حينَ تُزهرُ الآمال
لم تكنْ أكثرَ من لقاءات ٍعابرةٍ تكررتْ مرتين ِأو
ثلاثاً ، لكنها كانت كفيلةً لأسرِ قلبهِ وجَرجَرتِهِ في بحر ِعينيها
العميقُ والمجــهولْ... مجهولُ النظراتِ التي رمقتهُ بـِها في كلِ مَرةٍ من
تلكَ الــــمراتِ التي جمعتْ عينيه ِبـِعَـينيها اللـَتـَينِ أوحتا لهُ
بشيءٍ ما عميقْ ... عميقٌ إلى حدِِ أنْ خشيَّ الـتـفـكيرَ والإبحارَ في
معانيهِ التي يُرهبهُ مُجردَ التفكيرُ في مُغايرتِها لتقديرهُ وتصورهْ ،
خصوصاً أنهُ أصبحَ أسيراً وموثوقاً بِحُبِها من أولِ نظرةٍ وأولِ لقاءْ.
لم تكنْ تلكَ اللقاءاتُ إلا صدفة ًمحضة ً، أوقعتهُ
في شركٍ حاولَ كثيراً تجنبهُ ، خُصوصاً ولهُ تجربة َحُبٍ فاشلةٍ ومؤلمةٍ
يَخشى تـِكرارها ... سِـيما وأثارها ما تزالُ مَرسُومةً على ملامحهِ إلى
اليوم ِمتمثلة ًبنظرة ِالحزن ِالذي تـُوحـِي بهِ عيناهُ وتؤكدهُ كلُ
تـَصرفاتهِ على رغم ِمُرور أكثرَ من سبع ِسنوات ٍعـلى تلكَ التجربة ِالتي
لم يَستطع نـِسـيـانها ... ولم يَستطع تطبيبَ الجرحِ ِالذي أحدثتهُ والذي
ما زالَ ِنازفاً للآن.
على رغم ذلكَ الخوف ِوتلك َالرهبةِ التي يعيشُها
مُنذ تلكَ اللقاءاتُ إلا أنهُ يتمنى أن تـَتكرر وتـَجمعه بها صِدفةٌ أخرى ،
على أمل أن يكونَ اللقاءُ الجديدُ كفيلاً لاندمالِ الجرحِ ِالقديمْ ... إن
كانَ ثمة َلقاءْ!!.
خصلاتٍ من شعرٍ مُلتهب
تراءت أمام ناظرهُ فراشة حسناء تمشي الهوينا كغزالٍ
يتغزل بالروض قفزاً ولعباً , كانت خصلاتُها الملتهبة التي تبدوا من تحت
حجابها الوردي تزيدها جمالاً وفتنه , فتركت أثراً بالغاً في نفسهِ إلى درجة
أنهُ صار ينتظرها كل يومٍ بنفس المكان ونفس الزمان علها تكحل ناظرهُ
بمُحياها حتى كان لهُ ذلك بعد مكابدةٍ للشوق شهراً كاملاً .
ما أن رآها مقبلةً حتى اتجه إليها وبلا شعور بادرها
:- طال غيابكِ عني كثيراً !!
لم ترد على كلامهِ إنما أبدت أمارات التعجب
والاستغراب , كان شعورهُ وهو يُكلمها أنهُ يَعرفـُها من زمنٍ غير قصير ,
استغربَ برودها واستغرابها ناسيا أن هذه أول مره يتحدث معها.
- من أنت؟!
أفاقَ بعد سؤالها وكأنهُ كانَ بغيبوبةٍ أو حلمٍ لم
يدم طويلاً .
- أعتذر نسيت أن أعرفكِ بنفسي لهفة ً لهذا
اللقاء فقد انتظرتهُ شهراً كاملاً .
- أيُّ لقاء ؟! ثم من أنت حتى تكلمني بهذه
الطريقة ؟!
- أعتذر مرة أخرى , اسمي طه عبد القدوس ,
طالب بكلية التجارة . . .
- وأنا ماذا يعنيني بكل ما تقول؟!.
- قد لا يعنيك الآن.
- ماذا تقصد؟
- أقصد أني يزيدني شرفاً أن أتعرف عليكِ.
- لِما ؟!
