نشأة اللغة العربية
اللغة العربية إحدى اللغات السامية. فلما خرج الساميون من مهدهم لتكاثر
عددهم اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق والاختلاط، زاد هذا الاختلاف انقطاع
الصلة وتأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كل لهجة منها لغة مستقلة.
ويقال إن أحبار اليهود هم أول من فطن إلى ما بين اللغات السامية من علاقة وتشابه في أثناء القرون الوسيطة، ولكن علماء المشرقيات من الأوروبيين هم
الذين أثبتوا هذه العلاقة بالنصوص حتى جعلوها حقيقة علمية لا إبهام فيها
ولا شك.
والعلماء يردون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية، كما
يردون اللغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية. فالآرامية أصل
الكلدانية والأشورية والسريانية، والكنعانية مصدر العبرانية والفينيقية،
والعربية تشمل المضَريةالفصحى ولهجات مختلفة تكلكتها قبائل اليمن والحبشة.
والراجح في الرأي أن العربية أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم، لأنها
بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطور والتغير تبعاً لأحوال
العمران.
وليس بمقدور الباحث اليوم أن يكشف عن أطوار النشأة الأولى للغة العربية،
لأن التاريخ لم يسايرها إلا وهي في وفرة الشباب والنماء. والنصوص الحجرية
التي أخرجت من بطون الجزيرة لا تزال لندرتها قليلة الغناء، وحدوث هذه
الأطوار التي أتت على اللغة فوحدت لهجاتها وهذبت كلماتها معلوم بأدلة العقل
والنقل، فإن العرب كانوا أميين لا تربطهم تجارة ولا إمارة ولا دين، فكان من
الطبيعي أن ينشأ من ذلك اختلاف الوضع والارتجال، ومن كثرة الحل والترحال،
وتأثير الخلطة والاعتزال، اضطراب في اللغة كالترادف، واختلاف اللهجات في
الإبدال والإعلال والبناء والإعراب، وهناك المنطق كعجعجة فضاعة ((العجعجة :
قلب الياء جيما بعد العين وبعد الياء المشددة ،مثل: (راعي) يقولون فيها: (راعج)
وفي كرسي كرسج )) وطمطمانية حِمير ((الطمطمانية: هي جعل إم بدل أل في
التعريف، فيقولون في (البر: (أمير) وفي الصيام أمصيام)) وفحفحة هذيل ((الفحفحة:
هي جعل الحاء عيناً، مثل (أحل إليه) يقولون (أعل إليه))) وعنعنة تميم
((والعنعنة: هي إبدال العين في الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة ، فيقولون في
(أمان): (عمان))) وكشكشة أسد ((والكشكشة: جعل الكاف شيناً مثل: (عليك)
فيقولونها (عليش))) وقطعة طيىء ((والقطعة: هي حذف آخر الكلمة، مثل قولهم:
(يا أبا حسن) تصبح: (يا أبا الحسا))) وغير ذلك مما باعد بين الألسنة وأوشك
أن يقسم اللغة إلى لغات لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
لغات العرب على تعددها واختلافها إنما ترجع إلى لغتين أصليتين: لغة الشمال
ولغة الجنوب. وبين اللغتين بون بعيد في الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق
والتصريف، حتى قال أبو عمرو بن العلاء: (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم
بلغتنا). على أن اللغتين وإن اختلفا لم تكن إحداهم بمعزل عن الأخرى، فإن
القحطانيين جلوا عن ديارهم بعد سيل العرم – قد حدث 447م كما حققه غلازر
الألماني – وتفرقوا في شمال الجزيرة واستطاعوا بما لهم من قوة، وبما كانوا
عليه من رقي، أن يخضعوا العدنانيين لسلطانهم في العراق والشام، كما أخضعوهم
من قبل لسلطانهم في اليمن. فكان إذن بين الشعبين اتصال سياسي وتجاري يقرب
بين اللغتين في الألفاظ، ويجانس بين اللهجتين في المنطق، دون أن تتغلب
إحداهما على الأخرى، لقوة القحطانيين من جهة، ولاعتصام العدنايين بالصحراء
من جهة أخرى.
وتطاول الأمد على هذه الحال حتى القرن السادس للميلاد، فأخذت دولة
الحميريين تزول وسلطانهم يزول بتغلب الأحباش على اليمن طوراً وتسلط الفرس
عليه طوراً آخر. وكان العدنانييون حينئذ على نقيض هؤلاء تتهيأ لهم أسباب
النهضة والألفة والوحدة والاستقلال، بفضل الأسواق والحج ومنافستهم
للحميريين والفرس، واختلاطهم بالروم والحبشة من طريق الحرب والتجارة،
ففرضوا لغتهم وأدبهم على حمير الذليلة المغلوبة، ثم جاء الإسلام فساعد
العوامل المتقدمة على محو اللهجات الجنوبية وذهاب القومية اليمنية، فاندثرت
لغة حمير وآدابهم وأخبارهم حتى اليوم.
لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسب، وإنما استطاعت كذلك أن تبرأ
مما جنته الأمية الهمجية والبداوة من اضطراب المنطق واختلاف الدلالة وتعدد
الوضع، فتغلبت منها لغة قريش على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصادية
واجتماعية أهمها:
1-الأسواق:
وكان العرب يقيمونها في أشهر السنة للبياعات والتسوق وينتقلون من بعضها إلى
بعض، فتدعوهم طبيعة الاجتماع إلى المقارضة بالقول، والمفاوضة في الرأي،
والمبادهة بالشعر، والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالمحامد شرف الأصل
فكان من ذلك للعرب معونة على توحيد اللسان والعادة والدين والخلق، إذ كان
الشاعر والخطيب إنما يتوخى الألفاظ العمة والأساليب الشائعة قصداً إلى
إفهام سامعيهم وطمعاً في تكثير مشايعيه.
والرواة من ورائه يطيرون شعره هم القبائل وينشرونه في الأنحاء فتنتشر معه
لهجته وطريقته وفكرته.
وأشهر هذه الأسواق عكاظ و مجنة وذو المجاز. وأولاهن أشهر هذه فضلاً وأقوى
أثراً في تهذيب العربية. كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر إلى العشرين منه،
فتفد إليها زعماء العرب وأمراء القول والمنافرة ومفاداة الأسرى وأداء الحج.
وكان كل شريف إنما يحضر سوق ناحيته إلا عكاظ فإنهم كانوا يتوافدون إليها من
كل فج لأنها متوجههم إلى الحج، ولأنها تقام في الأشهر الحرم، وذلك ولاريب
سر قوتها وسبب شهرتها. وكان مرجعهم في الفصل بينهم إلى محكمين اتفقوا عليهم
وخضعوا لهم فكانوا يحكمون لمن وضح بيانه وفصح لسانه.
2-أثر مكة وعمل قريش:
كان لموقع مكة أثر بالغ في وحدة اللغة ونهضة العرب، لأنها كانت في النصف
الثاني من القرن السادس محطاً للقوافل الآتية من الجنوب تحمل السلع للتواجر
من الهند واليمن فيبتاعها المكيون ويصرفونها في أسواق الشام ومصر.
وكانت جواد مكة التجارية آمنة لحرمة البيت و مكانة قريش، فكان تجارهم
يخرجون بقوافلهم الموقرة وعيرهم الدثر آمنين، فينزلون الأسواق ويهبطون
الآفاق فيستفيدون بسطة من العلم و قوة في الفهم وثروة في المال، وخبرة
بأمور الحياة:
وهي مع ذلك متجرة للعرب ومثابة للناس يأتون إليها من كل فج عميق وعلى كل
ضامر ليقضوا مناسكهم ويشتروا مرافقهم مما تنتجه أو تجلبه. ذلك إلى أن
قريشاً أهلها وأمراءها كانوا لمكانتهم من الحضارة وزعامتهم في الحج،
ورياستهم في عكاظ، وإيلافهم رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى حوران
أشد الناس بالقبائل ارتباطاً، وأكثرهم بالشعوب اختلاطاً. كانوا يختلطون
بالحبشة في الجنوب، وبالفرس في الشرق، وبالروم في الشمال.
ثم كانوا على أثارة من العلم بالكتب المنزلة: باليهودية في يثرب وما
جاورها من أرض خيبر وتيماء، وبالنصرانية في الشام ونجران والحيرة، فتهيأت
لهم بذلك الوسائل لثقافة اللسان والفكر.
ثم سمعوا المناطق المختلفة، وتدبروا المعاني الجديدة، ونقلوا الألفاظ
المستحدثة، واختاروا لغتهم من أفصح اللغات، فكانت أعذبها لفظاً، وأبلغها
أسلوباً وأوسعها مادة، ثم أخذ الشعراء يؤثرونها حتى نزل بها القرآن الكريم
فأتم لها الذيوع والغلبة.
أركان الأدب العربي
قال ابن خلدون أركان الأدب أربعة:
دواوين أدب الكاتب لابن قتيبة.
وكتاب الكامل للمبرد.
كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
النوادر لأبي علي القالي.
وماعدا ذلك فتبع لها وفروع عنها.
مقولة: قال أحد النقاد:
لا أحسد الأمة إلا على ثلاثة أشخاص (عمر بن الخطاب لعدله والحسن البصري
لزهده والجاحظ لأدبه).
خصائص اللغة العربية
عدد أحرف هذه اللغة 28 حرفا ولها المزايا التالية:
1- هي من اللغات التحليلية وهي المتصرفة التي تتغير أبنيتها بتغير المعاني
وتحلل أجزاؤها المترابطة فيما بينها بروابط تدل على علاقتها ومن هذا الصنف
اللغة الهندية.
2- اللغة العربية أحدث اللغات السامية سناً.
3- اللغة العربية تفوقت على اللغات السامية الأخرى ولما لها من صفتين
أساسيتين هما الاشتقاق والإعراب.
4- ثمة ألفاظ تستعملها اللغة العربية اليوم عمرها أكثر من أربعين قرناً.
5- إن الصفاء الغالب على سماء الجزيرة العربية انعكس على نفوس العرب والذي
بدوره انعكس على اللغة.
6- كانت اللغة العربية هي اللغة الموسيقية الشاعرة والتي تملك أكبر معجم
لغوي.
7- ظاهرة الاشتقاق: وهو استلال الألفاظ من الأصل اللغوي وسكبها في هيئة
قوالب كاسم الفاعل من الثلاثي مثلا فإن له قالب صوتي واحد في ألفاظ اللغة
العربية.
8- ظاهرة الإعراب: تتفوق اللغة العربية بهذه الظاهرة عن باقي لغات
الإنسانية حيث تتيح الفرصة للفظة كي تأخذ حريتها تقديماً وتأخيراً مع
احتفاظها بموقعها الإعرابي.
9- اعتماد العرب الأمين على الأذن والسماع أكثر من العين والبصر أدى إلى
صقل اللغة من الوجهة الصوتية.
10- وفرة المفردات: مما جعلها الأقدر على الإفصاح عن المعاني وخبايا النفس
وجعلها اللغة الموسيقية الشاعرة.
فنون اللغة العربية
فن المقالة:
المقالة هي قطعة نثرية متوسطة الطول يعالج فيها الكاتب من وجهة نظره
موضوعاً من موضوعات العلم والأدب والاجتماع والسياسة.
عناصر المقالة:
المادة: وهي جملة الحقائق والمعلومات التي يرغب كاتب المقالة في تقديمها
إلى القارئ ولابد أن تكون المادة بعيدة عن الغلط والتناقض وأن تكون غزيرة
وجدية.
الأسلوب: وهو طريقة التعبير التي يختارها الكاتب في صوغ عباراته وعرض
الأفكار وترتيبها وتنسيقها بوضوح وجلاء كي يأخذ بيد القارئ ويمشي به من
فكرة إلى أخرى وفق تسلسل منطقي مقنع ومريح.
الخطة: وهي المعالم الأساسية للمنهج العقلي في كتابة المقالة، ولها ثلاثة
أركان: المقدمة والعرض والخاتمة.
أنواع المقالة:
المقالة العلمية كمقالة الخشب لأحمد زكي والمقالة الأدبية كمقالة الربيع
للرافعي والطفولة المعذبة للزيات.
فن القصة:
فن أدبي نثري يمتاز عن بقية الفنون الأدبية الأخرى بخصائصه وعناصره المكونة
له, فهي حكاية حدث أو مجموعة من الحوادث المترابطة تجري في بيئة معينة,
يقوم بهذه الحوادث شخص أو مجموعة من الشخصيات وفق تصميم خاص بغية إيصال
فكرة محددة إلى القارئ.
فالقصة أقرب الفنون الأدبية إلى التعبير عن الحياة والإنسان وألصقها
بالقارئ وأكثرها إثارة لاهتمامه ومتعته وأقدرها على تغيير على نحو ما, بما
تكشف من جوانب خفية وعميقة في الحياة الإنسانية.
ولاتصور القصة الحياة بكل ما فيها, ولا تعرض الواقع كما هو، وإنما هي
اختيار لجانب أو جوانب من الحياة, ومحاولة لمشاكلة الواقع وتنسيق بين
الجزئيات المختلفة التي يؤدي عرضها إلى تحقيق غرض الكاتب, وهي لا تصور من
الحوادث ما وقع فعلاً, وإنما تصور ما يمكن لأن يحدث, فالقصة إذاً تمثل
الواقع بعد أن يتدخل فيه الكاتب بخياله وفنه لإعادة تكوينه بحسب رؤيته
الخاصة للعالم.
عناصر القصة:
- الموضوع.
- فكرة القصة.
- العمل القصصي (الحبكة والحدث) وهو عادة إما حبكة محكمة أو مفككة.
- البيئة.
- الشخصيات: وهناك الشخصية النامية والشخصية الثابتة.
- الأسلوب أو النسيج اللغوي: ويتوزع الأسلوب بين السرد والوصف والحوار.
أهم القصص في الأدب العربي الحديث:
- بداية ونهاية للكاتب الأديب نجيب محفوظ.
- القصة الاجتماعية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي.
- ذهاب وإياب لصبري موسى.
- مذكرات الأرقش لميخائيل نعيمة.
أنواع القصة العربية الحديثة:
- الفكرية الفلسفية (الشحاد لنجيب محفوظ).
- الاجتماعية (زينب لهيكل) و (دعاء الكروان لطه حسين).
- السياسية ( الزنزانة السابعة لأحمد عكاشة).
فن المسرحية:
مقومات العمل المسرحي:
التعريف: المسرحية قصة تعالج فكرة معينة, يعبر فيها الممثلون بحوارهم
وتصرفاتهم وحركاتهم وصلات بعضهم ببعض على خشبة المسرح, تؤدي هذه الفكرة
غرضاً معيناً يهدف إليه كاتب المسرحية.
مقومات المسرحية:
الموضوع: الفكرة التي تبنى عليها المسرحية.
العمل المسرحي: ما يجري على المسرح.
أنواع المسرحيات:
- المأساة:
مسرحية شعرية جدية تعاج موضوع تاريخي مستمد من حياة الملوك والنبلاء وتعرض
مشكلة إنسانية عامة غرضها إصلاح القلوب والنفوس بإثارة الرهبة من الجرم
الفاضح والرحمة للفضل المعذب والإعجاب بالصنع الجميل وتنتهي عادة بالفواجع
والقضاء والقدر عنصر قوي فيها كمسرحية مصرع كليوباترة.
- الملهاة:
مسرحية خفيفة سارة, وهي تمثيل حادث منتزع من الحياة العامة يبعث اللهو
ويثير الضحك, موضوعها النقد الاجتماعي للجهة الوضيعة من طبائع الناس وعادات
المجتمع وتنتهي نهاية مبهجة غالباً كمسرحية الست هدى لشوقي.
- الدراما (المأساة العصرية).
- الأوبرا (الغنائية).
من أشهر الكتاب المسرحيين العرب الكاتب توفيق الحكيم وأشهر مسرحياته نهر
الجنون ومسرحية المجتمع.
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية
تعريف اللغة - نشأة اللغة
تعريف اللغة
عرّف علماء النفس اللغة، فرأوا أنها مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن
حالات الشعور، أي عن حالات الإنسان الفكرية والعاطفية والإرادية، أو أنها
الوسيلة التي يمكن بواسطتها تحليل أية صورة ٍ أو فكرةٍ ذهنيةٍ إلى أجزائها
أو خصائصها، والتي بها يمكن تركيب هذه الصورة مرّة أخرى بأذهاننا وأذهان
غيرنا، وذلك بتأليف كلماتٍ ووضعها في ترتيبٍ خاصٍ. وهذا التعريف يتضمّن
وظيفة اللغة إجمالاً [عبد المجيد اللغة العربية، ص 15]
ويرى الدكتور أنيس فريحة أن اللغة أكثر من مجموعة أصواتٍ وأكثر من
أن تكون أداةً للفكر أو تعبيراً عن عاطفةٍ، إذ هي جزءٌ من كيان الإنسان
الروحي، وأنها عمليةٌ فيزيائيةٌ بسيكولوجية على غايةٍ من التعقيد. [فريحة:
محاضرات في اللهجات، ص 9] وكان العلامة ابن خلدون قد عرّفها – من قبل –
ببساطةٍ ووضوحٍ، حين قال: اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن
مقصوده، وتلك العبارة فعل اللسان، فلابد أن تصير ملكةً متقرّرة في العضو
الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمةٍ بحسب اصطلاحاتهم. [ابن خلدون:
مقدمة، ص 546 ]
وهناك تعريفات عديدة أخرى، تتفق حيناً وتختلف حيناً آخر. ولعلّ مصدر
التباين في هذه التعريفات ناشئٌ عن منطلقات أصحابها الفكرية. فمن تعريف
وصفي ٍ خارجيٍ ، إلى تعريف نفسيٍ داخليٍ ، إلى آخر يمثل نظرة فلسفيةً
معينةً لواقع الإنسان ووجوده و نشأته.
علماً أن الناظر إلى واقع اللغة الإنسانية – وصفاً و تقريراً – يجد
أنها أصوات وألفاظ و تركيب منسقة في نظامٍ خاصٍ بها، لها دلالاتٌ ومضامين
معينة ، يعبّر بها كل قومٍ عن حاجاتهم الجسدية وحالاتهم النفسية ونشاطاتهم
الفكرية، أي أنها أوعيةٌ هوائية بمضامين نفسيةٍ وفكريةٍ.
