التبديل
تبديل الثياب النظيفة بثياب وسخة قبل الاستحمام لا
يغير رائحة الجسد.. كثيرون يغيرّون جلودهم كما يغيرون ثيابهم. ففي فصل
الربيع تتورد خدودهم وتزهر أفكارهم، ثم يرحل الحب في الخريف، وتتساقط
أوراقهم، وتتعرى أجسادهم، وتضمر خصورهم.. وكثيرون أيضاً يحافظون على
معتقداتهم من الصدأ، وعلى مواقفهم السياسية وعلاقاتهم الإنسانية، على الرغم
من التصحر الذي يزحف على القلوب، وعلى الرغم من الفؤوس التي تحفر لاقتلاع
الجمال من الطبيعة والمجتمع، فيصدون الرياح الغريبة الهابة عليهم من أية
جهة.. وهذا ما يحصل للبشر من مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية. فمَنْ يدعو
اليوم للتنوير والتبشير بمستقل زاهر للوطن، نراه في الغد يدعو للاحتفال
بعرس (الديمقراطية الأمريكية) ويُبدّل زاوية الوقوف بمقدار ما تسمح له
الظروف في المحطات والمنعطفات المناسبة، ويستخدم كل المقاسات والمساطر
لتبرير التبديل!
ويخطئ من يعتقد أن الحياة بكل مكوّناتها وخصوصياتها،
تسير بخط مستقيم، وأن الأحلام تتحقق بالرغبات والتمنيات. ولا يعلم هؤلاء
المسكونين بهواجس التخييل (اليوتوبي) أن ما يطفو على سطح الواقع يتناقض في
أحيان كثيرة، وبشكل جذري مع ما يجري في الأعماق، وأن السباحة في المياه
الضحلة تختلف عن السباحة في المياه العميقة، وأن السبّاح هو الذي يقدّر
ذلك. ومَنْ يقود السفينة ويتعرض لقراصنة البحار، ليس كمن يقف على الشاطئ
بثياب البحر، يحمل منظاراً ويتابع هبوطها وصعودها بين الأمواج المتلاطمة في
عمليتي المد والجزر.
وعندما يغلق الإنسان نوافذ العقل، ولا يسمح لأنامل
نسيم البر أو البحر أن تلمسها، ولا للهواء النقي بالدخول إليها لتجديد فضاء
الروح، سيحترق ويمضي عمره يتمرّغ في آهات الحسرة، يراوح في مكانه كأن
الدنيا توقفت في هذه النقطة أو في هذه المحطة وعند إشارات لا تتبدل
ألوانها!
ينطلق التبديل الصحيح من قاعدة (الثابت والمتحول)
والتعاطي مع الواقع بموضوعية وعقلانية، ويشمل التغيير في الشكل والمضمون
جزئياً أو كلياً، ويعني أيضاً التحديث وليس المراوحة والجمود وإحداث الشكل
الفكري والسياسي والإبداعي أو اعتباره حاجة مؤقتة أو رغبة تتدفق بسرعة ثم
تختفي وتتلاشى، بل هي تبدلات ضرورية تتماشى مع التطور وعدم الانسياق بشكل
عشوائي مع كل هبة تأتي من هنا وهناك. فالهبات العاصفية التي أحدثت انزياحاً
تاريخياً في الأيديولوجيا، زعزعت أركانها ووضعت حداً مؤقتاً لمرحلة (فشل
التجربة الاشتراكية) وأنهت مرحلة، ونحرت حُلماً كبيراً على اتساع العالم
بقي صامداً على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين.
