|
تاريخ أدب اللغة
العربية
الجزء الثاني
من كتاب جواهر الأدب
في أدبيات وإنشاء لغة العرب
بقلم
الكاتب الكبير العلامة:
أحمد الهاشمي

الفن السابع في تاريخ أدب اللغة العربية
التاريخ: هو معرفة أخبار الماضين وأحوالهم من حيث معيشتهم، وسياستهم وأدبهم،
ولغتهم.
والأدب: (كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل). وهذه
الرياضة كما تكون بالفعل، وحسن النظر، والمحاكاة، تكون بالأقوال الحكيمة
التي تضمنتها لغة أي أمة.
واللغة: ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم وهي من الأوضاع البشرية وأدب لغة
أي أمة هو ما أودع في شعرها ونثرها من نتائج عقول أبنائها وصور أخيلتهم
وطباعهم: مما شأنه أن يهذب النفس، ويثقف العقل، ويقوم اللسان.
وتاريخ أدب اللغة: هو العلم الباحث عن أحوال اللغة: نثرها ونظمها في عصورها المختلفة،
وعما كان لنابغيها من التأثير البين فيها.
واللغة العربية: إحدى اللغات السامية. وهي لغة أمة العرب القديمة العهد الشائعة
الذكر التي كانت تسكن الجزيرة المنسوبة إليها في الطرف الغربي من آسيا.
وهذه الأمة: منها القدماء، وهم الذين يسكنون تلك الجزيرة وينطقون باللغة
العربية سليقة وطبعاً، وهم ثلاث طبقات: أولاها العرب البائدة وهؤلاء لم يصل
إلينا شيء صحيح من أخبارهم إلا ما قصه الله علينا في القرآن الكريم، وإلا
ما جاء في الحديث النبوي. ومن أشهر قبائلهم طسم، وجديس وعاد، وثمود
وعمليق. وثانيهما العرب العاربة: وهم بنو قحطان الذين اختاروا اليمن منازل
لهم. ومن أمهات قبائلهم كهلان، وحمير. وثالثتها العرب المستعربة: وهو بنو
اسماعيل الطارئون على القحطانين، والممتزجون بهم لغة ونسباً. والمعرفون بعج
بالعدنانيين، ومن أمهات قبائلهم ربيعة، ومضر، وإياد، وأنمار.
ومنها المحدثون: وهم سلائل هؤلاء الأقوام الممتزجون بسلائل غيرهم
والمنتشرون بعد الإسلام في بقاع الأرض من المحيط الأخضر (الأطلنطي) إلى ما
وراء بحر فارس ودجلة، ومن أعالي النهرين إلى ماوراء جاوه وسومطرة.
عصور اللغة العربية وآدابها
لما كان تاريخ أي أمة وأدبها يرتبط كل الارتباط بالحوادث السياسية
والدينية والاجتماعية التي تقع بين ظهراني هذه الأمة، ناسب تقسيم تاريخ
أدب اللغة خمسة أعصر:
الأول: عصر الجاهلية: وينتهي بظهور الإسلام ومدته نحو
خمسين ومائة سنة.
الثاني: عصر صدر الإسلام، ويشمل بني أمية ويبتدئ بظهور الإسلام
وينتهي بقيام دولة بني العباس سنة (132ه?).
الثالث: عصر بني العباس: ويبتدئ بقيام دولتهم، وينتهي بسقوط بغداد
في أيدي التتار سنة (656ه?).
الرابع: عصر الدول التركية: ويبتدئ بسقوط بغداد، وينتهي بمبدأ
النهضة الأخيرة سنة (1220ه?).
الخامس: عصر النهضة الأخيرة: ويبتدئ من حكم الأسرة المحمدية العلوية
بمصر، ويمتد إلى وقتنا هذا.
   

العصر الأول عصر الجاهلية
حالة اللغة وآدابها في ذلك العصر
لغة العرب من أغنى اللغات كلما، وأعرقها قدماً، وأوسعها لكل ما يقع
تحت الحس، أو يجول في الخاطر: من تحقيق علوم، وسن قوانين وتصوير خيال،
وتعيين مرافق: وهي على هندمة وضعها، وتناسق أجزائها لغة قوم أميين، ولا عجب
أن بلغت تلك المنزلة، من بسطة الثروة، وسعة المدى إذا كان لها من عوامل
النمو، ودواعي البقاء والرقي، ما قلما يتهيأ لغيرها وما رواه لنا منها أئمة
اللغة وجاء به القرآن الكريم والحديث النبوي هو نتيجة امتزاج لغات الشعوب
التي سكنت جزيرة العرب ولا شك في أن من أسباب امتزاج هذه اللغات ما يأتي: 1
هجرة القحطانين إلى جزيرة العرب ومخالطتهم فيها العرب البائدة باليمن ثم
تمزقهم في بقاع الجزيرة كل ممزق بظلمهم وتخرب بلادهم بسيل العرم. 2 هجرة
اسماعيل عليه السلام إلى جزيرة العرب واختلاطه وبينه بالقحطانين بالمصاهرة
والمجاورة والمحاربة والمتاجرة: وأظهر مواطن هذا الامتزاج مشاعر الحج
والأسواق التي كانت تقيمها العرب في أنحاء بلادها، ومن هذه الأسواق عكاظ
ومجنة وذو المجاز.
وأهمها سوق عكاظ: وكانت تقام من أول ذي العقدة إلى اليوم العشرين
منه. وأقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة وبقيت إلى ما بعد
الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة. وكان يجتمع بهذه السوق أكثر أشراف العرب
للمتاجرة، ومفاداة الأسرى والتحكيم في الخصومات وللمفاخرة بالشعر والخطب في
الحسب والنسب والكرم والفصاحة والجمال والشجاعة وما شاكل ذلك. وكان من اشهر
المحكمين بها في الشعر النابغة الذبياني. ومن أشهر خطبائها قس بن ساعدة
الإيادي. وقد لهج الشعراء بذكرها في شعرهم. وحضرها منهم الرجال والنساء.
كلام العرب
الغرض من كلام العرب كغيره الإبانة عما في النفس من الأفكار ليكون
مدعاة إلى المعاونة والمعاضدة. وذريعة إلى تسهيل أعمال الحياة.
ولما كانت هذه الأفكار لا تزال متجددة غير متناهية. كانت صور الكلام
المبين عنها لا تزال كذلك متجددة خاضعة لقوى الاختراع والابتداع وأنواع
الإنشاء والتأليف على حسب ما يقتضيه المقام فقد تصل صورة الكلام إلى الغاية
القصوى في البلاغة، وقد تنحط صورة العبارة إلى الدرك الأسفل من الإبانة.
بحيث لو انحطت عن ذلك لكانت عند الأدباء بأصوات الحجماوات أشبه، وبين
الحالين مراتب، وجل بحث علم الأدب وتاريخه في التفاوت بين هذه المراتب
ورجالها.
وكلام العرب بمراتبه: العليا والدنيا وما بينهما تعتوره كغيره أحوال
تتغير بتغير حياة أهله العقلية والمعاشية والدينية، وتلك الأحوال تتمثل في
"أغراض اللغة، ومعانيها، وعباراتها".
أغراض اللغة في الجاهلية
1 كانت اللغة تستعمل في أغراض المعيشة البدوية، ووصف مرافقها من حل
وترحال، وانتجاع كلأ. واستدرار غيث. واستنتاج حيوان.
2 وفي غثارة المنازعات والمشاحنات، وما يتبعها من الحض على إدراك
الثأر. والتفاخر بالانتصار، والتباهي بكرم الأصل والنجار.
3 شرح حال المشاهدات والكيفيات والإخبار عن الوقائع والقصص وغير
ذلك.
معاني اللغة في الجاهلية
تجمل معاني اللغة (1) في قصر معاني المفردات على ما تقتضيه البداوة
والفطرة الغضة الخالية من تكلف أهل الحضر وتأنقهم (2) وفي انحصار أحكامهم
في (الخبر) ومطالبهم عن (الإنشاء) إما في التعقل المستنبط من الحس
والمشاهدة أو الطبيعة أو التجربة أو الوجدان. من غير مبالغة ولا إغراق.
وإما في التخيل المنتزعة صوره من المحسوسات بحيث لا تخرج عن الإمكان العقلي
والعادي.
عبارة اللغة في الجاهلية
تلخص أحوال العبارة في الجاهلية فيما يأتي: 1 استعمال الألفاظ في
معانيها الوضعية. أو معان مناسبة للمعنى الأصلي بطريق المجاز الذي قد يصبح
بعد قليل وضعاً جديداً.
2 كثرة استعمال المترادف، وقلة الأعجمي المعبر عنه بالمعرب، وخلو
الكلام العربي من اللحن، وغلبة الإيجاز عليه كما تراه واضحاً في شعرهم.
3 إرسال الأساليب الكلامية على حسب ما تقتضيه البلاغة بدون تكلف.
تقسيم كلام العرب
ينقسم كلام العرب قسمين: نثراً ونظماً. فالنظم هو الموزون المقفى.
والنثر ما ليس مرتبطاً بوزن ولا قافية.
النثر المحادثة الخطابة الكتابة
الأصل في الكلام أن يكون منثوراً: لإبانته مقاصد النفس بوجه أوضح
وكلفة أقل وهو غما حديث يدور بين بعض الناس وبعض في إصلاح شؤون المعيشة.
واجتلاب ضروب المصالح والمنافع وذلك ما يسمى (المحادثة) أو "لغة التخاطب".
وإما خطاب من فصيح نابه الشأن يلقيه على جماعة في أمر ذي بال. وهذا ما يسمى
"الخطابة". وإما كلام نفسي مدلول عليه بحروف ونقوش لإرادة عدم التلفظ به.
أو لحفظه للخلف. أو لبعد الشقة بين المتخاطبين. وذلك ما يسمى (الكتابة).
إذن فأقسام النثر ثلاثة. محادثة. خطابة. وكتابة وكلها إما أن تكون كلاماً
خالياً من التزام التقفيه في أواخر عباراته: وذلك ما يسمى "النثر المرسل"
وإما أن تكون قطعاً ملتزماً في آخر كل فقرتين منها أو أكثر قافية واحدة.
وهذا ما يسمى "السجع" وهو نوع من الحلية اللفظية إذا جاء عفواً ولم يتعمد
التزامه. ولحسن وقعه في الأسماع. وحوكه وتأثيره في الطباع كان اكثر ما
يستعمل في الخطابة. والأمثال. والحكم. والمفاخرات. والمنافرات.
المحادثة أو لغة التخاطب
لغة التخاطب عند عرب الجاهلية بعد أن توحدت لغاتها هي اللغة المعربة
المستعملة في شعرها وخطبها وكتابتها. ولا فرق بينها في البلاغة إلا بقدر ما
تستدعيه حال الخطابة والشعر والكتابة: من نبالة الموضوع والتأنق في
العبارة.
وأكثر ما وصل إلينا منها كان شريف المعنى. فصيح اللفظ.
الخطابة
لما كان جل العرب في جاهليتها قبائل متبدية. لايربطها قانون عام.
ولا تضبطها حكومة منظمة. ومن شأن المعيشة البدوية شن الغارات لأوهى
الأسباب. والمدافعة بالنفس عن الروح والعرض والمال. والمباهاة بقوة العصبية
وكرم النجار وشرف الخصال. وللقول في ذلك أثر لا يقل عن الصول: كانت الخطابة
لهم ضرورية. وفيهم فطرية. وإنما لم تصل إلينا أخبار خطبائهم الأوائل. وشيء
من خطبهم كما كان ذلك في الشعر. لحفلهم قديماً بالشعر دون الخطابة. ولصعوبة
حفظ النثر.
وما عني الرواة بنقل أخبار الخطباء إلا عندما حلت الخطابة بعد منزلة
أسمى من الشعر. لابتذاله بتعاطي السفهاء والعامة له. وتلوثهم بالتكسب به
والتعرض للحرم. فنبه بذلك شأن الخطابة. واشتهر بها الأشراف وكان لكل قبيلة
خطيب كما كان لكل قبيلة شاعر.
وأكثر ما كانت الخطابة في التحريض على القتال. والتحكيم في الخصومات
وإصلاح ذات البين. وفي المفاخرات. والمنافرات. والوصايا وغير ذلك.
وكان من عادة الخطيب في غير خطب الإملاك والتزويج أن يخطب قائماً أو
على نشر ومرتفع من الأرض أو على ظهر راحلته. لإبعاد مدى الصوت، والتأثير
بشخصه وإظهار ملامح وجهه وحركات جوارحه ولا غنى له عن لوث وعصب العمامة
والاعتماد على مخصرة أو عصا أو قناة أو قوس وربما أشار بإحداها أو بيده.
وخطباء العرب كثيرون (من أقدمهم) كعب بن لؤي (وكان ذا نفوذ عظيم من
قومه حتى أكبروا موته) وذو الإصبع العدواني وهو حرثان بن محرث.
(ومن أشهلارهم) قيس بن خارجة بن سنان خطيب حرب داحس والغبراء.
وخويلد بن عمرو الغطفاني خطيب يوم الفجار وقس بن ساعدة الإيادي خطيب عكاظ. وأكثم بن صيفي زعيم الخطباء الذين أوفدهم النعمان عهلى كسرى:
وهم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميان والحارث بن عباد وقيس بن مسعود
البكريان وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريون، وعمرو
بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري).
قس بن ساعدة الإيادي
هو خطيب العرب قاطبة، وللمضروب به المثل في البلاغة والحكمة كان
يدين بالتوحيد، ويؤمن بالبعث، ويدعو العرب إلى نبذ العكوف على الأوثان
ويرشدهم إلى عبادة الخالق: ويقال إنه أول من خطب على شرف وأول من قال في
خطبه "أما بعد" وأول من اتكأ على سيف أو عصا في خطابته، وكان الناس
يتحاكمون إليه وهو القائل "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر"،
وسمعه النبي ( قبل البعثة يخطب في عكاظ فأثنى عليه وعمر قس طويلاً ومات
قبيل البعثة: ومن خطبه خطبته التي خطبها في سوق عكاظ وهي: أيها الناس
اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات: وكل ما هو آت آت، ليل داج ونهار ساج
وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر وجبال مرساه، وأرض مدحاه وأنهار
مجراه، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما بال الناس يذهبون ولا
يرجعون أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن
لله ديناً هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي انتم عليه، إنكم لتأتون من
الأمر منكراً: ويروى أن قسماً أنشأ بعد ذلك يقول:
في الذَّاهبين الأوّل?
?ين من القرون لنا بصائر
لمّا رأيت مورداً=للموت ليس لها مصادر
ورأيت قوميَ نحوها
تمضي الأكابرَ والأصاغر
لايرجع الماضي إليّ
م ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا مح?
?الة حيث صار القومُ صائر
أكثم بن صيفي
هو أعرف الخطباء بالأنساب وأكثرهم ضرب أمثال وإصابة رأي وقوة حجة
وقل من جاره من خطباء عصره وهو زعيم الخطباء الذين أوفدهم النعمان على كسرى
ولقد بلغ من إعجابه به أن قال له: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى: وقد عمر
طويلاً حتى أدرك مبعث النبي ( وجمع قومه وحثهم على الإيمان به، وفي إسلامه
روايات، وكان في خطبه قليل المجاز حسن الإيجاز حلو الألفاظ دقيق المعاني
مولعاً بالأمثال "راجع خطبته في فن المناظرات".
الكتابة
يراد بالكتابة عند الأدباء صناعة إنشاء الكتب والرسائل وإذ كانت
الكتابة بهذا المعنى تؤدى بالنقوش المسماة بالخط فأول خلقة من سلسلة الخط
العربي هي الخط المصري القديم ومنه اشتق الخط الفينيقي ومن هذا اشتق
الآرامي والمسند بأنواعه: الصفوي والثمودي والليحاني شمالي جزيرة العرب
والحميري جنوبيها ورواة العرب يقولون إنهم أخذوا خطهم الحجازي عن أهل
الحيرة والأنبار.