فالناحية الآلية فيها أن الصوت هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لاحتكاك الهواء في
مواقع عضويةٍ معينةٍ في الجهاز الصوتي، بدءاً من رئة الإنسان، مروراً
بالحبال الصوتية في الحنجرة، ووصولاً إلى المخارج الصوتية في الفم، تلك
المخارج التي تعطي لكل صوتٍ شكلاً مميزاً، يتآلف مع صوتٍ آخر أو أصوات عدة،
لتكوين الكلمة المفهومة عند النطق بها، وإذا لم تكن هذه الأصوات ذات دلالات
رمزيةٍ مفهومةٍ عند المخاطب بها، فإنها تبقى في نطاق الأصوات العشوائية
التي لا تختلف بشيءٍ عما يصدر عن الحيوان، تعبيراً عن حاجة عضوية تتطلب
الإشباع، أو أن تكون استجابة لغريزةٍ تحرك مشاعره الوجدانية، أو صدى
لأحاسيسه الفسيولوجية الداخلية.
ولعلّ هذا الواقع هو الذي دعا علماء المنطق – في الماضي – إلى تسمية
الإنسان بـ "الحيوان الناطق" أي القادر على استعمال لغةٍ صوتيةٍ لها
دلالاتٌ فكريةٌ، تساعده على التفاهم مع غيره من بني جنسه ، ليسير في طريق
الرقي الإنساني، في الوقت الذي ظلّ فيه الحيوان يعيش عُجمته البدائية
الثابتة التي فطره الله سبحانه و تعالى عليها.
ثم تأتي الكتابة لتحوّل الرموز الصوتية إلى رسومٍ مكتوبةٍ، وبذلك
أصبحت تلك الأصوات المتناسقة – فيما بينها – من حروف، ومقاطع، وكلماتٍ،
وتراكيب لغويةٍ، تُخطّ كتابةً، وغدت الأصوات المنطوقة لساناً، مادةً تبصرها
العين و يقرأها الإنسان.
أمّا اللغة – لغةً – فهي لفظةٌ على وزن " فًعَة " مثل " كُرة " وأصلها " لُغوة " على وزن " فُعلة "، وقيل في جمعها: لغات، لُغون. ومنها
لَغٍيَ: يَلغَى، إذا هذى. [اللسان: لغو] وكذلك اللغو، فقد قال الله تعالى :
{وَإِذَا
مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [سورة الفرقان: الآية 72]
أي مروا بالباطل. وجاء في الحديث الشريف: "من
قال في الجمعة: صَه، فقد لغا"، أي تكلم. [ابن جنيّ: الخصائص ، 1 / 31]
نشأة اللغة
اختلف العلماء الغربيون في أصل اللغات ونقطة البداية فيها، فمن قائل
إنها هبة الله إلى أهل الأرض ميّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات، أي أنها
ذات أصل إلهي، ومن قائل إنها من صنع الإنسان واختراعه. [لم يكن هذا
الاختلاف حديث العهد عند العلماء، فأول من بدأ بالتحليل اللغوي الفلسفي هو
سقراط نفسه، كما جاء في كتابات أفلاطون، حينما بحث في ظاهرة اللغة، وهل هي
تواضع واصطلاح أم هي وحيٌ وتوقيف (بشاي: محاضرة بكلية الآداب بجامعة
القاهرة في 27 / 2 / 1974]
وقد استند الفريق الأول إلى ما جاء في الكتاب المقدس. فقد ورد في
سفر التكوين أن اللغة أعظم الهبات التي وهبها الله للإنسان وأهمها، وبها
أصبحت لديه القدرة على تسمية الأشياء و تقسيمها. [الكتاب المقدس: سفر
التكوين]
وقد اخذ بهذا الرأي الفيلسوف روسّو، حين اعترف في رسالته التي ظهرت
سنة 1750 م – 1164 هـ بالأصل الإلهي حيث يقول: لقد تكلم آدم وتكلم جيداً،
والذي علمه الكلام هو الله نفسه. [بشر: قضايا لغوية، ص 116]
أمّا الفريق الآخر فقد زعم أن اللغة اخترعها الإنسان بوسائله
الخاصة، ولم تبتكر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية. ومن القائلين بهذه
النظرية العالم هيردر – تلميذ الفيلسوف الألماني كانت – الذي يستدل على
بطلان نظرية الأصل الإلهي بما يوجد في اللغة الإنسانية من عيوب، وبعدم
وصولها إلى حد الكمال. [بشر: قضايا لغوية، ص 116]
علماً أن لا علاقة بين عيوب اللغة وبين مصدرها الإلهي، فقد خلق الله
الإنسان في أحسن تقويم، ومع ذلك جعل فيه قابلية الخير والشر وذلك لحكمة
أرادها رّب العالمين من وجود الإنسان في الحياة الدنيا. وقال تعالى في وصفه
لطبيعة النفس الإنسانية: {فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)} [سورة الشمس: الآية 8]
أمّا نظرية الإصلاح والتواطؤ، أي أن اللغة والإنسانية الأولى ابتدعت
واستحدثت بالتواضع والاتفاق بين الناس، وأن المواضعة تمّت على أيدي جماعةٍ
ممن يتمتعون بعقلية عاليةٍ، والتي قال بها كثيرون من القدامى والمحدثين،
منهم أبو هاشم المعتزلي (عبد السلام الجبائي ت 321 هـ - 933 م) و من تابعه
من المعتزلة، [قاسم : اتجاهات البحث اللغوي، ص 41] [Jesperson
( otto ) : Language , its Nature Development , and Origin - London ,
1864 PP . 26 – 27]
فلا تصمد أمام البحث العقلي، لأنه لكي يتواضع الناس و يتفقوا، لابد لهم من
وسيلة راقية يتفاهمون بها في موضوع جلل كهذا ، إذ كيف يتواضع الناس و
يصطلحون على وضع لغةٍ بغير ما لغة ؟ !
فالأمر الحق في هذا هو كما قال المقدسي: و ليس في وسع الناس استخراج
لغة ووضع لفظ يتفقون عليه إلا بكلام سابق به يتداعون ويتواضعون ما يريدون،
وليس في المعقول معرفة ذلك، ولابد من معلّم. [المقدسي : البدء و التاريخ،
1 / 122]
هذا فيما يتعلق بلغة الإنسان الأول ، أمّا عملية رصد اللغة و ضبطها
و تطويرها فهذا شأن آخر.
وكذلك اختلف في أمر لغة العرب، إلهامٌ هي أم تواضعٌ و اصطلاح ؟
وبخاصةً أن التاريخ لم يسجل طفولة هذه اللغة، فقال ابن فارس: إنها توقيف،
واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة: الآية 31]
وينقل عن ابن عباس: أن الله علّم آدم هذه الأسماء التي يتعارفها
الناس من دابةٍ وأرضٍ وسهلٍ و جبل وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم يزيد
موضحاً: بأن اللغة التي دلّل على أنها توقيف لم تأت جملة واحدة وفي زمان
واحد، بل إن الله عز وجل وقف آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما
احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله، ثم علم بعد آدم من
عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء الله أن يعلمه حتى انتهى
الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. [ابن فارس: الصاحبي في فقه
اللغة، ص 5 – 6]
ويقول ابن فارس أيضاً: إن الخط توقيفي، وذلك لقوله تعالى: {قْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق : الآيات 1 - 5] وإذا كان الأمر كذلك ، فليس ببعيد أن
يوقف آدم عليه السلام أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب. [ بن
فارس: الصاحبي في فقه اللغة ، ص 6]
لم يكن ابن فارس هو الوحيد من أصحاب هذا الرأي، فقد سبقه إلى هذا أبو
عثمان الجاحظ، حين يقول: واللغة عاريةٌ في أيدي العرب ممن خلقهم و مكّنهم و
ألهمهم وعلّمهم. [الجاحظ: الحيوان، 1 / 349)
ويتحدث عن عربية إسماعيل عليه السلام فيقول: وقد جعل إسماعيل، وهو ابن
أعجميين عربياً، لأن الله سبحانه وتعالى فتق لسانه بالعربية المبينة على
التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوء والتمرين.
[الجاحظ : ثلاث رسائل: باعتناء فان فلوتن (ليدن 1902)]
وذكر ابن النديم أنه يقال: إن الله سبحانه وتعالى أنطق إسماعيل بالعربية.
ويضيف: وقال محمد ابن إسحاق: فأما الذي يقارب الحق وتكاد تقبله النفس أن
إسماعيل تعلم العربية من العرب العاربة من آل جرهم ... ولم يزل وُلد
إسماعيل على مر الزمان يشتقون الكلام بعضه من بعض، ويضعون للأشياء أسماء
كثيرة بحسب حدوث الموجودات وظهورها. فلما اتسع الكلام ظهر الشعر الجيد
الفصيح في العدنانية، وإنّ الزيادة في اللغة امتنع العرب منها بعد بعث
النبي صلى الله عليه وسلم لأجل القرآن. [ابن النديم: الفهرست، ص 7] أي أن
نظام اللغة العربية الصـوتي والصرفي والنحوي قد تأطر بلغة القرآن الكريم.
إن ما قاله ابن النديم يمكن أن يرد إلى حديث نبوي شريف، فقد نقل ابن كثير
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "فألفى
ذلك أم إسماعيل و هي تحب الأُنس"
فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم،
وشب الغلام وتعلم العربية منهم، [ابن كثير: مختصر التفسير، 1 / 124]
وبذلك فإن تاريخ اللغة العربية قديم، فقد عاش أبو العرب
–إبراهيم عليه
السلام–
قبل المسيح بألفي عام.
وأخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس: أنّ آدم عليه السلام كانت لغته في
الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية، فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد
الله عليه العربية.
إلا أن عبد الملك بن حبيب يقول: كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة
عربياً إلى أن بعد العهد و طال، حُرف وصار سريانياً. [السيوطي: المزهر، 1
/ 3]
غير أنت العالم اللغوي ابن جنّي يرى أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة
إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي ولا توقيف. ويرد على ابن فارس في احتجاجه
بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
[سورة البقرة: الآية 31]
فيذكر أنه قد يجوز أن يكون تأويله، أي أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا
المعنى من عند الله سبحانه وتعالى لا محالة، فإذا كان ذلك محتملاً فهو غير
مستنكر. [ابن جنّي: خصائص، ص 39]
ولكنه يعود ليتردد في آخر هذا الباب، وذلك حين يقول: واعلم فيما بعد، أنني
على تقادم الوقت، دائم التفكير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي
والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغّول على فكري، وذلك أنني إذا
تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة و
الدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح بي أمام
غلوة السحر... في نفسي اعتقاد كونها توقيفاً من الله سبحانه و تعالى وأنها
وحي. [ابن جنّي: خصائص، 1 / 41]
إن الناظر بعمق إلى آراء ابن جنّي يجد أنه في حيرة من أمره، فحين قال
بالاصطلاح والتواضع اصطدم بالحقيقة القرآنية التي تقول: إن مصدر العلم
الأول للإنسان الأول - آدم عليه السلام – جاءت من عند الله سبحانه وتعالى،
فلجأ إلى التأويل. ومن جهة أخرى هو مأخوذ بروعة اللغة العربية وجمالها و
كمالها، بحيث يعجز الناس عن الإتيان بمثلها.
مصدر كلمة العرب
أمّا مصدر كلمة "العرب" الذين نسبت إليهم اللغة العربية فقد ذكر ابن النديم:
أن إبراهيم عليه السلام نظر إلى ولد إسماعيل مع أخوالهم من جرهم، فقال
له: يا إسماعيل، ما هؤلاء ؟ فقال: بنيّ وأخوالهم جرهم. فقال له
إبراهيم باللسان الذي كان يتكلم به وهو السريانية القديمة: أعرب له، يقول: أخلق به، والله أعلم. [ابن النديم: الفهرست، ص 8] [جرهم: قبيلة
عربية كانت تقيم في مكة المكرمة]
وحاول بعض المحدثين دراسة نشأة اللغة على أساس أنها شيء مصنوع، وبالرغم
من المعرفة المتزايدة التي حصل عليها العلماء لتاريخ الإنسان قبل التاريخ
المدوّن، فإن أصل الإنسان ونشأته ثم انتقاله من حيوان أبكم إلى حيوان
ناطق، ومن حيوان لا يعقل إلى حيوان عاقل، لا يزال مكتنفاً بحجب الأسرار
أمامهم و إن أقصى ما استطاعوا الوصول إليه هو أن اللغة ظاهرة إنسانية
بسيكولوجية مكتسبة ملازمة للفرد، وقد نشأت بنشوئه، ونمت بنموه الحضاري، وبهذه الظاهرة أصبح الإنسان إنساناً. [مجلة الأبحاث: عدد آذار 1955 م
(مقال الدكتور أنيس فريحة)]
كما وجد علماء الألسنية أن نطق كلمة مهما
صغرت، ينطوي على حركات عضلية لا حد لها، ويصعب كثيراً معرفتها ورسمها.
[مجلة الفكر العربي: عدد (8 – 9) مقال ف . دوسوسير: شغلت قضية نشأة
اللغة بال اللغويين والمفكرين طويلاً، وطال الجدل حولها بينهم وكثرت
النظريات، حتى أن الجمعية اللغوية الفرنسية قضت بقرار اتخذته الجمعية ألا
يبحث الموضوع إطلاقاً في قاعات الجمعية لعدم جدوى البحث ولعقم النظريات،
إذ أنها تدور في حلقة مفرغة، ولا تفسر لنا هذه الظاهرة العجيبة (فريحة :
A/A/ 1
،
1972). لمزيد من الفائدة حول هذه النظريات وتعددها انظر كتاب الدكتور رياض
قاسم: اتجاهات البحث اللغوي الحديث ، ص 41 و ما بعدها]
مما زاد الأمر تعقيداً وأثار الجدل عند الباحثين علاقة اللغة
بالفكر. فيذهب بعض علماء النفس إلى أن التفكير قد يحدث – أحياناً – من غير
لغة، وأنه إذا استطعنا أن نحل محل اللغة رموزاً أخرى نستطيع التفكير بدون
لغة، ولكن كلما ازداد التفكير عمقاً واتجه النشاط العقلي إلى المقارنمة
والاستنباط كلما زادت حاجة العقل إلى استخدام اللغة. [عبد المجيد:
اللغة العربية، ص 43 – 44]
وهناك علماء وباحثون آخرون رأوا أن الفصل بين اللغة والفكر أمرٌ
غير ممكن، فقد رأى العالم اللغوي ابن هشام، أن اللغة هي ما في النفس وما
تحصل به الفائدة سواء أكان لفظاً أم خطاً، أي إن المعاني تقوم في النفس
قبل أن ينطق بها اللسان أو يخطها القلم. فالكلام اللغوي يكون في داخل
الإنسان، ثم يجيء دور اللسان فيحوله إلى كلام لفطي. [ابن هشام: شذور
الذهب، ص 28 – 29]
وبعبارة أخرى لم يكن ابن هشام يتصور إمكان انفصال الشكل عن المضمون
في أية حال من الأحوال، لأن التحامهما معاً هو كارتباط الروح بالجسد،
فإذا ما فارقت الروح وعاءها أصبح الجسد شيئاً مواتاً.
ثم جاء علماء فقه اللغة المحدثون فأيدوا هذا الرأي ، و ذلكم حينما
قالوا: إن الإنسان لا يفكر، حتى فيما بينه وبين نفسه، إلا في أثواب من
اللغة. [مجلة الأمة: عدد ربيع الآخر، 1402 هـ (مقال الدكتور عبد
العظيم الديب)]
وهذا العلاّمة علاّل الفاسي يرى أن اللغة ليست إلا المظهر الخارجي
للفكر. [مجلة البينة : عدد / 6 ، ص 35] فالكلام – حسب تعبير الأخطل – في
الفؤاد، ولكن دليله اللسان.
يقول الأخطل:
إنّ الكلام مِن الفؤادِ وإنّما جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَليلا
[الوشاء : الموشّى ، ص 16]
ويذهب الدكتور كمال الحاج إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ لا يرى
وجوداً للفكرة خارج الكلمة، لأن الفكرة والكلمة يكوّنان "أقنوماً"
واحداًَ ... [الحاج : دفاعاً عن العربية ، ص 150]
ولعلّ الصواب هو إلى جانب الفريق الذي يؤكّد الصلة الحتمية بين
الفكر واللغة. وإذا صحّ ذلك فإن الفكر الأول واللغة الأولى جاءا
للإنسان الأول متلازمين، في ثوبٍ واحدٍ، وفي زمنٍ واحدٍ، أمّا مصدرهما: فإما أن يكون من الإنسان نفسه وإما من خارج الإنسان. فالذين قالوا
إنهما من خارج الإنسان فقد أخذوا بالجانب التوفيقي للغة الإنسانية الأولى،
واستندوا في ذلك إلى خبر السماء في الكتب السماوية، وعلى هذا الجمهور
الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين، [السيوطي: المزهر، 1 / 27]
والذين زعموا أنها من صنع الإنسان واختراعه، فينقصهم الدليل لتوثيق
زعمهم.
فقد ثبت أن عزل الطفل منذ اليوم الأول لولادته عن البيئة الإنسانية
يحرمه حرماناً تاماً من اللغة الإنسانية، أي يحرمه من الفكر الإنساني. وما ينطبق على طفلٍ واحدٍ ينطبق على مجموعة الأطفال، كثرت أم قلت. وهذا
لا ينفي تكوّن عددٍ من الأصوات والإشارات المعبّرة عند هؤلاء الأطفال عبر
نموهم ونشأتهم، لكنها لا تتجاوز ما يصدر عن الحيوان.
وإذا ما التبس علينا الأمر فيما نجده عند الحيوان من أصواتٍ هادفةٍ، فإن اللبس يزول حينما ندرك أنها لا تعدو أن تكون طلباً لإشباع حاجةٍ
عضويةٍ أو استجابةً لغريزةٍ حيوانيةٍ.
وإذا كان بعضهم يرى أن المسافة قصيرةٌ بين الحيوان والإنسان، وأنه لا ينقص الحيوان سوى الكلام، وأن اللغة هي الشرط الضروري والكافي
للدخول إلى الوطن الإنساني، فإننا نرى أن هذه المسافة – على قصرها الحسي –
هي الحدّ الفاصل بينهما، وأنه عاجزٌ عن تجاوزه.
فالأمر كما قال الجاحظ: و ليس عند البهائم والسباع إلا ما صُنعت
له، ونُصبت عليه، وأُلهمت معرفته، كيفية تكلّف أسبابها، والتعلّم
لها من تِلقاء أنفسها. [الجاحظ : كتاب الحيوان، 2 / 147] والبهيمة
سميّت بهيمة لأنها أُبهمت عن العقل والتمييز. [ابن الأبناري: الأضداد،
ص 7]
أمّا الإنسان فقد تميز عن الحيوان بكونه ناطقاً، أي مفكراً،
وبالفكر شُرفَ وتفوق واستحق أن يكون خليفة الله على الأرض، ولا يخالج
ابن خلدون أي شك في أن عالم الحيوان هو غير عالم الإنسان، وذلك حين يقول: إن الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكِنّ وغير ذلك، وإنما تميّز عنها بالفكر الذي يهتدي به
لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المُهيء لذلك التعاون
وقبول ما جاءت به الأنبياء من عند الله سبحانه وتعالى والعمل به واتبّاع صلاح أُخراه. [ابن خلدون: المقدمة، ص 429] [الكنّ: البيت،
المسكن]
فاللغة ليست عمليةً نطقيةً – صوتيةً – فحسب، بل هي عمليةٌ عقليةٌ
تأخذ بيده إلى التقدم والارتقاء. وإذا لم يكن ما يصدر عن الإنسان معبراً
عن أفكارٍ ومفاهيم قابلة للإدراك العقلي، فإنها تكون أصواتاً عشوائية، ولا تندرج – حينذاك – في منطوق اللغة الإنسانية، وإن صدرت عن الإنسان نفسه.