لقد سمح فشل التجربة الاشتراكية، وليس فشل
الماركسية، بدخول الرياح الليبرالية بسرعة، فانشرحت قلوب وانكسرت قلوب
بانتهاء الحرب الباردة، وشرّعت الأبواب مصارعيها، لكن الفرح بوصول البذور
الملقحة من مصادرها الإمبريالية سرعان ما تجرثمت ولم تتلاءم مع التربة
الوطنية ولم تكن منطقتنا بعيدة عما يجري في العالم. وقد غرّدت طيور
النيوليبرالية وأفراخها، وبنت أعشاشها في حقولنا وغاباتنا وصخور شواطئنا،
واستظلت تحت فيء غرائسنا وعششت في سقوف معاملنا، ولكن (تجري الرياح بما لا
تشتهي السفن)، فحلّ الخامس عشر من أيلول ضيفاً أسود على مائدة الرأسمالية
الأمريكية، حمل على كتفيه وبين ذراعيه أزمة جديدة، بنيوية غير دورية، أزمة
رأسمال المالي، أزمة تتعلق بالإنتاج وعلاقات الإنتاج وفائض القيمة والقروض
والسكن والعقارات وسواها.
وحدث التبديل في السلوك والمظهر والقول، والتنكر
للتحليل والتأويل والنجاح الذي بشروا به، وفاض نهر الأزمة، وغمر بما يحمل
من طمي المصارف والبنوك، وأصحاب ورُعاة الليبرالية الجديدة، وأغرق الملايين
في مستنقعات البطالة والجوع.
ولم تُجدِ حتى الآن ولا في المستقبل القريب، الحلول
والاقتراحات والتبرعات وضخ المليارات، وظهر كثيرون من (المتغربين وأصحاب
اللبرلة) على الشاشات عندنا وعند غيرنا، في الغرب والشرق، يطرحون مجاهرة
دون خجل أفكاراً كانوا أشد الخصوم لها، فتحدثوا عن الاشتراكية والماركسية
كعلم وفكر واقتصاد، علماً أنهم كانوا في قيادة قطار اقتصاد السوق الحر،
وأضافوا إليه كلمة (الاجتماعي) للتمويه، فتزحلقوا وسقطوا في حفرة حفروها
بأظافرهم.. واليوم أعلنوا بصراحة بأنهم ينتظرون عودة ماركس وتنبؤاته
وتحليلاته، بعد رحلته الطويلة. وأكد في بيان جديد وقّع عليه إنجلز، وجّهه
إلى كادحي العالم وإلى الشيوعيين واليساريين بمختلف مشاربهم، وإلى كل
التقدميين والديمقراطيين، بأن يتحالفوا ويتضامنوا وأن يعودوا إلى شعار (يا
عمال العالم اتحدوا)!
الفردة المفقودة
تذكَّر صابرُ تلكَ السَّاعاتِ الموحشةَ، عندما كانت
الدَّبابةُ تَهْمُرُ، تحفرُ طريقَها صاعدةً إلى أعلى التَّل.
حَبسَ أنفاسَهُ، ويدُهُ تشدُّ بقوّةٍ على الزِّنادِ
بقبضةٍ متماسكةٍ، وبإشارةٍ من يدِهِ اليُسرى كانت مجموعتُهُ في حالةِ
التأهُّبِ الكامل. بينما الزمنُ يوزّعُ فتاتَ الصَّبرِ، ويسلخُ الرَّجلُ
جلدَ الأملِ... يتمنَّى أن يظلَّ يَحْلُمُ كي ينسى ساقَهُ التي تتمرّغُ
بالدمِ والتراب.
تقتحمُ ذاكرتُه صورٌ شتَّى، وهو مُسجَّى على سريرٍ
في مشفى حكومي. وبين حينٍ وآخر، يتجاهلُ عن قصدٍ زوَّارَهُ الذين
يُمْطِرونَهُ بوابلٍ من نيرانِ الحُبِّ يحكونَ له عن بطولاتِ الجنودِ.
يقرؤونَ قِصَّةَ الكمينِ بمئةِ لسان، وعشراتِ المفرداتِ تَفْلُتُ من
سُبْحةِ الموت.
يفتحُ عينيه.. يحاولُ أن يَصُرَّ الأشياءَ
المفقودة.. ينهضُ الشَّوقُ من محنتِهِ منكسراً. أمّا عيناه فتظلاّنِ
مُعلَّقتينِ في سقفِ الغرفةِ، تبحثانِ في فراغٍ مسكونٍ بالخوف.
