من قتلى العدو، أما من يملك
قطعة أرض كأبي القاسم (والد منصور) فإنه يرهنها، أي يرهن أشجار زيتونه التي هي
مورد عيشه الوحيد، كي يدفع جنيها أجرة لها عن كل يوم، فهو بذلك يرهن من أجلها
قوته وقوت عياله (أشجار الزيتون) فيلقي بنفسه طواعية بين مخالب المرابي المستغل
الحاج عباس!(5)
وقد يبيع أرضه من أجل شراء السلاح، كما فعل أبو عثمان في قصة "ورقة
من الطيرة" وقد أخذ يوزعه على أقاربه، ليقوموا بواجبهم في المعركة، لذلك انقلبت
دكانه إلى مخزن للمتفجرات والأسلحة، وحين يكتشف الصهاينة أمره يفجّر نفسه
بالأعداء كاستشهاديي اليوم.
أما في قصة "العروس" فيبلغ حب السلاح والتعلق به أقصاه، حين يبيع
الإنسان ابتنه الوحيدة، من أجله، فيقبل بتزويجها من عجوز نتن، رفض طوال عمره أن
يزوجه، إياها، ليدفع مهر البندقية، وتستحق اسم (العروس)
وقد بدت لنا شخصية الفلاح (شكيب) في مجموعة "عن الرجال والبنادق"
تتميز بميزة نادرة: هي أنه كان باستطاعته الحصول على السلاح في كل وقت من عدوه
الإنكليزي، حتى في أكثر أيام الإنكليز تعسفا في ملاحقة الأسلحة، كان بوسع شكيب
أن يظل محتفظا "بمسدس أو بندقية أو رشاش." في حين وجدنا (سعيد الحمضوني) قبل
قليل يبيع دمه ليدفع ثمن المدفع! ويوّرث أبناءه ديون المدفع، كما يوّرثهم
طريقته في إيفائها!
وعندما تسدّ كل أبواب السلاح في وجه الفلسطينيين، نجدهم يلوذون
بالفؤوس والرفوش وغير ذلك من الأدوات التي يستعملها الفلاحون في الزراعة (كما
رأينا في قصة "البومة" و"القميص المسروق" و"ورقة من الطيرة") فالعمال العرب
مثلا يصطدمون بالعمال اليهود، بعد قتلهم للحارس العربي، كان سلاحهم الرفش
والفأس، وكان معظمهم جديد على هذا النوع من القتال!
الفلسطيني والسلاح إثر النكبة:
عاش الفلسطيني معاناة التشرد في المخيم، يقهره الجوع، لذلك قدّم
شخصياته الثلاثة في "رجال في الشمس" بعيدا عن السلاح، لأن أحلامهم كانت بعيدة
عن فلسطين، فكانت قمامة الصحراء قبرا لهم!
وفي الفترة نفسها التي كتب فيها روايته السابقة كتب قصته القصيرة
"السلاح المحرم" عام (1961) يبدو لنا كنفاني قبل بزوغ الثورة مهموما بكيفية
تأمين السلاح للثوار، لذلك جعل (أبو علي) بحاجة للسلاح لرد الضباع عن بيته
وقريته (التي لا نعرف لها اسما لكنها تصلح أن تكون معادلا فنيا لفلسطين) وحين
يرى في ساحة القرية جنديا غريبا (ذا عينين زرقاوين:يرمز للآخر المعتدي) ينتزع
منه بندقيته، فيأتي اثنان من أهل قريته لانتزاعها منه! عندئذ يمسك الفلسطيني
البندقية، وتصبح امتدادا ليده، ويقرر عدم تركها حتى لو اجتمعت كل قوى الأرض
لتخليصه إياها، وهو يفضل التخلي عن حياته على تركها "كان واثقا من أن يده
القابضة على البندقية لن تفلتها شياطين الأرض مجتمعة إلا إذا أفلتت يده من أعلى
الكتف…" فقد أحس السلاح وكأنه امتداد لجسده، وعضو من أعضائه!
يلمح كنفاني إلى أن السلاح بات لدى الفلسطيني يشكل ضرورة لا غنى
عنها (لرد الأعداء: الضباع) لكن المشكلة في بعض أبناء القرية (المعادل الفني
لزعماء بعض البلاد العربية) الذين يحاولون انتزاعه منه، كأن السلاح محرّم عليه،
وهذا ما يذكرنا بقصة "العروس" حين ينتزع البندقية أحد الضباط العرب في جيش
الإنقاذ من الفلسطيني (الذي غامر بحياته، وتقدم الصفوف الأمامية للعدو من أجل
الحصول عليها) بدعوى إخبار القيادة عن ورود أسلحة جديدة للعدو، لذلك بدا
الفلسطيني أشبه بمجنون وهو يبحث عنها في قرى فلسطين راكضا وراء الضابط الذي ترك
القرية ومعه البندقية! التي يبيعها لفلسطيني آخر!
أما صاحب البندقية الأصلي فقد بدا لنا إنسانا متميزا (طويل جدا، صلب
جدا، محاط بما يشبه الغبار المضيء) يرتدي ملابس القتال (الخاكية) فقريته (شعب)
تقاتل الصهاينة وهو أحوج ما يكون للبندقية للدفاع عنها، سينهي كنفاني هذه القصة
التي كتبت (1965) بخاتمة موحية، إذ يقول الراوي لصديقه "ابحث معي عنه، حيث أنت،
فلدي أخبار جديدة عن العروس…" فقد حدثت الثورة، ووجد الفلسطينيون مع بدايتها
السلاح الذي يقاتلون به الأعداء.
في رواية "ما تبقى لكم" يمرّ (حامد) في الصحراء، فيحس خواءها وبؤسها
إذ "ليس بوسع المرء أن يحصل على حجر أو على عصا."(6)
ومع ذلك يستطيع (حامد) الحصول على سلاحه بأن ينتزعه من عدوه أثناء
تلاحم مباشر معه، فيرمي بمسدسه بعيدا، ويمسك بسكينه استعدادا لقتله، وفي الوقت
نفسه تمسك (مريم) بسكين المطبخ لتقتل زكريا النتن (المتعاون مع العدو) ترى لِمَ
ركّز كنفاني على استخدام هذا السلاح البسيط، مع أن المسدس كان في متناول حامد؟
لعل الكاتب يريد أن يلمح أن الفلسطيني حين يقف على أرضه الفلسطينية،
يستطيع أن يواجه عدوه بشجاعة وينتصر عليه، رغم بساطة السلاح، وإن كان استخدامه
يحتاج إلى شجاعة أكبر، كما يحتاج إلى التحام مباشر مع العدو! فيحقق إحساسا قويا
بفعل القتل والقضاء على العدو! كما أن استخدام السلاح البسيط في مواجهة العدو
له دلالة إيجابية، إذ باستطاعة كل إنسان الحصول عليه، وبالتالي ممارسة الفعل
النضالي ضد الصهاينة وضد الأعداء الداخليين الذين يخونون الفدائيين (زكريا)
في قصة "صديق سليمان يتعلم أشياء كثيرة في ليلة واحدة" يقدم لنا
الكاتب، إثر نكسة حزيران، مشهدين مختلفين لعلاقة الفلسطيني بالسلاح، الأول سلاح
العدو (البندقية) المصوبة إلى ظهر الفلسطيني، رغم ذلك فقد اكتشف "أنه يضحي أكثر
أمانا كلما اقترب من البندقية، وأكثر عرضة للموت كلما ابتعد عنها." ومثل هذه
الجملة ذات دلالة مزدوجة، فبندقية العدو الملتصقة بظهر الفلسطيني أكثر أمنا من
محاولته الهرب منها! كما أن إحساس الفلسطيني بالأمن حين يمسك ببندقيته أكبر من
تركه لها!
وفي مشهد آخر نجد الفلسطيني نفسه فدائيا يتدرب على التعامل مع
القنبلة، مازال يعيش مرحلة التردد والخوف، لذلك حين يقذفها دون أن تنفجر لا
يجرؤ على التقاطها أو التخلص منها، فينقذه صديقه (سليمان) بأن يصوب عليها
بندقيته!
أما في قصة "حامد يكفّ عن سماع قصص الأعمام" فنجد الفدائي يقذف
دبابة العدو بقذيفة، فيقضي دوي الانفجار على سمعه، يقول له صديقه الذي سئم
نصائح الكبار والكلمات "لا عليك سيمرّ يومان أو أسبوع وسيعود إليك سمعك، ولكنك
لن تنسى أبدا ذلك الصوت، إنه الصوت الوحيد الذي يطمر ما عداه ويدفنه."
يصبح صوت السلاح هو الصوت الوحيد الذي يستحق السماع، أما الأصوات
الباقية (صوت العم الذي ينصح بالابتعاد عن المشاكل، صوت أحذية العدو التي تثير
الرعب لدى العم…) فلا أهمية لها!
وفي رواية "أم سعد" تتحول ساحات المخيم إلى مراكز تدريبية على
السلاح، فنجد الفتى الصغير (سعيد: ابن أم سعد) وغيره يتدربون على السلاح والقفز
فوق النار، لهذا نسمع أحد العجائز يقول: لو فعلنا ذلك من الأول لما ضاعت
فلسطين!
كما تتغير اهتمامات الأب السكير (أبو سعد) فصار يتحدث عن (الكلاشنكوف)
ويفضل أن يطلق عليه الاسم الذي يطلقه ابنه الفدائي عليه (كلاشن) أي نجده يفضل
استعمال لغة المقاتلين! والأسماء التي يطلقونها على السلاح!
جماليات السلاح لدى كنفاني:
بعد هزيمة حزيران بدا إبداع كنفاني أكثر التصاقا بهم الثورة
الفلسطينية، وبأهم تجلياتها: الإنسان والسلاح، وحين نتأمل رواية "أم سعد" نلاحظ
حضور أوجاع المخيم إلى جانب السلاح في معظم فصولها، إذ بات يستخدم لغة جديدة
تبدع وتجسد امتزاج الإنسان بالسلاح بصورة فريدة!
يصف لنا نظرة (أم سعد) المرأة البسيطة التي بدأت تعيش وعي الثورة
"ونظرت إلي مباشرة: ذلك الرمح الذي تسدده في لحظات النبوءة بسرعة الرصاصة
وتصويب الحقيقة."
عرفت أم سعد الطريق الصحيح لفلسطين، لذلك استحقت هذا الوصف الموحي
لنظرتها، الذي يجمع بين النبوءة والحقيقة والسلاح، إنها نظرة المرأة التي بدأت
تدرك حقائق الثورة التي تجتمع فيها التضحية والسلاح! لذلك قدّم لنا لوحة
تشكيلية لنظرتها مستمدة من الرمح الذي ينطلق ليحقق نبوءة جديدة، والرصاصة التي
تنطلق بسرعة في طريقها دون أن تهتم بالمعوقات، ودقة تصويب البندقية نحو الهدف
(الحقيقة) تتحول هذه الأسلحة إلى معادل جمالي لنظرة الإنسان الصائبة! التي رأت
في الثورة طريقا لتحرير الأرض والإنسان!
تتحلّى مثل هذه المرأة بعقد مبتكر يتناسب والزمن الجديد الذي بدأت
تلوح أفقه، إن ذلك العقد هو رصاصة نسيها ابنها الفدائي، ونجدها تدعوه بـ(الحجاب)
بعد أن تحلّت عن ذلك الحجاب الذي كتبه لها الشيخ، ولم ينفعها في شيء! وبذلك
تتحول إحدى أدوات الثورة (الرصاصة) إلى قوة روحية وجمالية، لن يستغني عنها
الفلسطيني سواء أكان امرأة أم رجلا فيحياته الجديدة!
إن المعاناة التي عاشتها المرأة في المخيم أسهمت في تطور وعيها،
فباتت تؤمن بأهمية السلاح في إنقاذ الإنسان والوطن معا! وقد سبقها إلى ذلك
الجيل الجديد الذي حمل السلاح وبدأ يواجه الصهاينة، لهذا وجدنا (أم سعد) تتبنى
وجهة نظر ابنها (سعد) في ضرورة الثورة، وصارت ترى الإنسان الفلسطيني، الذي لا
يحمل سلاحا، ويرضى بحياة الذل! يعيش في سجن سواء أكان ذلك في المخيم أم في
البيت! ولن يستطيع أن يعرف معنى الكرامة والحرية إلا إذا غيّر حياة الذل التي
استمرت مدة عشرين عاما (كتبت رواية "أم سعد" (1969) أي بعد عشرين سنة من
النكبة) لهذا تقول (أم سعد) "أعمارنا حبس، العشرون سنة الماضية حبس، والمختار
حبس…"
إن الحياة الذليلة التي يعيشها الفلسطيني في المخيم سجن لن يخرج منه
إلا من التمس طريقا إلى السلاح ليعود إلى فلسطين! وبذلك يتحول السلاح عند
كنفاني إلى معادل جمالي للحياة الحرة!
وبما أن "أم سعد" امرأة فلاحة لذلك تصف لنا أهمية البندقية (البارودة
) بلغة الفلاحين وأمثالهم الشعبية "البارودة مثل الحصبة، تعدي، وعندنا بالفلح
كانوا يقولون إن الحصبة إذا أصابت الولد فهذا يعني أنه بدأ يعيش، وأنه صار
مضمونا…"(7)
المرأة البسيطة لا تجد طريقة للتعبير عن انتشار السلاح في المخيم
سوى تجاربها اليومية، لذلك كانت البندقية لديها تصيب بالعدوى شباب المخيم كمرض
الحصبة، وكي ينفي الكاتب التداعيات السلبية للحصبة يبرز أهمية هذا المرض معتمدا
على الحكمة الشعبية، إذ يمنح الإنسان القدرة على مواصلة الحياة ويكسبه مناعة،
تضمن له الاستمرار في العيش دون أمراض! عندئذ يطمئن قلب الأم على أولادها الذين
يحملون السلاح، لأنهم بدؤوا يعيشون الحياة الحقيقية محصّنين من الضعف كما
حصّنتهم الحصبة من المرض!
يرتبط حضور السلاح لدى كنفاني بالإنسان البسيط وخاصة الفلاح، لذلك
وجدنا مفرداته وأعماله في الحقل تشكل جزءا من جماليات العلاقة بين الإنسان
والسلاح! فحين يعيد منصور البندقية إلى خاله الفلاح (أبي الحسن) نجده يحملها
بشيء من الحنين يشوبه القلق على سلامتها، يتفقدها كأنها إنسان عزيز عليه، وهو
لا يكتفي بذلك بل يعاملها "كما تعامل أشجار حقله الصغير يقصقص عروقها ويسلخ
فروعها عنها ليطعّم فيها فروعا أخرى، ويرقعها ويشذبها ويملأ نواقصها حتى تعود
كتلة واحدة من جديد."(8)
يرى كنفاني أن أكثر الناس نضالا ضد الصهاينة والإنكليز، قبل النكبة،
هو الفلاح الفلسطيني لذلك أصبحت البندقية جزءا من كيانه، ومصدرا لحياته، نجده
يعتني بها، كما يعتني بأشجاره، يدهشنا في هذا التصوير تلك النظرة الفريدة
للبندقية التي تنطلق من عالم الفلاح الذي يتعامل معها كما يتعامل مع مصدر عيشه
(أشجار الزيتون) وهذا ليس مستغربا على الفلاح الذي صار يجد فيها مصدرا لكرامته!
كما تلفت نظرنا تلك الصور البسيطة التي تبدعها مخيلة كنفاني التي
تستمد عناصرها من مفردات حياة الفلاحين، بل حياة الإنسان اليومية، فرائحة
الرشاش حين يسقى بماء المطر تذكر الفدائي (سعد) برائحة الخبز وقد خرج لتوه من
الفرن، تبتكر لنا مخيلة المبدع صورة مؤثرة للسلاح، إذ يتحول، لدى الفلاح
(الفدائي) الذي يحمله، إلى معادل لرغيف الخبز لا يمكن الاستغناء عنه! ومما شكّل
جماليات هذه الصورة أيضا أنها اعتمدت على حاسة البصر (الرغيف الشهي) وحاسة
الشمّ (وقد خرج لتوه من الفرن) وهي تلبي حاجة أساسية لدى الإنسان (الجوع) وبذلك
يلبي السلاح لدى الفلسطيني حاجة أساسية تعادل الحاجة للطعام هي الحاجة إلى
الكرامة! فيمتزج لديه ما هو حياتي بما هو جمالي، ليصنع إبداعا متميزا!
لعل أنسنة السلاح من أبرز الجماليات التي جسّد عبرها كنفاني العلاقة
بين الفلسطيني وسلاحه، إذ لم تعد البندقية أداة جامدة بيد الفلاح، بل إنسانا
صديقا يحاوره، يقول منصور لها: "أنت مرتينة طيبة، وتصويبك لا يخطئ…المهم في
الأمر أنك أمينة، فأنت لا تخرجين رصاصك إلا من مكان واحد."(9)
يحيط منصور البندقية بجملة أوصاف تلتصق بالإنسان عادة (الطيبة،
الدقة في التصويب، الأمانة…) فهي ليست آلة للقتل وإنما إنسان صديق يؤنس
الفلسطيني في وحشته أثناء سيره في الطريق الوعر إلى قلعة جدين، كما يمد يد
العون في ساعة الخطر، فيصيب العدو وينقذ صديقه (الأستاذ معروف) وهي أمينة لا
تخون صاحبها!
لعل أنسنة السلاح تبلغ أقصى جمالية ممكنة في هذه الصورة، حين يتحول
عضو من أعضاء الإنسان إلى أداة من أدوات المدفع، كما حصل لسعيد الحمضوني حين
وضع يده في ماسورة المدفع ليصلحه فيصبح قادرا على العمل بعد أن تعطل أثناء قتال
الصهاينة! لذلك لن نستغرب أن يربط "الناس صورة المدفع بوجه سعيد الحمضوني
المربع، ولم تعد تجد من يفصل هذا عن ذاك في حديث الدفاع عن (قرية سلمة) بأن
أصبح الآن ضرورة مكملة…بل أساسية للمدفع، وعندما يتحدث الناس عن سعيد كانوا
يشعرون أنه أداة من أدوات المدفع المعقدة."(10)
تبدو عناصر الصورة شكلية تجسد تلاحما خارجيا بين الإنسان والمدفع!
ما إن ينظر الناس في وجه سعيد المربع حتى يذكرهم بالمدفع! كما نجد تلاحما عضويا
آخر بينه وبين المدفع أقرب إلى التلاحم الداخلي، فقد أصبح الإنسان جزءا أساسيا
من أجزاء المدفع، وبذلك يتوحد الإنسان بالسلاح توحدا فريدا من نوعه!
نستطيع القول بأن كنفاني جسّد لنا الروح الفلسطينية في لحظة همودها،
إثر النكبة، وهي تبحث عن ذاتها وعن السلاح! وفي لحظة تألقها وهي تثبت ذاتها
ممسكة به! لذلك ختم القسم الأول من مجموعة "عن الرجال والبنادق" (التي كتبها مع
بزوغ الثورة الفلسطينية (1965) بهذه الخاتمة الموحية التي تجسّد لحظة استشهاد
والد منصور "في ذلك الخلاء المبتل كان منصور يقف عاجزا وهو يرى إلى أبيه يموت
رويدا رويدا دون حركة واحدة، إلا ذلك النبض العميق الذي كان يرجفه، فتبدو عروقه
كأسلاك مشدودة تخرج من كفه وتتوزع في بدن البندقية أيضا، وأخيرا انتفضوا جميعا
معا: الشجرة والرجل والمرتينة، ومن وراء غبش المطر الغاضب، ودموعه، خيل لمنصور
أنهم، ليسوا سوى جثة هامدة."(11)
يقدّم لنا كنفاني عبر هذا المشهد عدة دلالات موحية، فالدم الذي
ينـزفه الشهيد يغذي جسد البندقية، ليمدّها بالحياة، وتتوحد مع الشهيد، فتنتفض
في صحوة الموت معه، بعد أن امتزجت بدمه! ويدخل الكاتب إلى عنصري الصورة (الشهيد
والسلاح) عنصرا هاما يتوحد بهما هو الأرض الفلسطينية، التي اختزلها الكاتب بأحد
رموزها الأساسية (الشجرة) لذلك نجد الصحوة تجمع الفلسطيني والسلاح والأرض كما
تجمعهم لحظة الموت! فلا حياة للفلسطيني بعيدا عن الأرض والسلاح! كما أنه لا
حياة لهما بعيدا عن الشهيد!
الحواشي:
1.غسان كنفاني "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان" دار
الطليعة، بيروت، ط2، 1993، ص40
2.غسان كنفاني (الآثار الكاملة: القصص القصيرة) المجلد (2) لجنة
تخليد غسان كنفاني، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1973، ص808
3.المصدر السابق، ص809
4.المصدر السابق نفسه، ص705
5.نفسه، ص663
6.غسان كنفاني (الآثار الكاملة: الروايات) المجلد (1) دار
الطليعة، بيروت، ط1، 1972، ص204
7.المصدر السابق، ص335
8.غسان كنفاني (الآثار الكاملة: القصص القصيرة) ص636
9.المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها
10.نفسه، ص807
11.نفسه، ص710
أضيفت في01/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
قراءة لقصة:
جدار الصبر
لمصطفى مرار
بقلم الكاتب:
د . فاروق
مواسي
تعتبر قصة "جدار الصبر" لمصطفى مرار (من مجموعة "القطاريز"، سلسلة
الثقافة، 1994،ص75) قصة نضالية مقاومة، وهي تعّبر عن عمق انتماء كاتبها لقضيته-
الأمر الذي يشي بالغبن الذي كان قد مسّ الكاتب في فترة سبقت، فلننصف!
يحدثنا الراوي عن البيارة التي كانت لأبي إبراهيم فأصبحت بظلم ظالم
مُلكًا للخواجا بنيامين.
يعمل في البيارة حميدي- شاب غزّي، ويعمل معه بعض الجنود من اليهود
المسرحين الذين ألحقتهم قوانين العمل والبطالة بهذا العمل، إنهم يشلخون الأغصان
ليسهل عليهم قطف الثمار، ويفغمون قليلا من الحبة، ثم يلقونها، وبذلك فهم
يستهينون بالأرض وثمارها، لأنهم متنعمون لا يهمهم إلا حياة الشواطئ والملاهي.
ومن تصرفهم هذا يغتاظ بنيامين بسبب بخله الشديد، بينما يصعب الأمر على حميدي
لأنه حريص على سلامة الثمر وجماله وعلى الشجر وسلامته؛ فحميدي يتمثل صورة أبي
إبراهيم- صاحب البيارة، وهو جاره في المخيم- حيث زرع البيارة قبيل طرده من
بلده، ولما يطعم منها. وأبو إبراهيم هذا قد غدا اليوم جسدًا هامدًا ليس فيه سوى
عينين جاحظتين.
يُدعى حميدي لكوخ أبي إبراهيم، فيوصيه هذا أن يقطف له كل يوم حبتين
من شجرتين مختلفتين- واحده له وأخرى لزوجته الصابرة. إنه يطمح أن يذوق ثمار كل
أشجارها. يبكي حميدي، ويبكي الشيخ رغم جَلَده.
وتدخلنا القصة جوًا أسطوريًا فيتخيل حميدي أن أبا إبراهيم يطالبه
بأن يبدأ قطف الحب من جهة جدار الصبر- حيث كان صاحب الأرض يصلي ويَـقيل. يختار
حميدي عشوائيًا جبتين سليمتين، بعد أن ناجى الأشجار مناجاة رهيفة. ثم يدعوه
الخواجا بنيامين ليقرأ خبرًا ما في الصحيفة العبرية، ولكنه يعتذر لعدم إتقانه
اللغة، فيهينه الخواجا على ذلك "عرب بدون عقل".
يحاول حميدي أن يثأر لكرامته، لكنه تذكر الحبتين ووجوب تقديمهما
لصاحبهما الحقيقي... وفي أثناء رجوعه اكتشف الخواجا الحبتين، فيتهمه بالسرقة.
ومرة أخرى يحاول أن يثأر لكرامته، لكن البرتقالتين حالتا دون ذلك، وكان مكتفيًا
بالتنفيس عن غضبه:
"من فينا الحرامي يا أولاد الحرام..."
ويغضب حميدي، فيتنازل عن العمل المهين، ويقدم له أدوات العمل، ولكنه
يتحداه بالبرتقالتين، فيرفعهما في وجه الخواجة:
"طق وافقع.... صاحبها أحق منك"
يصل حميدي إلى المخيم، إلى الجسد المسجّى الذي كان ينتظر الأقرباء
لدفنه. يضع في اليد الدافئة حبة، ويناول الحبة الأخرى للزوجة، كان أحد الأحفاد
يتلقفها، فيبتسم له حميدي ويقول له :" إنها من بيارتكم... وهي أحسن الثمار،
والله لكأني بجدك هذا يفضل برتقالته التي في يده على كل ثمار الجنة".
لغة القصة
النص الأدبي أولاً لغة، المهم فيه "كيف نقول" غير غافلين "ماذا
نقول" ، فلنشرع في رحلتنا مع لغة النص.
تبدأ القصة بالآية الكريمة (قطوفها دانية) –الحاقة23- .
يتساءل القارئ الضمني: هنا آية فما علاقتها بالقصة؟
هل يتحدث النص عن الجنة؟
نظرة إلى القصة كلها سنجد أنّ هذه الفاتحة للقصة استقدام لخاتمتها:
"والله لكأني بجدك هذا يفضل برتقالته التي في يده على كل ثمار الجنة". إنه مبنى
قصصي مقلوب (INVERTED
STRUCTURE).
لندخل إلى القصة بمجمل الخزين المعرفي الذي يُكوِن القارئ النموذجي
والعادي –على السواء- قد حصله، والذي يتصوره إمبرتو إيكو في حال الإمكان لدى
القارئ - كلما حثته النصوص على تأويلها وشرحها.
لندخل مسار الأحداث المترابط أو المطرد، عندها سنباشر الألفاظ ،
وندقق في معانيها ، ونوفق بين ظاهر النص وباطنه، وبعدها سنصل إلى مرسلة النص.
راوي القصة هو العليم بكل شيء (Omniscient
narrator)، والسرد بلغته
الملحمية(epic) لا لغة الراوية البطل (Protogonist
narrator).
إنّ الراوي يعلم كيف حصل بنيامين على الأرض، ويعرف كيف يبخل هذا على
نفسه، يعرف كيف يتصرف العمال الجنود، ويعرف أحوال عائلة أبي إبراهيم، يعرف كيف
اختار حميدي البرتقالتين، ويعرف كيف عزم حميدي على الانتقام، وما الذي دعاه إلى
أن يحجم. يعرف كيف عاد إلى المخيم ليحمل الحبتين. حبة للتشبث حتى الموت، وحبة
لليد حتى يظل يرنو للبقاء والتواصل والحلم.
الكاتب هو – من وراء الراوي:
يشحن الكاتب الراوي بالكثير من مواقف الرفض والسخرية، إنه هنا يتدخل
أو يقحم نفسه بالمعنى الإيجابي والفني –حسب رأيي – يعلق السرد على التعبير
"القيم على أملاك الغائبين" و "العدو هو كل من اغتصبت أرضه وأُجلي عن وطنه"،
ولنقرأ عن بنيامين أنه "يرى العمال البيض الأفندية من بني جلدته".
هنا نجد موقف الكتب الذي يرى مظاهر العبودية تسلط على أبناء جلدته
فيستخدم تعبير "النمرود الأبيض" أكثر من مرة للدلالة على الجندي المتغطرس.
الكاتب – ولا أقول الراوي – يعرف
" أنهم حاقدون يفتعلون الفرص للتنفيس عن حقد أرضعوه أطفالاً. ومالهم
لا يفعلون والفرص في عصر الحجارة لا يحدها زمان ولا مكان".
الكاتب يشحن الراوي ويزوده بطاقة – ملاحظاته:
" إن من حق هذا الجندي المسرّح أن يكون آمرًا وسيدًا لا يمد يده
لتناول قشّة... فهو هو الضمان الوحيد الباقي للحفاظ على ما يحقق من الحلم
القوي، ومن ثم المضي في إتمام ما بدأه الآباء البناة الأولون". الكاتب يتقمص
الشخصية الأقوال والمواقف التي ينبذها ويرفضها ويتألم من تكرارها، وهذه الجمل
التي تبدو تقريرية هي التي تُوظّف بصورة حية ودينامية في النص، فلو قرأنا
"أقطعها له لص متمرس..." فإننا نجد في الوصف " لص متمرس" تعبيرًا عن موقف
فيه معاناة شخصية، فيه شتيمة تنطلق من أعماق الكاتب.
يقتحم الكاتب عالم الراوي نفسه فيعرفه أنّ البيارة كانت على مدى
عشرين عامًا تؤتي أكلها ذهبًا وعسلاً، بينما اليد التي حرثت وزرعت وتعهدت ترقد
هامدة. ولعل القول الغاضب: "من فينا الحرامي؟ يا أولاد الحرام... ملعون أبوكم
على أبو اللي كان سببكم..." فيه شحن شحنه الكاتب للراوي فعبأه بالأشجان والغضب،
والأمر ينسحب على تحدي حميدي: " طق وموت !!" كما ينسحب على موقف المفاضلة بين
ثمر البيارة وثمر الجنة.
مرايا النص
أقصد في المرايا ما تنعكس فيه اللغات من تباينات مختلفة لأوجه
متعددة نستشفها من وراء النص، وهذه المرايا تعكس الواحدة على الأخرى دلالات
معرفية واستيحائية من غير إلغاء، ولا إغلاق على الصعيد الرؤيوي. وإليك بعض هذه
المرايا التي استجليناها:
أ- مرآة النص التراثي:
تشير فاتحة النص إلى آية، وهي تناص على حد تعبير جوليا كريستيفا،
والتناص يوحي لنا بكون هذه الأرض جنة ، فيستخدم الكاتب تعبير "النفس الأمارة
بـ.... القطف" فيكسر مألوفية، أولاً في مبنى الآية (يوسف،53) وثانيًا، باعتبار
القطف سوءًا، وخاصة إذا عمد إليه غير صاحبه أو غير أهله.
وفي السرد نرى تصرف بنيامين وهو يحرم نفسه من الثمر طمعًا في بيعه:"
يقول لها مبررًا شح نفسه..." وهذا القول يستدعي ما ورد في القرآن { ومن يوقَ
شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} "الأحزاب، 16"، ولكن أي فلاح هنا سوى كسب مادي
سرعان ما يفنى. والحديث عن "البقعة المباركة" فيه ما يعيدنا إلى قوله تعالى:
{...تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها..}"الأنبياء،81" إنها مصلى أبي
إبراهيم – على غرار مقام إبراهيم - وهو تحويل إجرائي للمعنى الجديد. يضاف إلى
ذلك تعبير "الصابرة" وصفًا لأم إبراهيم، وهو وصف مترسخ بالمفاهيم الدينية التي
تجزي الصابرين صدقهم. بل إنّ حميدي كان يسير في البيارة على "غير هدى" والتعبير
قرآني (القصص،57) و "الهدى" تعبير ديني أصلاً نقله النص إلى معنى العشوائية في
الانتقاء.