أما الكتابة: بمعنى إنشاء الكتب والرسائل فهي لازمة لكل أمة متحضرة
ذات حكومة منظمة ودواوين متعددة: وقد كان بعض ذلك موفوراً في ممالك
التبابعة جنوباً ومأثوراً عن ممالك المناذرة والغساسنة شمالاً، ولذلك
استعمل الخط المسند الحميري عند الأولين من عهد مديدي والأنباري الحيري عند
الآخرين وإنما لم يصل إلينا شيء من رسائل تلك الأمم ولا من كتب فنونها
ودينها غير قليل عثر عليه لتقادم عهد أهلها وعدم استكمال البحث بعد في
بلادها.
ولم يعرفنا التاريخ أيضاً بأحد من كتاب هذه الصناعة إلا "بعدي بن
ويد العبادي" الذي كان كاتباً ومترجماً عند كسرى.
أما البدو: من سكان أواسط الجزيرة وهم جمهور مضر وبعض القحطانيين
فكانوا أميين ومن المعقول أنهم لم يعرفوا الكتابة الإنشائية إلا بعد عرفوا
الخط آخر عصور الجاهلية وهو مانقل عنهم فيه: أنهم كانوا يكتبون في بدء
رسائلهم باسمك اللهم ومن فلان إلى فلان وأما بعد: ولم تقم لهم دولة بالمعنى
السابق إلا بقيام الإسلام فهو الذي أفشى فيهم الخط والكتابة.
ولما كانت علوم كل أمة لها الأثر العظيم في تكوين فكر الأديب وخيال
الشاعر وكانت كتابتها قسماً قائماً بنفسه يسمى كتابة التدوين ناسب شرح ذلك.
علوم العرب وفنونها
العلوم والصناعات لازمة لحضارة الأمم ومن العرب أهل حضارة دلت عليها
دولهم العظيمة وقدم تاريخهم وآثارهم الخالدة وهم التبابعة فيلا اليمن
والمناذرة والغساسنة في الشمال وإذاً تكون هندسة إرواء الأرض وعمارة المدن
والحساب والطب والبيطرة والزراعة ونحوها معروفة في الجنوب والشمال مدونة في
الكتب وإن لم يحفظ لنا الدهر صوراً منها: أما البدو منهم وإن كانوا أميين
يمقتون الصناعات فلا غنى لهم عن تجربة ترشدهم إلى ما ينفعهم ليعرفوا متى
تجود السماء وبم يتميز الأقرباء من البعداء فكسبهم ذلك علم النجوم والطب
الضروري والأنساب والأخبار ووصف الأرض والفراسة والعيافة والقيافة والكهانة
والعرافة والزجر وقرض الشعر.
علم النجوم: هو معرفة أحوال الكواكب وقد كانوا أبرع في هذا العلم منهم في كل
علم سواه، تعرفه عامتهم قبل خاصتهم للاهتداء به من ظلمات البر والبحر،
ومعرفة أزمنة الخصب والمحل، وبعض معارفهم فيه مستمد من الكلدان
لاختلاطهم بهم ولاتفاق اللغتين في كثير من أسماء الكواكب والبروج ومن
أشهرهم فيه (بنو حارثة بن كلب وبنو مرة بن همام الشيباني).
الطب الإنساني والحيواني (البيطرة) وقد عاناه من الغرب كثيرون ومن
مشوريهم (الحارث بن كلدة الثقفي وابن حذيم التيمي).
الأنساب: علم تتعرف به القرابات التي بين بعض القبائل وبعض فتلحق
فروعها بأصولها وإنما دعاهم إلى العناية به حاجتهم إلى التناصر بالعصبية
لكثرة حروبهم وتفرق قبائلهم وأنفتهم من أن يكون لغريب عنهم سلطان عليهم
وحبهم الافتخار بأسلافهم وممن اشتهر بمعرفة أنساب العرب (دغفل بن حنظلة
الشيباني وزيد بن الكيس النمري وابن لسان الحمرة) ولهذا كانوا يحفظون.
الأخبار والتاريخ والقصص: هي معرفة أحوال السابقين وكانوا يعرفون منها ما كان عليه أسلافهم
وبعض مجاوريهم من الأحوال المأثورة ووقائع أيامهم المشهورة كقصة الفيل وحرب
البسوس وحرب الفجار.
وصف الأرض: هو معرفة كل بقعة وما يجاورها وكيف يهتدي إليها.
ومن قرأ شعر العرب في نسيبهم واطلع على وصفهم وكيف كانوا يحددون
الحقير منها بحدود قلما تحد به مملكة عظيمة عرف شدة حذقهم بمعرفة بلادهم.
الفراسة: هي الاستدلال بهيئة الإنسان وشكله ولونه وقوله على أخلاقه وفضائله ورزائله وقد نبغ فيها من العرب من لايحصى عددهم ولهم في ذلك نوادر
شتى.
القيافة: ضرب من الفراسة وهي الاهتداء بآثار الأقدام على أربابها أو
الاستدلال بهيئة الإنسان وأعضائه على نسبه فقد كانوا يميزون بين أثر الرجل
والمرأة والشيخ والشاب الأعمى والبصير والأحمق والكيس وإذا نظروا عدة أشخاص
ألحقوا الابن بأبيه والأخ والقريب بقريبه وعرفوا الأجنبي من بينهم وممن
اشتهر بالقيامفة (بنو مدلج وبنو لهب).
الكهانة والعرافة: وهما القضاء بالغيب وربما خصت الكهانة بالأمور المستقبلة والعرافة
بالماضية وطريقهم في ذلك الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث
الآتية لما بينهما من المشابهة الخفية: وللعرب في الكهان اعتقاد عريض
لزعمهم أنهم يعلمون الغيب فيرفعون إليهم أمورهم للاستشارة ويستفسرهم عن الرؤى ويستطبونهم في أمراضهم وممن اشتهر من الكهان
(شق أتمار وسطيح الذئبي) ومن الكواهن (طريفة الخير ولسمى الهمذانية) ومن
العرافين (عراف نجد: الأبلق الأسدي، وعراف اليمامة رباح بن عجلة).
الزجر:
وهو الاستدلال بأصوات الحيوان وحركاته وسائر أحواله على الحوادث
بقوة الخيال والاسترسال فيه ومن أشهر الزجارين: بنو لهبر وأبو ذؤيب
الهذلي ومرة الأسدي.
ومن العرب من لم يعبأ بالزجر وما شاكله كلبيد بن ربيعة القائل:
لعمرك ما تدري الطوراقُ بالحصى
ولا زاجراتُ الطير ما الله صانعُ
وكضابئ بن الحارث القائل:
وما عاجلاتُ الطير تدني من الفتى
نجاحاً ولا عن ريثهنَّ يخيبُ
ورُبَّ أمورٍ لا تضيرك ضيرة
وللقلب من مخشاتهنَّ وجيبُ
ولا خير فيمن لايوطّن نفسه
على نائبات الدهر حين تنوبُ
النظم والشعر والشعراء
النظم عرفه العروضيون بأنه الكلام الموزون المقفى قصداً ويرادفه
الشعر عندهم: أما المحققون من الأدباء فيخصون الشعر بأنه الكلام الفصيح
الموزون المقفى المعبر غالباً عن صور الخيال البديع. وإذا كان الخيال أغلب
مادته أطلق بعض العرب تجوزاً لفظ الشعر على كل كلام تضمن خيالاً ولو لم يكن
موزوناً مقفى، ولجريه وفق النظام الممثل في صورة الوزن والتقفية كان تأثيره
في النفس من قبيل إثارة الوجدان والشعور لبسطاً وقبضاً وترغيباً وترهيباً
لا من قبيل إقناع الفكر بالحجة الدامغة والبرهان العقلي، ولذلك يجمل أثره
في إثارة العواطف وتصوير أحوال النفس لا في الحقائق النظرية، ولا ريب أن
النفس ترتاع بصور المحسوس الباهر وما انتزع منه من الخيال الجلي لخفة
مؤونته عليها وإراحته لها من المعاناة والكد، فكيف إذا انضم إلى ذلك نغم
الوزن والقافية الشديد الشبه بتأثير الإيقاع والتلحين الذي يطرب له الحيوان
فضلاً عن الإنسان، والعرب بفطرتهم مطبوعين على الشعر لبداوتهم. وملأمة
بيئتهم لتربية الخيال، فالبدوي لحريته واستقلاله بأمر نفسه يغلب على أحكامه
الوجدان، ويسلك إليه من طريق الشعور، ومعيشة البدوي فوق أرض نقية التربة
وتحت سماء صافية الأديم، ساطعة الكواكب، ضاحية الشمس، جلت لحسه مناظر
الوجود، وعوالم الشهود فكان لخياله من ذلك مادة لايغور ماؤها، ولا ينضب
معينها، فهام بها في كل واد وأفاض منها إلى كل مراد، وكان له من لغته
وفصاحة لسانه أقوى ساعد، وأكبر معاضد. ويشعر الإنسان بطبعه أن الشعر متأخر
في الوجود عن النثر وإن كانت واسطة بين النثر والشعر، فليست إلا السجع لما
فيه من معادلة الفقر، والتزام القافية والميل إى التغني به فكان من ذلك
المقطعات والأراجيز الصغيرة، يحدون بها الإبل، ويعدون بها المكارم ثم لما
تمت ملكة الشعر فيهم، واتسعت أغراضه أمامهم، نوعوا الأوزان وأطالوا
القوافي، وقصدوا القصيد.
وقد خفي علينا "كأكثر الأمم" مبدأ قول الشعر، وأول من قاله. أما ما نسب من الشعر
إلى آدم وإبليس والملائكة والجن والعرب البائدة فهو حديث خرافة.
والشعر الذي صحت روايته منذ أواسط القرن الثاني قبل الهجرة تنتهي
أقدم مطولاته إلى مهلهل بن ربيعة وأقدم مقطعاته إلى نفر لعلهم لم يبعدوا
عنه طويلاً مثل العنبر بن عمرو بن تميم ودريد بن زيد بن نهد، وأعصر بن سعد
بن قيس عيلان وزهير بن جناب الكلبي والأفوه الأودي وأبو داود الإيادي وقد
رووا أنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته
وأن أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي في قتل أخيه
كليب فهو أول من رويت له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً وتبعه الشعراء مثل امرئ
القيس وعلقمة وعبيد ممن أخرجوا لنا الشعر العربي في صورته الحاضرة.
هذا مجمل ما يتعلق بحقيقة الشعر ونشأته في الجاهلية أما ما يتعلق
بمادته وجوهره فإنه يرجع إلى أغراضه وفنون ومعانيه وأخيلته وألفاظه
وأساليبه وأوزانه وقوافيه.
أغراضه وفنونه
نظم العرب الشعر في كل ما أدركته حواسهم وخطر على فقلوبهم من فنونه
وأغراضه الكثيرة كالنسيب ويسمى التشبيب والتغزل ى وطريقته عند الجاهلية
يكون بذكر النساء ومحاسنهن وشرح أحوالهن وكان له عندهم المقام الأول من بين
أغراض الشعر حتى لو انضم إليه غرض آخر قدم النسيب عليه وافتتح به القصيد:
لما فيه من لهم النفس وارتياح الخاطر ولأن باعثه الفذ هو الحب وهو السر في
كل اجتماع إنساني والبدو أكثر الناس حباً لفراغهم.
والفخر:
هو تمدح المرء بخصال نفسه وقومه والتحدث بحسن بلائهم ومكارمهم وكرم
عنصرهم ووفرة قبيلهم ورفعة حسبهم وشهرة شجاعتهم.
والمدح: وهو الثناء على ذي شان بما يستحسن من الأخلاق النفسية كرجاجة العقل
والعفة والعجل والشجاعة وإن هذه الصفات عريقة فيه وفي قومه وبتعداد محاسنه
الخلقية. وشاع المدح عندما ابتذل الشعر واتخذه الشعراء مهنة ومن أوائل مداحيبهم زهير والنابغة والأعشى.
والرثاء: وهو تعداد مناقب الميت وإظهار التفجع والتلهف عليه
واستعظام المصيبة فيه.
والهجاء: هو تعداد مثالب المرء وقبيله ونفي المكارم والمحاسن عنه.
والاعتذار: هو درء الشاعر التهمة عنه والترفق في الاحتجاج على براءته منها
واستمالة قلب المعتذر إليه واستعطافه عليه: والنابغة في الجاهلية فارس هذه
الحلبة.
والوصف: هو شرح حال الشيء وهيئته على ما هو عليه في الواقع لإحضاره في ذهن
السامع كأنه يراه أو يشعر به.
والحكمة والمثل: فالحكمة قول رائع يتضمن حكماً صحيحاً مسلماً. والمثل مرآة تريك
أحوال الأمم وقد مضت وتقفك على أخلاقها وقد انقضت
فالأمثال ميزان يوزن به رقي الأمم وانحطاطها وسعادتها وشقاؤها وأجبها
ولغتها. وأكثر ما تكون أمثال العرب وحكمها موجزة متضمنة حكماً مقبولاً أو
تجربة صحيحة تمليها عليها طباعها بلا تكلف راجع فن الأمثال السابق.
معانيه وأخيلته
قصد الشاعر من شعره الإبانة عما يخالج نفسه من المعاني في أي غرض من
الأغراض السابقة ونحوها. ومن هذه المعاني ما هو عادي في البدوي والحضري
والعربي والعجمي كالأخبار الصادقة وأوصاف المشاهدات وشرح الوجدانات كما
يمليها الخاطر بلا مبالغة ولا إغراق. ومنها ما هو غريب نادر انتزعه الخيال
من المرئيات البديعة والأشكال المنتظمة وذلك ما يسمى بالمعنى المخترع الذي
تتفاضل الشعراء بالإجادة فيه والإكثار منه وإذا قسنا الشعر الجاهلي بهذا
المعيار وجدنا معانيه وأخيلته تمتاز بالأمور التالية:
(1) جلاء المعاني
وظهورها ومطابقتها للحقيقة والواقع.
(2) قلة البالغة والغلو فيها بما يخرجها عن حد العقل ومألوف الطبع.
(3) قلة المعاني الغريبة المنزع الدقيقة المأخذ المتجلية في صور
الخيال البديع والتشبيه الطريف والاستعارة الجميلة والكناية الدقيقة وحسن
التعليل وغير ذلك.
(4) قلة تأنقهم في ترتيب المعاني والأفكار على النظام الذي يقتضيه
الذوق فيدخلون معنى في معنى وينتقلون من غرض إلى آخر اقتضاباً بدون تخيل
ولا تلطف.
ألفاظه وأساليبه
ولما كانت العرب أمما بدوية تنظم الشعر بطبعها من غير معاناة صناعة
ولا دراسة علم. غلب على شعرها صراحة القول وقلة المواربة فيه والبعد عن
التكلف وصحة النظم والوفاء بحق المعنى أضف إلى ذلك الأمور الآتية:
(1) جودة
استعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها: لإحاطة علمهم بلغتهم ومعرفتهم
بوجوه دلالتها.
(2) غلبة استعمال الألفاظ الجزلة واستعمال الألفاظ الغريبة التي
هجرت عند المحدثين.
(3) القصد في استعمال ألفاظ المجاز ومقت استعمال العجمي إلا ما وقع
نادراً.
(4) عدم تعمد المحسنات البديعية اللفظية، ومتانة الأسلوب بحسن إيراد
المعنى إلى النفس من أقرب الطرق إليها وأطرافها لديها وإيثار المجاز أو قلة
الإسهاب إلا إذا دعت الحال.