يتحسّسُ ساقَهُ.. تتراجعُ أصابِعُهُ، فيدسُّهَا في
صدرِهِ... وتغرقُ بحُزنٍ عميقٍ بين أضلاعهِ. تتشرَّبُ رائحةً مُثْخنةً
بالعرق... يبتسمُ بمرارةٍ رُغمَ أنَّ مفعول الحُقنةِ المسكّنةِ لم يبدأ
بعد.. تتلامحُ على شاشةٍ قديمةٍ مُغبَّشةٍ الصُّورُ التالية:
* الصُّورةُ الصّباحية:
أوراقُ اليانصيبِ المُثبَّتةِ بملقطٍ معدني.
عُكَّازةٌ خشبيةٌ مُطعَّمةٌ بالنُّحاس، وساقٌ مقطوعة… كُرسيٌّ من القشِّ
الرَّخيصِ.. صوتٌ مُهترئٌ يكادُ لا يُسمعُ وسَطَ حشدِ المارة.
* الصُّورةُ المثقوبة:
كلَّما حاولَ أن يجمعَ في ذاكرتهِ ما حدثَ في ظهيرة
ذاكَ اليوم، سَرْعانَ ما تتساقطُ أوراقُ الفرحِ، ويلتهمُ النسيانُ ما
تجرَّعَتْهُ الأوجاعُ، عندما هبطتْ على ساقِهِ شظيةٌ زِنة ثلاثة أرطال،
سحنتْ عظمَهَا وتركتَها مُعلَّقة. وفي أوّلِ حركةٍ انفصلتْ عن جسدِهِ،
وبقيتْ النَّقالةُ الكُتَّانيةُ مُشْبعةً ببُقعِ الدم.
* الصُّورةُ الغائبة:
يتلذّذُ صابرُ في تقليبِ ألبومِهِ. يداعبُ الماضي
تارةً، ويفتحُ الطَّريقَ لآهاتٍ مُمزَّقةٍ، وأنفاسٍ خاويةٍ، مُرْتعشةٍ تارة
أخرى. تدوّي صارخةً في تجويف سرّيٍ.
يحاولُ أن يُعيدَ صناعتَها وسَكْبَها في قالبٍ على
مقاسِ السَّاقِ المقطوعة، ولم ينجحْ مرَّةً في استكمالِ نسيج أوهامِهِ
وتخيّلاتِه.
وبينما كانت صَافراتُ سياراتِ الإسعافِ تَحْقُنُه
بالوجعِ، تسوءُ حالتَه ولا يصحو إلا عندما تُدقُّ المساميرُ في نعشِهِ،
ويبدأُ المنشارُ الكهربائيُّ يفرمُ عظامَهُ!
* الصُّورةُ الرَّاقصة:
تتلألأُ بفرحٍ… تتجمّعُ خيوطُهَا، وتنسجُ
الابتسامات… ترسمُ فوقَها أوراقَ الحَبقِ والنعناعِ.. ترتجفُ أوصالُهُ، وهو
يطبعُ قُبلاتهُ على خدودِ أولادهِ الأربعة وابنتهِ الوحيدة.
يشعرُ أنَّ رائحةَ الحياةِ، تعودُ إليه رضيّةً
هانئة. تنفثُ شموخَهَا في أجواءٍ حميمةٍ مُدْهشة، بعناقيدِها وحلاوتِها
وبهجَتِهَا، مع صورة الرَّامي حسن، المُثبَّتةِ في قلبِهِ، وهو يلفظُ
أنفاسَهُ الأخيرة، عندما مزَّقتْ قذيفةٌ إسرائيليّةٌ جسدُهُ، وألقتْهُ في
الحُفرة المجاورة.
ويأسفُ لأنّه لم يستطعْ إنقاذه! لكنَّه يتأمّلُ
بسعادةٍ عظيمةٍ، كيف كانت الدَّبابةُ تشتعلُ، وقذيفةُ آربي جي تخترِقُها
ولم يَنجُ طاقمُها، وما تبقَّى دخانٌ ورمادٌ وشرور!
* فَرْدةُ الحذاء:
تساءلَ صابرُ بعد أن صَحا عن فردة الحذاء! قالتْ
زوجتُهُ: ظلَّتْ ملتصقةً بقدمِكَ... دُفِنتْ مع ساقِكَ... وأشارتْ إلى
مكانِها. أمَّا الفردةُ الثانيةُ فأُعيدتْ إلى مستودعِ المُهمَّاتِ حَسَبَ
الأصول!
