ولدت عائشة بنت إسماعيل باشا تيمور سنة (1256هـ = 1840م)، ووالدها
من أصل كردي، كان أبوه ضابطا من رجال محمد علي، تولى عدة مناصب هامة.
-لقيت عائشة من أبيها كل تشجيع، وكان يتابع تطورها وتقدمها في دراسة
الأدب، ويدافع عنها في وجه أمها التي كانت ترى في ميل ابنتها شذوذا عن باقي
بنات جنسها، وكان يقول لها: "دعي هذه الطفلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها
فأدبيها بما شئت من الحِكم...".
-تزوجت عائشة وهي في الرابعة عشرة من عمرها سنة (1271هـ = 1854م)،
وهيأت لها حياتها الرغدة أن تستزيد من الأدب واللغة، فاستدعت سيدتين لهما
إلمام بعلوم الصرف والنحو والعروض، ودرست عليهما حتى برعت، وأتقنت نظم
الشعر باللغة العربية، كما أتقنت اللغتين التركية والفارسية، وقد أخذتهما
عن والديها.
-تولت عائشة تعليم أخيها أحمد تيمور، وكان والدها قد توفي بعد ميلاده
بعامين، فتعهدته بالتربية والتعليم حتى عرف طريقه، وقد صار بعد ذلك واحدا
من رواد النهضة الأدبية في العالم العربي.
-فقدت عائشة ابنتها "توحيدة" وكانت حبيبة إليها، تحب الشعر مثلها،
وتعلمت العروض وكتبت شعرا تنعي فيه نفسها، وكان هذا الحادث الأليم عميق
الأثر في نفس عائشة حيث ظلت 7 سنوات بعد وفاة ابنتها في حزن دائم وبكاء لا
ينقطع، وأحرقت في ظل الفاجعة أشعارها كلها إلا القليل، غير أنها كتبت قصائد
تفيض بالأسى واللوعة، وتصور الأمومة الملهوفة وأحاسيس الحنان والحرمان، وقد
جمع شعرها في ديوان باسم "حلية الطراز".
-نشرت عائشة في جريدة الآداب والمؤيد عددا من المقالات عارضت فيها
آراء قاسم أمين ودعوته إلى السفور.
-لعائشة من الكتب "مرآة التأمل في الأمور"، دعت فيه الرجال إلى الأخذ
بحقهم من الزعامة والقوامة على المرأة دون تفريط في واجبهم نحو المرأة من
الرعاية والتكريم. وألفت كتابا يضم مجموعة من القصص باسم "نتائج الأحوال في
الأقوال والأفعال".
-كانت عائشة أسبق في الدعوة إلى تحسين أحوال المرأة والنهوض بها من
قاسم أمين، ومهدت السبيل في مجال المقالة الاجتماعية لباحثة البادية.
-نشأت عائشة في بيت علم وسياسة، فأبوها كان يعمل رئيسا للحاشية
الملكية، وله شغف بمطالعة كتب الأدب. وكانت عائشة تميل إلى القراءة، فأحضر
لها والدها أستاذين، يقوم أحدهما بتعليمها القراءة والكتابة، والآخر
بتحفيظها القرآن، وتعليمها مبادئ الفقه الإسلامي.
-توفيت عائشة التيمورية في (23 من المحرم 1320هـ = 2 من مايو 1902).
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور
معاً ليبصر المكفوف
عائشة التيمورية
إعداد الطالبة: نبيلة عبيد عبد الله هاشم
إشراف الأستاذ: خالد فراج
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة للعالمين، ومعلماً
للبشر أجمعين، وهادياً إلى سبيل السداد، وبعد.
اخترت الكتابة حول الشاعرة الأدبية عائشة التيمورية للوقوف على شخصيتها،
حيث كان لها دور فاعل في الحياة، وتعد نموذجاً رائعاَ للنساء الرائدات في
المجتمع العربي. وقد عرضت لشخصية عائشة التيمورية، فوقفت على عدة أمور
منها: نشأتها ونسبها، ومؤلفاتها، وشعرها، وبيئتها الاجتماعية. ورجعت في
بحثي هذا إلى عدة مراجع ومصادر.وذيلت بحثي بخاتمة تضم ملخصاً لبحثي، وقائمة
المصادر والمراجع، وفهرس محتويات. والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه
الكريم، وأن ينتفع به كل من يطلع عليه.والله الهادي إلى أقوم سبيل.
