تاريخ أدب اللغة
العربية
الجزء الثاني
من كتاب جواهر الأدب
في أدبيات وإنشاء لغة العرب
بقلم
الكاتب الكبير العلامة:
أحمد الهاشمي
الفن السابع في تاريخ أدب اللغة العربية
التاريخ: هو معرفة أخبار الماضين وأحوالهم من حيث معيشتهم، وسياستهم وأدبهم،
ولغتهم.
والأدب: (كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل). وهذه
الرياضة كما تكون بالفعل، وحسن النظر، والمحاكاة، تكون بالأقوال الحكيمة
التي تضمنتها لغة أي أمة.
واللغة: ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم وهي من الأوضاع البشرية وأدب لغة
أي أمة هو ما أودع في شعرها ونثرها من نتائج عقول أبنائها وصور أخيلتهم
وطباعهم: مما شأنه أن يهذب النفس، ويثقف العقل، ويقوم اللسان.
وتاريخ أدب اللغة: هو العلم الباحث عن أحوال اللغة: نثرها ونظمها في عصورها المختلفة،
وعما كان لنابغيها من التأثير البين فيها.
واللغة العربية: إحدى اللغات السامية. وهي لغة أمة العرب القديمة العهد الشائعة
الذكر التي كانت تسكن الجزيرة المنسوبة إليها في الطرف الغربي من آسيا.
وهذه الأمة: منها القدماء، وهم الذين يسكنون تلك الجزيرة وينطقون باللغة
العربية سليقة وطبعاً، وهم ثلاث طبقات: أولاها العرب البائدة وهؤلاء لم يصل
إلينا شيء صحيح من أخبارهم إلا ما قصه الله علينا في القرآن الكريم، وإلا
ما جاء في الحديث النبوي. ومن أشهر قبائلهم طسم، وجديس وعاد، وثمود
وعمليق. وثانيهما العرب العاربة: وهم بنو قحطان الذين اختاروا اليمن منازل
لهم. ومن أمهات قبائلهم كهلان، وحمير. وثالثتها العرب المستعربة: وهو بنو
اسماعيل الطارئون على القحطانين، والممتزجون بهم لغة ونسباً. والمعرفون بعج
بالعدنانيين، ومن أمهات قبائلهم ربيعة، ومضر، وإياد، وأنمار.
ومنها المحدثون: وهم سلائل هؤلاء الأقوام الممتزجون بسلائل غيرهم
والمنتشرون بعد الإسلام في بقاع الأرض من المحيط الأخضر (الأطلنطي) إلى ما
وراء بحر فارس ودجلة، ومن أعالي النهرين إلى ماوراء جاوه وسومطرة.
عصور اللغة العربية وآدابها
لما كان تاريخ أي أمة وأدبها يرتبط كل الارتباط بالحوادث السياسية
والدينية والاجتماعية التي تقع بين ظهراني هذه الأمة، ناسب تقسيم تاريخ
أدب اللغة خمسة أعصر:
الأول: عصر الجاهلية: وينتهي بظهور الإسلام ومدته نحو
خمسين ومائة سنة.
الثاني: عصر صدر الإسلام، ويشمل بني أمية ويبتدئ بظهور الإسلام
وينتهي بقيام دولة بني العباس سنة (132ه?).
الثالث: عصر بني العباس: ويبتدئ بقيام دولتهم، وينتهي بسقوط بغداد
في أيدي التتار سنة (656ه?).
الرابع: عصر الدول التركية: ويبتدئ بسقوط بغداد، وينتهي بمبدأ
النهضة الأخيرة سنة (1220ه?).
الخامس: عصر النهضة الأخيرة: ويبتدئ من حكم الأسرة المحمدية العلوية
بمصر، ويمتد إلى وقتنا هذا.
العصر الأول عصر الجاهلية
حالة اللغة وآدابها في ذلك العصر
لغة العرب من أغنى اللغات كلما، وأعرقها قدماً، وأوسعها لكل ما يقع
تحت الحس، أو يجول في الخاطر: من تحقيق علوم، وسن قوانين وتصوير خيال،
وتعيين مرافق: وهي على هندمة وضعها، وتناسق أجزائها لغة قوم أميين، ولا عجب
أن بلغت تلك المنزلة، من بسطة الثروة، وسعة المدى إذا كان لها من عوامل
النمو، ودواعي البقاء والرقي، ما قلما يتهيأ لغيرها وما رواه لنا منها أئمة
اللغة وجاء به القرآن الكريم والحديث النبوي هو نتيجة امتزاج لغات الشعوب
التي سكنت جزيرة العرب ولا شك في أن من أسباب امتزاج هذه اللغات ما يأتي: 1
هجرة القحطانين إلى جزيرة العرب ومخالطتهم فيها العرب البائدة باليمن ثم
تمزقهم في بقاع الجزيرة كل ممزق بظلمهم وتخرب بلادهم بسيل العرم. 2 هجرة
اسماعيل عليه السلام إلى جزيرة العرب واختلاطه وبينه بالقحطانين بالمصاهرة
والمجاورة والمحاربة والمتاجرة: وأظهر مواطن هذا الامتزاج مشاعر الحج
والأسواق التي كانت تقيمها العرب في أنحاء بلادها، ومن هذه الأسواق عكاظ
ومجنة وذو المجاز.
وأهمها سوق عكاظ: وكانت تقام من أول ذي العقدة إلى اليوم العشرين
منه. وأقيمت تلك السوق بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة وبقيت إلى ما بعد
الإسلام حتى سنة تسع وعشرين ومائة. وكان يجتمع بهذه السوق أكثر أشراف العرب
للمتاجرة، ومفاداة الأسرى والتحكيم في الخصومات وللمفاخرة بالشعر والخطب في
الحسب والنسب والكرم والفصاحة والجمال والشجاعة وما شاكل ذلك. وكان من اشهر
المحكمين بها في الشعر النابغة الذبياني. ومن أشهر خطبائها قس بن ساعدة
الإيادي. وقد لهج الشعراء بذكرها في شعرهم. وحضرها منهم الرجال والنساء.
كلام العرب
الغرض من كلام العرب كغيره الإبانة عما في النفس من الأفكار ليكون
مدعاة إلى المعاونة والمعاضدة. وذريعة إلى تسهيل أعمال الحياة.
ولما كانت هذه الأفكار لا تزال متجددة غير متناهية. كانت صور الكلام
المبين عنها لا تزال كذلك متجددة خاضعة لقوى الاختراع والابتداع وأنواع
الإنشاء والتأليف على حسب ما يقتضيه المقام فقد تصل صورة الكلام إلى الغاية
القصوى في البلاغة، وقد تنحط صورة العبارة إلى الدرك الأسفل من الإبانة.
بحيث لو انحطت عن ذلك لكانت عند الأدباء بأصوات الحجماوات أشبه، وبين
الحالين مراتب، وجل بحث علم الأدب وتاريخه في التفاوت بين هذه المراتب
ورجالها.
وكلام العرب بمراتبه: العليا والدنيا وما بينهما تعتوره كغيره أحوال
تتغير بتغير حياة أهله العقلية والمعاشية والدينية، وتلك الأحوال تتمثل في
"أغراض اللغة، ومعانيها، وعباراتها".
أغراض اللغة في الجاهلية
1 كانت اللغة تستعمل في أغراض المعيشة البدوية، ووصف مرافقها من حل
وترحال، وانتجاع كلأ. واستدرار غيث. واستنتاج حيوان.
2 وفي غثارة المنازعات والمشاحنات، وما يتبعها من الحض على إدراك
الثأر. والتفاخر بالانتصار، والتباهي بكرم الأصل والنجار.
3 شرح حال المشاهدات والكيفيات والإخبار عن الوقائع والقصص وغير
ذلك.
معاني اللغة في الجاهلية
تجمل معاني اللغة (1) في قصر معاني المفردات على ما تقتضيه البداوة
والفطرة الغضة الخالية من تكلف أهل الحضر وتأنقهم (2) وفي انحصار أحكامهم
في (الخبر) ومطالبهم عن (الإنشاء) إما في التعقل المستنبط من الحس
والمشاهدة أو الطبيعة أو التجربة أو الوجدان. من غير مبالغة ولا إغراق.
وإما في التخيل المنتزعة صوره من المحسوسات بحيث لا تخرج عن الإمكان العقلي
والعادي.
عبارة اللغة في الجاهلية
تلخص أحوال العبارة في الجاهلية فيما يأتي: 1 استعمال الألفاظ في
معانيها الوضعية. أو معان مناسبة للمعنى الأصلي بطريق المجاز الذي قد يصبح
بعد قليل وضعاً جديداً.
2 كثرة استعمال المترادف، وقلة الأعجمي المعبر عنه بالمعرب، وخلو
الكلام العربي من اللحن، وغلبة الإيجاز عليه كما تراه واضحاً في شعرهم.
3 إرسال الأساليب الكلامية على حسب ما تقتضيه البلاغة بدون تكلف.
تقسيم كلام العرب
ينقسم كلام العرب قسمين: نثراً ونظماً. فالنظم هو الموزون المقفى.
والنثر ما ليس مرتبطاً بوزن ولا قافية.
النثر المحادثة الخطابة الكتابة
الأصل في الكلام أن يكون منثوراً: لإبانته مقاصد النفس بوجه أوضح
وكلفة أقل وهو غما حديث يدور بين بعض الناس وبعض في إصلاح شؤون المعيشة.
واجتلاب ضروب المصالح والمنافع وذلك ما يسمى (المحادثة) أو "لغة التخاطب".
وإما خطاب من فصيح نابه الشأن يلقيه على جماعة في أمر ذي بال. وهذا ما يسمى
"الخطابة". وإما كلام نفسي مدلول عليه بحروف ونقوش لإرادة عدم التلفظ به.
أو لحفظه للخلف. أو لبعد الشقة بين المتخاطبين. وذلك ما يسمى (الكتابة).
إذن فأقسام النثر ثلاثة. محادثة. خطابة. وكتابة وكلها إما أن تكون كلاماً
خالياً من التزام التقفيه في أواخر عباراته: وذلك ما يسمى "النثر المرسل"
وإما أن تكون قطعاً ملتزماً في آخر كل فقرتين منها أو أكثر قافية واحدة.
وهذا ما يسمى "السجع" وهو نوع من الحلية اللفظية إذا جاء عفواً ولم يتعمد
التزامه. ولحسن وقعه في الأسماع. وحوكه وتأثيره في الطباع كان اكثر ما
يستعمل في الخطابة. والأمثال. والحكم. والمفاخرات. والمنافرات.
المحادثة أو لغة التخاطب
لغة التخاطب عند عرب الجاهلية بعد أن توحدت لغاتها هي اللغة المعربة
المستعملة في شعرها وخطبها وكتابتها. ولا فرق بينها في البلاغة إلا بقدر ما
تستدعيه حال الخطابة والشعر والكتابة: من نبالة الموضوع والتأنق في
العبارة.
وأكثر ما وصل إلينا منها كان شريف المعنى. فصيح اللفظ.
الخطابة
لما كان جل العرب في جاهليتها قبائل متبدية. لايربطها قانون عام.
ولا تضبطها حكومة منظمة. ومن شأن المعيشة البدوية شن الغارات لأوهى
الأسباب. والمدافعة بالنفس عن الروح والعرض والمال. والمباهاة بقوة العصبية
وكرم النجار وشرف الخصال. وللقول في ذلك أثر لا يقل عن الصول: كانت الخطابة
لهم ضرورية. وفيهم فطرية. وإنما لم تصل إلينا أخبار خطبائهم الأوائل. وشيء
من خطبهم كما كان ذلك في الشعر. لحفلهم قديماً بالشعر دون الخطابة. ولصعوبة
حفظ النثر.
وما عني الرواة بنقل أخبار الخطباء إلا عندما حلت الخطابة بعد منزلة
أسمى من الشعر. لابتذاله بتعاطي السفهاء والعامة له. وتلوثهم بالتكسب به
والتعرض للحرم. فنبه بذلك شأن الخطابة. واشتهر بها الأشراف وكان لكل قبيلة
خطيب كما كان لكل قبيلة شاعر.
وأكثر ما كانت الخطابة في التحريض على القتال. والتحكيم في الخصومات
وإصلاح ذات البين. وفي المفاخرات. والمنافرات. والوصايا وغير ذلك.
وكان من عادة الخطيب في غير خطب الإملاك والتزويج أن يخطب قائماً أو
على نشر ومرتفع من الأرض أو على ظهر راحلته. لإبعاد مدى الصوت، والتأثير
بشخصه وإظهار ملامح وجهه وحركات جوارحه ولا غنى له عن لوث وعصب العمامة
والاعتماد على مخصرة أو عصا أو قناة أو قوس وربما أشار بإحداها أو بيده.
وخطباء العرب كثيرون (من أقدمهم) كعب بن لؤي (وكان ذا نفوذ عظيم من
قومه حتى أكبروا موته) وذو الإصبع العدواني وهو حرثان بن محرث.
(ومن أشهلارهم) قيس بن خارجة بن سنان خطيب حرب داحس والغبراء.