* الصُّورةُ قبل الأخيرة:
مزَّقَ صابرُ الصُّورةَ قبلَ الأخيرةِ في ألبومِهِ..
سجَّى ذاكرتَهُ في تابوتِ حُلُمْ عقيم. اتَّكأ على عكَّازتِهِ، ونهضَ عندما
سمعَ طَرَقاتٍ قويّةً على البابِ الخارجي.
تابَعَتْهُ عيونُ الأسرةِ بِنظراتِهَا.. تشابكتْ
خيوطُ البصرِ فوقَ جسدهِ، وهي تبحثُ عن سرِّ الزّيارةِ المفاجئةِ لساعي
البريد، في هذا الوقتِ المُبكّرِ من صباحِ اليوم، بينما كانت زوجتُهُ
تحضِّرُ له حقيبةَ السَّفرِ إلى بلدٍ أوروبيّ، يشتهرُ بصناعةِ الأطرافِ
البشرية!
* الصُّورةُ الرملية:
عادَ صابرُ خائباً مُتراخياً مصفوعاً، وهو يقرأُ
كتاباً مطبوعاً ومختوماً... يداه ترتجفان... يتراقصُ جسدُهُ على خازوقٍ
عثمانيٍّ... صوتُهُ يتهدَّجُ، وتطحنُ أضراسُهُ كلماتٍ مدسوسةً في قاموسِهِ،
طَبعتْ بُقعاً قُزحيَّةً، وغابَ طيفُ الأملِ... ذابَ في بطنِ الدهشةِ
المُريبةِ!
بلَّلَ الوجومُ الجدرانَ والأحلامَ والوجوهَ.
تدحرجتْ دموعُهُ سَكْرى فوقَ خدّي الشَّطرِ الأخيرِ, وارتفعَ صوتُهُ وهو
يقرأُ:
يُطلبُ من المساعدِ الأوَّل صابر بن محمد السَّكران،
مُراجعةَ دائرةَ جرحى الحرب، لدفعِ غرامةٍ ماليةٍ مُقابلَ فردةِ الحذاءِ
المفقودةِ في كمينٍ تلِّ الجُرْف!!
أحمد يعود إلى سلفيت
-1-
تدفّقتْ رؤاه ودموعه. أُصيبَ الرجل بالخوف. أحسَّ
بقوة تدفعه للنهوض... وقف أمام صورة ملوّنة زاهية له، تتصدّر الغرفة. رفع
رأسه محاولاً تقبيلها.
أهيَ الذكريات تتلامح أمامه، يوم انفجرت العُبْوَة
الناسفة، وحمله جنديان إسرائيليان ووضعاه في سيّارة عسكرية، وإلى جانبه
يداه تستلقيان وتتعفَّران بالدماء؟...
عندها ترحَّم على أيام المراهقة والمطاردة... ومشاعر
الفرح فراشات تحوم وتحوم وتقطف نبضة ودمعة وتطبع قبلة، فيفتح كفّيه للهواء،
ويكتفي باحتضان عينيه ابتسامة منها، يجمعها في قبضته خوفاً عليها من
الفرار، إلاّ أنَّه سَرْ عان ما يشعر بما يدفعه لإكمال رسالة كتب منها
مقطعاً ولم يكملْها، فدخلت أُمّه وقطعت سلسلة أفكاره... ابتسم لها وطلب
كأساً من عصير البرتقال، وأن تثّبت له الورقة على سطح المرسم الملبَّد
بأقلام الفحم والرصاص والألوان المائية والعلب الفارغة، وفضاء يزدحم بفوضى
عارمة.
مرسم تزّينه بقع ولطخات وخطوط وهندسة غريبة، رغم كلّ
ما أصابه من ألم وذكريات من الصعب رصدها في جوّ مسحوق، تطحنه ذكريات زنزانة
منعزلة.