- لنترك لما الآن , الأيام كفيلةٌ
بالإجابة على كل ما قد يدور بذهنك الآن .
- أنت جريْ جداً.
- أنا ؟!.
- نعم وعجيبٌ أيضاً .
- لما ؟!
- لنترك لما الآن , الأيام كفيلة بالإجابة
على سؤالك , أستأذنكَ الآن ... فلدي محاضرات .
- سأنتظركِ إذن حتى تكملي محاضراتك .
- لِما ؟!
- لنترك لما حتى تكملي محاضراتكِ .
ابتسمت باستغراب ٍ وذهبت ... في حين انتظـَرها أمام
كليتها حتى عادت بعد ساعتين مرتا عليهِ كدهر ... مرت أمامهُ ولم تُعرهُ أي
اهتمام أو انتباه ... لحق َ بها
- عفواً ... عفواً
التفتت إلي مستغربه
- نعم ماذا تريد ؟!.
- ألم اقل لكِ أني سأنتظركِ حتى تعودي ؟!
- ولمَ تنتظرني أصلاً
- لأني انتظرتُ هذا اللقاء شهراً كاملاً
كما سبق وقلتُ لكِ.
- وأنا قلتُ لكَ لِما تنتظرني أصلاً؟!
- قلتُ لكِ لنترك لِما الآن والأيامُ
كفيلة بالرد على كل تساؤلاتك.
- وبأي صفةٍ إذن تكلمني وتستوقفني بهذه
الطريقة؟!
- ألم تفهمي لحد اللحظة لِما؟!
- لا لم أفهم لحد اللحظة لِما!!.
- لأني أحبكِ
تسمرت للحظاتٍ قبل أن ترد:-
- إما أنك وقح أو جريء لحد الوقاحة!.
- أنا لستُ وقحاً لكني مؤمن أن الصراحة هي
الأساس الذي ينبغي أن تبنى علية أي علاقة إنسانية.
- لا أدري ماذا أقول ... رجاء لا تضايقني
مرة أخرى .
- لم أقصد مضايقتكِ أبداً .
- قصدتَ أم لم تقصد , أعذرني يجبُ أن أذهب
.
- لحظة واحده فقط.
- ((بحنق)) ..نعم ماذا تريد؟!
- أريد أن أوضح لكِ
- توضح ماذا؟!
- أوضح لكِ الأمر!.
- أيَّ أمر ؟
- ألم تلاحظي أني لا أعرف اسمكِ لحد
الآن!!
- ولِما تعرفهُ أصلاً؟!
- قلتُ لكِ لِما.
- أرجوك ... لا تتعرض لي مرة أخرى وإلا
شكوتكَ للأمن الجامعي.
- أنا لم أُسيء لكِ حتى تـقولي هذا!
- بل تُسيء .. من فضلك ارحل الآن ....
قالتها ورحلت من فورها.
بقيَّ في مكانهِ لحظاتٍ متسمراً فلم يتوقع مثل هذا
اللقاء الذي خيب أملهُ كثيراً ...
وبعد أسبوع ٍِ واحدٍِ ...
- أتتذكري تلك اللقاءات ؟!
لم تجب ولم ترفع رأسها حتى!!
- الآن لابد أنك فهمتي لِما!! (
مبتسماَُ)
رفعت عينيها إليهِ مبتسمةً بخجلٍ عندما كانت الطرحة
البيضاء ما تزالُ تُغطي شعرها ذو الخصلاتِ الذهبيةِ ووجهها ... فرفعها
... مُقبلاً إياها على جبينها.
غرابُ البين
حاولت كثيراً ثــنيهُ عن رغبته في الهجرةِ والاغتراب
في أرضٍ ليس لهُ فيها أحد....أرضٌ لا يعرف عنها وعن أهلها شيء , خصوصاً وقد
أصبحت للمسلمين في الغرب معاملة خاصة وقاسيه منذ أحداث الحادي عشر من
سبتمبر ...., لكن جوابه كان مقنعاً ومفحماً على رغم اقتضابه .... حيث رد
عليَّ بنبرةٍ جمعت بين تفاؤله بالمستقبل وتشاؤمه من الماضي وذكرياتهِ...
بين فرحهِ المُصطنع وحزنه الكامنُ والمتغلغلُ في حنايا صدره ... بين
ابتسامتهِ الحانية ودموعه التي لم يستطع حبسها تلك اللحظة.