أوزانه وقوافيه
العرب لم تعرف موازين الشعر بتعلم قوانين صناعية وتعرف أصول وضعية
وإنما كانت تنظم بطبعها على حسب ما يهيئه لها إنشادها وقد هدتهم هذه الفطرة
إلى أوزان أرجعها الخليل إلى خمسة عشر وزناً سماها بحوراً وزاد عليها
الأخفش بحراً وقد اكثروا النظم من بعضها دون بعض.
(راجع كتابنا "ميزان الذهب في بحور شعر العرب") وشعر العرب رجزه
وقصيده يبني على قافية واحدة كيفما طال القول.
الشعراء
شعراء الجاهلية اكثر من أن يحاط بهم. ومن جهل منهم اكثر ممن عرف.
وإنما اشتهر بعضهم دون بعض: لنبوغه، أو كثرة المروي من شعره أو قرب عهده من
الإسلام زمن الرواية.
وكان للشعراء عند العرب منزلة رفيعة، وحكم نافذ وسلطان غالب، إذ
كانوا ألسنتهم الناطقة بمكارمهم ومفاخرهم، وأسلحتهم التي يذودون بها عن
حياض شرفهم (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل
فهنأتها، وصنعت الأطعمة وأتت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس،
ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن حياظهم وتخليد
لمفاخرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لايهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ.
أو فرس تنتج).
وكانت طريقة نظم الشعر ارتجاله فتأتيهم ألفاظه عفوا، ومعانيه رهواً
كما وقع للحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم. أما من اتخذه منهم صناعة يستدرها
ويلتمس به الجوائز، وينشده في المحافل والمواقف العظام فإنه يتعهده
بالتهذيب والتنقيح ليجعله رقيق الحاشية حسن الديباجة يصح أن يقال فيه أنه
المثل الأعلى للشعر الجاهلي، كما ترى ذلك واضحاً في حوليات زهير واعتذاريات
النابغة.
وقد غبر الناس دهراً طويلاً لايقولون الشعر إلا في الأغراض الشريفة
لا يمدحون عظيماً طعماً في نواله، ولايهجون شريفاً تشفياً منه وانتقاماً
حتى نشأت فهم فئة امتهنت الشعر وتكسبت به، ومدحت الملوك والأمراء كالنابغة
الذبياني وحسان مع النعمان بن المنذر وملوك غسان، وزهير بن أبى سلمى مع هرم
بن سنان وأمية بن أبي الصلت مع عبد الله بن جدعان: أحد أجواد قريش والأعشى
مع الملوك والسوقة، حتى قصد به الأعاجم، وجعله متجراً به فتحامى الشعر
الأشراف، وآثروا عليه الخطابة.
طبقات الشعراء
طبقات الشعراء باعتبار عصورهم أربع: 1 طبقة الجاهلين.
2 طبقة المخضرمين (وهم الذين اشتهروا بقول الشعر في الجاهلية
والإسلام).
3 طبقة الإسلاميين، وهم الذين نشؤوا في الإسلام ولم تفسد سليقتهم
العربية، وهم شعراء بني أمية.
4 طبقة المولدين، أو المحدثين، وهم الذين نشؤوا زمن فساد العربية
وامتزاج العرب بالعجم، وذلك من عصر الدولة العباسية إلى يومنا هذا.
والشعراء الجاهليون يقسمون باعتبار شهرتهم في الشعر للإجادة أو
للكثرة إلى طبقات كثيرة نذكر منها ثلاثا: 1 الطبقة الأولى: امرؤ القيس،
وزهير، والنابغة.
2 الطبقة الثانية: الأعشى، ولبيد، وطرفة.
3 الطبقة الثالثة: عنترة، وعروة بن الورد والنمر بن تولب، ودريد بن
الصمة، والمرقش، الأكبر.
ومن الأدباء من يقدم بعض هؤلاء على بعض ويزيدون غيرهم عليهم.
امرؤ القيس
هو الملك أبو الحارث حندج بن حجر الكندي شاعر اليمانية.
وآباؤه من أشراف كندة وملوكها، وكانت بنو أسد من المضرية خاضعة
لملوك كندة وآخر ملك عليهم هو حجر أبو امرئ القيس وأمه اخت مهلهل وكليب.
نشأ امرؤ القيس بأرض نجد بين رعية أبيه من بني أسد، وسلك مسلك
المترفين من أولاد الملوك يلهو ويلعب ويعاقر الخمر ويغازل الحسان فمقته
أبوه ولما لم ينجح فيه القول طرده عنه وأقصاه، حتى جاء نبأ ثوران بني أسد
على أبيه وقتلهم له. لأنه كان يعسف في حكمه لهم، فقال (ضيعني صغيراً،
وحملني دمه كبيراً لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليو مخمر، وغداً أمر) وأخذ
يجمع العدة ويستنجد القبائل في إدراك ثأره فنازل بني أسد وقتل فيهم كثيراً
ثم اشتدت به علة لأنه كان يعسف في حكمه لهم، فقال (ضيعني صغيراً، وحملني
دمه كبيراً لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليو مخمر، وغداً أمر) وأخذ يجمع
العدة ويستنجد القبائل في إدراك ثأره فنازل بني أسد وقتل فيهم كثيراً ثم
اشتدت به علة قروح فمات منها ودفن بأنقرة وكان ذلك قبل الهجرة بقريب من
قرن.
شعره: يعتبر امرؤ القيس راس فحول شعراء الجاهلية والمقدم في الطبقة
الأولى فهو أول من أجاد القول في استيقاف الصحب، وبكاء الديار، وتشبيه
النساء بالظباء والمها والبيض، وفي وصف الخيل بقيد الأوابد وترقيق النسيب،
وتقريب مآخذ الكلام، وتجويد الاستعارة، وتنويع التشبيه.
وقد يفحش في تشبيه بالنساء وتحدثه عنهن، ويشم من شعره رائحة النبل
وتلمح فيه شارات السيادة والملك: من ذلك قوله:
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتل
وقوله:
وظل طهارة اللحم مابين منضج
صفيف شواء أو قدير معجل
ولو أن ماأسعى لأدتنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما اسعاى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وشعره وإن اشتمل بشملة البداوة في جفاء العبارة، وخشونة الألفاظ
وتجهم المعاني، تراه أحياناً يخطر في حلل من حسن الديباجة، وبديع المعنى،
ودقة النسيب ومقاربة الوصف وسهولة المأخذ: مما كان منه لخلفه أجمل مثال في
محاكاته.
فمن النوع الأول قوله في معلقته:
وفرع يغش المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائرة مستشزرات إلى العلا
تضل المدارى في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
وتعطو برخص غير شئن كأنه
أساريع ظبي أو مسويك إسحل
ومن الثاني قوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
كأن قلوب ااتلطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
ولا مرئ القيس المطولات والمقطعات، وأشهر مطولاته معلقته المضروب
بها المثل في الاشتها، وأولها:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ومنها يصف الليل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم وليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي
بصبح وما الإص2باح منك بأمثل
فيالك من ليل كأون نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
ومنها يصف فرسه:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
النابغة الزبياني
هو النابغة الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية: أحد فحول شعراء
الجاهلية، وزعيمهم بعكاظ وأحسنهم ديباجة لفظ، وجلاء معنى، ولطف اعتذار ولقب
بالنابغة لنبوغه في الشعر فجأة وهو كبير، بعد أن امتنع عليه وهو صغير وهو
من أشراف ذبيان إلا أن تكسبه بالشعر غض من شرفه، على أنه لم يتكسب بشعره
إلا في مدح ملوك العرب، وكان من أمره في ذلك أنه ااتصل بملوك الحيرة ومدحهم
وطالت صحبته للنعمان بن المنذر ، فأدناه منه إلى وشى به عند النعمان أحد
بطانته فغضب عليه وهو بقتله. فأسر إليه بذلك حاجبه عصام، فهرب النابيغة إلى
ملوك غسان المنافين للمناذرة في ملك العرب، فمدح عمرو بن الحارث الأصغر
وأخاه النعمان، غير أن قديم صحبته للنعمان جعله يحن إلى معاودة العيش في
ظلاله، فتنصل مما رمي به. واعتذر إليه بقصائد عطفت عليه قلبه، وزعمر
النابغة طويلاً ومات قبيل البعثة. شعره يمتاز برشاقة اللفظ ووضوح المعنى،
وحسن النظم، وقلة التكلف، حتى عد عند المرفقين من الشعراء جرير أنه أشعر
شعرا ء الجاهلية، وأغراه تكسبه بالشعر أن يفتن في ضروب المدح ومن أبلغ شعره
معلقته التي أولها:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار
ماذا تحيون من نؤى وأحجار
أقوى وأقفر من نعم وغيره
هوج الرياح بها بي الترب موار
وقفت فيها سراة اليوم أسألها
عن آل نعم أموناً معبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ماتكلمنا
والفدار لو كلمتنا ذات أخبار
ومن جيد قوله في الاعتذار
آثاني (أبيت اللعن) أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشتني
هراساً به يعلى فراشي وقشب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مطلب
لئن كنت قد بلغت عني جناية
لمبلغك االواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرأ لي جرانب
من الأرض فيه مستراد ومهرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في شكرهم ذلك أذنبوا
فلا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلي به القار أجرب
ألم تر أن الله أعطاك سروة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وإنك شمسٌ والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوما فبعد ظلمته
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، ثالث فحول الطبقة الأولى
من الجاهلية، وأعفهم قولاً، وأوجزهم لفظاً، وأغزرهم حكمة، وأكثرهم تهذيباً
لشعره نشأ في غطفان وإن كان نسبة في مزينة، كمن بيت جل أهله شعراء: رجالاً
ونساءً ت واختص زهير بمدح هرم بن سنان الذبياني المري وأول ما أعجبه من
أمره وجب إليه مدحه حسن سعيه هو والحارث بن عوف في الصلح بين عبس وذبيان في
حرب داحس والغبراء بتحملهما دامت القتلى التي بلغت ثلاثة آلاف بعير، وقال
في ذلك قصيدته إحدى المعلقات السبع التي أولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتلثم
ثم تابع مدحه كما تابع هرم عطاءه حتى حلف ألا يمدحه زهير إلاى أعطاه
ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرساً،
فاستحيا زهير منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: أنعموا صباحاً غير هرم وخيركم
استثنيت وكان زهير سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع متدنياً مؤمناً
بالبعث والحساب كما يظهر من قوله:
فلا تكتمن الله مافي نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وعمر زهير ومات قبل البعثة بسنة ومن حكمه في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن عام مافي غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
نمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المناياينلنه
وأن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
شعره: اتفق أكثر الشعراء على أن زهيراً يفضل صاحبيه امرأ القيس
والنابغة.
وكان زهير صاحب روية وتعمل تهذيب لما يقول ولا سيما مطولاته، حتى
قيل إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة أشهر، ويعرضها
على خواصه في أربعة أشهر فلا يظهرها إلا بعد حول، ولذلك يسمون بعض مطولاته
الحوليات، ومكا سبق فيه غيره قوله يمدح هرماً: قد جعل المبتغون الخير في
هرم=والسائلون إلى أبوابه طرقاً
من يلق يوماً على علاته هرماً
يلق السماحة منه والندى خلقاً
لو نال حي من الدنيا بمكرمة
أفق السماء لنالت كفه الأفقا
عنترة العبسي
هو عنتر: بن عمرو بن شداد العبسي أحد فرسان العرب وأغربتها وأجوادها
وشعرائها المشهورين بالفخر والحماسة وكانت أمه أمة حبشية تسمى زبيبة، وأبوه
من سادات بني عبس.
وكان من عادات العرب ألا تلحق ابن الأمة بنسبها، بل تجعله في عداد
العبيد ولذلك كاطن عنترة عند أ[يه منوذاً بين عبدانه، يرعى له إبله وخيله
فربأ بنفسه عن خصال العبيد، ومارس الفروسية ومهر فيها، فشب فارساً شجاعاً
هماماً وكان يكره من أبيه استعباده له عدم إلحاقه به، حتى أغار بعض العرب
على عبس واسةتاقوا إبلهم، ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة لاستنقاذ الإبل،
فقال له أبوه: كر ياعنترة فقال: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب
والصر، فقال كر وأنت حر، فقاتل قتالاً شديدياً حتى هزم القوم واستنقذ
الإبل، فاستحلقه أبوه. ومن ذلك الوقت ظهر اسمه بين فرسان العرب وساداتها
وطال عمر عنترة حتى ضعف جسمه وعجز عن شن الغارات ومات قبيل البعثة.
شعره: لم يشتهر عنترة أول أمره بشعر غير البيتين والثلاثة، وإنما
غلبت عليه الفروسية مكتفياً بها حتى عيره يوماً بعض قومه بسواده وأنه لا
يقول الشعر فاحتج لسواده بخلقه وشجاعته، واحتج لفصاحته بنظم معلقته
المشهورة التي كانت تسمى المذهبة أيضاً وأولها
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقد ضمنها خصاله ومكارم قومه. وحسن دفاعه عنهم ووفرة جوده، معرجاً
فيها على أوصاف أمور شتى. ومن قوله في معلقته:
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
مازلت أرميهم بثغرة نحره
ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
والخيل تقتحم الخبار عوابساً
من بين شيظمة وأجرد شيظم
أثني علي بما علمت فإنني
سمح مخالطتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
مر مذاقته كطعم العلقم
ومن جيد قوله:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
لابد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبالك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثل مثلت
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
إني امرؤ ن خر عب منصبا
شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظ
ت ألفيتُ خيراً من معمّ مخولِ
والخيلُ تعلم والفوارس أنّني
فرت جمعهم بضربة فيصل
والخيل ساهمة الوجوه كأنما
تسقى فوارسها نقعَ الحنظلِ
ولقد أبيتُ على الطوى وأظله
حتى أنالَ به كريمَ المأكل
عمر بن كلثوم
ه أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي، وأمه ليلى بنت مهلهل
أخي كليب، نشأ عمرو في قبيلة تغلب بالجزيرة الفراتية وساد قومه وهو ابن خمس
عشرة ستة، وقاد الجيوش مظفراً وأكثر ما كانت فتن تغلب مع أختها بكر بن وائل
بسبب حرب البسوس، وكان آخر صلح لهم على يد عمر ن هند أحد ملوك الحيرة من آل
المنذر، ولم تمضِ مدة حتى حدث بين وجوه القبيلتين مشاحة في مجلس عمرو بن
هند قام أثناءها شاعر بكر (الحارث بن حلزة اليشكري) وأنشد قصيدته المشهورة،
وما فرغ منها حتى ظهر لعمرو بن كلثوم أن هوى الملك مع بكر، فانصرف ابن
كلثوم وفي نفسه ما فيها ثم خطر على نفس ابن هند أن يكسر من أنفة تغلب
بإذلال سيدها وهو عمرو بن كلثوم فدعاه وأمه ليلى بنت مهلهل وأغرى هند أم أن
تستخدمها في قضاء أمر، فصاحت ليلى، فثار به الغضب وقتل ابن هند لفي مجلسه،
ثم رحل توا إلى بلاده بالجزيرة وأنشد معلقته التي أولها:
ألا هبيّ بصحنكِ فأصبحينا
ولا تبقى خمورَ الأندرينا
ومات قبل الإسلام بنحو نصف قرن.