ب- الموقف المتهكم:
لا نقع في القصة على موقف تهكمي في معرض الحديث عن عائلة أبي
إبراهيم، أو في علاقة حميدي بنفسه أو بالأرض. وإنما نجد ذلك في العلاقة مع
الآخر، فبنيامين يبتسم للثمرة ويدغدغها، يصف ذلك السارد بنوع من التشفي لأنه
يحرم نفسه من الثمرات السليمة، وعندما يسأل أحد الجنود حميدي: ماذا في يدك؟
"خالها الجندي الهمام حجرًا" فكلمة (الهمام) لها دلالة عميقة تعبّر عن طريقة
النظر إلى الآخر، وكأنه يقولها واضحة "النذل" أو "الجبان".
يقول بنيامين "اسكت عزّاتي أنا لازم بِقرا جريدة (انتبه إلى طريقة
الصياغة المعهودة من قبَل الغرباء للغة العربية)، يتابع الراوي أو من وراءه
"وسكت العزاتي حميدي" وليست لفظة "عزّاتي" العبرية هنا، إلا مثيرة مستفزة
يتلقاها الراوي بتهكم.
وما كاد يصل إلى الكوخ حتى "توقف وكأنّ عشرة من الجنود يتعلقون
بحذائه..." فالتعلق هو بالحذاء ليس إلا، وهذه كلها صور كاريكاتيرية فيها رسم
للحالة الساخرة التي عكستها لغة النص.
ج- بناء
الأسطورة:
من اللقطات الفنية التي نطالعها في القصة ما تصوره حميدي أو تخيله:
"وقبل أن يبلغ
الباب بلغه صوت أبي إبراهيم واضحًا واثقًا قويًا، ولعله كان مدويًا،
فقد خيل إلى حميدي أنّ صدى ذلك الصوت يطلق عليه، بل يخرج عليه من كل الأزقة،
فيحمله إلى هناك – إلى البيارة". قد تكون العودة إلى البيارة تخييلاً وإيهامًا
(باعتبار أنّ أبا إبراهيم كان ساعتها يحتضر)، وقد تكون حقيقة. وأيًّا كانت
فالزمن في تمديده أو تقليصه لا يحول دون أي معنى؛ والفكرة المحورية تصل إلى –
عشق الأرض، واستمرار الخلف لنهج السلف في تشبثهم بالأرض والوطن. وفي وصف طريقة
اختيار حبّتي البرتقال ما يبعث على هذا الجو الغرائبي ولو في طريقة مناجاة
رومانسية:
"أغمض عينيه وراح يدور بين الأشجار على غير هدى، ثم مدّ يد، فقطف
حبّة عن يمينه وأخرى عن شماله ، وفتح عينيه، فعرف الشجرتين، فيجعل لكل منهما
علامة على جذعها.
د-
ملء الفراغ أو الفجوة:
يتحدث النقاد الغربيون الجدد من ياوس وآيزر وبارت وغيرهم عن مقومات
التلقي واستعداد القارئ لمواصلة بناء النص. ولعل مصطلحات " الإزاحة " و " ملء
الفراغات " من أكثر المصطلحات المترددة. فملء الفراغات هو تفعيل للقارئ
بالمشاركة..... إنه استمرار تخيّلي للمبنى المصوغ؛ وقد لاحظت استخدام النص له
في كثير من جمله، منها:
يوصي أبو إبراهيم حميدي ويقول له "لا تبك يا ولدي" ، وهنا نستنتج
أنه كان يبكي، ونستنتج كذلك أنّ العامل يتعاطف مع جاره. يواصل أبو إبراهيم
"انظر انظر إنني أنا أنا لا أبكي، وأدارَ الرجل القوي وجهه إلى الحائط".
يبدع الكاتب في هذه اللقطة التصويرية، ويزيد من دراميتها تكرار
(أنا). وفي النتيجة لم يقل إنه هوى باكيًا، وإنه ضعف بل كنى عنها - "وأدار
الرجل القوي وجهه إلى الحائط" ، وبالطبع فلفظة "قوي" بما فيه من مفارقة زمنية
ومعنوية تحمل أكثر من معنى التعاطف.
ولننظر كيف كانت اللغة في وصف " النيّة في قتل بنيامين":
1." كانت يده ما زالت تقبض على المقص الذي قطف به الحبتين ضغطت عليه
....عصرته" وبالطبع فإنّ القارئ يدرك مدى غيظ حميدي ...وهو يملأ العبارات
الناقصة بما يجعلها واضحة المؤدّى... لماذا ضغطت يده؟ لما عصرت يده المقص؟
ويتدرج الراوي (Stair
case) في الوصف " رفع
المقص إلى فوق الرأس " وهذا تلميحٌ أوضحُ للشروع في مبتغاه.
2.انثنى حميدي وخطا نحوه (نحو بنيامين) خطوتين، لكنه مرة أخرى تذكر
أبا إبراهيم. " خطا خطوتين" تعبير يستدعي القارئ أن يواصل خطواته للوصول إلى
المعنى... وإلى السبب والنتيجة.. ولماذا تذكر أبا إبراهيم؟
إنّ القارئ هنا مدعو لملء الفجوات.
ومن الجمل الكنائية التي تستلزم ملء الفجوات في النص:
" ونظر بنيامين في وجه حميدي بعينين حالت زرقتهما إلى لون الرمادي"
وهذا بالطبع يوصلنا إلى شدة غضب بنيامين، وإلى أنّ له عينين زرقاوين – رمز غالب
للأوروبي الطارئ على الأرض، وقس على ذلك الكثير!
ه-.
ملامسة الواقع:
يحوي النص موافقات واقعية "فالعصر عصر الحجارة" – أي الانتفاضة،
وأهل المخيم يعبرون من "محسوم إيرز" بشق النفس بعد أن يطاردهم الجنود، والجنود
"لا يتورعون من اصطياد الفرص للتحرش ولإيقاع الأذى". يصف الراوي أجواء المخيم:
"بعد صلاة الفجر وحين العامل الغزي حميدي يغادر كوخه، نادته أم
إبراهيم من فوق الجدار الذي يفصل بين الكوخين".
تضاف إلى ذلك التعابير العبرية في مبنى النص " شطحيم، محسوم، عزاتي،
معلم، قطيف" واللكنة العبرية":
"اسكت عزاتي أنا لازم بقرا جريدة"، "خمور"، "خرامي"، "أنت مش بشوف"
وهذه كلها تؤكد صدقية الموقف ووصف الأجواء التي تطور فيها النص.
ويبقى استخدام التحدي "طق وافقع..."أبلغ، لأن له لغة الانبثاق
العاطفي والمعايشة اليومية وفيه تنفيس مباشر. و. التضاد في الموقف
لاحظ البلاغيون أنّ التضاد يرسخ المعنى، وقد لاحظت كثيرًا منها على
مستوى الصورة والموقف خاصة.
إن بنيامين من جهة - يحافظ على الثمر طمعًا بالكسب، وعماله الجنود
يهملون الشجر والثمر، بينما نجد من جهة أخرى، حرص أبي إبراهيم – صاحب الأرض –
على تذوق ثمره وجنى يده، أمّا جاره حميدي فيحس معه بالحميمية والمشاركة
الوجدانية العميقة.
•حميدي يعمل عند اليهودي طلبًا لرزقه، وهو يجد المتعة في البيارة،
ويراها بعيني أبي إبراهيم، بينما يظل حميدي في نظر بنيامين خادمًا ومتنفسًا
لغضبه (الغضب على العمال اليهودي الذين يعبثون بالثمر) فهذا ينكر عليه أن يأخذ
برتقالتين، يهينه، ويتهمه بالسرقة.
•أبو إبراهيم يبدو لنا في القصة جسدًا مسجى ضعيفًا متهاويًا، بينما
كان هو نفسه في الاسترجاع (flashback)
بطلاً "سيد من ضرب المورة... والذي كان يقعر في اليوم الواحد خمسين جورة" ،
والقصد هو أنه يحفر حول أشجار البرتقال. وبالطبع ففي ذلك مدعاة للألم
والمشاركة الوجدانية "فارحموا عزيز قوم ذل".
•أبو إبراهيم يتشبث بالأمل ويتفاءل بأنه سيأكل من ثمرات الأشجار
كلها رغم كونه في الرمق الأخير، بينما بنيامين يأكل من الثمر الذي "تحت أمه"
طامعًا بالكسب فهو يأكل ما لا يباع فقط. وتبقى شخصية حميدي نصيرًا للحق ذائدًا
عنه ، نجده في الخاتمة معلمًا وهاديًا للجيل الجديد بأن يواصل المسيرة. وحتى في
الحديث عنه نجد تضادًا، فعندما يصل إلى المخيم يحس وكأنّ عشرة من الجنود
يتعلقون بحذائه، ولكنه عندما يصل إلى كوخ أبي إبراهيم يكون مرفوع الرأس.
ويظل عنوان "جدار الصبر" دلالة حيّة على استمرارية البقاء. إنه صبر
الأرض ثمرًا ومعنى، يحمل الرسوخ والتجذر والانتظار الصابر حتى الفرج.
أضيفت في01/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
من دفاتر الشعر الفلسطيني المقاوم
عرسٌ هي الأرض النشيد
بقلم الكاتب:
طلعت سقيرق
في صيرورة النشيد، وفي امتداد الأغنية المعبأة برائحة الجذور وعمقها، تأتي
الأرض لتكون العرس والزغرودة والصوت والمدى، ذلك أن الفلسطيني يداخل حب أرضه
بكثير من الصوفية العالية الذاهبة حتى الشريان توحداً وعناقاً.. وما يوم الأرض
الذي انطلق صرخة مدوية في الثلاثين من آذار عام 1976 م ـ مطلقاً عرس شهدائه:
خير ياسين، رجا أبو ريا، رأفت الزهيري، خديجة شواهنه، خضر خلايله، ومحسن طه ـ
إلا المرآة التي عكست بصدق وفاعلية شدة تعلق الفلسطيني على مرّ الزمان بهذه
الأرض التي ما تعودت إلا إخلاص أبنائها لها وإن كان مهر هذا الإخلاص دماً
وروحاً ودفق شريان.. ولأن صوت الأرض لا ينام، كما شدة العلاقة معها لا تنطوي،
فقد كان الاحتفاء بيوم الأرض احتفاءً دائماً ومع كل دقيقة على مدار العام، إلى
جانب الاحتفاء في الثلاثين من آذار كل عام، وليس هناك انفصال أو فضل بين هذا
وذاك... فكما نحتفي كل عام بعيد الأم في الحادي والعشرين من آذار، مع احتفائنا
اليومي المستمر بالأم، كذلك نذهب في علاقتنا مع الأرض التي لا يمكن إلا أن تكون
الأم والحبيبة والعمر كله.. والحديث عن الأرض، ويوم الأرض،يأخذنا مباشرة إلى
الشعر الفلسطيني المقاوم، بل الأدب المقاوم كله، حيث عماد المقاومة قائم على
الحق الفلسطيني بأرض فلسطين، هذه الأرض التي تزداد امتداداً في الجسد الفلسطيني
يوماً بعد يوم مع امتداد الدم الفلسطيني شهادة وعطاء لا ينضبان.. وقد بقي الشعر
الفلسطيني المقاوم ملتصقاً بأغنية الأرض وعشقها معبراً خير تعبير عن علاقة
الشاعر الفلسطيني بأرضه التي تحولت لتكون خفق قلب وتحليق روح ونغم وجدان، فهي
الحب والحبيبة والدم والعصب والتاريخ والأهل وكل الحكايات... انتقلت الأرض
لتكون مؤنسنة في قاموس الشعر الفلسطيني، فلا شيء يضاهي حضورها وامتدادها في هذا
الشعر..
عند الدخول إلى دفاتر هذا الشعر المشتعل حباً بأرضه، نجد الكثير من الامتداد
الخصب الثر، والفاصلة الأولى، أو قل البداية، تأتي مع الشاعر سليمان دغش الذي
يحاول التوحد مع الأرض والذهاب في عطرها ونبضها حتى النهاية، يقول: "مخدتي
زهرْ/ وفرشتي حشائش برية/ والبدر قنديل السمرْ/ وأنت لي أغنية/ إن جعت آكلُ
التراب/ وأمضغُ الحجرُ/ وإن عطشتُ أوقفُ السحابْ/ وأنزل المطرْ "ثم" أصابعي
شجرْ/ ومهجتي صخرية"/ وأنتِ لي القدرْ/ يا أرضُ والهويهْ"، فهذا التداخل مع
الأرض يحاول قدر المستطاع إلغاء المسافة، ليكون الشاعر هو/ الأرض، ولتكون الأرض
هي/ الشاعر... والمتابع لمفردات سليمان دغش يلحظ إلى هذا التماهي المطلق مع
مفردات الأرض...
مثل هذه العلاقة المتميزة مع الأرض نجدها عند الشاعر الراحل هايل عساقلة حيث:
في موطني عشق الصبايا قاتل
والعشق مثل مياهه لا ينضبُ
إن يسقط الشهداء فوق تلالنا
ويقدموا ماتشتهي أو تطلبُ
فالعشق علمهم بأن ترابنا
أغلى من الرمق الأخير وأعذبُ
هذا الشاعر الذي رحل مبكراً بعد أن أصيب بمرض عضال، كان يتعامل مع حبه لأرض
فلسطين بشكل ساحر غريب... ولست أدري لماذا تستوقفني كثيراً مسألة "الرمق
الأخير"، عند هذا الشاعر وهو يداخل حب الأرض... وأسأل في كثير من الأحيان: هل
هناك أهم وأعذب وأغلى وأقرب من هذا الرمق الأخير؟؟... إنه كل ما تبقى... فانظر
إلى عساقلة وهو يجد أن عشق الأرض، وتراب هذه الأرض، أغلى وأعذب من هذا الرمق
الأخير...
ومرة أخرى، وكما بدأت أجد أنني عندما أذكر شدة العلاقة بالأرض أتذكر مباشرة
الصديق الشاعر سليمان دغش الذي اتصل بي هاتفياً قبل أيام من الوطن المحتل ليرسل
لي عبر البريد الإلكتروني آخر ما كتب من شعر.. أذكره في مقطع أعتبره من أجمل
الشعر الذي قيل عن علاقة الإنسان بأرضه وحبه لها يقول فيه: "لماذا حاولوا قتلي/
لماذا حاولوا فصلي/ عن الأرض التي انتشرت على جفنيَّ منديلاً/ من الأزهار
والعشبِ/ لماذا حاولوا فصلي/ عن الأرض التي التحمتْ على قلبي/ جناحاً ناعماً
الزُّغبِ/ لماذا حاولوا التفريقَ/ بينَ العين والهدبِ" ثم "سلوا الزيتونَ/
فالزيتونُ يعرفني/ ويشهدُ أنَّ ذا وطني/ وأني راسخ "كالصخرِ/ كالزيتون كالعنبِ/
سلوا الأشجارَ/ والأحجارَ/ إن شئتمْ/ فكلُّ الأرض تعرفني/ وكل الأرض
تعشقني...".
في هذا المقطع الكثير من الحرارة والحب والعلو في وصف علاقة الإنسان مع أرضه..
وسليمان دغش يمهر شعره بالكثير من الوجد الصافي العذب.. حبه للأرض يجعله يغرس
بصماته غرساً في كل ذرة تراب، حتى تتحول البصمات إلى قناديل عشق تتلألأ عطاءً
في سماء الوطن المعشوق...
في هذا المسار من حب الأرض أتذكر الشاعر مصطفى مراد في قصيدته "الأرض" وأتذكر
مقطعاً يقول فيه: "تكونين ملء الفضاء... وملء السماء وأكبر../ من كبريات
الأماني/ تكونين حين ترابكِ يفلتُ منكِ/ فتدخلُ ذرّاتهُ في عيوني/وأغلى
وأغلى../ تكونين أيتها الأم يا جرحنا النازفا/ ضماد الجروح/ تكونين كيف تكونين
صاخبة ثائرهْ/ وهادئة صابرهْ/ تكونين بلسم روحي/ فما شئتِ كوني.." ..لأجد أن
التواصل يبقى تواصلاً وجدانياً رائعاً مع كل مفردة يوردها الشاعر... وجميل
الشعر الفلسطيني المقاوم في الوطن المحتل أنه يصر هذا الإصرار العالي الجليل
على علاقته الدافئة مع أرضه، وعلى تداخله اللا نهائي مع هذه الأرض..
في قصيدة "وأبي أوصى بتفاح الجليل" يرى الشاعر هايل عساقلة أنه الأرض في كل
نبضة وعرق، حيث: "أنا من بلاد العشق من هذا الثرى/ جبلت ضلوع الصدر والجفن
اكتحل" ثم في قصيدة "أرض البطولات:
وتنمو الدوالي على راحتي
وظل الدوالي على منكبي
وتشدو العصافير صبحاً وعصراً
ويعصف سهل الثرى معشب
ثمَّ في قصيدة "عرس":
ذي فلسطين التي نعبدها
وسواها جنة لا نعبد
كل نجم في سماها قبلة
كل شبر في ثراها عسجد
بنيت من أضلع ساحاتها
وعلى الصدر تعالى المسجد
إنه الحب الفلسطيني والحب هو الحب، ومثل هذه العلاقة القوية المتميزة بالأرض،
استدعت أن يصر الإنسان العربي الفلسطيني على البقاء والثبات بكل شكل ممكن،
فالأرض الفلسطينية تنادي إنسانها بلغةِ الشجرِ والتراب والماء لكي يصمد أكثر،
ولكي يتشبث بكل حبة تراب حتى آخر رمق. من هنا هذه الإصرارية على هوية البقاء
والثبات، من خلال الإصرارية على هوية التحدي والصمود.
في وتيرة هذه الإصرارية، يرى الشاعر منيب فهد الحاج في قصيدته "معاذ الله أن
نرحل" إن البقاء والثبات يشكلان معنى الإنسان الفلسطيني، حيث: "هنا باقون لن
نرحل/ سنبقى فوق هذي الأرض نحيا لا نفارقها/ ففوق ترابها أجدادنا درجوا/
وغذّوها بدمهم/ فصارت كنزنا الأكبر/ فهل نرحل؟؟../ سنبقى فوق هذي الأرض نزرعها/
ونحميها بأضلعنا/ ونعشقها/ لتبقى حبنا الأمثل/ هنا باقون ولن نرحل.."...
فالمسافة تسجل حضور عدة صور في نسق واحد متلاحق، لتقول في مجموعها ببقاء
الفلسطيني وصموده فوق أرضه في مواجهته الاحتلال. حيث:
/البقاء الذي ينفي أي رحيل، أو إمكانية مجرد التفكير بالابتعاد عن الأرض..
فالفلسطينيون هنا باقون/ وسيبقون فوق الأرض الفلسطينية طوال حياتهم لا
يفارقونها.. وطبيعي أن تكون المقولة مقولة واقع يعيشه الفلسطيني ويمارسه حيث
تبرز كل يوم الوقائع القائلة بأن الثبات شريان الشعب العربي الفلسطيني.
/الامتداد الذي يمثل الحق التاريخي الواضح.. ويمكن لأي قارئ أن يرى إلى الأجداد
الفلسطينيين وهم يكتبون على صفحة التاريخ كيف درجوا على أرض فلسطين العربية،
وكيف سجلوا حضورهم وتواجدهم المتواصل منذ القديم، وكان لهم بطبيعة الحال أن
دافعوا عن هذه الأرض وسيجوها بضلوعهم ودمائهم ضد أي عدوان.
ـ /الإصرار الذي يأتي نتيجة طبيعية لعلاقة الفلسطيني بأرضه، وهو إصرار على
البقاء والفداء والعشق... لتكون الأرض في كل حركة محور الصورة عند الفلسطيني.
مثل هذه الصورة نلتقي شيئاً من ألوانها في قصيدة "قراءات في عيون حبيبتي"
للشاعر عبد الناصر صالح الذي يقول: "لماذا سأرحلْ/ وأتركُ وجهك عنّي بعيدا/
فكَوني بقربك أجملْ/ لماذا أغوصُ ببحرِ الجراح/ وعيناك بحري الكبيرُ
المفضَّلْ".. فالشاعر يطرح سؤالاً سريعاً يثير الكثير من الشجن" لماذا
سأرحل؟؟". وهو لا يجد الإجابة في نفي الرحيل كما هو متوقع بل يأخذ في مد خيط
الشجن حتى آخره، حيث يرى أنه "إن رحل" سيترك وجه فلسطين بعيداً عنه.. وهو ما
يجعله يرتد بسرعة إلى صوته الداخلي المصر على أن وجوده بقرب فلسطين/ الحبيبة
الأجمل.. ولا داعي للغوص في بحر الجراح.. ويصل إلى صورته القريبة إلى نفسه"
"وعيناك بحري الكبير المفضل "ليسلِّم كل الصور إلى هذه الصورة الزاهية..
طبيعي أن هناك الكثير من الإشارات النفسية القائلة بإصرار الشاعر عبد الناصر
صالح على حبه الأكبر لفلسطين. وإذا كان طرح السؤال جارحاً، فإنه من جهة ثانية
يأتي ليؤكد على انفتاح كل الشرايين على الفرح بعناق الأرض حين يأخذ الشاعر في
الدخول إلى عالم العطاء المتجدد عندما تكون عينا الحبيبة البحر الكبير المفضل.
يعود صوت الشاعر منيب فهد الحاج ليؤكد مرة أخرى على الصمود والثبات في قصيدته
"شعبي الصامد" حيث: "صامد كالطود شعبي/ صامد يأبى المذلة والهوان/ راسخ
كالسنديان/ مثل زيتون الجليل..." لتكون مفردة الرسوخ دليلاً على هوية متجددة
للفلسطيني الذي يصر على كتابة قصيدته بأحرف البقاء. وهنا أبرز الشاعر مفردات
الطبيعة لتشكل معاني هذا الرسوخ والثبات معطية كل دفع وشحن، فالشعب صامد
كالطود.. راسخ كالسنديان.. ومثل زيتون الجليل.. لذلك فهو يأبى المذلة
والهوان".(*).
أختم هنا بمحور الشهادة وعلاقتها مع الأرض حيث أخذت بعداً هاماً، جراء تقديم
شعب فلسطين الشهيد تلو الشهيد مواكب نور على طريق تحرير وخلاص أرض فلسطين من
محتلها.. ونبدأ من قول الشاعر عبد الناصر صالح"، "إن التراب يريد دماءً/ تغذي
جذور الربيع/ وتفرش درب النضال المثابر"، وطبيعي أن تصل مثل هذه الدعوة الطالعة
من عمق الأرض إلى الإنسان الفلسطيني، ليسجل حضوره المباشر الفاعل... وكانت صرخة
الإنسان الفلسطيني مليئة بالصدق حين انطلقت على لسان الشاعر هايل عساقلة في
قصيدته "لو ضمني هذا الثرى كفناً"، حيث:
إن تسألوا نبع من الكوثر
وطني وبستان" من الصعتر
وحجارة" من مرمر صقلتْ
فتمايلَ الياقوتُ والمرمرْ
فثراك حفنةُ أنجمٍ ولذا
لو ضمَّني كفناً فلن أخسر
ومن جديد نسمع ما يقوله الشاعر عبد الناصر صالح في قصيدته: "الصهيل" حيث: "دمي
سال على وجه الترابْ/ ولم يزل هناك ترتوي الأشجار منه/ تحتمي به الطيور من
مخاوف الدمار والحريقْ".
ويقولها الشاعر سميح صباغ في قصيدته "ملح الأرض أنتم" حيث:
يا أيها الشهداء ملح الأرض أنتم والبذارْ
مذ كنتُمُ عادت إلى الدنيا طبيعتها
وكانَ البدءُ والإخصابْ
والإزهار والإثمارْ
عادت نحو مجراها الجبالْ
وتساقطَ الثمرُ الرديءْ
ويقول الشاعر هايل عساقله في "عرس" حيث:
نتلظى ودمانا تشهدُ
مطلع الفجر وقد لاح الغدُ
نحن لبينا فيا أرض اشهدي
لحمنا في كل درب يشهد
كم عقدنا مهرجاناً للضحى
من ضحايانا وقمنا ننشد
إنها الأرض، أرض فلسطين الحبيبة ويومها المشتعل أبداً بدم شهدائها.. ولأن الأرض
مشغولة مزروعة بكل هذا العطاء الخصب، فلابد أن يكون يومها ممتداً حتى إشراقة
شمس حرية لا تغيب...
المراجع والهوامش:
ـ اعتمدت الدراسة كمراجع لها الكتب التالية:
"الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني" ـ طلعت سقيرق ـ اتحاد
الكتاب العرب ـ دمشق 1993...
"عشرون قمراً للوطن" ـ طلعت سقيرق ـ دار النمير/ دمشق 1996..
و"الانتفاضة في شعر الوطن المحتل" ـ طلعت سقيرق ـ دار الجليل/
دمشق ـ 1999..
*الفقرة عن كتاب
"الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني"...
أضيفت في01/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
دلالات المكان في الرواية الفلسطينية
بقلم الكاتب:
زرياف المقداد
المكان رائحة التكوين الأولى في رحم الحياة
المكان ذاكرة الجمرة الأولى للجسد
المكان رائحة الأرض والبرد في ليالي الشتاء
دبيب الأرجل الصغيرة على الحصى
خطوات الريح فوق تراب البيادر
وصوت أمي إذ يغشاني البرد والحزن والأسى
المكان هو دلالة الوجود الإنساني.
ولأنهم يعون معنى ارتباط الإنسان بالمكان، فإنهم منذ الأزل يساومون الشعوب على
أوطانهم...
هكذا هم أكلة الحجارة والناس...
يرتبط الإنسان بالمكان ارتباطاً وثيقاً... شعورياً ولا شعورياً، ويترجم هذا
الارتباط بوسائل عدّة... فيبني على غرار من سبقوه في أرضه، ويزرع كزرع من مروا
قبله فوق وجه الأرض، يودع رحم الأرض ذكرياته... ويرسم على جدران بيته آهاته،
تلحق به شوارع المدن والقرى أنى ارتحل.
ورائحة الحضارة الإنسانية لشعبه تعلق بثيابه وتعشش في أفكاره ووجدانه.
فهو ابن مكان ما من هذه الأرض.
لذلك فإن أكلة الشعوب الذين يعون معنى ارتباط الإنسان بالمكان مارسوا كل
الوسائل التي يعيها ولا يعيها العقل البشري لترحيل الإنسان عن وطنه، وفي حالات
أخرى يعمدون على إبقاء الشعوب في أوطانهم ومع محاصرتهم في أفقر المناطق من أجل
استغلال الموارد الطبيعية، ولكن الأخطر من ذلك هو سياسة تغيير المعالم الخاصة
للأمكنة حسب ما ترتئيه أطماعهم.
ومن هنا كنا نلاحظ أنهم عندما غزوا الشعوب الآسيوية والأفريقية والهندية سلبوهم
أعواد القصب، والأكواخ والقش والحيوانات... دمروا قواربهم في الأنهار، وحاربوهم
بأسلحة متطورة أمام أسلحتهم البيضاء...
وعلى مر السنين عمدوا إلى تغيير معالم الشخصية الفردية للإنسان في محاولة
لدمجها في المجتمع الذي يبغون...
مجتمع مبني على أساس التفاوت والطبقية مع الاستفادة القصوى من طاقات العقول
البشرية النيّرة، وهذا هو الملاحظ...
فالإحصاءات تكشف عن أرقام حقيقية لنخبة هم صفوة العقول البشرية وهم بالتأكيد
علماء وأطباء ونخبة علمية متميزة من تلك الشعوب وهم في جامعات المجتمع الجديد
الذي يفرضونه.
ومع ذلك فإننا نلاحظ أنه حتّى العالم فيهم الذي غُرِّب عن وطنه وهو لم يعيه إلا
في ذاكرته وربما الذاكرة هي من نسج الحكاية... لديه طقوسه الإنسانية الخاصة
والتي تعبر عن حضارة شعبه كطقوس الزنوج في إحياء القصدير أو شوارع أوروبا أو
كطقوس الهندي في الشوارع الأمريكية.
أمَّا أشرس أكلة الشعوب فهم العقل المدبر لكل هؤلاء.
إنهم الصهاينة.
نهج معاصر يحكم ويقرر معتمداً على دراسات منهجية وعلمية في محاولة لسلخ الشعوب
ولسحقها في كافة أصقاع الأرض وتخويل كل ممتلكات الشعوب في الأرض لخدمتهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يعتمدون على شعب حقيقي له جذوره وتاريخه وأصالته له
حضارته وأمكنته الخاصة به؟
والإجابة بكل بساطة لا تتعدى أنهم يدفعون المال لمن يعتنق الديانة اليهودية
التي أصبحت صهيونية وليست ديانة سماوية، ويدفعون المال ليرحِّلوا المرتزقة عن
أمكنة خاصة بهم ليس لديهم أي ارتباط بها في محاولة لخلق ارتباط جديد لهم
بالأمكنة الجديدة وهي مكان محصور حالياً في فلسطين، ومستقبلاً واضحاً هي أطماع
في المنطقة العربية بأسرها. هم يعملون لتسخير كل ما فيها لصالحهم.
إن الحدود التي يبغون وجودها يخلقونها خلقاً في الأرض بتغيير معالمها "في ذلك
اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً "لنسلك أعطي هذه الأرض من مصر إلى
النهر الكبير نهر الفرات"(1) وهنا أحاول بإشارات سريعة أن أحدد فيها معالم
الشخصية الصهيونية التي بنوها منذ عمدوا إلى تغيير ما في كتبهم المقدسة إلى
اليوم الحاضر وما هي علاقتها بالمكان.
"مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل إلى الأبد" المزمور 106.
"الذي ضرب أمماً كثيرة وقتل ملوكاً أعزاء" المزمور 135.
"وأعطاهم أراضي الأمم وتعب الشعوب وورثوه" المزمور 105.
لا داعي لأنَّ أضيف شرحاً فوق ما يقولونه صراحة، بل لأن حكاية حضارتهم المزعومة
تعتمد على أساطير شعبية متوارثة لدى معظم الشعوب. إذاً الشخصية الصهيونية مبنية
على أساس استلاب الأرض، وادعاء الحق فيها.