نسبها:
هي عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور بن محمد كاشف تيمور[1]. ولدت السيدة
عائشة سنة 1256هـ الموافق 1840م لوالدة شركسية الأصل تدعى بـ" ماهتاب
هانم". أما والدها فقد كان وكيل دائرة محمد توفيق باشا ولي عهد الخديوية
المصرية. توفي والدها عام 1289هـ،أي بعد 33 عاما، أما والدتها فقد توفيت
عام 1285هـ - 1868م. وهي من عائلة علم، فقد كانت عائشة أختاً للمرحوم
العلامة المحقق أحمد تيمور باشا، إلا أنه كان من أم أخرى وهي " مهريار هانم
" وهي أيضاً شركسية الأصل[2].
تزوجت عائشة بكاتب ديوان ( همايون ) سابقاً السيد الشريف محمود بك
الإسلامبولي ابن السيد عبدالله أفندي الإسلامبولي سنة 1271هـ. وبعد زواجها
اقتصرت على المطالعة والإنشاد وتفرغت لأعمال المنزل. أنجبت عائشة بنتان
وولد، أسمت الكبرى منهما بـ " توحيدة "*، أما ولدها فقد أسمته بـ"محمود
بك".
أحسنت عائشة تربية ابنتيها وولدها، فقد أوكلت إلى ابنتها الكبرى " توحيدة"
مهام المنزل حتى باتت مدبرته. ولكنها توفيت وهي لم تبلغ بعد من العمر
18عاماً، فحل بعائشة حزن وأسى ثقيلان على فقدانها ابنتها، وتركت العروض
والعلوم وأمضت سبعة أعوام متواصلة ترثي ابنتها إلى أن أصاب عينيها الرمد.
ولم تنفك عائشة عن رثاء ابنتها إلا بعد محاولات مضنية من الأهل والأولاد
استمرت سبع سنوات، وبعدها بدأت عائشة بالتوقف شيئاً فشيئاً عن رثاء ابنتها
التي كانت مقربة جداً منهاً ومدبرة منزلها[3].
كان الأدب في عصر السيدة عائشة أمراً غير مستحسناً من البنات، فقد كانت
والدتها ترفض عزوف عائشة عن دروس الخياطة والتطريز لتتفرغ للكتابة والأدب،
وكانت غالباً ما تجبرها على تعلم التطريز[4]، إلا أن إجبار الأم لم يأت
بنتيجة إيجابية، فقد كانت عائشة تزداد نفوراً من التطريز كلما ازدادت الأم
إصراراً على تعليمها1. وقد لاحظ والدها ميل ابنته الشديد لتحصيل الأدب،
فكان يقول لأمها: " دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم ودونك شقيقتها فأدبيها
بما شئت من الحكم"2.
لقد كانت عائشة تصغي إلى نغمات الكتاب، فحين لفت ميلها للأدب انتباه
والدها، أحضر لها من المعلمين والمعلمات الأفاضل لتعليمها الشعر والأدب
والعروض في اللغتين العربية والفارسية والتركية. وكان من أهم معلميها
الأستاذ إبراهيم أفندي مؤنس، وقد كلف بتعليمها القرآن والخط والفقه، أما
الأستاذ الثاني فهو خليل أفندي رجائي، وقد كلف بتعليمها علم الصرف واللغة
الفارسية، وبعد وفاة زوجها، حكمت نفسها بنفسها، فأحضرت لنفسها اثنتين من
الأساتذة لهما إلمام كبير بالنحو والعروض، إحداهما ( فاطمة الأزهرية)،
والثانية ( ستيتة الطبلاوية) حتى برعت عائشة في ذلك المجال وأبدعت فيه3.
وحين أكملت عائشة تعليمها للقرآن الكريم، توجهت إلى مطالعة الكتب الأدبية
وبشكل خاص الدواوين الشعرية. ونهلت من علوم معلميها ما نهلت حتى ارتقى
مستوى شعرها إلى أعلى الرتب، وفاقت نساء عصرها في الشعر وعلوم الأدب والنحو
والعروض. هذا وقد تولى والدها عهدة تعليم ابنته بنفسه؛ لأنه لم يرغب
باختلاطها بالرجال فقام بتدريبها كل ليلة بعد العشاء ساعتين، تارة في كتاب
الشاهنامة للفردوسي، وتارة في المثنوي لجلال الدين الرومي، وكلاهما من عيون
الأدب الفارسي والتصوف الإسلامي4.