شعر ه: لم يشتهر إلا بمعلقة الواحدة التي قامت له مقام الشعر
الوفير: لحسن لفظها، وانسجام عبارتها، وعلو فخرها ولعلّ شهرته بالخطابة لا
تقل عن شهرته بالشعر: ومن سامي فخره في معلقته:
وقد علم القبائلُ من معدّ
إذا قببب بأبطحها بنينا
بأنّا العاصمون إذا قدرنا
وإنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنّا المانعون لما أردنا
وأن النازلون بحيث شينا
وأنّا التاركون إذا سخطنا
وأنّا الآخذون إذا رضينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
إذا ما الملك سام الناس خسفاً
أبنيا أن نقر الذلّ فينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاةُ ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وكذاك البحر نملاؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
طرفة بن العبد
ه8و عمرو بن العبد البكري أقصر فحول الجاهلية عمراً ومال إلى قول
الشعر الوقوع ه في أعراض الناس، حتى هجا عمرو بن هند ملك العرب على الحيرة
مع أنه كان يتطلب معروفه وجوده، فبلغ عمرو بن هند هجاء طرفة فأصطغنها عليه،
حتى إذا ما جاءه هو وخاله المتلمس بتعرضان لفضله أظهر لهما البشاشة وأمر
لكل منهما بجائزة وكتب لهما كتابين أحالهما على عامله بالبحرين ليستوفيا
منه وبينما هما في الطريق ارتاب المتلمس في صحيفته فعرج على غلام يقرؤها له
(مضى طرفة) فإذا الصحيفة الأمر بقتله، فألقى الصحيفة وأراد أن يلحق طرفة
فلم يدركه وفر إلى ملوك غسان وذهب طرفة إلى عام البحرين وقتل هناك وعمره
نحو ست وعشرين سنة.
شعره: يجيد طرفة الوصف في شعره مقتصراً فيه على بيان الحقيقة بعيداً
عن الغلو والإغراق وكذلك كان هجاؤه على شدة وقه ومطلع معلقته:
لخولة أطلالٌ ببرقةٍ ثمهدِ
تلوح كباقي الوشم على ظاهر اليد
ومنها:
رأيتُ بني غبراءَ لا ينكرونني
ولا أهلُ هاذاك الطراف الممدد
ألا أيها ذا اللائمي أخضر الوغى
وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفعَ منيّتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إلى أن قال:
أرى الموت يعتام الكرامَ ويصطفي
عقيلةَ مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقضاً كل ليلة
وما تنقصُ الأيام الدهرُ ينفدِ
لعمرك إن الموت "ما أخطأ الفتى"
لكا لطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه
ومن يك في حبل المنية ينقد
ومن أبياته السائرة:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة
على المرء من وقعِ الحسام المهنَّد
أرى الموتَ أعداد النُّفوس ولا أرى
بعيداً غداً ما أقرب اليومَ من غد
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودّ
أعشى قيس
هو أبو نصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل القيسي نشأ في بدء أمره
رواية لخاله المسيب بن علس وقد عمي وطال عمره، حتى كان الإسلام وعظم أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بين العرب، فأعدّ له قصيدة يمدحه بها، وقصده
بالحجاز، فلقيه كفار قريش وصدّوه عن وجهه على أ، يأخذ منهم مائة ناقة حمراء
ويرجع إلى بلده: لتخوفهم أثر شعره ففعل، ولما قرب من اليمامة سقط عن ناقته
فدقت عنقه ومات، ودفن ببلدته منفوحة باليمامة.
شعره: يعد الأعشى رابعاً لثلاثة الفحول: امرئ القيس، والنابغة وزهير
وإن كان يمتاز عنهم بغزارة شعره، وكثر ما روي له من الول لجياد وتفننه في
كل فن من أغراض الشعر واشتهر من بينهم بالمبالغة في وصف الخمر، حتى قيل:
أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب والأعشى
إذا طرب، ولشعره طلاوة وروعة، وليست لكثير من شعره غيره من القدماء ولقوة
طعمه وجلبة شعره وسمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخره
ينشد معك.
ولجلالة شعره كان يرفع الوضيع خاملاً، ويخفض الشريف النابه، ومنم
الذين رفعن شعر الأعشى المحلق، وقد كان أبا ثمان بنات عوانس: رغبت عن
خطبتهن الرجال لفقرهن فاستضافه على فقره، فمدحه الأعشى ووه بذكره في عكاظ،
فلم يمض عام حتى لم تبق جارية منهن إلا هي زوج لسيد كريم وكان الأعشى يتطرف
في شعره وده بعضهم من أصحاب المعلقات، وذكر قصيدته التي يمدح بها الأسود
الكندي ومطلعها:
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي وما ترد سؤالي
ومن جيد شعره قصيدته التي أعدها لينشدها بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يمدحه فيها فلم يفز بذلك، وأولها:
ألم تغمض عيناك ليلةَ أرمدا
وبتَّ كما بات السّليم مسهّدا
وما ذاك من عشق النسّاء وإنّما
تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
شبابٌ وشيبٌ وافتقار وثروة
فلّله هذا الدهر كيف ترددا
وقصيدته في مدح المحلّق أولها:
أرقتُ وما هذا السُّهاد المؤرقُ
وما بي من سقمٍ وما بي تعشقُ
ومنها:
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة
إلى ضوء نار في اليفاع تحرّق
تشبُّ لمقرورين يصطليانهما
وبات على النار الندي والمحلّق
رضيعي لبان ذدي أمّ تقاسما
بأسحم داج عوض لا نتفرّق
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه
كما زان متنَ الهندواني رونق
يداهُ يدا صدق فكفُّ مبيدةٌ
وأخرى إذا ما ضنَّ بالمال تنفقُ
الحارث بن حلّزة
وهو الحارث بن حلّزة اليشكري البكريّ يتصل نسه إلى بكر بن وائل ولم
يؤثر عنه غي قطع يسيرة وقصيدته المعلقة التي مطلعها:
آذنتنا ببينها أسماء
ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثواء
وكان أمر هذه المعلقة أن عمرو بن هند أحد ملوك الحيرة أصلح بين بكر
وتغلب بعد حرب البسوس وخذ من كلا الفريقين رهائن من أبناهم ليكف بعضهم عن
بعض، وليقيد منها للمعتدي عليه من المعتدي فحدث أن سرح الملك ركباً من تغلب
في بعض حاجته، فزعمت تغلب أن الركب نزلوا على ماء لبكر فأجلوهم، وحملوهم
على المفازة فماتوا عطشاً، وتزعم بكر أنهم سقوهم وأرشدوهم الطريق فتاهوا
وهلكوا وذهب الفريقان تدافعان عند عمرو بن هند وكانت ضلعه مع تغلب فهاج ذلك
الحارث بن حلزة وكان في المجلس مستوراً عن الملك بستارة لما فيه من البرص
فارتجل قصيدته ارتجالاً يفتخر فيها بقومه وفعالهم وحسن بلائهم عند الملك
وعظم أيامهم معه فما أتم قصيدته حتى انقلب الملك إلى جانب البكريين وقرب
الحارث من مجلسه.
وعمر بن الحارث طويلاً حتى قيل: إنه أنشد هذه القصيدة وعمره خمس
وثلاثون ومائة سنة.
شعره: أكثر الرواة معجبون بارتجال الحارث قصيدته على طولها وإحكامها
ومن قوله فيها وهو أوجز وصف للتأهب للارتحال وأوضحه تصويراً للحقيقة.
أجمعوا أمرهم عشاءً فلمّا
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من منادٍ ومن مجيب ومن تصه_هال خيل خلالَ ذاك رغاءُ
لبيد بن ربيعة
هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين وهو
من بني عامر بن صعصعة إحدى بطون هوازن ومضر وأمه عبسية، نشأ لبيد جواداً
شجاعاً فاتكاً، أما الجود فورثه عن أبيه الملقب بربيعة المعترين، وأمى
الشجاعة والفتك فهما خصلتا قبليته إذا كان عمه ملاعب الأسنة أحد فرسان مضر
في الجاهلية وكان من قبليته وبين بني عبس أخواله عداوة شديدة فاجتمع
وفداهما عند النعمان بن المنذر وعلى العبسيين الربيع بن زياد وعلى
العامريين وملاعب الأسنة وكان الربيع مقرباً عند النعمان يؤاكله وينادمه
فأوغر صدره على العامريين فلما دخل وفدهم على النعمان أعرض عند فشق ذك
عليهم، ولبيد يومئذٍ صغير يسرح إبلهم ويرعاها فسألهم عن خطبهم فاحتقروه
لصغره فألح حتى أشركوه معهم فوعدهم أنه سينتقم لهم منه غداً عند النعمان
أسوأ انتقام: بهجاء يجالسه بعده ولا يؤاكله فكان ذلك ومقت النعمان الربيع
ولم يقبل له عذراً وأكره العامريين وقضى حوائجهم، فكان هذا أول ما اشتهر به
لبيد، ثم قال بعد ذلك المقطعات والمطولات، وشهد النابغة له وهو غلام بأنه
أشعر هوازن حين سمع معلقته التي أولها:
عفتِ الديارُ محلُّها فمقامها
بمنّى تأبّد غولها فرجامها
ولما ظهر الإسلام وأقبلت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم
جاء لبيد في وفد بني عامر وأسلم وعاد إلى بلاد وحسن إسلامه، وتنسك وحفظ
القرآن كله وهجر شعر حتى لم يرو له في الإسلام غير بيت واحد هو:
ما عاتب الحرَّ الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليسُ الصالح
وبعد أن فتحت الأمصار ذهب إلى الكوفة زمن عمر بن الخطاب، واختارها
دار إقامة، وما زال بالكوفة حتى مات في أوائل خلافة معاوية سنة إحدى
وأربعين من الهجرة، وقد قيل إنه عاش ثلاثين ومائة سنة.
شعره: نبغ فيه وهو غلام وجرى فيه على سنن الأشراف والفرسان.
ومن جيد شعره وقوه في معلقته مفتخراً بفعاله وقوله وقومه:
إنا إذا التقيت المجامع لم يزل
منا لزازٌ عظيمة جشامها
ومقسم يعطي العشيرة حقها
ومغذمرٌ لحقوقها هضامها
فضلاً وذو كرم يعين على الندى
سمحٌ كسوبٌ رغائب غنّامها
من معشر سنّت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنّة وإمامها
لا يطبعون ولا يبور فعالهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليكُ فإنما
قسم الخلائق بيننا علاّمها
وإذا الأمانة قسّمت في معشر
أوفى بأعظم حظنا قسّامها
فبنى لنا بيتاً رفيعاً سمكه
فسما إليه كهلها وغلامها
فهم السعادة إذا العشيرة أفظعت
وهم فوارسها وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهمُ
والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة إن يبطئ حاسد
أو أن يميل مع العدو لئامها
وقال يرثي أخاه أربد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوامع
وتبقى الديار بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنه
ففارقني جارٌ بأربد نافع
فلا جزعٌ إن فرق الدهر بينا
فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع
وما الناس إلاّ كالديار وأهلها
بها يوم خلّوها وراحوا بلاقع
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلاّ ودائع
ولابدّ يوماً أن تردّ الودائع
وما الناس إلا عاملان: فعامل
يتبر ما يبني وآخر رافع
فمنهم سعيدُ آخذ بنصيبه=ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع ومنه قوله في
النعمان يرثيه:
ألا تسألان ماذا يحاول
أنحب فيقضي أم ضال وباطل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
بلى كل ذي لب إلى الله واسلُ
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفرّ منها الأنامل
وكل امرئٍ يوماً سيعلم غيبة
إذا كشفت عند الإله الحصائل
الرّواية _ الرّواة
قد علمنا مما تقدم أن عامة المروي من كلام العرب شعرها ونثرها
وأخبارها معزو إلى أهل البدو الأميين، ولذلك لم يصل غلينا كتاب يجمع بين
دفتيه الكثير منها، وما روي لنا من كلام فصحاء العرب ليس إلا النزر اليسير
بوجوه مختلفة وبالطبع لا يحفظ هذه الوديعة إلاّ أهل الحفاظ عليها والاعتداد
بها وهم الشعراء والمتأدبون، فقد كان امرؤ القيس رواية ربي دواد الإيادي،
وزهير رواية أوس ن حجر والأعشى رواية المسيب بن علس.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة للأشعار وعلماؤهم بالأنساب وهم
مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى وعقيل بن أبي
طالب.
   

العصر الثاني عصر صدر الإسلام ويشمل بني أميّة
حالة اللغة العربية وآدابها في ذلك العصر
كانت العرب أمماً بدوية ليس لها وسائل العمران وأسباب الرخاء ما
يحملها على تبحر في علم أو تبصر في دين، أو تفنن في تجارة، أو زراعة أو
صنعة أو سياسة، وعلى وفق ذلك كانت اللغة العربية لا تعدوا أغراض المعيشة
البدوية إا أن روحاً من الله تنسم بين أرجائها فأيقظها من ردتها، ونبهها
لضرورة التعاون على الخير في معاشها ولغتها وجماعتها، فظهر ذلك بيناً في
الأسواق التجارية اللغوية الاجتماعية، وفي الإذعان فيها إلى حكومة الأشراف
من قريش وتميم وغيرهما،ة مما هيأهم لأن يجتمعوا تحت لواء واحد ويتفاهموا
بلسان واحد، فكان ذلك إيذاناً من الله بإظهار الإسلام فيهم، وما ألفت
نفوسهم هذا النمط ويتفاهموا بلسان واحد، فكان ذلك إيذاناً من الله بإظهار
الإسلام فيهم، وما ألفت نفوسهم هذا النمط الجديد إلا ود جاء النبي الكريم
لاما لشعثهم موحداً لكلمتهم، مهذباً لطباعهم مبيناً طريق الحق، وجادة
الصواب، بشريعة عظيمة.
فكان من نتيجة ذلك أن أسست لهم جمعة قومية ملية وملك كبير، وبالتفاف
العرب حول صاحب هذه الدعوة وأنصاره، وتفهمهم شرعته وكلامه ثم خضوعهم بعد
لزعامة قومه وخلفائه وولاتهم وفتوحهم تحت ألويتهم ممالك الأكاسرة والقياصرة
وغيرها ومخالطتهم أهلها بالجوار والمصاهرة.
الأول: شيوع اللغة القرشية ثم توحد لغات العرب، وتمثلها جميعها في
لغة قريش واندماج سائر اللهجات العربي فيها، وبعض أسباب هذا يرجع إلى ما
قبل بتأثير الأسواق والحج وحكومة قريش وأكثرها يرجع إلى نزول القرآن
بلغتهم، وظهور ذلك الداعي العظيم منهم، وانتشار دينه وسلطانه على أيديهم.
وبحكم الضرورة تكون لغتهم هي اللغة الرسمية بين القبائل.
الثاني: انتشار اللغة العربية في ممالك الفرس والروم وغيرهما
بالفتوح والمغازي وهجرة قبائل البدو إليها، واستيطانهم، واختلاطهم بأهلها.
الثالث: اتساع أغراض اللغة منهجاً دينياً، واتباعها خطة نظامية
تقتضيها حال الملك وسكنى الحضر.
الرابع: ارتقاء المعاني والتصورات وتغير الألفاظ والأساليب.
الخامس: ظهور اللحن في الكلام بين المستعربين: من الموالي وأبناء
العرب من الفتيات وبعض العرب المكثرين من معاشرة الأعاجم.
ولما كان معظم هذه التغيرات يرجع إلى القرآن الكريم والحديث النبوي
ناسب وصفهما بقليل من مثير مما ينبغي أن يقال فيهما.
القرآن الكريم وأثره في اللغة
القرآن (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]، فيه آيات بينات، ودلائل واضحات، وأخبار صادقة،
ومواعظ رائقة، وشرائع راقية، وآدا عالية، بعبارات تأخذ الألباب.
وأساليب ليس لأحدج من البشر بالغاً مما بلغ من الفصاحة والبلاغة أن
يأتي بمثلها، أو يفكر في محاكاتها فهو آية الله الدائمة، وحجته الخالدة،
(لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، أنزل الله على رسوله ليبلغه
قومنه وهم فحول البلاغة، وأمراء الكلام.
وأباه الضيم، وأربا الأنفة والحمية فيبهرهم بيانه، وأذهلهم افتتانه
فاهتدى به من صح نظره واستحصف عقله، ولطف ذوقه، وصد عنه أهل العناد
والمكارة واللجاج فتحداهم أن يأتوا بمثله فنكصوا ثم بعشر سور مثله فعجزوا،
ثم بسورة من مثله فانقطعوا فحق عليهم إعجازه قال تعالى: (قُل لّئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً) [الإسراء: 88].