وهم يعمدون إلى بث أيديولوجيا عنصرية فاضحة... ولا أدل على ذلك ممَّا يفعلونه
اليوم في فلسطين. وكما تشير استطلاعات الرأي العام في أغلب دول العالم فإن
الشعوب تعتبر إسرائيل أكبر قوة مهددة للسلام في العالم. "والوجود الإسرائيلي
العدواني ليس مجرد حصيلة للانحطاط العربي المزمن والعلاقات الدولية المعاصرة بل
هو في شكل تعبيره المجتمعي عن ذاته نمط تكيف الظاهرة اليهودية"(2).
إنه شكل صريح من أشكال محاربة الوجود الآخر مهما يكن، وترحيله عن مكانه وسلبه
معالم شخصيته الفردية والجمعية.
وهذا الصراع لم يكن صريحاً على أرض الواقع إلا عام 1948 عندما انتقل حيّز
المشروع من المفاوضات والأسهم الموزعة والحصص في الأرض الفلسطينية إلى التطبيق
العملي باستخدام السلاح وإعلان الوجود الصهيوني صراحة أمام العالم في الأرض
الفلسطينية وفرضه على الرأي العام العالمي.
المشروع كان ورقاً في الأزقة المعلنة وغير المعلنة للساسة الغرب وبذلك عمدوا
إلى سلب الأرض والمكان وبدأ الصراع يأخذ أوجهاً حقيقية.
لا نستطيع أن نقول ماذا فعل الناس هناك ولا كيف سحب البساط من تحت أرجلهم وكيف
دفعوا بقوة هائلة نحو الزوارق المنتظرة على الشاطئ.
ما يمكن أن يقال أن التسجيل الواقعي الذي زخر به الأدب هو الذي أعطى الصورة
الحقيقية عمَّا جرى...
فالأديب الفلسطيني هنا لا يروي حكاية عاشها، ولا يبدع قصة متخيلة للقارئ أنه
يعيش ذاتية مجتمعه... كيف كان وماذا أصبح الحال عليه.
إن من أبرز خصائص الشخصية الفردية هي المكان، وتعتبر وحدة المكان هي من أبرز
خصائص الشخصية القومية العربية، التي يراهنون عليها منذ الأزل.
إذ يقوم الغزو الصهيوني على استلاب المكان وتغيير معالمه والخطورة تكمن في أنهم
يعملون على مسح هوية المكان وتغيير معالم المدن والآثار الإسلامية، بصورة معلنة
أو خفية.
وهذا ما نراه اليوم على أرض الواقع... تغيير معالم القدس والأقصى يافا حيفا...
كيف كانت وكيف أصبحت...
والسؤال الذي يطرح نفسه هل اشتغل الكاتب الفلسطيني على المكان في وعيه أم في لا
وعيه؟
أهو وعي حقيقي ظاهر يعتمد على موضوعية متكاملة في العمل الأدبي المقدّم؟ أم هو
حالة فردية يطرحها كل كاتب بصورة محايدة؟
وهذا يقودنا إلى التأكيد على أن المكان المستلب في الرواية هو حالة عفوية
مقصودة تعبر عن ظاهرة نفسية وعقلانية تعيش في وعي الإنسان الفلسطيني وهي بصورة
جلية تعتمد على فكرية ثورية لدى الكاتب الفلسطيني، وتعالج ظاهرة المكان
ودلالاتها النفسية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية على المجتمع كظاهرة عامة
وعلى الفرد كظاهرة خاصة. هي بالتأكيد جزء من الظاهرة العامة وتتحمل بجدارة
تأثيرات الاستلاب والغربة والتشرّد على الظاهرة المجتمعية.
هناك أمكنة لا واعية في ذاكرة طفولية للكاتب قد تكون معاشاة للذين ولدوا هناك
ورحلوا، وقد تكون ذاكرة فردية هي جزء حميم من ذاكرة جمعية لشعب وحضارة واحدة.
وهنا وعي آخر هو محاولة استرجاع المكان ومعالجة سيرورته في العمل الأدبي.
فإذا حاولنا تتبع أشكال المكان في الروايات ودلالات العرض والتناول فإننا نجد
أنفسنا أمام أمكنة صريحة وأخرى مضمرة، وكل له دلالاته الخاصة في تحريك العمل
الأدبي وبالتالي التعبير عن ذاتية المجتمع التي يحاول الصهاينة طمسها...
هناك حالات في ترميز المكان وأخرى في وصفه وثالثة في آلية الحركة المكانية،
وربما الأجمل هو جماليات المكان في وعي الكاتب وعلى ألسنة أبطاله وشخوصه.
يتناول هذا البحث معالم المكان ودلالاته في ثلاث روايات غسان كنفاني وروايتين
ليحيى يخلف كأنموذج عن الرواية الفلسطينية.
اعترف لغسان كنفاني بخصوصية رائحة المكان في أعماله الروائية، ومع ذلك أجد ذلك
التماهي والتناغم العظيم بين ما هو فردي وما هو عام.
ماذا يطرح غسان كنفاني في رواياته الثلاث عن علاقة الإنسان الفلسطيني بمكانه؟
والروايات هي: رجال في الشمس... صدرت عام 1963 في بيروت.
رواية ما تبقى لكم... صدرت عام 1966 في بيروت.
رواية عائد إلى حيفا... صدرت عام 1969 في بيروت.
رجال في الشمس ليست مجرد ظاهرة البحث في التشرّد والابتعاد عن المكان، ومحاولة
البحث عن الأمان في أمكنة جديدة... إنَّما هي تساءل صريح كيف يموت الفلسطيني
على عتبات التشرّد والضياع.
وتبدو أحداث الرواية ضمن حيز مكاني مجرد واضح هو /الخزان/ صريح التعبير واضح
الحدود والمعالم.
ولكن ما هي دلالة هذا المكان؟
الخزان مكان رمزي يتسع لكل أشكال المكان حسب تداعيات الشخصيات الثلاث المحصورة
فيه الخزان كمكان مجرد هو بكل بساطة صهريج ماء ولكنه في نص الرواية ينطوي على
دلالات عدّة.
فهو تارة يمثل السجن الكبير الذي حوصر فيه الفلسطيني إثر التشرّد واستلاب كل
شيء منه.
وتارة يمثل الضياع والتشرّد بحد ذاته ضمن حدود ضيّقة... محصورة تكتم على أنفاس
بشرية تتطلع نحو الحلم بالخلاص من الاستلاب والغربة... وتارة هو الأمل بالخلاص
الوهمي...
ولكنه في النهاية حقيقة مرّة واقعة...
وهو خزان ضيّق الحدود... يخزن كل أشكال التشرّد والضياع للإنسان ولا يتسع لهذا
المد المترامي من الغضب الحقيقي داخل تلك النفوس البشرية التي قدم منها غسان
كنفاني ثلاث نماذج هي أسعد ومروان وأبو قيس.
وهي تمثل شرائح المجتمع الفلسطيني المر إثر النكبة...
والسؤال الشرعي الذي يطرحه غسان كنفاني على لسان أبو الخيزران "لماذا لم تدقوا
جدران الخزان"(3).
إن هذه الجدران التي التصقت بها قطرات الندى للرجال الثلاث والذين ماتوا بصمت
فاضح هادر عبر صحراء عربية ممتدة تبتلع كل شيء بصمت نازف... هذه الجدران كان
يجب أن تدق، ليعلن منها عن الموت الذي هو حقيقة حتمية داخل هذا المكان الرمزي
والذي يمثل أماكن التشرد والضياع محصورة في حدود ضيّقة بائسة.
لماذا يقبل الفلسطيني به كمكان آني في محاولة يائسة للبحث عن مكان بديل لأشجار
الزيتون أو للكوخ الطيني أو لحياة أفضل ممَّا هي عليه، وكأنه قَبِلَ بواقع
الهزيمة وعليه أن يدفع الثمن، بأن يبحث عن بديل لمكانه. عندئذ يكون مصيره
المحتوم هو الموت!!
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض، الأرض التي تركتها منذ عشرات
سنوات"(4).
إن المكان هنا إشارة حميمة عن حالة يرتبط فيها الإنسان بمكانه في الماضي(5)،
والأرض هنا ندية كأنها امرأة ندية تتسع لكل التعب المضني، ولكل العذاب والتشرّد
والقلق الذي يساور الإنسان، ولا يجده إلا في امرأة منتشرة وندية تماماً مثلما
هي الأرض.
وفي موضع آخر يشير إلى القرية، وإلى موت الأستاذ سليم الذي كان له الحظوة عند
ربه، ولأنه مات في أرضه قبل يوم واحد من سقوط القرية بأيدي اليهود "وبذلك وفّرت
عليك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار، يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم،
ترى لو عشت، ترى لو أغرقك الفقر كما أغرقني، أكنت تفعل ما أفعل الآن، أكنت تقبل
بأن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة
خبز"(6).
ثمَّ في موضع آخر يستند إلى ذكريات القرية والأستاذ وابنه ومدرسته وأم قيس، وثم
يتوج هذا الحنين لذاك المكان بقوله "احتجت عشر سنوات كي تصدق أنك خرجت من
بيتك"(7).
هنا كما نلاحظ القرية مكان له دلالات متعددة أهمها دلالة المكان الشامل الذي
يضم الماضي والحاضر والمستقبل والعلاقات الوشيجة بينها الحالات الثلاث للإنسان
في مثل هذا المكان.
وهو في الواقع مكان ثابت ولكن حالة ارتباط الإنسان فيه في المتغيرة حسب الزمن.
والكويت والصحراء هما مكانان رمزيان عن الغربة والضياع.
الشخصيات الثلاث محصورة في داخل الخزان والخزان في وسط الصحراء، وهي مكان واسع
مترامي الأطراف والكويت نهاية الصحراء والخزان. وكلّها سجن صغير فأكبر فأكبر في
سبيل الأمان الذي يبحث عنه الإنسان دوماً في حال تغرَّب عن مكانه الرحم.
"وراء هذا الشط فقط توجد كل الأشياء التي حرمها، هناك توجد الكويت، الشيء
الوحيد الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصوير يوجد هناك"(8).
إذاً الكويت مكان حلم ليس له علاقة بالواقع، وعلاقته تبدو ذهنية بحتة لأنها تدل
في إطار التصوير الذهني البعيد عن الواقع الذي عاشه أو يأمل أن يعيشه، أيضاً
نلاحظ محاولة مقارنة هذا المكان في الواقع مع ذات المكان في ذهنه، ويبدو أن
المكان في الواقع والمكان المأمول في حالته الذهنية كلاهما ما زال في ذهنه
كفكرة خيالية تعبر عن كبت داخلي يحاول به التخلص من واقعه المرير.
"لابدَّ أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء، سماء ليست مثلما تحوم في رأسه
المكدود، لابدَّ أن ثمَّة أزقة وشوارع ورجالاً ونساء وصغاراً يركضون بين
الأشجار... لا... لا توجد أشجار هناك"(9).
أصبحت حالة المكان المقارن بين ما هو متوقع "الكويت، وبين ما هو حقيقي"، مكان
الماضي القرية"، "فقال أنه لا توجد هناك أية شجرة، الأشجار موجودة في رأسك يا
أبا قيس، في رأسك العجوز التعب. يا أبا قيس عشر أشجار ذات جذوع معقدة كانت
تساقط زيتوناً وخيراً كل ربيع ليس ثمَّة أشجار في الكويت(10).
هنا يعطي تفاصيل للأشجار... ليست كأي أشجار هي فقط أشجار خاصة بقريته. بل
أشجاره هو، أشجار من الجنة تساقط زيتوناً وخيراً.
الكويت قفر، وعطش وصحراء قاحلة. الكويت فقط أرض سوداء للنفط ولا تزرع شجراً ولا
تنبت خيراً.
المكان عند الرجل العجوز مكان تتمثل بدلالة أشجار الزيتون.
إن محاولة تتبع مفاصل الحوار التالي ترشدنا إلى أنها دائماً في حالة تيه منذ
خرج من بيته. ما زال في حالة البحث عن مكان مستقبلي يشبه تماماً مكان الماضي،
والمكان في الماضي لا يمكن أن يصبح لديه مكان للذكرى لأنَّه ما زال حيّاً فيه.
"ماذا ترين يا أم قيس"؟.
حدقت إليه وهمست "كما ترى أنت".
سيكون بوسعنا أن نعلم قيس "نعم"، و"قد نشتري عرق زيتون".
"طبعاً".
"وربما نبني غرفة في مكان ما".
"أجل"(11)
ولكن فجأة ينقطع حبل الحلم لديه، ويصطدم بالخوف والمرارة. بالواقع المرير "إذا
وصلت... إذا وصلت..."(12).
وكأنه واثق من النهاية.
وربما نتساءل هل تختلف دلالات الأمكنة باختلاف الشخصيات الروائية؟
ماذا تمثل الكويت بالنسبة لمروان، ولأسعد الشريكان الآخران في رحلة الموت هل
كذلك تمثل الخلاص.
تقول أم مروان عن أخيه زكريا "إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلّم الإنسان
لأنَّه ترك المدرسة حين ترك فلسطين"(13).
إن الرحيل عن الوطن الذي يتمثل بالبيت والمدرسة والأم هو تخلي عن الذات والغوص
في المجهول.
وهذا ما فعله زكريا... ترى هل يلحق به مروان ليجد مستقبله هنا؟
مروان لا يريد التخلص من بيته، ولا يريد التخلي عن أمه لأنَّ أمه تعني الوطن
لديه وزكريا تخلى عن أمه، فهو قد تخلى عن وطنه، لكن المرارة أنه تخلّى عنه أبوه
وأخوه... وما زالت أمه تنتظر رجوعهم. لذلك عليه أن يتحمل المسؤولية.
هل يستطيع برحيله إلى الكويت هل تمثل الكويت بالنسبة له حلاً لمشاكله؟
هو يعتقد مثل أبا الخيزران أن كل شيء ضاع.
"عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يتقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة
بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن
وتباً لكل شيء في هذا الكون الملعون"(14).
وهنا إشارة إلى أن الضياع الحقيقي هو ضياع الإنسان عن وطنه.
وهو يدفع ثمناً لضياع الاثنين بابتلاع الصحراء له.
كما نلاحظ في موقع آخر إشارات واضحة إلى سياسة التقسيم التي مزّقت الأرض
الواحدة "كان قد بدا رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه ومن غزة، عبر إسرائيل،
عبر الأردن، عبر العراق... ثمَّ تركهم في المهرب في الصحراء"(15).
وتطرق الكاتب إلى بعض الأمكنة الوظيفية التي يمكن اعتبارها أمكنة ظرفية تخدم
الحدث الروائي وتسلسله مثل البصرة وفندق الشط.
وفي تطور الحالة الروائية واقترابها من حالة التوهّج نلاحظ أن المكان أصبح
مرهوناً بواقع الزمن الخارجي وتطوّر الأحداث التاريخية وبين الزمن الداخلي الذي
يحسب بالثواني والدقائق، وكأنها ساعات داخل الخزان.
ما مدى توافق الحالة الزمانية الخارجية للمكان مع الحالة الزمانية الداخلية
للمكان؟ في الواقع أصبح المكان واحداً وآلية الزمن متحركة بفعل الحدث الذي يتوج
بزمن مستنزف لمن هم داخل الخزان داخل السجن المحصور في صحراء كبرى هي واقع
الأنظمة العربية.
هو زمن مستقطع، مستعرض لا يعرف كيف يمضي لمن هم خارج الخزان زمن مقتول في
الداخل والخارج.
الزمن العربي كما يقدمه غسان كنفاني في رواية رجال في الشمس.
(رواية ما تبقى لكم)
عندما تصبح الشخصيات أمكنة رمزية متداخلة دون حدود جغرافية.
لا يوجد في رواية ما تبقى لكم انتقال فعلي للمكان محسوس من قبل القارئ... إذ إن
تغيرات المكان فجائية ولا تسقط القارئ في بحر المفاجأة بقدر ما تنقله انتقالاً
هادئاً يتبع حالة البطل أو الراوي أحياناً. وهذه الحالة إما نفسية أو جسدية
متغيرة بتغير طقوس حالة الجسد تبعاً للمكان وصفاته.
ما تبقى لكم أبطالها الخمسة هم حامد وزكريا ومريم كائنات بشرية، أمَّا الصحراء
والساعة فهي كائنات غير بشرية لها صفات بشرية في كثير من المواقع... إذ اعتبر
الساعة والصحراء كائنات حيّة تارة وأخرى أمكنة لها صفاتها وتفاعلها مع البطل في
حالته الراهنة.
أيضاً سواء أكان اعتبار الصحراء والساعة أمكنة رئيسة، أو البيت والشوارع
والمعسكر أمكنة مساعدة. كلّها كانت تفرز الحدث المبرر للشخصية، وتصبح الشخصيات
هنا أمكنة رمزية متداخلة، دون حدود.
قادرة على استيعاب الآخر، ولكل شخصية أبعادها الإنسانية التي تصب في خانة الهدف
الروائي.
إن كل من الأبطال الثلاثة هو مكان رمزي بالنسبة للآخر.
إذ يمثل زكريا سجن لمريم ولحامد...
وتكون مريم سجن لحامد...
وكذلك حامد هو سجن لمريم...
كيف يكون التداخل بينهم والتناغم الحقيقي الذي حققه غسان كنفاني في هذه
الرواية.
يقول غسان كنفاني "لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو الأزمنة
المتباينة، وأحياناً بين الأزمنة والأمكنة في وقت واحد"(16).
هذه إشارة إلى توحّد الزمان والمكان عند البطل، وإلى أن عملية الانتقال بين
الأمكنة ليست ظاهرية، وإنما هي عملية داخلية تتبع دلالة الحدث في المكان.
الصحراء: مكان صفاته العامة: الامتداد، الضياع، الشمس الحارقة الأهداف.
أمَّا الصفات الروائية الخاصة لهذا المكان أي الصحراء فهي بثلاث حالات عبر ثلاث
مراحل، وتبدو كمقدمة لعلاقة حامد بالصحراء.
والحالات الثلاث هي الرؤية الظاهرية ـ المشاركة والتواشج ـ الاندماج.
وبتتبع الحالات الثلاث نجد
الحالة الأولى ـ الرؤية الظاهرية:
"وفجأة جاءت الصحراء... رآها لأول مرة مخلوقاً يتنفس على امتداد البصر، غامضاً
مريعاً وأليفاً في وقت واحد، يتقلّب في تموّج الضوء الذي أخذ يرمد منسحباً خطوة
خطوة أمام نزول السماء السوداء من فوق"(17).
الصحراء هنا مخلوق عجيب /ممتد/ الامتداد هنا تقاطع مع الصفة العامة. غامض ومريع
وأليف... تناقض في الصفات، يصلح لكائن بشري يشبهه ويشاركه وحدته عبر الامتداد.
الحالة الثانية ـ المشاركة والتواشج:
تتحوّل الرؤية الظاهرية لهذا الامتداد إلى إحساس بمشاركته وتواشجه وتناغمه مع
البطل والاحتواء/ لقدرة الصحراء على احتوائه بتناقضاته... "واسعة وغامضة،
ولكنها أكبر من تحبها أو تكرهها"(18).
لم تكن صامتة تماماً (وقد أحسّ بها جسداً هائلاً يتنفس بصوت مسموع)(19).
المرحلة الثالثة ـ الاندماج
"وأمامه على مد البصر، تنفس جسد الصحراء، فأحس طأح بدنه يعلو ويهبط فوق
صدرها"(20).
والاندماج يأخذ هنا شكلين:
1 ـ جسده كجسد الصحراء كائن ممتد واسع غامض.
2 ـ جسده وروحه داخل الصحراء وخارجها "طأح بدنه يعلو ويهبط فوق صدرها".
والحالة الثانية هي التي تنبئ منذ بدء الرواية عن مصير حامد.
فالصحراء ستقتله أو تحتويه أو تبتلعه أو يصبح هو هي...
هنا دلالة عن احتواء المكان الممتد وهو الصحراء لحامد المسجون. حامد يخرج من
سجنه إلى فضاء الصحراء رغم أنها ستأكله ولن يعود "عندها فقط عرف أنه لن يعود"
وهي وحدها خلاصه.
والصحراء المكان تتبدى بوجوه عدّة حسب الشخصية. فهي لزكريا ستقتل حامد "إن
الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليلة واحدة"(21).
نعود لحامد الذي يعتبر الشخصية المحورية في الصحراء. إذ نجد أن الصحراء تتغير
حالتها متواشجة مع حامد وتلك تعتبر صفات جمالية للصحراء، فقد كانت في البدء
مخيفة والآن هي كائن بشري "سقط الظلام تماماً الآن، سقطت معه ريح باردة، صفرت
فوق صدر الصحراء كأنها لهاث مخلوق ميت، ولم يعد يدري ما إذا كان خائفاً، فثمة
قلب واحد كان ينبض ملء السماء في ذلك الجسد المترامي على حافة الأفق"(22).
الآن يدرك أن المكان الذي يحتويه أصبح هو، ولم يعد ثمَّة إلا هو والمخلوق
الموجود معه "وفجأة ذاب الخوف وسقط، ولم يعد ثمَّة إلا هو والمخلوق الموجود
تحته، وفيه ويتنفس بصفير مسموع، ويسبح بجلال في بحر من العتمة المرصعة"(23).
إذاً الصحراء كمكان انطوى على دلالات عدة. فهي تارة قادرة على الاحتواء /التحام
جسده بالصحراء/.
وقادرة على الحماية /تخلصه من الخطر القادم/.
وهي امرأة عذراء يعب جسده رائحة نداها.
وهي الموت.
ولكنه يختار حبها وسجنها الكبير لأنها حريته من سجنه الأكبر وهو ذاته، وتراكمات
التهجير والغربة التي عانى منها بفقدان أمه من ناحية، وبفقدان مريم من ناحية
أخرى. على الرغم من رغبته التخلّص منها "ليس ثمَّة من تبقى لي غيرك"(24).
وحامد مسجون بحدود كثيرة. على لسان زكريا "عليه أولاً أن يجتاز حدودنا ثمَّ
عليه أن يجتاز حدودهم، ثمَّ حدودهم، ثمَّ حدود الأردن، وبين هذه الميتات الأربع
توجد ميتة من الميتات الأربع هي الصحراء"(25).
مريم كشخصية محورية في الرواية هي سجن حامد "أين ستذهب" قالتها وتركت فمها
مفتوحاً كأنها تريد أن تقول له أنه لا يستطيع ـ سأذهب إلى الأردن عن طريق
الصحراء".
ـ تهرب مني؟(26).
ممَّا يهرب الإنسان؟ أليس من سجنه يهرب!!
مريم سجن حامد لأنَّه تحمّل مسؤوليتها على حساب أحلامه ومستقبله لضياع أمه
ورحيلها واستشهاد والده وهو الصغير.
الصغير الذي سيكبر ويدرك ماذا حلّ به وبها. لماذا؟ لأنَّ الاحتلال واستلاب
المكان لم يبقِ له شيئاً.
"لو كانت أمك هنا".
لو... لو... منذ ستة عشر عاماً وهو يقول لها الصبية... الصبية"(27).
إن الخيارات الطبيعية تتبدى للإنسان عندما يعيش حالته الإنسانية الطبيعية دون
ضغوط خارجية فرضها التشرّد والاغتراب. ومريم بقية أنثى مسجونة في حقيبة حامد.
ومسجونة في نظرة زكريا الخائن.
لماذا يفرض هذا السجن القسري عليهم جميعاً؟
لأنَّ الخيارات أصبحت معدومة. والحياة بالنسبة لهم جميعاً تسير باتجاه واحد...
وهو الخيار الوحيد لهم جميعاً "ما تبقى لكم".
أظنه الموت كما أراد غسان كنفاني أن يقول.
لقد أجبر حامد على الخروج إلى الصحراء، وأحسّ أنه دفع لذلك بفعلة مريم "لقد
خدعاني معاً، ثمَّ طرداني وأنا غارق في عارها"(28).
زكريا خائن، وهو سجن مريم حين غدر بها. وسجن حامد، إذ غدر به وبسالم من قبل.
وقد طرد حامد من أماته. من بيته. وهو لم يطرد صراحة بل أجبر على ترك المأمن
بفعل العار الذي لحق به فيه وهو غير قادر على حماية نفسه أو غيره أو شرفه في ظل
احتلال المكان من قبل زكريا الخائن الأكبر ومريم الخائن الأصغر لماذا؟
لأنَّ الإنسان عندما يستلب منه مكانه يفقد الأمان وهذه البيوت أصبحت لا تحمل
معناه الحقيقي أصبحت بيوتاً واقعة في العراء مكشوفة للريح.
"أنت زوجنيها أو لا تفعل، فلست أنا الذي أخسر"(29).
"أنت لا تريد طردي أليس كذلك، سيقولون أنك طردت الرجل الذي..."(30).
"أنا أدلكما على سالم "وقبل أن يفعل تقدم سالم، وهي طلقة واحدة فقط فيما أخذنا
ننظر إلى
زكريا" (31).
لماذا يجعل الكاتب تداخل الحالتين. أي بين اكتشاف حامد لخيانته من قبل زكريا
حين وشى بسالم، وحين اكتشف أنه خانه بفعلته مع مريم؟.
إن مبدأ الخيانة هنا واحد...
إن خيانته للمكان الذي يحتويهم جميعاً /أي للوطن/ تساوي خيانته للبيت الذي كان
سكانه يستقبلونه باطمئنان له.
إلا أن سالماً فوّت الفرصة عليه وتركه ينضح بعاره. فماذا فعل حامد؟
في موقعين متباعدين في الرواية يذكر غسان كنفاني "وهي طلقة واحدة. فيما أخذنا
ننظر إلى
زكريا" (32).
"وهي طلقة واحدة وراء أنفاس الجدار"(33).
أهي ما تبقى لي ولكم؟
أجل الموت ما تبقى لي ولكم. زكريا يُقتل بيد مريم لأنَّه خائن حتّى العظم، حتّى
لذاك الذي زرعه في أحشائها، وحامد يقتل الجندي في الصحراء كناية عن قتله لزكريا
وانتقاماً لقتل سالم.
ماذا عن ارتباط الزمان بالمكان في رواية ما تبقى لكم؟
الزمان مرهون بالساعة، والساعة تساوي الوقت وتساوي السجن وتساوي الموت البطيء.
وهي ليست أكثر من نعش علقه حامد على الجدار في البيت الواقف في العراء. البيت
الذي فقد ركيزتيه الأب والأم. فماذا بقي فيه؟
"لقد منحتني هذا النعش علقته أمامي"(34).
الزمن رتيب ويكاد يكون ثابتاً حتّى رحيل حامد حيث قتل رتابة الزمن المرهون
بالمكان وهو البيت "ولكن خطواتك هي التي ستظل إلى الأبد تقرع حوله، هذا هو
النعش الصغير المعلق سيحتوينا
جميعاً" (35).
من الملاحظ أن الوقت كان مقتلاً للجميع إلى أن بدأ حامد رحلته باتجاه المجهول.
أصبح الزمن في يافا في البيت بين زكريا ومريم له طعم خاص والزمن لحامد له طعم
آخر مرهون لكل منهم بمكانه.
ولكن النهاية ربَّما هي الموت للجميع والموت عن الموت يختلف.
فالمكان كان رهين اللحظة الزمنية وماذا تخبئ.
ثمَّ عندما التقى الغريب أصبح الزمن لا أهمية له عنده "والقصة كما ترى، قصة
مسافة ليس غير، وربما زمن آخر أيضاً وحسناً ولكنني لا أكترث كثيراً بالزمن كما
ترى"(36).
"لقد تحول انتظاره إلى مستنقع بلا قرار، وأضحى الزمن خصماً فيما بدا حامد
جامداً عاقداً العزم على البقاء ها هنا حتّى النهاية"(37).
إذا الموت ولا الرحيل.
الرواية الثالثة في التسلسل الزمني هي عائد إلى حيفا.
نلاحظ هنا المباشرة في الطرح والحلول والأمكنة واضحة والانتقال ليس فجائياً بين
الأمكنة أو الأزمنة.
كما نلاحظ أن الدلالة المكانية واسعة الأبعاد.
كنا في أمكنة رمزية وتأويلية في رجال في الشمس وما تبقى لكم، ونحن الآن نتتبع
خطوط المدن والشوارع والبيوت وتفاصيلها في ذاكرة حيّة تروّي تفاصيل المكان.
مدينة تملأ أنف سعيد وزوجته، وتعلّق تفاصيلها في ثيابهما.
"حيفا هذه إذن بعد عشرين سنة". للمدينة وصف مباشر في زمنين متعاقبين. قبل وبعد
عشرين سنة.
والرهان على التغيير إلى أن أقسموا على إحداثه في المدينة لتغيير معالمها،
وكأنهم أكثر قدرة على الإحساس بالمكان وجماليته وأكثر أمناً على المدن من
أصحابها.
لكن الأمر يبدو مختلف هنا تماماً "فالأبواب يجب أن تفتح من جهة واحدة وإن تعددت
الجهات يجب اعتبارها مغلقة "وعندما ترغب برؤية مكانك الأول لا يمنعونك من ذلك
فأنت ليس لديك الحرية أو الخيار في ذلك "أنت لا ترينه، إنهم يرونه لك" لأنَّ
التخلي عن المكان مهما كانت الأسباب مدعاة للاعتراف بعدم أحقية الرجوع إليه إلا
بانتزاعه ممَّن سلبوه لأنهم يفرضون عليك حتّى حدود الرؤية.
ومع ذلك لا يستطيعون أن يروا لك ما يريدون فقط. ذاكرتك تنعق بما تريد أنت وتعيش
فيها أسماء الشوارع كما هي وكذلك الأمكنة الصغرى منها والكبرى "وادي النسناس،
شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير... الحليصة، الهادار"(40).
وهذه الأسماء لأمكنة حقيقية واقعية من ذاكرة أمة وقد ذكرها غسان كنفاني على
سبيل التأكيد، أن المكان في الداخل لا في الخارج كما يريدون هم.
فالأمكنة هي ذاكرة شعوب وأمم لا مجرد ذاكرة أشخاص. هنا لا تستطيع كل قوى العالم
محو ذاكرة الشعوب، فالشوارع ليست مجرد أسماء مجردة بل ذاكرة الشعوب فوقها مهما
تغيرت معالمها "فالشوارع بالنسبة له لم تتغير أسماؤها بعد"(41).