وخويلد بن عمرو الغطفاني خطيب يوم الفجار وقس بن ساعدة الإيادي خطيب عكاظ. وأكثم بن صيفي زعيم الخطباء الذين أوفدهم النعمان عهلى كسرى:
وهم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميان والحارث بن عباد وقيس بن مسعود
البكريان وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريون، وعمرو
بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري).
قس بن ساعدة الإيادي
هو خطيب العرب قاطبة، وللمضروب به المثل في البلاغة والحكمة كان
يدين بالتوحيد، ويؤمن بالبعث، ويدعو العرب إلى نبذ العكوف على الأوثان
ويرشدهم إلى عبادة الخالق: ويقال إنه أول من خطب على شرف وأول من قال في
خطبه "أما بعد" وأول من اتكأ على سيف أو عصا في خطابته، وكان الناس
يتحاكمون إليه وهو القائل "البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر"،
وسمعه النبي ( قبل البعثة يخطب في عكاظ فأثنى عليه وعمر قس طويلاً ومات
قبيل البعثة: ومن خطبه خطبته التي خطبها في سوق عكاظ وهي: أيها الناس
اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات: وكل ما هو آت آت، ليل داج ونهار ساج
وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر وجبال مرساه، وأرض مدحاه وأنهار
مجراه، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا ما بال الناس يذهبون ولا
يرجعون أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن
لله ديناً هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي انتم عليه، إنكم لتأتون من
الأمر منكراً: ويروى أن قسماً أنشأ بعد ذلك يقول:
في الذَّاهبين الأوّل?
?ين من القرون لنا بصائر
لمّا رأيت مورداً=للموت ليس لها مصادر
ورأيت قوميَ نحوها
تمضي الأكابرَ والأصاغر
لايرجع الماضي إليّ
م ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا مح?
?الة حيث صار القومُ صائر
أكثم بن صيفي
هو أعرف الخطباء بالأنساب وأكثرهم ضرب أمثال وإصابة رأي وقوة حجة
وقل من جاره من خطباء عصره وهو زعيم الخطباء الذين أوفدهم النعمان على كسرى
ولقد بلغ من إعجابه به أن قال له: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى: وقد عمر
طويلاً حتى أدرك مبعث النبي ( وجمع قومه وحثهم على الإيمان به، وفي إسلامه
روايات، وكان في خطبه قليل المجاز حسن الإيجاز حلو الألفاظ دقيق المعاني
مولعاً بالأمثال "راجع خطبته في فن المناظرات".
الكتابة
يراد بالكتابة عند الأدباء صناعة إنشاء الكتب والرسائل وإذ كانت
الكتابة بهذا المعنى تؤدى بالنقوش المسماة بالخط فأول خلقة من سلسلة الخط
العربي هي الخط المصري القديم ومنه اشتق الخط الفينيقي ومن هذا اشتق
الآرامي والمسند بأنواعه: الصفوي والثمودي والليحاني شمالي جزيرة العرب
والحميري جنوبيها ورواة العرب يقولون إنهم أخذوا خطهم الحجازي عن أهل
الحيرة والأنبار.
أما الكتابة: بمعنى إنشاء الكتب والرسائل فهي لازمة لكل أمة متحضرة
ذات حكومة منظمة ودواوين متعددة: وقد كان بعض ذلك موفوراً في ممالك
التبابعة جنوباً ومأثوراً عن ممالك المناذرة والغساسنة شمالاً، ولذلك
استعمل الخط المسند الحميري عند الأولين من عهد مديدي والأنباري الحيري عند
الآخرين وإنما لم يصل إلينا شيء من رسائل تلك الأمم ولا من كتب فنونها
ودينها غير قليل عثر عليه لتقادم عهد أهلها وعدم استكمال البحث بعد في
بلادها.
ولم يعرفنا التاريخ أيضاً بأحد من كتاب هذه الصناعة إلا "بعدي بن
ويد العبادي" الذي كان كاتباً ومترجماً عند كسرى.
أما البدو: من سكان أواسط الجزيرة وهم جمهور مضر وبعض القحطانيين
فكانوا أميين ومن المعقول أنهم لم يعرفوا الكتابة الإنشائية إلا بعد عرفوا
الخط آخر عصور الجاهلية وهو مانقل عنهم فيه: أنهم كانوا يكتبون في بدء
رسائلهم باسمك اللهم ومن فلان إلى فلان وأما بعد: ولم تقم لهم دولة بالمعنى
السابق إلا بقيام الإسلام فهو الذي أفشى فيهم الخط والكتابة.
ولما كانت علوم كل أمة لها الأثر العظيم في تكوين فكر الأديب وخيال
الشاعر وكانت كتابتها قسماً قائماً بنفسه يسمى كتابة التدوين ناسب شرح ذلك.
علوم العرب وفنونها
العلوم والصناعات لازمة لحضارة الأمم ومن العرب أهل حضارة دلت عليها
دولهم العظيمة وقدم تاريخهم وآثارهم الخالدة وهم التبابعة فيلا اليمن
والمناذرة والغساسنة في الشمال وإذاً تكون هندسة إرواء الأرض وعمارة المدن
والحساب والطب والبيطرة والزراعة ونحوها معروفة في الجنوب والشمال مدونة في
الكتب وإن لم يحفظ لنا الدهر صوراً منها: أما البدو منهم وإن كانوا أميين
يمقتون الصناعات فلا غنى لهم عن تجربة ترشدهم إلى ما ينفعهم ليعرفوا متى
تجود السماء وبم يتميز الأقرباء من البعداء فكسبهم ذلك علم النجوم والطب
الضروري والأنساب والأخبار ووصف الأرض والفراسة والعيافة والقيافة والكهانة
والعرافة والزجر وقرض الشعر.
علم النجوم: هو معرفة أحوال الكواكب وقد كانوا أبرع في هذا العلم منهم في كل
علم سواه، تعرفه عامتهم قبل خاصتهم للاهتداء به من ظلمات البر والبحر،
ومعرفة أزمنة الخصب والمحل، وبعض معارفهم فيه مستمد من الكلدان
لاختلاطهم بهم ولاتفاق اللغتين في كثير من أسماء الكواكب والبروج ومن
أشهرهم فيه (بنو حارثة بن كلب وبنو مرة بن همام الشيباني).
الطب الإنساني والحيواني (البيطرة) وقد عاناه من الغرب كثيرون ومن
مشوريهم (الحارث بن كلدة الثقفي وابن حذيم التيمي).
الأنساب: علم تتعرف به القرابات التي بين بعض القبائل وبعض فتلحق
فروعها بأصولها وإنما دعاهم إلى العناية به حاجتهم إلى التناصر بالعصبية
لكثرة حروبهم وتفرق قبائلهم وأنفتهم من أن يكون لغريب عنهم سلطان عليهم
وحبهم الافتخار بأسلافهم وممن اشتهر بمعرفة أنساب العرب (دغفل بن حنظلة
الشيباني وزيد بن الكيس النمري وابن لسان الحمرة) ولهذا كانوا يحفظون.
الأخبار والتاريخ والقصص: هي معرفة أحوال السابقين وكانوا يعرفون منها ما كان عليه أسلافهم
وبعض مجاوريهم من الأحوال المأثورة ووقائع أيامهم المشهورة كقصة الفيل وحرب
البسوس وحرب الفجار.
وصف الأرض: هو معرفة كل بقعة وما يجاورها وكيف يهتدي إليها.
ومن قرأ شعر العرب في نسيبهم واطلع على وصفهم وكيف كانوا يحددون
الحقير منها بحدود قلما تحد به مملكة عظيمة عرف شدة حذقهم بمعرفة بلادهم.
الفراسة: هي الاستدلال بهيئة الإنسان وشكله ولونه وقوله على أخلاقه وفضائله ورزائله وقد نبغ فيها من العرب من لايحصى عددهم ولهم في ذلك نوادر
شتى.
القيافة: ضرب من الفراسة وهي الاهتداء بآثار الأقدام على أربابها أو
الاستدلال بهيئة الإنسان وأعضائه على نسبه فقد كانوا يميزون بين أثر الرجل
والمرأة والشيخ والشاب الأعمى والبصير والأحمق والكيس وإذا نظروا عدة أشخاص
ألحقوا الابن بأبيه والأخ والقريب بقريبه وعرفوا الأجنبي من بينهم وممن
اشتهر بالقيامفة (بنو مدلج وبنو لهب).
الكهانة والعرافة: وهما القضاء بالغيب وربما خصت الكهانة بالأمور المستقبلة والعرافة
بالماضية وطريقهم في ذلك الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث
الآتية لما بينهما من المشابهة الخفية: وللعرب في الكهان اعتقاد عريض
لزعمهم أنهم يعلمون الغيب فيرفعون إليهم أمورهم للاستشارة ويستفسرهم عن الرؤى ويستطبونهم في أمراضهم وممن اشتهر من الكهان
(شق أتمار وسطيح الذئبي) ومن الكواهن (طريفة الخير ولسمى الهمذانية) ومن
العرافين (عراف نجد: الأبلق الأسدي، وعراف اليمامة رباح بن عجلة).
الزجر:
وهو الاستدلال بأصوات الحيوان وحركاته وسائر أحواله على الحوادث
بقوة الخيال والاسترسال فيه ومن أشهر الزجارين: بنو لهبر وأبو ذؤيب
الهذلي ومرة الأسدي.
ومن العرب من لم يعبأ بالزجر وما شاكله كلبيد بن ربيعة القائل:
لعمرك ما تدري الطوراقُ بالحصى
ولا زاجراتُ الطير ما الله صانعُ
وكضابئ بن الحارث القائل:
وما عاجلاتُ الطير تدني من الفتى
نجاحاً ولا عن ريثهنَّ يخيبُ
ورُبَّ أمورٍ لا تضيرك ضيرة
وللقلب من مخشاتهنَّ وجيبُ
ولا خير فيمن لايوطّن نفسه
على نائبات الدهر حين تنوبُ
النظم والشعر والشعراء
النظم عرفه العروضيون بأنه الكلام الموزون المقفى قصداً ويرادفه
الشعر عندهم: أما المحققون من الأدباء فيخصون الشعر بأنه الكلام الفصيح
الموزون المقفى المعبر غالباً عن صور الخيال البديع. وإذا كان الخيال أغلب
مادته أطلق بعض العرب تجوزاً لفظ الشعر على كل كلام تضمن خيالاً ولو لم يكن
موزوناً مقفى، ولجريه وفق النظام الممثل في صورة الوزن والتقفية كان تأثيره
في النفس من قبيل إثارة الوجدان والشعور لبسطاً وقبضاً وترغيباً وترهيباً
لا من قبيل إقناع الفكر بالحجة الدامغة والبرهان العقلي، ولذلك يجمل أثره
في إثارة العواطف وتصوير أحوال النفس لا في الحقائق النظرية، ولا ريب أن
النفس ترتاع بصور المحسوس الباهر وما انتزع منه من الخيال الجلي لخفة
مؤونته عليها وإراحته لها من المعاناة والكد، فكيف إذا انضم إلى ذلك نغم
الوزن والقافية الشديد الشبه بتأثير الإيقاع والتلحين الذي يطرب له الحيوان
فضلاً عن الإنسان، والعرب بفطرتهم مطبوعين على الشعر لبداوتهم. وملأمة
بيئتهم لتربية الخيال، فالبدوي لحريته واستقلاله بأمر نفسه يغلب على أحكامه
الوجدان، ويسلك إليه من طريق الشعور، ومعيشة البدوي فوق أرض نقية التربة
وتحت سماء صافية الأديم، ساطعة الكواكب، ضاحية الشمس، جلت لحسه مناظر
الوجود، وعوالم الشهود فكان لخياله من ذلك مادة لايغور ماؤها، ولا ينضب
معينها، فهام بها في كل واد وأفاض منها إلى كل مراد، وكان له من لغته
وفصاحة لسانه أقوى ساعد، وأكبر معاضد. ويشعر الإنسان بطبعه أن الشعر متأخر
في الوجود عن النثر وإن كانت واسطة بين النثر والشعر، فليست إلا السجع لما
فيه من معادلة الفقر، والتزام القافية والميل إى التغني به فكان من ذلك
المقطعات والأراجيز الصغيرة، يحدون بها الإبل، ويعدون بها المكارم ثم لما
تمت ملكة الشعر فيهم، واتسعت أغراضه أمامهم، نوعوا الأوزان وأطالوا
القوافي، وقصدوا القصيد.
وقد خفي علينا "كأكثر الأمم" مبدأ قول الشعر، وأول من قاله. أما ما نسب من الشعر
إلى آدم وإبليس والملائكة والجن والعرب البائدة فهو حديث خرافة.