وقد يكون تأكيد صلة الفكر باللغة مدخلاً لتأكيد الجانب التوفيقي
للغة الإنسان الأول. فلو لم يُعطَ الإنسان الأول الفكر الأول لظل حيواناً
غير ناطق (مفكر)، شأنه في ذلك شأن العجماوات كانت – ومازالت – وستبقى
في نطاق عُجمتها الحيوانية التي فطرت عليها. وإذا كان الإنسان الأول قد
أُعطي الفكر الأول، فقد أُعطي اللغة الإنسانية الأولى أيضاً. وهذا يؤكده
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة: الآية
31]
وهذا لا يكون إلا بلغة إنسانية، وذلك بعد أن خلقه بهذه الصفة
البشرية. أمّا كيف أعطاه الله هذه اللغة ؟ هل علّمه إياها عن طريق الوحي
أو أقدره على وضعها ، فأمر غيبي، ولا جدوى من بحثه، ولا أمل في الوصول
إلى نتيجةٍ حاسمةٍ بشأنه، إلا إذا توافرت النصوص النقلية الأكيدة التي
تتيح لنا ذلك.
ثم إن الدراسات العلمية الحديثة اكتشفت عناصر لغوية مشتركة بين لغات
البشر في جميع أنحاء العالم، تؤكد وحدة الأصول اللغوية، فإذا صح ذلك، ودلّ على شيءٍ، فإنما يدلّ على وحدانية المصدر اللغوي الإنساني، ويعزّز
القول بالتوقيف في أصل اللغة الواحدة.
أمّا كيف تكونت اللغات الأخرى فيما بعد، فأمر توقيفي، وهو ما
تسرب إلى الشعوب المختلفة من الإنسان الأول وأحفاده، لدى تفرّق أبناء آدم
عليه السلام في أصقاع المعمورة، وما أوحي به الله سبحانه وتعالى إلى
الأنبياء والرسل من السماء. وفيه جانب مصنوع مكتسب، وهو ما فرضته
حاجات الناس والمجتمعات البشرية عبر العصور المتعاقبة، استجابةً لحاجات
الناس وتطور مجتمعاتهم في مجالات الحياة المختلفة.
هذا فيما يتعلق باللغات الإنسانية للشعوب والقبائل. أمّا لغة
الإنسان الفرد بعد تكّون المجتمعات البشرية، فهي مكتسبة، إذ يتعلمها
الطفل من أبويه وأسرته ومن المجتمع الذي ينشأ فيه، فاللغة – في المتعارف
– هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة تعبير في اللسان، وهو في
كل أمةٍ بحسب اصطلاحاتهم. [ابن خلدون : المقدمة ، ص 546] فإنك إذا وضعت
طفلاً عربياً – و هو بعد في أيامه الأولى – في بيئة إنكليزية أو روسية لنشأ
إنكليزي اللسان أو روسيّه.
أمّا ما يزعمه نفرٌ من الناس حول إنسان ما قبل التاريخ فزعمٌ لا
يستحق البحث ، كما لا يستحق التفكير فيه، إذ هو هدرٌ للوقت والجهد والمال ليس غير. فالطريقة العقلية – ومنها العلمية – تقيس المجهول
بالمعلوم، وليس العكس.
فالإحساس بالواقع وتراكم الإحساس فوق الإحساس عند جميع أجناس
الحيوان التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ الإنساني لم يغير من حال هذا
الحيوان شيئاً. ولقد صدق أحد العلماء حين قال: إن الحيوانات لا تتكلم،
لا لأنها لا تستطيع الكلام، ولكن لأنه ليس لديها ما تتكلم عنه. [عبد
المجيد: اللغة العربية، ص 39] أي لا تستطيع التفكير، لأن عنصر الربط
بين المعلومات والخبرات السابقة والواقع غير موجود في دماغ الحيوان.
وإن ما نلحظه من تعلمٍ مكتسبٍ عند بعض أنواع الحيوان، ما هو إلا تقليد لما
يقدمه له الإنسان ، بينما عالم الحيوان عالم مغلق تسيّره الحاجات العضوية والغرائز التي فُطر عليها. وإنّ ما يصدر عنه من أصوات وإشارات وسلوك لا
تعدو أن تكون وظائف بيولوجية وفسيولوجية لمخلوقٍ مميز بخصائص أودعها الله
سبحانه وتعالى فيه، وذلك حين يطلب إشباعاً عضوياً أو غريزياً. ومن هنا
– وفي غياب الفكر – ظلّ الحيوان في نطاق عُجمته الحيوانية، في الوقت الذي
نشاهد الإنسان يرتقي سلّم المعارف والعلوم الإنسانية والحيوانية والكونية الأخرى، ويبني بمعارفه وعلومه صنوف الحضارة والمدنية.
أمّا ما زعمه بعض علماء النفس من أننا نستطيع أن نفكر في أشياء لا
نعرف لها أسماء، ولم نتعلم أسماءها، وأننا نستطيع أن تكون لدينا صور
ذهنية بصرية، وغير بصرية، عن هذه الأشياء، فالرد على هؤلاء الباحثين
ينبغي أن يكون في ضرورة التمييز الحاسم بين الإحساس بالشيء وبين التفكير
في هذا الشيء، أي إصدار حكمٍ (فكرٍ) بشأنه. فالإنسان يحس بوجود أشياء
كثيرة في واقعه الحياتي دون أن يعلم عنها شيئاً، ولكي يقول فيها أمراً
مفهوماً لابدّ له من الاعتماد على المعلومات السابقة لكي تساعده في تفسير
هذا الواقع الجديد، والتي إن لم تكن موجودة لديه أو لم تقدم إليه من
الآخرين فسيبقى في نطاق الإحساس ولن يتجاوزه قيد أُنملة.
فإذا ما أصدر
حكماً (فكراً) حول أي من هذه الأشياء الجديدة عليه ، فقد استعان بتلك
المعلومات التي لابد أن تكون قد وصلت إليه مباشرة أو غير مباشرة عن طريق
اللغة الإنسانية. ثم لكي يقول هذا الإنسان أنه قد تكونت لديه هذه الصور
الذهنية أو غير البصرية فهو بحاجةٍ للتعبير عن طريق اللغة – أيضاً – نطقاً
أو رسماً.
وهكذا، فإن الزعم أننا نستطيع أن نفكر من غاية حاجةٍ إلى
الاستعانة باللغة أمر ينقصه الدليل الحسي العقلي.
بقي أن نقول شيئاً للباحثين الذين أُخذوا بالطريقة العلمية في
التفكير لما حققته من إنجازاتٍ مذهلةٍ رائعةٍ، وهم يعملون على دراسة
اللغات دراسةً علميةً بالطريقة ذاتها ، ثم يخرجون بآراءٍ واجتهاداتٍ و
نظرياتٍ لا يمكن الركون إليها، لا بل قد يكون مجال الخطأ فيها أكثر من
الصواب.
ولعل اختلاف النتائج التي توصلوا إليها يؤكد صحّة ما ذهبنا إليه.
فاللغة ليست (شيئاً) مادياً لكي تدرس بالطريقة العلمية، إذ من المُسلم
به أن التجربة العلمية هي أهم عناصر هذه الطريقة وخطواتها، وإذا سقط هذا
العنصر الأساسي لا يبقى للبحث أية قيمةٍ علميةٍ. وهذه التجربة - كما هو
متعارف عليه – هي إخضاع المادة لظروفٍ وعوامل غير ظروفها وعواملها
الأصلية وملاحظة أثر هذا الإخضاع، وصولاً إلى استنتاجٍ معينٍ، في حين
ليست اللغة (شيئاً) مادياً يمكن أن يوضع في المختبر، ثم تُجري عليه مثل
هذه التجارب، فاللغة هي الإنسان حين أدائها، وما تسرّب إلينا من تراثه
اللغوي لا يتسنى لنا –بحال من الأحوال – أن نضعه في زجاجات المختبر، لأن
هذا الإنسان – صوتاً وفكراً وسياقاً وبيئةً لغويةً وإنسانيةً – لم يعد
قائماً.
وبذلك لم يعد أمامنا إلا أن ندرس العلوم اللغوية – على اختلافها
– بالطريقة العقلية، التي تتلاءم مع طبيعتها و واقعها. وهذه الطريقة هي
التي تنسب إلى العقل مباشرة، أي إلى الكيفية التي يتّم فيها التفكير عند
الإنسان، وذلك من خلال الإحساس السليم الكامل بواقع موضوع البحث، ثم
استدعاء الخبرات والمعلومات السابقة للاستعانة بها في فهم الواقع الجديد،
ثم إصدار الحكم عليه. على أن تُرصد الطريقة العلمية التجريبية، التي
بدورها تقدّم لنا الوسائل والأدوات التي نستخدمها في شتى حقول المعرفة
التي يطمح الإنسان في الوصول إليها.
ولا يختلطن الأمر على أحد في ضرورة التفريق التام بين (التجربة
العلمية) التي أشرت إليها سابقاً، وبين (التجريب) بمعنى الملاحظة
الآنية، أو المستمرة، لواقع ما (إنسان، حيوان، شيء) في مواقف متلاحقة
وفي أوضاع وأحوال متنوعة – أفقياً وعمودياً – فالتجريب بهذا المعنى هو
من الوسائل والأساليب التي يُلجأ إليها في أي حقلًٍ من حقول المعارف
الإنسانية.
أمّا لجهة الوطن الجغرافي الأول للغة العربية، فلا خلاف عند
الباحثين في أن شبه الجزيرة العربية هي المهد الأول لهذه اللغة الكريمة.
فوق واحاتها وُلدت، وبين أرجائها درجت، وفي قراها ومدنها نمت وترعرعت، إلى أن بلغت أوج ازدهارها وشبابها حين أخذت آيات الكتاب الكريم تتنزل
على صدر رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاكتملت باكتمال نزول
كتاب الله العزيز، واستحكمت أوصالها، وتأطرت قواعدها بهذه الآيات
المُحكمات، وبما رفدها رسول الله صلى الله عليه و سلم من عبارات وأقوال
لا تعرف اللحن، تحقيقاً لقوله تعالى: {إنّا أنزَلناهُ قُرآناً عَرَبيّاً لَعَلَكُم تَعقِلونَ} [سورة
يوسف : الآية 2]
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية
وظائف اللغة العربية وأهداف تدريسها
للّغة –أية لغة– وظائف مهمة رصدها العلماء والباحثون، ولعل
أهما ما يلي:
اللغة أداة التفكير، كما أنها وسيلة التعبير عما يدور في خاطر
الإنسان من أفكارٍ، وما في وجدانه من مشاعر وأحاسيس وخلجات جوّانية.
اللغة وسيلة الاتصال والتفاهم بين الناس، وذلك في نطاق الأفراد والجماعات والشعوب.
اللغة أداة التعلُّم و التعليم، ولولاها لما أمكن للعملية
التعليمية / التعلُّمية أن تتم، ولانقطعت الصلة بين المعلّم والمتعلم،
أي لتوقفت الحضارة الإنسانية، وظلت حياة الإنسان في نطاق الغرائز الفطرية
والحاجات العضوية الحيوانية.
إنها الخزانة التي تحفظ للأمة عقائدها الدينية، وتراثها الثقافي ونشاطاتها العلمية، وفيها صور الآمال والأماني للأجيال الناشئة. وبعبارة أخرى، إن اللغات هي ذاكرة الإنسانية وواسطة نقل الأفكار والمعارف
من الآباء إلى الأبناء، ومن الأسلاف إلى الأخلاف، والتي لولاها لانقطعت
الأجيال بعضها عن بعض. وحينذاك سيضطر كل جيل أن يبدأ من نقطة الصفر، وبذلك تبقى الإنسانية في مهد طفولتها العلمية والمعرفية.
تمثل اللغة إحدى الروابط بين الناطقين بها، إذ تسهّل عليهم الاتصال
والتفاهم، ولكن هذا لا يعني أن اللغة الواحدة تحتم التواصل الحسن بين
أهل هذا اللسان، إذ إن الأفكار والقيم والاتجاهات هي التي تجمع الناس
على صعيد واحد أو تجعلهم أشتاتاً. [يقول الفيلسوف الألماني فيخته
Fichte: إنّ اللغة تلازم الفرد في حياته، وتمتد إلى أعماق كيانه، إنها
تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين. إنها الرابطة
الحقيقة بين عالم الأجساد وعالم الأذهان. (روّاد المثالية في الفلسفة
الغربية – دار المعارف – الإسكندرية 1967 )]
وأخيراً إن اللغة هي الأداة التي تمكّن الموهوبين والعباقرة في كل
قومٍ من إبراز مواهبهم وبدائعهم، ليكونوا قادة الأمة و مفكّريها وعلماءها.
إذا كانت هذه هي الوظائف الأساسية للغّات بعامةٍ، فإن للغّة
العربية شأناً آخر يزيدها أهميةً وخطورةً، ويجعل الاهتمام بها أمراً
يفرضه هذا الموقع الفريد الذي تميزت به عن سائر اللغات الأخرى، فهي لغة
القرآن الكريم والسنّة الشريفة، أي أنها اللغة التي اختارها ربّ العالمين
لتكون لغة الوحي لأهل الأرض جميعاً. ومن هنا كان على كل مسلم في مشارق
الأرض ومغاربها أن يهتّم بها اهتمامه بعقيدته الإسلامية التي يحرص عليها،
وأن يعتز بها ويفضلها على لغات الأرض الأخرى، بما فيها لغته القومية.
وكان على المسلمين العرب بخاصةٍ أن يُحلّوها مكانتها اللائقة بها، لا
لكونها إحدى مقوّمات العرب ووجودهم فحسب، بل لأنّ الله شرّفها وخلّدها
بخلود كتابه العزيز، حين قال جلّ ثناؤه: {إنّا أنزَلناهُ قُرآناً
عَرَبيّاً لَعَلَكُم تَعقِلونَ} [سورة يوسف : الآية 2] كما أنها تحمل في
أحشائها سنة نبيهم، وفقه علمائهم، وحضارة أمتهم وتاريخها وثقافتها
لأربعة عشر قرناً خلت. [يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن اللغة العربية
من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا
يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. (مجلة
الأمة: عدد 6، ص 74 )]
أهداف تدريس اللغة العربية
حدّدت المناهج التربوية في البلاد العربية أهدافاً مرحلية، تمثل
الحدّ الأدنى الذي ينبغي الوصول إليه. فجعلت من أهداف المرحلة الإلزامية –
الابتدائية والمتوسطة – أن يحقق للتلميذ في نهايتها ما يلي:
1-أن يكتسب
القدرة على استخدام اللغة العربية الفصحى استعمالاً ناجحاً – تحدثاً
واستماعاً – وفي مـستوى متلائم مع تطوره العقلي واللغوي.
2-أن يكتسب القدرة على القراءة الاستيعابية الصامتة، وذلك في
حدود نموه الفكري واللغوي.
3-أن يكتسب القدرة على القراءة الجهرية السليمة، والتي تتمثّل في
الأداء السليم ، نطقاً للحروف من مخارجها، وضبطاً للحركات في مواقعها، ولهجةً مناسبةً، وتمثيلاً للمعنى، ومراعاةً للوقف في مواقعه.
4-أن يكتسب القدرة على الكتابة السليمة بخطٍ واضحٍ مقروءٍ.
5-أن يُزوّد بالمهارات اللغوية والخبرات الحياتية التي تمكنه من
القيام بما تتطلبه فنون التعبير (الإنشاء) الوظيفي، لكتابة الرسائل والمذكّرات، والإسهام في الحوار الهادف، والإجابة عن الأسئلة الشفهية،
ونحوها.
6-أن يتدرب على تذوّق النصوص الأدبية، ومحاولة إدراك ما فيها من
مواطن الجمال والقيم الإنسانية.
7-أن ينمو ميله إلى المطالعة، بحيث يُقبل – ذاتياً – على القراءة
الحرّة، رغبةً منه في مجالسة الكتاب، وضماناً لعدم عودته إلى الأميّة
الأبجدية ، إذا ما وقف عند هذا الحد من التعلم المنظم.
8-أن يتكون لديه الدافع للبحث، وأن يتدرب على استخدام المعاجم والفهارس المبسطة، ليعود إليها حينما تدعو الحاجة إلى ذلك.
الأهداف وموقعها في منهج اللغة العربية:
لكي نتبين دور الأهداف وخطورة شأنها في موضوع تدريس اللغة العربية، يجدر بنا أن نحدد موقعها في منهج اللغة العربية ذاتها.
نحن نعلم أن منهج أية مادة تعليمية هو جزءٌ من منهج تربوي شامل،
تُحدّد أهدافه في ضوء وجهة النظر التربوية التي تنبثق عن عقيدة الأمة ونظرتها إلى الإنسان والحياة وما بعد الحياة الدنيا.
والمنهج – بمفهومه الحديث – يشمل جميع أنواع النشاط والمواقف
التعليمية / التعلُّمية التي يمر بها التلاميذ تحت إشراف المؤسسة المدرسية
داخل جدران المدرسة وخارجها. ويتكون المنهج من عناصر أساسية تُشكّل
كائناً عضوياً متكاملاً، هي:
1-الأهداف:
وهي الغايات التي يُراد الوصول إليها في نهاية مرحلة ما. ففي حقل
اللغة العربية تحدّد الأهداف العمة لهذه المادة أولاً، ثم تُرصد الأهداف
الخاصة بكل مرحلةٍ من مراحل التعليم (ابتدائي – إعدادي – ثانوي جامعي).
وبعد ذلك تُحدّد الأهداف المرتبطة بالخطّة السنويّة (الكتاب المدرسي) وتنتهي أخيراً عند مدرّس اللغة العربية الذي يعمل على اختيار أهداف دروسه
اليومية من خلال النصوص اللغوية.
2-المضامين:
وهي المقررات الدراسية التي يضعها الخبراء والمختصون بهذه المادة، وذلك في ضوء الأهداف المشار إليها أعلاه، وانطلاقاً من الخصائص
العقلية والنفسية والجسدية لتلاميذ كل مرحلة من مراحل التعليم المدرسية.