أدبها (شعرها):
قسمت السيدة عائشة شعرها إلى خمسة أقسام، فكان منه الغزلي والأخلاقي
والديني والعائلي وشعر المجاملة[5]، وقد تميز شعرها بكل أنواع الصدق
والمشاعر الخالصة، إلا أن شعر الرثاء كان له نصيب الأسد من الصدق والعمق
والتأثير وجودة التصوير على حد سواء، ولا سيما رثاؤها ابنتها " توحيدة"
التي توفيت وهي في مقتبل العمر[6]، ومما قالته في ابنتها:
أماه قد عز اللقاء وفي غد سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقاً بابنتي جاءت عروساً ساقها التقدير
إلى أن تقول:
أماه! لا تنسي بحق بنوتي قبري لئلا يحزن المقبور
ثم تقول:
صوني جهاز العرس تذكاراً فلي قد كان منه إلى الزفاف سرور[7]
وبالنسبة لشعرها الغزلي، فلم يكن منه إلا من قبيل " تمرين اللسان "[8]،
وذلك بسبب افتقاد روحها للبهجة والسعادة، وحزنها على ابنتها طال نصيباً
واسعاً من روحها؛ مما أثر على شعرها العربي وأضفى عليه صبغة من الحزن
والأسى لا تخفى على القارئ والمتذوق. فكان منه:
فيا إنسان عيني غاب عنها وبدلني به طول المـــلال
عسى ألقاك مبتهجاً معافى وأصبح منشداً أملى صفــالي
لتهنأ مقلتي بسنا حبيـب بديع الحسن محمود الخصال
وأنظم أحرفي كالدر عقداً به جيد الصحائف كان حالي[9]
كما استرسلت عائشة التيمورية في كتابة الشعر بكل ما أوتيت به من مواهب
شعرية، ليس فقط بالعربية والتركية ، بل وبالفارسية أيضاً، فكان منه أنها في
ليلة من الليالي كانت جالسة في حديقة قصرها تنظر إلى نور القمر وروعة
الأزهار، وكانت تمسك في يدها باقة من الورد، وقد كانت تتمعنّها بكل هدوء
وسكون وشعر، وإذا بوالدتها تقطع عليها ذلك السكون والتأمل، فتذهب إلى
والدتها، وعندما عادت رأت أن باقة ورودها مبعثرة، فقالت قصيدتها بالفارسية
وهي:
أيا مهتاب تابنده شكوفه م شد برا كنده ترابخشم خفارتها كدامك
كرد بزمرده
جه داغ ! آن داغ جمر آسا جو بينم دسته آزرده[10]
وقد جاء تفسير هذه القصيدة كالتالي:
"أيها
القمر الباهر إن باقة وردي تشتت، وقد كنت وكلتها إليك، فمن الذي بعثرها
وشتتها؟ كلما أرى باقتي مبعثرة هكذا أشعر في نفسي بحسرة شديدة فوا حرقتاه"1.
وكان لها من الشعر أيضا ماً قالته عن زعماء الثورة بعد نفيهم والتنكيل بهم
وكان منه:
ظلموا نفوسهم بخدعة مكرهم والمكر يصمى أهله ويحيق
فرقت شمل جموعهم فمكانهم في الابتعاد وفي الوبال سحيق2
كما كان لها أيضاً من الشعر:
حبـــذا حلية الطراز أنت من مصر تزهو باللؤلؤ المنظــوم
حلية للعقول لا حلية الوشى وكـــر المنطوق والمفهوم
أنشأته كريمة من ذوات المـــــــجد والفخر فرع أصل كريم
شمس علم تأتى القصائد منها ســــائرات في الأفق سير النجوم
كـل بيت بكــل معنى بديـع ما على السركفية من تحريـم
قد أعاد الزمان عائــشة فيها فعاشت آثار علم قديم
هام قلبي على السماع وأمسى ذكرهـا لذتى وفيهـا نعيمــي
هي فخـر النساء بل وردة في جيد ذا العصر زينت بالعلـوم
فأدام المــــولى لها كل عـــــز ما بــدا الصبح بعــد ليــل بهيم3
كذلك قالت في والدها بعد وفاته:
أبتـــــاه، قد حش الفراق حشاشتي هل يرتضي القلب الشفوق
جفائي؟
يــــــا من بحسن رضاه فوز بنوتي وعزيـــــز عيشتــه تمـــام رخائي
إن ضاق بي ذرعي إلى من أشتكي من بعــــد فقدك كافـــلا ًبرضائي؟4
مؤلفاتها:
وبالنظر إلى مؤلفات عائشة التيمورية، نجد أنها ارتفعت إلى أعلى الرتب،
ووردت إليها التقاريظ من الأدباء، وجميع ما ورد لها من التقاريظ مكتوب في
مؤلفاتها، ومن هذه التقاريظ ما جاء من السيدة وردة اليازجي الذي أبدعت فيه
لرقت معانيه على ديوان حلية الطراز وما جاء فيه:
سيدتي ومولاتي:
إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلى بها جيداً العصر، وأخجلت
بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأت فحول الشعراء
بأحسن منها، وقصر نظم الدر عنها وشنفت بحسن ألفاظها مسامعنا حتى غدا يحسدها
السمع والبصر، وسارت في آفاقنا مسير الشمس والقمر، ولقد تطفلت مع اعترافي
بالعجز والتقصير بتقريظ لها وجيز حقير، فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء أو
بالسمو للقيمة الزرقاء راجية من لدنكم قبوله بالإغضاء، ولا زلتم للفضل
مناراً يسطع، وبين الأدباء في المقام الأرفع بمن الله وكرمه1.