والشعر الذي صحت روايته منذ أواسط القرن الثاني قبل الهجرة تنتهي
أقدم مطولاته إلى مهلهل بن ربيعة وأقدم مقطعاته إلى نفر لعلهم لم يبعدوا
عنه طويلاً مثل العنبر بن عمرو بن تميم ودريد بن زيد بن نهد، وأعصر بن سعد
بن قيس عيلان وزهير بن جناب الكلبي والأفوه الأودي وأبو داود الإيادي وقد
رووا أنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته
وأن أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي في قتل أخيه
كليب فهو أول من رويت له كلمة تبلغ ثلاثين بيتاً وتبعه الشعراء مثل امرئ
القيس وعلقمة وعبيد ممن أخرجوا لنا الشعر العربي في صورته الحاضرة.
هذا مجمل ما يتعلق بحقيقة الشعر ونشأته في الجاهلية أما ما يتعلق
بمادته وجوهره فإنه يرجع إلى أغراضه وفنون ومعانيه وأخيلته وألفاظه
وأساليبه وأوزانه وقوافيه.
أغراضه وفنونه
نظم العرب الشعر في كل ما أدركته حواسهم وخطر على فقلوبهم من فنونه
وأغراضه الكثيرة كالنسيب ويسمى التشبيب والتغزل ى وطريقته عند الجاهلية
يكون بذكر النساء ومحاسنهن وشرح أحوالهن وكان له عندهم المقام الأول من بين
أغراض الشعر حتى لو انضم إليه غرض آخر قدم النسيب عليه وافتتح به القصيد:
لما فيه من لهم النفس وارتياح الخاطر ولأن باعثه الفذ هو الحب وهو السر في
كل اجتماع إنساني والبدو أكثر الناس حباً لفراغهم.
والفخر:
هو تمدح المرء بخصال نفسه وقومه والتحدث بحسن بلائهم ومكارمهم وكرم
عنصرهم ووفرة قبيلهم ورفعة حسبهم وشهرة شجاعتهم.
والمدح: وهو الثناء على ذي شان بما يستحسن من الأخلاق النفسية كرجاجة العقل
والعفة والعجل والشجاعة وإن هذه الصفات عريقة فيه وفي قومه وبتعداد محاسنه
الخلقية. وشاع المدح عندما ابتذل الشعر واتخذه الشعراء مهنة ومن أوائل مداحيبهم زهير والنابغة والأعشى.
والرثاء: وهو تعداد مناقب الميت وإظهار التفجع والتلهف عليه
واستعظام المصيبة فيه.
والهجاء: هو تعداد مثالب المرء وقبيله ونفي المكارم والمحاسن عنه.
والاعتذار: هو درء الشاعر التهمة عنه والترفق في الاحتجاج على براءته منها
واستمالة قلب المعتذر إليه واستعطافه عليه: والنابغة في الجاهلية فارس هذه
الحلبة.
والوصف: هو شرح حال الشيء وهيئته على ما هو عليه في الواقع لإحضاره في ذهن
السامع كأنه يراه أو يشعر به.
والحكمة والمثل: فالحكمة قول رائع يتضمن حكماً صحيحاً مسلماً. والمثل مرآة تريك
أحوال الأمم وقد مضت وتقفك على أخلاقها وقد انقضت
فالأمثال ميزان يوزن به رقي الأمم وانحطاطها وسعادتها وشقاؤها وأجبها
ولغتها. وأكثر ما تكون أمثال العرب وحكمها موجزة متضمنة حكماً مقبولاً أو
تجربة صحيحة تمليها عليها طباعها بلا تكلف راجع فن الأمثال السابق.
معانيه وأخيلته
قصد الشاعر من شعره الإبانة عما يخالج نفسه من المعاني في أي غرض من
الأغراض السابقة ونحوها. ومن هذه المعاني ما هو عادي في البدوي والحضري
والعربي والعجمي كالأخبار الصادقة وأوصاف المشاهدات وشرح الوجدانات كما
يمليها الخاطر بلا مبالغة ولا إغراق. ومنها ما هو غريب نادر انتزعه الخيال
من المرئيات البديعة والأشكال المنتظمة وذلك ما يسمى بالمعنى المخترع الذي
تتفاضل الشعراء بالإجادة فيه والإكثار منه وإذا قسنا الشعر الجاهلي بهذا
المعيار وجدنا معانيه وأخيلته تمتاز بالأمور التالية:
(1) جلاء المعاني
وظهورها ومطابقتها للحقيقة والواقع.
(2) قلة البالغة والغلو فيها بما يخرجها عن حد العقل ومألوف الطبع.
(3) قلة المعاني الغريبة المنزع الدقيقة المأخذ المتجلية في صور
الخيال البديع والتشبيه الطريف والاستعارة الجميلة والكناية الدقيقة وحسن
التعليل وغير ذلك.
(4) قلة تأنقهم في ترتيب المعاني والأفكار على النظام الذي يقتضيه
الذوق فيدخلون معنى في معنى وينتقلون من غرض إلى آخر اقتضاباً بدون تخيل
ولا تلطف.
ألفاظه وأساليبه
ولما كانت العرب أمما بدوية تنظم الشعر بطبعها من غير معاناة صناعة
ولا دراسة علم. غلب على شعرها صراحة القول وقلة المواربة فيه والبعد عن
التكلف وصحة النظم والوفاء بحق المعنى أضف إلى ذلك الأمور الآتية:
(1) جودة
استعمال الألفاظ في معانيها الموضوعة لها: لإحاطة علمهم بلغتهم ومعرفتهم
بوجوه دلالتها.
(2) غلبة استعمال الألفاظ الجزلة واستعمال الألفاظ الغريبة التي
هجرت عند المحدثين.
(3) القصد في استعمال ألفاظ المجاز ومقت استعمال العجمي إلا ما وقع
نادراً.
(4) عدم تعمد المحسنات البديعية اللفظية، ومتانة الأسلوب بحسن إيراد
المعنى إلى النفس من أقرب الطرق إليها وأطرافها لديها وإيثار المجاز أو قلة
الإسهاب إلا إذا دعت الحال.
أوزانه وقوافيه
العرب لم تعرف موازين الشعر بتعلم قوانين صناعية وتعرف أصول وضعية
وإنما كانت تنظم بطبعها على حسب ما يهيئه لها إنشادها وقد هدتهم هذه الفطرة
إلى أوزان أرجعها الخليل إلى خمسة عشر وزناً سماها بحوراً وزاد عليها
الأخفش بحراً وقد اكثروا النظم من بعضها دون بعض.
(راجع كتابنا "ميزان الذهب في بحور شعر العرب") وشعر العرب رجزه
وقصيده يبني على قافية واحدة كيفما طال القول.
الشعراء
شعراء الجاهلية اكثر من أن يحاط بهم. ومن جهل منهم اكثر ممن عرف.
وإنما اشتهر بعضهم دون بعض: لنبوغه، أو كثرة المروي من شعره أو قرب عهده من
الإسلام زمن الرواية.
وكان للشعراء عند العرب منزلة رفيعة، وحكم نافذ وسلطان غالب، إذ
كانوا ألسنتهم الناطقة بمكارمهم ومفاخرهم، وأسلحتهم التي يذودون بها عن
حياض شرفهم (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل
فهنأتها، وصنعت الأطعمة وأتت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس،
ويتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن حياظهم وتخليد
لمفاخرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لايهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ.
أو فرس تنتج).
وكانت طريقة نظم الشعر ارتجاله فتأتيهم ألفاظه عفوا، ومعانيه رهواً
كما وقع للحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم. أما من اتخذه منهم صناعة يستدرها
ويلتمس به الجوائز، وينشده في المحافل والمواقف العظام فإنه يتعهده
بالتهذيب والتنقيح ليجعله رقيق الحاشية حسن الديباجة يصح أن يقال فيه أنه
المثل الأعلى للشعر الجاهلي، كما ترى ذلك واضحاً في حوليات زهير واعتذاريات
النابغة.
وقد غبر الناس دهراً طويلاً لايقولون الشعر إلا في الأغراض الشريفة
لا يمدحون عظيماً طعماً في نواله، ولايهجون شريفاً تشفياً منه وانتقاماً
حتى نشأت فهم فئة امتهنت الشعر وتكسبت به، ومدحت الملوك والأمراء كالنابغة
الذبياني وحسان مع النعمان بن المنذر وملوك غسان، وزهير بن أبى سلمى مع هرم
بن سنان وأمية بن أبي الصلت مع عبد الله بن جدعان: أحد أجواد قريش والأعشى
مع الملوك والسوقة، حتى قصد به الأعاجم، وجعله متجراً به فتحامى الشعر
الأشراف، وآثروا عليه الخطابة.
طبقات الشعراء
طبقات الشعراء باعتبار عصورهم أربع: 1 طبقة الجاهلين.
2 طبقة المخضرمين (وهم الذين اشتهروا بقول الشعر في الجاهلية
والإسلام).
3 طبقة الإسلاميين، وهم الذين نشؤوا في الإسلام ولم تفسد سليقتهم
العربية، وهم شعراء بني أمية.
4 طبقة المولدين، أو المحدثين، وهم الذين نشؤوا زمن فساد العربية
وامتزاج العرب بالعجم، وذلك من عصر الدولة العباسية إلى يومنا هذا.
والشعراء الجاهليون يقسمون باعتبار شهرتهم في الشعر للإجادة أو
للكثرة إلى طبقات كثيرة نذكر منها ثلاثا: 1 الطبقة الأولى: امرؤ القيس،
وزهير، والنابغة.
2 الطبقة الثانية: الأعشى، ولبيد، وطرفة.
3 الطبقة الثالثة: عنترة، وعروة بن الورد والنمر بن تولب، ودريد بن
الصمة، والمرقش، الأكبر.
ومن الأدباء من يقدم بعض هؤلاء على بعض ويزيدون غيرهم عليهم.
امرؤ القيس
هو الملك أبو الحارث حندج بن حجر الكندي شاعر اليمانية.
وآباؤه من أشراف كندة وملوكها، وكانت بنو أسد من المضرية خاضعة
لملوك كندة وآخر ملك عليهم هو حجر أبو امرئ القيس وأمه اخت مهلهل وكليب.
نشأ امرؤ القيس بأرض نجد بين رعية أبيه من بني أسد، وسلك مسلك
المترفين من أولاد الملوك يلهو ويلعب ويعاقر الخمر ويغازل الحسان فمقته
أبوه ولما لم ينجح فيه القول طرده عنه وأقصاه، حتى جاء نبأ ثوران بني أسد
على أبيه وقتلهم له. لأنه كان يعسف في حكمه لهم، فقال (ضيعني صغيراً،
وحملني دمه كبيراً لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليو مخمر، وغداً أمر) وأخذ
يجمع العدة ويستنجد القبائل في إدراك ثأره فنازل بني أسد وقتل فيهم كثيراً
ثم اشتدت به علة لأنه كان يعسف في حكمه لهم، فقال (ضيعني صغيراً، وحملني
دمه كبيراً لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليو مخمر، وغداً أمر) وأخذ يجمع
العدة ويستنجد القبائل في إدراك ثأره فنازل بني أسد وقتل فيهم كثيراً ثم
اشتدت به علة قروح فمات منها ودفن بأنقرة وكان ذلك قبل الهجرة بقريب من
قرن.
شعره: يعتبر امرؤ القيس راس فحول شعراء الجاهلية والمقدم في الطبقة
الأولى فهو أول من أجاد القول في استيقاف الصحب، وبكاء الديار، وتشبيه
النساء بالظباء والمها والبيض، وفي وصف الخيل بقيد الأوابد وترقيق النسيب،
وتقريب مآخذ الكلام، وتجويد الاستعارة، وتنويع التشبيه.
وقد يفحش في تشبيه بالنساء وتحدثه عنهن، ويشم من شعره رائحة النبل
وتلمح فيه شارات السيادة والملك: من ذلك قوله:
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتل
وقوله:
وظل طهارة اللحم مابين منضج
صفيف شواء أو قدير معجل
ولو أن ماأسعى لأدتنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما اسعاى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وشعره وإن اشتمل بشملة البداوة في جفاء العبارة، وخشونة الألفاظ
وتجهم المعاني، تراه أحياناً يخطر في حلل من حسن الديباجة، وبديع المعنى،
ودقة النسيب ومقاربة الوصف وسهولة المأخذ: مما كان منه لخلفه أجمل مثال في
محاكاته.