- لم تبق مدينةٌ في الوطن إلا ولنا
ذكرياتٌ فيها , ... كنا ثلاثة ً .. طفلين ِ ووالدُنا الذي كان الأب والأم
والأخ والصديق , كان أنيسنا و ســميرنا ونحنُ كنا كذلك بالنسبةِ له , لم
نطلب منهُ شيئاً أو نتمناهُ في يــومٍ إلا أحضرهُ ... حتى لو كان صعبَ
المنال ولا أبالغ ُإذا ما قلت أننا لو طلبنا لبن العصفور لأحضره ...لا
أتذكر الكثير عن تلك المرحلة لكن الشيء الذي لا أستطيع نسيانهُ أبداً أننا
كنا أسعد أسرةٍ في العالم حتى دخل علينا غراب البين الذي فـرق جمعنا ,
وحــطـم أمانينا , وقلب أفراحنا حُزناً , وسعادتنا بؤساً , وأحلامنا
كوابيس... ففي أول ليلةٍ جثم على الأسرة ضُربتُ لأول مرةٍ من والدي لسببٍ
كنتُ أجهلهُ ولم أُدركهُ إلا بعد أعوام ... ذلك أني ظننت أن غراب البين هو
الأم التي لم نسأل عنها أبداً.
كان ذلك ما بنيت على أساسه أحلامي وأمنياتي
المستقبلية , فأردتُ أن أُداعبها كما يداعبُ الأطفالُ أُمهَاتهم !.. إلا أن
النتيجة كانت أقسى من تـصور طفلٍ لم يجاوز الـتـاسعة .... حز ذلك في نفسي
كثيراً وأثر فيها أيـُّما تأثير .
و بدأت على إثرِ تلك الحادثة رحلة البحثُ والتفتيش
عن الأم و السؤال عنها كأي طفلٍ حنَّ إلى صدر أمهِ واحتاج للحظةٍ حانيةٍ
منها.
وعلى رغم توقف الرحلات التي كنا قد اعتدنا عليها ...
منذ دخول غراب البين على الأسرة إلا أني لم أسـتـقـر نفسياً ولو للحظةٍ
واحده ... فقد كنتُ في رحيلٍ دائم مع الأفكار ... لِذا لم أعُد قادراً على
البقاء في مكان ٍ واحدٍ ... حتى ولو في نفسي !...
كان ذلك آخرُ ما قالهُ أحمد قبلَ أن يرتقي سلم
الطائرة ليبدأ ترحالاً جديداً فرضها قدرهُ وغربة ً لعلها تطول وقد لا تنتهي
!... تبداءُ في عاصمةِ الضباب ...ولا يعلمُ أين تنتهي؟!!
موعدٌ معَ القــَدر
أتت برفقة والدها ووالدتها التي لم تُطق فراقها وهي
الطفلة التي لم تجاوز السنة الثامنة بعد أن عجز عن معالجتها ومُساعدتها
للتماثل للشفاء معالجي القرية الشعبيين وكذا مشعوذيها فلجأ للمدينة طالبا
ما افتقده في قريته.
لم تكن المدينةُ أوفر حظاً من القرية التي أتوا
منها , فقد طاف بجميع مستشفياتها تقريباً ولكن دون جدوى ودون فائدةٍ
تـُُـرجى.. وحال الطفلةُ في تدهورٍ مستمر .
لم يعد أمامه سوى العاصمة , فهي آخرُ آماله في شفاء
فلذة كبده ونجاتها من الموت , جاء للمدينة وقرع أبواب مستشفياتها التي لم
تكن أفضلُ حالاً من مدينته التي أتى منها , كلُ طبيب يـُغـَلـِّطُُ من قبله
من الأطباء بالتشخيص للمرض وبالتالي يطلب أشعاتٍ وتحاليل جديدة على رغم
وجودها وعلى رغم حداثتها, وحال الرجل كحال ابنته في تدهورٍ وتراجع واضحين ,
باع كل ما يمتلكه من ارض في سبيل العلاج الذي كان صعب المنال.