ظلت الأشياء تدور في رأسه وتدور؛ بينما كان يضع
القلم في فمه ويضغط عليه بين أسنانه، ثمَّ يرفع قدمه اليُمنى، ويأخذ
يقرّبها من وجهه شيئاً فشيئاً.
ضحك أحمد ضحكة طويلة تبدأ عند ذيل غيمة رمادية
مُهاجرة، تدرَّجت ضحكته، ترافقت مع صوت خطوات مسرعة، تبيّن أنَّ أمّه جاءت
تستطلع ماجرى له، أخذ الفرح يتسلَّق قامة أُمّه الواقفة في باب المرسم.
بينما كان يثبّت القلم بين أصابع قدمه. ويتابع كتابة رسالة إلى حبيبته التي
تركت كومة من دموعها مُتجمّدة فوق وجنتيه، وهو لا يزال ينتظر همسة منها
ولمسة من يدها إلى هذا اليوم!...
أنا أمّ أحمدَ الواقفة أمام النافذة أُراقب ظلَّ
الجدار. أفرح كلما تقدَّم الظلُّ سنتيمتراً واحداً، وأفرح أكثر حينما يلامس
الحجر المُثبَّت في الأرض.
يتعرَّق جسمي عندما يتجاوز الظلَّ الحجر. وطيلة
سنوات المدرسة، يتوافق مجيء أحمد ووصوله مع هذه العلامة البسيطة، رغم أنَّ
الحجر أدمى قدميَّ مرّات ومرَّات عندما أتعثَّر به ليلاً.
نهضت بعد الركعة الثانية من صلاة الظهيرة. كأنّ
قوافل من الأجراس تدقُّ في رأسي. حملت السُبْحة. أصبح رنين خرزاتها ودقّات
قلبي المُتسارعة يتلاطمان ويتدافعان بين جدارين مُتقابلين.
كررتُ عدَّ حبّات السُبْحة تسع مرّات على ما أذكر،
وتسمرَّت الشمس فوق صحن الدار بقي ظلُّه يمتدُّ مع هواجسي.
أعرف ابني، يتوهَّج كالحجر، وكلما حاولت إخماد ألسنة
اللّهب المتطاولة، يُربّت على كتفي مُطَمِئناً، بأن لا يتركني وحيدة في
المنزل، ويقول: أحمد وحيدُك، لم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى عينيك وعينيها،
وبقايا أحلام متورِّمة، وأفكار ربَّما تقودُني إلى السجن.
بينما أقوالهُ تغوص في لحمي وتحضر في روحي وتمشي في
ظلّ عروقي، سمعتُ ضربات قوّية على باب الدار، فقفزتُ وكان "زيدان" صديقهُ
ومدير ثانوية "سلفيت" يلهثان. وتبدو على وجهيهما تجاعيد زخرفها الحزن،
وخلفهما مجموعة من الطلاب تتلامح على صفحات وجوههم بيانات وأخبار وبقايا
دماء!...
قال المدير: أحمد...!!
لم أدرِ ماذا حلَّ بي بعد هذه اللحظة!
أفقتُ صباح اليوم التالي أُقلِّب سرير أحمد، أشمُّ
بقايا رائحة، ألمس فراشه وأحتضن منامته المطويَّة بعناية.
دقّات أكثر هدوءاً على باب الدار قُبيل الثامنة...
يظهر مدير الثانوية. يلتفتُ إليَّ بِحَيرة، لكنَّه أقلُّ ارتباكاً من مساء
البارحة.
أيقنتُ الآن، وأنا بكامل قُواي العقلية أنَّ أحمد في
أحد المشافي أوفي أحد السجون. عرفتُ حقيقة ماحدث. رفعت رأسي ومسحت دموعي
واستمعت إلى المدير، وشفتاي ترتجفان. "انكشف أمرُهُ بعد انفجار عبوة كان
يحضّرُها لزرعها في مكان مامن الأرض المحتلة، وقد أدّى الانفجار إلى بتر
يديه وإصابة إحدى عينيه بالعمى"..