فمن النوع الأول قوله في معلقته:
وفرع يغش المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائرة مستشزرات إلى العلا
تضل المدارى في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
وتعطو برخص غير شئن كأنه
أساريع ظبي أو مسويك إسحل
ومن الثاني قوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
كأن قلوب ااتلطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
ولا مرئ القيس المطولات والمقطعات، وأشهر مطولاته معلقته المضروب
بها المثل في الاشتها، وأولها:
قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
ومنها يصف الليل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم وليبتلى
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي
بصبح وما الإص2باح منك بأمثل
فيالك من ليل كأون نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
ومنها يصف فرسه:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل
النابغة الزبياني
هو النابغة الذبياني أبو أمامة زياد بن معاوية: أحد فحول شعراء
الجاهلية، وزعيمهم بعكاظ وأحسنهم ديباجة لفظ، وجلاء معنى، ولطف اعتذار ولقب
بالنابغة لنبوغه في الشعر فجأة وهو كبير، بعد أن امتنع عليه وهو صغير وهو
من أشراف ذبيان إلا أن تكسبه بالشعر غض من شرفه، على أنه لم يتكسب بشعره
إلا في مدح ملوك العرب، وكان من أمره في ذلك أنه ااتصل بملوك الحيرة ومدحهم
وطالت صحبته للنعمان بن المنذر ، فأدناه منه إلى وشى به عند النعمان أحد
بطانته فغضب عليه وهو بقتله. فأسر إليه بذلك حاجبه عصام، فهرب النابيغة إلى
ملوك غسان المنافين للمناذرة في ملك العرب، فمدح عمرو بن الحارث الأصغر
وأخاه النعمان، غير أن قديم صحبته للنعمان جعله يحن إلى معاودة العيش في
ظلاله، فتنصل مما رمي به. واعتذر إليه بقصائد عطفت عليه قلبه، وزعمر
النابغة طويلاً ومات قبيل البعثة. شعره يمتاز برشاقة اللفظ ووضوح المعنى،
وحسن النظم، وقلة التكلف، حتى عد عند المرفقين من الشعراء جرير أنه أشعر
شعرا ء الجاهلية، وأغراه تكسبه بالشعر أن يفتن في ضروب المدح ومن أبلغ شعره
معلقته التي أولها:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار
ماذا تحيون من نؤى وأحجار
أقوى وأقفر من نعم وغيره
هوج الرياح بها بي الترب موار
وقفت فيها سراة اليوم أسألها
عن آل نعم أموناً معبر أسفار
فاستعجمت دار نعم ماتكلمنا
والفدار لو كلمتنا ذات أخبار
ومن جيد قوله في الاعتذار
آثاني (أبيت اللعن) أنك لمتني
وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشتني
هراساً به يعلى فراشي وقشب
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مطلب
لئن كنت قد بلغت عني جناية
لمبلغك االواشي أغش وأكذب
ولكنني كنت امرأ لي جرانب
من الأرض فيه مستراد ومهرب
كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم
فلم ترهم في شكرهم ذلك أذنبوا
فلا تتركني بالوعيد كأنني
إلى الناس مطلي به القار أجرب
ألم تر أن الله أعطاك سروة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وإنك شمسٌ والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوما فبعد ظلمته
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، ثالث فحول الطبقة الأولى
من الجاهلية، وأعفهم قولاً، وأوجزهم لفظاً، وأغزرهم حكمة، وأكثرهم تهذيباً
لشعره نشأ في غطفان وإن كان نسبة في مزينة، كمن بيت جل أهله شعراء: رجالاً
ونساءً ت واختص زهير بمدح هرم بن سنان الذبياني المري وأول ما أعجبه من
أمره وجب إليه مدحه حسن سعيه هو والحارث بن عوف في الصلح بين عبس وذبيان في
حرب داحس والغبراء بتحملهما دامت القتلى التي بلغت ثلاثة آلاف بعير، وقال
في ذلك قصيدته إحدى المعلقات السبع التي أولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتلثم
ثم تابع مدحه كما تابع هرم عطاءه حتى حلف ألا يمدحه زهير إلاى أعطاه
ولا يسأله إلا أعطاه ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرساً،
فاستحيا زهير منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: أنعموا صباحاً غير هرم وخيركم
استثنيت وكان زهير سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع متدنياً مؤمناً
بالبعث والحساب كما يظهر من قوله:
فلا تكتمن الله مافي نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وعمر زهير ومات قبل البعثة بسنة ومن حكمه في معلقته:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن عام مافي غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
نمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن هاب أسباب المناياينلنه
وأن يرق أسباب السماء بسلم
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
شعره: اتفق أكثر الشعراء على أن زهيراً يفضل صاحبيه امرأ القيس
والنابغة.
وكان زهير صاحب روية وتعمل تهذيب لما يقول ولا سيما مطولاته، حتى
قيل إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة أشهر، ويعرضها
على خواصه في أربعة أشهر فلا يظهرها إلا بعد حول، ولذلك يسمون بعض مطولاته
الحوليات، ومكا سبق فيه غيره قوله يمدح هرماً: قد جعل المبتغون الخير في
هرم=والسائلون إلى أبوابه طرقاً
من يلق يوماً على علاته هرماً
يلق السماحة منه والندى خلقاً
لو نال حي من الدنيا بمكرمة
أفق السماء لنالت كفه الأفقا
عنترة العبسي
هو عنتر: بن عمرو بن شداد العبسي أحد فرسان العرب وأغربتها وأجوادها
وشعرائها المشهورين بالفخر والحماسة وكانت أمه أمة حبشية تسمى زبيبة، وأبوه
من سادات بني عبس.
وكان من عادات العرب ألا تلحق ابن الأمة بنسبها، بل تجعله في عداد
العبيد ولذلك كاطن عنترة عند أ[يه منوذاً بين عبدانه، يرعى له إبله وخيله
فربأ بنفسه عن خصال العبيد، ومارس الفروسية ومهر فيها، فشب فارساً شجاعاً
هماماً وكان يكره من أبيه استعباده له عدم إلحاقه به، حتى أغار بعض العرب
على عبس واسةتاقوا إبلهم، ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة لاستنقاذ الإبل،
فقال له أبوه: كر ياعنترة فقال: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب
والصر، فقال كر وأنت حر، فقاتل قتالاً شديدياً حتى هزم القوم واستنقذ
الإبل، فاستحلقه أبوه. ومن ذلك الوقت ظهر اسمه بين فرسان العرب وساداتها
وطال عمر عنترة حتى ضعف جسمه وعجز عن شن الغارات ومات قبيل البعثة.
شعره: لم يشتهر عنترة أول أمره بشعر غير البيتين والثلاثة، وإنما
غلبت عليه الفروسية مكتفياً بها حتى عيره يوماً بعض قومه بسواده وأنه لا
يقول الشعر فاحتج لسواده بخلقه وشجاعته، واحتج لفصاحته بنظم معلقته
المشهورة التي كانت تسمى المذهبة أيضاً وأولها
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقد ضمنها خصاله ومكارم قومه. وحسن دفاعه عنهم ووفرة جوده، معرجاً
فيها على أوصاف أمور شتى. ومن قوله في معلقته:
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
مازلت أرميهم بثغرة نحره
ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكان لو علم الكلام مكلمي
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
والخيل تقتحم الخبار عوابساً
من بين شيظمة وأجرد شيظم
أثني علي بما علمت فإنني
سمح مخالطتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل
مر مذاقته كطعم العلقم
ومن جيد قوله:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
لابد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبالك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
إن المنية لو تمثل مثلت
مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
إني امرؤ ن خر عب منصبا
شطري وأحمي سائري بالمنصل
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظ
ت ألفيتُ خيراً من معمّ مخولِ
والخيلُ تعلم والفوارس أنّني
فرت جمعهم بضربة فيصل
والخيل ساهمة الوجوه كأنما
تسقى فوارسها نقعَ الحنظلِ
ولقد أبيتُ على الطوى وأظله
حتى أنالَ به كريمَ المأكل
عمر بن كلثوم
ه أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي، وأمه ليلى بنت مهلهل
أخي كليب، نشأ عمرو في قبيلة تغلب بالجزيرة الفراتية وساد قومه وهو ابن خمس
عشرة ستة، وقاد الجيوش مظفراً وأكثر ما كانت فتن تغلب مع أختها بكر بن وائل
بسبب حرب البسوس، وكان آخر صلح لهم على يد عمر ن هند أحد ملوك الحيرة من آل
المنذر، ولم تمضِ مدة حتى حدث بين وجوه القبيلتين مشاحة في مجلس عمرو بن
هند قام أثناءها شاعر بكر (الحارث بن حلزة اليشكري) وأنشد قصيدته المشهورة،
وما فرغ منها حتى ظهر لعمرو بن كلثوم أن هوى الملك مع بكر، فانصرف ابن
كلثوم وفي نفسه ما فيها ثم خطر على نفس ابن هند أن يكسر من أنفة تغلب
بإذلال سيدها وهو عمرو بن كلثوم فدعاه وأمه ليلى بنت مهلهل وأغرى هند أم أن
تستخدمها في قضاء أمر، فصاحت ليلى، فثار به الغضب وقتل ابن هند لفي مجلسه،
ثم رحل توا إلى بلاده بالجزيرة وأنشد معلقته التي أولها:
ألا هبيّ بصحنكِ فأصبحينا
ولا تبقى خمورَ الأندرينا
ومات قبل الإسلام بنحو نصف قرن.
شعر ه: لم يشتهر إلا بمعلقة الواحدة التي قامت له مقام الشعر
الوفير: لحسن لفظها، وانسجام عبارتها، وعلو فخرها ولعلّ شهرته بالخطابة لا
تقل عن شهرته بالشعر: ومن سامي فخره في معلقته:
وقد علم القبائلُ من معدّ
إذا قببب بأبطحها بنينا
بأنّا العاصمون إذا قدرنا
وإنا المهلكون إذا ابتلينا
وأنّا المانعون لما أردنا
وأن النازلون بحيث شينا
وأنّا التاركون إذا سخطنا
وأنّا الآخذون إذا رضينا
ونشرب إن وردنا الماء صفواً
ويشرب غيرنا كدراً وطينا
إذا ما الملك سام الناس خسفاً
أبنيا أن نقر الذلّ فينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاةُ ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وكذاك البحر نملاؤه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
طرفة بن العبد
ه8و عمرو بن العبد البكري أقصر فحول الجاهلية عمراً ومال إلى قول
الشعر الوقوع ه في أعراض الناس، حتى هجا عمرو بن هند ملك العرب على الحيرة
مع أنه كان يتطلب معروفه وجوده، فبلغ عمرو بن هند هجاء طرفة فأصطغنها عليه،
حتى إذا ما جاءه هو وخاله المتلمس بتعرضان لفضله أظهر لهما البشاشة وأمر
لكل منهما بجائزة وكتب لهما كتابين أحالهما على عامله بالبحرين ليستوفيا
منه وبينما هما في الطريق ارتاب المتلمس في صحيفته فعرج على غلام يقرؤها له
(مضى طرفة) فإذا الصحيفة الأمر بقتله، فألقى الصحيفة وأراد أن يلحق طرفة
فلم يدركه وفر إلى ملوك غسان وذهب طرفة إلى عام البحرين وقتل هناك وعمره
نحو ست وعشرين سنة.
شعره: يجيد طرفة الوصف في شعره مقتصراً فيه على بيان الحقيقة بعيداً
عن الغلو والإغراق وكذلك كان هجاؤه على شدة وقه ومطلع معلقته:
لخولة أطلالٌ ببرقةٍ ثمهدِ
تلوح كباقي الوشم على ظاهر اليد
ومنها:
رأيتُ بني غبراءَ لا ينكرونني
ولا أهلُ هاذاك الطراف الممدد
ألا أيها ذا اللائمي أخضر الوغى
وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفعَ منيّتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
إلى أن قال:
أرى الموت يعتام الكرامَ ويصطفي
عقيلةَ مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزاً ناقضاً كل ليلة
وما تنقصُ الأيام الدهرُ ينفدِ
لعمرك إن الموت "ما أخطأ الفتى"
لكا لطول المرخى وثنياه باليد
متى ما يشأ يوماً يقده لحتفه
ومن يك في حبل المنية ينقد
ومن أبياته السائرة:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة
على المرء من وقعِ الحسام المهنَّد
أرى الموتَ أعداد النُّفوس ولا أرى
بعيداً غداً ما أقرب اليومَ من غد
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودّ
أعشى قيس
هو أبو نصير ميمون الأعشى بن قيس بن جندل القيسي نشأ في بدء أمره
رواية لخاله المسيب بن علس وقد عمي وطال عمره، حتى كان الإسلام وعظم أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بين العرب، فأعدّ له قصيدة يمدحه بها، وقصده
بالحجاز، فلقيه كفار قريش وصدّوه عن وجهه على أ، يأخذ منهم مائة ناقة حمراء
ويرجع إلى بلده: لتخوفهم أثر شعره ففعل، ولما قرب من اليمامة سقط عن ناقته
فدقت عنقه ومات، ودفن ببلدته منفوحة باليمامة.
شعره: يعد الأعشى رابعاً لثلاثة الفحول: امرئ القيس، والنابغة وزهير
وإن كان يمتاز عنهم بغزارة شعره، وكثر ما روي له من الول لجياد وتفننه في
كل فن من أغراض الشعر واشتهر من بينهم بالمبالغة في وصف الخمر، حتى قيل:
أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب والأعشى
إذا طرب، ولشعره طلاوة وروعة، وليست لكثير من شعره غيره من القدماء ولقوة
طعمه وجلبة شعره وسمي صناجة العرب حتى ليخيل إليك إذا أنشدت شعره أن آخره
ينشد معك.