3-الطرائق:
تعتمد طرائق تدريس اللغة العربية، بناءً على خصائص هذه اللغة من
جهة، وكيفية تعلُّم التلاميذ واكتسابهم لها من جهة أخرى. علماً، أن
اعتماد طريقة ٍ ما لا يعني إهمال محاسن الطرائق الأخرى، كما لا يجوز أن
يعني إلغاء دور المدرّس في ابتكار الأساليب المتنوعة، التي تستهدف تقديم
محتويات المنهج إلى التلاميذ بأيسر السبل وأسرعها وأكثرها إثارةً و
تشويقاً.
4-التقويم:
هو العملية التربوية المصاحبة للتطبيق الميداني، لقياس (وتقدير)
مدى ما تحقق من الأهداف المراد الوصول إليها غي كل فقرةٍ من فقرات المنهج،
ويكون ذلك، بدءاً من التقويم الذي تقوم به دائرة التربية والتعليم،
مروراً بتقويم المشرفين على تنفيذه، وانتهاءً بالمعلّمين والمتعلّمين.
أهمية تحديد الأهداف:
(في خطة التدريس اليومية) إن تحديد الأهداف في الحقل التربوي من
الأمور الخطيرة وبخاصةٍ في مجال العمل اليومي، إذ إن تحديد الهدف معناه
تحديد ما يريد المعلّم أن يحققه، أي ما يهدف إليه. وإذا فشل في ذلك فهو
يسير إلى غاية غير مدركة، وبذلك فإن عمله لا يكون مثمراً، ولا متكافئاً
مع ما يبذله من جهد. ومن هنا كان على مدرّس اللغة العربية أن يكون مدركاً
وواعياً لهذا الأمر، ليسهل عليه رصد أهداف دروسه اليومية ووضعها على
هيئة نتاجات تعلُّمية سلوكية.
وفيما يلي بعض الإرشادات التي تساعده في ذلك:
1-أن تكون الأهداف العامة لتدريس اللغة العربية واضحة ً في ذهنه،
لكي تأتي أهداف موضوعاته اليومية منبثقة انبثاقاً طبيعياً منها.
2-أن تكون أهداف الدروس اليومية مرتبطة بأهداف الخطة السنوية والمرحلية التي يضعها المدرّس في بداية العام الدراسي.
3-أن تكون أهداف الدرس الخاصة محددة، وممكنة التحقيق في الزمن
المرصود لها.
4-أن تكون صياغة الأهداف بلغة واضحةٍ ومحددة، قابلةٍ للتقويم والقياس للتأكد من مدى تحققها عن طريق الأسئلة والاختبارات البسيطة والتطبيقات المناسبة.
5-ضرورة تنوع الأهداف بتنوع ما يقدمه النصّ اللغوي من معلوماتٍ وحقائق وآراءٍ ومهاراتٍ وقيمٍ واتجاهاتٍ سلوكيةٍ.
تصنيف الأهداف التي يقدمها النصّ اللغوي:
[ راجع: عبد الملك الناشف (Revised) Rc /
4] تدور الأهداف
الخاصة بالنص اللغوي الذي اعتمدناه منطلقاً لتدريس اللغة العربية في
المجالات الثلاثة التالية:
1. المجال المعرفي:
ويظهر ذلك في الحقائق والمعلومات – اللغوية وغيرها – التي يزودنا
بها النص، كما يتحقق في استيعاب الأفكار الظاهرة التي يشتمل عليها وكذلك
فيما يكتشفه القارئ عند تحليل المادة القرائية إلى عناصرها المختلفة، وما
يجده بين ثناياها من عقلية الكاتب و نفسيته أو ما ينقله لنا من ثقافة
الآخرين.
وأخيراً في إعادة تركيب أفكارٍ جديدة، أي ابتكار قضايا لم
يُسبق إليها، وذلك من خلال الأفكار المكتسبة من النص وربطها بالمعلومات
السابقة التي يمتلكها المدرّس والطالب.
2. المجال السلوكي الوجداني:
ويتجلى في القيم الخُلقية والاتجاهات السلوكية التي يتركها النص في
نفوس الطلاب وعواطفهم و مشاعرهم الوجدانية.
3. المجال الحركي الجسدي:
ويُلحظ في المهارات الحركية الجسدية التي يكتسبها التلميذ من
مهارةٍ قرائيةٍ لفظيةٍ، ومهارةٍ كتابيةٍ يدويةٍ، ومواقف تمثـيليةٍ ومسـرحيةٍ وخطابية ٍ ... إلخ.
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية
خصائص اللغة العربية ومزاياها
لكل لغةٍ من اللغات الإنسانية تمتاز بها عن غيرها. ولا خفاء أن
اللغة العربية أمتن تركيباً، وأوضح بياناً، وأعذب مذاقاً عند أهلها.
يقول ابن خلدون: وكانت المَلَكة الحاصلة للعرب من ذلك أحقّ الملكات وأوضحها بياناً عن المقاصد. [ابن خلدون: المقدمة، ص 546]
وقد رآها ابن فارس أنها أفضل اللغات وأوسعها، إذ يكفي ذلك دليلاً
أنّ رب العالمين اختارها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه
المبين. لذلك لا يقدر أحدٌ من التراجم أن ينقل القرآن الكريم إلى اللغات
الأخرى، كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وتُرجمت
التوراة والزبور وسائر كتب الله عز وجل بالعربية. والسبب في ذلك يعود
إلى أن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب. [ابن فارس: الصاحبي، ص 13]
وتتمتع العربية بثراءٍ عز نظيره في معظم لغات العالم، وليس أدلّ
على اتساعها من استقصاء أبنية الكلام وحصر تراكيب اللغة، وهو ما توصّل
إليه الخليل بن أحمد.
فقد ذكر في كتاب "العين" أن عدد أبنية العربية
المستعمل منها والمهمل، على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار هو 12.305.412 كلمة، في حين يرى بعض
الباحثين أن المستعمل منها لا يزيد عن ثمانين ألف كلمة. [حمادة: عجيب
اللغة، ص 44] [الصالح: دراسات في فقه اللغة العربية، ص 180]
ويراها القلقشندي اللغة التامة الحروف الكاملة الألفاظ، إذ لم ينقص عنها شيء من
الحروف فيشينها نقصانه، ولم يزد فيها شيءٌ فيعيبها زيادته، وعن كان لها
فروع أخرى من الحروف فهي راجعةٌ إلى الحروف الأصلية، وسائر اللغات فيها
حروف مولّدة وينقص حروفٌ أصلية. [القلقشندي: صبح الأعشى، 1 / 148 –
149] [يشين: من الشَّين، وهو العيب]
ويذكر السيوطي أن لغة العرب
أفضل اللغات وأوسعها، ويورد مزايا يراها دليلاً على أفضليتها، [السيوطي: المزهر، 1 / 321 وما بعدها] منها:
-كثرة المفردات والاتساع في الاستعارة والتمثيل.
-التعويض:
وهو إقامة الكلمة مقام الكلمة، كإقامة المصدر مقام
الأمر، نحو: "صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة" والفاعل مقام المصدر،
نحو: {لَيسَ لِوقعَتِها كَاذِبةٌ} أي تكذيب، والمفعول مقام المصدر،
نحو: {بِأَيَّكُم المَفتُون} أي الفتنة، والمفعول مقام الفاعل، نحو {حِجَاباً مَستُوراً} أي ساتر.
-ومنها: فكّ الإدغام، وتخفيف الكلمة بالحذف، نحو: لم يكُ ...
-ومنها: تركهم الجمع بين الساكنين، وقد يجتمع في لغة العجم
ثلاثة سواكن.
-وللعرب ما ليس لغيرهم، فهم يفرقون بالحركات وغيرها بين المعاني، يقولون: مِفتح (بكسر الميم) للآلة التي يُفتح بها، ومَفتح (بفتح
الميم) لموضع الفتح.
وقد لاحظ ابن جني أن من خصائص اللغة العربية دلالة بعض الحروف على
المعاني، حين قال: وذلك أنهم قد يُضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه
أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها، وتقديم ما يضاهي آخره، وتوسيط ما يضاهي أوسطه، سًوقاً للحرف على سَمت المعنى المقصود والغرض
المطلوب، فحرف "التاء" إذا جاء ثاني الكلمة دلّ على القطع: بتّ الحبل،
بتر العضو. وحرف "الغين" في أول الكلمة يدلّ على الاستتار والظلمة والخفاء : غابت الشمس، غاص الماء، غطس السبّاح ... إلخ.
وحرف " النون "
في أول الكلمة يدلّ على الظهور والبروز : نفث ، نفخ ، نبت ... إلخ
ومن علماء اللغة الإفرنج كان المستشرق الفرنسي " آرنست رينان
Ernest
Reanan
" قد لاحظ خصوصية العربية في نشأتها ويسرها وثباتها. فبالرغم من تعصبه
المقيت رأى أن اللغة العربية بدت فجأة على غاية الكمال، وأن هذا أغرب ما
وقع في تاريخ البشر وصعب تفسيره. وقد انتشرت هذه اللغة سلسة أي سلاسة،
غنية أي غنى، كاملة لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أي تعديل
مهمّ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، إذ ظهرت لأول مرة تامة مستحكمة. [مجلة العربي (الكويت)، عدد كانون الأول ، 1970 (مقال الدكتور محمد
محمود الدش)] [ المستشرق الفرنسي جوزيف آرنست رينان هو صاحب كتاب "موسوعة التاريخ المسيحي"]
ويقول العالم الفرنسي " مارسي " في مجلة التعليم الفرنسية ( 1930 –
1931 ): من السهل جداً تعلُّم أصول اللغة العربية، فقواعدها التي تظهر
معقدة لأول نظرة هي قياسية و مضبوطة بشكل عجيب لا يكاد يُصدق ، فذو الذهن
المتوسط يستطيع تحصيلها بأشهر قليلة وبجهد معتدل. [مجلة مجمع اللغة
العربية (دمشق) المجلد / 44 ج / 4 / 1 سنة 1969 م، ص 46 ( مقال عارف النكدي )]
أمّا المستشرقة الألمانية، الدكتورة في الفلسفة، آنا ماري شيمل
التي عدت منذ صغرها معجزة العلم، والتي وضعت المقدمة الممتعة للترجمة
الألمانية لمعاني القرآن الكريم ، فإنها تقول : و اللغة العربية لغة
موسيقية للغاية، ولا أستطيع أن أقول إلا أنها لابد أن تكون لغة الجنة. [مجلة مجمع اللغة العربية (دمشق) المجلد / 44 ج / 1 سنة 1969 م، ص 46 (مقال عارف النكدي)]
لم يكن أهل العربية من الباحثين المحدثين بأقل حماساً من غيرهم في
رصد خصائص لغتهم، فهي – في نظرهم – أرقى اللغات العالمية، كما أنها أبلغ
ما حرك به الإنسان لسانه، وهي تمتاز بمرونتها وسعة اشتقاقها. ناهيك
بدقة التعبير، إذ تجد – مثلاً – لكل لحظةٍ من لحظات الليل والنهار لفظاً
خاصاً: فالبُكرة، والضحى والغدّوة والظّهيرة، والقائلة، والعصر، والأصيل، والمغرب، والعشاء، والهزيع الأول من الليل، والهزيع الأوسط، والمُهن، والسّحر، والفجر، والشروق. فأنى للغات الأرض جميعاً مثل
هذه الدِقّة ؟!
وإذا كانت بعض اللغات تعتمد إضافة مقاطع على مفرداتها للحصول على
معانٍ جديدةٍ، فإن الأمر أكثر يسراً في لغتنا، إذ بمقدورنا الحصول على
المعاني المختلفة، لا عن طريق زيادة حرف أو أكثر على الأصل فحسـب، بل
بتحريك الأصـل بلا زيادة أو لواصـق. فمن الأصل
"عمل": عَمِلَ، عُمِلَ، عمَّل.. إلخ
وكذلك تتغير الدلالات بتغير مباني الكلمات، ويبرز مع كل تغيير
معنى جديد، نحو: قلم - قلمان - أقلام ، كاتب – كاتبة – كاتبات. وتُزاد
بعض الحروف في الأفعال الثلاثية والراعية المجردة، فتأتي في كل زيادة
بمعنى جديد، فاللازم يتحول متعدياً نحو: كَرُم _ أكرمَ _ كرّم . و يفيد
المشاركة إذا جاء على وزن " فاعل " نحو : لعبَ _ لاعَبَ. ويشتق من الأصل
أوزان جديدة، فتأتي بمعانٍ جديدة، نحو: علمَ، عالم (اسم فاعل)،
معلوم (اسم مفعول)، علاّمة) صيغة مبالغة ... إلخ.
ويؤكد الأب لويس شيخو كمالها وثراءها وثباتها، حين يقول: فإن
من يتتبع آثار لغتنا العربية، يراها في كل آنٍ مزدانة بخواص اللغات
الكاملة، من حيث مفرداتها وتراكيبها وعباراتها وأساليبها، كأنها ظهرت
بادئ ذي بدء تامة العدة كاملة الأهبة. وإذا قابلنا بين اللغة الشائعة في
يومنا مع لغة أقدم الشعراء، كامرئ القيس والنابغة، لا نكاد نرى بين
اللغتين اختلافاً يذكر، اللهم إلا في استعمال بعض ألفاظٍ لغويةٍ شعريةٍ أو
في اتخاذ بعض التعابير الجديدة دلالةً على المعاني المستحدثة كما هو دأب
اللغة الحية. [مجلة المشرق (بيروت) السنة الأولى، عدد آب 1898 م /
1316 هـ / 699]
كما لاحظ العلماء نمو اللغة العربية بأساليب مختلفة منها:
-اكتساب كثير من مفرداتها معاني جديدة، أُضيفت إلى معانيها التي
كانت في أصل الوضع، فكلمات مثل: النفس، الروح، العقل، المجد، الصلاة، الصوم، الزكاة، القراءة، الكتابة... إلخ لم تكن تعني في العصر
الجاهلي ما أصبحت تعنيه في العصر الإسلامي.
-التوليد الذاتي، قد تحدّث عنه القدماء بتحفظ وحذر، وقالوا
عنه: ما أحدثه المولدون الذين لا يحتجّ بألفاظهم. [السيوطي: المزهر، 1
/ 304] والتوليد في نظر المحدثين: هو لفظ عربي البناء أعطي في اللغة
الحديثة معنى مختلفاً عما كان العرب يعرفونه. [ظاظا: كلام العرب، ص 79] حيث فرضت المدنية الحديثة معاني جديدة على كثير من الألفاظ : كالسيّارة،
والطيارة، والهاتف، والمذياع، والحضارة، وعلم الاقتصاد ... إلخ.
ولم يكن التوليد بالوضع اللفظي فحسب، بل بالوضع المجازي: كالقوة الضاربة، والسوق السوداء، وناطحات السحاب، وغيرها كثير.
ولا ننسى التوليد بالاشتقاق،
وهو أخذ كلمة من كلمة أخرى مع
المحافظة على قرابة بينهما، لفظاً ومعنىً، مما جعل آخر هذه اللغة يتصل
بأولها في نسيج خاص بها، من غير أن تذهب معالمها ، فإذا أخذنا كلمة " كتب
" – على سبيل المثال – واشتققنا منها: كاتب، وكتاب، ومكتبة، ومكتوب، وجدنا أن الحروف الأصلية موجودة في كل كلمة من الكلمات، وأن معنىً
مشتركاً يجمع بينها، وهو الكتابة. وذلك على عكس اللغات الأوربية، حيث
لا توجد – في كثير من الأحيان – أية صلة ما بين كلمات الأسرة الواحدة،
فكاتب في الإنكليزية:
Writer، وكتاب
Book، ومكتبة
Library، ومكتوب
Letter، ويُلاحظ أن لا علاقة بين حروف هذه الكلمات.
وهذا ما جعل لغةً مثل الإنكليزية تختلف من جيل إلى آخر، ولا توجد
تلك الصلة اللغوية بين ماضيها وحاضرها، كما هو الحال في اللغة العربية.
فلغة شكسبير، وهو من أدباء القرن السابع عشر لا تكاد تُفهم عند كثيرين من
المثقفين اليوم، اللهم إلا المتخصصين في الأدب الإنكليزي. ويردّ بعض
الباحثين هذا الأمر إلى اختلاف النطق وتطوره من جيلٍ إلى جيلٍ، وإلى
نمون اللغة بطريقة غير طريقة الاشتقاق، وانقطاع الصلة بين كلمات الأسرة
الواحدة في أغلب الأحيان. [الجندي: الفصحى لغة القرآن، ص 17 (نقلاً عن
بحث لعمر الدسوقي)]
-أمّا النحت فقد عرفه العرب منذ زمنٍ بعيدٍ وسيلةً من وسائل نماء
لغتهم، إذ دمجوا كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة، تتضمن كل منها معنى
ملحوظاً في المصطلح المنحوت، وقد لجأوا إليه للاختصار وعقدوا له فصولاً
في كتبهم. والنحت عند معظم القدماء سماعي، وعدّه ابن فارس قياسياً. [ابن فارس: فقع اللغة، ص 271] ولكن ابن حيان الأندلسي قال في شرح
التسهيل: ة هذا الحكم لا يطّرد وإنما يقاس منه ما قالته العرب، مثل: حيعل (حيّ علي) وحوقل (لا حول و لا قوة إلا بالله) وسبحل (سبحان
الله) ودمعز (أدام الله عزك) .. إلخ.