وهنا نلاحظ في هذه الرواية أن الكاتب يتعرّض إلى تفاصيل دقيقة وحميمة في المكان
لأنَّه الانتماء الحقيقي، هو ظاهرة الوجود الإنساني. وإذا فقدَ الإنسان تفاصيل
مكانه من الذاكرة فقدَ انتماءه وبالتالي فقدَ هويته، وهذا ما يراهن عليه
الاحتلال /تغيير معالم المكان بكل الوسائل كي يختفي من ذاكرة الإنسان العائد/.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا عن تفاصيل المكان لعائد مثل خالد لم يلد أصلاً في
المكان حتّى تتشكل لديه ذاكرة فيه أو عنه؟
إلى ماذا يعود خالد... ماذا لديه في ذاكرته كي يعود باحثاً عنه.
هل يعرف مثلما يعرف أبواه عن تفاصيل البيت عن الدرج عن خربشات أقلام الرصاص؟
ماذا يعرف عن أعواد ريش الطاووس التي بقيت شامخة؟ هل رآها؟
أمَّا خلدون فقد ولد هناك "ولكنهم هم الذين صنعوه، لقد علموه عشرين سنة كيف
يكون يوماً بعد يوم ساعة بعد ساعة مع الأكل والشراب والفراش... انتهى الأمر لقد
سرقوه"(42).
إذاً المقارنة واضحة. والأمر يتعلّق بقضية كبرى هي محاولة سرقة الإنسان، لأنَّ
الإنسان ليس هو وليد المكان فقط بل الإنسان وليد قضية مرتبطة بالمكان.
لقد سرقوا ولده خلدون وأحسنوا تربيته بما يتوافق مع تطلعاتهم وزرعوا فيه
مستقبلاً خاصاً بهم.
وأما خالد فالغربة والضياع وفقدان الهوية المرتبطة بالمكان والتاريخ ورائحة
الإنسان في مكانه كل ذلك هو ما يحمله في ذاكرته.
يحمل ذاكرة والديه وذاكرة الشهداء وذاكرة المدن المهجرة. لذلك عليه أن يعود
بحثاً عن الدرج الذي يصعد به إلى البيت والشرفات المطلة على الفناء الخارجي نحن
هنا أمام مسألة هامة تنطوي على إمكانية البحث. إذاً يمكننا البحث عن جماليات
المكان وعن رائحة المكان وعن الزمان كيف يشكل المكان.
1 ـ هناك وصف لحركية المكان قبل عشرين عاماً ويقارنها مع نفس آلية الحركة بعد
عشرين عاماً.
2 ـ وهنا كناية عن أن العائد سعيد لا يقبل التخلّي عن تفاصيل الحركة في مكانه
كدلالة عن وجوده الحي فيه وإن غادره "ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماماً،
خفّف سرعة سيارته إلى الحد الأدنى قبل أن يصل إلى ذلك المنعطف، الذي يعرف
تماماً أن سفحاً صعباً يكمن وراءه... وانعطف بسيارته كما كان يفعل دائماً،
وتسلّق السفح محتفظاً بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق. وكانت أشجار
السرو الثلاث التي تنحني قليلاً فوق الشارع قد مدّت أغصاناً جديدة، ورغب أن
يتوقف لحظة كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن، ويكاد يتذكرها واحداً
واحداً"(43) إذاً العودة تعني عودة المكان بنفس آلية الحركة المعبّرة عن وجوده
كإنسان في مكان مرتبط فيه نفسياً وعاطفياً وجسدياً.
3 ـ وهناك الصورة الحية لذاكرة المكان بساكنيه كما كان. فهو يطل عليه بعد زمن
ويجده كما هو "وفجأة أطل المنزل، المنزل ذاته، ذلك الذي عاش فيه، ثمَّ عيشه في
ذاكرته طويلاً، وها هو الآن يطل بمقدّمة شرفاته المطلية باللون الأصفر. ولوهلة
خيّل إليه أن صفية، شابة وذات شعر مجدّل طويل، ستطل عليه من هناك، كان حبلاً
جديداً للغسيل قد دق على وتدين خارج الشرفة، وتدلّت منه قطع بيضاء لغسيل جديد.
وفجأة أخذت صفية تبكي بصوت مسموع، أمَّا هو فقد انحرف إلى اليمين، وترك عجلات
سيارته تصعد الرصيف الوطيء. ثمَّ أوقف السيارة في المكان الذي لها، كما كان
يفعل ـ تماماً ـ منذ عشرين سنة"(44) هنا إصرار واضح على أن ذاكرة المهجر مازالت
تحتفظ بالصورة الحية ذاتها للمكان.
4 ـ عندما يصاب الإنسان بالعمى فإنه يضيع في أمكنة لا يعرفها، أمَّا مكانه الذي
يعرفه فهو يدركه ببصيرته ويحفظ تفاصيله الصغيرة. وبذلك هو يعرف اتجاه الباب،
ومكان الجرس وعدد الدرجات وإن فقدَ أحدها اختل توازنه.
5 ـ وهذا ما يحاول غسان كنفاني الإشارة إليه هنا بأن الأشياء الصغيرة في المكان
بقدر ما نعرفها تعرفنا هي ولا تنكرنا إذا تخلينا عنها وأنكرناها، وفقدانها يعني
فقدان التوازن والمعرفة برائحة المكان وهويته. وهو يؤكد على خصوصية هذا البيت
في ذاكرة سعيد وزوجته صفية "أمسك بذراعها، وإذ يقطع بها الشارع: الرصيف،
البوابة الحديدية الخضراء، الدرج. وبدأا يصعدان، دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة
النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستضعه تفقده اتزانه: الجرس،
ولاقطة الباب النحاسية، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء،
والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلَّم المقوس الناعم الذي تنزلق
عليه الكف، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأول حيث كان محجوب
السعدي يعيش، وحيث كان الباب يظل موارباً دائماً، والأطفال يلعبون أمام الدار
دائماً، ويملأون الدرج صراخاً، إلى الباب الخشبي المغلق، المدهون حديثاً،
والمغلق بإحكام"(45).
إن المسألة التي يطرحها غسان كنفاني هنا في غاية الأهمية، إن علاقة الإنسان
بالمكان ليست مجرد ملكية الأشياء التي يحتويها المكان بل الأمر يتعدى ذلك إلى
قضايا أكثر جوهرية، فالمكان مرتبط بجماليته الخاصة عند كل فرد إذ يرى الكثيرون
أن أجمل البيوت هي القصور والبعض يرى الخيام فلماذا هذا التفاوت بالنظر إلى
جماليات المكان.
الأمر بكل بساطة هو خصوصية المكان بذكرياته وربما بالأحلام على جدرانه لأنَّ
الرؤية هي داخل وجدان الفرد"... واستطاع أن يرى أشياء كثيرة اعتبرها ذات يوم
وما يزال، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائماً ملكية غامضة مقدّسة لم
يستطع أي كان أن يتعرّف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقاً. ثمَّة صورة للقدس
يتذكرها جيداً ما تزال معلّقة حيث كانت، حين كان يعيش هنا. وعلى الجدار المقابل
سجادة شامية صغيرة كانت دائماً هناك أيضاً. وأخذ يخطو ناظراً حواليه، مكتشفاً
الأمور شيئاً فشيئاً، ودفعة واحدة، كمن يصحو من إغماء طويل. وحين صارا في غرفة
الجلوس استطاع أن يرى أن مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له.
أمَّا المقاعد الثلاثة الجديدة فقد كانت جديدة، وبدت هناك فظّة غير متّسقة مع
الأثاث. وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها. وإن كان لونها قد صار
باهتاً، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب، وفيها تكومت
أعواد من ريش الطاووس، كان يعرف أنها سبعة أعواد. وحاول أن يعدّها وهو جالس
مكانه إلا أنه لم يستطع، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة، كانت
خمسة فقط"(46).
يتطرق غسان إلى قضية فارس اللبدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا أراد غسان كنفاني من سياق القصة في تسلسل
الرواية؟!
ينطوي ذكر قصة فارس اللبدة على لسان سعيد لزوجته على دلالات عدّة سنأتي على
ذكرها لاحقاً والحكاية تقول أن فارس اللبدة عاد إلى بيته وظنّ أنَّ يهودياً
استولى على بيته، إلا أنه وجد عربياً فيه. وذلك العربي كان قد وجد نفسه محاطاً
بالمكان القفر من البشر الذي رحلوا، ولكن صورة بدر الشهيد وهو شقيق فارس اللبدة
كانت قد أجبرته على الوفاء لبيت دون سواه بعد أن دمّر بيته "يبدو لي أن يكون
الإنسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطن شيئاً ثميناً لا يمكن
الاستغناء عنه. ربَّما كان نوعاً من الوفاء لأولئك الذين قاتلوا. كنت أشعر أنني
لو تركته لكنت ارتكبت خيانة لا أغتفرها لنفسي. لقد ساعدني ذلك ليس على الرفض
فقط، ولكن البقاء... هكذا ظلت الصورة هنا. ظلت جزءاً من حياتنا أنا وزوجتي
لمياء وابني بدر وابني سعد وهو، أخوك بدر، عائلة واحدة عشنا عشرين سنة معاً.
كان ذلك شيئاً مهماً بالنسبة لنا..."(47).
وأراد فارس اللبدة أن يستعيد البيت فوجده بيد من هو أحق منه به. بيد عربي رفض
الرحيل ولو على جثته. فقرر استعادة الصورة من باب الوفاء لأخيه... ومع ذلك وجد
أنه لا يحق له الاحتفاظ بتلك الصورة لأنَّ مكانها الحقيقي حيث يرقد صاحبها
"وصار على الطريق المتّجه نحو رام الله وعندها فقط انتابه شعور مفاجئ بأنه لا
يملك الحق بتلك الصورة"(48).
وأما الرجل الذي كان قد احتفظ بالصورة والبيت طوال تلك الفترة فقد أصابه الندم
لأنَّه تخلّى عنها فقال له حين أعاد الصورة "شعرت بفراغ مروّع حين نظرت إلى ذلك
المستطيل الذي خلفته على الحائط. وقد بكت زوجتي، وأصيب طفلاي بذهول أدهشني. لقد
ندمت لأنني سمحت لك باسترداد الصورة، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن. عشنا
معه وعاش معنا وصار جزءاً منا. وفي الليل قلت لزوجتي أنه كان يتعيّن عليكم، إن
أردتم استرداده، أن تستردوا البيت ويافا، ونحن... الصورة لا تحل مشكلتكم،
ولكنها بالنسبة لنا جسركم إلينا وجسرنا إليكم"(49).
إن تقاطع حكاية فارس اللبدة مع حكاية سعيد فيها الكثير من الدلالات والتي تؤكد
على أن:
1 ـ المكان لا يكون بأشيائه في الذاكرة وليس بقدسية الذكريات فيه بل بناسه
المصلوبين أحياء أو أمواتاً في انتظار أحبتهم.
2 ـ المكان لمن يدافع عنه ويبقى فيه وإن اضطر لأن يبقى فيه حياً كالرجل الذي
بقي في بيت فارس اللبدة أو ميتاً كبدر المصلوب على الجدار الواقف في العراء في
انتظار الأحبة كي يغمضوا عينيه المرهقتين انتظاراً.
3 ـ المكان ضرورة الوجود الإنساني وشرعية هذا الوجود. وهذا حق يدافع عنه بقوّة
السلاح وأن يسترد بقوة السلاح "فارس اللبدة، لو تعرفين... وهمس بصوت لا يكاد
يسمع: إنه يحمل السلاح الآن"(50).
إن استرجاع الإنسان مسألة قضية لا تقتصر على الإنسان فقط بل على المكان لأن
سعيداً لا يستطيع استرجاع ابنه خلدون لأنَّ الإنسان هو في نهاية الأمر قضية
مرتبطة بالمكان، والمكان الذي رحل عنه سعيد مكاناً ـ أصبح الآن لدوف اليهودي
"ولهذا يقف سعيد طويلاً أمام السؤال المصيري" ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان
اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على
الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا
عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن بالنسبة لبدر اللبدة ما هو الوطن؟ أهو صورة
أخيه معلّقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط. "إذاً ماذا كان يترتب عليهم أن يفعلوا"
كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا" لذلك عليكم أن تدفعوا الثمن كان عليكم ألا تبكوا
ألا تضيعوا عشرين سنة في البكاء عليكم استرداد بلادكم بقوة السلاح".
إذاً الأمكنة في رجال في الشمس رمزية، وفي رواية ما تبقى لكم تأويلية وليست
تصريحية، أمَّا في رواية عائد إلى حيفا فالأمكنة صريحة واضحة. والتدرج من
التأويل إلى الرمز والتصريح هو كناية عن مرحلة الوعي الذي حاولوا استلابه من
الإنسان بتغريبه عن جذوره في المكان، ومحاولة تغيير معالمه.
في النهاية لا يمكننا اعتبار أي من الأمكنة في رواية المقاومة هي أمكنة ثانوية
وأخرى رئيسة. والسبب هو أن رواية المقاومة عمل إبداعي يعتمد بالدرجة الأولى على
ظاهرة المكان بكل تفاصيلها، وما تعنيه من اغتراب أو مستقبل أو ضياع.
فلسطين في كل الروايات هي مكان متوهّج كالجمرة لا مباشرة ولا تقريرية في طرحه.
وإنما يبقى كجمرة متوهّجة في ثنايا العمل الروائي وفي كل شكل من أشكال طرح
المكان.
مكان لا تمحوه الآلام المريرة والواقع المذل الذي عايشه أبطال الروايات أدباء
الإنسان الفلسطيني واقعاً.
هو مكان في الماضي لم يصبح للذكرى أبداً بل تحوّل بفعل المعاناة وعقلنة
المقاومة ورد الفعل الطبيعي عند الإنسان إلى مكان للمستقبل يجب البحث عن طريق
العودة إليه.
الهوامش:
1 ـ (خياطة، محمد وليد) وعود آلهة بني إسرائيل الكاذبة،
المعرفة، العدد 347 - أيلول ـ 1982 ـ
ص154- 164.
2 ـ (داود، أحمد يوسف) الظاهرة اليهودية في التاريخ ـ المعرفة،
العدد 245 ـ تموز 1982 ـ
ص39- .67.
3 ـ (كنفاني، غسان) (1963) رجال في الشمس، رواية، بيروت، لبنان،
ص93.
4 ـ المصدر نفسه، ص11.
5 ـ لابدَّ من الإشارة هنا إلى أنني استعنت في بعض مفاصل هذه
الدراسة بكتاب جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي ـ صادر عن
المؤسسة للدراسة والنشر، الطبعة الأولى 1994.
وهناك دراسة عن جماليات المكان في الأدب ـ ملحق الأسبوع الأدبي
رقم 126 ـ العدد 846، قدّم عدداً من الأبحاث المتعلقة بالمكان في الرواية
العربية منها بحث جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر د. عبد الله
أبو هيف. وبحث د. قاسم المقداد، جماليات المكان في الدراسات الغربية الحديثة.
مع التأكيد هنا على خصوصية البحث هنا والذي اعتمد تأويل المكان
تبعاً لحالة الأبطال ثمَّ مناقشة دلالة المكان للشخصية الروائية ورصد حركة
المكان تبعاً للزمان، وتبعاً للحالة الروائية للشخصيات الروائية.
16 ـ كنفاني. غسان. (1996)، ما تبقى لكم، رواية، بيروت، لبنان،
ص11.
38 ـ (كنفاني. غسان) عائد إلى حيفا، رواية، بيروت، لبنان، ص7.
39 ـ المصدر نفسه، ص8.
أضيفت في15/04/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
إرهاصات المقاومة الفلسطينية بعد النكبة
بقلم الكاتب:
السيد
نجم
شهدت المرحلة التالية لنكبة 48, ما يشبه الصدمة, وفقدان التوازن.
وهى نفسها الفترة التي شهدت ميلاد ارهاسات البحث عن ألذات والطريق, وإرهاصات
المقاومة. ولخصوصية الرواية كجنس أدبي معقد ورحب, متعدد الشخصيات والآراء
والأحوال, مع تنوع الأزمنة والأمكنة يعتبر التوقف مع بعض أعمالها مؤشرا هاما
للاستدلال على تلك المقولة. كما أن القصة القصيرة تضيف ميزة حرية اختيار الكاتب
في أنماط شخصياته وتنوع موضوعاته, حتى وان تمسك بوجهة نظر ما.
منذ وعد "بلفور" وخلال فترة الاحتلال الانجليزى التي سلمت "فلسطين"
إلى أنياب الصهيونية, رصد الأدب الفلسطيني القضية, وكتب الأديب وجهة نظرة.. وهو
بذلك حلقة ذهبية من حلقات الأدب العربي المعاصر. وهو ما رصده الباحث الأكاديمي
الفلسطيني في رسالة لنيل درجة الدكتوراة موضوعها "حياة الأدب الفلسطيني الحديث
من النهضة حتى النكبة" للباحث "عبدالرحمن ياغى", ورسالة الماجستير "موقف الشعر
العربي الحديث من محنة فلسطين" للباحث "كامل السوافيرى". وقد توالت الدراسات
الأكاديمية, خصوصا بعد نكسة 67.
ربما نشير إلى بعض ملامح الحياة الثقافية الفلسطينية خلال القرن
العشرين, بعرض لبعض الملامح, منها: وصلت أول مطبعة إلى فلسطين عام 1830م, وأول
مطبعة وطنية افتتحت عام 1908م(حيفا).. وتوالت المطابع بعد ذلك التاريخ. فكانت
الصحف والدوريات الوطنية.. ونشطت الحياة الثقافية على شكل الندوات والمعارض
وخلافه..حتى كانت نكبة 1948م.
منذ نكبة 1948م حتى عام 1967م, خنقت الحياة الثقافية, وهو ما عبر
عنه "د.ياغى" في رسالته: "إنما حل بالناس في هذا الوطن الصغير صرف النفوس عن
حفظ تلك المواد الأدبية...". مع ذلك ما كان في نكسة 67, كان دافعا إلى ضخ
الدماء في العروق, ليس في البلدان التي أصيبت مباشرة (مصر- سوريا – الأردن), بل
كل البلدان العربية, بما فيهم أصحاب القضية الأم في فلسطين. وجد الكتاب
الفلسطيني من يهتم به, ووجد الواقع المقاوم من يرصده. وقد صنف كتاب "مصادر
الأدب الفلسطيني الحديث" (د.محمد الجعيدى) المنتج الأدبي على أربع مراحل:
الأولى تبدأ مع النهضة الحديثة حتى عام النكبة 1948م.. الثانية من 48 حتى 67..
الثالثة من 67 حتى 87 (حيث بداية انتفاضة الحجر الفلسطيني والتي استمرت لخمس
سنوات, لتتجدد في انتفاضة القدس).
سجل الأدب الفلسطيني قضيته (شعر/قصة)..الشيخ يوسف النبهانى – أبو
الاقبال سليم يوسف اليعقوبى – عباس الخماش – الشيخ أبوالسعود – على الريماوى –
خليل السكاكينى – محمد اسعاف النشاشى – سليمان التاجى الفاروقى – اسكندر الخورى
– ابراهيم الدباغ – عبدالرحيم محمود - برهان الدين العبوشى – إبراهيم طوقان –
محمد على الصالح. ثم في القصة: محمد أحمد التميمى – ميخائيل جرجس – خليل بيدس –
مي زيادة.
وتعرفنا على التاريخي المقاومى.. ثورة البراق, الثلاثاء الحمراء,
إعدام الشيخ فرحان السعدي, استشهاد عزالدين القسام.. مع أحوال الاستشهاد
والثورة المتجددة. وقرأ القارىء الأعمال النثرية الراصدة مثل: "البطلة" خليل
بيدس, "الظمأ" محمود سيف الدين الايرانى, "الأخوات الحزبيات" و"شمعون بوزاجلو"
نجاتى صدقي, و"مذكرات دجاجة" اسحق موسى الحسيني.
يمكن الإشارة إلى ثلاثة اتجاهات نقدية, هي التي اتسمت بها الأعمال
الأدبية عموما والقص خصوصا, حتى عام النكبة: الاتجاه الاحيائى.. الاتجاه
الرومانسي, الاتجاه الواقعي النقدي.
كانت الفترة التالية على عام النكبة, قاسية إلى حد الموات, وهو ما
يجعل الراصد للأدب الفلسطيني يبحث طويلا حتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي,
فتبدأ الارهاسات المقاومية التي تعبر عن نفسها أدبيا. ربما لعبت عناصر كثيرة
دورا حتى انتبه الفلسطيني إلى وجدانه, بعد أن ضاقت به الأرض على سعتها!.. وجود
بعض الأدباء المخضرمين (قبل وبعد النكبة) والذين استمروا على الأرض ولم ينتقلوا
إلى أي من الدول العربية.. نشأة جيل جديد, ربما ولد قبل النكبة إلا أنه انتبه
وترعرع بعدها, فشاهد وعرف الحقيقة القاسية.. ربما الشكل الحزبي للمحتل, حيث
انتسب عدد غير قليل من شباب الأدباء والشعراء إلى الحزب الشيوعي, والذي قدم
حماية قانونية ما.. المنتج الأدبي المقاوم لأدباء فلسطين من خارج الأرض
المحتلة.. وسائل الإعلام التي نشطت وتقدمت في الدول العربية المجاورة لفلسطين,
ومنها "الإذاعة" خصوصا في مصر وسوريا.
جاء نشر كتاب "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1936- 1948" في
1967م, وقد نشر مرة ثانية بمزيد من الإضافات بعنوان "الأدب الفلسطيني المقاوم
تحت الاحتلال 1948 – 1968" للكاتب "غسان كنفاني, بمثابة الميلاد لترسيخ مصطلح
نقدي جديد, ألا وهو "أدب المقاومة". أما الأدباء المخضرمين لتلك الفترة
(التالية بعد النكبة): مؤيد إبراهيم – يوسف نخلة – حنا أبوحنا _ توفيق زياد –
حبيب قهوجى – عيسى اللوبانى – حنا إبراهيم – عصام عباسي – محمود سيف الدين
الايرانى – نجاتي صدقي.
ثم أدباء ولدوا قبل النكبة بقليل وأنضجتهم أحوالها: محمود درويش –
سالم جبران – توفيق زياد – سميح القاسم – هاشم رشيد – ناجى علوش – سلمى الخضراء
– سميرة عزام – غسان كنفاني – على هاشم رشيد – يوسف جاد الحق – الياس خوري.
جاء الفوج الثالث وقد نضجوا في أواخر الستينيات وربما السبعينيات:
نايف سليم – فوزي الأسمر – راشد حسين – توفيق فياض – نزيه خير – فاروق مواسى –
حسن حميد.
أما وقد أنضجت التجربة الجميع, فتفجرت الطاقات, فخرجت الأعمال مفعمة
بالفن والتقنيات الحديثة (الأسماء المنشورة للاسترشاد وليس للحصر).
"رجال في الشمس".. والسؤال عن المصير
صدرت تلك الرواية في الطبعة الأولى عاما 1963م. وان طبعت أكثر من
مرة – بعد استشهاد الكاتب من جراء وضع قنبلة موقوتة في سيارته في صباح غائم عام
1972م – فهي تعد من أهم روايات المقاومة عموما/ والمقاومة الفلسطينية خصوصا,
على الرغم من بساطة التناول والحكى والمعالجة. فالرواية تتسم بقدر وافر من
الحكائية الإنسانية, والتعامل مع الجانب الانسانى الضعيف في المرء أي مرؤ..!!
ماذا نقول لثلاثتهم وقد رغبوا في البحث عن حياة كريمة, أفضل حالا مما هم عليه؟
.. لكن ماذا نقول والإنسان مقيد بقدره وأهله وناسه, حتى مع الحلول الفردية التي
بظنها هي الخلاص.
ترصد حكاية الرواية ثلاثة رجال "أبوقيس", "أسعد" و"مروان"..بينما
"أراح أبوقيس صدره فوق التراب الندى, فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب
تطوف في ذرات الرمل مرتجفة ثم تعبر إلى خلاياه.. في كل مرة يرمى بصدره فوق
التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال, منذ أن استلقى هناك أول مرة,
يشق طريقا إلى النور قادما من أعمق أعماق الجحيم, حين قال ذلك مرة لجاره الذي
كان يشاطره الحقل, هناك, في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات, أجابه ساخرا:"هذا
صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض..." ص7. فيما "وقف أسعد أمام الرجل
لسمين صاحب المكتب الذي يتولى تهريب الناس من البصرة إلى الكويت, ثم انفجر:
"خمسة عشر دينارا سأدفعها لك؟ ..لا بأس ! ولكن بعد أن أصل.." ص22
لكن "خرج مروان من دكان الرجل السمين الذي يتولى تهريب الناس من
البصرة إلى الكويت, فوجد نفسه في الشارع المسقوف المزدحم الذي تفوح منه رائحة
التمر وسلال القش الكبيرة..لم تكن له أية فكرة محددة عن وجهته الجديدة... كانت
الكلمات الأخيرة, التي لفظها الرجل السمين حاسمة ونهائية, بل خيل إليه أنها
كانت مصبوبة من رصاص:
"خمسة عشر دينارا..ألا تسمع؟" ص36
بتلك القسمة الفنية, والتمهيد لأبعاد الحكاية -البعد الانسانى
أساسا– عرضت كل شخصية رؤيتها مع تنامي الفكرة الأصيلة.. ألا وهى الهروب إلى
الكويت, حيث الرزق أوفر من الحياة في جنوب العراق. وتأكدت الأزمة وثقلت المهمة,
مع متابعة الرجل السمين (أبو الخيزران) المستغل وصاحب شركة الشحن أو سيارة نقل
المياه من العراق إلى الكويت.. تلك الشاحنة المزودة بالفنطاس الخاص بتعبئة
المياه. لم يفرد الروائي له فصلا, وجعله مشتركا مع ثلاثتهم. وان لم يبخالحيلة,
ووصف أفعاله, أنه رجل سمين, يتصبب عرقا, بليدا وحادا في كلماته فظا في سلوكه,
وان عرف عنه مهارته في قيادة أية ماركة من السيارات, بل والمصفحات أيضا, وهو ما
حدث عندما استولت إحدى القرى عربة مصفحة من الأعداء أثناء معارك 48م. مع ذلك ما
الحيلة , وما الحل.. ليس سوى تنفيذ أوامره. وبدأت الرحلة.. بدأ تنفيذ "الصفقة",
وهو الفصل الرابع من الرواية:
"-أنت تريد اذن أن تضعنا داخل خزان ماء سيارتك في طريق عودتك؟
-بالضبط! لقد قلت لنفسي:لماذا لا تنتهز الفرصة فترتزق بقرشين نظيفين
طالما أنت هنا, وطالما أن سيارتك لا تخضع للتفتيش؟"
-اسمع يا أبا الخيزران..هذه اللعبة لا تعجبني! هل تستطيع أن تتصور
ذلك؟ في مثل هذا الحر من يستطيع أن يجلس في خزان ماء مقفل؟
-لا تجعل من القضية مأساة , هذه ليست أول مرة..." ص61
وعلى "الطريق"-الفصل الخامس- عرفنا أن أبا الخيزران فقد رجولته بسبب
مشاركته لبعض الرجال المسلحين, لكنه سقط في يد الأعداء, وفقد رجولته معهم
وبسببهم, وقد قطعوا عضوه:
"ببساطة قد ضيع رجولته في سبيل الوطن؟ وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته
وضاع الوطن, وتبا لكل شيء في هذا الكون الملعون.." ص71
قد نشعر بالشفقة الإنسانية تجاه الشخصية القميئة أحيانا!!
في الفصل التالي أحكم السائق غلق الخزان على ثلاثتهم, وتابع الرحلة
حتى وصل نقطة الحدود, هناك شرب الشاي وسمع النكات ومضى الوقت في السمر..بينه
وبين جنود النقطة الذين يضحكون لتعليقاته وآرائه دائما...
أما وقد تذكر الثلاثة, أسرع عائدا بالسيارة, حتى ابتعد, وقف, ثم فتح
الخزان:
"تحسس طريقه منحنيا إلى الفوهة, وحين أخرج رأسه منها لم يدر لماذا
سقطت في ذهنه صورة وجه مروان دون أن تبرح. لقد أحس بالوجه يلبسه من الداخل مثل
صورة ترتجف على حائط فأخذ يهز رأسه.."
أخيرا حرس السائق أن يعد لثلاثتهم, مقبرة لكل منهم, فقط عندما يهبط
الظلام, خصوصا أن الليلة بلا قمر!!.. وما انتهت المهمة انزلقت الفكرة من رأسه
ثم تدحرجت على لسانه:
"لماذا لم يدثوا جدران الخزان؟؟"ص110
وظل يكررها!!
تثير الرواية فور الانتهاء منها سؤال "الخلاص".. وما "المصير"؟
..فالحلول الفردية التي تبناها ثلاثتهم, انتهت بموتهم.
..والحل الباحث عن خلاص فردى وبعيدا عن جوهالأرض..الأرض.البحث عن حل
الخلاص من المحتل ومن مغتصب الأرض ..ليس له مصير إلا الهلاك.
تثير الرواية الشفقة, حتى على أبى الخيزران (فهو مقاتل سابق, وتأذى
بسبب قضية الوطن, تأذى في أشد ما يؤذى الرجل, كما أنه صريحا وواضحا حتى في
خسته, فهو يطلب ما طلبه من أجل المنفعة والاسترزاق الخاص. وهو بذلك يكمل صورة
الحلول الفردية غير المجدية, مهما بدت الحلول حسنة النية أو غير ذلك).
الخبز المر" والبحث عن طريق!
"ماجد أبو شرار" يعرفه الساسة وقليل من الأدباء. استشهد من جراء
قنبلة في غرفة نومه بايطاليا عام 1981م, وهو تاريخ المجموعة! يقول الكاتب "يحي
يخلف" عنه في مقدمة المجموعة: "نشرت معظم قصص هذه المجموعة في مجلة "الأفق
الجديد" المقدسية, والتي ظهرت في مطلع الستينيات... لعبت دورا كبيرا في تنشيط
الحياة الثقافية... وبالرغم من توقف المجلة عن الصدور عام 1966م, إلا أن أثرها
على الثقافة في الضفة الغربية والأردن ما زال ماثلا... وقدمت المجلة على صعيد
القصة القصيرة عددا من الكتاب, كان من أبرزهم: ماجد أبو شرار, نمر سرحان, صبحي
شحروري, محمود شقير, حكم بلعاوى, خليل السواحرى, فخرى قعوار, ويحيى يخلف.لقد
تميز "ماجد" من بين تلك الأسماء, ولفتت قصصه انتباه نقاد الأفق الجديد."