ولجلالة شعره كان يرفع الوضيع خاملاً، ويخفض الشريف النابه، ومنم
الذين رفعن شعر الأعشى المحلق، وقد كان أبا ثمان بنات عوانس: رغبت عن
خطبتهن الرجال لفقرهن فاستضافه على فقره، فمدحه الأعشى ووه بذكره في عكاظ،
فلم يمض عام حتى لم تبق جارية منهن إلا هي زوج لسيد كريم وكان الأعشى يتطرف
في شعره وده بعضهم من أصحاب المعلقات، وذكر قصيدته التي يمدح بها الأسود
الكندي ومطلعها:
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي وما ترد سؤالي
ومن جيد شعره قصيدته التي أعدها لينشدها بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم يمدحه فيها فلم يفز بذلك، وأولها:
ألم تغمض عيناك ليلةَ أرمدا
وبتَّ كما بات السّليم مسهّدا
وما ذاك من عشق النسّاء وإنّما
تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن
إذا أصلحت كفاي عاد فأفسدا
شبابٌ وشيبٌ وافتقار وثروة
فلّله هذا الدهر كيف ترددا
وقصيدته في مدح المحلّق أولها:
أرقتُ وما هذا السُّهاد المؤرقُ
وما بي من سقمٍ وما بي تعشقُ
ومنها:
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة
إلى ضوء نار في اليفاع تحرّق
تشبُّ لمقرورين يصطليانهما
وبات على النار الندي والمحلّق
رضيعي لبان ذدي أمّ تقاسما
بأسحم داج عوض لا نتفرّق
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه
كما زان متنَ الهندواني رونق
يداهُ يدا صدق فكفُّ مبيدةٌ
وأخرى إذا ما ضنَّ بالمال تنفقُ
الحارث بن حلّزة
وهو الحارث بن حلّزة اليشكري البكريّ يتصل نسه إلى بكر بن وائل ولم
يؤثر عنه غي قطع يسيرة وقصيدته المعلقة التي مطلعها:
آذنتنا ببينها أسماء
ربَّ ثاوٍ يملُّ منه الثواء
وكان أمر هذه المعلقة أن عمرو بن هند أحد ملوك الحيرة أصلح بين بكر
وتغلب بعد حرب البسوس وخذ من كلا الفريقين رهائن من أبناهم ليكف بعضهم عن
بعض، وليقيد منها للمعتدي عليه من المعتدي فحدث أن سرح الملك ركباً من تغلب
في بعض حاجته، فزعمت تغلب أن الركب نزلوا على ماء لبكر فأجلوهم، وحملوهم
على المفازة فماتوا عطشاً، وتزعم بكر أنهم سقوهم وأرشدوهم الطريق فتاهوا
وهلكوا وذهب الفريقان تدافعان عند عمرو بن هند وكانت ضلعه مع تغلب فهاج ذلك
الحارث بن حلزة وكان في المجلس مستوراً عن الملك بستارة لما فيه من البرص
فارتجل قصيدته ارتجالاً يفتخر فيها بقومه وفعالهم وحسن بلائهم عند الملك
وعظم أيامهم معه فما أتم قصيدته حتى انقلب الملك إلى جانب البكريين وقرب
الحارث من مجلسه.
وعمر بن الحارث طويلاً حتى قيل: إنه أنشد هذه القصيدة وعمره خمس
وثلاثون ومائة سنة.
شعره: أكثر الرواة معجبون بارتجال الحارث قصيدته على طولها وإحكامها
ومن قوله فيها وهو أوجز وصف للتأهب للارتحال وأوضحه تصويراً للحقيقة.
أجمعوا أمرهم عشاءً فلمّا
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من منادٍ ومن مجيب ومن تصه_هال خيل خلالَ ذاك رغاءُ
لبيد بن ربيعة
هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين وهو
من بني عامر بن صعصعة إحدى بطون هوازن ومضر وأمه عبسية، نشأ لبيد جواداً
شجاعاً فاتكاً، أما الجود فورثه عن أبيه الملقب بربيعة المعترين، وأمى
الشجاعة والفتك فهما خصلتا قبليته إذا كان عمه ملاعب الأسنة أحد فرسان مضر
في الجاهلية وكان من قبليته وبين بني عبس أخواله عداوة شديدة فاجتمع
وفداهما عند النعمان بن المنذر وعلى العبسيين الربيع بن زياد وعلى
العامريين وملاعب الأسنة وكان الربيع مقرباً عند النعمان يؤاكله وينادمه
فأوغر صدره على العامريين فلما دخل وفدهم على النعمان أعرض عند فشق ذك
عليهم، ولبيد يومئذٍ صغير يسرح إبلهم ويرعاها فسألهم عن خطبهم فاحتقروه
لصغره فألح حتى أشركوه معهم فوعدهم أنه سينتقم لهم منه غداً عند النعمان
أسوأ انتقام: بهجاء يجالسه بعده ولا يؤاكله فكان ذلك ومقت النعمان الربيع
ولم يقبل له عذراً وأكره العامريين وقضى حوائجهم، فكان هذا أول ما اشتهر به
لبيد، ثم قال بعد ذلك المقطعات والمطولات، وشهد النابغة له وهو غلام بأنه
أشعر هوازن حين سمع معلقته التي أولها:
عفتِ الديارُ محلُّها فمقامها
بمنّى تأبّد غولها فرجامها
ولما ظهر الإسلام وأقبلت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم
جاء لبيد في وفد بني عامر وأسلم وعاد إلى بلاد وحسن إسلامه، وتنسك وحفظ
القرآن كله وهجر شعر حتى لم يرو له في الإسلام غير بيت واحد هو:
ما عاتب الحرَّ الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليسُ الصالح
وبعد أن فتحت الأمصار ذهب إلى الكوفة زمن عمر بن الخطاب، واختارها
دار إقامة، وما زال بالكوفة حتى مات في أوائل خلافة معاوية سنة إحدى
وأربعين من الهجرة، وقد قيل إنه عاش ثلاثين ومائة سنة.
شعره: نبغ فيه وهو غلام وجرى فيه على سنن الأشراف والفرسان.
ومن جيد شعره وقوه في معلقته مفتخراً بفعاله وقوله وقومه:
إنا إذا التقيت المجامع لم يزل
منا لزازٌ عظيمة جشامها
ومقسم يعطي العشيرة حقها
ومغذمرٌ لحقوقها هضامها
فضلاً وذو كرم يعين على الندى
سمحٌ كسوبٌ رغائب غنّامها
من معشر سنّت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنّة وإمامها
لا يطبعون ولا يبور فعالهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليكُ فإنما
قسم الخلائق بيننا علاّمها
وإذا الأمانة قسّمت في معشر
أوفى بأعظم حظنا قسّامها
فبنى لنا بيتاً رفيعاً سمكه
فسما إليه كهلها وغلامها
فهم السعادة إذا العشيرة أفظعت
وهم فوارسها وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهمُ
والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة إن يبطئ حاسد
أو أن يميل مع العدو لئامها
وقال يرثي أخاه أربد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوامع
وتبقى الديار بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنه
ففارقني جارٌ بأربد نافع
فلا جزعٌ إن فرق الدهر بينا
فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع
وما الناس إلاّ كالديار وأهلها
بها يوم خلّوها وراحوا بلاقع
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلاّ ودائع
ولابدّ يوماً أن تردّ الودائع
وما الناس إلا عاملان: فعامل
يتبر ما يبني وآخر رافع
فمنهم سعيدُ آخذ بنصيبه=ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع ومنه قوله في
النعمان يرثيه:
ألا تسألان ماذا يحاول
أنحب فيقضي أم ضال وباطل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
بلى كل ذي لب إلى الله واسلُ
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفرّ منها الأنامل
وكل امرئٍ يوماً سيعلم غيبة
إذا كشفت عند الإله الحصائل
الرّواية _ الرّواة
قد علمنا مما تقدم أن عامة المروي من كلام العرب شعرها ونثرها
وأخبارها معزو إلى أهل البدو الأميين، ولذلك لم يصل غلينا كتاب يجمع بين
دفتيه الكثير منها، وما روي لنا من كلام فصحاء العرب ليس إلا النزر اليسير
بوجوه مختلفة وبالطبع لا يحفظ هذه الوديعة إلاّ أهل الحفاظ عليها والاعتداد
بها وهم الشعراء والمتأدبون، فقد كان امرؤ القيس رواية ربي دواد الإيادي،
وزهير رواية أوس ن حجر والأعشى رواية المسيب بن علس.
واشتهر من قريش أربعة بأنهم رواة للأشعار وعلماؤهم بالأنساب وهم
مخرمة بن نوفل، وأبو الجهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى وعقيل بن أبي
طالب.
العصر الثاني عصر صدر الإسلام ويشمل بني أميّة
حالة اللغة العربية وآدابها في ذلك العصر
كانت العرب أمماً بدوية ليس لها وسائل العمران وأسباب الرخاء ما
يحملها على تبحر في علم أو تبصر في دين، أو تفنن في تجارة، أو زراعة أو
صنعة أو سياسة، وعلى وفق ذلك كانت اللغة العربية لا تعدوا أغراض المعيشة
البدوية إا أن روحاً من الله تنسم بين أرجائها فأيقظها من ردتها، ونبهها
لضرورة التعاون على الخير في معاشها ولغتها وجماعتها، فظهر ذلك بيناً في
الأسواق التجارية اللغوية الاجتماعية، وفي الإذعان فيها إلى حكومة الأشراف
من قريش وتميم وغيرهما،ة مما هيأهم لأن يجتمعوا تحت لواء واحد ويتفاهموا
بلسان واحد، فكان ذلك إيذاناً من الله بإظهار الإسلام فيهم، وما ألفت
نفوسهم هذا النمط ويتفاهموا بلسان واحد، فكان ذلك إيذاناً من الله بإظهار
الإسلام فيهم، وما ألفت نفوسهم هذا النمط الجديد إلا ود جاء النبي الكريم
لاما لشعثهم موحداً لكلمتهم، مهذباً لطباعهم مبيناً طريق الحق، وجادة
الصواب، بشريعة عظيمة.
فكان من نتيجة ذلك أن أسست لهم جمعة قومية ملية وملك كبير، وبالتفاف
العرب حول صاحب هذه الدعوة وأنصاره، وتفهمهم شرعته وكلامه ثم خضوعهم بعد
لزعامة قومه وخلفائه وولاتهم وفتوحهم تحت ألويتهم ممالك الأكاسرة والقياصرة
وغيرها ومخالطتهم أهلها بالجوار والمصاهرة.
الأول: شيوع اللغة القرشية ثم توحد لغات العرب، وتمثلها جميعها في
لغة قريش واندماج سائر اللهجات العربي فيها، وبعض أسباب هذا يرجع إلى ما
قبل بتأثير الأسواق والحج وحكومة قريش وأكثرها يرجع إلى نزول القرآن
بلغتهم، وظهور ذلك الداعي العظيم منهم، وانتشار دينه وسلطانه على أيديهم.
وبحكم الضرورة تكون لغتهم هي اللغة الرسمية بين القبائل.
الثاني: انتشار اللغة العربية في ممالك الفرس والروم وغيرهما
بالفتوح والمغازي وهجرة قبائل البدو إليها، واستيطانهم، واختلاطهم بأهلها.
الثالث: اتساع أغراض اللغة منهجاً دينياً، واتباعها خطة نظامية
تقتضيها حال الملك وسكنى الحضر.
الرابع: ارتقاء المعاني والتصورات وتغير الألفاظ والأساليب.
الخامس: ظهور اللحن في الكلام بين المستعربين: من الموالي وأبناء
العرب من الفتيات وبعض العرب المكثرين من معاشرة الأعاجم.
ولما كان معظم هذه التغيرات يرجع إلى القرآن الكريم والحديث النبوي
ناسب وصفهما بقليل من مثير مما ينبغي أن يقال فيهما.
القرآن الكريم وأثره في اللغة
القرآن (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود:1]، فيه آيات بينات، ودلائل واضحات، وأخبار صادقة،
ومواعظ رائقة، وشرائع راقية، وآدا عالية، بعبارات تأخذ الألباب.
وأساليب ليس لأحدج من البشر بالغاً مما بلغ من الفصاحة والبلاغة أن
يأتي بمثلها، أو يفكر في محاكاتها فهو آية الله الدائمة، وحجته الخالدة،
(لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ
تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42]، أنزل الله على رسوله ليبلغه
قومنه وهم فحول البلاغة، وأمراء الكلام.
وأباه الضيم، وأربا الأنفة والحمية فيبهرهم بيانه، وأذهلهم افتتانه
فاهتدى به من صح نظره واستحصف عقله، ولطف ذوقه، وصد عنه أهل العناد
والمكارة واللجاج فتحداهم أن يأتوا بمثله فنكصوا ثم بعشر سور مثله فعجزوا،
ثم بسورة من مثله فانقطعوا فحق عليهم إعجازه قال تعالى: (قُل لّئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هََذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً) [الإسراء: 88].