أما مؤلفاتها فهي كالتالي:
1.نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال:
هو كتاب عربي، فيه قصص لتهذيب النفوس، أسلوبه إنشائي وقد تم طبعه سنة
1305هـ - 1888م.
2.مرآة التأمل في الأمور:
وهي رسالة باللغة العربية، تتضمن 16 صفحة في الأدب، وقد تم طبعه قبل سنة
1310هـ - 1893م.
3.حلية الطراز:
وهو ديوان لمجموعة أشعارها العربية، وقد تم طبعه في القاهرة آخرها سنة
1327هـ وأولها قبل عام 1289هـ.
4.شكوفة أو (ديوان عصمت):
هو ديوان أشعارها التركية، وهو يحتوي على بعض الأبيات التي قالتها الشاعرة
في أبنتها توحيدة، ومن هذا المنطلق ذهب الناس إلى أن هذا الديوان فارسي
وتركي، وهو في الحقيقة غير صحيح لأن الشاعرة صرحت بأن أشعارها الفارسية
كانت عند ابنتها توحيدة، وقد أحرقتها مع ما أحرقت من مخلفاتها الخصوصية،
فمن ذلك نستنتج أنه ليس لها ديوان فارسي مستقل2.
الخـاتمـة
في نهاية بحثي المتواضع والذي بذلت فيه جهداً أرجو من الله الأجر عليه.
والذي تعرفت فيه على شخصية عظيمة، لها مكانتها وتقديرها. فهي أديبة فاضلة
وحكيمة عاقلة وبارعة باهرة وشاعرة ناثرة. إن لهذه المرأة مكانتها، فقد
فاقت نساء عصرها في المعرفة والفهم، وسبقتهن بتقدم مطالبها. إن البيئة
الاجتماعية هي دائرة الإنسان الاجتماعي، وهي مرآة الإنسان، فللبيئة
الاجتماعية أثر واضح على السيدة عائشة. فالبيئة التي أحاطت بها هي بيئة
مليئة بالكتاب والشعراء والأدباء الذين كانوا يتجمعون لدى والدها، فتأثرت
بهم السيدة عائشة. واتسمت كتاباتها بالجانب الأخلاقي، فلم تتطرق إلى
الجانب الغزلي في أشعارها إلا نادراً، وغلب رثاء على ابنتها توحيدة
المتوفاة. وتميزت السيدة عائشة أيضاً بتعدد لغاتها، فقد كانت تتقن اللغة
العربية والتركية والفارسية. كما كانت لها مؤلفات عديدة ميزتها عن غيرها
من نساء عصرها.
المصادر والمراجع
حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي- الأدب الحديث،
دار الجيل، بيروت- لبنان، ط1/1986، ص129.
حلية الطراز، ديوان عائشة التيمورية، الأميرة قدرية حسين
وآخرون، مطبعة دار الكتاب العربي، القاهرة، 1952.
خير الدين الزركلي، الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت-
لبنان، المجلد الثالث، الجزء الثالث، ط 12، شباط/ فبراير/1997.
زينب بنت يوسف فواز العاملي، الدر المنثور في طبقات ربات
الخدور ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان.
عباس محمود العقاد، شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي،
مطبعة حجازي بالقاهرة، 1355-1937.
محمد أمين زكي، مشاهير الكرد وكردستان في العهد الإسلامي،
مطبعة السعادة بمصر، الجزء 2، 1366هـ - 1947م.
عائشة التيمورية
أديبة فاضلةٌ، وحكيمةٌ عاقلةٌ، اختصَّها الله بفصاحة اللسان، وحباها
البلاغة والبيان، كانت مغرمة بالافتنان في أفانين البلاغة والنظم المعتدل
الأوزان، وهي نادرةُ الفلك، وواسطةُ عقد الدَّهر في نظمِ الشعر.