وللقرآن فضل على اللغة فقد أثر فيها ما لم يؤثره أي كتاب سماوياً
كان أو غير سماوي في اللغة التي كان بها، إذا ضمن لها حياة طيبة وعمراً
طويلاً، وصانها من كل ما يشوه خلقها ويذوي غضارتها فأصبحت وهي اللغة الحية
الخالدة ومن بين اللغات القديمة التي انطمست آثارها، وصارت في عداد اللغات
التاريخية الأثرية وأنه قد أحدث فيها علوماً جمة وفنوناً شتى لولاه لم تخطر
على قلب، ولم يخطها قلم منها، والنحو، والصرف، والاشتقاق، والمعاني،
والبديع، والبيان والأدب والرسم، والقراءات، والتفسير، والأصول، والتوحيد
والفقه.
جمع القرآن وكتابته
قد نزل القرآن الكريم على رسول الله صل الله عليه وسلم منجماً تعلى
حسب الوقائع ومقتضيات الأحوال في بضع وعشرين سنة، وكان عليه الصلاة والسلام
يأمر كتابة وحيه بكتابة ما ينزل وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
والقرآن كله مكتوب، وفي صدور الصحابة محفوظ، وفي مدة الإمام عثمان كثرت
الفتوحات وانتشر القراء في الأمصار فأمر عثمان زيد بن ثابت وعد الله بن
الزبير وسعيد بن العاص ونعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا تلك الصحف في
مصحف واحد مرتب السور واقتصر فيه من جميع اللغات على لغة قريش لنزوله
بلغتهم.
الحديث النبوي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصح الناس وأبينهم وأحكمهم، وكانت
حياته كلها هداية ونوراً وأفعاله وأقواله جميعها مدداً يستمد منه الخلق
سدادهم وإرشادهم في معاشهم ومعادهم ولهذا حرص المسلمون على حفظ ذلك الأثر
العظيم حرصاً لم توفق مثله أمة في حفظ آثار رسولها فجمعوا من كلامه ووف
أفعاله وأحواله الأسفار الضخام ووعوا منها في صدورهم ما لا يدخل تحت حصر
وكلامه صلى الله عليه وسلم منزه عن اللغو والباطل وإنما كان في توضيح قرآن
أو تقرير حكم أو إرشاد إلى خيرا أو تنفير من شر أو في حكمة ينتفع الناس بها
في دينهم ودنياهم عبارة هي في الفصاحة والبلاغة والإيجاز والبين بالدرجة
الثانية بعد القرآن الكريم ولذلك كان تأثيرها في اللغة والأدب بالمنزلة
التالية لكلام الله تعالى.
النثر لغة التخاطب الخطابة الكتابة
كانت لغة التخاطب في مبدأ الإسلام بين العرب الخلص والموالي
النابتين فيهم هي العربية الفصيحة المعرة وكانت لغة الموالي الطارئين عليهم
تقرب من الفصيحة أو تبتعد عنها على حسب طول لبثهم فيهم أو قصر مقامهم عندهم
ولما فتح المسلمون الأمصار وكثر عندهم سبي الأعاجم وأسرى الحروب ودخل في
الإسلام منهم ألوف الألوف وأصبحوا لهم إخواناً وشركاء في الدين وتم بينهم
التزاوج والتناسل، نشأ للعرب ذرية اختلطت عليهم ملكة العربية وكذلك كان
الشأن في المتعربين من الأعاجم أما العرب أنفسهم عد الفتوح فكانت لغتهم في
جزيرتهم مثلما كانت عليه في جاهليتهم، أما سكان الأمصار منهم وأولادهم من
الحرائر، فالعامة منهم المخالطون للأعاجم لم تخل لغتهم من لحن أو هجنة،
والخاصة منهم تشددوا فالمحافظة على سلائقهم وتحاموا التزوج بالأعجميات
وبالغوا في تربية أبنائهم فكانوا يرسلونهم إلى البادية ليرتاضوا على
الفاصحة، أو يحضون لهم المؤدبين والمعلمين كذلك كان يفعل خلفاء بني أمية
وأمراؤهم اقتداءً بكبيرهم معاوية بن أبي سفيان في تربية ابنه يزيد، ومن لحن
منهم تعدوا ذلك عليه عاراً لا يمحى وسبة لا تزول، ومن هؤلاء اللحانين عبيد
الله بن زياد والوليد بن عبد الملك وخالد القشري مع أن بعضهم كان من أبلغ
الناس وأبينهم.
ومن هنا يعلم السر في تسرع القوم إلى وضع النحو وتدوينه والشكل
والأعجام.
الخطابة في هذا العصر والخطباء
لا كان مبدأ كلا انقلاب عظيم في أي أمة: إما دعوة دينية وإما دعوة
سياسية، وكانت تلك الدعوة تستدعي ألسنة قوالة من أهلها لتأييدها ونشرها
وألسنة من أعدائها وخصومها لإدحاضها والصد عنها، و ذلك لا يكون إلا بمخاطية
الجماعات: وكان ظهور الإسلام من أهم الحوادث التي أنشطت الألسن من عقلها
وأثارت الخطابة من مكمنها فوق ما كانت عليه في جاهليتها فكان العمل الأكبر
لصاحب الدعوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بادئ أمره غير تبليغ
القرآن وارداً من طريق الخطابة. ولأمر ما جعلها الشارع سعار كل الأمور ذوات
البال، كان دعاة النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى الملوك وأمراء جيوشه
وسراياه ثم خلفاءه من بعده عمالهم كلهم خطباء مصاقع ولسنا مقاول وأن الشعر
صرفهم عن اللهو والشعر الذي لا ينهض بأعباء الخطابة ولاسيما الدينية لشرحها
الحقائق وقرعها الأسماع بالحجج العقلية والوجدانية وترغيبها في الثواب
وترهيبها من العقاب بعبارات تفهمها الخاصة والعامة وكان لهم من القرآن
أدلته وحجته والاقتباس منه مدد أيما مدد.
ولما حدثت الفتنة بن المسمين بعد مقتل عثمان، وافترقوا إلى عراقيين
بزعامة علي وشاميين بزعامة معاوية ولكل منهم دعوة يؤيدها ورغبة يناضل عنها
في تلك الحرب الشعواء التي لم ينكب الإسلام بمثلها، ظهر من كلتا الطائفتين
خطباء لا يحصى عددهم ولا يشق غبارهم ، وعلى رأس العراقيين شيخ الخطباء علي
بن أبي طالب وعلى رأس الشاميين معاوية بن أبي سفيان ولم يعدم كل طائفة
خطباء يؤيدون دعوتها بما أتوا من البلاغة في الخطابة والفصاحة والبيان.
والخطابة وصلت في هذا العصر إلى أرقى ما وصلت إليه في اللسان العربي
حتى ممن يعد عليهم اللحن ولم تسعد العربية بكثرة خطباء ووفرة خطب ومثل ما
سعدت به في هذا الصدر الأول.
إذا كان القوم ورؤساؤهم عرباً خلصاً يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
ولم يخرج الخطباء عن مألوفهم من اعتجار العمامة والاشتمال بالرداء واختصار المخصرة والخبطة من قيام.
وليس في عصور أدب اللغة من عصر أحفل بالخطباء من هذا العصر: إذا
كانت الخطابة فيه سلسة القياد على خلفائه وزعمائه: لفطرتهم العربية ومحلهم
من الفصاحة والبيان وانطباعهم على أساليب القرآن واتساع مداركهم.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
هو أبو بكر عبد الله عتيق بن أبي قحافة عثمان صاحب رسول الله وأول
الخلفاء الراشدين.
ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب،
ولد بعد مولد رسول الله لسنتين وبضعة أشهر ونشأ من أكرم قريش خلقاً وأرجحهم
حلماً وأشدهم عفة وكان أعلمهم بالأنساب وأيام العرب ومفاخرها، صحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وكان أول من آمن به من الرجال وصدقه في
كل ما جاء به: ولذلك سمي بالصديق وهاجر معه إلى المدينة وشهد معه أكثر
الغزوات وما زال ينفق ماله وقوته في معاضدته حتى انتقل صلى الله عيه وسلم
إلى الرفيق الأعلى واختلفت العرب وارتدت عن الإسلام فجرد عليهم الجيوش حتى
قمعهم وما مات إا وجيوشه تهزم جيوش الفرس والروم وتسولي على مدائنهم
وحصونهم وكانت وفاته سنة 13ه? ومدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.
وكان فصيحاً بليغاً خطيباً مفوهاً قوي الحجة شديد التأثير يشهد بذلك
خطبته يوم السقيفة (وذلك أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفت
الصحابة فيمن يبايعونه خليفة عليهم: فابت الأنصار إلا أن يكون الخليفة منهم
وأبى المهاجرون من ريش إلا أن يكون منهم واشتد النزاع حتى كادت تقع الفتنة
فخطبهم خطبة لم يلبث الجمع بعدها أن بايعوه خليفة) وهي: حمد الله وأثنى
عليه ثم قال: أيها الناس نحن المهاجرون، وأول الناس إسلاماً، وأكرمهم
أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأكثر الناس ولادة في العرب
وأمسهم رحماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم وقدمنا في
القرآن قال تبارك وتعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) [التوبة: 100]
فنح المهاجرون وأنتم الأنصار: إخواننا في الدين.
وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو آويتم وواسيتم جزاكم الله
خيراً نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش فلا
تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
وخطب أيضاً حين بايع الناس البيعة العامة.
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست
بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني
أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم ألا أتن أقواكم
عندي الضعيف حتى آخذ الحق له وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه أقول
قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وخطب أيضاً الناس فقال:
(بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه
صلى الله عليه وسلم) أوصيكم بتقوى الله والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم
وهداكم به فإن جوامع هدي الإسلام بعد كلمة الإخلاص السمع والطاعة لمن ولاه
الله أمركم، فإنه من يطع لله وأولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد
أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم واتباع الهوى، افقد أفلح من حفظ من
الهوى والطمع والغضب وإياكم والفخر! وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب
يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي وغداً ميت؟ فاعلموا يوماً بيوم،
وساعة ساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى واصبروا، فإن
العمل كله بالصبر، واحذروا، والحذر ينفع واعملوا، والعمل يقبل، واحذروا ما
حذركم اله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته وافهموا وتفهموا،
واتقوا، وتوقوا فإن الله قد بيتن لكم ما أهلك به من كلن قبلكم، وما نجي به
من نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يجب من الأعمال، وما
يكره، فإني لا ألومكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله،
واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من قبل أعمالكم فربكم
أطعتم وحظكم وحفظتم واعتبطتم، وما تطوعتم به لدينكم فاجعلوه نوافل
بين أيديكم تستوفوا سلفكم وتعطوا جرايتكم حيث فقركم وحاجتكم إليها ثم
تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد ردوا على ما قدموا
فأقاموا عليه وحلوا في الشقاء أو السعادة فيما بعد الموت، أن الله له شريك
وليس بينه وبين أحد من خله نسب يعطيه به خيراً ولا يصرف عنه سوءاً إلا
بطاعته اتباع أمره فلأنه لا خير في خير بعده النار ولا شر في شر بعده
الجنة.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي ثاني خليفة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وأول من تسمى من الخلفاء بأمير المؤمنين وأول من
أرخ بالتاريخ الهجري ومصر الأمصار ودون الدواوين.
ولد رضي الله عنه بعد مولد النبي صلى اله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة
وحضر مع رسول الله الغزوات كلها، ثم لما قبض أعان أبا بكر على تولية
الخلافة، ولما أحسن أبو بكر بالموت، عهد بها غليه، فقام بأعبائها خير قيام
وأتم جميع ما شرع فيه أبو بكر: من فتح ممالك كسرى وقيصر.
وقتله أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة: لأنه لم ينصفه على زعمه في
تخفيض ما يدفعه لسيده من أجره عمله، وكان قتله سنة 23ه? ومدة خلافته عشر
سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وكان رحمه الله من أبين الناس منطقاً،
وأبلغهم عبارة وأكثرهم صواباً وحكمة وأرواهم للشعر، وأنقدهم له.
ومن خطبه خطبته إذ ولي الخلافة.
صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا آيها الناس، إني داع
فأمنوا اللهم إني غليظ فليني لأهل طاعتك بموافقة الحق، ابتغاء وجهك الدار
الآخرة وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق من غير ظلم
مني ولا اعتداء عليهم، واتللهم إني شحيح فسخني في نوائب المعروف قصداً من
غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار
الآخرة، واللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير
الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال وكذر الموت في كل حين، اللهم إني
ضعيف عن العمل طاعتك فارزقني النشاط فيها، والقوة عليها بالنية الحسنة التي
لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك، اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام
بين يديك، والحياء منك وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفسي،
وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات، واللهم ارزقني التفكير والتدبر لما
يتلوه لساني من كتابك، والفهم له والمعرفة وبمعانيه والنظر في عجائبه
والعمل بذلك ما بقيت، إنك على
كل شيء قدير.
ومن خطبه في ذم الدنيا:
إنما الدنيا أمل مخترم وأجل منتقض وبلاغ إلى
دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح
لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه، بئس الجار الغني يأخذك بما لا يعطيك من نفسه
فإن أبيت لم يعذرك، إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للجسم،
ومؤدية إلى السقم، وعليكم في قوتكم فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن وأقوى
على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
عثمان بن عفان رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان القرشي الأموي، ثالث الخلفاء
الراشدين وموجد نسخ القرآن المبين، ولد في السنة السادسة من مولد النبي صلى
الله عليه وسلام وآمن في السابقين الأولين، وبذل ماله الكثير في تأييد
الإسلام ومعونة المجاهدين وهد مغازي رسولا الله كلها إلا بدراً وقد كان عمر
قبل وفاته عهد إلى ستة هو منهم تنتخب الأمة أحدهم خليفة، فانتبخوا عثمان
فأكمل مغازي عمر ثم ثار عليه بعض الأعراب بحجة أنه يؤثر أقرباءه بولاية
الأقاليم، فحاصروه في داره بالمدينة وقتلوه وهو يتلو القرآن الكريم سنة
33ه? ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً.
وكان رحمه الله من بلغاء الخلفاء وأوجزهم لفظاً وأجزلهم معنى
وأسلسلهم عبارة ومن خطبه خطبته بعد أن بويع وهي بعد الحمد والثناء: أما بعد
فإني قد حملت وقد قبلت، ألا ,اني متبع ولست بمتدع، ألا وأن لكم علي بعد
كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: اتباع من كان قبلي
فيما اجتمعتم عليه وسننتم وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف
إا فيما استوجبتم، ألا وأن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها منهم
فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة واعلموا أنها غير
تاركة إلا من تركها.
ومن خطبه أيضاً وهي آخر خطبة خطبها:
أما بعد: فإن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها لآخرة ولم
يعطكموها لتركنوا إليها، الدنيا تفنى والآخر ة تبقى فلا تبطرنكم الفانية
ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وأن
المصير إلى الله، اتقوا الله عز وجل فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده
واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزاباً (وَاذْكُرُواْ
نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: 103].
عليّ بن بي طالب رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي ن أبي طالب، وابن عم رسول وزوج
ابنته ورابع الخلفاء الراشدين ولد رحمه الله بعد مولد النبي باثنتين
وثلاثين سنة، وهو أول من آمن من الصبيان، وكان شجاعاً لا يشق له غبار، وشهد
الغزوات كلها مع النبي إلا غزوة تبوك، وأبلى في نضرة رسول الله ما لم يبله
أحد، ولما قتل عثمان بايعه الناس بالحجاز وامتنع من بيعته عاوية وأهل الشام
شيعة بني أمية غضباً منهم لمقتل عثمان وقلة عناية علي بالبحث عن معرفة
القتلة على حسب اعتقادهم، فحدث من جراء ذلك الفتنة العظمى بين المسلمين
وافتراقهم إلى طائفتين فتحاربوا مجدة من غير أن يستتب الأمر لعلي أو معاوية
حتى قتل أحد الخوارج علياً غيلة بمسجد الكوفة سنة 40ه?.