ومن الأفضل لنا وللغة العربية عدم الإفراط بموضوع النحت، وأن
يراعى عند اللجوء إليه المحافظة على نسقٍ مقبولٍ لترتيب الحروف وانسجام
موزونٍ لأصواته. فإن استخدام كلمتين أو أكثر خيرٌ وأجدى إذا أدى النحت
إلى مصطلحاتٍ منحوتةٍ لا يقبلها الذوق اللغوي السليم. [مطلوب: تعريب
العلوم، ص 80 – 81]
-القياس: وهو حمل مجهول على معلوم، وحمل غير المنقول على ما
نُقل، وكان القياس وسيلة من وسائل نمو اللغة العربية وتوسعها. وإذا
كان البصريون يتشددون فيه، ولم يجيزوا القياس على الأمثلة القليلة، فإن
الكوفيين قد أجازوا على المثال الواحد المسموع. وقد أخذ بعض المحدثين
بذلك، ودعوا إلى الانتفاع بالوارد المسموع، لتمنح اللغة قوة وسعة
لمسايرة الحياة المتجددة بمستحدثاتها العلمية والحضارية. [حسن: اللغة والنحو بين القديم والحديث، ص 249] ويمكن الركون إلى هذا الرأي، خاصة وأن أبا عثمان المازني يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. [ابن جني : المصنف، 1 / 180]
ومن خصائص العربية ظاهرة الإعراب. وهذه الظاهرة – كما لاحظ ابن
جني – ليست حليةً لفظيةً أو علاماتٍ لا تفيد معنى، إذ هناك ارتباطٌ وثيقٌ
بين الإعراب والمعنى. [ابن جني: الخصائص، ص 35]
وهو كما لاحظ ابن فارس : الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ ،
و به يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام ، و لولا الإعراب ما مُيز فاعلٌ من
مفعولٍ ولا مضافٌ من منعوتٍ ولا تعجبٌ من استفهامٍ، ولا نعتٌ من توكيدٍ. [ ابن فارس : الصاحبي ، ص 42 ]
وليس أدل على علاقة الإعراب بالمعنى من تفحص آيات القرآن الكريم و
الحديث الشريف ثم الأدب – شعراً و نثراً – فنجد أن المعنى يتوقف أحياناً
على الإعراب. فعلى سبيل المثال في قوله تعالى: {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[سورة فاطر : الآية 28] وقوله {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}
[سورة البقرة : الآية 124] وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة : الآية 3]
فإن إغفال الإعراب في مثل هذه الآيات يوقعنا في تحريفٍ لمعانيها. وقد هيأ الإعراب للمتكلم الحرية، فله التقديم والتأخير، اعتماداً على
ظهور المعنى، كتقديم الخبر في مثل قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [سورة الذاريات : الآية 22] وتقديم
المفعول به على عامله، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ (5)} [سورة الفاتحة: الآية 5]
ولا تقتصر وظيفة الإعراب على أواخر الكلمات فحسب، بل تشمل أوائلها
وأواسطها أيضاً: أَكَلَ _ أُكِلَ ، سَرَقَ _ سُرِقَ ، نِعمَ _ نَعَم .
ومن المزايا التي تفردت بها هذه اللغة ما يدعونه "المثنيات التي لا تُفرد". وهي قسمان: الأول تلقيني، والثاني تغليبي، فالتلقيني هو ما إذا
أُفرد لم يفد المعنى الموضوع له في التثنية، فلا يصح إطلاقه على أحد
المسميين مثل: الثقلان (الإنس والجان) والجديدان (الليل والنهار)
قالت الخنساء: إنَّ الجَدِيدَينِ مع طُولِ اختِلافِهما لا يَفسُدانِ ولكن
يَفسُدُ النّاسُ [الخنساء: ديوان ، ص 8]
أمّا التغليبي فهو إذا ما أُفرد صحّ إطلاقه على المتغلب من الاثنين، ومن هذه المثنيات: الأبوان، القمران، العُمران، المغربان، المشرقان... إلخ وقد لاحظ الدكتور أحمد أمين أن العربية استطاعت أن تكون أداة لكل
ما نُقل عن علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم، وليس هذا فحسب بل إن
اللغة العربية انتشرت بين سكان البلاد المفتوحة، فلم يمض زمن طويل بعد
الفتح حتى رأيت رجال الكهنوت القبطي يكتبون بالعربية، وما أن انقضت سنوات
قليلة على فتح إسبانيا حتى أخذ الناس هناك ينسخون الكتب اللاتينية بحروف
عربية، ثم ترجمت التوراة والقوانين الكنسية إلى العربية ليتمكن رجال
الدين أنفسهم من فهمها. وبعد مضي نصف قرن من الزمن على الفتح الإسلامي،
أصبح الناس كلهم يتكلمون العربية، واتخذ النصارى من هذه اللغة ترجماناً
لعواطفهم وقلوبهم. [أمين: ضحى الإسلام، 1 / 289 – 290]
ولا ننسى أن النهضة الأوربية التي نتمسك بأذيالها اليوم، ما كان
لها أن تكون في الزمن الذي جاءت فيه، لولا اللغة العربية التي نقلت لهم
قسماً من فلسفة اليونان وعلومهم، كما نقلوا عنها ما أنتجه علماء المسلمين
من علوم: الحساب والهندسة والكيمياء والفلك والطب التي ظلت تعلم في
معاهدهم وجامعاتهم إلى عهد قريب.
كما لاحظ عباس العقاد أن من صفات الحروف العربية توزعها في أوسع
مدرج صوتي عرفته اللغات، بالإضافة إلى أن أبجديتها ليست أكثر عدداً من
الأبجديات في اللغات الهندية والجرمانية أو اللغات الطورانية أو اللغات
السامية، فإن اللغة الروسية – مثلاً – تبلغ 35 حرفاً. وعلاوة على ذلك
فإن الخصائص الصوتية للحروف العربية تؤكد ثباتها، فبالرغم من التشويه والتحريف الذي طرأ على الحروف في اللهجات العامية، فإن الحروف ما زالت كما
كانتا منذ أربعة عشر قرناً. [السامرائي : آراء في العربية ، ص 45]
وفي حين هناك صوت لكل حرف في اللغة العربية لا يتغير باختلاف موقعه
من الكلمة، نرى أحرف الهجاء في كثير من اللغات لا تمثل جميع الأصوات في
اللغة، فالإنكليزية – مثلاً – تتألف من أربعين صوتاً ولكن حروف هجائها
ستة وعشرون حرفاً. فهي تعرف "الثاء" ولكن ليس هناك حرف واحد يرمز إلى
هذا الصوت، بل يلجأون إلى استعمال "Th "، وكذلك حرف "الذال" فإنه يرد في كلمة "
Father " أي أن "
Th
" لفظت " ذالاً " و هناك "
Sh
" فإنها ترمز إلى حرف " الشين " الذي ليس له حرف واحد يرمز إليه. وحرف "
C " يلفظ أحياناً كافاً "
Car
" وأحياناً سيناً "
Center " وأحياناً شيناً "Pacient" وحرف "
S " يلفظ أحياناً سيناً "Sun"، وأحياناً زاياً "Please " وأحياناً جيماً "Pleasure" .. إلخ [راجع مجلة: الأبحاث ( بيروت ) حزيران، 1948 ( مقال الدكتور
أنيس فريحة)]
وإذا كان من مشكلات الحرف العربي أن هناك حروفاً متحدة بالشكل
العام، ولكنها تمتاز عن بعضها بعدد النقط، فيؤدي الأمر إلى "التصحيف"
أي أن تقرأ الكلمة على وجوه متعددة ، فالواقع أن مشكلات الحروف لا تقتصر
على العربية وحدها ، فحروف المد في الإنكليزية:
a , e , i , ou
, ie , io , ei , ea , ee
يختلف فيها النطق بها بدون سبب معقول، وحرف "
O
" يلفظ بصوتين في "
Do " – " Go". وكذلك الحرفان "
ow " في "
Bow " – " How
" . والحرفان "
Ch " في "
School " – "
Church
" . والمخارج الصوتية للحرفين "
ou
" كما في "
out" – " Four
" – " Trouble " – " Tkrought " – " Thing" ، وحيناً ذالاً كما في "
The " – " This
"، والألفاظ التالية تختلف كتابتها، مع أن مخارج ألفاظها واحدة: "Their"
،
There"
،
Hair". [السامرائي: آراء في العربية، ص 118 – 119]
ولا تزدحم أصوات الحروف في اللغة العربية على مخرج واحد كما تزدحم
الفاء والفّاء "
F " – " V " ، والباء والبّاء "
B " – " P". وإذا كان بعضهم يرى أن أصواتها التي تطلقها حناجر أهلها تنقص بعض
أصوات لأصحاب لغات أخرى، كالباء الثقيلة، والغين الثقيلة، وحرف العلة
بين الواو والياء، فإن من خصائصها أن أحرف " الحاء، والضاد، والطاء"
لم تكن إلا فيها.
أمّا ما يشاع حول صعوبة العربية فمزاعم باطلة في منطلقاتها و
أهدافها. إذ لدى النظر الفاحص – البعيد عن الهوى – نجد كثيراً من الصعوبات
التي يتحدثون عنها هي مصدر ثرائها وأصالتها و تكاملها. علماً أنه لا حاجة
للإنسان العادي أن يكون عالماً بكل جوانبها، فهناك موضوعات يُترك أمر
التعمق فيها لعلماء العربية ولذوي الاختصاص فيها.
ولعل من الصدق بمكان أن نقول: إن من خصائص العربية السهولة، فهي
هجائية في كتابتها ، فيسهل إملاؤها، وغير الهجائي فيها يخضع لقواعد
قياسية ثابتة ، أمّا الإنكليزية فلا تكتب كما تنطق ، فهناك الحروف الزائدة
في كثير من الكلمات، حتى أن متعلم هذه اللغة يضطر إلى حفظ الكلمة وحفظ
صورتها في الرسم. وهذا الأمر لا يقتصر على اللغة الإنكليزية فحسب، بل
ينطبق على الفرنسية والإيطالية وغيرهما من اللغات الأخرى. [مجلة مجمع
اللغة العربية (دمشق) المجلد / 43 ، سنة 1968 (مقال عارف النكدي) وتتجلى سهولتها أيضاً في تصريف أفعالها الثلاثة، وهي تقتصر على: الماضي،
والمضارع، والأمر، بينما تبلغ الصور التصريفية لأفعال اللغة الفرنسية
خمس عشر صورة، منها خمس للماضي وحده.
وهي لغة قياسية في قواعدها، والجوازات فيها للتيسير لا للتعقيد،
والشواذ لا يقاس عليها، ولا يحكم على صعوبة اللغة من خلالها. وقد لاحظ
واصف بارودي الاطّراد في تصريف الأفعال، فليس من أفعالها ما يتصرف تصرفاً
شاذاً، إلا في القليل النادر، بينما يوجد في الفرنسية المئات من الأفعال
التي يتصرف كل منها \تصرفاً شاذاً خاصاً به ولا يخضع لقاعدة أو قياس، وإنما يجب أن تحفظ صورها الصوتية والكتابية. [بارودي: مقالات التربية والتعليم، مجلة التعليم العام الفرنسية، عدد / 12، 1930، ص 402، (مطبعة الكشاف 1933)]
أمّا اللغة الصينية فلا تملك حتى اليوم أبجدية تقيم
عليها لغتها. والحروف الصينية ما هي إلا رسومات تصل إلى أربعة آلاف شكل،
هي أقرب – في شكلها – إلى الخطين المسماري والهيروغليفي القديمين.
وتعد اللغة الألمانية من أصعب اللغات في أوربا الوسطى، فهي تشتمل
على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن قواعد اللغة العربية. [السامرائي: آراء في العربية، ص 69] ومع ذلك لم نسمع أن أصحاب هذه اللغات يشكون من
صعوبة لغاتهم أو تقديم اللغات الأجنبية عليها، كما لم تُقدم هذه الدول على
استبدال حروف لغتها بألفباء أجنبية عنها.
وإذا كان بعض علماء اللغات قد انشغلوا في المفاضلة بين لغة وأخرى
في أوائل القرن العشرين، فإن انشغالهم كان في العرض دون الجوهر، أي أن
جلّ اهتمامهم دار في نطاق النظام اللغوي – الصوتي والصرفي والنحوي – في
حين أن الأمم الراقية تتفاضل وتتنافس بعقائدها وقيمها الإنسانية، وبأنظمتها السياسية والاجتماعية و الاقتصادية. ومن هنا كان ميزان التفاضل
بين اللغات ينبغي أن يكون فيما تحمله في أحشائها من مضامين وأفكار، ثم
ينظر في أمر أوعيتها الخارجية.
أمّا ميزان المفاضلة بين الشعوب والأمم والأفراد فقد جاء القول الفصل فيه حين قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [سورة
الحجرات : الآية 13]
وخلاصة القول يتلخص فيما رآه ابن حزم الأندلسي من أن العربية
استمدت قوتها من قوة الدول الإسلامية، إذ اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط
دولة أهلها ودخول غيرهم عليها في أماكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها و
نشاط أهلها. وأمّا من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واستقلوا
بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون فيهم موت الخاطر. [ابن حزم: الأحكام في أصول الأحكام، 1 / 32]
ولعل خير ما نختم به هذا الفصل قول
الثعالبي: إن من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه و سلم، ومن
أحب النبي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل أفضل
الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها و ثابر عليها، وصرف همته إليها. [الثعالبي : فقه اللغة و سر العربية ، ص2]
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية
اللغة العربية.. التحديات والمواجهة
بقلم
فضيلة الشيخ: أ.
سالم مبارك الفلق
الحمد لله الذي رفع هذه اللغة وأعلى شأنها، حيث أنزل بها خير كتبه
وأفضلها، والصلاة والسلام على أفصل الأنبياء وخاتم المرسلين، نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أمَّا بعد:
فلغتنا العربية هي ركن ثابت من أركان شخصيتنا، فيحق لنا أن نفتخر
بها، ونعتز بها، ويجب علينا أن نذود عنها ونوليها عناية فائقة. ويتمثل
واجبنا نحوها في المحافظة على سلامتها وتخليصها مما قد يشوبها من اللحن
والعجمة وعلينا أن لا ننظر إليها بوصفها مجموعة من الأصوات وجملة من
الألفاظ والتراكيب. بل يتعين عينا أن نعتبرها كائنًا حيًا، فنؤمن بقوتها
وغزارتها ومرونتها وقدرتها على مسايرة التقدم في شتى المجالات كما تعد
مقومًا من أهم مقومات حياتنا وكياننا، وهي الحاملة لثقافتنا ورسالتنا
والرابط الموحد بيننا والمكون لبنية تفكيرنا، والصلة بين أجيالنا، والصلة
كذلك بيننا وبين كثير من الأمم .
إنَّ اللغة من أفضل السُبل لمعرفة شخصية أمتنا وخصائصها، وهي الأداة
التي سَجلت منذ أبعد العهود أفكارنا وأحاسيسنا. وهي البيئة الفكرية التي
نعيش فيها، وحلقة الوصل التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنَّها تمثل
خصائص الأمة واستطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أمم شتى
كان العرب نواتها الأساسية والموجهين لسفينتها.
ما اللغة:
-لقد اختلف العلماء في تعريف اللغة ومفهومها، وليس هناك اتفاق شامل
على مفهوم محدد للغة ويرجع سبب كثرة التعريفات وتعددها إلى ارتباط اللغة
بكثير من العلوم، فانتقاء تعريف لها ليس بالعملية اليسيرة منها على سبيل
المثال لا الحصر:-
1-يُعرفها ابن جني [1] بقوله: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل
قوم عن أغراضهم".
2-اللغة نظام من الرموز الصوتية الاعتباطية يتم بواسطتها التعارف
بين أفراد المجتمع، تخضع هذه الأصوات للوصف من حيث المخارج أوالحركات التي
يقوم بها جهاز النطق، ومن حيث الصفات والظواهر الصوتية المصاحبة لهذه
الظواهر النطقية[2] .
3-ظاهرة اجتماعية تستخدم لتحقيق التفاهم بين الناس [3].
4-صورة من صور التخاطب سواء كان لفظيًا وغير لفظي.
5-اللغة كما يقول ( أوتويسبرسن ): نشاط إنساني يتمثل من جانب في
مجهود عضلي يقوم به فرد من الأفراد ، ومن جانب آخر عملية ادراكية ينفعل بها
فرد وأفراد آخرون.
6-اللغة نظام الأصوات المنطوقة.
7-اللغة معنى موضوع في صوت ونظام من الرموز الصوتية [4].
8-ادوارد سابيير: اللغة وسيلة إنسانية خالصة، وغير غريزية إطلاقا،
لتوصيل الأفكار والأفعال والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة
إرادية [5].
9-انطوان ماييه: إن كلمة ( اللغة ) تعني كل جهاز كامل من وسائل
التفاهم بالنطق المستعملة في مجموعة بعينها من بني الإنسان بصرف النظر عن
الكثرة العددية لهذه المجموعة البشرية وقيمتها من الناحية الحضارية.
10-اللغة نشاط مكتسب تتم بواسطته تبادل الأفكار والعواطف بين
شخصين وبين أفراد جماعة معينة، وهذا النشاط عبارة عن أصوات تستخدم وتستعمل
وفق نظم معينة .
واللغة نعمة من الله -عزّ وجل- للإنسان مثله مثل كل الحيوانات التي
تمتلك نظامًا من الرموز والإشارات للتفاهم فيما بينها. فيقال: لغة الحيوان،
ولغة الطير، ولغة النبات، قال تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾
[النمل:16] ولكن لغة الإنسان تتميز بأنها ذات نظام مفتوح بينما الحيوانات
الأخرى نظامها التعارفي نظام مغلق.
وظائف اللغة:
-[6]يتفق أغلبية علماء اللغة المحدثين على أنَّ وظيفة اللغة هي:
التعبير والتواصل والتفاهم رغم أنَّ بعضهم يرفض تقييد وظيفة اللغة بالتعبير
والتواصل؛ فالتواصل إحدى وظائفها إلا أنَّه ليس الوظيفة الرئيسة .
«وقد حاول "هاليداي"
halliday تقديم حصر بأهم وظائف اللغة فتمخضت محاولاته عن الوظائف الآتية:
1-الوظيفة النفعية (الوسيلية):
-وهذه الوظيفة هي التي يطلق عليها "أنا أريد" فاللغة تسمح
لمستخدميها منذ طفولتهم المبكرة أن يُشبعوا حاجاتهم وأن يعبروا عن رغباتهم.
2-الوظيفة التنظيمية:
-وهي تعرف باسم وظيفة "افعل كذا، ولا تفعل كذا" فمن خلال اللغة
يستطيع الفرد أن يتحكم في سلوك الآخرين، لتنفيذ المطالب والنهي، وكذا
اللافتات التي نقرؤها، وما تحمل من توجيهات وإرشادات.
3-الوظيفة التفاعلية:
-وهي وظيفة "أنا وأنت" حيث تستخدم اللغة للتفاعل مع الآخرين في
العالم الاجتماعي باعتبار أنَّ الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع الفكاك من
أسر جماعته، فنستخدم اللغة في المناسبات، والاحترام، والتأدب مع الآخرين.
4-الوظيفة الشخصية:
-من خلال اللغة يستطيع الفرد أن يعبر عن رؤياه الفريدة، ومشاعره
واتجاهاته نحوموضوعات كثيرة، وبالتالي يثبت هويته وكيانه الشخصي ويقدم
أفكاره للآخرين.
5-الوظيفة الاستكشافية:
-وهي التي تسمى الوظيفة "الاستفهامية" بمعنى: أنه يسأل عن الجوانب
التي لا يعرفها في البيئة المحيطة به حتى يستكمل النقص عن هذه البيئة.
6-الوظيفة التخيلية:
-تتمثل فيما ينسجه من أشعار في قوالب لغوية، كما يستخدمها الإنسان
للترويح، ولشحذ الهمة والتغلب على صعوبة العمل، وإضفاء روح الجماعة، كما
هوالحال في الأغاني والأهازيج الشعبية.