نصحهُ الكثير من الناس بالذهاب إلى طبيبٍ معروف ,
دلوهُ على مكانه فطرق بابه وقد بداء اليأس يتسرب إلى قلبه , ولكنهُ
كالمُشرف على الغرق الذي يبحثُ عن قشةٍ للنجاة.
ألقى الطبيب نظرةً متفحصةً على نتائج التحاليل
والأشعة بعد أن فحص الطفلة التي أصبحت على حافة القبر , قطب جبينه ...
ظهرت ملامحُ القلق على وجهه.
ما الأمر؟! هل ستعيش ؟! أسئلةٌ كثيرةٌ كانت تبحث عن
إجاباتٍ تجول في ذهن والد الطفلة ... أما الأم فما زال هناك بصيصٌ من
الأمل لديها وشعرةٌ لا ترجوا انقطاعها ... في حين أن الأب كان قد وصل
لمرحلة اليأس وفقد الأمل تماماًَ !.
لهفة الطبيب أعادت إليه بصيص الأمل المفقود عندما
صاح جهزوا غرفة العمليات بسرعة.
ما هي إلا لحظاتٍ حتى أصبحت جاهزةً , اتجه الطبيب
إليها بخطواتٍ متسارعةٍ ووالدي الطفلةِ خلفهُ يحاولا أن يطمئنا , وقف
الطبيبُ عند باب الغرفةِ وتوجه إلى والدي الطفلةِ قائلاً :- تأخرتم كثيراً
ولو أنكم تأخرتم يوماً آخر لكانت الطفلةُ في عداد الأموات , كان من المفترض
نقلها إلى الخارج , لكن لم يعد هناك وقت لذلك فحالتها تستدعي إجراء
العملية حالاً ... ودخل الطبيبُ غرفة العمليات ووالدا الطفلةِ وراء الباب
بين جيئةٍ وذهاب , لم تكد تمر نصف ساعةٌ حتى ذهب والد الطفلةِ إلى إحدى
الممرضات سائلاًًَ إياها :- كم تستغرق العملية وقتاً؟!
- ستستغرق وقتاً طويلاً يصلُ إلى أربع ساعات , فهي
عمليةٌ معقدة .
- هل سبق لكم إجراءها بالمستشفى ؟!.
- نعم من وقتٍ لآخر . لكن هذه أول مرةٍ نجريها لطفلة
... على كل حال فالدكتور أحمد مُتخصص في مثل هذا النوعِ من العمليات ويُعدُ
من كبار الجراحين في العالم ولا داعي للقلق أبداً .
في ذلك الوقت كان الدكتور قد فتحَ مكاناً ووصـــل
إلى القلب وبداء بإجــــراء العملية ِ و ....... ماذا حدث؟!.
انطفأت الكهرباء فجأةً , وتبعاً لذلك فقد انطفأت
جميعُ الأجهزة بغرفةِ العمليات .
ارتبك الدكتور , توتر .. صاح شغلوا المولدات
الاحتياطية بسرعة , خرجت إحدى الممرضات من غرفة العمليات مسرعةً ثم عادت ..
المولد الاحتياطي مُعطل يا دكتور .
- كيف ذلك ؟! أين مدير المستشفى؟!. تصرفوا
بسرعة ... هيا..
في تلك اللحظات كانت الطفلةُ تلفظُ آخر أنفاسها
وانتقلت إلى بارئها تشكو القسوة والإهمال .
خرج الطبيبُ والدمعُ يكاد يُغرقُ عينيه .. فكان
أبلغُ من أي كلام ... فهم والد الطفلة الأمر فاحتضن زوجته وبكى بحرقةٍِ
والأم تحاول الفكاك منهُ لتسأل عن حال طفلتها التي لم تتوقع أن تفقدها
بهذه السهولة بعد خمسة عشر عاماً دون أن تنجب سواها ... التقت عيناها بعيني
الطبيب المغرورقةُ بالدموع وسألت :- ابنتي.... أين هي؟!
ليجيبها الدكتور بألم وحسرة :- احتسبيها عند الله ..
وقع الخبرُ كالصاعقةُ عليها ....... فكان سبباً
لتعرضها لذبحةٍ صدريةٍ أُدخلت على إثرها العناية المركزة التي لم تكن
مركزةً بل كانت كأي غرفةٍ عاديه فجميع أجهزتها الطبية تنتظرُ الكهرباء
...