كما أبرز "يخلف" أن فترة كتابة تلك القصص تتميز ببعض الخصائص التي
تحمل ملامح المرحلة في إطار مراحل التجربة الأدبية الفلسطينية, والتي تميزت عن
غيرها من التجارب العربية, ارتباطها بالمفاهيم الكلية, والتعبير عن الصمود
والمواجهة والرفض, كل ذلك في إطار عام حول الوطن, والمواجهة المباشرة مع العدو
في حياة الإنسان الفلسطيني اليومي..أو في إطار غير مباشر.. وفى كل الأحوال
الأدب الفلسطيني هو أدب مقاوم.
أما ما رصده الكاتب "يخلف" حول كتابات تلك المرحلة:
-أن القصص المنشور على صفحات "الأفق الجديدة" تمثل الارهاسات الأولى
لقصة فلسطينية ناضجة.. وهى التي سبقت ورافقت إنشاء "منظمة التحرير الفلسطينية"
(أنشأت عام 1965م) حيث بداية الكفاح المسلح.
-أن قصص تلك المرحلة (والمنشورة في الأفق الجديد) تحمل دلالات
سياسية واجتماعية للمجتمع المدني الفلسطيني (بعد النكبة في 1948م).
-تميزت قصص "ماجد" بالواقعية ذات المضمون الاجتماعي الملتزم بقضية
الكادحين.. مع مسحة تأثر بالفلسفة الوجودية التي شاعت خلال تلك الفترة.
وبعد, فان قارىء قصص المجموعة "خبز مر", حتما سيجد مصداقية تلك
الملامح التي رصدها "يحيى يخلف"..ولا يبقى سوى التقاطها بين ثنايا القصص. وهو
ما توافق مع منهجي في تناول الأدب النثري الفلسطيني مرحلة فأخرى.
تضم المجموعة 12قصة قصيرة (توجد قصص أخرى, ربما ستنشر مستقبلا )
وهى:"صورة", "مكان البطل", "النجار الصغير", "أفاعي الماء", "سلة الملوخية",
"برازق", "تمزق", "جسر منتصف الليل", "الخبز المر", "وأنهار الجدار", "الشمس
تذوب", "الزنجية". يقع الكتاب في 93صفحة, وهو ما يكشف عن حجم القصص.. فلا توجد
تلك القصص المطولة تحت عباءة القصة القصيرة, كما كان شائعا في قصص تلك الفترة
في الكتابة القصصية العربية. كما أن تاريخ كتابة تلك القصص ما بين 59 حتى 64,
أي حوالي خمس سنوات.
:قصة "الخبز المر"
"فائق" شاب يعمل مع "أبوخميس" الشيخ وقد بلغ الخمسين من عمره,
يعملان عملا قاسيا في منجم للفوسفات. الأول يحمل خصائص الشباب من فتوة وعفوية
ورغبة في البحث, على الرغم من كل الظروف الصعبة التي يعمل في ظلها. بينما الآخر
شيخا مهموما طول الوقت ولا رغبة عنده إلا في الصمت! نجح الشاب في اقتحام شرنقة
الشيخ, فعرفنا هموم الرجل وآماله.. "سهيلة" ابنته المتفوقة في الدراسة حصلت على
المرتبة الأولى في صفها.. الملعونة "ليلى" تحلم بسيارة حمراء ناعمة. أما الهم
الأكبر فهو مرض الشيخ..بدأ نور العين يذوى, ولا يريد الشكوى حتى لا يفصل من
العمل. المصمصدور, ي لم يكشف عنها إلا قبل غيابه الغامض عن العمل..أنه مصدور ,
مريض بداء السل, وأيضا يطوى آلامه داخل صدره.كل ما كان يتمناه, ويكرره كحلم
متجدد وأمنية غالية يرددها للشاب: كان يتمنى ألا يموت إلا بعد أن تكتمل ابنته
سهيل دراستها الثانوية. لكن: "ذات صباح لم يحضر أبوخميس إلى العمل.. علمت أن
المرض بدأ ينتصر, وذهبت إلى بيته... نوبات السعال بدأت تخمد وتهدأ, جذوة الحياة
في عينية تخبو رويدا رويدا, ونظرة مسكينة محملة بألف معنى تواجهني كلما نظرت
إلى عينيه, وسهيلة وأمها والبنات ينتحبن بصوت خافت, وأغمض عينيه ورفع كفه
المعروقة, وانتفض, وسقطت كفه على صدره وأسدلت الغطاء على الوجه الهارب من
الحياة" ص70
:قصة "مكان البطل"
"قلة....أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة..وستأتى مزمجرة
عنيدة طاحنة..أما الكثرة..فقد استسلموا لراحة لا لذة فيها...فهم يعلمون أن
الراحة سيعقبها تعب.. وينظر إبراهيم إلى ساعته ويسحب نفسا أخيرا من لفافته
ويلقيها ثم يدوسها....يتمتم:"إنها النهاية...".ص18
تلك هي بداية القصة, والتي كتب تحت عنوانها إهداء "إلى روح البطل..
إبراهيم أبودية" (وهى الوحيدة المهداة إلى أحدهم).
أما وقد أثار عنوان الجريدة غضبه, فقد كتب عليها "القدس تستسلم"..
حتى أنه مزق الجريدة. يخرج من حجرته ويطلع على أحوال الجنود (الوحدة تحتل إحدى
القلاع الهامة عسكريا). يقابل الجندي "جبر", يتحاوران حول أخبار الهجوم الوشيك
من الأعداء على القلعة.. وهو الهجوم الخامس بعد فشل الأربع هجمات السابقة!
الساعة عبرت السادسة مساء, وقرب الهجوم على بدايته, ويشرد القائد
"إبراهيم"..في زوجته وأسرته, في أفاعيل العدو الغاصب, في الاحتمالات المنتظرة..
إلا أن "جبرا" الجندي النشط جاء بالخبر..الهجوم هذه المرة مع استخدام
الدبابات!! تكفل "جبر" و"عبدالرحمن" بمنطقتهما لساعات, على أمل إعاقة الأعداء
بدباباتهم المدرعة. بدأت المعركة, واستمرت لثلاث ساعات.. فقد اثنين حتى الآن
وبقى ثمانية وستون. ويذوب سواد الليل مع أنفاس النهار الجديد.. موت وحطام في كل
مكان.. والمصيبة أن الدبابات بدأت الآن تأخذ دورها في المعركة. اتصل "إبراهيم"
بالقيادة, أمروه بالانسحاب.. وفورا. تابع الموقف, فأمر رجاله بالانسحاب, وبقى
"جبر " المصاب.. وحتى أستشهد في موقعه. "في السنوات القليلة التي تلت موت
"جبر", والتي قضاها "ابرهيم" طريح الفراش بعد إصابته في إحدى المعارك, كان
يستدعى "سالم" وإخوته ليذكرهم بولدهم "جبر".. البطل الذي منح الحياة زملائه
نظير موته."
هاتان القصتان "أنموذج" لكتابة القصة عند ماجد أبو شرار:
-القصة هي حالة إنسانية..سواء بالتناول العسكري البطولي أو المباشر,
أو التناول الاجتماعي لعامل أو غير عامل.
-البطولة تعنى "الاستشهاد", والعمل من أجل الوطن. كما أنها "الصبر"
عن علات المرء من جراء هذا الوطن المحتل أو الفقير أو العاجز.
-الخصائص الفنية هي من ملامح كتابة القصة في زمنه ومكانه, وربما تعد
القصة عنده أكثر نضجا فنيا, منها عند آخرين من أبناء جيله.
فالراوي العالم بكل خفايا شخصياته ومصائرهم هو المهيمن على العمل,
وجهة النظر المباشرة الواضحة تكشف عن نفسها مع السطور الأولى للقصة. لذا كان
استخدام ضمي الليل", هو الغالب بين القصص..إلا قصص "جسر منتصف الليل" ,"تمزق",
و"مكان البطل", استخدم فيها ضمير الغائب..وقصة "برازق" استخدم فيها ضمير
المخاطب.
كما أن غلبة الحكى والسردية جعلت من القصص صور اجتماعية تارة, أو
نشيد للبطولة تارة أخرى..(وهو ما كان شائعا في كتابة القصة في حينه).
أضيفت في15/04/2006/خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
طقوس العودة في المتخيل الروائي
نموذج: "عائد إلى حيفا"، "نهر يستحم في البحيرة"
بقلم الكاتبة:
نجمة خليل
حبيب
بين "عائد الى حيفا" و"نهر يستحم في البحيرة" ثلاثين عاما من الزمن
قام خلالها اختلاف في الخطاب السياسي وجنوح في الرؤى والمعايير الجمالية أدى
الى اختلاف في نبرة الروايتين وانتسابهما الابداعي، إلا ان كلا النصين سقطا في
الغيبة وعمهما إحباط وخيبة وانكسار
يقول غلين باومن في دراسته وطن من الكلمات: تفحصت خطاب الهوية لدى
الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان وفي انتلجنسيا الدياسبورا الفلسطينية في
بلاد الغرب وكذلك لدى الناس في الداخل، قصد تقييم الطرق المختلفة التي شكلت بها
ثلاث جماعات مختلفة من الفلسطينين هويتها . . . وقد تبين لي أنه في الحالات
الثلاث كان يجري تصور العودة الى فلسطين كلحظة يمكن خلالها تحقيق هويات أعاقتها
اشكال متنوعة من القمع والاضطهاد. وليس هذا بالامر المستهجن، فالعودة هاجس في
الضمير الجمعي الفلسطيني لأجله قاوم الفلسطينيون كل اغراءات الدمج والتدجين
وأصروا ولا يزالون على اعتبار وضعهم الحالي وضعا مؤقتا. فقد قاوم فلسطينيو
المخيمات كل المحاولات التي تهدف الى جعلهم حالة إنسانية، مجرد لاجئين. وفي
الغرب, ورغم أنهم يحملون جنسيات الدول التي تأويهم، لا يزالون يعتبرون انفسهم
فلسطينيين قلبا وقالبا. وفلسطينو الداخل، الذين حملوا الجنسية الاسرائيلية
مرغمين، يعبرون عن رفضهم للامر الواقع بالاصرار على رفض التسميات التي اطلقها
العبرانيون على الامكنة ويصرون على تداول أسمائها العربية التي كانت لها من
قديم ويحرصون كل الحرص على غبقائها حية في نفوس أبنائهم. وحتى بعد اتفاق اوسلو
فان الفلسطينيين لا يزالون مقتنعين في صميم قلوبهم ان الارض كلها لهم, فهم وان
ابدوا القابلية والرغبة الصادقة للفصل بين ما يكنه القلب وما تسمح به السياسة
على ارض الواقع فمن قبيل ايمانهم بانهم في النهاية "ام الصبي" مستعدين للمشاركة
بالارض خوف ضياعها كلها. . . بل إن العودة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية مفهوم
مقدس متغلغل ليس فقط في الخطاب السياسي والادبي فحسب بل في صلب الخطاب الشعبي.
فقد استبدل الفلسطينيون الكثير من التعابير اليومية التي تقال في المناسبات
الاجتماعية بتعابير تحمل معنى العودة كمثل : "بالبلاد", ب"النصر" , عيدنا يوم
عودتنا. . إلا ان أحدا لم يكن ليتوقع ان تكون هذه العودة على طريقة سعيد س. في
"عائد الى حيفا" او يقنع بها على طريقة يحيى يخلف في "نهر يستحم في البحيرة"
كتب غسان كنفاني روايته بعد انتكاسة 67 في حين كتبها يحيى يخلف بعد
اتفاق أسلو عام 98. إلا ان العودة في كل منهما لم تكن مما أمله الفلسطيني بل
كانتا، في كلا الحالتين، عودة منقوصة مخيبة للامال والاحلام رغم ما بينهما من
فوراق.
يقوم الفارق الرئيسي بينن الروتيتين على كون العائد في الاولى (سعيد
س.) عاد إثر هزيمة عسكرية في حين كانت عودة الثاني (صاحب نهر يستحم في البحيرة)
إثر معادلة سياسية.
تنتمي الروايتان الى مناخ ادبي مختلف لذلك نرى أنهما تنحيان منحى
مختلفا في كثير من الوجوه.
لقد كتب كنفاني روايته أيام كان الالتزام والواقعية الاجتماعية في
الادب تخوضان معركتهما ضد نظرية الفن للفن, أيام كانت الذاكرة الادبية تعيش
مناظرة طه حسين ورئيف خورى فتنحاز اقلية خجولة للاول وتتتصر الاكثرية للثاني.
أيام كان القارئ العربي يأمل من مبدعيه ان يكونوا أصحاب رسالة وانبياء رؤيويين,
وفي مناخ كهذا، إضافة الى ما نعرفه عن انتماء المؤلف الايديولوجي ومن ثم تبنيه
لقيم الرؤية الواقعية في الادب جاءت روايته متسمة بطابع زمانها فكان اول ما
ميزها انها عكست واقع الحال في النفس العربية, فكانت رواية محكومة بالغضب
وبالنبرة العالية الصاخبة الضاجة بالاعتراض الى درجة يحس معها القارئ ان ضربات
قلبه تزداد ودمه يعلو ويثور, سواء كان ذلك أثناء وصف الكاتب لحالة حيفا قبل
واثناء معركة نيسان 1948 المصيرية أو لعذابات الام المفجوعة التي اضاعت ولدها
وظلت تعيش هاجس هذا الضياع على مدى عشرين سنة "عذابا ينتصب عملاقا في احشائها
ورأسها وقلبها وذاكرتها وتصوراتها ويهيمن على كل مستقبلها". بل إن هذا الغضب
يقتحم الرواية منذ اسطرها الاولى "حين وصل سعيد س. الى مشارف حيفا, قادما اليها
عن طريق القدس, احس ان شيئا ما ربط لسانه, فالتزم الصمت وشعر بالاسى يتسلقه من
الداخل, ودون ان ينظر اليها كان يعرف انها آخذة بالبكاء, وفجأة جاء صوت البحر,
تماما كما كان, كلا لم تعد اليه الذاكرة شيئا فشيئا بل انهالت في داخل راسه كما
يتساقط جدار من حجارة ويتراكم بعضه فوق بعض . وهي الى ذلك تدين إدانة فجة
وتوجه اصبع اتهامها للهاربين والذين جبنوا وتصرفوا بقدرية و لامبالاة. " كيف
يستطيع الاب والام ان يتركا ابنهما وهو في شهره الخامس ويهربان . . . كان عليكم
إلا تخرجوا من حيفا . وإذا لم يكن ذلك ممكنا فقد كان عليكم باي ثمن ان لا
تتركوا طفلا رضيعا في السرير واذا كان هذا ايضا مستحيلا فقد كان عليكم الا
تكفوا عن محاولة العودة . . . . لقد مضت عشرون سنة يا سيدي ! عشرون سنة ماذا
فعلت خلالها كي تسترد ابنك ؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح من اجل ذلك . . .
(406-09)
أما رواية يخلف فجاءت في زمن تنكر فيه الادب لصاحبه وتبنى الكثيرون
نظرية موت المؤلف وسلخ النص عن بيئته وحاضنته الاجتماعية والسياسية وتنكره لاي
صفة تعليمية او رسولية او رؤية سياسية او قومية او اجتماعية. نظرية تقول بقدر
ما يبتعد الكاتب عن قضايا مجتمعه بقدر ما يكون مبدعا، وبقدر ما يغرق في الصمت
ويكتب الهامش بقدر ما يكون مجليا في ابداعه. لذا غاب الغضب من الرواية وتملكها
حزن هادئ رزين وخفتت نبرتها فقاربت الهمس الشعري. "صباح من ندى ومن كلوروفيل
ومن تداعيات ومن اضغاث احلام وفرح ناقص وابتسامة تشبه البكاء" . وترافقها هذه
النبرة حتى في اشد فصول الرواية تأزما عندما علم الرواي ان جثة خاله لا تزال
محفوظة في الثلاجة, لم يستصرخ ضمير العالم ولا أنّب ولا أدان بل قال: يا عبد
الكريم الحمد . . كيف تحملت كل هذا الصقيع طوال هذه المدة وكيف قضيت عمرا آخر
في الثلاجة. ألم ترتعد فرائصك, ألم يقشعر بدنك وانت الذي عشت عمرك كله في
الاغوار الحارة؟ انت الذي هرب من البرد والصقيع من اجل نهاية اكثر دفئا . . .
كيف داهمك هذا البرد الذي لا يكف عن التسلل الى عظامك ليلا نهارا هذا البرد
الذي يخز الروح ويحز الوريد والاعصاب؟ (120) وهي عكس "عائد الى حيفا", تدين
ضمنا ودونما صراخ، الطرف الاخر، فهو الذي افشل كل مشاريع العودة. لقد اقتحم
العائد حصن عدوه ومد له يدا مسالمة ولكنه رفض اليد الممدودة. رفضها عندما رفض
تسليم جثة الشهيد الموجودة في البراد منذ اربعين سنة, وعندما رفض صاحب النزل
إيواء الفلسطينيين لانهما من "المناطق "واخيرا عندما فشلت الهيئة الاذاعية من
اقامة برنامجها التوفيقي بعرض قصة الطيار وعبدالكريم
تدور احداث عائد الى حيفا في معظمها في الطريق الى حيفا عندما يقرر
سعيد س. وزوجته الذهاب "الى هناك", وتفقد بيتهما الذي تركاه وفيه طفل رضيع
أثناء معركة حيفا عام 1948 . وتعطي الرواية حيزا كبيرا للمفهوم الذهني للوطنية
والمواطنة وتبين من خلال التداعي قسوة الظروف التي أدت الى مأساة عائلة سعيد س.
وتطرح مفهوما مختلفا عما كان سائداً لمعنى الوطن في الخطاب الفلسطيني. فالوطن
ليس ريشات الطاووس المشكوكة في المزهرية ولا بالابن المتروك في السرير ولا هي
لحم ودم، بل هو المستقبل المتمثل بالابن الاخر خالد. ورغم ان مشهد الرواية
الرئيسي هو في المحاورة التي دارت بين دوف المولود خلدون وابيه البيولوجي وتنكر
الولد لهذا الاب وانتمائه الى التربية وليس الى الدم، إلا ان ما يدور حول هذا
المشهد هو الذي يصنع فنية الرواية ويرقى بها فوق مستوى الخطابي والدعائي, ولعل
أهم ما يميز نص كنفاني هذا هو نجاحه في قول الذهني بقالب فني تمسي معه المقولات
الذهنية نتيجة حتمية لمسار الحدث الروائي. فسعيد س. الذاهب الى بيته تحت إلحاح
زوجته صفية يستعيد ماضيه كله. يستعيد احداث حيفا في نيسان 48 وما كان من امر
خروجهما الاضطراري, وهو إذ يصل الى المنعطف المؤدي الى البيت يقفز امامه الماضي
مؤلما موجعا: الدرجة المكسورة, وريشات الطاووس, الكنبة الوحيدة الباقية, ومسكة
الباب, ورنة الجرس. اذن، فالحدث هو العنصر الاهم في الرواية فبسببه قامت الرحلة
وبسببه نسي الطفل الرضيع في السرير وبسببه ايضا ملكت مريام وزوجها بيت سعيد
وصفية وابنهما الرضيع. لذا تنتهي الرواية وهي تنتظر الحدث (التحاق خالد
بالفدائيين) لتعمل التغيير المرجو.
تروي رواية نهر يستحم في البحيرة قصة فلسطيني عائد من منفاه ـ تونس
ـ الى غزة فلسطين ومنها الى قريته الجليلية سمخ التي تقع ضمن الاراضي المحتلة
منذ عام 1948 وعكس ما هي عليه الحال في عائد الى حيفا فان العائد هنا يعيش جميع
تفاصيل رحلته يستذكر الماضي وليس اللحظة الحرجة فقط كما هي الحال مع سعيد س.،
يستحضر الارض ويعطيها حيزا كبيرا في السرد وفي الحدث: يعرض ما اصابها من
تغييرات وما ابقت عليه من ملامحها كما انه يعرض للكثير من المشاهد الغرائبية
الغنية بالدلالات السياسية والوطنية كمثل الشائعة التي تقول بوجود التماسيح في
البحيرة، وان واحدها خرج واكل اطراف رجل. ثم يتبين كذب الاشاعة وتضخيمها فما
التمساح الا تمساح صغير سئم البركة الصغيرة فهوجم وحوصر ومورست عليه قوة كبيرة
"جاؤوا بالدبابات والجنازير والسلاسل لتكبيله". ثم إشاعة الاحداث الجيولوجية
التي غيرت مجرى النهر والتي تعني ان تغييرا جوهريا سيحصل بسبب هذا، فالمياه
ستمسي مالحة وستموت كل الاحياء في النهر. ثم الحواجز والخوذ والتوقيفات، امور
وإن جعلت العودة كابوساً بعد ان كانت حلماً، إلا أنها ترمز في العمق الى هشاشة
هذا الكيان ونشاذه وخروجه عن المألوف.
وفي الرواية أيضاً عائدان فيهما الكثير من الرمز هما: الطيار
اليهودي الذي سقط في البحيرة وظل يحتفظ بملامحه على مدى ستة وثلاثين سنة
والفلاح الفلسطيني الذي حفظ في الثلاجة مثل هذه المدة. وعائد ثالث هو الفلسطيني
المغترب القادم من اميركا، الباحث عن السلام من خلال بحثه عن حبيبة
خاله(اليهودية) وما مني به من خيبة عندما تنكرت الحبيبة لهذا الماضي ووقفت
إزاءه عمياء خرساء طرشاء.
في نهر يستحم في البحيرة يكون الدافع حنين العائد الى بلدته
واسترجاعه لذكريات حميمة، وفيها فرحة العائد بانتقال المقاتل من وضعية المنفي
الى وضعية المواطن ـ الشرطي ـ يقف على ارض هي ارضه ويلبس بذلة كاكية تعطيه
هويته واتنماءه ألا ان هذا الفرح الطفولي لا يلبث ان ينقلب حزنا هادئا، وعكس ما
تبثه فينا رواية كنفاني من توتر وانفعال تغرقنا رواية يخلف بشحن يشبه الغيبوبة
. إلا أن كلا الروايتين يفاجئها التغيير الذي احدثه الاحتلال. سعيد س. يرى
التغيير جذريا انقلابيا, فشخصية الابن خلدون تحولت الى العدو دوف, في حين رأى
يحيى التغيير تغييرا فيزيولوجيا أحدثته السنون كأمر لا بد منه: الحبيبة وعد
التي كبرت ورحل بريق خاص من عينيها وبدأت التجاعيد تحبو تحت جفنيها, هي الحبيبة
القادمة "من وراء الريح والضباب وبوابات الغربة والضياع ومن وجع سبعة وعشرين
عاما ومن اخاديد وشقوق السنين الهرمة, إلا ان كلا التغيرين قاد الى نتائج
متقاربة فقد ادت في الحالة الاولى الى خبو عاطفة الابوة بل تحولت الى عداء, وهي
في الثانية وان لم تتحول الى عداء ألا انها خبت وجنحت الى حبيبة أخرى هي عائشة
جمالية المكان
لا يحفل كنفاني كثيرا بالمكان في روايته، فهو عنده ليس اكثر من ظرف
لاحتواء الحدث، في حين خصص يخلف حيزا كبيرا له حتى كاد يكون الشخصية الرئيسية
في الرواية. فهو حاضر منذ اللحظة الاولى ينفعل ويتفاعل بالحدث، ولا غرو في ذلك
فالمكان في الذاكرة الجمعية الفلسطينية كان وسيبقى, فعل وجد واشياق دائمين,
واغلظ الايمان انما تحلف بتراب فلسطين .
وللمكان، عند يخلف، ميزة يتفوق بهاعلى جميع الشخصيات والادوار
الاخرى, ميزته في ديمومته وصموده. فقد استطاع المحتل ان يغير معالم بعض الامكنة
فامست القرية "سمخ" "تسيمخ", وبني على انقاض القرى العربية مستعمرات مختلفة
شكلا, وحتى انه تدخل في عمل البحيرة فغير انواع سمكها, ولكن هذا لم يمس إلا
القشرة الخارجية فيما بقى كنه الاشياء على حاله لم تستطع ان تطاله يد التغيير
وإن جهدت
"إنه بحر غزة المتوسط الحنون الذي لم يستطع احد ان يبعده عن مكانه,
وعلى الرغم من سبعة وعشرين عاما لم يستطيعوا ان ياخذوا معهم البحر. سحبوا
معداتهم ودباباتهم واسلحتهم الثقيلة, ولكنهم لم يستطيعوا ان يسحبوا معهم البحر"
(21). وها هو النهر رغم كل الاقاويل والاشاعات التي صيغت حوله لم يزل ينبع من
البحيرة. البحيرة التي لها سمة التطهير. فهي تستقبله من الجنوب وتغسله من كل ما
علق به من شوائب وادران ليخرج من الطرف الاخر نقيا فحلا يتدثر بزرقة داكنة
تلقيها الاشجار الكثيفة التي ما انفكت تنبت على جانبيه
وتشتد لغة المكان ويعبق جوه كلما اشتدت ازمة البطل وضيقت عليه
الحقيقة التاريخية الخناق. فعندما تضيع سمخ بين الماضي والحاضر ويقوم على انقاض
بيوتها تلال من الاسمنت ويتغير اسمها الى تسيمخ , عندما تتأزم الامور في نفس
العائد وفيما هو يحدق بعيون هنا وهناك علّه يقبض على اثر ما, عله يجد شيئا من
مزق الايام الماضية . . . عندما ينسحب البطل الى حقيقته الداخلية, تأتي عناصر
الطبيعة (المكان) لتكون همزة وصل بين الداخل والخارج. "وامسكت فجأة خصوصية
الرائحة, شممت رائحة البحيرة, رائحة المياه تختلط برائحة الاعشاب التي تنمو على
حوافها, رائحة قادمة من ستة واربعين عاما, مثلما يتذكر المرء رائحة الحليب وهي
تقطر من ثدي امه, او مثلما يتذكر فجأة رائحة الصابون الذي كانوا يغسلون به شعر
راسه . . . يا لتلك الرائحة الكامنة في اعماقي مثل النار الكامنة في قلب حجارة
الصوان (31)
يأخذ بطل الرواية في قصة عائد الى حيفا الدور القيادي فيها فهو الذي
يقود الرحلة وهو الذي يتصدى لدوف ويجيب على تساؤلات مريام وهو الذي يقرر متى
يبدأون ومتى يتوقفون اما في رواية يخلف فإن الراوي, بطل القصة, يبقى في منطقة
الظل شأنه شان اي مهزوم في هذه الحياة. يكاد يقتصر دوره على المشاهدة او رواية
الخبر دونما اي تدخل فاعل، والكاتب في ذلك كان منسجما مع بطله وخط سيره,
فالشخصية مهزومة ضائعة بين موقفين: قبول الهزيمة او رفضها, لذا فان دورها في
الاحداث لا بد ان يكون هامشيا. وهذه السلبية ـ اللاموقف ـ تسبغ الشخصية في جميع
تصرفاتها, فهو يترك للاخرين كي يقرروا له ( لقد قررت مجد اين ومتى وكيف
يلتقيان, وقرر له اكرم اين يقضي ليلته ووقت يتابع السير وساعة التوقف وحتى نوع
طعامه وشرابه . . . ) فكأن الكاتب اراد ان يقول, لقد انتهى دور المقاتل المشرد
ليبدا دور المغترب التاجر . . . مرة واحدة تدخل الراوي بالحدث وكان فاعلا فيه
عندما قرر الاخرون العدول عن متابعة الرحلة فاصر هو على اكمالها ـ وللحدث دلالة
سياسية بالغة الاهمية ولكنها خارج اطار هذا البحث ـ
وكنتيجة لهذا التهميش الذي يصيب الشخصية تنسحب الى الداخل , تعيش
همومها وتتغذى حزنها وذكرياتها , الاليم منها والمفرح , فتكثر اسماء محطات من
الماضي : العرقوب, جنوب لبنان, الاغوار الجنوبية ممر العمل الفدائي ايام مرحلة
الشباب المبكر والضحايا التي سقطت دون ثمن . . . وتلك القرية التي تذكر ببؤس
الدونكيشوتية التي اضاعت فلسطين عام 84 . . . ثم القرية الحلم، سمخ، بعيدة
وقريبة . . . كما لو انها هناك في بقعة ما في ذلك الكوكب الذي يسكن السديم (7)
يتمثل الاخر في رواية كنفاني بدرجة كبيرة ب"دوف" الابن المولود
عربيا "خلدون" والمحول الى اسرائلي بالتربية وهو في رواية كنفاني موجود بقوة,
إما عدوا يواجِه او مضللا وضعته الظروف في مواجهة لم يكن يريدها، كما أن في
المشهد ظاهرة لعلها الاولى في تاريخ الرواية العربية، عنيت بها أنسنة العدو.