7-الوظيفة الإخبارية (الإعلامية):
-باللغة يستطيع الفرد أن يتقل معلومات جديدة ومتنوعة إلى أقرانه، بل
ينقل المعلومات والخبرات إلى الأجيال المتعاقبة، وإلى أجزاء متفرقة من
الكرة الأرضية خصوصًا بعد الثورة التكنولوجية الهائلة . ويمكن أن تمتد هذه
الوظيفة لتصبح وظيفة تأثيرية، اقناعية ؛ لحث الجمهور على الإقبال على سلعة
معينة والعدول على نمط سلوكي عير محبب.
8-الوظيفة الرمزية:
-يرى البعض أنَّ ألفاظ اللغة تمثل رموزًا تشير إلى الموجودات في
العالم الخارجي، وبالتالي فان اللغة تخدم كوظيفة رموزية» [7]
واللغة كالكائن الحيّ، فهي تنمو وتترعرع وتشب وتشيخ وقد تموت إذا لم
تتوفر لها عوامل الديمومة والاستمرار، مرهونة في ذلك بتنوع الأوضاع
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية. فعندما يتطور المجتمع حضاريًا
وإنتاجيا تتطور اللغة والعكس. فهي في الطور البدوي تختلف عنها في المدنية
والحضارة، وهي في أهل الصحراء خلافها في الجبال والسهول .
نشأة اللغة:
-أمَّا حول أصل نشأة اللغة وما يتصل بهذه النقطة من موضوعات فكرية
فلن نخرج منها بكثير فائدة، وقد تصدى للبحث فيها كثير من الفلاسفة
والمتكلمين واللغويين، وذهبوا في البحث مذاهب شتى: فهذا يقول مصدرها
التوقيف من الله، وذلك يقول مبدؤها الطبيعة، وآخر يقول منشؤها الاصطلاح
والتواطؤ. ويكفينا هنا أن نعلم أنَّ هناك نظريات متعددة حول نشأة اللغة،
أشهرها أربع نظريـــــات:
1- نظرية التوقيف: قال بها أفلاطون وأبوعلي الفارسي، وابن حزم، وابن
قدامة، وأبوالحسن الأشعري، والآمدي، وابن فارس ومعظم رجال الدين ، ويستدلون
بقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَ﴾ [البقرة:31]. وبما
جاء في سفر التكوين (( وجبل الربّ الإله كل حيوانات البرية، وكل طيور
السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، فكل ما دعا به آدم من ذات نفس
حيّة فهواسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء، وجميع حيوانات
البرّيّة )) الإصحاح الثاني عشر آية (19/20).
2- نظرية المواضعة والاصطلاح: قال بها سقراط، وديمقريط، وآدم سميث،
ومن العرب أبوالحسن البصري، وأبوإسحاق الاسفراييني، والسيوطي، وابن خلدون.
3- نظرية المحاكاة: تعني أن يحاكي الإنسان ما حوله في الطبيعة من الظواهر، وأول
من أشار إلى ذلك ابن جني في الخصائص ثم قال: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب
متقبل [8] "، ولكنه لم يستقر على هذا الرأي أيضًا بعد أن ناقش
الرأيين السابقين، والأسلم ألَّا ننسب الرجل إلى مذهب بعينه من المذاهب
الثلاثة.
4- نظرية الغريزة: يريدون أنَّ الله زوّد الإنسان بآلة الكلام، وبجهاز للنطق، فهوحتمًا سينطق شاء أم أبى .
والحديث في أصل نشأة اللغة -على رأي حجة الإسلام الإمام الغزالي-
فضول لا أصل له وكأنه يدعو إلى الانصراف عنه إلى معالجة اللغة بوصفها حقيقة
واقعية في وضعها الراهن، وهذا التوجه من الإمام الغزالي ينسجم تمامًا مع
توجه علم اللغة المعاصر الذي أخرج هذه القضية من نطاق مباحث علم اللغة.
العربية لغة مقدّسة:
-العربية لغة القرآن الكريم، وهومهيمن على ما سواه من الكتب الأخرى،
وهذا يقتضي أن تكون لغته مهيمنة على ما سواها من اللغات الأخرى. وهي لغة
خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله للبشرية جمعاء، واختار الله له اللغة
العربية، وهذا يعني صلاحيتها لأن تكون لغة البشرية جمعاء. قال تعالى:
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿192﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ ﴿193﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴿194﴾
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء:192-195] فلما وصفها الله بالبيان
عُلِمَ أنَّ سائر اللغات قاصرة عنها، وهذا وسام شرف وتاج كلل الله به مفرق
العربية، خصوصًا حين ناط الله بها كلامه المنزل، قال تعالى:- ﴿إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف:3] وقال
تعالى :- ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت:3] . وقال تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر:28].
إنَّها لغة الخلود حيث لا يمكن أن تزول عن الأرض إلا أن يزول هذا
الكتاب المنزّل، وقد تكفل الله بحفظها ضمنيًا في قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر:9]
ومن الطريف ما ذكره محمد الخضر حسين حيث قال: « "جون فرن" قصة
خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية حتى يصلوا ويدنوا من
وسطها، ولمَّا أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم هنالك أن يتركوا أثرًا
يدل على مبلغ رحلتهم فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولمَّا سئل
جون فرن عن اختياره للغة العربية، قال: انَّها لغة المستقبل، ولاشك أنَّه
يموت غيرها، وتبقى حية حتى يرفع القرآن نفسه» [12].
فضل تعلّم العربية:
-يرى كثير من العلماء أنَّ الكلام بغير العربية لغير حاجة قد يورث
النفاق، لا نعجب إذا علمنا أنَّ مِنَ العلماء مَن أوجب تعلم العربية
وإتقانها، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تعلموا العربية فإنها من
دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم"، وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن
يتكلم بغيرها، وقال ابن تيمية: "إنَّ اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض
واجب، لأن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بالعربية، وما لا يتم
الواجب إلا به فهوواجب", وقال ابن فارس: "لذلك قلنا: إنَّ علم اللغة
كالواجب على أهل العلم لئلا يحيدوا في تأليفهم وفتياهم"[13]
وقال أبوهلال
العسكري: "فعلم العربية على ما تسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجماله
في دنياه، وكمال آلته في علوم دينه"
وفي ما خلَّفه لنا علماء العربية دليل على فضلها، فما خلفه ابن جني
الذي كان متمكنًا من اليونانية لأنه رومي، وما خلفه أبوعلي الفارسي الذي
كان متمكنًا من الفارسية مع أنَّ الرومية والفارسية كانتا أزهى لغتين في
زمانهما بعد العربية وكذلك كان شأن الكثير من سلف الأمة، حتى أثر عن أبي
الريحان البيروني قوله: "لأن أشتم بالعربية خير من أن أمدح بالفارسية".
قال المستشرق "أرنست رينان" في كتابه "تاريخ اللغات السامية": "من
أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال عند أمة من
الرحل, تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام
مبانيها ..".
وقال المطران يوسف داءود الموصلي: "من خواص اللغة العربية وفضائلها
أنها أقرب سائر اللغات إلى قواعد المنطق، حيث أنَّ عباراتها سلسة طبيعية,
يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريد من دون تصنع وتكلف"
[14].
هكذا فعل سلفنا الصالح في خدمتهم للغة القرآن أحبوها حبًا عظيمًا،
ووهبوا لها نفوسهم، فنقحوها ووضعوا قواعدها وأصَّلوا نحوها وصرفها حتى بلغت
درجة الكمال والصفاء، أما نحن عرب عصر التكنولوجيا والاختراقات الفضائية
والثورة المعلوماتية فقد فشا فينا التخاذل والتكاسل والتقاعس فكنا كقول
أحدهم: "فخلف من بعد السلف خلف تنكروا للغتهم واحتقروها، ونظروا إليها نظرة
ازدراء واتهموها بالعجز والقصور وعدم صلاحيتها للعصر".
واجبنا تجاه العربية:
-إنَّ خدمتك للغة العربية تعني خدمتك للقرآن ولومن وجه بعيد. وإنَّ
السلف الصالح ما قصروا في خدمتها حيث جاهدوا بالجهد والمال والوقت لخدمة
لغة القرآن، عكفوا على تعلمها لما لها من مكانة مقدسة في نفوسهم، غاروا
عليها، وغاروا على بيانها المعجز أن تُدنسه عجمة الأعاجم ولوثة الإفرنج؛
فقضوا سني حياتهم في تقعيدها وإشادة أركانها ورسم أوضاعها.
ولعل أقل ما نعمل أن ننشر هذه الكتب المخطوطة التي تقبع في متاحف
العالم وأن ننفض عنها غبار الزمن، حيث أنَّ هناك حوالي مليون مخطوطة عربية
موزعة في كافة أرجاء العالم (( ففي تركيا 155أ لف مجلد / وروسيا 40 ألف
مجلد / والعراق والمغرب 35 ألف مجلد / وتونس 25 ألف مجلد / وبريطانيا
وسوريا 20 أ لف مجلد / والولايات المتحدة 15 ألف مجلد / والهند والسعودية
15 ألف مجلد / يوغسلافيا فيها 14 ألف مجلد / فرنسا 8500 مجلد / اليمن
10 ألف مجلد / إيطاليا والفاتيكان 7500مجلد . تضاف إلى هذا بلدان تحتفظ بما
يقارب 7500 مجلد ليصل الرقم إلى ما يقارب مليون مخطوطة عربية ناجية ما تزال
موزعة في أرجاء الكرة الأرضية . ))[15] .
كذلك ينبغي إغناء المكتبة العامة بالمؤلفات التي تحث على كيفية تعلم
العربية وتسهيل تعلمها للناطقين بها ولغير الناطقين بها، بالإضافة إلى
استغلال الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة إلى أقصى حد ممكن لخدمة
العربية .
إنَّ من أكبر مصائب الأمة أن يكون تعليمها بغير لغتها، وتفكيرها
بغير أدواتها، وقياس حاضرها يكون بمعايير وضوابط حضارية غريبة عنها،
والحالة هذه من التخاذل والتكاسل والتبعيّة.
وقد واجهت العربية مجموعة من التحديات والمصاعب وقفنا منها موقف
المتفرج، إن لم نكن شاركنا فيها من طرف خفي. وقد آن الأوان أن نفضح خطط
الأعداء، ونكشف عن نياتهم الخبيثة، ونثبت للعالم أنَّ هذه اللغة ثرية غنية
باقية فنرعاها حق الرعاية ولا ندعها تتعرض للتقويض والانهيار والغزو اللغوي
الشرس من الداخل والخارج.
مراجع:
[1]الخصائص أبوالفتح ابن جني ج/1ص/33 عالم الكتب تح/ محمد علي النجار
[2]في
التحليل اللغوي د/ خليل احمد عمايرة مكتبة المنار ط/1 /1987م
[3]سيكولوجية
اللغة والمرض العقلي د/ جمعة سيد يوسف ص/ 51 سلسلة عالم المعرفة
145/1/1990م
[4]سيكولوجية
اللغة والمرض العقلي د/ جمعة سيد يوسف ص/ 56 سلسلة عالم المعرفة
145/1/1990م
[5]الارتقاء
بالعربية في وسائل الإعلام ص/47 سلسلة كتاب (الأمة) ع/84رجب1422هـ
[6]سيكولوجية
اللغة والمرض العقلي د/ جمعة سيد يوسف ص/22 وما بعدها بتصرف . سلسلة عالم
المعرفة 145/1/1990م
[7]سيكولوجية
اللغة والمرض العقلي د/ جمعة سيد يوسف ص/22 وما بعدها بتصرف . سلسلة عالم
المعرفة 145/1/1990م
[8]الخصائص
ج/1 ص/47
[9]مهد
الإنسان العربي نظرية تحتاج إلى تأصيل د/ محمود عبد الحميد أحمد مجلة
العربي ع/472/مارس1998م ص/115
[10]الكتابة
الطينية من الرقم الطينية إلى الحجارة فالورق محمد الأسعد ص/46 مجلة الكويت
ع/200 / 1/6/2000م
[11]حصوننا
مهددة من داخلها د/ محمد محمد حسين ص/ 245 ط/5/1978/ المكتب الإسلامي .
[12]القياس
في اللغة العربية محمد الخضر حسين ص/12 ط/2/1983م دار الحداثة .
[13]الصاحبي أحمد بن فارس ص/55 تح/ السيد احمد صقر
[14]القياس
في اللغة العربية محمد الخضر حسين ص/ 18
[15]الكتابة
الطينية من الرقم الطينية إلى الحجارة فالورق محمد الأسعد ص/46 مجلة الكويت
ع/200 / 1/6/2000م.
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية
بأي لغة عربية نكتب؟
بقلم
الكاتب:
نبيل
عودة
في حوار مع زميل لي، أديب مخضرم ... حول لغة الكتابة الأدبية،
وبالتحديد اللغة الروائية، جزم بان ما اتفق على تسميتها ب " لغة الصحافة "
لا تنفع كلغة للكتابة الروائية.
هذا الحوار يتردد بصيغ مختلفة، حول مجمل الكتابة باللغة العربية.
أوضحت ان للجملة الروائية أو القصصية ، كما للشعر، مميزات خاصة بها، تختلف عن المقالة أو الخبر، ان كان بطريقة تركيبها،
أو وضعها بالسياق
النثري. ولكن الكلمات تبقى هي نفسها.
زميلي أضاف انه يقصد ان مفردات لغة الصحافة ، هي مفردات غير أدبية
ولا تصلح لخلق ابداع أدبي فني، رواية مثلا...
سألته : وهل نستطيع بلغة الجاحظ ان نكتب اليوم ابداعا أدبيا ...
رواية مثلا ... ؟
هذا ذكرني بالنقاش القديم والرائع بين العملاقين الخالدين ،
الأديب الموسوعي مارون عبود ، والشاعر الكبير نزار قباني، يوم تمسك مارون
عبود بالشكل الكلاسيكي للقصيدة ، وأصر نزار قباني على الشكل الحديث ، في
حوار من أجمل وارقى ما قرأت في ثقافتنا العربية .
لم يكن النقاش مجرد خلاف على الشكل . . انما تضمن أيضا لغة القصيدة
، ومعروف ان نزار قباني هو الشاعر العربي الذي جعل الشعر في متناول وفهم
حتى أبسط الناس . فهل نستطيع ان نقول ان لغة نزار قباني الشعرية هي لغة "
غير أدبية " لأنها قريبة جدا من لغة الصحافة ،أو هي لغة الصحافة نفسها؟ هي
بلا شك لغة بسيطة بمفرداتها ، متدفقة كالماء بصياغاتها ، وهي من النوع الذي
اتفق على تسميته بالسهل الممتنع . ان شاعرية نزار فوق أي نقاش ،ولا أظن انه
يوجد شاعر مقروء في العالم العربي أكثر من نزار قباني .. حتى شاعر عملا ق
آخر مثل العراقي مظفر النواب ، أذهلنا بشاعريته ، ووضوح صياغاته وسهولة
الاندماج مع أجوائه بلغته العادية وغير المعقدة رغم ثراء لغته ومفرداته
وعالمه التراثي الواسع ... وهي اللغة العربية التي يسميها البعض " لغة
الصحافة " بسبب مفرداتها وصياغاتها السهلة التي لا تحتاج " لمفسر أحلام
أدبي " ليشرحها للقراء .
حين سألت زميلي اذا كانت لغة الجاحظ تلائم الطلب ، لم أقصد ان "
الموروث " ، كما يحلو للبعض تسميته... انتهى دوره ، انما عنيت ان لكل عصر
لغته وسماته ومميزاته ، التي تتأثر بالحديث ( من الحداثة ) وتتطور دون
انقطاع ، ودون تصادم ، مع القديم ، وان مفردات لغة عصر مضى ، لا تلائم
مفردات اللغة في عصر آخر أحدث ، على الرغم من انها تنبع منها وتتطور على
اساسها. كذلك الأمر بالنسبة لاسلوب الصياغة .
هذا النقاش العابر ، اثار في ذهني قضايا لغوية متعددة ، وجعلني أعيد
التفكير في بعض المسلمات التي كانت تبدو واضحة وثابتة ، ولا تستحق التفكير
، واثارت في ذهني مسائل أخرى أوسع من نطاق اللغة ، وكنت قد طرحت مواقفا
مختلفة حول اشكاليات لغتنا وواقعها الصعب في داخل اسرائيل ، وارتباط بعض
اشكالياتها بالواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للعرب الفلسطينيين مواطني
اسرائيل . ولكن هناك موضوع ترددت كثيرا في خوضه ، ليس لحسابات تتعلق بردود
الفعل السليبة التي قد اواجهها من بعض المتثاقفين ، الذين لا يرون في
مداخلاتي الا خطأ لغويا عابرا في صياغة جملة ما ، ويتجاهلون ما أطرحه من
فكر يستحق النقاش والاختلاف في الرأي ، والتفكير والاجتهاد لفهم الاشكاليات
الصعبة ، وطرق تجاوز حواجز "حرس حدود" اللغة ، الرافضين لأي تطوير وتزحزح
عن المحنطات اللغوية.
هل يمكن ان نخضع لسيبويه والكسائي الى أبد الآبدين ؟
هل كان يمكن ان يصبح نزار قباني الشاعر الأكثر قراءة وتأثيرا لو لم
يصر على نهجه الحداثي لغة واسلوبا وأفكارا ؟
هل يوجد في اللغة العربية لغة فصحى كلاسيكية ، ولغة فصحى أخرى
حديثة ؟ أم ان الفصحى هي فصحى واحدة تتطور وتتعدل حسب الظروف الحياتية
والواقع الاجتماعي والاقتصادي المتحرك ؟!
معروف انه يوجد نقاش لم ينته بين مؤيدي الكتابة بالفصحى ومؤيدي
الكتابة بالعامية، وهناك اتجاه ثالث ، وسطي ، ينادي بتقريب الفصحى للعامية
، وتقريب العامية للفصحى( تفصيحها) !!
لا يمكن برايي نفي مروث اللغة العامية وتعابيرها المفعمة بالدقة
والحرارة ، والتي لا بديل لها أحيانا بالفصحى.
كذلك لا يمكن القول ان تراثنا بلغته ومفرداته لم يعد ذا اهمية. اذ
لا شيء يتطور من العدم . اما مدى العلاقة الدينامية ، بين الموروث والحديث
، بين اساليب التعبير القديمة وأساليب التعبير الحديثة ، بين اساليب
الصياغة القديمة ، وأساليب الصياغة الحديثة ، فتلك برأيي تبقى مسالة
للغويين ، وليست لنا نحن الكتاب والشعراء وسائر المبدعين ...