و لحقت الأم بطفلتها البريئة ودموعها لم تـُبارح
عينيها بعد...
أضيفت
في 16/01/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
صـفـحـهْ
مـِـنْ مـُذَكـِرَاتـِـي
صـفـحـهْ مـِـنْ مـُذَكـِرَاتـِـي
(الليلةُ الممتعةُ المـُرهِقَة)
في إحدى ليالي الشتاءِ الباردةِ كُنتُ عند أحد
أصدقائي نتسامرُ ونتجاذبُ أطرافَ الحديثِ ... لم نشعرْ بالوقتِ الذي داهمنا
إلا عندما هممتُ بالخروج ، حينها كانتِ الثانية ُبعدَ منتصفِ الليل , عرضَ
علي المبيتِ وحاول إقناعي كثيراً ... رفضتُ مؤملاً ِإيجادِ سَيارةٍ
تُـقـلُـني إلى منزلي فالمسافةُ كبيرة ٌ... بل كبيرةٌ جداً..... وبالفعلِ
ذَهبتْ .
كنتُ أدركُ إني لن أجدَ سيارةً في ذلك الوقت
المتأخرِ إلا بصعوبةٍ وبعدَ طولِ انتظارْ ، لكني لم أتخيل أن إيجادها في
ذلك الوقت ضَرباً من المستحيل ِ، لـِذا قررتُ قطع تلكَ المسافة ُسَيراً على
الأقدام , فمررتُ من الشوارع ِالفرعيةِ اِختصاراً للمَسافةِ حتى وصلتُ إلى
أحدِ المقاهي المناوبة ... عـِندَها كانَ قـَدْ بلغَ بيَّ الجوعُ مبلغهُ
فدخلتُ وطلبتُ ما أسدُّ بهِ رمقي.
انتابَني شعورٌ بالسعادةِ والمتعةِ كما لم أشعرُ بهِ
من قبل فقررتُ البقاءَ حتى الصباح ... كانتْ أجملَ وأغربَ ليلةٍ في حياتي
بـِرغم بـــردهـــا القارس ... فقدْ التقيتُ فيها بأناس ٍ لم يتبادرْ
لذهني أن التقيهم في حياتي أبداً ... نـَراهم في الصباحِ ِكالمجانينْ
ونعرفُهم كذلكَ ، لكني أراهـُم الآنَ في منتهى العقل..!!!
جلسَ أحدهم بـِجواري بعد أن سـَلـَم على المناوبِ في
المقهى ... كانَ حافي القدمينْ ، أشعثَ الرأس ِأغبرهُ ، يرتـَدي ملابسَ
رَثةٍ ومُمَزقهْ ، وطلبَ شَاياً ... شَرِبهُ ... ثُمَ دفعَ ثمنهُ وذهب
... لم يحدثْ ذلكَ مَرةً واحدةً بل عِدةَ مراتٍ ومِنْ
أشخاصٍ لا يختلفون عنهُ ... تنطبقُ عَليهم نفسَ
الأوصافِ تقريباً، كانَ مِنْ الواضحِِ معرفةَ ُالمناوبِ لهم، بل لعلهم من
زبائنهِ في ذلكَ الوقتُ المتأخر ِمن الليل.
في حين أن آخرين يُخزنونَ القاتَ ويُدخنونَ بأنس
ٍوانسجام ٍ، كأنما امتلكوا عالماً خاصاً بهم كالذي جَلسَ مُواجهاُ لي على
نفس ِالطاولةِ مثلاُ...
أثارني ما رأيتهُ فأخرجتُ أوراقي وبدأتُ الكتابةَ
وذلكَ الشخص ما يزالُ مُواجهاُ لي والسجائِرُ تتعاقبُ على شفتيهِ ، وهو
مُنهمكٌ في الكتابةِ أيضاُ... لم يُحسَ بشيءٍ حَولهُ ولم يَرفع نظرهُ من
على أوراقهِ التي ما إن انتهتْ حتى طلبَ مني ورقهْ ... أعطيتهُ وظللتُ
أحملقُ فيهِ مستغرباً ... بادرني وأنا على ذلك الحال بسؤال ... هل ترسمُ
شيئاُ ؟ ! ..