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.
وكان رحمه الله أفصح الناس بعد رسول الله، وأكثرهم علماً وزهداً
وشدة في الحق، وهو إمام الخطباء من العرب على الإطلاق بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وخطبه كثيرة: منها خطبته كرم الله وجهه بعد التحكيم وهي:
الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجلل وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ليس معه غله غيره، وإن محمداً عبده ورسوله صلى الله
عليه وسلم (أما بعد) فإن معصية الناصح الشفيق العالم لمجرب تورث الحيرة
وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي،
ولو كان يطاع لقصير أمر فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة والمنابذين
العصاة حتى ارتاب الناصح وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوزان:
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
ومن خطبه له حين خاطبه العباس وأبو سفيان وفي أن يبايعا له
بالخلافة.
أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وتعرجوا عن طريق المنافرة
وضعوا عن تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح هذا ماء آجن
ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه
فإن أقل يقولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والله لابن أبي طالب آنس
بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجن على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم
اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة.
سحبان أوائل
هو سحبان بن زفر بن إياد الوائلي، الخطيب المصقع، المضروب به المثل
في البلاغة والبيان في الجاهلية ولما ظهر الإسلام أسلم وتقلبت به الأحوال
حتى التحق بمعاوية فكان يعده لملمات، ويتوكأ عليه المفاخرة.
قدم على معاوية وفد فطل سحبان ليتكلم فقال: أحضروا لي عصاً قالوا
وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو
يخاطب ربه فضحك معاوية وأمره بإحضارها ثم خطب من صلاة الظهر وإلى أن حانت
صلاة العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف لا تلكأ وابتدأ في معنى وخرج منه
وقد قي منه شيء حتى دهش منه الحاضرون فقال معاوية: أنت أخطب العرب: قال
سحبان: والعجم والجن والأنس.
وكان سحبان إذا خطب يسيل عرقاً، ومات في خلافة معاوية سنة 54ه? ومما
يؤثر من خطبه قوله: إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار، أيها الناس فخذوا
من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها حييتم ولغيرها ما
خلتهم إن الرجل إذا هلك قال الناس ما ترك؟ وقال الملائكة ما قدم؟ قدموا
بعضاً يكون لكم ولا تخلفوا كلاً يكون عليكم.
زياد بن أبيه
هو أحد دهاة العرب وساستها وخطاها وقادتها أمه سمية أمة الحارث بن
كلدة الثقفي طبيب العرب وقد قرنها بعبد له رومي يدعى عبيداً فولدت سمية
زياداً علت فراش عبيد هذا (في السنة الأولى من الهجرة) فنشأ غلاماً فصيحاً
شجاعاً فما افتتحت العرب الممالك والأمصار حتى عرف منه ذلك فاستكتبه أبو
موسى اشعري والي البصرة من قبل عمر.
ولما ولي أمير المؤمنين علي الخلافة اضطرب عليه فارس فسار إليها
زياد بجمع وتمكن بخداعه من إيقاع الشقاق بين رؤساء المشاغبين، ومازال يضرب
بعضهم ببعض حتى سكنت ثورتهم، وبقي يتولى لعلي الأعمال حتى قتل علي فخافه
معاوية فأرسل إليه المغير بن شعبة يستقدمه فقدم عليه فادعاه أخاً له
واستلحقه بنبس أبيه أبي سفيان وصار يسمى زياد بن أبي سفيان بدل زياد بن
عبيد أو(ابن سمية أو ابن أبيه).
وولاه معاوية العراقين وهو أول من جمع له بينهما فسار في الناس سيرة
لم بها الشعث وأقام بها المعوج وكبح الفتنة واشتط في العقوبة وأخذ بالظنة
وعاقب على الشهة حتى شمل خوفه جميع الناس فأمن بعهم بعضاً وكان الشيء يسقط
من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأبى صاحبه فيأخذه بل كان لا
يغلق أحد بابه وكان زياد يقول: (لو ضاع حبل بيني وبين خراسان لعرفت آخذه)
وكان مكتوباً في مجلس عنوان سياسته وهي (الشدة في غير عنف واللين في غير
ضعف المحسن سيجازى بإحسانه والمسيء يعاقب بإساءته) وتوفي بالكوفة في رمضان
سنة 53ه?.
ومن خطه البليغة خطبته حين قدم إلى البصرة وهي:
أم بعد فإن الجهلاء
والضلالة العمياء والغي والموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل
عليه حلماؤكم: من الأمور التي بنيت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير
كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل
طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول إنه ليس
منكم إلا من طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على
الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا
إليه: من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار تنصر، والعدد غير
قليل، والجميع غير مفترق، ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل
وغارة النهار! قربتم القرابة! وباعدتم الدين، تعتذرون بغير لعذر، وتغضون
على النكر، كل امرئ منكم يرد عن سفيهه، صنع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو
معتاداً، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكن دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم
أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه
المواخير بالأرض هداماً وإحراقاً إني رأيت اجر هذا الأمر لا يصلح إلا بما
صلح به أوله: لينفي غير ضعيف، وشدة في غير عنف، وأني لأقسم بالله لآخذن
الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطبع بالمعاصي، وتى يلقى الرجل أخاه
فيقول: "انج سعد فقد هلك سعيد" ا, تستقيم لي بيني وبين قوم إجن فجعلت ذلك
دبر أذني وتحت قدمي، غني لو علمت ن أحدكم قد قتلاه السل من بغضي لم أكشف له
قناعاً، ولن أهتك له سراً، حتى يبدي لي صفيحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره،
فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور
بقدومنا سيبئس، أيها الناس أنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم
بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي حولنا، فلنا عليكم
السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا
وفيئنا بمناصحتكم لنا.
الحجاج
هو أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي أحد جبابرة العرب وساستها وموطد
ملك بني أمية وأحد البلغاء والخطاء ولد سنة 41ه?.
وخدم الحجاج بولايته عبد الملك بن مروان، وابنيه الوليد وسليمان حتى
كان ملكه ما بين الشام والصين ومات سنة 95ه? في عهد سليمان في مدينة واسط
بالعراق.
وكان الحجاج آية في البلاغة وفصاحة اللسان وقوة الحجة، قال الأصمعي
أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل، الشعبي وعبد الملك بن موان والحجاج بن يوسف
وابن القرية: والحجاج أفصحهم ومن مآثره اهتمامه بوضع النقط والشكل للمصحف
وغيره ونسخه عدة مصاحف من مصاحف عثمان وإرسالها إلى بقية الأمصار ومن خطبه
المشهورة خطبته لما قدم أميراً على العراق فإنه دخل المسجد معتماً بعمامة
قد غطى بها أكثر وجهه متقلداً سيفه متنكباً قوساً يؤم المنبر، فقام الناس
نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله
بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق فلما رأى عيون الناس إليه، حسر
اللثام عن فيه ونهض ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال:
يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني ناظر إلى
الدماء بين العمائم واللحى،
ثم قال:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم
قد لفها الليل بسواقٍ حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار علي ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبيّ
أروع خرّاج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدّوا
وجدّت الحربُ بكم فجدّوا
والقوس فيها وترٌ عرد
مثل ذراع البكر أو أشد
لابدّ مما ليس منه بدّ
إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز
التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وإن أمير المؤمنين أطال الله
بقاءه، نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها
مكسراً فرماكم ربي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال،
والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل
(قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن
كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112] وإني والله
ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت.
وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة
عدوكم مع المهلب بن أب صفرة، وأني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ
عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه.
طارق بن زياد
هو أحد قواد جيوش الوليد بن عبد الملك، كان خطيباً مصقعاً مقداماً،
بعيد الهمة يعشق وتصبو نفسه إلى الفتوحات، خرج من المغرب سنة 92ه? باثني
عشر ألف جندي من مواطنيه يقلهم أسول قوي قد جهز لذلك وعبر البحر إلى
إسبانيا لفتحها، وفلما علم رودريك ملكها بقدوم المسلمين إلى بلاده قابلهم
بجيش عظيم هالت طارقاً كثرة عدده وكمال عُدده، فبادر وأحرق أسطوله ليقطع
أمل أصحابه في الروع وقال لهم (أيها الناس الخ) فاندفعوا على الإسبان
اندفاع اليائس وهزموهم شر هزيمة، ثم والى طارق فتوحاته في إسبانيا حتى قبض
على رودريك آخر ملوك الفيزيغوط بها وقتله سنة 94ه? وبعد ذلك بسنة استقدمه
الوليد إلى دمشق إلى أن مات سنة 101 وها هي خطبته.
أيها الناس أين المفر، البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم
والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في
مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا
وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت
بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً ذهب ريحكم، وتعوضت القلوب
من رعبها عنكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم
بمناجزة هذه الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة
فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت وإني أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة ولا
حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتكم
على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفة الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن
نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات
العميمة وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً
ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً ثقة منه بارتياحكم للطعان
واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن
دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في
الدارين وعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين
حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي
فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولم يعوزكم بل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن
هلكت قبل وصولي إليه فأخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا
لهم من فتح هذه الجزيرة بقتله.
الكتابة خطية وإنشائية الكتابة الخطة كان الخط في مبدأ ظهور الإسلام
هو الخط الأنباري الحيري، المسمى بعد انتقاله إلى الحجاز بالحجازي، وزهو
أصل النسخ، وكان يكتب به النزر اليسير من العرب عامة وبضعة عشر من قريش
خاصة، وفلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في يوم بدر وأسر منهم
جماعة كان فيهم بعض الكتابة، فقبل الفداء من أمييهم وفادى الكاتب منهم
بتعليمهم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين وحض النبي
عل تعلمها ومن أشهر كتاب الصحابة زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن
العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولما فتح المسلمون المملك ونزلت
جمهرة الكتاب منهم الكوفة عنوا بتجويد لخط العربي وهندسة أشكاله حتى صار خط
أهل الكوفة ممتازاً بشكله عن الخط الحجازي واستحق أن يسمى باسم خاص وهو
(الكوفي).
وكان الصحابة وتابعوهم من بني أمية يكتبون بلا إعجام ولا شكل إلا
قليلاً اعتماداً منهم على معرفة المكتوب إليهم باللغة واكتفائهم بالرمز
القليل في قراءة اللفظ فلما فسد اللسان باختلاط العرب بالعجم وظهر اللحم
والتحريف في الألسنة أشفق المسلمون عل تحريف كلم الكتاب الكريم فوضع أبو
الأسود الدؤلي علامات في المصاحف (بصبغ مخالف) فجعل علامة الفتحة نقطة فق
الحرف والكسرة أسفله والضمة نقطة من الجهة اليسرى وجعل التوين نقطتين، وكان
ذلك في خلافة معاوية.
ووضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر الحجاج نقط الإحجام بنفس
المداد الذي يكتب به الكلام وكان ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان ثم شاع
في الناس بعد.
الكتابة الإنشائية قسمان كتابة رسائل ودواوين وكتابة وتدوين وتصنيف
كتابة الرسائل والدواوين
كان زعمكاء العرب وفصحاؤهم كلهم كتاباً ينشئون بملكتهم ولو لم خطوا
بيمينهم فكان النبي وأصحبه وخلفاؤه يملون كتبهم على كتابهم بعبارتهم وبعضهم
يكتبها بيده، ولما اتسعت موارد الخلافة أصبحت في حاجة إلى إنشاء الدواوين
لضبط ذلك، فكان عمر أول من دون الدواوين.
وكان كتاب الرسائل لخلفاء وعمالهم إما عرباً أو موالي يجيدون
العربية، أما كتاب الخراج ونحوه فكانوا من كل إقليم من أهله يكتبون بلغتم،
ولما نبغ من العرب من يحسن عملهم حولت هذه الدواوين إلى العربية زمن عبد
الملك بن مروان والوليد ابنه وجرى الخلفاء بني أمية في كتابة الرسائل على
ما كان عليه الأمر زمن الخلاء الراشدين.
ثم اتسعت رقعة المملكة وقرت أمور الدولة ازدادت الأعمال وشغل
الخلفاء عن أن يولوا الكتابة بأنفسهم أو بخاصة عشيرتهم، عهدوا بها إلى كبار
كتابهم، وكان كثير منهم يعرف اللغة الرومية أو الفارسية أو اليونانية أو
السريانية وهي لغات أمم ذات حضارة وعلوم ونظام ورسوم.
ومن هؤلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك أحد الواضعين لنظام الرسائل،
وأستاذ عبد الحميد الكاتب الذي آلت إليه زعامة الكتابة الآخر الدولة
الأموية.
مميزات الكتابة الإنشائية
وتمتاز الكتابة في هذا العصر بالميزات الآتية: (1) الاقتصار في
أغراضها على القدر الضروري، والاقتصار في معناها على الإلمام بالحقائق
وتوضيحها بلا مبالغة ولا تهويل، واستعمال الألفاظ الفحلة والعبارات الجزلة،
والأساليب البليغة إذا كان الكاتب والمكتوب إليه عرباً فصحاء.
(2) مراعاة الإيجاز غالباً إلا حيث يستدعي الحال الإسهاب، وبقي
الأمر على ذلك حتى جاء عبد الحميد الكاتب آخر الدولة الأموية، فأسهب
الرسائل وأطال التحميدات في أولها، وسلك طريقه من أتى بعده.
الكتاب
كتاب هذا العصر كثيرون، وقد كانت الخلفاء والأمراء والقواد كلهم
كتاباً بلغاء، ولما صارت الكتابة صناعة، تداولها كثير من الأعاجم وغيرهم:
واشتهر من بين هؤلاء.
عبد الحميد بن يحيى الكاتب
هو عبد الحميد بن يحيى بن سعيد العامري الشامي شيخ الكتاب الأوائل.
كان عبد الحميد في أول أمره معلم صبيان حتى فطن له مروان بن محمد
أيام توليته أرمينية فكتب له مدة ولايته حتى إذا بلغه مبايعة أهل الشام له
بالخلافة سجد مروان له شكراً وسجد أصحابه إلا عبد الحميد، فقال مروان لم لا
تسجد؟ فقال ولم أسجد؟ أعلى أن كنت معنا فطرت عنا، قال إذا تطير معي قال
الآن طاب لي السجود وسجد، فاتخذه مروان كاتب دولته.
لما دهمت مروان جيوش خراسان أنصار الدعوة العباسية وتوالت عليه
الهزائم كان عبد الحميد يلازمه في كل هذه الشدة، فقال له مروان قد احتجت أن
تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك يحوجهم
إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز حفظ حرمي بعد
وفاتي، فقال له: إن الذي أشرت به عليّ أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، وما
عندي إلا الصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك وأنشد:
أسرُّ وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذرٍ يوسع الناس ظاهره
وبقي معه حتى قتل مروان سنة 132 ه?، وأخذ عبد الحميد إلى السفاح
فقتله سنة 132ه?.