للأديب مهمة محددة ، كما افهم ... ان ينقل بشكل فني ما يراوده من
أفكار وصور، وبلغة تتلاءم مع زمانه ومكانه ، دون التقيد باهلية هذه
المفردات أو عدم أهليتها ، لأنه عندما نتحول من الابداع في لحظة نشوة ، الى
البناء المحسوب بمقاييس لغوية متزمتة ، عندها لن ننتج أدبا وفنا انما
فذلكات ذات شكل لغوي بلا مضمون فني ، وبلا حياة !!
وأعود للبداية : ما هي لغة الصحافة ؟!
هل هي نبتة غريبة في بستان اللغة العربية ؟
هل هي لغة اخرى دخيلة على لغة الضاد ؟
انا أحدد واعرف بنفس الوقت ، ان لغة الصحافة ، هي اللغة ذات
المفردات الأكثر استعمالا وفهما في محيط اللغة العربية الواسع .
هل هذا ينفي تطوير مفردات جديدة ؟ أو الاستفادة من مفردات كلاسيكية
تعبر بشكل أدق وأجمل عما نريد قوله ، وبشكل بعيد عن التعقيدات ، والفذلكات
اللغوية ؟!
أحاول هنا ان أحدد فهمي للموضوع برمته ، ربما هذه التسمية " لغة
الصحافة " هي تسمية خاطئة، ولا تعبر تماما عن الواقع . انا أميل لتسميتها ب
" الفصحى السهلة "... أو " الفصحى الحديثة " كمميز لها عن الفصحى
الكلاسيكية. وفي الوقت نفسه أرى ان اللغة في كل زمان ومكان يتحدد شكلها
وثروة مفرداتها ، حسب معطيات العصر نفسه .
حاولوا ان تكتبوا عن واقع العراق المأساوي بصياغات ومفردات واسلوب
الجاحظ . . أو عبدالله بن المقفع ... او حتى طه حسين الأكثر حداثة .
خذوا قصة أو رواية لكاتب ما ، حنا مينا مثلا ... وحاولوا ان تبدلوا
مفرداتها بمفردات كلاسيكية، او ان تصيغوا النص باسلوب كلاسيكي ...
هل ستحصلون على مبنى روائي أجمل وفنية أرقى ، ولغة أبعد تأثيرا ؟!
لا شك عندي من عبث المحاولات.
ان فنية العمل ، لا علاقة لها بمدى ضلوع الأديب بنحو اللغة
وقواعدها، اللغة جهاز ( اداة ) اساسي وضروري ولا ابداع بدونه . اما الالمام
علميا بتفاصيلها وقواعدها ، فهو عامل ايجابي ، ولكنه ليس العنصر الاساسي
للابداع الفني ، وبالطبع تبقى المسألة نسبية .
ان اللغة جسم حي ومتطور باستمرار ، ولكل عصر لغته ، مفردات ومعان
ومناخ ثقافي وفكري، وما يسمونها اليوم " لغة الصحافة " هي في الحقيقة اللغة
الفصيحة السهلة المعاصرة الأكثر سرعة في التكيف مع الواقع .
وكما اننا لا يجوز ان ننقطع عن الموروث اللغوي والثقافي ، فلا يجوز
كذلك ان يقف الموروث حاجزا أمام التطور الدائم للغة.
من هنا نصل الى سؤال هام : هل اللغة وسيلة أم غاية ؟
أثناء قراءتي لكتاب " الثقافة والامبريالية " للمفكر الفلسطيني د.
ادوارد سعيد ( ترجمة بروفسور كمال أبو ديب ) وقعت بفخ المفردات المعجمية،
والصياغات اللغوية المركبة، مما جعلني أكرس جهدا مضاعفا لفهم لغة الكتاب
العربية اولا ، قبل أن افهم الطرح الفكري المثير للكتاب. وكنت قد " تورطت "
قبل "الثقافة والامبريالية " بقراءة كتاب لادوارد سعيد أيضا ، ولنفس
المترجم ، وهو كتاب "الاستشراق "، وهزمتني لغة الكتاب، شديدة التعقيد
والغرابة، ولم أستطع الصمود في معاناة القراءة والبحث عن تفسير للمعاني ،
كنت وكأنني اقرأ كتابا بلغة اجنبية لا اتقنها جيدا، وعلمت من صديق لي ،
مثقف أكاديمي ، انه فشل في قراءة النص بالعربية وقرأه بنصه الأصلي باللغة
الانكليزية ، وانه هو الآخر لا يفهم ضرورة هذا التعقيد والنبش لايجاد
مصطلحات عربية لا يستعملها جيلنا ، ولن يستعملها أحد من الأجيال المقبلة،
وذلك بدل تطوير اللغة العربية وتسهيلها ، كما حدث ويحدث بمختلف اللغات
العالمية.
كتاب ادوارد سعيد " الاستشراق" قراته فيما بعد مترجما للغة العبرية
، بلغة واضحة وسهلة الفهم . لماذا الترجمة العبرية مفهومة لقارئ مثلي يعيش
نبض اللغة العربية ويعشقها ولا يستطيع قراءة نفس الكتاب بلغته الأم – اللغة
العربية ، التي تشكل محورا لعالمه الابداعي ؟
اذن لمن نصدر كتبنا ؟
لمن نكتب اذا كنا غير مفهومين بصياغاتنا ؟
اذا عجزنا كمثقفين عن فهم ترجمة بلغة عربية راقية بلا أدنى شك ، فما
هو حال سائر المواطنين ؟
كيف نصبح شعبا قارئا ، حين نعجز عن فهم المقروء؟
والأخطر ، كيف يصبح لنا دور اجتماعي وسياسي في تقرير مستقبل أوطاننا
، اذا كنا عاجزين عن فهم ، على الأقل ... لغتنا البسيطة المستعملة في وسائل
الإعلام ؟
أضيفت في01/06/2008/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
الأدب العربي الحديث
ومحنة العزوف عن التلقي
بقلم
الكاتبة:
د.
صالحة رحوتي
لعل أكبر داع إلى الحديث عن هذا الموضوع الشائك ذلك الاستنتاج
المتكرر التصريح به، و المثير للدهشة و للاستغراب الغوص في الحيثيات
المحيطة به، ذلك القول ب"انحسار الإقبال على اقتناء الكتاب الأدبي، سواء
أكان دواوين أشعار أو روايات أو مجموعات قصصية أو غيرها...".
استنتاج يبدو وكأنه الحاضر و المسجل دائما و أبدا في كل التقارير
المنشأة عقب كل التظاهرات الثقافية ـ المعارض خاصة ـ ،تلك التي تهتم
بالإبداع الأدبي المنشور ورقيا، أي الكتب المتضمنة لكل الأجناس الأدبية بكل
أنواعها و أصنافها.
وإذا كان هذا هو واقع الحال و معترف به ،و إذا كان فعل اقتناء الكتب
الأدبية أصبح النادر الورود ،فليس من المبالغة في شيء القول بأن الأغلب
الساحق من ذلك العدد القليل الذي يُقبل عليه و يشترى يكون من قبل الأدباء
أنفسهم و ذلك بهدف:
*ـ تشجيع زميل أديب أو زميلة أديبة ما.
*ـ الإطلاع على ما يمكن أن يكون قد قُرأ عنه من مستجدات و إبداعات جديدة.
*ـ القراءة من أجل القيام بدراسات حول ذلك المقتنى.
ولعل أسئلة عريضة و متناسلة تلح، و أيضا تطالب بالأجوبة حول الظروف
التي أدت إلى نشوءه و تواجده ـ و كذا تعاظم وتيرته مع مرور الأيام ـ ذلك
التوجه الاستهلاكي الجديد للأدب العربي ،أي ذلك الإقصاء المتفاقم المزمن
،إذ كيف يمكن فهم تخلي القراء العرب عن اهتماماتهم الضاربة الجذور في عمق
التاريخ باللغة العربية، و بالنتاجات الأدبية المنسوجة من خيوط حروفها؟
و يبدو باستقراء لواقع الحال، و بسبر لأغوار الظروف المحيطة بهذه
الظاهرة أن الأسباب كثيرة و متعددة ،و تتعلق بالأطراف الثلاثة التي تقوم
عليها قضية التعامل مع الإنتاجات الأدبية العربية:
1 ـ الأديب.
2 ـ الأدب المنتج.
3 ـ القارئ.
1 ـ الأديب:
استمر اهتمام العربي بالأدب منذ فجر كينونته حتى بداية القرن
الماضي، ثم حدثت تغييرات جذرية في التوجهات الفكرية و الإيديولوجية لدى
الأدباء العرب، إذ نحوا في الأغلب الساحق نحو اعتناق الفكر التقدمي
الاشتراكي أو حتى الشيوعي، و ذلك:
*ـ تأثرا بالتيار الفكري المادي التحرري النابذ للدين المكتسح للغرب آنذاك،
*ـ ونأيا بالنفس عن الرجعية و الظلامية التي أضحى الدين صنوا لهما في تلك
الفترة الزمنية.
وقد تأثر بتلك الموجة الفكرية جل ـ إن لم نقل كل ـ المتعلمين
القادرين على ممارسة القراءة في الوطن العربي آنذاك،و ذلك بفعل الدعاية
العالية الوتيرة و المكثفة النبرات التي قامت بها السلطات السياسية الفاعلة
في أرجاء الوطن العربي ،تلك السلطات المؤمنة بالقومية العربية و
بالاشتراكية أو البعثية...أو الناصرية....وهلم جرا....
فقد كان أولائك المتعلمون الجدد في تلك الحقبة هم الفئة المستهدفة
بتلقي أنساق الكلمات المدبجة من قبل الأدباء المناضلين، الذين يشاطرونهم
نفس وجهات النظر المستجدة، و يقاسمونهم الرؤية من نفس الزاوية.
توافق كان إذا في تلك الفترة... و إقبال كان أيضا، و استهلاك لكل ما
تفتقت عنه قريحة الأدباء، الذين ما توانوا في تأجيج النبرة النضالية في
كتاباتهم، و ما قصروا في رفع جرعات الدعوات إلى المقاومة في إبداعاتهم...و
ما تأخروا عن إقحام الإشارة إلى ازدراء المقدس في إنتاجاتهم،و ذلك تماشيا
مع تلكم الرغبات في الانعتاق حتى من الدين التي كانوا يدركون أنها الكامنة
في عمق العربي،ذلك الخارج توا أو يكاد من عمق وهدة الاستعمار الحالكة ،و من
مستنقع التحجر و الجمود الآسن، اللذان طالته آثارهما المدمرة لعصور ممتدة
تواترت و تناسلت بفعل فقدان الهوية و ضياع سبل التفكير الرصين...
فقد كان التفاعل على أشده بين الأديب المناضل و بين القارئ المتعطش
لتشرب الأنساق الأسلوبية المضمخة بأريج التحدي، و بعبق جمالية إثبات
الذات،حد اعتقاد ذلك القارئ في قداسة الأديب التقدمي ،و إيمانه بانتمائه
لفئة الحكماء، و حتى لجماعة المقاومين الباذلين كل شيء من أجل إكساب الرفعة
و التقدم للوطن العربي و للمواطنين العرب ككل.
وقد لمعت أسماء بفعل هذا التوافق العقدي بين الملقين و المتلقين،و
حتى وُجد من الأدباء من بنوا صروحهم الإبداعية على القضية الفلسطينية،تلك
القضية التي كانت أكثر ما كان يلفت النظر و يحوز الاهتمام آنذاك، و ذلك
بفعل جرح الغصب كان لا يزال الحديث، و تنزف جوانبه الدامية المنكأة من طرف
العدو باستمرار...
ودام الوضع على هذا لسنوات أو لعشرات من السنين،ثم انهارت قبلة
التقدميين و الشيوعيين، و تصدع محراب الاشتراكيين،و تناثرت حجج القوميين،ثم
بدت عورات الأنظمة السياسية التي كانت تتعبد في ذلك المحراب و تتوجه إلى
تلك القبلة و تتوسل تلك الحجج:
*ـ فأصبحت العارية من كل شيء إلا من أوزار شعوب جُوعت و أُذلت و قُهرت باسم
الإنسانية و المساواة و العدل و التحرر،
*ـ وأضحت الواهنة رغم كل الشعارات التي نفخت في كيانها و حاولت إرجاء
سقوطها من حين إلى حين...
وهكذا استفاقت الشعوب من أوهام الدعايات المنمقة، و عرف المواطنون
العرب أنها كانت مجرد الأراجيف و الأكاذيب، تلك التي أفهموا أنها الترياق
نافع و طارد لكل أدواء التخلف و أسقام التبعية...
ثم رأوا بل و استيقنوا من أن تلك الأمراض التي كانت قد تفاقمت ،و
تلك الأفكار التي لُقنوها تخلى عنها حتى منتجوها و تبرأوا منها ..دوار
و أصاب أولائك المتلقين ...
وحيرة و تغلغلت في أغوار المتعلمين القراء المفترضين ،الذين أصبحوا
المتحررين من ربق المنبر الواحد بفعل الثورة الإعلامية و تعدد القنوات
الفضائية،فقرروا نبذ كل ما يذكرهم بذلك الماضي شُحنوا فيه بحمولة فكرية
أدركوا أن عدوهم المباشر ذلك الصهيوني يتبنى غيرها، بل ينثال من عمق فكره
ضدها و ذلك الذي هو على النقيض منها...
استوعبوا أنها دولة دينية تلك التي هزمتهم شر هزيمة،بل و مرغت
كرامتهم أو ما تبقى منها في التراب الذي استحلته و طردتهم منه،و أيقنوا أنه
خطاب ديني ما ترفع عقيرتها به ،ذلك الذي عُلموا أن يستهينوا به و أن يمجوه
و أن يحتقروه في كتاباتهم و إبداعاتهم...
ثم وعَلموا أيضا أنهم أُضيعوا الوقت ثمين كان سينفع استعماله في غير
ما استعمل من أجله...قصائد أوهام قومية...و قصص حيرة وجودية...و روايات عهر
رخيص و تحرر مبتذل ماجن و انحرافات مشينة...
متع لحظية زائفة لربما كانت قد تُحصل عليها،و ما أضحى لها الآن في
الزمن الحاضر من قيمة بالنسبة إليهم مقابل الغصة متراكمة و المرارة
اكتسحتهم و نغصت حياتهم...
أحاسيس ذل ،و ضغوط يقين بالهزيمة، و شعور بالتبعية عمياء و لا مناص
من الاستسلام لها،ثم و كل تلكم الترهات المتغناة بها سابقا أضحت تلك التي
لا تصلح إلا لمزابل التاريخ يجب أن تودع فيها،و ذلك حتى لا تجرف الجيل
اللاحق كما فعلت مع السابق الذي ما زال منه من لم يرد الاعتراف بتفاهة
معتقدات الماضي مكابرة و عنادا، بالرغم من أن جعجعاتهم في الأغلب الساحق لا
تعكس إلا تشنجات ما قبل الاحتضار و الموت.
وإذا كان ذلك الجيل الأول الذي تشبع بذلك الفكر و غمر به كتاباته في
الزمن الماضي لا يزال مصرا يفعل غير عابئ بالتغيير و إن كان المجازف بكيانه
الفكري و بمكانته الثقافية،فإن حتى أدباء شباب ما عايشوا تلك الحقب
"الزاهرة " للفكر التقدمي القومي الاشتراكي الشيوعي و هلم جرا:
*ـ نهلوا جائعين مما خلفه الآباء،
*ـ و اعتقدوا واهمين أن عليهم أن يرثوا الحمولة الفكرية لأسلافهم التقدميين
المتقدمين حتى يحققوا أمجادا كمثل التي كانت لأولئك الأسلاف،
*ـ ثم آمنوا مجانبين للمنطق و مُحيِّدين للعقل بأن الأدب الحق هو كل ذلك
الكل بقوالبه و مضامينه ،أي ذلك الذي وجدوه السائد المتعارف عليه ،و لقنوا
معاييره و مقاساته،و أن ما سواه ما هو إلا الأنساق الموشومة بثقافة الموت و
الموسومة بآثار القبح و بالبشاعة.
فمددوا في عمره ذلك الفكر رغم موته الحقيقي،و وهبوه المساحات شاسعة
في فضاءات المعاني في كتاباتهم،و اعتقدوا بأن عليهم أن يكونوا غير العاقين
و خير الخلف لخير السلف، و اقتنعوا بأن عليهم القيام بدور المناضلين
المكافحين من أجل ترسيخه و توطيد أركانه ،و إعادة الرفعة كانت له قبل هجوم
الرجعية و حين انعدام شيوع الظلامية.
تنتابهم الأحاسيس العارمة بأنهم المبشرون بالفكر الحر المُعتِق من
كل الأغلال و هم سجناء فكر عفا عليه الزمن ،و ما لهم من رغبة و لا حتى قدرة
على مراجعة النفس أضحت الحبيسة لتلكم القناعات، وذلك رغم الاقتناع بعدم
الإقبال على ما يكتبون و على ما ينشرون إلا من طرف أمثالهم من الأدباء
المؤمنين بنفس الفكر، الذين يؤازرونهم أياما و ينتظرون هم أيضا حظهم من
المؤازرة أياما أُخر .
ثم وهم المستيقنون من عدم الإقبال على إبداعتهم،و من انحسار الرغبة
في قراءة بنات افكارهم،يستمرون مثابرين في الكتابة بنفس الطريقة، ويتوسلون
نفس المرجعية الفكرية ،و أيضا يغزلون على نفس النول الأسلوبي،ثم و تراهم
بعد ذلك يرفعون أصواتهم يستديمون الشكوى من عدم نفوق الكتاب الأدبي في
السوق العربية ،و هم الذين ما عملوا على تحيين فكرهم الذي ما يزالون
"الصابرين" عليه، "المناضلين" من أجل إذاعة انتشاره ،بالرغم من تداعي أسسه،
و وضوح الشقوق ماثلة على جدران كيانه...
يظنون أنهم بتوسل الثبات على "المبادئ"،و ب"النضال" من أجل المرجعية
العلمانية المادية يمكنهم أن يغيروا من مرجعيات القراء ،و أن يوجهوا دفة
فكرهم، و أن يرغبوهم في تقبل وهم مضامين تالفة يُسَوِّقونها ،كانت الرائجة
في زمن ما لغياب الرؤية واضحة، و لعدم وجود أدلة على الضحالة و التهافت
كامنتين فيها.
ما يزالون يرون أنفسهم حراس الفكر الثوري، و الوافقين على أعتاب
معبد التحرر من ربق الدين يذودون عنه،و هم يرون العالم كله يموج في اتجاه
الدفاع عن الهوية الذاتية بكل مكوناتها حتى تلك الدينية، حد ما بقي شبر من
البسيطة ما اعتبر فيها الدين ـ حتى الوثني منه ـ ركن من أركان الكينونة بل
الركن الأساس بدون منازع و لا خصيم.