* * *
عائشة بنتُ إسماعيل تيمور بن محمد كاشف التيمورية القاهرية المصرية،
ولدت في القاهرة سنة 1256هـ، من أصل تركيٍّ من جهة أبيها إسماعيل باشا
تيمور، اما والدتها (معتوقة) فهي من أصل جركسي، من الأسر الجركسية التي
قدمت مصر واستقرت فيها منذ أمدٍ سحيق.
* * *
كانت مصر في عهدها تعيش حياة الهدوء والبساطة، وكانت المرأة تعيش
هذه الحياة المتواضعة طيبة النفس، راضية القلب، وكن البنات يعشن كما تريد
أمهاتهن أن يعشن، وكانت حرفة التطريز سائدة آنذاك، ولم يكن الوقت يسمح
للمرأة أن تقرأ وتتعلم في المدارس، وكان بعضهن يتعلمن القرآن على يد فقيه
البيت.
* * *
وهكذا أرادت لها والدتها أن تكون، تتعلم التطريز وأعمال الإبرة، إلا
أن ميولها الأدبية كانت تحول بينها وبين أمنية والدتها التي كانت تدعو الله
أن يكرِّه عائشة العلم والمعرفة، وتزجرها أحيانا لتمتنع عن ميولها، ويرجع
ذلك إلى بساطة العيش وقلة المعرفة، أما والد عائشة فقد كان رجلا لمّاحا
عاقلا، وكان يرى ما يدور بين ابنته وأمها إلا أنه لا يتدخل، ولما طال
الاختلاف بين الأم وابنتها تدخل الأب وقد تفرَّس في ابنتها النجابة وتوقع
لها مستقبلا زاهراً أمر زوجته بعدم التعرضِ لها، وأحضر لها أستاذين أحدهما
بدأ في تعليمها القرآن الكريم وعلومه، والفقه الإسلامي، والخط العربي، وأما
الآخر فكان يعلمها اللغة العربية وعلومها، بالإضافة إلى اللغة الفارسية
التي أتقنتها فيما بعد وصارت تكتب الشعر والنثر فيه.
* * *
أخذ هذان الأستاذان يعلمان عائشة المعارف المتنوعة ويسقيانها من
المناهل العذبة، حتى اشتد عودها وغدت نادرة عصرها، وظهرت ميولها الأدبية
وهي ما تزال في بداية العقد الثاني في حياتها.
تقول عائشة التيموية وهي تسجل ذكرياتها مع أمها وتذكر فضل والدها:
كانت أمي تعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزِد إلا نفوراً، وعن صنعة
التطريز قصوراً، فبادر والدي تغمّدَ الله بالغفرانِ ثراه، وجعل غُرف
الفردوسِ مأواه، وقال لها: دَعي هذه الطُّفيلة للقرطاسِ والقلم، ودونكِ
شقيقتيها (عفت، ومنيرة) فأدبيها بما شئتِ من الحكم.
ثم اخذ بيدي وخرج بي إلى محفل الكتاب، ورتَّب لي أستاذين أحدهما
لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية، وصار يسمع ما
أتلقّاهُ من الدروس كل ليلةٍ بنفسه.
* * *
وتقول عائشة: كنت منكبة على دروسي، أجتهد فيها فوق ما كان ينتظر أبي
مني، غير أنذَ أبي لم يكن يأذنُ لي بالخروج إلى مجالس الر ّجال، وتولى
بنفسه تعليمي كتب البلاغة الفارسية مثل: شاهنامة الفردوسي، والمثنوي
الشريف، واختصّني من ساعتين من وقته كل ليلة أقرأُ فيهما عليه.
* * *
يبدوا أن مدارك عائشة كانت تطاول جوزاء المعرفة، فقد تاقت نفسها إلى
مطالعة الكتب الأدبية المتنوعة، والدواوين الشعرية المختلفة لفحول الشعراء،
فكان أن تولدت عندها ملكة رائعة من التصورات الفائقة، والتشبيهات الغزلية
الرقيقة، وعمرها لم يتعدى الربيع الثالث عشر، وكانت يد والدها الحانية،
وتوجيهاته اللطيفة تمهد لها طريق التقدم، وكان يرشدها إلى قراءة الشعر
وفنونه وأنواعه، ويشير إليها أن تبتعد عن الشعر الغزلي قائلا: يا عائشةّ
إنّكِ إذا أكثرتِ من مطالعة الشعر الغزلي، فسيكون ذلك سببُ زوال كلّ دروسك
من ذاكرتكِ.