منزلته في الكتابة
هو الأستاذ الأول لأهل صناعة كتابة الرسائل وذلك أنه أول من مهد
سلبها، وميز فصولها، وأطالها في بعض الشؤون، وقصرها في بعضها الآخر وأطال
التحميدات في صدرها وجعل لها صوراً خاصة ببدئها وختمها على حسب الأغراض
التي تكتب فيها، ويقال إنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس
كتب إليه مروان كتاباً يستجلبه وضمنه ما لو قرئ لأدى إلى وقوع الخلاف
والفشل، وقال لمروان: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره فإن يك ذلك وإلا
فالهلاك، وكان الكتاب لكبر حجمه يحمل على جمل، فلما وصلا الكتاب إلى داهية
خراسان أبي مسلم أمر بإحراقه قبل أن يقرأه وكتب على جذاذة منه إلى مروان:
محا السيف أسطارَ البلاغة وانتحى
عليك ليوثُ الغاب من كلّ جانب
التدوين والتصنيف
انقضى زمن الخلفاء الراشدين ولم يدون فيه كتاب إلا ما كان من أمر
المصحف، وكان مرجع الناس في أمر دينهم دنياهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله،
فإذا اشتبه عليهم أمر من أمور الدين رجعوا إلى الخلفاء وفقهاء الصحابة.
ثم لما انتشر الإسلام زمن بني أمية واختلطت العرب ففسدت فيهم ملكة
اللسان العربي وفشا اللحن وأشفقوا على القرآن من التحريف وعلى اللغة من
الفساد دونوا النحو وكان أول من كتب فيه أبو الأسود الدؤلي وقد تلقى مبادئه
عن الإمام علي، وأخذ عنه فتيان البصرة وخصوصاً الموالي إذ كانوا أحوج الناس
إلى النحو واشتغل أهل الكوفة به ب أن فشا بالبصرة ولم ينقض هذا العصر حتى
استغل به طبقتان من البصريين وطبقة من الكوفيين، ثم لما حدثت الفتن وتعددن
المذاهب والنحل وكثرت الفتاوى والرجوع فيها إلى رؤساء ومات أكثر الصحابة،
خافوا أن يعتمد الناس على رؤسائهم ويتركوا سنة رسول الله فأذن أمي المؤمنين
عمر بن عبد العزيز لأبي بكر محمد بن عمرو بن حزم في تدوين الحديث، انقضى
هذا العصر ولم يدون فيه من علوم اللغة والدين غير النحو وبعض الحديث وبعض
التفسير، وأما العوم الأخرى فيروى أن خالد بن يزيد بن معاوية حبب إليه
مطالعة كتبا لأوائل من اليونان فترجمت له ونبغ فيها ووضع كتباً في الطب
والكيمياء، وأن معاوية استقدم عبيد بن شربة من صنعاء فكتب له كتاب "الملوك
وأخبار الماضين" وإن وهب بن منبه الزهري وموسى بن عقبة كتباً في ذلك أيضاً
كتباً، وأن زياد بن أبيه وضع لابنه كتاباً في مثال قبائل العرب، وأن
ماسرجويه متطبب البصرة تولي في الدولة المروانية ترجمة كتاب أهرون بن أعين
من السريانية إلى العربية وأن يونس الكاتب بن سليمان ألف كتاباً في الأغاني
ونسبتها إلى من غنى فيها ولم يلغ التصنيف شأواً يذكر.
الشعر والشعراء في هذا العصر
جاء النبي الكريم، والشعر ديون العرب، فأتاهم بالأمر العظيم والحادث
الخطير، حاملاً بإحدى يديه القرآن يدعو الناس إلى توحيد الله والتمسك
بالفضيلة وشاهراً بالأخرى سيف الحق لحماية هذه الدعوة وما كان أشد ذهولهم
لخطبهما وانزعاجهم من وقعها، فهبوا يتحسسون الأول ويتمرسون أساليبه ومعانيه
ويتفرسون ألفاظه ومغازيه، وما بين معاند تلمس مطعناً فيه، ومؤمن يستبينه
ويهديه، وتأهبوا للثاني: ما بين ضال يناوئه، ومهند يعاضده، فصار لك صارفاً
لهم عن التشاغل بالشعر محولاً مجرى أفكار المؤمنين منهم عن أكثر فنونه
المتحرفة عن سنن الشرف والحق، وبغض إليهم تلك الفنون المرذولة إزراء القرآن
على الشعر بقوله: (وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ
تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لاَ يَفْعَلُونَ {226} إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ
وَذَكَرُواْ اللّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ
وَسَيَعْلَمْ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:
224 227] ولهذا لم يكف شعراء المسلمين عن قوله فيما يطابق روح القرآن.
ولبث الحال على ذلك مدة حياة النبي الكريم، حتى إذا ما ثاروا لإسكان
فتن أهل الردة وفتح الممالك والأمصار، وأضافوا إلى ما ألفوه من أغراض الشعر
الإكثار من التباهي بالنصر، ووصف المعارك، وأحوال الحصار وآلات القتال ولما
آل الأمر إلى بني أمية وشغب عليهم كثير من فرق المسلمين أصبح الشعر لساناً
يعبر عن مقاصد كل حزب، حتى أصبح حرفة عتيدة، وصناعة جديدة ومورد ثروة
وأصبحت دراسته ونقده وروايته ودأب العلماء والأدباء حتى الخلفاء وأولياء
عهودهم ويمكن وصف ما كان عليه الشعر في هذا العصر من حيث أغراضه ومعانيه
وتصوراته وعبارته بما يأتي:
أغراض الشعر وفنونه
1 نشر عقائد الدين وحكمه ووصاياه والحث على اتباعه.
وخاص زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
2 التحريض على القتال ووصفه والترغيب في نيل الشهادة رفعاً لكلمة
الله، وذلك في أزمان غزوات النبي وحصار المدن وفتحها.
3 الهجاء: وكان أولاً في سبيل الدفاع عن الإسلام بهجو مشركي العرب
بما لا يخرج عن حد المروءة، وبما رضيه النبي حسان شاعره في هجاء قريش
وعشيرة النبي من بني عبد مناف.
وكان يتحرج عنه المسلمون ولو التعريض زمن النبي وخلفائه: ولذل عاقب
عمر أمير المؤمنين الحطيئة وهدده بقطه لسانه لنيله من بعض المسلمين: ثم صار
يتساهل في خطبه حتى كان الهجاء غاية براعة الشاعر وإن لم يصل في الإقذاع
والفحش إلى الحد الذي وصل إلي في العصر الآتي.
4 المدح: وقلما كان مبدأ الإسلام فير غير النبي من حيث الاهتداء
بهديه ونشر الحق على يديه، وكان خلفاؤه يأنفون مدحهم بما تزهي به نفوسهم
تواضعاً.
ثم استرسل الشعراء فيه وقبل ذلك منهم الخلفاء إلى أن كان المدح من
أهم الدعائم التوطيد أركان الدولة وتفخيم مقام الخلفاء والولاة والإرشاد
بعظمتهم.
معانيه وأخيلته وألفاظه وأساليبه وأوزانه
لم يخرج شعراء هذا العصر في جملة تصورهم وتخيلهم عما ألفوه زمن
الجاهلية وإن فاقوهم كثيراً في ترتبي الفكر وتقريب المعنى إلى الأذهان
والوجدان بما هذب نفوسهم ورقق طباعهم من دراسة كتاب الله وحديث رسول الله،
وكذلك لم يخرجوا جملة في هيئة تأليف اللفظ ونسجه ومتانة أسلوبه عن نظائرهم
في الجاهلية، وإنما آثروا جزالة اللفظ وفخامته ومؤالفته لسابقته ولاحقه دون
غرابته كما آثروا جودة الأسلوب ومتانته وروعة تأثيره ولاسيما أهل النسيب:
ولم يطرأ على أوزان الشعر العربي حدث غير ما عرف عنه في الجاهلية وإنما شاع
في هذا العصر نظم الأراجيز والتطويل فيها، واستعمالا في جميع أغراض القصيد،
حتى في افتتاحها بالنسيب والتخلص منه إلى المدح والذم ونحو ذلك.
الشعراء
شعراء ةهذا العصر ممن خلصت عربيتهم واستقامت ألسنتهم ولم يمتد إليهم
اللحن، ولد زادتهم مدرسة القرآن الكريم فصاحة وبلاغة وإحكاماً وإتقاناً حتى
فضلهم بعض الرواة على سابقيهم من الجاهلين، ومن أشهر شعراء هذا العصر كعب
بن زهير، والخنساء، والحطيئة، وحسان ن ثابت، والنابغة الجعدي، وعمر بن أبي
ربيعة، والأخطل، والفرزدق، وجرير، والكميت، وجميل، وكثير، ونصيب والراعي،
وذو الرمة.
كعب بن زهير
هو كعب بن زهير بن أبي سلمى أحد فحول المخضرمين ومادح النبي ولما
ظهر الإسلام ذهب أخوه بجير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب كعب
لإسلامه وهجاه وهجا رسول الله وأصحابه، فتوعده النبي صلى الله عليه وسلم
وأهدر دمه فحذره أخوه العاقبة إلا أن يجيء إلى النبي مسلماً تائباً، فهام
كعب يترامى على القبائل أن تجيره فلم يجره أحد، فلما ضاقت الأرض في وجهه
جاء أبا بكر رضي الله عنه بالمدينة وتوسل به إلى الرسول فأقبل هو عليه وآمن
وأنشده قصيدته المشهورة:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فخلع عليه النبي بردته فبقيت في أهل بيته حتى باعوها لمعاوية بعشرين
ألف درهم ثم بيعت للمنصور العباسي بأربعين ألفاً، ومات سنة 24ه.
شعره: كان كعب من الشعراء المجيدين المشهورين بالسبق وعلو الكعب في
الشعر، وكان خلف الأحمر أحد علماء الشعر يقول: لولا قصائد لزهير ما فضلته
على ابنه كعب، وكفاه فضلاً أن الحطيئة مع ذائع شهرته رجاه أن ينوه به في
شعره فقال:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها
إذا ما مضى كعب وفوز جرول
ومن شعره قوله في قصيدته بانت سعاد:
وقاتل كل خليل كنت آمله
لا ألهينّك إني عنك مشغول
فقلت خلّوا سبيلي "لا أبالكم"
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال
قرآن فيها مواعيظٌ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنبْ وقد كثرت فيَّ الأقاويل
ومن قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
سعيّ الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
والنفس واحدة والهمُّ منتشر
فالمرءُ ما عاش ممدود له أملٌ
لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
ومن قوله أيضاً:
إن كنت لا ترهب دمي لما
تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش إذ أنا منصت
فيك لمسوع خنا القائل
فالسّامع الدم شريك له
ومطعم المأكول كالآكل
مقاله السُّوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه
ذموه بالحقّ وبالباطل
الخنساء
هي السيدة تماضر الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية، أرقى شواعر
العرب، وأحزن من بكى وندب. كان أبوها عمرو، وأخواها معاوية وصخر، وكانت هي
من أجمل نساء زمانها فخطبها دريد بن الصمة فارس جشم، فرغبت عنه، وآثرت
التزوج من قومها فتزوجت منهم، وكانت تقول المقطعات من الشعر فلما قتل
شقيقها معاوية ثم أخوها لأبيها صخر، جزعت عليهما جزعاً شديداً،وبكتهما
بكاءً مراً، وكان أشد وجدها على صخر: لأنه شاطرها هي وزوجها أموالها مراراً
ولما جاء الإسلام وفدت مع قومها على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت وكان
يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول هيه يا خناس، ويومئ بيده.
وما فتئت تبكي صخراً قبل الإسلام وبعده حتى عميت، وبقيت إلى أن شهدت
حرب القادسية مع أولادها الأربعة، فأوصتهم وصيتها المسرة وحضتهم على الصبر
عند الزحف فقتلوا جميعاً، فقال: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، ولم تحزن
عليهم حزنها على أخويها، وتوفيت سنة 24ه?.
شعرها: أغلب علماء الشر على أنه لم تكن امرأة قبل الخ=نساء ولا بعدها أشعر
منها، ومن فضل ليلى الأخيلية عليها لم ينكر أنها ارثى النساء
وكان شار يقول لم تقل امرأة شعراً إلا ظهر العف فيه لقيل وكذلك الخنساء
فقيل تلك التي غلبت الفحول، ولم يكن شأنها عند شعراء الجاهلية أقل منه عند
شعراء الإسلام فذلك النابغة الذبياني يقول لها وقد أنشدته بسوق عكاظ
قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوّار
أمة ذرَّفت إذ خلت من أهلها الدارُ
لولا أن أبا بصير (يعني الأعشى) أنشدني قبلك لقلت أنك اشعر من
بالسوق، وسئل جرير من أشعر الناس قال أنا لولا الخنساء، قيل فبم فضلتك قال
بقولها:
إن الزمان (وما يفنى له عجبُ)
أبقى لنا ذنباً واستوصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
ومن جيد شعرها ترثي أخاها صخراً:
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر النَّدى
ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السّيدا
رفيع العماد طويل النّجا
د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم انتمى مصعدا
يحملّه القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا
وإذن ذكر المجد ألفيته
تأزّر بالمجد ثم ارتدى
ومن قولها ترثيه أيضاً:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني
فقد أضحكتني زمناً طويلاً
دفعت بك الخطوب وأنت حيٌّ
فمن ذا يدفع الخط الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
رأيتُ بكاءك الحسن الجميلا
ومن بديع قولها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمس
فلولا كثرةُ الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزال أرى عجولاً
ونائحة تنوح ليوم نحس
هما كلتاهما تبكي أخاها
عشية رزئه أو غبّ أمس
وما يبكين مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسيّ
فقد ودّعت يوم فراق صخر
أبي حسان لذاتي وأنسي
فيا لهفي عليه ولهف أمي
أيصبح في الضّريح وفيه يمسي
الخطيئة
هو أبو بكر جرول الحطيئة العبسي، نشأ كما قال الأصمعي جشعاً سؤولاً
ملحفاً دنيء النفس كثير الشر قليل الخير بخيلاً قبيح المنظر رث الهيئة
مغموز النسب فاسد الدين، وعاش الحطيئة مدة في الجاهلية وجاء الإسلام فأسلم
ولم يكن له صحية برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاش متنقلاً في القبائل
يمدح تارة ويذم تلك أخرى، وينتسب إلى عس طوراً وطوراً إلى ذهل ويهجو اليوم
من يمدحه بالأمس، وكل قبيلة تخطب وده وتنقي شر لسانه حتى أن أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب حبس الحطيئة فما زال يستشفع إليه الناس وقول الشعر حتى أطلقه
وهدده بقطع لسانه إن هجا أحداً، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف
درهم، وكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت عمر، وبقي كذلك حتى مات أوائل خلاف
معاوية.
شعره: لولا ما وصم به الحطيئة من خسة النفس ودناءة الخلق وجهالة
النسب لكان بإجادته في كل ضرب من ضروب الشعر شاعر المخضرمين على الإطلاق
إلا أنه لم يقف ببراعته وفصاحته موقفاً لله ولا للشرف، وقلما يوجد في كلام
الحطيئة مظنة ضعف أو مغمز لغامز من ركاكة لفظ أو غضاضة معنى أو اضطراب
قافية ومن مدحه الذي لا يلحق فيه غبار قوله:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم (لا أبا لأبيكم)
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدروا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى
بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
ويعذلني أبناء سعد عليهم
وما قلت إلا بالذي علمت سعد
ومن أبياته التي استعطف بها أمير المؤمنين عمر وهو في سجينه قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه
ألقي إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذا قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الخير
حسان بن ثابت
هو أبو الوليد حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول اله صلى الله عليه
وسلم وأشعر شعراء المخضرمين.
وهو من بني النجار من أهل المدينة، نشأ في الجاهلية ونبه شأنه فيها،
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأسلم الأنصار، واسلم معهم
ودافع عنه بلسانه كما دافع عنه قومه الأنصار بسيوفهم.
وعاش حسان بعد رسول الله محبباً إلى خلفائه مرضياً عنه وعمره قريباً
من 120 سنة، وبقي أكثر حياته متمتعاً بحواسه وعقله، وحتى وهن جسمه في أواخر
عمره وكف بصره، ومات في خلافة معاوية سنة 54ه?.