ـ أجبتهُ بالنفي ... هزَّ رأسهُ واستأنفَ كتابتهْ 0
وعندما بدأتِ الشمسُ تُرسل أول خـِيـطـَانـِها
الذهبيةِ على الأرض جمعتُ أوراقي ورَحلتُ ... كان ذلكَ أولُ يوم ٍأستمتعُ
فيهِ بشروقِ ِالشمس ِبعدَ ليلةٍ ممتعةٍ مرهقةٍ أتمنى أن تتكرر ..
صــَدِيــقـِي والـعـِيــد
التقينا في ثاني أيام ِالعيد فعاتبتهُ على قضائه ِالعيد وحيدا ً في
غرفـَتـِهِ
(( المنفى )) كما يُحب أن يسَّميها فقال :. إذا عُـرِفَ السببُ بطل
العجبُ كما يقولون
ـ أي سببٍ يجعلكَ تعتزلُ الناسَ في يوم ِالعيد ؟
ـ لي عُذري في ذلك ... ولو علمتهُ لأدركتَ ذلك .
ـ لا أعتقدُ أنَّ لكَ عذراً أبداً.
ـ إذن اسمعني ، ثم أحكم بعد ذلك .
ـ حسنا ً ... تفضل .
ـ (( كانت ليلة ُالعيد ِمن أشد الليالي وطأة ً على نفسي حيث تأرجحت
فيها بين أمرين أحلاهما مُر ، إما العودة لمنزلي لقضاءِ ما تبقى من ساعاتها
، أو البقاء على رغم كراهتي لذلك ، فهي ليلةٍ ليست كأي ليله ... والعيدُ ما
عاد يفصلنا عنهُ سوى سويعات قليلةٍ حتى يُـطِلُ علينا بعقبهِ وحلته
ِالجديدة التي تكسي عواده وصفائه الذي يطهِّرُ سرائرَ الناس فيجمعهم في
باكر صبحه للعناق والسلام ... كان من المفترض أو بشفافية أكبر كان لزاما ً
علي ألا ترسل الشمس أول خيطانها الذهبية إلا وأنا في منزلي ...بل في غرفتي
القابعةُ بتواضعٍ في الجزء الشمالي من سطحِ المنزل الواقع في الشرق الأوسط
من العاصمة صنعاء ، وبالتحديد في إحدى الضواحي التي تستلقي كحوريةٍ فاتنةٍ
على سفح نـُقم الأشم , هناك ... حيث لا تزال الطبيعة تحتفظ بطابعها مكونة
ًمنتَزها ًمًُطلا ً على صنعاء تقصده الأسر والعائلات من المناطق البعيدة
والقريبة .
ذلك الإلزام ليس لرغبةٍ في نفسي أو شوق ٍوشغف ٍلقضاء ِأجمل وأجلَّ
أيام ُالسنةِ في أحضانِ أسرتي التي أصبحت ممزقة ، ولكن لرغبة ٍفي التوري عن
عيونِ الناس الذين لا بد ستلفت أنظارهم ملابسي التي بات من الواضح قدمها
... وشعري الذي إستطال وما استطعتُ حتى تقصيرهْ ... وحذائي الذي بتُّ أخجلُ
من انتعالهُ بالأيام ِالعاديةِ ، فكيفَ بالعيدِ ؟!!.
وقَضيتُ ليلتي أو بقيتها كما سلف من ساعاتها ... بل أشدَّ وأقسى
خصوصا ً كلما اقترب الصبحُ وكأنها الساعاتُ الأخيرة ُفي حياتي ... أو
لـَكـَأنِي أُقبـِل على الموت لا يفصلني عنهُ سِوى لحظاتِ شروق شمس العيد
فبتُّ لذلك أعد الدقائقَ والثوانْ ... اسمعُ ضحكات من حولي فأحاول
ُمُجراتهم في سرورِهم مُتصنعا ً الابتسامة ُالتي كِدتُ أنساها في مثل ِهكذا
مناسباتٍ حتى لا أكونُ نكرة ًبينَ المعارف ومُحاولا ًكذلك إخفاءَ معالمَ
الحزن ِالمرسومة ُكوشم على وجهي برغم جَلائِها لنـَاظـِرِيَّ الذين ذبحتني
نظراتهم ُالمتسمة ُبالعطف ِوالشفقة ِالتي لا أحَُبذها ولا أتحمَلـُها ....