* * *
يقول راسخ:
نعم الأب كان أباها، فقد كسر كل الحواجز التي كانت ترفض تعلّم
المرأة آنذاك، ورسم صورة سحرية لمعاملة الوالد لفتاته، فقد عرف توجهات
ابنته فلم يفرض عليها حصاره، إنما أطلق لها الفضاء وكأن لسان حاله يقول:
“حلِّقي يا ابنتي وانطلقِي وغرِّدي، فقد طاب لكِ الفضاء، كوني ملكة في
مملكتكِ، وتاجا فوق رأسي”.
* * *
ويلاحظ أنَّ والدها أعطاها الحرية فيما تختاره من طريق، ولم يقيدها
في حدوده، إنما كان لها نعم الأب والمعين والمحافظ، فقد رباها وأحسن
تربيتها مع الحفاظ على الأصول الشرعية التي قررها له الإسلام، فلم يرض لها
أن تختلط بمجالس الرجال، ولم يفتر عزم عائشة، فحلَّقت في فضاء العلم، ونقشت
حروف اسمها بمداد ذهبي على صفحة التاريخ. هكذا فليكن الأب، وهكذا فلتكن
الابنة.
* * *
-تزوجت عائشة التيمورية عام 1271هـ وهي في الربيع الخامس عشر من
عمرها من رجل يدعى محمود بك الإسلامبولي، وانتقلت معه إلى الآستانة عاصمة
الخلافة العثمانية عصر ذاك.
وهناك اقتصرت عائشة على المطالعة، والقراءة، وإنشاد الأشعار، وترديد
ما يجول بخاطرها من النظم والأفكار، ولم تنس في زخم هذه الأحداث تدبير
منزلها، وإدارة أعماله، فوفقت بين هواياتها وواجباتها الزوجية، ورزقها الله
بابنتها (توحيدة) وكانت مغرمة بها، فكان لتوحيدة النصيب الأوفر من محبة
والدتها، تقول عنها عائشة:
وبعد انقضاء عشر سنوات كانت الثمرة الأولى من ثمرات فؤادي، قد بلغت
التاسعة من عمرها، فكنت أتمتع برؤيتها، تقضي يومها من الصباح إلى الظهر بين
المحابر والأقلام، وتشتغل بقية يومها إلى المساء بإبرتها فتنسج بها بدائع
الصنائع، فأدعو لها بالتوفيق شاعرة بحزني على ما فرط مني يوم كنتُ في سنّها
من النَّفرة في مثل هذا العمل، ولما بلغت ابنتي الثانية عشرة من عمرها،
عمدت إلى خدمة أمّها وأبيها، فضلا عن مباشرتها إدارة المنزل ومَنْ فيهِ من
الخدم والأتباع، فتسنّى لي أن أنصرف إلى زوايا الراحة.
* * *
عواصفٌ في حياة عائشة:
مات والدها عام 1289هـ، ثم بعد ثلاثة أعوام رحل عنها زوجها 1292هـ،
فتأثرت بذلك كثيرا، وعادت إلى مصر، وعكفت على الأدب تأخذ منه ما يطفئُ
لوعتها وحزنها، وأخذت تنشر مقالاتها الحلوة الهادفة في الصحف والدوريات.
* * *
وقصدت عائشة عالمات تدرس على أيديهن علوم الشعر وفنونه، ووجدت نفسها
عند أديبتين عالمتين هما: فاطمة الأزهرية، وستيتة الطبلاوية، معلمات
وزميلات يقرأن الأدب، ويعرفن الشعر، وعلى هاتين الجوهرتين أسست عائشة
التيمورية معارفها في الشعر والأدب، واقتبست من أخلاقهما الفاضلة
ومعارفهما، ما جعلها بارعة في مجال الأدب والأخلاق، حتى غطت شهرتها شهرة
هاتين الأستاذتين الفاضلتين.
* * *
بينما كانت عائشة التيمورية تتألق في سماء الإبداع، وتحلق في أجواء
الشهرة، صاد ابنتها الحِمام، ماتت توحيدة وماتت معها تطلعات عائشة، وتبعثرت
دُرر أقوالها، فقد أثر فيها موت ابنتها كثيرا تلك التي لم تتجاوز الربيع
الثامن عشر، فقد أصابها المرض في ريعان شبابها، وفتك بها في شهر زفافها في
رمضان سنة 1294هـ.