-3-
يحاول أحمد أن يرفع ذراعه.. ينسى أنَّها...! يحاول
أن يحرِّك أصابع يديه.. ينسى أنَّها..! يحاول أن يتأفّف ويتأوَّه، يتأسَّف
لما حصل، ويتعهَّد أمام رفاقه أن لا يكرّر الخطأ. يتساءَل: "كيف انفجرت
العبوة، وبَتَرَتْ يديَّ وأطفأت نور عيني؟"..
أصبح العدو الآن يتفرّج عليه، كأنَّه يقول له:
"أصبحت مثالاً لغيرك، أنت تقطع أعضاءَك. وهانحن نتدخّلُ في شؤونك، وما حصل
نحن شهود عليه، ونوقِّعُ بصدق أنَّ "إسرائيل" كانت بعيدة عنك!...
هواجس التحمت وتجمَّعت دُفْعة واحدة، هواجس ضبابية
حجبتْ عنه صديقه الذي كان يتسلَّى بذقنه الطويلة.
يترك "زيدون" أشياءه ومقدّسات أفكاره جانباً،
ويحدِّق في وجه "أحمد" ثمَّ يقترب منه، ويلاحظ أنَّ عينيه تصمتان ولسانه
يخرس، وأجراس ذاكرته تدقُّ بحزن، وتُبشِّرُ عن مأتم قادم، وأناس يتجمهرون
حوله.
لم يدرِ كيف هبط النوم عليه ونزلت حبَّات العرق
الدافئة من جبينه، ثمَّ توزَّعتْ وسارت على طرفيّ الحاجبين، وتعرَّجت
قطرتان مسرعَتان على جانبي الأنف. وضاعتا في شاربين كثيفين، أقفل جفناه
بابيهما، وغطتهما أهداب سود.
تراجع زيدون إلى سريره، استلقى مستأنساً بشخير
أحمد.. تركه ينام على راحته، وكان يسمع تمتمات. وأحياناً "خربشات" وأنيناً
ناعماً خافتاً!...
حدث هذا في الليلة الأولى بعد جولة طويلة امتدت
ثلاثة أسابيع من التحقيق الدؤوب والضغط والإكراه.
تكلّم أحمد بهدوءٍ عند وصوله إلى بيته الذي لم يبقَ
منه أثرٌ يُذْكَر، ولولا معرفته بالجيران والأقارب، لكان يعتبر نفسه في
حلم.
أحدَ عشر عاماً هي رحلة طويلة، الأمُّ رحلَتْ، وكان
الأب قد سبقها بسنوات إلى مقبرة "سلفيت"...
أصبح أحمد بلا مأوى. ولم يبقَ إلاَّ الكثير من
الأوجاع. الكثير من الصبر، والقليل القليل من الأحلام.
أسئلة دارت ودارت في رأسه، ثم تجمعَّت دُفعة واحدة،
هزَّت أوتاره الداخلية وشكلَّتْ مرَّبعاً ودوائر وأشكالاً أخرى!...
الناس يرحلون ويولدون ويفرحون ويتألمون، وأحمد
يُداعب ابتسامة أنيسة، ثمَّ تغيب كأنَّ لها أجنحة. يحاول أنْ يثبّتها، لكنْ
دون فائدة، فيتلذَّذ ببقاياها، ويعلن ساعة الولادة والدراسة والعبوة
الناسفة.
وعندما وقفتْ ذبابة على جبينه، هزَّ رأسه إلى الأمام
والخلف، لكنَّها تمسّكت وتشبَّثت بجلده، عندئذٍ اضطر أن يطلب من زيدون الذي
كان في استقباله أنْ يحكَّ له جبينه، ففعل وقبَّله في المكان الذي كانت
الذبابة تقف عليه.
يكتب أحمد خواطره وأشجانه في ذاكرته، ويرسم لوحاته
بريشة يغمسها أولاً في ماء القلب، ثمَّ يترك الألوان تسيل وتتكاثف فوق
جدران الذاكرة.
كان زيدون يخفّف عنه الآلام، ويفتح لها النوافذ كي
تخرج دون أن تترك ذيولاً لها. وترك موت أخيه أثناء غيابه أثراً بالغاً في
نفسه، تنهَّد بقوة، كأنَّ قُنبلة تخرج من رئتيه، لكنَّه استأنسَ بوجود
الأصدقاء حوله في بيت زيدون... ركع وصلَّى وقبَّل التراب للمرّة الثالثة.