وللقرآن فضل على اللغة فقد أثر فيها ما لم يؤثره أي كتاب سماوياً
كان أو غير سماوي في اللغة التي كان بها، إذا ضمن لها حياة طيبة وعمراً
طويلاً، وصانها من كل ما يشوه خلقها ويذوي غضارتها فأصبحت وهي اللغة الحية
الخالدة ومن بين اللغات القديمة التي انطمست آثارها، وصارت في عداد اللغات
التاريخية الأثرية وأنه قد أحدث فيها علوماً جمة وفنوناً شتى لولاه لم تخطر
على قلب، ولم يخطها قلم منها، والنحو، والصرف، والاشتقاق، والمعاني،
والبديع، والبيان والأدب والرسم، والقراءات، والتفسير، والأصول، والتوحيد
والفقه.
جمع القرآن وكتابته
قد نزل القرآن الكريم على رسول الله صل الله عليه وسلم منجماً تعلى
حسب الوقائع ومقتضيات الأحوال في بضع وعشرين سنة، وكان عليه الصلاة والسلام
يأمر كتابة وحيه بكتابة ما ينزل وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
والقرآن كله مكتوب، وفي صدور الصحابة محفوظ، وفي مدة الإمام عثمان كثرت
الفتوحات وانتشر القراء في الأمصار فأمر عثمان زيد بن ثابت وعد الله بن
الزبير وسعيد بن العاص ونعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا تلك الصحف في
مصحف واحد مرتب السور واقتصر فيه من جميع اللغات على لغة قريش لنزوله
بلغتهم.
الحديث النبوي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصح الناس وأبينهم وأحكمهم، وكانت
حياته كلها هداية ونوراً وأفعاله وأقواله جميعها مدداً يستمد منه الخلق
سدادهم وإرشادهم في معاشهم ومعادهم ولهذا حرص المسلمون على حفظ ذلك الأثر
العظيم حرصاً لم توفق مثله أمة في حفظ آثار رسولها فجمعوا من كلامه ووف
أفعاله وأحواله الأسفار الضخام ووعوا منها في صدورهم ما لا يدخل تحت حصر
وكلامه صلى الله عليه وسلم منزه عن اللغو والباطل وإنما كان في توضيح قرآن
أو تقرير حكم أو إرشاد إلى خيرا أو تنفير من شر أو في حكمة ينتفع الناس بها
في دينهم ودنياهم عبارة هي في الفصاحة والبلاغة والإيجاز والبين بالدرجة
الثانية بعد القرآن الكريم ولذلك كان تأثيرها في اللغة والأدب بالمنزلة
التالية لكلام الله تعالى.
النثر لغة التخاطب الخطابة الكتابة
كانت لغة التخاطب في مبدأ الإسلام بين العرب الخلص والموالي
النابتين فيهم هي العربية الفصيحة المعرة وكانت لغة الموالي الطارئين عليهم
تقرب من الفصيحة أو تبتعد عنها على حسب طول لبثهم فيهم أو قصر مقامهم عندهم
ولما فتح المسلمون الأمصار وكثر عندهم سبي الأعاجم وأسرى الحروب ودخل في
الإسلام منهم ألوف الألوف وأصبحوا لهم إخواناً وشركاء في الدين وتم بينهم
التزاوج والتناسل، نشأ للعرب ذرية اختلطت عليهم ملكة العربية وكذلك كان
الشأن في المتعربين من الأعاجم أما العرب أنفسهم عد الفتوح فكانت لغتهم في
جزيرتهم مثلما كانت عليه في جاهليتهم، أما سكان الأمصار منهم وأولادهم من
الحرائر، فالعامة منهم المخالطون للأعاجم لم تخل لغتهم من لحن أو هجنة،
والخاصة منهم تشددوا فالمحافظة على سلائقهم وتحاموا التزوج بالأعجميات
وبالغوا في تربية أبنائهم فكانوا يرسلونهم إلى البادية ليرتاضوا على
الفاصحة، أو يحضون لهم المؤدبين والمعلمين كذلك كان يفعل خلفاء بني أمية
وأمراؤهم اقتداءً بكبيرهم معاوية بن أبي سفيان في تربية ابنه يزيد، ومن لحن
منهم تعدوا ذلك عليه عاراً لا يمحى وسبة لا تزول، ومن هؤلاء اللحانين عبيد
الله بن زياد والوليد بن عبد الملك وخالد القشري مع أن بعضهم كان من أبلغ
الناس وأبينهم.
ومن هنا يعلم السر في تسرع القوم إلى وضع النحو وتدوينه والشكل
والأعجام.
الخطابة في هذا العصر والخطباء
لا كان مبدأ كلا انقلاب عظيم في أي أمة: إما دعوة دينية وإما دعوة
سياسية، وكانت تلك الدعوة تستدعي ألسنة قوالة من أهلها لتأييدها ونشرها
وألسنة من أعدائها وخصومها لإدحاضها والصد عنها، و ذلك لا يكون إلا بمخاطية
الجماعات: وكان ظهور الإسلام من أهم الحوادث التي أنشطت الألسن من عقلها
وأثارت الخطابة من مكمنها فوق ما كانت عليه في جاهليتها فكان العمل الأكبر
لصاحب الدعوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بادئ أمره غير تبليغ
القرآن وارداً من طريق الخطابة. ولأمر ما جعلها الشارع سعار كل الأمور ذوات
البال، كان دعاة النبي صلى الله عليه وسلم ورسله إلى الملوك وأمراء جيوشه
وسراياه ثم خلفاءه من بعده عمالهم كلهم خطباء مصاقع ولسنا مقاول وأن الشعر
صرفهم عن اللهو والشعر الذي لا ينهض بأعباء الخطابة ولاسيما الدينية لشرحها
الحقائق وقرعها الأسماع بالحجج العقلية والوجدانية وترغيبها في الثواب
وترهيبها من العقاب بعبارات تفهمها الخاصة والعامة وكان لهم من القرآن
أدلته وحجته والاقتباس منه مدد أيما مدد.
ولما حدثت الفتنة بن المسمين بعد مقتل عثمان، وافترقوا إلى عراقيين
بزعامة علي وشاميين بزعامة معاوية ولكل منهم دعوة يؤيدها ورغبة يناضل عنها
في تلك الحرب الشعواء التي لم ينكب الإسلام بمثلها، ظهر من كلتا الطائفتين
خطباء لا يحصى عددهم ولا يشق غبارهم ، وعلى رأس العراقيين شيخ الخطباء علي
بن أبي طالب وعلى رأس الشاميين معاوية بن أبي سفيان ولم يعدم كل طائفة
خطباء يؤيدون دعوتها بما أتوا من البلاغة في الخطابة والفصاحة والبيان.
والخطابة وصلت في هذا العصر إلى أرقى ما وصلت إليه في اللسان العربي
حتى ممن يعد عليهم اللحن ولم تسعد العربية بكثرة خطباء ووفرة خطب ومثل ما
سعدت به في هذا الصدر الأول.
إذا كان القوم ورؤساؤهم عرباً خلصاً يسمعون القول فيتبعون أحسنه.
ولم يخرج الخطباء عن مألوفهم من اعتجار العمامة والاشتمال بالرداء واختصار المخصرة والخبطة من قيام.
وليس في عصور أدب اللغة من عصر أحفل بالخطباء من هذا العصر: إذا
كانت الخطابة فيه سلسة القياد على خلفائه وزعمائه: لفطرتهم العربية ومحلهم
من الفصاحة والبيان وانطباعهم على أساليب القرآن واتساع مداركهم.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
هو أبو بكر عبد الله عتيق بن أبي قحافة عثمان صاحب رسول الله وأول
الخلفاء الراشدين.
ويجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب،
ولد بعد مولد رسول الله لسنتين وبضعة أشهر ونشأ من أكرم قريش خلقاً وأرجحهم
حلماً وأشدهم عفة وكان أعلمهم بالأنساب وأيام العرب ومفاخرها، صحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وكان أول من آمن به من الرجال وصدقه في
كل ما جاء به: ولذلك سمي بالصديق وهاجر معه إلى المدينة وشهد معه أكثر
الغزوات وما زال ينفق ماله وقوته في معاضدته حتى انتقل صلى الله عيه وسلم
إلى الرفيق الأعلى واختلفت العرب وارتدت عن الإسلام فجرد عليهم الجيوش حتى
قمعهم وما مات إا وجيوشه تهزم جيوش الفرس والروم وتسولي على مدائنهم
وحصونهم وكانت وفاته سنة 13ه? ومدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.
وكان فصيحاً بليغاً خطيباً مفوهاً قوي الحجة شديد التأثير يشهد بذلك
خطبته يوم السقيفة (وذلك أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفت
الصحابة فيمن يبايعونه خليفة عليهم: فابت الأنصار إلا أن يكون الخليفة منهم
وأبى المهاجرون من ريش إلا أن يكون منهم واشتد النزاع حتى كادت تقع الفتنة
فخطبهم خطبة لم يلبث الجمع بعدها أن بايعوه خليفة) وهي: حمد الله وأثنى
عليه ثم قال: أيها الناس نحن المهاجرون، وأول الناس إسلاماً، وأكرمهم
أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأكثر الناس ولادة في العرب
وأمسهم رحماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمنا قبلكم وقدمنا في
القرآن قال تبارك وتعالى: (وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ) [التوبة: 100]
فنح المهاجرون وأنتم الأنصار: إخواننا في الدين.
وشركاؤنا في الفيء وأنصارنا على العدو آويتم وواسيتم جزاكم الله
خيراً نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش فلا
تنفسوا على إخوانكم المهاجرين ما منحهم الله من فضله.
وخطب أيضاً حين بايع الناس البيعة العامة.
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست
بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني
أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم ألا أتن أقواكم
عندي الضعيف حتى آخذ الحق له وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه أقول
قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
وخطب أيضاً الناس فقال:
(بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه
صلى الله عليه وسلم) أوصيكم بتقوى الله والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم
وهداكم به فإن جوامع هدي الإسلام بعد كلمة الإخلاص السمع والطاعة لمن ولاه
الله أمركم، فإنه من يطع لله وأولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد
أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم واتباع الهوى، افقد أفلح من حفظ من
الهوى والطمع والغضب وإياكم والفخر! وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب
يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي وغداً ميت؟ فاعلموا يوماً بيوم،
وساعة ساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى واصبروا، فإن
العمل كله بالصبر، واحذروا، والحذر ينفع واعملوا، والعمل يقبل، واحذروا ما
حذركم اله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته وافهموا وتفهموا،
واتقوا، وتوقوا فإن الله قد بيتن لكم ما أهلك به من كلن قبلكم، وما نجي به
من نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يجب من الأعمال، وما
يكره، فإني لا ألومكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله،
واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من قبل أعمالكم فربكم
أطعتم وحظكم وحفظتم واعتبطتم، وما تطوعتم به لدينكم فاجعلوه نوافل
بين أيديكم تستوفوا سلفكم وتعطوا جرايتكم حيث فقركم وحاجتكم إليها ثم
تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد ردوا على ما قدموا
فأقاموا عليه وحلوا في الشقاء أو السعادة فيما بعد الموت، أن الله له شريك
وليس بينه وبين أحد من خله نسب يعطيه به خيراً ولا يصرف عنه سوءاً إلا
بطاعته اتباع أمره فلأنه لا خير في خير بعده النار ولا شر في شر بعده
الجنة.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي ثاني خليفة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وأول من تسمى من الخلفاء بأمير المؤمنين وأول من
أرخ بالتاريخ الهجري ومصر الأمصار ودون الدواوين.
ولد رضي الله عنه بعد مولد النبي صلى اله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة
وحضر مع رسول الله الغزوات كلها، ثم لما قبض أعان أبا بكر على تولية
الخلافة، ولما أحسن أبو بكر بالموت، عهد بها غليه، فقام بأعبائها خير قيام
وأتم جميع ما شرع فيه أبو بكر: من فتح ممالك كسرى وقيصر.
وقتله أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة: لأنه لم ينصفه على زعمه في
تخفيض ما يدفعه لسيده من أجره عمله، وكان قتله سنة 23ه? ومدة خلافته عشر
سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وكان رحمه الله من أبين الناس منطقاً،
وأبلغهم عبارة وأكثرهم صواباً وحكمة وأرواهم للشعر، وأنقدهم له.
ومن خطبه خطبته إذ ولي الخلافة.
صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا آيها الناس، إني داع
فأمنوا اللهم إني غليظ فليني لأهل طاعتك بموافقة الحق، ابتغاء وجهك الدار
الآخرة وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق من غير ظلم
مني ولا اعتداء عليهم، واتللهم إني شحيح فسخني في نوائب المعروف قصداً من
غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار
الآخرة، واللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين، اللهم إني كثير
الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال وكذر الموت في كل حين، اللهم إني
ضعيف عن العمل طاعتك فارزقني النشاط فيها، والقوة عليها بالنية الحسنة التي
لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك، اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام
بين يديك، والحياء منك وارزقني الخشوع فيما يرضيك عني، والمحاسبة لنفسي،
وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات، واللهم ارزقني التفكير والتدبر لما
يتلوه لساني من كتابك، والفهم له والمعرفة وبمعانيه والنظر في عجائبه
والعمل بذلك ما بقيت، إنك على
كل شيء قدير.