تقول عائشة: قبل أن تسقط توحيدة على فراش المرض، فاجأتها في أحد
الأوقات وهي في رداءِ نومها، وبين أناملها قلمٌ ورقعة، فلما رأتني مقبلة
دستها تحت وسادتها، ولكني بادرت في الحال لاستخراجها، فاختطفتها مني، ثم
خاطبني قائلة: لا تعبئي يا أمّي المشفقة بمثل هذه الثرثرة، ثم قالت
لجاريتها: خذي هذي الورقة فاحرقيها، فلحقت بالجارية وأخذت الورقة منها،
وكانت قد كتبت:
اســمــع مـقَــالـي يـا أريب
وقـصّــتِــي شــرحٌ مــريـب
قـد كُنـتُ في دوحِ الصِّــبــا
أهــتـزُّ كالغُـصــنِ الرَّطيب
أصبَــحت حـالـي عــبــــرةً
يَـبـكِي على مِثـلِي الغـريب
كــلا ولا لــي مـــنــــهــــلٌ
أروى بِــهِ إلا الـنَّــحــيــب
فـالــدّمــعُ مــنِّــي ســاجـمٌ
والرّمسُ أضحى لي قريب
يــا ربِّ عـجّـــل رحـلـتــي
واغفــر ذنـوبـي بالحـبـيـب
ألححتُ بالسؤال على الجارية، فأجابتني: إنَّ سيدتي تتناولُ الطعام
معكِ إذعانا لرأفة أموتكِ، ولكنَّ الطعام لا يبقى بعد ذلك لحظة في جوفها،
وهي تذهب كل ليلةٍ إلى سرير نومها تطميناً لقلبكِ، غير أنها لا يغمض لها
جَفنٌ.
* * *
وبموتِ توحيدة تركت عائشة الشعر، فجعلت ديدنها الرثاء والنوح مدة
سبع سنوات كانت عجافا أكلت سمان أدبها وكثيرا من شِعرها، وثمَّ أصابها رمد
العيون، وكان الحزن يذهب بضياء عينيها، بل كادت عيناها تبيض من الحزن، وقد
عاتبها الأحبة على حالتها، ونصحها الناصحون مشفقين عليها، فأقلعت عن البكاء
والنوح، فشفاها الله.
قالت وهي ترثي ابنتها (توحيدة):
إن سـالَ مــن غَـربِ العُيونِ بُحورُ
فالـدَّهــــرُ بـاغٍ والـزَّمــانُ غـــدورُ
سُتِر السنا وتحجَّبتْ شمسُ الضُّحى
وغــدتْ بِقــلبِــي جــذْوةٌ وســعيــرُ
لو بُثَّ حُـزنِي في الورى لم يُلتَـفـتْ
لمـصـابِ قـيـسٍ والمـصـابُ كـثـيـرُ
طافتْ بشهر الصَّوم كاسات الرَّدى
سَحَــرا وأكــوابُ الدُّمــوعِ تـــدورُ
فـتـناولتْ مـنــها ابنَـتِــي فـتــغيَّــرتْ
جــنَّـــات خـــدٍّ شـــانــهـــا التَّـغيـيرُ
فــذوتْ أزاهـيــرُ الحيــاةِ بروضِــها
والقــدُّ مــنـها مــائــسٌ ونـضــيــــرُ
لبـسـتْ ثـياب السُّقمِ فـي صِـغرٍ وقد
ذاقـتْ شَـراب المـوتِ وهـو مـريـرُ
إلى آخر رثائها وهو كثير، وكيف لا يكون والخطب عندها جلل، ألا وهو موت فلذة
كبدها التي كانت تحبه حبا جما، ولقراءة المزيد من شعر عائشة التيمورية
رحمها الله، من هذا الرابط.
* * *
أخلاقها، ومعالم من سيرتها:
عاشت السيدة عائشة حياة العفاف والصيانة، وكانت تدعو في أشعارها وأقوالها
إلى الأخلاق الكريمة، والخصال الحميدة، نادت بنات جنسها بالتحلي بالعفاف
والحجاب.