إلى إن أذنَّ للفجرِ فذَهبتُ للصلاة ِوعـُدتُ بعدها لأخذ ِأوراق ٍكُنت قد
اشتريتها وكتابين مـُتـَعـَلـِقـَين ِبـِدراستي الجامعية التي أصبحت
أختبارتها بعد اقل من الشهر كان قد تفضل بهما على احد الأصدقاء .
ولعلهم عند ذهابي لأداء الصلاة قد تحدثوا عني وعن سببِ رغبتي
العارمة في الذهاب ، وأدركوا السبب الحقيقي وراء ذلك على رغم تعذري بالنوم
الذي لم يجد سبيلا ًإلى عينَي تلكَ الليلة حتى ذلك الوقت ، وإذا ما بقيت
فلا مكان أستطيع الخلود فية للنوم بهدوء للضجة التي سيُحدثها الأطفالُ إثر
الفرحة الغامرة بالعيد .
على رغم تبريري ذلك الذي كان صادقا ً وستارا ً لحقيقةٍ أخرى
يُدرِكونها لم يقتنعوا ... وما كان ليقنعهم ذلك التبرير أو يقنعني أنا نفسي
... لكن الحقيقة قاسية ٌولا أستطيع ُالاعترافَ بـِها فكرامتي لا تسمح ُ
بذلك على رغم يقيني بمعرفتهم لها .
كنت أتمنى البقاءْ ... وكنتُ للحظةٍ قررتُ ذلكَ في نفسي إلا أنََّ
نظراتهم التي ما تعودتُ عليها ولا أطيقها حسمتِ الأمر ... فقد كانت أمضى من
سهام ٍأصابتْ فؤادي فأدمته ُوأثارتْ مقلتي فأدمعتها ... وما عدتُ قادرا ً
على تحمل ِالمزيدَ فاستأذنتهم وخرجتُ مُسرِعا ًعلَّ أحدا ًلا يرى دموعي
التي صارت رفيقتي صباحَ كُلَ عـِيـدْ .
كنتُ أمشي وكل خطوة ٍتـفـتحُ جُرحا ً ، وكلَ جُرح ٍيَجُــرنِي
لذكــــرى مؤلمةٍ ... وجُرح ٍأكبر ... ودمعي يغسلُ خدَيَّ .
كان الضوءُ ما يزالُ خفيفا ً عندما كنت ُاُلقِي نظري على النوافذ
التي أصبحت مُضائَهْ ... جالَ خاطري إلى ما يحدثُ خلفَ زجاج تلك النوافذ
... حلقتُ بخيالي فإذا الأطفالُ يستيقظونَ مسرورين عند سماعهم أصوات
والديهم يوقضاهم لارتداءِ ملابسَ العيدِ الجديدةِ ... وصوت المذياع يُطربُ
بالأغاني العيديةِ السعيدة ... قد يكون ما يحدثُ بالفعل خلف َزجاج تلك
النوافذ أكثرَ فرحا ً وسعادة ً ودفئا ً من ذلـك ... أو أكثر تدفقا ً
للعاطفة بين الأبوين والأبناء ، لكن ما جال بفكري أو ما تخيلتهُ هو ما كان
يحدث ُلي عندما كنتُ طفلا ً ، وأسرتي ما تزالُ مترابطة ... أو هو ما تمنيتُ
أن يحدث َلي الآن على رغم أني جاوزت ُسِنَ الطفولة ... إلا أنه ُما يزالُ
بداخلي طفل ٌبحاجةٍ إلى أن يلعبَ ويكسرَ حدود العقل ... ما يزالُ بداخلي
طفلًٌ بحاجةٍ إلى حضن ِأمهِ الدافئ وعطفَ أبيهِ .... لكن ذلك صار ضربا ً من
الخيال المحال ... فأمي قد غادرتها وأسرتها قبل لحظات ، وأبي أتجهُ إليهِ
الآن ليصدمني الواقعُ و يُذكرني بجرح ٍلا أظنهُ يندمل ، وليس بمقدورِ
السنين تطيبهُ أبدا ً .