ومن خطبه في ذم الدنيا:
إنما الدنيا أمل مخترم وأجل منتقض وبلاغ إلى
دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح
لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه، بئس الجار الغني يأخذك بما لا يعطيك من نفسه
فإن أبيت لم يعذرك، إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة ومفسدة للجسم،
ومؤدية إلى السقم، وعليكم في قوتكم فهو أبعد من السرف، وأصح للبدن وأقوى
على العبادة، وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
عثمان بن عفان رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان القرشي الأموي، ثالث الخلفاء
الراشدين وموجد نسخ القرآن المبين، ولد في السنة السادسة من مولد النبي صلى
الله عليه وسلام وآمن في السابقين الأولين، وبذل ماله الكثير في تأييد
الإسلام ومعونة المجاهدين وهد مغازي رسولا الله كلها إلا بدراً وقد كان عمر
قبل وفاته عهد إلى ستة هو منهم تنتخب الأمة أحدهم خليفة، فانتبخوا عثمان
فأكمل مغازي عمر ثم ثار عليه بعض الأعراب بحجة أنه يؤثر أقرباءه بولاية
الأقاليم، فحاصروه في داره بالمدينة وقتلوه وهو يتلو القرآن الكريم سنة
33ه? ومدة خلافته اثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً.
وكان رحمه الله من بلغاء الخلفاء وأوجزهم لفظاً وأجزلهم معنى
وأسلسلهم عبارة ومن خطبه خطبته بعد أن بويع وهي بعد الحمد والثناء: أما بعد
فإني قد حملت وقد قبلت، ألا ,اني متبع ولست بمتدع، ألا وأن لكم علي بعد
كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: اتباع من كان قبلي
فيما اجتمعتم عليه وسننتم وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكف
إا فيما استوجبتم، ألا وأن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها منهم
فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة واعلموا أنها غير
تاركة إلا من تركها.
ومن خطبه أيضاً وهي آخر خطبة خطبها:
أما بعد: فإن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها لآخرة ولم
يعطكموها لتركنوا إليها، الدنيا تفنى والآخر ة تبقى فلا تبطرنكم الفانية
ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وأن
المصير إلى الله، اتقوا الله عز وجل فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده
واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم ولا تصيروا أحزاباً (وَاذْكُرُواْ
نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: 103].
عليّ بن بي طالب رضي الله عنه
هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي ن أبي طالب، وابن عم رسول وزوج
ابنته ورابع الخلفاء الراشدين ولد رحمه الله بعد مولد النبي باثنتين
وثلاثين سنة، وهو أول من آمن من الصبيان، وكان شجاعاً لا يشق له غبار، وشهد
الغزوات كلها مع النبي إلا غزوة تبوك، وأبلى في نضرة رسول الله ما لم يبله
أحد، ولما قتل عثمان بايعه الناس بالحجاز وامتنع من بيعته عاوية وأهل الشام
شيعة بني أمية غضباً منهم لمقتل عثمان وقلة عناية علي بالبحث عن معرفة
القتلة على حسب اعتقادهم، فحدث من جراء ذلك الفتنة العظمى بين المسلمين
وافتراقهم إلى طائفتين فتحاربوا مجدة من غير أن يستتب الأمر لعلي أو معاوية
حتى قتل أحد الخوارج علياً غيلة بمسجد الكوفة سنة 40ه?.
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.
وكان رحمه الله أفصح الناس بعد رسول الله، وأكثرهم علماً وزهداً
وشدة في الحق، وهو إمام الخطباء من العرب على الإطلاق بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وخطبه كثيرة: منها خطبته كرم الله وجهه بعد التحكيم وهي:
الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجلل وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له ليس معه غله غيره، وإن محمداً عبده ورسوله صلى الله
عليه وسلم (أما بعد) فإن معصية الناصح الشفيق العالم لمجرب تورث الحيرة
وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي،
ولو كان يطاع لقصير أمر فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة والمنابذين
العصاة حتى ارتاب الناصح وضن الزند بقدحه، فكنت وإياكم كما قال أخو هوزان:
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
ومن خطبه له حين خاطبه العباس وأبو سفيان وفي أن يبايعا له
بالخلافة.
أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وتعرجوا عن طريق المنافرة
وضعوا عن تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح هذا ماء آجن
ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه
فإن أقل يقولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والله لابن أبي طالب آنس
بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجن على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم
اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة.
سحبان أوائل
هو سحبان بن زفر بن إياد الوائلي، الخطيب المصقع، المضروب به المثل
في البلاغة والبيان في الجاهلية ولما ظهر الإسلام أسلم وتقلبت به الأحوال
حتى التحق بمعاوية فكان يعده لملمات، ويتوكأ عليه المفاخرة.
قدم على معاوية وفد فطل سحبان ليتكلم فقال: أحضروا لي عصاً قالوا
وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ قال: ما كان يصنع بها موسى وهو
يخاطب ربه فضحك معاوية وأمره بإحضارها ثم خطب من صلاة الظهر وإلى أن حانت
صلاة العصر، ما تنحنح ولا سعل ولا توقف لا تلكأ وابتدأ في معنى وخرج منه
وقد قي منه شيء حتى دهش منه الحاضرون فقال معاوية: أنت أخطب العرب: قال
سحبان: والعجم والجن والأنس.
وكان سحبان إذا خطب يسيل عرقاً، ومات في خلافة معاوية سنة 54ه? ومما
يؤثر من خطبه قوله: إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار، أيها الناس فخذوا
من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها حييتم ولغيرها ما
خلتهم إن الرجل إذا هلك قال الناس ما ترك؟ وقال الملائكة ما قدم؟ قدموا
بعضاً يكون لكم ولا تخلفوا كلاً يكون عليكم.
زياد بن أبيه
هو أحد دهاة العرب وساستها وخطاها وقادتها أمه سمية أمة الحارث بن
كلدة الثقفي طبيب العرب وقد قرنها بعبد له رومي يدعى عبيداً فولدت سمية
زياداً علت فراش عبيد هذا (في السنة الأولى من الهجرة) فنشأ غلاماً فصيحاً
شجاعاً فما افتتحت العرب الممالك والأمصار حتى عرف منه ذلك فاستكتبه أبو
موسى اشعري والي البصرة من قبل عمر.
ولما ولي أمير المؤمنين علي الخلافة اضطرب عليه فارس فسار إليها
زياد بجمع وتمكن بخداعه من إيقاع الشقاق بين رؤساء المشاغبين، ومازال يضرب
بعضهم ببعض حتى سكنت ثورتهم، وبقي يتولى لعلي الأعمال حتى قتل علي فخافه
معاوية فأرسل إليه المغير بن شعبة يستقدمه فقدم عليه فادعاه أخاً له
واستلحقه بنبس أبيه أبي سفيان وصار يسمى زياد بن أبي سفيان بدل زياد بن
عبيد أو(ابن سمية أو ابن أبيه).
وولاه معاوية العراقين وهو أول من جمع له بينهما فسار في الناس سيرة
لم بها الشعث وأقام بها المعوج وكبح الفتنة واشتط في العقوبة وأخذ بالظنة
وعاقب على الشهة حتى شمل خوفه جميع الناس فأمن بعهم بعضاً وكان الشيء يسقط
من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأبى صاحبه فيأخذه بل كان لا
يغلق أحد بابه وكان زياد يقول: (لو ضاع حبل بيني وبين خراسان لعرفت آخذه)
وكان مكتوباً في مجلس عنوان سياسته وهي (الشدة في غير عنف واللين في غير
ضعف المحسن سيجازى بإحسانه والمسيء يعاقب بإساءته) وتوفي بالكوفة في رمضان
سنة 53ه?.
ومن خطه البليغة خطبته حين قدم إلى البصرة وهي:
أم بعد فإن الجهلاء
والضلالة العمياء والغي والموفى بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل
عليه حلماؤكم: من الأمور التي بنيت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير
كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل
طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول إنه ليس
منكم إلا من طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على
الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا
إليه: من ترككم الضعيف يقهر والضعيفة المسلوبة في النهار تنصر، والعدد غير
قليل، والجميع غير مفترق، ألم يكن منكم نهاة يمنعون الغواة عن دلج الليل
وغارة النهار! قربتم القرابة! وباعدتم الدين، تعتذرون بغير لعذر، وتغضون
على النكر، كل امرئ منكم يرد عن سفيهه، صنع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو
معتاداً، فلم يزل بهم ما ترون من قيامكن دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم
أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أضع هذه
المواخير بالأرض هداماً وإحراقاً إني رأيت اجر هذا الأمر لا يصلح إلا بما
صلح به أوله: لينفي غير ضعيف، وشدة في غير عنف، وأني لأقسم بالله لآخذن
الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمطبع بالمعاصي، وتى يلقى الرجل أخاه
فيقول: "انج سعد فقد هلك سعيد" ا, تستقيم لي بيني وبين قوم إجن فجعلت ذلك
دبر أذني وتحت قدمي، غني لو علمت ن أحدكم قد قتلاه السل من بغضي لم أكشف له
قناعاً، ولن أهتك له سراً، حتى يبدي لي صفيحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره،
فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور
بقدومنا سيبئس، أيها الناس أنا قد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم
بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي حولنا، فلنا عليكم
السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا
وفيئنا بمناصحتكم لنا.
الحجاج
هو أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي أحد جبابرة العرب وساستها وموطد
ملك بني أمية وأحد البلغاء والخطاء ولد سنة 41ه?.
وخدم الحجاج بولايته عبد الملك بن مروان، وابنيه الوليد وسليمان حتى
كان ملكه ما بين الشام والصين ومات سنة 95ه? في عهد سليمان في مدينة واسط
بالعراق.
وكان الحجاج آية في البلاغة وفصاحة اللسان وقوة الحجة، قال الأصمعي
أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل، الشعبي وعبد الملك بن موان والحجاج بن يوسف
وابن القرية: والحجاج أفصحهم ومن مآثره اهتمامه بوضع النقط والشكل للمصحف
وغيره ونسخه عدة مصاحف من مصاحف عثمان وإرسالها إلى بقية الأمصار ومن خطبه
المشهورة خطبته لما قدم أميراً على العراق فإنه دخل المسجد معتماً بعمامة
قد غطى بها أكثر وجهه متقلداً سيفه متنكباً قوساً يؤم المنبر، فقام الناس
نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله
بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق فلما رأى عيون الناس إليه، حسر
اللثام عن فيه ونهض ثم قال:
أنا ابن جلا وطلاّع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ثم قال:
يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني ناظر إلى
الدماء بين العمائم واللحى،
ثم قال:
هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم
قد لفها الليل بسواقٍ حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار علي ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبيّ
أروع خرّاج من الدوي
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدّوا
وجدّت الحربُ بكم فجدّوا
والقوس فيها وترٌ عرد
مثل ذراع البكر أو أشد
لابدّ مما ليس منه بدّ
إني والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز
التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وإن أمير المؤمنين أطال الله
بقاءه، نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها
مكسراً فرماكم ربي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال،
والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل
(قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن
كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112] وإني والله
ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت.
وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة
عدوكم مع المهلب بن أب صفرة، وأني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ
عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه.
طارق بن زياد
هو أحد قواد جيوش الوليد بن عبد الملك، كان خطيباً مصقعاً مقداماً،
بعيد الهمة يعشق وتصبو نفسه إلى الفتوحات، خرج من المغرب سنة 92ه? باثني
عشر ألف جندي من مواطنيه يقلهم أسول قوي قد جهز لذلك وعبر البحر إلى
إسبانيا لفتحها، وفلما علم رودريك ملكها بقدوم المسلمين إلى بلاده قابلهم
بجيش عظيم هالت طارقاً كثرة عدده وكمال عُدده، فبادر وأحرق أسطوله ليقطع
أمل أصحابه في الروع وقال لهم (أيها الناس الخ) فاندفعوا على الإسبان
اندفاع اليائس وهزموهم شر هزيمة، ثم والى طارق فتوحاته في إسبانيا حتى قبض
على رودريك آخر ملوك الفيزيغوط بها وقتله سنة 94ه? وبعد ذلك بسنة استقدمه
الوليد إلى دمشق إلى أن مات سنة 101 وها هي خطبته.
أيها الناس أين المفر، البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم
والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في
مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا
وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت
بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمراً ذهب ريحكم، وتعوضت القلوب
من رعبها عنكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم
بمناجزة هذه الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة
فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت وإني أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة ولا
حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أبداً بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتكم
على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفة الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن
نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات
العميمة وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً
ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً ثقة منه بارتياحكم للطعان
واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن
دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في
الدارين وعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين
حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتله إن شاء الله تعالى، فاحملوا معي
فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولم يعوزكم بل عاقل تسندون أموركم إليه، وإن
هلكت قبل وصولي إليه فأخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا
لهم من فتح هذه الجزيرة بقتله.