أحمد دون قيود الآن، لكنَّ صورة السجَّان الذي كان
يسخر منه، لا تغيب عن خياله. يتذكَّر كيف كان يدفعُه بقدمه، يركُلهُ، يمشي
خلفه من جهة العين الميْتة، وعصابةٌ سوداء تغطّي عينيه، مربوطة إلى الرأس
بشكل مُحكم.
يأمر المحقّق السجَّان أنْ يفكَّ العَصابة أو ينزع
كيس البول عن وجهه. يطلب منه أن يركع. وخلال دقائق يستجمع أحمد فيها قواه
المشتّتة، وتتأبّط ذاكرته الماضي. ويقف المحّقق. يُعيد الذراعين إلى عُلْبة
خشبية، يقفل عليهما، كأنَّه يقول له:
"فرحك محجوز عليه في المعتقل، وهذا جسدك أمامي مطروح
على الأرض، وهذا...".
يدور من خلف مكتبه. يضع إصبعَه في حجرة عينه
الفارغة، ويدفعُه نحو الوراء،يركُلُهُ السجَّان، ثمَّ يسوّي ركعته ويقهقه
أحمد ساخراً، ولكن بألم!
همسات ضامرة تلكزه، وشوشات حارة تضرب كلّ الأبواب
المغلقة، و... تكزُّ أسنانه. يهدر السجَّان.. يتطلَّع أحمد إليه. يَتْفُلُ
في وجهه، ويقول: "لا أملكِ إلاَّ هذه البصقَة الناسفة لأُهشم بها وجهك
وأقطع يديك".
-4-
نسيم "سلفيت" وديعة أمينة احتفظ بها الفضاء اللطيف
هديَّة لعودتي، أنا "أحمد بني نمرة"، العائد في نهاية هذا القرن من سجن
"رام الله" مُفرجاً عنّي قبل أنْ تنتهي فترة الحكم بسنتين.
كنتُ قد تقدّمتُ خلال أحد عشر عاماً، وهي مدّة
اعتقالي، بأربعة عشر طلباً لإدارة السجن، لإعادة النظر في الحكم الصادر
بحقّي.
تألّمتُ كثيراً، ومشى الألم في نهر ذاكرتي وحيداً،
اعتقدتُ أنَّ كابوساً هرب من آخر مهجع للسجناء المُضْربين، ودخل في رأسي.
أراد أنْ يفجِّره. أحسستُ أن لُغْمَاً للمشاة زُرع تحت سقف رأسي.
نهضتُ مُسبَّحاً بالعرق، وبعد دقيقة كانت يدا
"زيدون"تمسحان جبيني بلطف... شعرتُ بالراحة والطمأنينة تسريان في دمي،
وتتنزَّهان على مشارف روحي.
تمشيتُ بصمت، وعلى رؤوس أصابع قدميَّ. كان رأسي
يزدحم بصور ولوحات ملطَّخة باللون الرَّمادي، والأسرَّة المهترئة. تسمَّرتْ
عيناي في النوافذ العالية والباب المُقفل.
حديث طويل. ويطول في "سلفيت" التي ظلّت حُلماً
ساكناً في قلبي. يدفّئ جسدي بالندى، ورائحة زهر الزيتون والأقحوان المتفتّح
في الحواكير، وعلى جوانب الطرقات الترابية بين الكروم.
أحببتُ أن أتدرّج في مساء ذاك اليوم على الطريق الذي
يقسم الكروم إلى قسمين، وكان زيدون إلى جانبي، يحمل الذكريات في جعبتين
ثقيلتين.
أحسستُ أنَّ رغبة تلحُّ عليه كي يخفِّف عنَّي ازدحام
الصور والمشاهد. قبَّلني قُبلتين. ومسَّد لحيتي المُتهالكة. أجلسني على
صخرة ناتئة من وكرِها الحجري، تتدلَّى شَفَتُها العليا أمامها، أخرج
مقِصَّاً صغيراً من جيبه، وشذَّب أطراف الشعر الملفوف على بعضه، وأصبح
الشاربان منَّسقين، وقال: صباحاً إلى حمَّام السوق يا أحمد!...