جاء ذلك من خلال عرض شخصية مريام والاحداث التي ادت بها الى فلسطين، فإذ هي
ضحية ومضلَلة، لا غازية ومعتدية بل امرأة مرهفة الاحساس يسيئها ما تقوم به
المنظمات اليهودية من اعمال اجرامية فتتالم لرؤية طفل عربي يلقى في الشاحنة
كحطبة وفيما يفرح زوجها لانه يشاهد سبتا يهوديا تبكي هي لانه لم يعد هنالك جمعة
حقيقية ولا احدا حقيقيا (377) . وللعدو عند كنفاني اليد العليا، فهو يدين ويعطي
دروسا في الوطنية لا يستطيع إزاءه الفلسطيني إلا الغضب, في حين تقف رواية يخلف
على مسافة من الاخر، فلا تسمه باية سمات خاصة فلا هو صديق ولا هو عدو صريح, بل
هو واقع يفرض على العائد التعامل معه وتقبل اسقاطاته. إلا انه كما في عائد الى
حيفا له اليد العليا ايضا، فهو المسؤول عن فشل التواصل واقامة الحوار. وتشمل
المسؤولية المجتمع بجميع فئاته: فها هو صاحب النزل يتخوف من استقبال
الفلسطينيين في نزله لانهم من "المناطق". وها هو اكرم العائد من منفاه ليحي
التعايش, ليعيد للزوجة اليهودية التي فصلت عن زوجها قبل خمسين عاما, خاتم
زواجها يرى انها قد انكرته. فهي عمياء صماء خرساء. ويفشل البطل أيضاً في
استعادة جثة خاله المحتفظة في الثلاجة منذ ثلاثين سنة. كما تفشل البعثة
التلفزيونية في احياء مهرجانها التوفيقي الذي حشدت له كل الامكانيات. رغم كل
ذلك فقد علمته التجربة ان الوطن ليس مجرد ارض وتاريخ بل هو مواطنة, اي فعل
ايمان دائم لا يهن امام الهزائم مهما كان وقعها قاسيا ومتتاليا, والمواطنة
تقتضي منه ان يناضل, ان يظل يحلم ويعمل لتغيير الواقع واعادة صياغة الوطن
والارض والانسان . . . كما انه تعلم ايضا ان يده الممدودة وحدها لا تستطيع شيئا
ان لم تقابلها ارادة التغيير من الاخر الذي لم ينتقل بعد بمفهوم الوطن الى عمقه
الاشمل، المواطنة. وقد لجأ يخلف الى الغرائبي والمدهش ليلفت الى ما في هذا
"النسيج المسمى وطنا" من تناقضات وعدم انسجام: ففيه يتحول مجري النهر ويتغير
منبعه ومصبه وتمسي مياهه مالحة . . . وفيه تنقلب دورة الحياة فيكون الاب في
العشرين والابن في الاربعين والزوجة في الستين. وفيه ايضا تتمرد التماسيح على
انهارها . . . هذه هي اسرائيل: إشاعات واكاذيب وحواجز نفسية تقام كل يوم بينها
وبين الفلسطيني. لذا انتهت قاذفة السلام بقنبلة، معلنة مسؤولية الاخر عن هذه
النتيجة، فهو ما زال يفتعل المخاوف ويقيم الحواجز بينه وبين الفلسطيني، خائف
ان يطلع له حوت من بحر غزة وعلى الحواجز يفتشون عن ضبع له انياب, عن كركدن عن
وحيد القرن , وفي طبريا إشاعة تقول ان تغييرا جيولوجيا ضرب البحيرة ونكّر
تماسيحها فخرجت هائجة تتعقب الناس وتفترسهم ثم ينكشف الامر, ويتبين انه لا يعدو
عن مجرد هروب تمساح صغير لا اسنان له من حديقة الحيوانات وقد تم تقييده واعادته
الى قفصه بحركة استعراضية دعائية فيها الكثير من اصطناع الخوف
ونلاحظ في عودة سعيد س. اختفاء للسلطة المحتلة، فلا حواجز ولا عوائق
على الطريق ولا اشاعات تسري هنا وهناك فقد قام سعيد س. في رحلته كمن يقوم برحلة
من بيروت الى صيدا لم تعترضه حواجز تفتيش ولا نقاط حدود ولا تشكيك ولا مشككين,
في حين كانت طريق صاحب نهر يستحم في البحيرة مليئة بالعقبات بل ان اكثر احداث
الرواية وصورها الرمزية انما تتم في الطريق من رام الله الى سمخ.
لا تاتي رواية كنفاني على ذكر المنفى إلا عرضا في حين يخصص يخلف
مكانة خاصة له ويعليه على الوطن. ففي مقارنة بين وعد الحبيبة الفلسطينية وعائشة
التونسية, تتغلب الثانية على الاولى, فما عائشة في بهائها وعطرها وثوبها المطرز
إلا المنفى الرحب الذي حضن الفلسطيني وعطف عليه في حين كان الوطن مثخنا بالجراح
والذكريات الاليمة
ـ عائشة قطعة من روحي (الراوي)
ـ عائشة هي جنون الفلسطيني التائه (وعد)
ـ عائشة دمعتي وابتسامتي . . . عائشة قمري ووردتي
ـ لعلها وردة الجرح
ـ بل هي وردة الدفء العربي(8)
في حين كانت وعد الحبيبة التي كبرت ورحل بريق خاص من عينيها وبدأت
التجاعيد تحبو تحت خفنيها , هي الحبيبة القادمة "من وراء الريح والضباب
وبوابات الغربة والضياع ومن وجع سبعة وعشرين عاما ومن اخاديد وشقوق السنين
الهرمة " (9)
ومما تجدر ملاحظته هنا, ان الكاتب في نظرته هذه خالف ما هو شائع في
الادب الفلسطيني, فنحن قليلا ما قرأنا في هذا الادب تمجيدا للمنفى بل نقمة
وأدانة له: فمن قصص" سميرة عزام" الى روايات "غسان كنفاني" الى اعمال "الياس
الخوري" وصولا الى زميلة الكاتب في تجربة تونس "ليانه بدر", نقرأ مرارة غربة
واغتراب وصعوبة تقبل. فالمنافي باستثناء دولة عربية واحدة او اثنتين ,كانت
اطرافا تتجاذب الفلسطيني فهذا ينبذه وذاك ينفيه وثالث يقمعه وكل يجد التبرير
الملائم لفعلته. فالفلسطيني ناكر للجميل حينا ومتآمر حينا اخر وطامع بالحكم في
ثالثة . . . ولطالما سمعنا قصصا عن فلسطينيين بقوا لايام في الجو وتبادلتهم
المطارات عشرات المرات، واخرين ظلوا لاسابيع في البواخرلان الموانئ لا تستقبلهم
وذاك يرميهم على الحدود في العراء الى ما شاء الله. إلا أننا لا يمكننا أن
نتجاهل ما رمى اليه الكاتب من هذه المقارنة فهو حتماً رمى الى القول انه عاد
الى وطن ليجده منفى اشد مرارة وقسوة من المنافي الاخرى التي شكونا منها. منفى
يرفضك بكل فئاته, الرسمية منها والشعبية. في حين كان المنفى العربي حضنا شعبيا
دافئا يعوض ما تلحقه الجهات الرسمية من رفض وتنكر وإسآة . . . ومما يرجح هذا
التأويل ان موقف الشخصية كان مختلفا في اول الرحلة . لقد فرح لمشاهدة الوطن
وغّلبه على المنفى, واشار ضمنا الى مرارة الحياة المتشردة . فها هو بطل القصة
( الراوي , المؤلف) يفرح لمشاهدة الشرطة الفلسطينية في غزة ويترجم لمشاعر
الشرطي فيقول: هو سعيد بما امنته له الاتفاقية فهو يشعر بسعادة غامرة عندما
يقارن بين وضعه الجديد ووضعه السابق إذ كان يعيش في معسكر السنكات مع قبائل
الهدندو , "لقد خلع بذلته الكاكية المرقطة ولبس ثياب الشرطة واستمتع باستقبال
حافل من الجماهير عشية دخوله من معبر رفح "(1) وما هذه المواقف القلقة إلا
انعكاس للبلبلة الحاصلة في ضمير الكاتب ومن ثم ضمير الانا الجمعي إزاء التحولات
الدراماتيكية التي طرأت على القضية وابنائها, فزعزعت ما كان ثابتا لديها من
قناعات
اما من ناحية الاسلوب فقد اتبع كنفاني الاسلوب الواقعي المباشر فقد
كانت رحلة العودة لسبب ذاتي مباشر هي رغبة الام في الاستفسار عن ابنها المفقود
وكانت الاحداث طبيعية كمثل ما يمكن ان يحدث لأي كان. أما يخلف فقد اعتمد رمزية
تكاد تصل حد السريالية احيانا, فهو مثلا اعتمد على شخصية خارجة عن نطاق الحدث,
مستلة من التاريخ القريب, يستدعيها حين يتأزم النص لتنفث عما في الصدر من رفض
لامنطقي لسير الاحداث. هذه الشخصية هي الجندي الياباني اونودو الذي بقي لعدة
قرون بعد هزيمة بلاده ثابتا في كمينه يرفض كل الدلائل التي تشير الى الهزيمة .
. . لقد انتظر اونودو المتماهي بالفلسطيني المهزوم في متراسه ثلاثين سنة ينتظر
عدوا لا ياتي ويرفض تصديق المنشورات التي القتها الطائرات المعادية معلنة
استسلام بلاده . . . ثم يرفض تسليم سلاحه عندما يتحقق له صدق هذه المنشورات .
ورغم ذلك اصر على البقاء في كمينه. وعندما اضطر لمواجهة الواقع الاليم اصيب
بصدمة نفسية حادة : فقد وجد نفسه فجأة رجلا بلا قضية
وبكلمة، فان نص "نهر يستحم في بحيرة " وإن نحى في كثير من ظواهره
منحى مختلفاً عن كلاسيكيات الادب الفلسطيني, إلا أنه أبقى على الميزة الرئيسية
لهذا الادب لناحية كونه ادبا قلقا مشحونا دوما بالرفض والغضب, ولكنه وليد
المرحلة التونسية متفاعل مع الحدث المستجد (اتفاق اوسلو) يتقدم فيه الحزن
والانكسارعلى الرفض والغضب, وفيه يتراجع دور المقاوم المنفي ليفسح في المجال
لدور المهاجر المؤمرك. والنص في مجمله رحلة عبور حزين عكس منطق الاشياء, من
المنفى الى وطن لم يحرر . . . تحكمه رؤيا ضبابية للمستقبل , اللهم إلا تلك
الصرخة الغاضبة التي تختتم فيها القصة : "القنبلة موجودة داخل صدري . . . في
اعماقي . . . حذار من الاقتراب فقد تنفجر بين لحظة واخرى (41)
أما رواية كنفاني فهي على حد تعبير د. فيصل دراج تأمل لحوار العدل
والقوة العقيم. وفيها يضيء كنفاني انفعال الانسان الموجود في قلب الظاهرة .
وفيها يقف كنفاني لاول مرة في الرواية العربية, امام صهيوني محدد الاسم والعمل
والمسار بعيدا عن التجريد التبسيطي العربي المسيط . فكأن كنفاني يعترف بالوجود
الصهيوني كي يعرف وبشكل مشخص سبل مواجهته دون شعاراتية وفائض لغوي. ولأن كنفاني
تعامل مع عسكري صهيوني مشخص لا ترديه لغة الوعيد قتيلا فهو لم يقف على "الشرفة
العالية" بل كتب مرتبكا وارتبك وهو يتمرد على مقاياسات مجردة
سدني استراليا3/10/06
أضيفت في01/05/2006/خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
حول أدب الطفل العبري
بقلم الكاتب:
السيد
نجم
كان هدف الحركة الصهيونية مع بداية العمل على إقامة كيان يهودي على
الأرض الفلسطينية, من خلال الإجراءات السياسية والعسكرية, مصحوبا بالبعد
الثقافي.. في مجالات الإعلام والتعليم والأدب. وبرز الاهتمام بالطفل العبري بعد
إعلان دولتهم في 1948م.. على أساس كونه نبتة قابلة للتشكيل, وصورة رجل الغد
وصانع مستقبلهم.
ولما كانت "اللغة العبرية" من اللغات الميتة, التي لا يتحدث بها
أحد, وربما اندثرت منذ عشرين قرنا, إلا من التراتيل الكهنوتية في معابد
اليهود.. فبات الطفل هو مستقبل تلك اللغة, والحافظ عليها من الاندثار ثانية.
وأصبحت "اللغة العبرية" لغة التعليم وكتب الأدب, فضلا عن كونها اللغة الرسمية.
وبذلك لعب الطفل دوره في ترسيخ فكرتهم حول "القومية اليهودية".جملة الأفكار
التربوية الصهيونية المتضمنة في كل المراحل التعليمية هي: ترسيخ قيم الثقافة
اليهودية الأساسية, تحصيل العلوم بأفضل السبل, محبة الوطن, وهو الملاحظ في
الأمثلة:
-مجموعة كتب "الأرض الطيبة" وهى التي صدرت عن وزارة المعارف
الإسرائيلية عام 1986م, تدرس بالمدارس الدينية اليهودية. تحت عنوان لأحد كتب
السلسلة "لمن تنتمي أرض إسرائيل".. ويجيب المؤلف على أن أرض إسرائيل تنتمي
لليهود, لكن جاءت بعض الشعوب (كالإسماعيلية) ويعنى العرب وكانوا قليلون جدا,
إلا أنهم جعلوها خرابا.
-في كتب الجغرافية, ما ورد بأن "الجولان" و"الجليل بأقسامه" من
الأرض الإسرائيلية.. كما حرص على الإخراج الفني الجيد للكتب, بحيث يعرض لبعض
صور المنازل العربية القديمة, فتبدو متهالكة, بينما يعرض لصور مبان يهودية
جديدة, بما يحمل مضمون أن وجود اليهود أضاف العمران إلى المناطق السكنية
والمدن.
هنا تبرز أهمية دراسة الأكاديمي الاسرائيلى "ايلى بودة": "الصراع
العربي الاسرائيلى في المناهج الدراسية الإسرائيلية (1948-2000م) (انظر العدد
الثالث والسبعون من دورية "وجهات نظر"- فبراير 2005م)
لم ينل أدب الطفل العبري الاهتمام الأكاديمي والبحثي الواجب عندنا،
على الرغم من خطورته, وليس فقط لأهميته في الكشف عن البعد الاستراتيجي للفكر
التربوي (الرسمي وغير الرسمي) هناك, ولكنه يكشف عن كيفية التعامل منذ الآن مع
رجال المستقبل وسيداتها, حتى لا يفاجئنا واقع جديد لم نعد له عدته.
نشير إلى سلسلة المغامرات "حسبما" التي صدرت في عام 1950م, وحتى
وفاة كاتبها عام 1994م. وقد صدرت باللغة العبرية وأصبحت أكثر شيوعا من تلك
القصص العالمية الشهيرة مثل "روبنسون كروزو" و"أليس في بلاد العجائب" وغيرها.
كما نشير إلى أكثر من سلسلة صدرت بعد معارك عام 1967م, والتي كتبها
"هازى لابين" و"شراجا أغافينى". والجديد أن تلك الأعمال ترجمت, وتخطت حدود
الطفل بالداخل إلى الطفل اليهودي وغير اليهودي في العالم كله.
ويبقى الانتباه إلى دلالة تاريخ الإصدار, حيث الأولى صدرت عام
1950م, مع بداية وضع ركائز دولتهم والسعي لتنشئة جيل جديد, بمفاهيم تهمهم. أما
الأخريات فقد صدرتا لمخاطبة طفل العالم وتلقينه المفاهيم نفسها, بعد معركة
عسكرية أرادوا حصد الكثير من ورائها, والانتصار فيها.
ماذا يريد الكاتب العبري من أطفال بلاده؟
يقول "لابين" كاتب أدب الطفل وأهم سلسلة هناك:
"كنت أسأل نفسي باستمرار: ماذا يمكن أن أقرأ لو كنت طفلا أعيش مثل
هذا الواقع.. نحن نعيش في زمن الصراع مع العرب, نعيش فيما يمكن أن يطلق عليه
"حقول الدم". لهذا نجد من واجبنا أن نبتعد عن كتابة القصص الجميلة التي تتحدث
عن الفراشات والأزهار وزيت الزيتون النقي.. هذا سيوقعنا في كارثة, نحن في غنى
عنها. ترى ماذا سيكون موقف الطفل الذي تفاجئه الحرب, وهو يقرأ قصة الطائر
المغرد؟ ماذا سيفعل.. لا شك أنه سيفقد ثقته بنفسه وينهار, وهذا تضليل لا يمكن
أن نسمح به"
تقول الناقدة العبرية "تامرا مازور":
"إن الظاهرة التي تهزنا بعنف هي أدب الأطفال في البلد, حيث نجد أن
الأطفال تتخاطف الكتب بلهفة وشوق كبيرين, هذه الكتب التي تركز دائما على موضوع
واحد, هو تصوير الأطفال اليهود بأنهم أطفال جبابرة عظماء لا يقهرون, يهزمون
العرب الأغبياء بسهولة ويسر, هؤلاء الذين يريدون أن يقتلونا من أجل المتعة
الذاتية فقط".
تبدو المقولات الأولى ل"لابين" انفعالية, وتحمل الصورة التي يتولاها
الكاتب العبري في تعامله مع قصة وأدب الطفل.. بينما المقولة الأخرى ل"تامرا"
تحمل قدر موضوعية الناقد, وان كانت ضمن مفهوم (تحصيل الحاصل), حيث أنتجت وستنتج
الآداب الموجهة للطفل بأقلام الكتاب وحدهم.
نخلص في إشارة أولى إلى أن أدب الطفل العبري.. يتم كتابته بناء على
إستراتيجية محددة.. أنه يرتبط بالمتغيرات السياسية على الأرض وفى الواقع.. انه
أدب جيد بالمقاييس الفنية والتقنية وينجح في جذب الطفل غير العبري في العالم
كله.. أنه أدب يتسم بقيم العنف والعدائية على العرب.. وأن أدب الطفل العبري
يدخل ضمن منظومة أعلى وأكبر وربما ضمن منظومة البلاد الإستراتيجية.. وليس من
أجل الترفيه أو التسلية.
قصة "الأمير والقمر" للقاص العبري "يورى ايفانز".. نموذجا:
# النص:"قالت الصغيرة لي: من الذي سرق القمر؟
قلت: العرب.
قالت: ماذا يفعلون به؟
قلت: يعلقونه للزينة على حوائط بيوتهم!
قالت: ونحن؟
قلت: نحوله إلى مصابيح صغيرة تضيء أرض إسرائيل كلها.
ومنذ ذلك الوقت, والصغيرة تحلم بالقمر, وتكره العرب, لأنهم سرقوا
حلمها وحلم أبنائها.
هذا الصباح جاء أمير صغير إلى بيتنا وقال: هل تقبلونني ضيفا؟
رضينا به, لكن الصغيرة قالت: على أن تقول لنا من أنت؟
قال: أنا فارس من فرسان الأرض, محارب قديم في أرض إسرائيل. مت
صغيرا, لكنني أخرج مرة في كل عام, أطوف في هذه الأرض, وأسأل إن كان شعبي يسكنها
أم لا.
قالت الصغيرة: نحن شعبك, وأنا حبيبتك أيها الأمير.
قال الأمير: ما أروعك.. أطلب منك الملجأ ليلة واحدة, فتفتحين لي
قلبك, أنت يهودية حقا.
قلت: نعم, كلنا هنا شعب إسرائيل.
ضرب الأمير برمحه وقال: إذن نحقق الحلم الآن أستطيع أن أعود إلى
قبري مرتاح البال.
تشبثت به الصغيرة, وقالت: لا.. لم يتحقق الحلم بعد.
قال الأمير: كيف.
قالت الصغيرة: لقد سرقوا القمر.
قال الأمير (وهو يضرب برمحه مرة ثانية): من؟
قالت الصغيرة: العرب.
بصق الأمير على الأرض قال: الجبناء, كلهم لصوص وقتلة, لكن لابأس.
سألت الصغيرة: وماذا سنفعل ؟
قال الأمير: انتظري الليلة, سأعود لك بالحلم الجميل.
انتظرت الصغيرة, القت رأسها على إطار النافذة.
وظلت تنظر إلى السماء.
ومرت الساعات, ونام الأطفال والنساء والرجال والشيوخ, ولكن الصغيرة
ظلت تنتظر, لم تيأس ولم تستسلم للنوم, لأنها تعرف أن أطفال شعب إسرائيل لا
يكذبون.
بعد منتصف الليل بقليل, انشقت الغيوم فجأة, ورأت الصغيرة القمر لأول
مرة, رأته جميلا ورائقا, حدقت فيه طويلا, ثم ركضت إلى وقالت: استيقظ يا أبى,
استيقظ, وقادتني إلى النافذة وقالت: أنظر يا أبى, هل هذا وجه الأمير الصغير؟
قلت: يا بنتي, الذي سرق القمر هو الذي قتل الأمير الصغير.
لم تبك الصغيرة, فقد تحقق حلمها وأشرق القمر على أرض إسرائيل."
تعليق على القصة:
تلك القصة معبأة بالأفكار والأهداف التربوية والمعلوماتية, والتي
يرى الكاتب العبري غرسها في الطفل العبري, منها:
.."البحث عن الذات" العبرية, والتي يستشعر الكاتب ضياعها أو الخوف
على ضياعها.
.. "أن اليهود ضحايا التاريخ", وما صنع فيهم يجب الانتباه له والآ
يتكرر.
.. "الاستيطان" وأنها واجبة عليهم وحق يجب غرسه في الأجيال الجديدة.
.. "الآخر العربي الحقير, الذي يجب قهره", وهو بدا في القصة من
خلال.. خروج الأمير الصغير لمحاربة العرب, أن العرب يسرقون الحلم والنور (رمز
القمر), كما أن العرب سفهاء (يستخدمون القمر للزينة على جدران بيوتهم).
.. ربط "اليهودي" أو المنتمى إلى ديانة سماوية, بفكرة "الصهيوني"
العنصري أو المنتمى.
.. مع تكريس فكرة "كره العرب" و"تعبئة الجيل الجديد بالأفكار
الصهيونية" و"القتل هو الحل, مع عدم الرغبة في القتل, بل ضرورة يجب على اليهودي
ممارستها".
هل نجح أدب الأطفال العبري في تحقيق أهدافه؟
في دراسة تحليلية على شريحة سنية من العاشرة حتى الثالثة عشر, لعينة
عشوائية عددها 520 تلميذا, نفذها البروفسور "أدير كوهين" تحت عنوان بحثي:
"انعكاس شخصية العربي في أدب الأطفال العبري" (تم البحث عام 1985م).. وقد انتهى
البحث بالنتائج التالية:
.. شيوع فكرة "الخوف من العربي", فأكثر من 75% من العينة وصفت
العربي ب"خاطف الأطفال" و"المخرب" و"المجرم", و"القاتل".
.. أكثر من 80% من العينة وصفت العربي ب"في وجهه ندبة", "يلبس
كوفية", "راعى البقر", "يعيش في الصحراء", "قذر"...الخ
.. الجهل بحقيقة العرب كأفراد وشعب, من الأطفال من وصفه "العرب لهم
ذيول", "العرب لهم شعر أخضر"..الخ.
.. حوالي 90% من أطفال العينة يرون أنه ليس للعرب حق في البلاد, لذا
يجب قتلهم أو ترحيلهم بعيدا.
.. الغالبية من أطفال العينة لا يعرفون أسباب النزاع بين العرب
وبينهم.. وكان سمة الإجابة العامة هي: إن العرب ينون قتلهم, وتشريدهم من
بلادهم, واحتلال مدنهم, بل ورميهم في البحر.
.. مفهوم "السلام" عند أطفال العينة, هو سيطرة الإسرائيليين على أرض
إسرائيل الكاملة.
إجمالا يعد الهدف/الأهداف التربوية في الأدب الموجه للطفل العبري
هي:
أولا: تزكية الروح الدينية في الطفل.. في سبيل ذلك تقدم قصص الأطفال
الكثير من المعلومات الدينية, للتعريف بها وربطها بالبعد الاستراتيجي
للصهيونية. فبالإضافة إلى التعريف للشريعة والأحكام اليهودية, يتعرف على بعض
الأيام لتعظيمها, مثل عيد السبت, الحانوكة, التدشين, الأنوار, الشموع, عيد
الفصح. وفيها يتبادل اليهود التهنئة بقولهم (نلتقي في العام القادم في القدس)
وهى إشارة إلى أن هذا الوقت وقت الحج إلى القدس!(أنظر "هكذا يربى اليهود
أطفالهم"- سناء عبداللطيف- ص94)
ثانيا: إحياء اللغة العبرية التي ماتت منذ عشرين قرنا.. ففي قصة
"فتيان بر يوحاى" يقول الكاتب: "كان ربى شمعون يجمع فتيان إسرائيل في تسبورى
وفى الجليل ويغرس في قلوبهم الحب لشعبهم ولغتهم" (أنظر المرجع السابق ص109)
ثالثا: تشويه صورة العرب وغرس العدائية وبذور العنف تجاههم.. من
خلال:
-تلقين الصغار فكرة أن اليهود هم أساس التطور في فلسطين.
-تعتبر فلسطين الجولان أرضا يهودية, والأقاليم المجاورة غريبة عنها.
-العرب محتلين للأرض, والفتح العربي غزو تاريخي.
-العرب بدو رحل جاؤوا إلى فلسطين لهضم الحضارة اليهودية.
-توجد ممتلكات يهودية في الأردن وجنوب لبنان.
-وصف العرب على أنهم معتدين وقطاع طرق.
-إظهار قدرة الجندي الصهيوني وكأنه بطل أسطوري.
-الادعاء بأن الفلسطينيين هم الذين هربوا من ديارهم.
-اتهام العرب بالعدوان والبدء في كل الحروب التي خاضوها معهم.
يقول "تسيبورا شارونى" في حديثه عن التوجه القومي في المدارس
العبرية: "إن جميع الجنود ممن يؤدون الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة, أولئك
الشبان الذين يسكنون أوريهودا... حيث عملية إحراق العمال العرب... إن ذلك كله
نتاج مدرستنا.. نتاج البرامج التعليمية.. نتاج التربية الرسمية وغير الرسمية,
ولكن للتربية الرسمية نصيب الأسد, إذ لم ترد كلمة واحدة في البرنامج
التعليمي لليهود حول التطلع للسلام بين إسرائيل وجاراتها." (أنظر:مجلة
البيان, العدد 173, ص58)
رابعا: غرس مفهوم القومية اليهودية, والشعب اليهودي الواحد.. في
القصص الكثير من تلك الصور, ففي قصة "حرب ثمار الصنوبر" كتبت الكاتبة "نعما
لافين": "لما أحس الأطفال بالخطر الذي تعرض له "زئيف الصغير", حيث كاد ينكسر به
جذع الشجرة, اجتمع الأطفال, ونزل القناصة من أعالي الأشجار وانضموا إلينا..
وقفنا جميعا حول الشجرة.. لم نعد مجموعتين.. لم تعد هناك روح الحرب التي تفرق
بيننا.. إن القلق على سلامة "زئيف" وحد بيننا جميعا" (أنظر: هكذا يربى اليهود
أطفالهم, سناء عبداللطيف, ص134)
خامسا: تمجيد فكرة البطل اليهودي والاسرائيلى.. "البطل" في الفكر
الصهيوني هو البطل اليهودي القديم (في العهد القديم), والبطل الحديث الذي أقام
دولتهم على الأرض الفلسطينية. ففيه فكرة القدوة للصغار, وبذر بذور التمثل
بالمثل الأعلى.
يقول "بنيامين جلاى": "إن العهد القديم يحتوى على بطولات كثيرة تعلم
شبابنا منها القدوات والمثل العليا" (أنظر المرجع السابق ص149)
لعله من المناسب الإشارة إلى جملة النتائج التي أوردتها الباحثة
"سناء عبداللطيف" في بحثها بعنوان "الاتجاهات الأيديولوجية في أدب الطفل العبري
في إسرائيل", وهى:
"تعدد الاتجاهات الإيديولوجية في القصة الواحدة, مما يدفع الملل عن
الطفل– يسعى القاص إلى التصوير المثالي للمجتمع الاسرائيلى– لم يوضح القاص
أسباب الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في بعض البلدان– لم يكتب عن الشعوب الأخرى
التي عاش بينهم اليهود, إلا الشعوب التي اضطهدتهم– يتجنب القاص الاسرائيلى ذكر
اسم "فلسطين"– لم يتناول أدب الطفل العبري أحداث ما بعد معارك أكتوبر73, مع
الاكتفاء بأحداث حروب 48و67 التي حقق فيها جيشهم الانتصارات– قصص البطولة
والأبطال كثيرة وبنسبة عالية بين نوعيات القصص وموضوعاتها (نجدة المستغيث, أو
أداء الأعمال الصعبة, أو غيرها)– كثرة وجود البطل "الأنموذج" والخارق للطبيعة–
تناول الشخصيات الناكرة لذاتها والمضحية بنفسها وحياتها من أجل المجموع والوطن–
يلجأ الكثير من كتاب القصة إلى تمثل التجربة ومخاطبة الطفل على أنها تجربته
الخاصة– التركيز على بعض القيم مثل احترام العمل, غزو الصحراء, تقديس العمل
اليدوي وغيرها– الاهتمام بتزكية تذوق الجمال وجمال الطبيعة– العمل على تنشئة
الطفل على حب العمل الاجتماعي والقيادة والمشاركة– تنمية المفاهيم العلمية
والتفكير العقلاني والإبداع– إبراز شعار "شعب يهودي واحد" من خلال الأحداث داخل
الأسرة, وخارجها مع يهود العالم- إبراز فكرة التقارب الفكري بين اليهود– جانب
هام وكثر من تلك الإبداعات تتناول العقيدة الدينية ومفاهيمها –هناك شبه إجماع
في الأدب العبري, في التركيز على فكرة الاضطهاد الأبدي لدى اليهودي في بلاد
الشتات– تنمية الإحساس بالمسئولية تجاه الدولة– تنمية الوعي التاريخي لأحقية
اليهود في فلسطين- الدعوة لأهمية اللغة العبرية للربط بينها ومقولة "الأرض
التاريخية"– يزكى أدب الطفل العبري الإحساس بحتمية الحروب, مع التوعية بويلاتها
وأيضا بأهمية التفوق للانتصار فيها– إبراز الشعور الدائم بالتهديد الخارجي–
تأكيد مقولة "الجوييم" أو "الأغيار" أو "الغرباء" في وصف غير اليهودي– تزايد
جرعة الترهيب من العربي من أجل تثبيت الروح العدائية في نفوس الأطفال- أدب
الطفل العبري غالبا متفائل, حتى قصص الاضطهاد تنتهي بنهاية مناسبة, بالهجرة إلى
إسرائيل– انعدام الحديث عن المستقبل, اللهم القول بحتمية وجود اليهود في
فلسطين– السمة الغالبة للأدب العبري للأطفال هي الاهتمام بالماضي– يستخدم بعض
الأدباء أسلوب الحوار في القصة مما يزيد من فرصة مشاركة الأطفال في العمل
الأدبي– الاهتمام الزائد في شرح المناخ النفسي لأبطال القصص, مما قد يربك
الطفل– تقدم القصص في شكل جذاب مناسب يشد انتباه الطفل بالرسومات والصور"
(أنظر: عالم الفكر, المجلد الرابع والعشرون, العدد الثالث,
يناير/مارس 1996م)
المراجع والمصادر:
1-صفا عبد العال/ "تربية العنصرية في المناهج الإسرائيلية"/
الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة عام 2004م.
2-هارون هاشم رشيد/ "الصهيونية في الكتب المدرسية"/ وزارة
التربية والتعليم- المملكة العربية السعودية/ الرياض عام 1418هجرية.
3-ايلى بودة/ "الصراع العربي الاسرائيلى في المناهج الدراسية
(1948-2000م)- دورية "وجهات نظر"/ دار الشروق/ القاهرة2005م.
4-عدد خاص "مجلة الفكر/ المجلد الرابع والعشرون/ العدد الثالث,
يناير-مارس1996م
5-مجلة البيان/ رابطة الكتاب الكويتيين/ الكويت العدد173.
6-سناء عبد اللطيف/ "الاتجاهات الإيديولوجية في أدب الطفل
العبري في إسرائيل"/ شبكة الانترنت.
7-سناء عبد اللطيف/ "هكذا يربى اليهود أطفالهم"/ دار القلم-
دمشق عام1997م
أضيفت في05/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
(للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
"الخبز المر" والبحث عن طريق!