عندما وصلتُ إلى منفاي على سطحِ منزلنا ... نظرتُ من النافذة ِلعيون
ِالصغارِ والكبار ِالتي تملئـُها الفرحة ُفدمعت عيناي فرحا ً لهم ... وحزنا
ً على نفسي ... وحَالـِــي ))
لما انتهى من سردِ قصته مع العيد كانت ملابسي الجديدة قد أغرقتها
الدموع فخلعتها واستبدلتها بملابسي القديمهْ ، وعذرتهُ .... ولم أعذرْ نفسي
جرحٌ بملامحِ إنسان
بـَكى كثيراً... إلا أن أحداً لم يـَر دموعهُ التي أحدثت شِعاباً
على خديهِ الذَيـِّن تعرضا لصفعاتِ الألمِ الذي حباهُ بهِ القدر وأغدقهُ
عليه, وشكى....غير أنهُ آثـَر آلا يسمعَ تلك الشكوى المريرة النابعةِ من
حزن ٍلا حدود لــهُ سِوى من سيكتم سرهُ , ويسمعُ لهُ دون كلالةٍ آو ملالة
ٍأو تذمر,فحدث الأطيارَ والأزهارَ والأحجارَ حـتــَى البحر أتاهُ وهو في
أوج ِغضبهِ وعنفهِ , عندها كانت الأمواجُ متلاطمة ًكأنما تتمزقُ من شدة
ِالغــــيض , وكانت ابتسامتهُ التي لم تغادر شفتيهِ مرسومة ًعلى وجههِ
الحزين , تلك الابتسامةُ التي اعتادَ كــل من حولهُ رؤيتها عند ملاقاتهِ
فظنوهُ في مـُنـتهى السعادة والنعيم, ولم يكلفوا أنفسهم عناءَ البحث عما
وراء تلك الابتسامة ليروا الحقيقةَ التي تبكيهِ كلما خلا بنفسه.
ما برح يشكو حتى هدأت تلك الأمواج كأنما تصغي إليهِ والى دموعه التي
كانت تنهالُ كالأمطار...,ومنذ ذلك الحين والأمواج هادئة ًكأنما استهانت
همومها و آلامها أمام آلام ذلك الإنسان الضئيل الحجم , والذي يحملُ بصدرهِ
الصغير ما يعجزُ عن حملهِ هو نفسهُ على رغم اتساعه .
حاول جاهداً كسبَ محبةَ الآخرين , المحبة ُالحقيقية ُالسامية ُعن
المصالح .. المرتفعة ُعن الأغراضِ الدنئية حتى يستطيع العيش بينهم بحبٍ
وسلام , إلا أن محاولاته باءت جميعها بالفشل الذريع اِثر المصلحة التي فرضت
نفسها على الواقع فبددت الحبَّ البريء وجعلت منهُ حلما ًيصعبُ تحقيقهُ أو
ايجادة , واِثر العقباتِ التي رُصت إمامهُ ومن اقربِ المقربينَ ... سَواءً
كانت بقصدٍ أو دون قصد.
تمنى آن تسدل الأقدارُ أستارها على جرح ٍ بملامح ِإنسان ,
لـِتـُنـهي فاجعة ًعاشَها لحظة ً بلحظه , بداءً بتحمـُلـِهِ هماً يفوقُ
حجمهُ وسنهُ الذي لم يجاوز العاشرة , وانتهاءً بألم ٍ وهم ٍ أشفقَ من حملهِ
الـبـَحرُ الواسع .
ذلك الهم ُالذي لازمهُ وترعرعَ معهُ حتى صارَ باتساع ِالمحيط وبعمق
ِالأزل ... ذلك َالهمُ الذي لازمهُ حتى ريعانَ شبابهِ الذي كان أشبهُ
بالكهولة من الشباب في حقيقية الأمر .
وتحققَ الحلمُ ... و الآن لكم آن تـَـنـفـثـوا أحقادكم بشرايينهِ
التي كان نبضُها مـحـبـتـكم ... لكم أن تـُريقوا دِمأهُ كما أرقتم دموعهُ
في سالف ِالأيام ... ولكم آن تصفوا نار ضغائنكم التي لم يكن يدري عن
أسبابها شيئا سوى أنهُ بريءٌ مـِنها براءة الذئب من دم ِ يوسف...
لكم أن تفعلوا ما شئتم ... لكنة قد مات..؛
|