* * *
يقول أحمد خليل جمعة:
ولعله من المفيد هنا أن نشير إلى كثير من شواعر عصرنا الحالي قد تحدثن عن
مكارم الأخلاق التي يجب أن تتحلى بها النساء، فهذه الشاعرة المصرية سهام
إسماعيل حجي تُسأل عن أدواتِ زينتها، وتحسين جمالها، فتجيب من منظار
الشريعة الغرَّاء، فقد أبانت أدوات تجميل الشفتين، واليد، والعين، والقوام،
ثم القلب، فلنر ما أدوات التجميل عندها؟
تقول سهام:
وحَــلاكِ فَــرْط تــزيُّــنٍ بـفـضَائل
فـاضَـت عـلـيـكِ بهــالةِ الأنـــوارِ
فالقـلـبُ بالإخــلاصِ لله انْـتَــشى
كـم يـطـمـئــنُّ بِـحــومَــةِ الأذكـارِ
والصِّــدقُ للشـفـتـيـنِ خيـرُ تجمُّلٍ
هـــــذا طِـــلاءٌ ثــابــتُ الآثـــــارِ
وبَهـاءُ صوتـكِ في تلاوةِ مصحفٍ
بِـنـواشـىءِ الأسـحــارِ والأبكــارِ
والبِــرُّ والإحسـانُ للـيـدِ حِـلـيَـــةٌ
أسمـى وأجـدى مـن نفـيس سِوارِ
أمَّـا القَــوام فالاسـتِـقــامة درعُــه
بتـريّـضٍ في مـســدَلِ الأســتـــارِ
والعَيْنُ في الإشفاقِ كُحلُ لِحاظِها
تأسـى لمـن قــد بـاتَ في أكــدارِ
والخـيـرُ كلُّ الخـيـرِ بعـد تَحـجُّبٍ
في تـركِ مـعـصيةٍ، وفي اسْتِغفَارِ
* * *
ودعت عائشة التيمورية إلى الحجاب الذي لن يعيق من أرادت التطلُّع إلى
العلياء، وإلى سدّة الفخر والعطاء، تقول:
مـا ضـرَّني أدبـي وحُـسن تعلُّمي
إلا بِـكــونــي زَهـــــرة الألبــابِ
ما ساءني خِدري وعقد عصابتي
وطِـراز ثـوبـي واعتـزاز رحَابي
ما عـاقَـنِـي حَجَلي عن العَليا ولا
سَـدْل الخـمــار بلـمّـتي ونـقــابي
بل صـولَتيْ فـي راحَتِي وتفرُّسي
فـي حُـسنِ مـا أسـعـى لِخيرِ مآبِ
نـاهــيـكَ مـنْ سـرٍّ مَـصـونٍ كنهُهُ
شـاعـتْ غـرابـتـهُ لدى الأغرابِ
كالمـسـكِ مخـتــومٌ بـدرجِ خزائنٍ
ويَـضُـوعُ طـيّـبُ طِــيـبِـه بمـلابِ
أو كالبـحارِ حَـوَتْ جـواهـر لؤلؤٍ
عــن مـسِّــها شلَّـت يَـد الطَّــلابِ
* * *
ولعلّ من أبرز صفات عائشة التيمورية، وملامح أخلاقها، بعدها عن الثرثرة،
وتتبع عورات الآخرين والأخريات، فكانت تصونُ لسانها عن الإسفاف وعن ساقط
الكلام، إذ إن حفظ اللسان من كمال الأخلاق، وخصوصا أخلاق المرأة العاقلة
الفاضلة، بل تدعو عائشة لحفظ اللسان من ذمِّ الناس، وذكر مثالبهم، وتدعو
لتركِ الخَلْق للخالقِ، تقولُ:
احفـظْ لســانكَ مـن ذمِّ الأنــامِ ودعْ
أمـر الجمـيـعِ لِمن أمضاهُ في القِدَمِ
معايبُ النَّاسِ لا يكْبرْنَ عن غَلَطِي
إذا نمـمتُ بهـا فـي مَحـفَـلِ الهـمـمِ
* * *
وكانت عائشة سخية النفس، تكره اللؤم والبخل، وتكره النفاق وأهله ، فنجد ذلك
في كثير من أشعارها تظهر التذمر من العادات القبيحة، وتنصح وتوجه إلى
الخير، وقد تأثرت بالقرآن كثيرا، فمن يقرأ شعرها يتضح له استعمال
الاصطلاحات القرآنية، فقد ناجت ربها جلت عظمته كثيرا في شعرها، وقد مدحت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا وتعتبر من النساء الرائدات في هذا
المجال الروحاني.
(1) نساءٌ من التاريخ. (أحمد خليل جمعة). اليمامة للطباعة
والنشر والتوزيع، دمشق-بيروت.
(2) الدر المنثور في طبقات ربات الخدور. (زينب يوسف فواز).
(3) شاعرات العرب.
(4) أعلام النساء.
(5) نساء من الإسلام.
(6) حلية الطراز (ديوان عائشة التيمورية).
|