- لماذا؟..
- هناك ترتاح، وتغسل جسمك جيِّداً، نشرب الشاي
والزعتر، والنعناع.
أنتَ بحاجة إلى التدليك، وإلى مسَّاج ماهر، ينزع من
جسدك سنوات القهر والعذاب...
- “أنت تُفصِّل يازيدون، وأنا ألبس".. لا أنسى فضلك
مادمت على قيد الحياة.
كان الصباح دافئاً جميلاً. أصوات ثُغاء وغناء عصافير
وأطفال وبكاء رضيع في المنزل المجاور، وربيع يطوِّق "سلفيت"، يغمر كرومَها
ويطوف حولها زاهياً،وهي ترتفع قليلاً كعروس رائعة!...
-5-
في اليوم الثاني كان الصباح والوجه اللاّمع
يتفجَّران جمالاً، وتفوح رائحة القهوة من شرفة بيت زيدون المطلّة على بستان
صغير يزدحم بالأشجار المثمرة والعصافير.
ضحك أحمد ضحكة طيّبة، كأنّه اتَّخذ قراراً واقعياً
وسريعاً، أصبحت أحلامه تدور في دائرة كبيرة، حين طمأنه وفدٌ من شباب
الانتفاضة أثناء زيارته السرّية، بأنَّه سيُقدِّم له هديَّة، تخفِّف عنه
المتاعب، وتُعيد إليه جزءاً من السعادة والنشاط.
ألحَّ زيدون على الوفد أنْ يسرع بتأمين ذراعين
اصطناعيين من مركز أقامته منظَّمة إنسانية في مدينة حيفا.
وعندما سمع أحمد الخبر طلب من الوفد أن يبحث له عن
عمل مُناسب... ضحك زيدون، وهو يقترح تنفيذ مهمَّة جديدة، وهي بناء غرفة في
بيت أخيه الذي استقرَّ في "بيرزيت".
ثلاث مهمَّات كبيرة تدور الآن في فضاء الأمنيات.
ثلاثة أحلام يمكن أنْ تعوِّض الخسارة الكبيرة!...
توقَّف الجميع عن الكلام؛ بينما كان أحمد يفتح صفحة
جديدة من دفتر الماضي. وكان يعلم وهو في السجن أنَّ "ربيعة" تزوَّجت بعد أن
انتظرت خمسَ سنوات دون رجاء. ولم تتزوَّج إلاَّ بعد أنْ وصلها خبر منه يسمح
لها بالزواج، لأنَّ بقاءه في السجن ربَّما يمتدُّ إلى ثلاث عشرة سنة.
طلب أحمد سيجارة من زيدون، فأشعلها له ووضعها بين
شفتيه، وكان بعد كلَّ مجَّة يسحبُها، ويضعُها على طرف "المنفضة"، ويرفع
بهدوء كأس الزعتر ليرشف منه رشفةً ويصدر صوتاً متدرِّجاً كضحكته.
تعوَّد أحمد منذ سنوات على حياة جديدة، أصبحت جزءاً
من يومياته القاسية، وتقبَّلها بمرارتها، وكان يهجس دائماً بأنَّ يومها
سيأتي ويكون فيه على أفضل حال.
في المساء بينما كان زيدون وزوجته ينكشان حول
الأشجار اتَّجه أحمد إلى ثانوية "سلفيت". وقف أمام الباب الخارجي. لم يرَ
أثراً للعبوة الناسفة، وأصبح السور أعلى مّما كان عليه في الماضي. والأرض
التي تحيط بالمدرسة، غابة كثيفة من الأشجار الباسقة الزاهية.
أسند جسده المرهق إلى السور. تساءل أكثر من مرّة عن
الآثار التي تركتها المُتفجِّرة، وسالت حبَّات العرق المتفصِّدة من جبينه.
حدَّق بعينيه، وزَّع بصره بين يديه المبتورتين. تابع
سيره رافعاً رأسه. مُبتسماً للغروب، بينما الأفق الورديُّ يحتضن الشمس
الغاربة بشوق.
|