بقلم الكاتب:
السيد
نجم
"ماجد أبو شرار" يعرفه الساسة وقليل من الأدباء. استشهد من جراء
قنبلة في غرفة نومه بايطاليا عام 1981م, وهو تاريخ المجموعة!
يقول الكاتب "يحي يخلف" عنه في مقدمة المجموعة: "نشرت معظم قصص هذه
المجموعة في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية, والتي ظهرت في مطلع الستينيات...
لعبت دورا كبيرا في تنشيط الحياة الثقافية... وبالرغم من توقف المجلة عن الصدور
عام 1966م, إلا أن أثرها على الثقافة في الضفة الغربية والأردن ما زال ماثلا...
وقدمت المجلة على صعيد القصة القصيرة عددا من الكتاب, كان من أبرزهم: ماجد أبو
شرار, نمرسرحان, صبحي شحروري, محمود شقير, حكم بلعاوى, خليل السواحرى, فخري
قعوار, ويحيى يخلف. لقد تميز "ماجد" من بين تلك الأسماء, ولفتت قصصه انتباه
نقاد الأفق الجديد."
كما أبرز "يخلف" أن فترة كتابة تلك القصص تتميز ببعض الخصائص التي
تحمل ملامح المرحلة في إطار مراحل التجربة الأدبية الفلسطينية, والتي تميزت عن
غيرها من التجارب العربية, ارتباطها بالمفاهيم الكلية, والتعبير عن الصمود
والمواجهة والرفض, كل ذلك في إطار عام حول الوطن, والمواجهة المباشرة مع العدو
في حياة الإنسان الفلسطيني اليومي..أو في إطار غير مباشر.. وفى كل الأحوال
الأدب الفلسطيني هو أدب مقاوم.
أما ما رصده الكاتب "يخلف" حول كتابات تلك المرحلة:
-أن القصص المنشور على صفحات "الأفق الجديدة" تمثل الارهاصات الأولى
لقصة فلسطينية ناضجة.. وهى التي سبقت ورافقت إنشاء "منظمة التحرير الفلسطينية"
(أنشأت عام 1965م) حيث بداية الكفاح المسلح.
-أن قصص تلك المرحلة (والمنشورة في الأفق الجديد) تحمل دلالات
سياسية واجتماعية للمجتمع المدني الفلسطيني (بعد النكبة في 1948م).
-تميزت قصص "ماجد" بالواقعية ذات المضمون الاجتماعي الملتزم بقضية
الكادحين.. مع مسحة تأثر بالفلسفة الوجودية التي شاعت خلال تلك الفترة.
وبعد, فان قارىء قصص المجموعة "خبز مر", حتما سيجد مصداقية تلك
الملامح التي رصدها "يحيى يخلف"..ولا يبقى سوى التقاطها بين ثنايا القصص. وهو
ما توافق مع منهجي في تناول الأدب النثري الفلسطيني مرحلة فأخرى.
تضم المجموعة 12قصة قصيرة (توجد قصص أخرى, ربما ستنشر مستقبلا )
وهى:"صورة", "مكان البطل", "النجار الصغير", "أفاعي الماء", "سلة الملوخية",
"برازق", "تمزق", "جسر منتصف الليل", "الخبز المر", "وأنهار الجدار", "الشمس
تذوب", "الزنجية". يقع الكتاب في 93صفحة, وهو ما يكشف عن حجم القصص.. فلا توجد
تلك القصص المطولة تحت عباءة القصة القصيرة, كما كان شائعا في قصص تلك الفترة
في الكتابة القصصية العربية. كما أن تاريخ كتابة تلك القصص ما بين 59 حتى 64,
أي حوالي خمس سنوات.
:قصة "الخبز المر"
"فائق" شاب يعمل مع "أبوخميس" الشيخ وقد بلغ الخمسين من عمره,
يعملان عملا قاسيا في منجم للفوسفات. الأول يحمل خصائص الشباب من فتوة وعفوية
ورغبة في البحث, على الرغم من كل الظروف الصعبة التي يعمل في ظلها. بينما الآخر
شيخا مهموما طول الوقت ولا رغبة عنده إلا في الصمت!
نجح الشاب في اقتحام شرنقة الشيخ, فعرفنا هموم الرجل وآماله..
"سهلة" ابنته المتفوقة في الدراسة حصلت على المرتبة الأولى في صفها.. الملعونة
"ليلى" تحلم بسيارة حمراء ناعمة. أما الهم الأكبر فهو مرض الشيخ..بدأ نور العين
يذوى, ولا يريد الشكوى حتى لا يفصل من العمل. لم يكشف عنها إلا قبل غيابه
الغامض عن العمل..أنه مصدور , مريض بداء السل, وأيضا يطوى آلامه داخل صدره.
كل ما كان يتمناه, ويكرره كحلم متجدد وأمنية غالية يرددها للشاب:
كان يتمنى ألا يموت إلا بعد أن تكتمل ابنته سهيل دراستها الثانوية.
لكن: "ذات صباح لم يحضر أبوخميس إلى العمل.. علمت أن المرض بدأ
ينتصر, وذهبت إلى بيته... نوبات السعال بدأت تخمد وتهدأ, جذوة الحياة في عينية
تخبو رويدا, ونظرة مسكينة محملة بألف معنى تواجهني كلما نظرت إلى عينيه, وسهلة
وأمها والبنات ينتحبن بصوت خافت, وأغمض عينيه ورفع كفه المعروفة, وانتفض, وسقطت
كفه على صدره وأسدلت الغطاء على الوجه الهارب من الحياة" ص70
:قصة "مكان البطل"
"قلة....أولئك الذين كانوا يعلمون أن العاصفة وشيكة..وستأتي مزمجرة
عنيدة طاحنة..أما الكثرة..فقد استسلموا لراحة لا لذة فيها...فهم يعلمون أن
الراحة سيعقبها تعب.. وينظر إبراهيم إلى ساعته ويسحب نفسا أخيرا من لفافته
ويلقيها ثم يدوسها....يتمتم:"إنها النهاية...".ص18
تلك هي بداية القصة, والتي كتب تحت عنوانها إهداء "إلى روح
البطل..إبراهيم أبودية" (وهى الوحيدة المهداة إلى أحدهم).
أمامه ما أثار غضبه, فقد كتب عليها "القدس تستسلم".. وهو ما أغضبه,
حتى أنه مزق الجريدة. يخرج من حجرته ويطلع على أحوال الجنود (الوحدة تحتل إحدى
القلاع الهامة عسكريا).يقابل الجندي "جبر", يتحاوران حول أخبار الهجوم الوشيك
من الأعداء على القلعة.. وهو الهجوم الخامس بعد فشل الأربع هجمات السابقة!
الساعة عبرت السادسة مساء, وقرب الهجوم على بدايته, ويشرد القائد
"إبراهيم"..في زوجته وأسرته, في أفاعيل العدو الغاصب, في الاحتمالات
المنتظرة..إلا أن "جبرا" الجندي النشط جاء بالخبر.. الهجوم هذه المرة مع
استخدام الدبابات!!
تكفل "جبر" و"عبدالرحمن" بمنطساعات.اجز, على أمل إعاقة الأعداء
بدباباتهم المدرعة. بدأت المعركة, واستمرت لثلاث ساعات ..فقد اثنين حتى الآن
وبقى ثمانية وستون. ويذوب سواد الليل مع أنفاس النهار الجديد.. موت وحطام في كل
مكان..والمصيبة أن الدبابات بدأت الآن تأخذ دورها في المعركة. اتصل "إبراهيم"
بالقيادة, أمروه بالانسحاب..وفورا. تابع الموقف, فأمر رجاله بالانسحاب, وبقى
"جبر " المصاب.. وحتى أستشهد في موقعه.
"في السنوات القليلة التي تلت موت "جبر", والتي قضاها "إبراهيم"
طريح الفراش بعد إصابته في أحدى المعارك, كان يستدعى "سالم" وأخوته ليذكرهم
بولدهم "جبر"..البطل الذي منح الحياة زملائه نظير موته."
هاتان القصتان "أنموذج" لكتابة القصة عند ماجد أبو شرار:
-القصة هي حالة إنسانية..سواء بالتناول العسكري البطولي أو المباشر,
أو التناول الاجتماعي لعامل أو غير عامل.
-البطولة تعنى "الاستشهاد", والعمل من أجل الوطن. كما أنها "الصبر"
عن علات المرء من جراء هذا الوطن المحتل أو الفقير أو العاجز.
-الخصائص الفنية هي من ملامح كتابة القصة في زمنه ومكانه, وربما تعد
القصة عنده أكثر نضجا فنيا, منها عند آخرين من أبناء جيله.
فالراوي العالم بكل خفايا شخصياته ومصائرهم هو المهيمن على العمل,
وجهة النظر المباشرة الواضحة تكشف عن نفسها مع السطور الأولى للقصة. لذا كان
استخدام المتكلم هو الغالب بين القصص.. إلا قصص "جسر منتصف الليل" ,"تمزق",
و"مكان البطل", استخدم فيها ضمير الغائب.. وقصة "برازق" استخدم فيها ضمير
المخاطب.
كما أن غلبة الحكى والسردية جعلت من القصص صور اجتماعية تارة, أو
نشيد للبطولة تارة أخرى.. (وهو ما كان شائعا في كتابة القصة في حينه).
أضيفت في15/05/2006/خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
تعدد الأصوات في القصة القصيرة
"لو كنت حصانا"
غسان كنفاني
مصداقا
بقلم الكاتب:
د.عبد الهادي أحمد
الفرطوسي
يرد العنوان بصورة جملة شرطية حذف جوابها فخرجت من الشرط الى
التمني، غير أنها تعود الى اكتساب صفتها الشرطية بعودة جوابها إليها في الجملة
الأولى من العمل، وبذلك تكون العلاقة بين العمل وعنوانه من النوع الثاني بحسب
تقسيمات د. محمد فخري الجزار، أي أن إعلام العنوان يصير " جزءا من كل ، هو
إعلام العمل أي أنها علاقة عضوية " ، غير أن هذه العلاقة لا تمنع من البحث عن
الدلالة التي تخلقها المفارقة القائمة بين العنوان والجملة الأولى من العمل،
وليؤجل الحديث في هذه النقطة الى الحيز الأخير من البحث ، لكن ما يترك أثره على
امتداد العمل هو التقابل الذي يحدثه العنوان بين البطل مشارا إليه بضمير
المخاطب وبين الحصان ، والعلاقة التي تقيمها بين الاثنين الأداة " لو" التي
تمنح العلاقة بين الشخص والحصان صفة مزدوجة ، ففي الوقت الذي تنفي الأداة "
لو" اتصاف البطل بالتماهي بالحصان ، بوصفها أصلا حرف امتناع لامتناع ، تمنح
العنوان – بصيرورتها حرف تمنّ - دلالة أخرى وهي الرغبة في أن يتماهى البطل
بالحصان.
تستهلّ القصة بالجملة الآنية :
"– لو كنتَ حصانا لأطلقت رصاصة في دماغك"، وتختم بـ "وكان يقرع بلاط
الشارع المبلول بقدميه الكبيرتين فيرجع الصدى كأنه خبب حصان"
وبين هاتين الجملتين عشر صفحات من الأحداث تدور حول الرجل والحصان
اللذين تأسس عليهما متن حكائي مركب من ثلاث قصص صغيرة يضمها مبنى حكائي واحد ،
تدور الأولى حول حصان يحمل في بطنه بقعة حمراء ، يقول عنها أبو محمد أنها دم
الضحية ، وأن هذا الحصان سيقتل عزيزا ، ويدعو إلى قتل الحصان أو بيعه … وتنتهي
القصة الصغيرة بأن يقتل الحصان أمّ الرجل ويرميها في النهر.
أما القصة الصغيرة الثانية فتدور حول رجل ولد وفي جنبه الأيمن شامة
كبيرة حمراء تشكل عند الأب – صاحب الحصان - علامة على دم الضحية التي سيقتلها
حامل هذه الشامة ؛ لذلك كان الأب خائفا من ابنه منذ ولادته ، وتنتهي القصة
الثانية بأن يموت الأب تحت مبضع طبيب غير كفوء ؛ لأن ابنه الجراح الأكفأ امتنع
عن القيام بعملية الزائدة الدودية تنفيذا لرغبة أبيه.
تتداخل الحكايتان بمهارة فائقة مشكلتين نصا سرديا محكم النسج.
* * *
يبيّن الوصف البنائي – تقول شلوميت كنعان- كيفية تنظيم الأحداث لخلق
مساقات صغيرة، تتحد بدورها لتشكل مساقات كبيرة ، والقصة التي بين أيدينا تتشكل
من ثلاثة مساقات صغيرة ، أو ثلاث قصص صغيرة باصطلاح برنس، الذي يعرّف القصة
الصغيرة بأنها تتألف من ثلاثة أحداث موحدة يكون الثالث عكس الأول، ويسبب الثاني
ا لثالث، ويكون الأول سابقا الثاني ، والثاني سابقا الثالث .
واستنادا إلى ذلك فإن القصة الصغيرة الأولى ، والتي سنطلق عليها
القصة أ تتشكل من الأحداث الآتية:
1 ولد الحصان وفي جنبه بقعة حمراء ؛ فتنبأ له أبو محمد أن سيقتل
عزيزا.
2كبر الحصان واستخدم.
3 رمى الحصان زوجة صاحبه من على ظهره فقتلها ؛ لأن صاحبه تركه يكبر
دون ان يقتله.
اما القصة الصغيرة الثانية والتي سنطلق عليها ب ، فإنها تتشكل من
الأحداث الآتية:
1ولد البطل وفي جنبه بقعة حمراء.
2كبر وصار جراحا ماهرا.
3 انصاع البطل لرغبة أبيه فترك زميله الفاشل يجري العملية تلبية
لرغبة أبيه ؛ فمات الأب .
أما القصة الصغيرة الثالثة فتتكون من الأحداث الآتية:
1 اكتشف البطل لماذا كان أبوه يخافه.(بسبب خرافة البقعة الحمراء)
2 حلل البطل الأحداث كلها.
3 اقتنع بخرافة البقعة الحمراء وأنه كان السبب في موت أبيه.
قبل الانتقال إلى الموضوع اللاحق لا بد من طرح السؤالين الآتيين:
1 هل كان الحدث الثاني سببا للحدث الثالث في القصة ب؟
2 هل كان الثالث عكس الأول في القصة ج ؟
أأجل الأجابة إلى نهاية البحث.
* * *
تحصل أحداث القصة ب في المدة التي تنتهي بها أحداث القصة أ ، وبكلام
أدق ان نهاية القصة أ هي بداية القصة ب ، لكن ورودها في النص لا يخضع لهذا
التسلسل، وإنما تتداخل أحداث القصتين وتتشابكان في أكثر من موضع ، وتبدأ القصة
ج بعد انتهاء القصتين ونتيجة منطقية لهما ، تعرض الأحداث جميعا من خلال منلوج
داخلي كبير يستغرق النص بأكمله، يمارسه بطل القصة ب؛ فيكون بذلك الشخصية
المركزية المبأ ّرة، حيث يمرّ كل شيء من خلال شخصية واحدة – بحسب جينيت- .
وبوساطة هذا المنلوج الداخلي تتناثر أحداث القصتين أ و ب تناثرا
غير خاضع لمبدأي الزمنية والسببية، ولعل اختيار المنلوج الداخلي لعرض الأحداث
خير وسيلة تبرر لنا هذا اللعب بالزمن وتكسير خطيته في القصتين أ و ب ، ويثير
الحفاظ على خطية الزمن في القصة ج تساؤلا.
ويوّضح الجدول الآتي تسلسل كل من أحداث القصتين أ و ب في النص وفي
المتن الحكائي وعدد مرات التكرار:
جدول 1
يبين تسلسل الأحداث في النص والقصتين ا و ب
الحدث تسلسله
في النصتسلسله
في القصة اتسلسله
في القصة بالتكرار الصفحة
لو كنت حصانا
ان أباه لم يهجر الخيل
إلاّ لما هجر الريف
كانت زوجته قد ماتت
بعد ان وضعت له ابنا
باع خيوله
ذهب وواله إلى الريف
سحب دفترا وقرأ
20 –4 - 1929 قالوا لي ان أبيعه أو أقتله (مولد الحصان)
1-12 – 1929 لن أفرط به
20 – 3 – 1930 لن أقتله
28 – 7 – 1930 القاها عن
ظهره
اطلق أبو محمد الرصاص في دماغه
كان يجب ان يقتل حينما سقط
على القش
قبل ان يطوح بها الحصان
سمع صيحة الم من غرفة والده
يتحمل مسؤولية موتها
ولد الحصان في ليلة عاصفة
كما حمل برق دم أمه
لماذا قتلها برق؟
ايكون قد قتله (أباه)بإهماله؟
* * *
يقول روبرت شولز "ان ازدواج السياقات هو البداية لذلك النوع من
الأدبية التي تميز الخيال القصصي" ، وكان قبل ذلك قد أسس نظرته هذه على ثلاثة
تقابلات ، من بينها الحاضر في مقابل الغائب ، وفي هذا النص المدروس ، وعلى
الرغم من ان القصتين أ و ب تنتميان إلى الغائب باعتبارهما احداثا ماضية ، لكن
المؤلف قد جعل عالم القصة ب حاضرأ ؛ لأن الراوي الرئيس بطلها فأحداثها حاضرة في
ذاكرته ، أما أحداث القصة أ فقد مثلت الغياب التام ، وظلّ الراوي يسعى إلى
اكتشافها بوساطة استذكاره لأحداث القصة ب و تحليلها، وهنا لا بد من العودة الى
العنوان بوصفه " يتوجه الى المستقبـِل حاملا مرسلته في دلاليته، وهذا الحمل هو
قصد المرسل" لإدراك حضور بطل القصة ب بالتعبير عنه بضمير الخطاب ، وغياب بطل
القصة أ بالتعبير عنه باسم الجنس والإيغال في تغييبه بذكره مجردا من أداة
التعريف .
* * *
يؤدي التكرار في - هذا النص – وظيفة سردية مهمة في تكسير خطية الزمن
، ويسم النص بالحكاية التكرارية باصطلاح جينيت ، فقد تكررت ثلاثة أحداث كما
يبين الجدول السابق ، هي: ولادة الحصان و مقتل الأم وبيع الخيول، فالحدث الأول
(مقتل الحصان ) يبرز أول مرة في الصفحة الرابعة مدونا في دفتر مذكرات يقرؤه
البطل الراوي معلنا تاريخ ولادته دون ذكره صراحة: "20 –4 –1929 قالوا لي أن
أبيعه أو أقتله…" ، ثم يتكرر الحدث في المقطع الثاني على لسان أبي محمد حاملا
وجهة نظره: "الحصان كان يجب ان يقتل عندما ولد وفي نفس اللحظة التي سقط فيها
على القش …" ، وثالثة على لسان الطبيب الذي أجرى العملية للأب في المقطع
الرابع وبتفصيل أشد يستغرق 14 سطرا :"وحكى والدك أيضا عن حصان كان عنده منذ
ثلاثين سنة ، لقد ولد في ليلة عاصفة من أمّ أصيلة وأب صحراوي جلبه بدوي معه من
قلب البادية ، كان أجمل حصان في العالم، في نظر أبيك ، كان ذا لون أبيض فضي صاف
لا تشوبه أية شائبة…..حاول أن يوقف الحصان على قوائمه……" .
أما مقتل الأم فإنه يرد أولا في عبارة عابرة ضمن مجمل سريع في
المقطع الأول :" كانت زوجته قد ماتت بعد ان وضعت له ابنا" ، ثم ترد في دفتر
المذكرات المشار إليه : " 28 –7 – 1930 ألقاها عن ظهره بوحشية على شاطئ النهر
تم حطّم جمجمتها بحوافره وبقي يدفعها بقائمتيه الأماميتين حتى أسقطها في
النهر….." .
وثالثة على لسان أبي محمد في المقطع الثاني ، "عاش معها سنة واحدة
وضعتك في أواخرها قبل ان يطوح بها الحصان على حافة ذلك النهر"، والتكرار الرابع
على لسان الطبيب:"حكى عن أمك…ثمّ قال أنه يتحمّل مسؤولية موتها مع برق
بالمناصفة " .
هكذا يؤدي التكرار إلى تكسير خطية زمن القصتين أ و ب ؛ فينتج عن ذلك
نوع من العتامة – كما يقول سعيد يقطين- ، التي تؤدي بالقارئ إلى التوتر.
* * *
يرتبط التكرار هنا بتعدد وجهات النظر ، فإن اتصاف النص بالتبئير
الداخلي الثابت – كما سبق – لا يلغي تعدد زوايا النظر، فمن المنلوج الداخلي
الذي يسرده الراوي الرئيس بطل القصة ب ينبثق ثلاثة رواة ثانويون ، هم : الأب
وأبو محمد والطبيب ، ومنها تنبثق ثلاث زوايا نظر جديدة.، فتعدد الرواة يؤدي الى
تعدد وجهات النظر، كما يرى الدكتور حميد لحمداني
ترتبط زوايا النظر هنا بالتشكيل الخارجي للنص، فهو مقسّم على خمسة
أقسام لم يعمد المؤلف إلى عنونتها أو ترقيمها، يتبنى القسم الأول والقسم الثالث
والقسم الخامس وجهة نظر بطل القصة ب بوصفه راويا لها ، أما القسم الثاني فأن
البطل الراوي يصير مرويا له ويكون أبو محمد راويا ، وفي القسم الرابع يأخذ
الطبيب موقع الراوي الذي يوجه الخطاب إلى البطل.
بهذا التشكيل نكون إزاء حالة تقابل ضدي بين وجهتي نظر ثابتتين ،
تتطور بتأثيرهما وجهة نظر البطل السارد : الأولى وجهة نظر أبي محمد الممثلة
للاتجاه الغيبي تقابلها وجهة نظر الطبيب المادية ، ويتمظهر التقابل الضدي داخل
النص بالصور الآتية:
1تقدّم وجهة النظر الأولى البقعة الحمراء على جنب الحصان علامة على
قتل عزيز، أما وجهة النظر الثانية فترى في البقعة الحمراء حالة عضوية لها
تفسيرها البايولوجي ، ويسمّي راويها أفكار أبي محمد بالخزعبلات والخرافات.
2ينتمي أبو محمد إلى الماضي الغابر فيملي حكمته على الأب ، أما
الطبيب فهو شاب من جيل الابن .
3يقدم المؤلف أبا محمد مكتفيا بكنيته ، وتلك تتضمن دلالتين الأولى
أن الكنية علامة على الاحترام والتبجيل ، والثانية أن المسمّى معروف لنا لا
يحتاج تعريفه إلى أسم او لقب ، أما الآخر فهو مجهول ، لا نعرف له اسما ولا كنية
ولا لقبا ، يكتفي المؤلف بذكر مهنته فقط ، يقول اسبنسكي ان من الوسائل الخاصة
للتعبير عن وجهة النظر على المستوى الأيديولوجي الاستفادة من النعوت والألقاب
الراسخة بالموروث الشعبي …. والتي تنسجم مع موقف المؤلف من الموضوع الذي يصفه .
هكذا تؤدي النعوت والألقاب وظيفة دلالية ، فيشير أبو محمد بفضلها
إلى الموروث الغيبي ، بينما يشير الطبيب إلى الفكر المادي الوافد من الغرب ،
4يعرض النص وجهة نظر أبي محمد مضمرة متداخلة بوجهة نظر الأب ابتداء
من العنوان الذي تحقق بصورة جملة شرطية حذف جوابها ، فتحوّلت الدلالة بفضل هذا
الحذف من الشرط إلى التمنّي ، ثمّ يتكرر عرضه إيماءات منسوبة إلى أبي محمد ،
فضلا عن وجهة نظره المروية على لسانه في المقطع الثاني بأكمله.
أما وجهة نظر الطبيب فتبقى مغيبة على امتداد المقاطع الثلاثة الأولى
، حتى إذا جاء المقطع الرابع كانت رواية الطبيب تنقل وجهة نظر أبي محمد مبطنة
بعلامات السخرية والتهكم ، ولا تبرز وجهة نظره صريحة إلا في جملة استفهامية في
آخر المقطع : "وأنا أعجب … ألم تناقشه أبدا في أمر هذه الخزعبلات ؟ " .
تشكل هيمنة وجهة النظر الأولى وضمور وجهة النظر الثانية علامة
سيميائية على تأصل الفكر الغيبي في التكوين النفسي والثقافي والأبستميولوجي
العربي ومدى ضمور الفكر المادي وهامشيته ، فيكون نتيجة َ ذلك التحوّلُ في
وجهة نظر البطل وقبله الأب من الفكر الرافض للغيبيات إلى اعتناقها ، ولا يعني
ذلك التحول تعبيرا عن وجهة نظر المؤلف .
وبين هذين الاتجاهين يصطرع الأب ومن بعده الابن ، وتتحول وجهة
نظرهما، يقاوم الأب غيبية أبي محمد ساعيا إلى تحطيم الأسطورة ، لكنه في النهاية
ينحني أمامها ، ويصير غيبيا خرافيا ، متى حصل هذا التغير في وجهة النظر ؟ حصل
ذلك في 28- 7 –1930 .
يرافق هذا التحول الهجرة من الريف إلى المدينة ، وقطع كل صلة تربط
الأب بعالم الخيول ، إذاً فعالم الخيول جزء من وجهة النظر تقف على الضد من وجهة
نظر أبي محمد.
* * *
من بين الوظائف التي أداها التكرار في هذا النص وظيفة التضخيم -
باصطلاح إمبرتو أيكو – الذي يرى في التضخيم إسهاما في تأويل المظهر الخطي للنص
، لقد اقتصر التكرار على شخصية الحصان من دون غيرها من الشخصيات ، فكان ان
تكررت ولادته ثلاث مرات ، وقتله الأم ست مرات، والإشارة إلى بيع الخيول مرتين –
كما بين الجدول السابق – وبذلك فقد تضخمت شخصية الحصان ، وهذا التضخيم يدفع
المحلل إلى ان يتعامل معه بوصفه علامة سيميائية مهيمنة .
أول ذكر للحصان يرد مدونا في دفتر أسهب المؤلف في وصفه ، وبذلك
الوصف أومأ لنا بأنه مدونة تاريخية ، تكشف تلك المدونة أربعة تواريخ متعلقة
بالحصان ، تنحصر بين 20 – 4 –1929 مولد الحصان و28 – 7 – 1930 قتله الأم ،
وهذه التواريخ الأربعة تفتح نافذة على متفاعل نصي تاريخي ، والمتفاعل النصي –
بتعريف سعيد يقطين – هو "البنية النصية أيا كان نوعها التي تستوعبها "بنية
النص" وتصبح جزء منها ضمن عملية التفاعل النصي" .
تشير المصادر التاريخية إلى انتفاضة عارمة عمّت فلسطين عام 1929
وبقيت آثارها حتى أواسط 1930 ، يطلق عليها اسم ثورة البراق ، فيتناص الاسم
المذكور مع برق اسم الحصان بطل القصة أ؛ فتتعزز بذلك فاعلية المتفاعل النصي
التاريخي ، تقول المصادر ان تلك الانتفاضة قد اندلعت في صيف 1929 وعمّت المدن
الفلسطينية كافة ، وكان من نتائجها ان تضافرت جميع القوى والأحزاب السياسية
الفلسطينية ونسيت خلافاتها ، كما أنـّها قد كسبت الرأي العام العالمي فجاء
الكابتن الإنجليزي كانتنغ ، متعاطفا مع القضية الفلسطينية ، وأدان سياسة
بريطانيا الاستعمارية ، ومثله فعل الانجليزي جون فليبي ، ونتج عن ذلك ان أصدرت
الحكومة البريطانية كتابها الذي كان لصالح العرب.
سميت تلك الثورة بثورة البراق لأن سبب اندلاعها يتعلق بخلاف بين
العرب واليهود على مكان ملاصق لجدار الحرم الشريف يحمل هذا الاسم ، لأنه يتضمّن
الباب الذي دخل منه الرسول في إسرائه ، وهذا الأمر – وبتناص البراق ببرق –
يفتح نافذة جديدة على متفاعل نصي آخر ، ذلك هو الإسراء والمعراج .
مخطط لاشتغال المتفاعلين النصيين
يشتغل المتفاعلان النصيان داخل النص وخارجه على وفق ما تشير إليه
الخطاطة السابقة وعلى الصورة الآتية :
1 ترد لفظة برق في المقطع الأول اسم علم للحصان ؛ فتحيلنا إلى
البراق وليلة الإسراء والمعراج:
كان برق " ذا لون أبيض صاف لا تشوبه شائبة" ، مثل البراق تماما ،
" لكن ما ان وقف حتى لاحظ الجميع ان بقعة كبيرة متعرجة من اللون البني الميال
للاحمرار تشغل كل جنبه الأيمن" ، وتلك أولى الانزياحات عن النمط الأصلي ، وهو
" سهل الركوب ، وكان مطواعا" ، أما البراق فقد انتفض حين اقترب منه الرسول
الكريم فنهره جبريل قائلا : "ما يحملك على هذا؟ فوالله ما ركبك قط أكرم على
الله منه" .
ترد أوصاف برق الإيجابية الجميلة برواية الطبيب الحامل لوجهة النظر
المادية ، أما النبوءة بكون البقعة الحمراء تعني ان الحصان سيكون سببا في مصرع
عزيز فترد على لسان أبي محمد حامل وجهة النظر المضادة .
أما الانزياح الأهم عن النمط الأصلي فيتمثل في ان برق يرمي بالأم
أرضا ، ويهشم جمجمتها بحافره ثمّ يدفعها إلى النهر، بينما يحمل البراق رسول
الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم يعرج به إلى السماوات السبع ،
ويجتازها إلى قاب قوسين أو أدنى.
وأخيرا فإن البراق كائن سماوي جاء به جبريل من السماء ليؤدي مهمة
مقدسة ، أما برق فهو كائن أرضي " ولد في ليلة عاصفة ، من أم أصيلة وأب
صحراوي" ، ولما كانت المخيلة الإنسانية قد رسمت الكون الأدبي على ثلاث
مستويات: العالم الفوقي والعالم التحتي والعالم الترابي ، فإن البراق ينتمي
إلى العالم الفوقي المقدس النوراني الذي يقدم الخير للبشرية ، والذي بدخول
كائناته عالمنا الترابي تجلب معها أدوات الحضارة وتحقق التقدم والرفاهية
للبشرية .
أما برق ولكونه ولد في ليلة عاصفة من أب صحراوي فهو ينتمي إلى
العالم السفلي عالم الظلمة والشياطين ، عالم الشر الذي تسكن كائناته الصحارى
والأماكن المقفرة .