شعره: كان حسان شاعر أهل المدر في الجاهلية وشاعر اليمانية في الإسلام
ولم يكن في أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أعجائه
عند عودته إلى الله أشعر منه، ولذلك رم مشركي قريش من لسانه بالداهية لم
يكن قبل بها فأوجعهم وأخرسهم من غير فحش لا هجر، ولما أذن له النبي في
هجائهم قال له كيف تهجوهم وأنا منهم، قال: اسلك منهم كما تسل الشعرة من
العجين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب له منبراً بالمسجد ويسمع
هجاءه في أعدائه ويقول: (أجب عني اللهم أيده بروح القدس) وكان في شعر حسان
زمن الجاهلية شدة وغرابة لفظ فلما أسلم وسمع القرآن ووعاه وكثر ارتجاله
الشعر لأن شعره سهل وأسلوبه، ومن شعره في الجاهلية:
ولقد تقلدنا العشيرة أمرها
ونسود يوم النائبات ونعتلي
ويسود سيدنا حجاجح سادة
ويصيب قائلنا سواء المفصل
ونحاول الأمر المهمَّ خطاية
فيهم ونفصل كلَّ أمر معضل
وتزو أبواب الملوك ركابنا
ومتى نحكَّم في البرية نعدل
ومن شعره في الإسلام يفاخر وفد تميم بقوم رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سننا للناس تتّبع
يرضى بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدّوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك فيهم غير محدثة
إن الخلائق (فاعلم) شرُّها البدعُ
لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم
عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
فكل سبق لأدنى سبقهم تبعُ
وعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم
لا يطمعون ولا يزري بهم طمعُ
لا يفخرون إذا نالوا عدّوهم
وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا جزعُ
النابغة الجعدي
هو أبو ليلى حسان بن تعبد الله الجعدي العامري أحد القدماء المعمرين
ولشعراء المخضرمين، ووصاف الخيل المشهورين.
قال الشعر في الجاهلية ثم أجبل دهراً، ثم نبغ في الشعر عند ظهور
الإسلام وبعده: ولذلك سمي النابغة، وهو ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر
وما تفعل العقل، وهجر الأزلام والأوثان، وذكر دين إبراهيم، وصام واستغفر،
ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعاش طويلاً في الإسلام، فأقام زمناً مهاجراً حتى أيام عثمان رضي
الله عنه فأحس بضعف في نفسه، فاستأذن عثمان في الرجوع إلى البادية فأذن له،
ثم كانت خلافة علي شهد معه وقائعه صفين، وظاهره بيده ولسانه، ونال من
معاوية وبني أمية، ومكان بأصبهان سنة 58ه? عد أن عمّر مائة وثمانين سنة.
شعره: كان النابغة الجعدي شاعراً مطبوعاً في الجاهلية والإسلام، وهو
أول من سبق إلى الكناية في الشعر عن اسم من يغني إلى غيرها وتبعه الناس
بعد، قال:
أكنى بغير اسمها وقد علم لل
ه خفيات كلّ مكتتم
وكان ممن يصون الخيل فلا يلحق له في ذلك غبار، حتى ضرب به المثل قال
الأصمعي: ثلاثة يصفون الخيل فلا يقاربهم أحد: طفيل الغنوي وأبو داود
الإيادي، والنابغة الجعدي، وله في الفخر والهجا والمديح والرثاء شعر كثير
ومن أشرفه قصيدته التي مدح بها الرسول الكريم وهي:
خليلي عوجا ساعةً وتهجّرا
ونوحا على ما أحدث الدهر أو ذرا
ولا تجزعا إن الحياة ذميمة
فخفَّات لروغعات الحوادث أوقرا
وإن جاء أمر لا تطيقان معه
فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
ألم تريا أن الملامة نفعها
قليل إذا ما الشيء ولّى وأدبر
تهيج البكاء والندامة ثم لا
تغير شيئاً غير ما كان قدرا
أتيت رسول الله إذا جاء بالهدى
ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا
أقيم على التقوى وأرضي بفعلها
وكنت من النار المخوفة.. أحذرا
ومنها في الفخر:
وإنا لقوم ما تعوّد خيلنا
إذا ما التقيا أن تحيد وتنفرا
وتنكر يوم الرّوع ألوان خيلنا
من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولا خير في حلم مجدنا إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلغنا السماء البيت) قال
فأين المظهر يا أبا ليلى ثقال الجنة، وقال إن شاء الله، ولما أتم قصيدته
قال له الرسول أجدت لا يفضض اله فاك فأتت عليه مائة سنة أو نحواها وما
انفضت من فيه سن.
عمر بن أبي ربيعة
هو أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي المخزومي اشعر
قريش وأرثق أصحاب الغزل، وأوصف الشعراء لأحوال النساء.
ولد بالمدينة ليلة مات عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكانت أمه
نصرانية، وكان أبوه تاجراً موسراً وعاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولخلفا الثلاثة من بعده فشب في نعيم وترف، وقال الشعر صغيراًُ وسلك فيه
طريق الغزل ووصف أحوال النساء وتزاورهن ومداعبة بعضهن لبعض وتعرض للمحصنات
المتعففات من نساء قومه من غيرهن، فوقعن منه في بلاء عظيم وصرن يخفن الخروج
إلى الحج لأنه كان يتلقاهن مكن ويترقب خروجهن للطوف والسعي ويصفهن وهن
محرمات، وحلمت عليه رجالات قريش لمكانه نسبه منهم ولترقب توبته وإقلاعه،
فلما تمادى في أمره وشبب ببنات السادات ولخلفاء غضب عمرو بن عبد العزيز
ونفاه إلى جزيرة أمام المدينة مصوع، ثم رأى أن الكفر عن سيئاته بالتوبة
والجهاد فغزا في البحر فاحترقت السفينة التي كان فيها واحترق هو أيضا سنة
93ه?.
شعره: رقيق بلفظ رشيق ومعنى أنيق حتى قال فيه جرير هذا والله الذي أرادته
الشعراء فأخطأته وقد سلك الغزل طريقاً لم يسلكوه: ومن قوله المشهور:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
الأخطل
هو أبو مالك غياث الأخطل بن غوث التغلبي النصراني، شاعر الأمويين
وأمدح ثلاثة شعرائهم المتقدمين والمتفرد بوصف الخمر دون الإسلاميين قال
الشعر وهو صبي وما لبث أن زاحم شاعر تغلب وقتئذٍ (كعب بن جعيل) وهجاه وظهر
عليه ولما طلب يزيد ن معاوية قبل أن يلي الخلافة من كعب هجاء الأنصار لتعرض
حسان بن ثابت الأنصاري لأخته في شعره أبى عليه ذلك كعب، وقال أأهجو قوماً
نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه: ولكني أدللك على الأخطل فبعث
إليه وأمره بهجائهم فهجاهم بقصيدة منها:
ذهبت قريش بالسَّماحة والنّدى
واللؤم تخت عمائم الأنصار
فدعو المكارم لستم من أهلها
وخذوا مساحيكم بني النَّجار
وبلغ الشعر كبار الأنصار فغضبوا وشكوه إلى معاوية فوعدهم بقطع لسانه
فاستجار بيزيد، فمازال بأبيه حتى عفا عنه ولما ول يزيد الخلافة قربه غليه
وتابعه في ذلك خلفاء بني أمية، وبخاصة عبد الملك إذا كان يستعين ه على
أعدائه فقربه إليه وأدناه وسمح له بالدخول عليه بلا إذن وأجزل له العطايا
وسماه شاعر الخليفة.
ولما حدثت المهاجاة بين جرير والفرزدق وحكم فيهما أيهما اشعر عرض
بتفضيل الفرزدق، فهجا جرير، فرد عليه الأخطل وكانت الشيخوخة قد بلغت منه
فلم يلحق جريراً، وكان الأخطل يقيم أزماناً بدمشق وأحياناً ببلاده منم أرض
الجزيرة ومات سنة 95ه? وقد نيف على السبعين.
شعره: كان الأخطل أحد الشعراء الثلاثة السابقين سواهم من فحول الإسلاميين
وكان مطبوعاً على الشعر بعيداً عن التكلف والعمق فيه وامتاز بإجادته المديح
والإبداع في معانيه، قال يمدح بني أمية ويخص بشر بن مروان:
إن يحلموا عناك فالأحلام شيمتهم
والموت ساعة يحمى منهم الغضب
كأنهم عند ذاكم ليس بينهم
وبين من حاربوا قربة ولا نسب
كانوا موالي حق يطلبون به
فأدركوه وما ملوا ولا لغبوا
إن يك للحق أسباب يمد بها
ففي أكفهم الأرسان والسبب
هم سعوا بابن عفان الإمام وهم
بعد الشماس مروها ثمت احتلبوا
ومنها:
إذا أتيتَ أبا مروان تسأله
وجدته حاضراه الجودُ والحسب
ترى إليه رفاقَ الناس سائلة
من كل أوبٍ على أبوابه عصبُ
يحتضرون سجالا من فواضله
والخيرُ محتضر أبوابه عصبُ
والمطعم الكوم لا ينفك يعقرها
إذا تلاقى رواق البيت واللهبُ
كأن حيرانها في كل منزلةٍ
قتلى مجردة الأوصال تستلبُ
ومن أفضل شعره قوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى
طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
الفرزدق
هوب أبو فراس همام بن غالب التميمي الدارمي أفخر ثلاثة الشعراء
الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء.
ولد سنة 15 ه ونشأ بالبصرة. وأتى بها أبوه يوماً إلى أمير المؤمنين
علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فسأله عنه. فقال ابني يوشك أن يكون شاعراً
مجيداً. فقال له أقرئه القرآن فأقرأه وحفظه ثم رحل إلى خلفاء بني أمي
بالشام ومدحهم ونال جوائزهم، وأخص من كان يمدحه منهم عبد الملك بن مروان ثم
أولاده من بعده. وكان الفرزدق فوق إقذاعه في الهجو وفحشه في السباب وقذف
المحصنات يرمى بالفجور وقلة التمسك بشعائر الدين ثم تاب في أواخر شيخوخته
على يد حسن البصري. وكان فيه تشيّع يستره أيام اختلافه إلى بني أمية ثم
كاشف به آخر حياته حتى أمام الخليفة هشام عندما رأى الناس تفسح طريق الطواف
بالكعبة مهابة وإجلالاً لعلي بن الحسين فسأله عنه كالمتجاهل لأمره، فشق ذلك
على الفرزدق وأنشد قصيدته الميمية الآتية يعرّف بعلي وينكر على هشام
تجاهله، فحبسه هشام ثم أطلقه. وعاش الفرزدق قريباً من مائة سنة ومات
بالبصرة سنة 110 ه.
شعره: يمتاز شعر الفرزدق بفخامة عبارته، وجزالة لفظه، وكثرة غريبه
ومداخلة بعض ألفاظه في بعض، ولذلك يعجب به أهل اللغة والنحو وكان يقال
(لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة) ويعتبر الفرزدق من أفخر شعراء العرب
وأشدهم ولوعاً بتعداد مآثر آبائه وأجداده.
ومن جيد شعره قوله يمدح علي بن الحسين:
هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته
والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم
هذا التقي النقيُّ الطاهر العلمُ
وليس قولك من هذا بضائره
العربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ
إذا رأته قريشٌ قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
يغضي حياءً ويغضى من مهابته
فلا يكلّم إلا حين يبتسمُ
بكفه خيزرانٌ ريحها عبقٌ
من كف أروع في عرنينه شممُ
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
ينشقُّ ثوب الدّجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلمُ
من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم
كفرٌ وقربهم منجّى ومعتصمُ
إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
جرير
هو أبو حزرة بن عطية بن الخطفى التميمي اليربوعي: أحد فحول الشعراء
الإسلاميين، وبلغاء المداحين الهجائين، وأنسب ثلاثتهم المفلقين، وهو من بني
يربوع أحد أحياء تميم، ولد باليمامة سنة 42 ه ونشأ بالبادية وفيها قال
الشعر ونبغ. وكان يختلف إلى البصرة في طلب الميرة ومدح الكبراء، فرأى
الفرزدق وما كسبه الشعر من منزلة عند الأمراء والولاة وهو تميمي مثله وود
لو يسبقه إلى ما ناله، وأغراه قومه به للتنويه بشأنهم فوقعت بينهما
المهاجاة عشر سنين كان أكثر إقامة جرير أثناءها في البادية، وكان الفرزدق
مقيماً بالبصرة يملأ عليه الدنيا هجاء وسبا. فما زال به بنو يربوع حتى
أقدموه البصرة واتصل بالحجاج ومدحه فأكرمه ورفع منزلته عنده، فعظم أمره
وشرق شعره وغرب حتى بلغ الخليفة عبد الملك فسد الحجاج عليه، فأوفده الحجاج
مع ابنه محمد إلى الخليفة بدمشق ومات باليمامة سنة 110ه.
وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين وحسن خلق ورقة طبع.
شعره: اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر على أنه لم يوجد في الشعراء
الذين نشأوا في ملك الإسلام أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل وإنما اختلفوا
في أيّهم أشعر ولكل هوى وميل في تقديم صاحبه: فمن كان هواه في رقة النسيب
وجودة الغزل والتشبيه، وجمال اللفظ ولين الأسلوب والتصرف في أغراض شتى، فضل
الفرزدق، ومن نظر بعد بلاغة اللفظ، وحسن الصوغ إلى أجادة المدح والإمعان في
الهجاء واستهواه وصف الخمر واجتماع الندمان عليها، حكم للأخطل. وإن له في
كل باب من الشعر أبياتاً سائرة هي الغاية التي يضرب بها المثل فيقال أن
أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وإن أمدح بيت قوله:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وإن أفخر بيت قوله:
إن غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلّهم غضابا
وإن أهجى بيت مع التصون عن الفحش قوله:
فغضّ الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وإن أصدق بيت قوله:
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
والنفس مولعة بحبّ العاجل
وإن أشد بيت تهكماً قوله: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً=أبشر بطول
سلامة يا مربعُ ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي بها امرأته والتي هي ندبت
بها نوار امرأة الفرزدق:
لولا الحياءُ لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولهت قلبي إذا علتني كبرة
وذوو التمائم من بنيك صغار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليل ويكرّ عليهم ونهار
صلّى الملائكة الذين تخيروا
والطيبون عليك والأبرار
فلقد أراك كسيت أحسن منظرٍ
ومع الجمال سكينة ووقارُ
الكميت
هو الشاعر الخطيب الراوية النسابة أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي
الكوفي أشعر شعراء الشيعة الهاشمية، ومثير عصبية العدنانية على القحطانية
ولد سنة 60ه ونشأ بالكوفة بين قومه بني أسد إحدى قبائل العرب الفصحاء من
مضر فلقن العربية، وعرف الأدب والرواية، وعلم أنساب العرب وأيامها ومثالبها
بمدارسة العلم والأخذ عن الأعراب، وكان له جدتان أدركتا الجاهلية تقصان
عليه أخبارها وأشعار أهلها، فخرج أعلم أهل زمانه في ذلك وأقر له حماد
الراوية بالسبق عليه وقال الكميت الشعر وهو صغير وكان لا يذيعه ولا يتكسب
به، ويكتفي بحرفته تعليم صبيان الكوفة بالمسجد، ولما حصف شعره وقوي أثره،
ولا سيما قصائده التي أعلن فيها تشيعه لبني هاشم وآل علي، أنشده الفرزدق
مستنصحاً له في أمر إذاعته إذا أعجبه، فأمره بإذاعته فقال قصائده البليغة
المطولة المسماة "بالهاشميات" التي يقول فيها:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنانٌ مخضّبُ
ولا السانحات البارحات عشية
أمرَّ سليم القرن أم مر أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنُّهى
وخير بني حواء والخير يطلب
|