والقليل منهم أولائك الأدباء العرب بدأ مرحلة الاستفاقة فقرر أن
يعيد للدين و للحديث عنه بعض مكانة في كتاباته،لكن الإله محايد و ناظر من
عل إلى عباده في إبداعاته ذلك القليل،عباد لا يتورعون أن يتصرفوا كما
يشاءون و يحلو لهم،ثم و هم يدعون لذلك الإله الطيب الساذج المحب أمكنة
داخل المعابد يتفاعل فيها مع من يريد الاعتراف بذنب ما...نسخة مما عند
الغرب...
ثم هي أممية و إنسانية ...مصطلحات أضحت الدالة على مفاهيم أصبحت
البديلة للقومية و للاشتراكية و الشيوعية و لما راج في الزمن
الماضي...مفاهيم يغذون بها نصوصهم و يستوحون منها مضامين إبداعتهم.
لكن المشكلة أن هاته المفاهيم المستجدة ليست المرحب بها هي أيضا من
طرف القراء العرب ،الذين أصبحوا يدركون أن كل مستورد فاسد لا يصلح إلا لمن
أوجده...
وبالتالي فهم المصرون على أن لا يهبوا اهتمامهم إلا لمن أخلص
للهوية، و صور حقيقة الإنسان العربي كما هو دون تجريده مما هو مفطور عليه و
كامن فيه.
وحتى تلك الصوفية المخدرة الهجينة الحائزة على رضا الغرب ما عادت
تنفع في إتقان المغازلة، و ما أصبحت تؤتي الأكل من قبيل لفت الانتباه و
الترغيب في الاقتناء و الاستهلاك في زمن الأوبة إلى الله.
2 ـ الإنتاج الأدبي:
لا بد أن هنالك خصائص و صفات معينة للإنتاج الأدبي العربي الحالي
ساهمت في العزوف عن الاطلاع عليه و في رفض تلقيه،إذ ما تزال كتابات أغلب
الأدباء العرب تلك الداعية إلى التيه بين أدغال الشك و أشواك المجون.
فشعرهم هو ذلك الغامض المبهم الخالي من كل معنى إلا ما أعان على
التحرر من الدين و من القيم و الأخلاق،و رواياتهم و قصصهم و حكاياتهم ما هي
إلا تصوير لأحوال الفاسدين المنحلين ال"المتمردين على كل ما هو الممتوح من
مما تلقاه الإنسان من ربه من توجيهات و مبادئ ...
وحتى خواطرهم لا تغوص كلماتها إلا في الحلقات مفرغة و يصيب التجوال
بين أحرفها بالدوار و بالغثيان،ثم و لا حتى السير الذاتية خرجت من إطار
تداعى و أصبح القديم المتجاوز ،فما تُركز إلا على كل فعل قبيح اقتُرِف منهم
في زمن ما، و تحملوا تبعاته المخزية ،ثم و يصورونه على أنه البطولي
المُقحِم لهم في عوالم المُتًحَدِّين الراسخين في علم التمرد
المُمَيَّزين.
إذ هي الحمولة الفكرية التقدمية والقومية والحداثية التي مجها
القارئ العربي في الزمن الحاضر تلك التي تبث بين الكلمات،فتتحول النصوص
تبعا لذلك إلى ما يجب أن يحشر في حيز إرث عُفي عنه ،و حتى تُجُووِزَ بفعل
نزوع الشعوب العربية نحو إعادة النظر فيما استخف بواسطته بها من أفكار و
مفاهيم تُخُلِّيَ عنها، و كذا استُبدِلت في كل أنحاء المعمور بما هو مواز
للتعبير عن حقيقة الذات.
فالكتابات الأدبية العربية الحالية استُغني عن قراءتها لأنها ما
عادت تروي الظمأ إلى الانعتاق، و لا تحقق حتى أحلام التحرر من التبعية.
الكلمات تائهة و مُركسة في يم المعاني الهائج المضطرم الفاقد للشاطئ
آمن يُرسى فيه،و الجمالية المتغنى بها و المتحدث عنها في كل المنابر غائبة
مغيبة رغم القول بأنها الكامنة بين ثنايا الأحرف و يطالب القارئ بتقفي
آثارها و باستيفاء أنوارها المجهولة المفترضة...
إبهام و غموض و ارتجال حد الهذيان،و تمييع و تبسيط و غوص في متاهات
العامية حد المباشراتية و التقريرية و السوقية و استعمال لغة الغوغاء.
ثم ويبدو أن البقية الباقية من الاحتفاء بالأدب متعلقة بجنس أدبي
واحد هو الرواية،
وهذا الاستثناء مرتبط فقط باحتوائه هذا الجنس على مكون الحكاية ليس
إلا، فهو من دون الأجناس الأخرى تتواتر فيه الأحداث و تتناسل و يعرف عن
طريقها إن مآل البطل أو صيرورة باقي الشخصيات.
ولعل هذا الإصرار على حضور الحكاية من أجل الإطلاع على الأدب العربي
الحالي متعلق بإدمان ذلك الصنف المطلع من القراء العرب على اللذة كامنة في
الحكايات المصورة المبتذلة الساقطة في المسلسلات و الأفلام.....
و لا شك أن هذا التبرير يبدو مشروعا حين يطلع على نوعية الروايات
الرائجة، فهي البسيطة الأسلوب و حتى المفعمة بالعامية، الكثيرة الأحداث،
المتطرقة للتافه من المواضيع و للشاذ المنحرف من الشخصيات...
فكل الروايات المتميزة الأسلوب، الراقية اللغة، و
السامية المنحى الفكري، و المتوسلة للرمزية و للصور الشعرية، لا تكاد تبرح
مكانها على رفوف المكتبات إلا إذا وهبت أو أودعت في مستودعات التجميع.
3 ـ القارئ:
لا بد و أن لهذا العنصر الثالث دور فعال أيضا في مسار تداول
الإبداعات الأدبية في واقعنا العربي،فمؤثرات عدة تمكنت من التغلغل عميقا في
نسيج عقل القارئ العربي ،و دفعت به إلى تغيير قناعاته بخصوص احتياجه إلى
الجمالية كامنة و موحية في النص الأدبي ،تلك الغائبة المغيبة عن اللغة
التقريرية و السطحية التي يلتقي بها في الأساليب الكتابية في الصحافة و في
باقي المجالات الأخرى.
و لعل الناظر المفترس في أحوال القراء الفكرية و حول طرائق تلقيهم
للثقافة عموما و للأدب خصوصا، يجد أنه من الممكن تصنيفهم إلى نوعين من جهة
نوعية الأسباب الدافعة لهم إلى الابتعاد عن تذوق الأدب، و عن الإقبال على
اقتناء الكتب المحتوية لمختلف أجناسه.
أ ـ الصنف الأول:
هم الذين انزرعت بذور الوعي في مساحات فكرهم،و يبحثون عما يغني تلكم
المساحات، و يحولها من القفر اليباب إلى الجنان وارفة فيها ما ينفعهم و
يؤجج وتيرة نهضتهم، و كذا يسرع من استيقاظهم .
تهمهم الجمالية و لا يغمطون أنفسهم حقها فيها ،لكنهم لا يريدون هدر
الوقت فيما لا طائلة من ورائه مما لا يقدم شيئا و لا يعين على تلمس
طريق...اطلعوا على جل ما يكتب تحت اسم الأدب فوجوده طلاسم و هراء و حكايات
وهمية و أساطير مستوردة و سير شخصيات لا تربطهم بهم وشائج، و ليس لهم معهم
قواسم مشتركة إلا نوعية الأسماء أو الانتماء الجغرافي، فالقناعات مختلفة، و
الهموم متباينة، و التطلعات متناقضة، و بالتالي لا يمكن أن يعنيهم منهم
الحال و لا المآل.
تيه وهم السائرون نحو الأهداف ،و تأرجح و هم الثابتون على المبادئ،و
انحراف و مجون و هم المصرون على الفضيلة و الاستعفاف ،و انبطاح و هم
الطامعون في الانعتاق ،فما يمكن أن يستفيدوا من تلكم الأسفار الأدبية إذا
اطلعوا عليها إلا الحجة على أن غياب الهوية الذاتية مُقتنَع بها، و
مُسْكَنَة في المهج ،يؤدي إلى استجداء شذرات من تلك للغير، ثم و تبعية
تتواتر حلقاتها بعد ذلك ،و لا تحرر مبشر به و لا انعتاق...
ودائما يشار بالبنان إلى شيوع القناعات الدينية لدى هذه الفئة كسبب
من أسباب تدني نسبة الإقبال على الأدب،و يطلق عليها تلك القناعات مسمى
الفكر الغيبي الخرافي، و حتى تلصق به كل التهم من رجعية و ظلامية ،لكن و
بالرغم من محاولات تسليط الضوء المتواصلة على المقولة و من التذكير
المتواتر بها، فإن الكل يدرك أن التدين الحق لا يمكن أن يكون أبدا ذلك
الصاد عن استمراء آثار الكلمات الجميلة العذبة المعبرة ،و لا ذلك المانع من
التلذذ بالإيحاءات السامية الرفيعة.
فما هو كائن لا يعدو كونه انحسار ـ أو انعدام ـ لاهتمام القارئ
العربي من هذا الصنف الواعي بالأدب الذي لا يهتم به كشخص و بقناعاته
الجديدة ،بل و يهاجمها و يسفه المقتنعين بها، و يريده دائما ذلك القارئ
العلماني الذي فصلت مقاساته في الستينيات و السبعينيات و ما بعدها من القرن
الماضي،مقاسات يريد الأدباء العرب استدامة تواجدها على الساحة الأدبية من
اجل تسويق منتجاتهم، و بهدف استبقاء الطمأنينة حواليهم،و ذلك بالرغم من
هدير انجراف دوحة الأفكار التي كانوا يستظلون بها و يستوحون منها
إلهاماتهم.
فالقارئ العربي الواعي لم يعد الساذج و لا الجاهل بما يتقضيه منه
الحرص و كذا اليقظة ضروريين من أجل استكمال إيجاد العناصر الممكنة من إعادة
بناء صرح الذات،و ذلك تأهبا لاستعادة الكرامة و لنبذ أوزار الامتهان.
فهو الآن المستيقظ المتوثب غير الحريص على فقاقيع متعة تتهاوى، فلا
تترك من آثار سوى مذاق حيرة و هدر وقت ثمين….
ب ـ الصنف الثاني:
لا شك أن ظاهرة الإعراض عن الأدب ما هي المحصورة بالمتدينين كما
يشاع، بل و أصابت حتى العلمانيين و غيرت من سلوكياتهم تجاه كل الأجناس منه
و تجاه حتى منتجيها.
إذ هم الأدرى بأفول نجم الفكر العلماني رغم استماتتهم الشرسة في
الدفاع عنه في بعض الأحيان،و هم الأعلم بخلو جل الإبداعات منهم مما يمكن أن
يُعجِب أو يكون الطعم يُعْلًق فيه، و ذلك إذا ما استثنيت تلك الصور الجنسية
البحتة ،و تلكم الخطابات المذكية للغرائز و المحققة للمتع المبتذلة
الرخيصة.
وبالرغم من تلك الحمولة الشهوانية و الداعية إلى التحرر من ربق
الانقياد للدين التي يحرص الكثير من الأدباء على إدراجها في نسيج كتاباتهم
بهدف استدراج عناصر هذا الصنف الثاني و ترويج السلعة بينهم،فإن لهذه الفئة
أيضا السبق في مسار الإعراض عن الأدب و القراءة الأدبية،إذ تجدهم في الأغلب
الساحق ـ سوى الأدباء منهم ـ الزاهدين في كل ما توحي به شياطين الشعر و
حتى النثر،قد اكتفوا بالحكي المصور المشاهد،و ذلك عوض المقروء أو حتى
المسموع الذي انحسر تأثيره حتى قارب أن تنقضي جاذبيته و تندثر .
ويظهر هذا التوجه و الاختيار في أوضح تجلياته عند فئة الشباب،ذلك
المُفرغ من كل جزئيات الهوية الكَلُّ العَيِيُّ، الذي ما يكره أكثر من بذل
الجهد من أجل استيعاب فكرة ما، غزت التقنيات الحديثة الفضاءات المحيطة به
،و انخرطت في ثنيات حياته ،حتى ما تركت له من احتمال الاعتماد على النفس من
أجل التوصل إلى نحت مسار فكري خاص به،متعرض ليل نهار لقذائف الأفكار مضمنة
في أنعم الوسائل تسللا إلى ذهنه، و ألطفها على عقله، و معها كل المغريات و
المقبلات.
فالصور على النت أو على شاشات التلفزيون و السينما هي المحببة إليه
،و تأتيه بالفرجة و المتعة وارفة،و تغنيه عن البحث عن اللذة الفكرية يجدها
في وسائل أخرى لكن فيها الخشونة و فيها انعدام الفرجة، و حتى تتطلب منه بذل
الجهد و تشغيل آليات التفكير.
ثم والقراءة هي آخر ما يجذب اهتمامه، و الأدب هو آخر ما يهمه
الإطلاع على القديم و حتى المستجد منه،و حتى حين يقرأ شيئا ـ و نادرا ما
يفعل ـ لا يقبل إلا على تلكم الروايات المثيرة التي يعرف عنها أنها تلك
التي سوف يجني من وراءها متعا حسية و حكايات تنضح بالتفاصيل حول شخصيات و
فضاءات مقربة إلى فكره،و ذلك لانتمائها لحيز اهتماماته نظرا لنوعية
سلوكياته و نمط عيشه..خمارات وسكارى ... وأماكن عهر و بائعات للهوى...و
عربدات فكرية و سفسطة و هرطقات مبيحة للتفلت و للانحراف...
فحتى المضامين المتعلقة بقضايا الأمة التي قد يشذ أحد الأدباء فينحت
إبداعا حولها الآن ـ القضية الفلسطينية نموذجا ـ لم تعد تثير فيه إلا
الاشمئزاز والقرف ،لأنه الذي أُغرق بالقطرية حتى أضحى ما يعبأ بما هو خارج
الحدود سُطرت و عُلِّم أنها حدود موطنه الذي ينبغي أن لا يهمه ما
وراءها...ثم حتى الفردانية تلك المتأججة مع انعدام القيم فعلت فعلها فيه
،فهو ذاك الأناني لا يهتم بما يتجاوز خطوط ذاته و يحقق لها ما تبتغيه وترغب
فيه.
ولعل هذا الصنف الثاني، أو هذا النوع الضحل من المستهدفين المفترضين
يفتقد حتى القدرة على فهم اللغة الأدبية الرصينة البعيدة عن التقريرية
والبساطة المتضمنة في الكتابات الأدبية، و ذلك:
*ـ لعدم اهتمامه باللغة العربية أصلا، لاعتباره إياها من مخلفات ماض ينبغي
التنكر له و التنصل من تبعات الانتماء إليه،
*ـ و لضعف مستوى النظام التعليمي الذي أضحى المزمن و أثر على قدراته و
مؤهلاته،
*ـ ثم بعد ذلك لعدم انخراطه في عملية التكوين اللغوي المستمر عن طريق
ممارسة القراءة.
وقد قرر مجاراة هذا الصنف بعض الأدباء طمعا في استجلاب اهتمامه،
فكتبوا بالعامية، و استعانوا بالألفاظ السوقية، لكنهم ما حصلوا على
مستهلكين، و لا سوقوا ما يكتبون...فما هو موجود في إبداعاتهم مضمن في أفلام
و مسلسلات متوفرة متعددة، و يجنبهم استهلاكها مشقة التخيل و تعب تشغيل
آليات الاستيعاب... ثم هي تلك الكتب الأدبية لا تسحق أن يبذل ـ في نظرهم ـ
أي مقابل مادي من أجلها و من أجل ما فيها من تفاهات يمكن حيازتها مثيلاتها
في كل آن و بالمجان.
وأخيرا...
وبعد هذه الإطلالة على بعض الأسباب التي من الممكن أن تكون الكامنة
وراء ظاهرة العزوف عن اقتناء الكتاب الأدبي العربي،يبقى من الواجب و
المشروع خلق ورشات للتفكير حول الموضوع و حتى طرح أسئلة وجيهة من قبيل:
*ـ ما جدوى الكتابة الأدبية بشكلها الحالي ما دام المستهلك منعدم أو حتى
منتق تافه بسيط...؟؟
*ـ هل يمكن أن يسد الأدباء بمفردهم هذا النقص الاقتنائي، و يقوموا تبعا
لذلك بدور المنتجين و المتلقين في نفس الوقت؟؟و أو لا يعني ذلك أن آثار
كتاباتهم لن تتعدى حدود فضاءاتهم الفكرية و تلك لغيرهم من الأدباء ممن
يشاركونهم مهام تدبيج انساق الكلمات...؟؟؟
*ـ هل على الأديب أن يواكب الموجات الفكرية السائدة و يكتب ما يهم الناس و
يصور واقعهم و يتفاعل مع توجهاتهم؟أم عليه أن يثبت على ما وُرِّثَه و اعتقد
فيه، و من ثم يتجاهل كل الاختيارات الثقافية و الفكرية المستجدة بل و حتى
يسفههما و يستخف بها؟؟؟
*ـ و هل يعتبر تدقيق النظر حول المعايير الشكلية و المضامينية للأدب العربي
و حول الحيثيات المحيطة به ،و تصحيح ما ينبغي تصحيحه من أجل إعادة الاعتبار
لذلك الأدب من قبيل الخيانة الثقافية و التذبذب الفكري؟ أم أن ذلك دليل على
النضج و سيمكن من استعادة ثقة القراء؟؟؟
*ـ لا شك أن الغرب المتسلط علينا و المسيطر ثقافيا لا يرغب في إعادة النظر
تلك، لان تلكم المضامين المُتيهة هي كل يريده أن يشيع و يُطَّلع عليه من
قبل القراء العرب... فهل ينبغي الاستجابة لذلك التوجه الغربي بهدف نيل رضا
ذلك الغرب و لم لا حتى جوائزه؟؟أم يجب انتشال الأدب من تأثيره ذلك التوجه و
نبذه، لأنه مظهر من مظاهر الاستعمار الفكري البغيض، و لا يخدم إلا مصالح
المُستعمِرين؟؟؟
الأسئلة كثيرة و متناسلة متعددة...و الأمل كامن في أن يساهم طرحها
على التفكر حول مآل الأدب في واقعنا... إذ لا شك أن كل الصور اللغوية
المنبثقة من فكر الأديب و من حناياه ،و كذلك من سوانحه ومن تجاربه و كل
جزئيات حياته هي جزء من الرصيد المعرفي الإنساني، و الذي يجب أن ينفع
الإنسانية في إعادة ترتيب أوراق وجودها على الأرض ، و في تصحيح مسارها الذي
يتعرض إلى الانحراف كلما ابتعدت عن معين الفكر الواعي المنطقي السليم يجب
أن تغترف و تمتح منه.
أضيفت في21/06/2008/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة
|