2 ترد في المقطع الأول سلسلة التواريخ فتحيلنا إلى انتفاضة 29 –
1930 ؛ فينزاح جانب من إيحاء برق من الإسراء والمعراج إلى الثورة المذكورة ،
وبورود لفظة برق اسما للحصان يحصل التقابل بين الحدث الداخل – نصي متمثلا
بالحصان برق والحدث الخارج – نصي متمثلا بتاريخ الانتفاضة.
كان برق هجينا من أب صحراوي وأم أصيلة ، وكذا كانت الانتفاضة تحركها
اتجاهات مختلفة : أصولية إسلامية وقومية ويسارية ماركسية ما زالت في نعومة
أظفارها ، تمثلت بتنظيمات وأحزاب مختلفة ، لكنها تضافرت فيما بينها ناسية كل
خلافاتها في سبيل الثورة ، ونتيجة ذلك كان أن اضطر الإنجليز في ربيع 1930 إلى
إصدار بيان لصالح العرب والمسلمين ، هكذا كان " 20 –3 - 1929 هو أروع حصان
شهدته في حياتي " ، لكن الأمور لم تسر على ما يرام ، فبعد أشهر قليلة كان
الانجليز يبعثون بالأسلحة إلى الصهاينة ، ويعدون بشكل جدي إلى إجلاء
الفلسطينيين عن أرضهم .
3 يشكل الخال الأحمر في جنب البطل الراوي علامة على الجريمة التي
سيرتكبها ، من وجهة نظر الأب ، وتتقابل العلامة وحاملها ومدلولها داخل النص
تقابلا ضديا مع خال – خارج النص – على كتف رسول الله كان قد شكل علامة من علاما
ت النبوة.
وتؤدي آليات السرد دورا مهما في اشتغال المتفاعلين النصيين ، حيث
يتوجه المعنى الدقيق بفعل تلك الآليات .
بحضور شخصية أبي محمد حاملا لوجهة النظر المهيمنة يحصل التقابل بين
أبي محمد بوصفه علامة سيميائية داخل النص وبين شرائح اجتماعية معينة بوصفها
مرجعا خارج النص ، وتشكل العلامة ومرجعها قطبا موحدا يتقابل مع شخصية النبي
محمد (ص) .
لا يحدد النص هوية أبي محمد الطبقية و لا يشير إلى موقعه الاجتماعي
، لكن معجمه اللغوي يكشف عبارات مثل "رحمها الله " و " سامحه الله " التي تكررت
ثلاث مرات تكشف عن الموقف الديني التقليدي الذي كان مهيمنا على المجتمع ، والذي
كان يبشر بالغيبيات والخرافات على الصعيد المعرفي ، ويخدم مصالح طبقة الإقطاع
على الصعيد السياسي الاجتماعي ، ويقف بوجه كل تقدم علمي وحضاري ، ولعل رسم
مواقع الراويين الثانويين أبي محمد والطبيب وحجم كل من وجهتي نظريهما صورة
رمزية للصراع الذي كان قائما أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بين
مجلتي المقتطف والمقطم من جهة والرأي العام التقليدي من جهة أخرى .
بفعل العوامل السابقة يحصل التقابل بين الواقع التاريخي في بدايات
القرن العشرين والواقع التاريخي في عصر الرسالة الإسلامية .
ان صورة الفكر الغيبي الخرافي مرموزا لها بأبي محمد تجرّ إلى تقابل
ضدي جديد مع عصر الرسالة، ويحيلنا هذا التقابل إلى تقابل آخر كشفته الماركسية
بين المسيحية الأولى والمسيحية المتأخرة ، فقد توصّل ماركس وانجلز إلى أن
الإيمان الديني في ظروف تاريخية يمكن أن يؤدي دورا إيجابيا وتقدميا ، وهما قد
ميّزا بين المسيحية قبل قصطنطين والمسيحية بعده ، فكانت المسيحية الأولى ذات
روح ثورية ديمقراطية تستنكر السيطرة الأجنبية والدينية وتستنكر اضطهاد الطبقات
المهيمنة ، اما بعد قصطنطين فقد صار كهان المسيحية يقولون " ان الله قد أدخل
الرق في العالم عقابا على الخطيئة ، وسيكون تمردا على إرادته أن نحاول إلغاء
هذا الرق" .
والأمر يقترب كثيرا من حال الإسلام ، فقد جاءت الرسالة الإسلامية
للإنسانية كافة لتنشر العدل والمساواة بين الناس منادية " وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) القصص " ، كما وقفت بشدة ضد تراكم الثروات "
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) التوبة " : فكان أن
امتدّ نور الإسلام خلال عقود قليلة ليضيئ مساحات شاسعة من المعمورة ، ويحقق
بفضل فكره النيّر قفزات حضارية وعلمية كبيرة.
أما في العصور المتأخرة فقد صار الفكر المهيمن يحمل يافطة الإسلام
، لكنه يقف بوجه التطور العلمي والرقي الحضاري ، ويمارس تحت شعارات إسلامية
الاضطهاد الطبقي … هكذا يكون واقع القرن العشرين صورة ضدية لعصر الرسالة
الإسلامية.
6يذيل النص بعبارة " بيروت 1961"والرقم يشير إلى تاريخ كتابة تلك
القصة ، ويفتح هذا التاريخ نافذة أخرى على متفاعل نصي ثالث ، ذلك هو الحركة
الانفصالية التي أطاحت بالتجربة الوحدوية بين مصر وسوريا ، ان نهاية القصة ب
المتمثلة بموت الأب تحدث بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على نهاية القصة أ
المتمثلة بموت الأم في 1930 برواية الطبيب :" وحكى والدك عن حصان كان عنده منذ
ثلاثين سنة" ، تعزز هذه الواقعة التقابل الحاصل بين موت الأب داخل النص
والحركة الانفصالية خارجه.
يؤدي هذا التقابل إلى تأويل جديد للبقعة الحمراء على جنب الحصان ،
فهي تشكل في هذا السياق كناية عن الراية الحمراء وبذلك تتحول الدلالة إلى سياق
آخر.
لقد كانت فكرة الوحدة العربية حلما عظيما يراود الجماهير العربية
منذ أواخر القرن التاسع عشر، وخلال الخمسينات تحققت جملة إنجازات تقدمية بدءاً
بثورة 23 تموز في مصر ثم تأميم قناة السويس وانتصار العرب في معركة بور سعيد ….
ثم جاءت التجربة الوحدوية مع مطلع 1958 التتويج الأعظم لهذه الانتصارات.
غير ان مسار الانتصارات لم يأخذ الخط البياني نفسه ، فسرعان ما
تبددت الخصومات داخل الحركة الوطنية والقومية التقدمية ، وكان في مقدمتها
الصراع بين القوميين والشيوعيين حول التطبيق الكيفي للوحدة العربية، والذي امتد
ليشمل التنظيمات القومية ذاتها، فكان من بينها من يجد في وحدة عبد الناصر توسعا
استعماريا.
هنا يتغير مسار التأويل ، وتتحول دلالة الحصان ذي البقعة الحمراء
إلى اليسار الماركسي ، وبناء على ذلك نجد التفسير المقنع لكون المطالبة بقتل
الحصان منذ ولادته لا تصدر إلا عن أبي محمد ، بينما لا تروى الأوصاف الجميلة
للحصان إلا عن الطبيب
7 . استنادا إلى ما سبق فإن الخال الكبير الأحمر الذي في جنب الرجل
بطل القصة ب داخل النص يتقابل خارج النص مع خال على ظهر الرسول الكريم ، وإذا
كان خال رسول الله علامة من علامات النبوة ، فإن خال بطل القصة ب علامة على
ارتكاب جريمة – كما يقول أبو محمد - ، بهذا نعود إلى المتفاعل النصي الثاني ؛
فيتحقق التقابل بين الثورة المحمدية في عصر الرسالة الإسلامية وبين ثورة العرب
اليوم … كيف حققت الأولى أهدافها فكانت ثورة جذرية على كل المستويات ، وكيف
تسير الثانية إلى طريق مسدود
تحيلنا هذه الدلالة إلى قصيدة خليل حاوي الموسومة " لعازر 1961 "
والتي كتبها تحت وطأة الإحساس بالهزيمة الذي تركته نكسة الانفصال ، والحقيقة ان
الحركة الانفصالية قد أسهمت مع عوامل أخرى في خلق اتجاه العبث الوجودي والإحساس
باللاجدوى الذي هيمن على الأدب العربي خلال الستينيات.
* * *
وبعد… فأين وجهة نظر المؤلف ؟ وماذا أراد أن يقول ؟
يتمثل في هذا النص القصير نموذج لتعدد الأصوات داخل العمل الواحد ،
وتعدد الأصوات يعني "ظهور وجهات النظر المتعددة على المستوى الأيديولوجي" ،
ومن أبرز ملامح العمل المتعدد الأصوات :
1-أن يكون البطل فيه وجهةَ نظر محددة عن العالم وعن نفسه فقط – كما
يقول باختين عن أدب دستوفسكي - ، وهذا ما نجده في الشخصيات الأربع من النص
المدروس ، فأبو محمد والطبيب والأب حاملون لثلاث وجهات نظر ايديولوجية ، وللبطل
الراوي وجهة نظره المتحولة، انهم جميعا بلا ملامح مادية : الصفات الجسمية
والأزياء وما شابهها مفقودة كلها من النص ، كل ما عرفناه عنهم وجهات نظرهم.
2-من العلامات الأخرى للعمل المتعدد الأصوات الحوار المجهري باصطلاح
باختين : حيث كل كلمة تكون ذات صوتين ، وفي كل كلمة يجري جدل بين صوتين ، ونجد
هذه الظاهرة في المقطع الرابع من النص ، إذ يروى السرد على لسان الطبيب ناقلا
قناعات الأب وأبي محمد حول الحصان ، ان ذلك الجزء من النص بقدر ما يحمل من
الصدق والجدية في وصف الحصان والموقف منه يحمل ملامح السخرية والتهكم التي
يتبناها الطبيب والتي يجسدها بعبارات وأوصاف وجمل اعتراضية مثل: "قال انه يتحمل
مسؤولية موتها مع برق بالمناصفة، من هو برق هذا؟" ونحو: "حكى والدك أشياء مضحكة
لا يفهمها الشيطان نفسه" .
3-مرّ تقسيم المتن الحكائي لهذا النص إلى ثلاث قصص صغيرة: أ وب وج
، ونجد هذه التقنية عند دستوفسكي علامة على تعددية الأصوات ، يقول جروسمان في
كتابه "دستوفسكي فنانا" ان في كل روايات دستوفسكي يتجسد مبدأ التقاء قصتين أو
أكثر تغني بعضها بعضا من خلال تضادها ، والتي ترتبط ببعضها من خلال تعدد
الأصوات الموسيقي ، ان موسيقية تعدد الأصوات التي أشار لها جروسمان عند
دستوفسكي نلمسها في النص المدروس متمثلة بتناوب السرد بين السارد الرئيسس
والساردين الثانويين.
لقد دار الكلام السابق عن بطل القصة أ وبطل القصة ب ، أما عن بطل
النص فلم يرد ذكر، ومثلما وجد باختين ان الفكرة هي البطل الرئيس في أعمال
دستوفسكي ، نجد الفكرة هي البطل الحقيقي للنص المدروس، فهي تبرز مع الجملة
الأولى " لو كنت حصانا "، وتتولد بصورة هم يجثم على صدر بطل القصة ب ، وتساؤلات
تراوده ليل نهار، وتتجلّى عند أبي محمد بوصفها مبدأ يقينيا لا يقبل الخطأ،
وبوصفها خرافة مرفوضة عند الطبيب، وأخيرا بوصفها أمرا واقعا يفرض نفسه – بعد
رفض شديد – على قناعات الأب ومن بعده الابن.
* * *
أما وجهة نظر المؤلف الذي لا يؤدي السرد بصوته ، ولا يقدّم شخصية
تحمل وجهة نظره فهي مغيبة في بنية النص ويتطلب الوصول إليها عملية تحليل خاصة
.
قد يتبادر إلى الذهن عند القراءة الأولى أن وجهة نظر المؤلف محمولة
على صوت الراوي الرئيس بطل القصة ب ، وأن المؤلف تبنـّى هذا الصوت الأيديولوجي
تحت وطأة الظرف التاريخي الذي جرت الإشارة إليه ، أسوة بالشاعر خليل حاوي
وغيره.
لكننا ، وحينما نتذكر ان النص الذي أمامنا متعدد الأصوات وأن المؤلف
فيه " ليس موجودا لكي يختار من بين الأيديولوجيات ما يلائمه، ولكنه موجود
ليمتحن جميع الأيديولوجيات ويشاكسها " ، وحينما نتذكر أيضا وأن من شروطه أن
يحافظ – يقول باختين – على مسافة تفصل بين المؤلف والبطل ، وما لم يقطع الحبل
السري الذي يربط البطل بمؤلفه، فلن نجد أمامنا عملا أدبيا وإنما وثيقة شخصية .
حين نتذكر ذلك تسقط تلك الفرضية من أذهاننا ، ونبدأ البحث من جديد
عن وجهة نظر المؤلف ، ، أي النظر الى العمل كأيديولوجيا ، وذلك البحث يتطلب
الانتظار الى نهاية الصراع بين وجهات النظر جميعا داخل العمل ، يقول حميد
لحمداني : " عندما ينتهي الصراع بين الأيديولوجيات في الرواية تبدأ معالم
أيديولوجية الرواية ككل في الظهور" ، لذلك فإن غايتنا سنجدها في المقطع الأخير
من النص.
لعل في التساؤل المطروح في بداية البحث عن السبب في الحفاظ على
خطية الزمن في القصة ج وتكسير خطيته في القصتين أ و ب طريقا للوصول إلى هدفنا
المنشود.
مرّ بنا ان تكسير خطية الزمن يؤدي إلى العتامة ، والعتامة تقود
القارئ إلى التوتر ، وقد حققت العتامة غايتها الجمالية ، على امتداد الجزء
الأكبر من النص وبعد أن بلغ التوتر أقصاه في المقطع الرابع ، الذي تميز بالحوار
المجهري ذي الدلالات المزدوجة ، آن لنا ان نحصل على الشفافية في المقطع الأخير
بوساطة الحفاظ على خطية الزمن ؛ فتساعدنا على توضيح الرؤية لإدراك وجهة نظر
المؤلف .
يتشكل المقطع الأخير من سبع وحدات سردية ، يتناوب فيها المجمل
والمنلوج الداخلي ، وإذا كان رولان بارت قد صنف الوحدات السردية صنفين: نوى
ومحفزات ، فإن النوى في هذا المقطع- بوصفها مفاصل حقيقية للقصة
- قد توزعت على المنلوجات الثلاثة ، أما المحفزات ، وهي الوحدات
التي تملأ الفسح الواقعة بين النوى ، فقد توزعت على المجملات الأربعة.
وإذا كان رولان بارت قد نسب إلى المحفزات جملة وظائف : من بينها
أنها توقظ التوتر المعنوي للنص وإنها تحافظ على الاتصال بين الراوي والمتلقي ،
فإن المحفزات في هذا المقطع تتجاوز الوظائف المذكورة لتكون شفرات دلالية لا تفك
أسرارها الا ضمن قراءة تكاملية يرتبط فيها مستوى المحفزات بمستوى النوى ضمن
سياق سردي متسلسل …. هكذا يسهّل علينا الحفاظ على خطية زمن القراءةَ َ المشار
إليها.
1-أول المحفزات: "انطلق عائدا إلى داره" يسبقه تحديد زماني " كانت
الشمس على وشك ان تشرق" أما النواة فهي " حديث زميله الطبيب ما زال يدور في
رأسه….." ، حصل ذلك الانطلاق بعد وفاة الأب ، التي كانت نافذة إلى المتفاعل
النصي الثالث ، وكان الزمان اللحظات الأخيرة من الليل ، والمكان هو الطريق بين
الدار والمستشفى ، بين مكان النوم ومكان العمل ، هناك يبدأ البطل بتحليل
الأحداث تحليلا منطقيا .
2-"وقف فجأة في منتصف الطريق " ذلك هو المحفز الثاني يأتي علامة
على الاتجاه الذي يسير به التحليل المنطقي ، فالمنلوج الثاني يقود إلى انتصار
أبي محمد على أبيه، انتصار الخرافة على المنطق العلمي.
3-ويأتي المحفز الثالث " سار قليلا ثم وقف" … لماذا وقف ؟؟ لأن
التحليل قاد البطل إلى الردة الفكرية ، لقد اقتنع بصدق الخرافة.
4-ويأتي المحفز الرابع علامة على تلك النهاية :" وقف هنيهة"
مما لا بد من الانتباه إليه الاقتصاد الشديد في سرد المحفزات ،
واقتصار الأفعال على فعلي السير والوقوف فقط ، لقد جعل الراوي اتجاهين للطريق
: اتجاه البيت طريقا للردة ، واتجاه المستشفى طريقا للثورة ، السير علامة
الثورة والوقوف علامة الاستسلام ، وقد وصلت أحداث القصة ج إلى ردة البطل
واستسلامه داخل النص ؛ لأن الأحداث خارج النص وصلت إلى ردة الانفصال ودفعت
الشرائح القصيرة النفس إلى الاستسلام.
إلى هنا ينتهي كلام الراوي وتبدأ وجهة نظر المؤلف: " ثم استدار وأخذ
يركض عائدا إلى المستشفى " ، ليست الجملة المذكورة محفزا أوجزءا من المحفز ،
ولا علاقة منطقية لها بالأحداث السابقة يفرضها سياق السرد تبرر هذا التحول ،
بهذه الانعطافة ينكشف المعنى العميق للتحديد الزماني الذي افتتح به المقطع : "
كانت الشمس على وشك ان تشرق " ظرفا لانطلاق البطل عائدا إلى داره ، لقد شكلت
هذه الجملة استباقا لحدث قادم هو عودة البطل إلى المستشفى ، وبعودته " كانت
الشمس قد بدأت تشرق".
كان البطل على امتداد الأحداث السابقة متماهيا بالحصان باشتراكه
وإيّاه بالبقعة الحمراء ، أما في السطور الثلاثة الأخيرة فإنه يظل متماهيا
بالحصان أيضا ، ولكن ليس بوساطة البقعة الحمراء ، وإنما باشتراكهما بمشية الخبب
:" كان يقرع بلاط الشارع المبلول بقدميه الكبيرتين فيرجع الصدى وكأنه خبب حصان
" ، هكذا يحصل التحول الجذري في صورة البطل بين وجهات نظر الرواة ووجهة نظر
المؤلف .
وهنا لا بد من العودة الى المفارقة القائمة بين العنوان والجملة
الأولى من العمل، والتي جرت الإشارة إليها في بداية البحث، فإن بتر الجملة
الشرطية - في العنوان- وتحويل دلالتها الى التمني تشكل تعبيرا قصديا عن وجهة
نظر المؤلف المتضمنة رغبته في تماهي البطل بالحصان، ولكنها رغبة مغايرة لرغبة
الأب الذي كثيرا ما ترددت جملة الشرط على لسانه، فإن رغبة المؤلف التي عبر عنها
تعبيرا قصديا واعيا في العنوان تعني رغبته في التماهي بين الإثنين في مشية
الخبب بما تحمله من دلالات كنائية، "هكذا يكون العنوان – بحسب د. محمد فكري
الجزار - صلة قائمة بين مقاصد المرسل وتجلياتها الدلالية في العمل " .
وآن لنا أن نعود إلى الإجابة على السؤالين المؤجلين : هل كان الحدث
الثاني سببا للحدث الثالث في القصة ب ؟ وهل كان الثالث عكس الأول في القصة ج ؟
( لقد كبر البطل وصار جراحا ماهرا) ذلك هو الحدث الثاني ، ويترتب على ذلك حين
يصاب الأب بالزائدة الدودية وابنه يشاركه الدار أن ينقله إلى المستشفى ويجري له
العملية بنفسه ، وإذ يموت الأب تحت مبضع ابنه تكون العلاقة سببية ، أما في سياق
القصة فإن الأب مات تحت مبضع طبيب غريب ، إذاً لا يشكلّ كون الابن قد صار طبيبا
أثرا في الأحداث ، ومن ثمّ فإن العلاقة السببية بين الحدثين الثاني والثالث
مفقودة من القصة ب ، ويترتب على ذلك انتفاء العلاقة الضدية بين تحليل البطل
للأحداث وبين اقتناعه بأنه هو القاتل.
إن انتفاء العلاقة السببية في القصة ب والعلاقة الضدية في القصة ج
انزياحان عن قواعد الصرف السردي ، يشكلان علامتين سيميائيتين على وهمية النتائج
التي توصل إليها البطل السارد ، هكذا يكون انقطاع الحبل السري بين البطل
والمؤلف كما ذكر باختين.
* * *
ومما لا بد من الوقوف عنده في نهاية هذا البحث الحضور المزدوج
للأسطورة والأيديولوجيا في النص المدروس ، فهما تتداخلان فيما بينهما ضمن
النسيج الكلي للنص ، فالعقل المتحضر ، لا يستبعد الأسطورة ، وإنما يؤدلجها
ويؤسطر أيديولوجيته في آن واحد .
الأسطورة هنا لا تقدم لوحة متناغمة من الماهيات خالية من
المتناقضات - كما يرى رولان بارت في الأسطورة - بل تقدم عالما متناقضا
فالحصان الذي قتل الأم ودفعها إلى النهر لم يكن قبيحا ولا شرسا ، وانما كان
جميلا ومسالما ومطواعا وهادئا ، وتلك وظيفة الأيديولوجيا . وهذا هو المظهر
الأول لأدلجة الأسطورة .
قد تحيلنا القراءة الأولى للنص إلى أكثر من نمط أصلي ، فنجد في
العلامة التي على جنب البطل واقترانها بموت الأب في نهاية القصة الصغيرة ب
إحالة على أسطورة أوديب ، وقد نجد في كون الحصان هجينا ولد من أم أصيلة وأب
صحراوي تناصا مقلوبا مع سلبنير حصان أودن - في الميثولوجيا الاسكندنافية ، إذ
ولد الأخير من أب يدعى سفاديلفاري وفرس كانت بالأصل لوكي المخادع وقد تحيلنا
الهجنة ذاتها إلى السنتوس في الميثولوجيا الأغريقية ، لكن الأيديولوجيا سرعان
ما تبادر إلى إغلاق هذه النوافذ ، بوساطة الاسم "برق" وسلسلة التواريخ فتنحصر
القصة بنمط أصلي واحد هو البراق وقصة الإسراء والمعراج وذلك مظهر آخر لأدلجة
الأسطورة.
لا يقتصر فعل الأدلجة على الأحداث الحاضرة داخل النص ، وانما يمتد
إلى الأحداث الغائبة والخارج- نصية ، فقصة الإسراء والمعراج ، وبفعل اشتغال
المتفاعلات النصية الثلاثة مجتمعة ، تنفتح على قراءة جديدة ، فتصير بشارة
بانتصار الإسلام ورقي المجتمع الإسلامي وتطوره ، وذلك مظهر ثالث من مظاهر
الأدلجة .
ان ابتداء القصة بنبوءة مظهر من مظاهر الأسطورة ، وإذ تبدأ القصة
الصغيرة أ بنبوءة البقعة الحمراء لتتحقق في نهايتها ، وإذ تتكرر النبوءة
والنهاية في القصة ب ، فذلك يعني أننا أمام عمل أسطوري ، وقد مرّ بنا أن النصّ
المدروس كان نموذجا لتعدد الأصوات داخل العمل الواحد ، و كيف كانت الشخصيات لا
تزيد على وجهات نظر متعددة على المستوى الأيديولوجي ، وكيف كان البطل الحقيقي
للنص هو الفكرة دون غيرها ، كل ذلك يعني أن الكاتب هنا قد أسطر الأيديولوجيا
أسطرة واعية .
مر بنا - في دراسة سابقة - أن العقل المتحضر ؛ ولأجل أن يحقق
الالتحام بينه وبين الرمز الغريزي ، قد أجرى تحريفات على النمط الأصلي في قصيدة
" يغير الوانه البحر" لنازك الملائكة ، وان العقل المتحضر - في أنشودة المطر ؛
ولأنه عقل ثوري ، لم يكتف بتحريف الأسطورة وإنما سعى إلى استبعادها ؛ لأن
الثورة تستبعد الأسطورة بحسب رولان بارت ، أما هنا، ولأن العقل المتحضر عقل
ثوري أيضا، لم يكتف بتحريفها ، ولم يصطرع معها ، ولم يعمل على استبعادها ، بل
طوّعها لمشيئته موظـِّفا إيّاها في خدمة الأيديولوجيا ، جاعلا من اللغة
الأسطورية لغة ثورية ، خلافا لرولان بارت .
يقول بارت: "ما يقدمه العالم للأسطورة هو واقع تاريخي محدد بالشكل
الذي أنتجه البشر أو استخدموه، وما تحييه الأسطورة هو الصورة الطبيعية لهذا
الواقع" ، وما حصل في هذا النص أن الأسطورة فيه قد استقبلت الواقع كما هو
عليه، ولكنها لم تقدم صورة طبيعية له، كما تفعل الأسطورة التي تنتجها
البرجوازية ، وإنما قدمته بتناقضاته المعهودة دونما تطبيع ، فكانت تلك الصورة
مسوغا للثورة عليه.
* * *
مصادر
البحث:
- الآثار ااكاملة : 2 : غسان كنفاني : بيروت - دار الطليعة : ط1
- 1973 .
- أسطوريات : رولان بارت : ت / د. قاسم المقداد : حلب : 1996 .
- انفتاح النصّ الروائي : سعيد يقطين : بيروت- المركز الثقافي
العربي : ط1 : 1989 .
- بنية النص السردي ( من منظور النقد الأدبي) : د.حميد لحمداني
: المركز الثقافي العربي: ط2 : 1993 .
- التحليل البنيوي للقصة القصيرة : رولان بارت : ت / نزار صبري
: بغداد : دار الشؤون الثقافية - الموسوعة الصغيرة 259 .
- التخييل القصصي : شلوميت ريمون كنعان : ت / لحسن احمامة
:الدار البيضاء - دار الثقافة : ط1 - 1995 .
- تفسير القرأن الكريم : ج 5 : أبو الفداء اسماعيل ابن كثير
القرشي الدشقي : دار احياء الكتب العربية القاهرة.
- خطاب الحكاية : جيرار جينيت : ت / محمد المعتصم وآخران
:القاهرة - المجلس الأعلى للثقافة : ط2 / 1997 .
- السيمياء والتأويل : روبرت شولز : ت سعيد الغانمي : بيروت : ط
1/ 1994 .
- شعرية التأليف : بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي :
بوريس أوسبنسكي : ت/ سعيد الغانمي و د ناصر حلاوي : القاهرة - المجلس الأعلى
للثقافة : 1999.
- العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي : د. محمد فخري الجزار :
الهيئة المصرية العامة للكتاب : 1988 .
- فلسطين والغزو الصهيوني : عادل حامد الجادر و عزيز عبد المهدي
ردام : جامعة بغداد :1984 .
- الفلسفة في معركة الأيديولوجية: ناصيف نصار : بيروت - دار
الطليعة :ط2 : 1986 .
- قضايا الفن والإبداع عند دستوفسكي : م .باختين : ت / د.جميل
انصيف التكريتي : بغداد - دار الشؤون الثقافية - سلسلة المائة كتاب: 1986 .
- القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها: محمد عزة دروزة: صيدا -
المكتبة العصرية:1959 .
- ماركسية القرن العشرين: روجيه غارودي :ت / نزيه الحكيم :
بيروت - دار الاداب : ط2 - 1968 .
- محنة فلسطين : صالح صائب الجبوري : بيروت :ط1 / 1970 .
- معجم الأساطير : لطفي الخوري : بغداد :1990 .
- المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية : وليم فراي : ت/
يوئيل يوسف عزيز : بغداد - دار المأمون :1987 .
- موجز تاريخ فلسطين الحديث: د.عبد الوهاب الكيالي:المؤسسة
العربية للدراسات والنشر : 1971 .
- النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري:حنا عبود: دمشق -
اتحاد الكتاب العرب : 1999 .
- النقد الروائي كأيديولوجيا ( من سوسيولوجيا الرواية الى
سوسيولوجيا النص الأدبي): حميد لحمداني : المركز الثقافي العربي : ط1 : 1990.
* * *
الخلاصة:
هدف هذه الدراسة الوصول الى البنية العميقة للنص السردي بوساطة
التحليل السيميائي لآليات السرد ، وقد جرى تطبيق ذلك على قصة قصيرة لغسان
كنفاني بعنوان " لو كنتَ حصانا " ، فابتدأ البحث بدراسة المتن الحكائي للنص
فوجده مكونا من ثلاث قصص صغيرة حدد الأحداث الرئيسة لكل منها ، ثم انتقل الى
تحليل المبنى الحكائي متناولا تكسير خطية الزمن في القصتين الأولى والثانية
والحفاظ على الخطية في الثالثة ، مركزا على وظيفة التكرار في تكسير هذه الخطية
، ثم تناول وظائفه الأخرى : وفي مقدمتها تحديد وجهات النظر فتوصل الى وجود حالة
تقابل ضدي بين وجهتي نظر ثابتتين ، تتطور بتأثيرهما وجهة نظر البطل السارد :
الأولى وجهة نظر أبي محمد الممثلة للاتجاه الغيبي تقابلها وجهة نظر الطبيب
المادية ، ووجد في هيمنة وجهة النظر الأولى وضمور الثانية علامة سيميائية على
تأصل الفكر الغيبي في التكوين الأستميولوجي العربي ومدى ضمور الفكر المادي
وهامشيته مما أدى الى التحوّلُ في وجهة نظر البطل وقبله الأب من الفكر الرافض
للغيبيات إلى اعتناقها .
وقد وجد البحث أنّ البنية السردية للنص تفتح نوافذ على ثلاث
متفاعلات نصية تاريخية هي : ثورة البراق 1929 -1930 والثورة المحمدية في عصر
الرسالة الإسلامية والحركة الانفصالية في 1961 ، كاشفا عن كيفية اشتغالها داخل
النص وخارجه ، وكان من أبرز صور التناص التي رصدها التناص بين البراق والحصان
بطل القصة الصغيرة الأولى ، والتناص بين خال رسول الله وخال بطل القصة الصغيرة
الثانية.
كما تناول البحث الحضور المزدوج للأسطورة والأيديولوجيا ، استمرارا
لثلاثة أبحاث سابقة للباحث عالج فيها هذا الموضوع ، وقد توصل الى أن اشتغالهما
في النص المدروس كانت له خصوصيته ، إذ ان الكاتب قد أدلج الأسطورة وأسطر
الأيديولوجيا
أضيفت في03/02/2008/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول الأدب الفلسطيني)
|