الكتابة خطية وإنشائية الكتابة الخطة كان الخط في مبدأ ظهور الإسلام
هو الخط الأنباري الحيري، المسمى بعد انتقاله إلى الحجاز بالحجازي، وزهو
أصل النسخ، وكان يكتب به النزر اليسير من العرب عامة وبضعة عشر من قريش
خاصة، وفلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم على قريش في يوم بدر وأسر منهم
جماعة كان فيهم بعض الكتابة، فقبل الفداء من أمييهم وفادى الكاتب منهم
بتعليمهم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين وحض النبي
عل تعلمها ومن أشهر كتاب الصحابة زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن
العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ولما فتح المسلمون المملك ونزلت
جمهرة الكتاب منهم الكوفة عنوا بتجويد لخط العربي وهندسة أشكاله حتى صار خط
أهل الكوفة ممتازاً بشكله عن الخط الحجازي واستحق أن يسمى باسم خاص وهو
(الكوفي).
وكان الصحابة وتابعوهم من بني أمية يكتبون بلا إعجام ولا شكل إلا
قليلاً اعتماداً منهم على معرفة المكتوب إليهم باللغة واكتفائهم بالرمز
القليل في قراءة اللفظ فلما فسد اللسان باختلاط العرب بالعجم وظهر اللحم
والتحريف في الألسنة أشفق المسلمون عل تحريف كلم الكتاب الكريم فوضع أبو
الأسود الدؤلي علامات في المصاحف (بصبغ مخالف) فجعل علامة الفتحة نقطة فق
الحرف والكسرة أسفله والضمة نقطة من الجهة اليسرى وجعل التوين نقطتين، وكان
ذلك في خلافة معاوية.
ووضع نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر بأمر الحجاج نقط الإحجام بنفس
المداد الذي يكتب به الكلام وكان ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان ثم شاع
في الناس بعد.
الكتابة الإنشائية قسمان كتابة رسائل ودواوين وكتابة وتدوين وتصنيف
كتابة الرسائل والدواوين
كان زعمكاء العرب وفصحاؤهم كلهم كتاباً ينشئون بملكتهم ولو لم خطوا
بيمينهم فكان النبي وأصحبه وخلفاؤه يملون كتبهم على كتابهم بعبارتهم وبعضهم
يكتبها بيده، ولما اتسعت موارد الخلافة أصبحت في حاجة إلى إنشاء الدواوين
لضبط ذلك، فكان عمر أول من دون الدواوين.
وكان كتاب الرسائل لخلفاء وعمالهم إما عرباً أو موالي يجيدون
العربية، أما كتاب الخراج ونحوه فكانوا من كل إقليم من أهله يكتبون بلغتم،
ولما نبغ من العرب من يحسن عملهم حولت هذه الدواوين إلى العربية زمن عبد
الملك بن مروان والوليد ابنه وجرى الخلفاء بني أمية في كتابة الرسائل على
ما كان عليه الأمر زمن الخلاء الراشدين.
ثم اتسعت رقعة المملكة وقرت أمور الدولة ازدادت الأعمال وشغل
الخلفاء عن أن يولوا الكتابة بأنفسهم أو بخاصة عشيرتهم، عهدوا بها إلى كبار
كتابهم، وكان كثير منهم يعرف اللغة الرومية أو الفارسية أو اليونانية أو
السريانية وهي لغات أمم ذات حضارة وعلوم ونظام ورسوم.
ومن هؤلاء سالم مولى هشام بن عبد الملك أحد الواضعين لنظام الرسائل،
وأستاذ عبد الحميد الكاتب الذي آلت إليه زعامة الكتابة الآخر الدولة
الأموية.
مميزات الكتابة الإنشائية
وتمتاز الكتابة في هذا العصر بالميزات الآتية: (1) الاقتصار في
أغراضها على القدر الضروري، والاقتصار في معناها على الإلمام بالحقائق
وتوضيحها بلا مبالغة ولا تهويل، واستعمال الألفاظ الفحلة والعبارات الجزلة،
والأساليب البليغة إذا كان الكاتب والمكتوب إليه عرباً فصحاء.
(2) مراعاة الإيجاز غالباً إلا حيث يستدعي الحال الإسهاب، وبقي
الأمر على ذلك حتى جاء عبد الحميد الكاتب آخر الدولة الأموية، فأسهب
الرسائل وأطال التحميدات في أولها، وسلك طريقه من أتى بعده.
الكتاب
كتاب هذا العصر كثيرون، وقد كانت الخلفاء والأمراء والقواد كلهم
كتاباً بلغاء، ولما صارت الكتابة صناعة، تداولها كثير من الأعاجم وغيرهم:
واشتهر من بين هؤلاء.
عبد الحميد بن يحيى الكاتب
هو عبد الحميد بن يحيى بن سعيد العامري الشامي شيخ الكتاب الأوائل.
كان عبد الحميد في أول أمره معلم صبيان حتى فطن له مروان بن محمد
أيام توليته أرمينية فكتب له مدة ولايته حتى إذا بلغه مبايعة أهل الشام له
بالخلافة سجد مروان له شكراً وسجد أصحابه إلا عبد الحميد، فقال مروان لم لا
تسجد؟ فقال ولم أسجد؟ أعلى أن كنت معنا فطرت عنا، قال إذا تطير معي قال
الآن طاب لي السجود وسجد، فاتخذه مروان كاتب دولته.
لما دهمت مروان جيوش خراسان أنصار الدعوة العباسية وتوالت عليه
الهزائم كان عبد الحميد يلازمه في كل هذه الشدة، فقال له مروان قد احتجت أن
تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي، فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك يحوجهم
إلى حسن الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز حفظ حرمي بعد
وفاتي، فقال له: إن الذي أشرت به عليّ أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي، وما
عندي إلا الصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك وأنشد:
أسرُّ وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذرٍ يوسع الناس ظاهره
وبقي معه حتى قتل مروان سنة 132 ه?، وأخذ عبد الحميد إلى السفاح
فقتله سنة 132ه?.
منزلته في الكتابة
هو الأستاذ الأول لأهل صناعة كتابة الرسائل وذلك أنه أول من مهد
سلبها، وميز فصولها، وأطالها في بعض الشؤون، وقصرها في بعضها الآخر وأطال
التحميدات في صدرها وجعل لها صوراً خاصة ببدئها وختمها على حسب الأغراض
التي تكتب فيها، ويقال إنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس
كتب إليه مروان كتاباً يستجلبه وضمنه ما لو قرئ لأدى إلى وقوع الخلاف
والفشل، وقال لمروان: قد كتبت كتاباً متى قرأه بطل تدبيره فإن يك ذلك وإلا
فالهلاك، وكان الكتاب لكبر حجمه يحمل على جمل، فلما وصلا الكتاب إلى داهية
خراسان أبي مسلم أمر بإحراقه قبل أن يقرأه وكتب على جذاذة منه إلى مروان:
محا السيف أسطارَ البلاغة وانتحى
عليك ليوثُ الغاب من كلّ جانب
التدوين والتصنيف
انقضى زمن الخلفاء الراشدين ولم يدون فيه كتاب إلا ما كان من أمر
المصحف، وكان مرجع الناس في أمر دينهم دنياهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله،
فإذا اشتبه عليهم أمر من أمور الدين رجعوا إلى الخلفاء وفقهاء الصحابة.
ثم لما انتشر الإسلام زمن بني أمية واختلطت العرب ففسدت فيهم ملكة
اللسان العربي وفشا اللحن وأشفقوا على القرآن من التحريف وعلى اللغة من
الفساد دونوا النحو وكان أول من كتب فيه أبو الأسود الدؤلي وقد تلقى مبادئه
عن الإمام علي، وأخذ عنه فتيان البصرة وخصوصاً الموالي إذ كانوا أحوج الناس
إلى النحو واشتغل أهل الكوفة به ب أن فشا بالبصرة ولم ينقض هذا العصر حتى
استغل به طبقتان من البصريين وطبقة من الكوفيين، ثم لما حدثت الفتن وتعددن
المذاهب والنحل وكثرت الفتاوى والرجوع فيها إلى رؤساء ومات أكثر الصحابة،
خافوا أن يعتمد الناس على رؤسائهم ويتركوا سنة رسول الله فأذن أمي المؤمنين
عمر بن عبد العزيز لأبي بكر محمد بن عمرو بن حزم في تدوين الحديث، انقضى
هذا العصر ولم يدون فيه من علوم اللغة والدين غير النحو وبعض الحديث وبعض
التفسير، وأما العوم الأخرى فيروى أن خالد بن يزيد بن معاوية حبب إليه
مطالعة كتبا لأوائل من اليونان فترجمت له ونبغ فيها ووضع كتباً في الطب
والكيمياء، وأن معاوية استقدم عبيد بن شربة من صنعاء فكتب له كتاب "الملوك
وأخبار الماضين" وإن وهب بن منبه الزهري وموسى بن عقبة كتباً في ذلك أيضاً
كتباً، وأن زياد بن أبيه وضع لابنه كتاباً في مثال قبائل العرب، وأن
ماسرجويه متطبب البصرة تولي في الدولة المروانية ترجمة كتاب أهرون بن أعين
من السريانية إلى العربية وأن يونس الكاتب بن سليمان ألف كتاباً في الأغاني
ونسبتها إلى من غنى فيها ولم يلغ التصنيف شأواً يذكر.
الشعر والشعراء في هذا العصر
جاء النبي الكريم، والشعر ديون العرب، فأتاهم بالأمر العظيم والحادث
الخطير، حاملاً بإحدى يديه القرآن يدعو الناس إلى توحيد الله والتمسك
بالفضيلة وشاهراً بالأخرى سيف الحق لحماية هذه الدعوة وما كان أشد ذهولهم
لخطبهما وانزعاجهم من وقعها، فهبوا يتحسسون الأول ويتمرسون أساليبه ومعانيه
ويتفرسون ألفاظه ومغازيه، وما بين معاند تلمس مطعناً فيه، ومؤمن يستبينه
ويهديه، وتأهبوا للثاني: ما بين ضال يناوئه، ومهند يعاضده، فصار لك صارفاً
لهم عن التشاغل بالشعر محولاً مجرى أفكار المؤمنين منهم عن أكثر فنونه
المتحرفة عن سنن الشرف والحق، وبغض إليهم تلك الفنون المرذولة إزراء القرآن
على الشعر بقوله: (وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ {224} أَلَمْ
تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ {225} وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا
لاَ يَفْعَلُونَ {226} إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ
وَذَكَرُواْ اللّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ
وَسَيَعْلَمْ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:
224 227] ولهذا لم يكف شعراء المسلمين عن قوله فيما يطابق روح القرآن.
ولبث الحال على ذلك مدة حياة النبي الكريم، حتى إذا ما ثاروا لإسكان
فتن أهل الردة وفتح الممالك والأمصار، وأضافوا إلى ما ألفوه من أغراض الشعر
الإكثار من التباهي بالنصر، ووصف المعارك، وأحوال الحصار وآلات القتال ولما
آل الأمر إلى بني أمية وشغب عليهم كثير من فرق المسلمين أصبح الشعر لساناً
يعبر عن مقاصد كل حزب، حتى أصبح حرفة عتيدة، وصناعة جديدة ومورد ثروة
وأصبحت دراسته ونقده وروايته ودأب العلماء والأدباء حتى الخلفاء وأولياء
عهودهم ويمكن وصف ما كان عليه الشعر في هذا العصر من حيث أغراضه ومعانيه
وتصوراته وعبارته بما يأتي:
أغراض الشعر وفنونه
1 نشر عقائد الدين وحكمه ووصاياه والحث على اتباعه.
وخاص زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين.
2 التحريض على القتال ووصفه والترغيب في نيل الشهادة رفعاً لكلمة
الله، وذلك في أزمان غزوات النبي وحصار المدن وفتحها.
3 الهجاء: وكان أولاً في سبيل الدفاع عن الإسلام بهجو مشركي العرب
بما لا يخرج عن حد المروءة، وبما رضيه النبي حسان شاعره في هجاء قريش
وعشيرة النبي من بني عبد مناف.
وكان يتحرج عنه المسلمون ولو التعريض زمن النبي وخلفائه: ولذل عاقب
عمر أمير المؤمنين الحطيئة وهدده بقطه لسانه لنيله من بعض المسلمين: ثم صار
يتساهل في خطبه حتى كان الهجاء غاية براعة الشاعر وإن لم يصل في الإقذاع
والفحش إلى الحد الذي وصل إلي في العصر الآتي.
4 المدح: وقلما كان مبدأ الإسلام فير غير النبي من حيث الاهتداء
بهديه ونشر الحق على يديه، وكان خلفاؤه يأنفون مدحهم بما تزهي به نفوسهم
تواضعاً.
ثم استرسل الشعراء فيه وقبل ذلك منهم الخلفاء إلى أن كان المدح من
أهم الدعائم التوطيد أركان الدولة وتفخيم مقام الخلفاء والولاة والإرشاد
بعظمتهم.
معانيه وأخيلته وألفاظه وأساليبه وأوزانه
لم يخرج شعراء هذا العصر في جملة تصورهم وتخيلهم عما ألفوه زمن
الجاهلية وإن فاقوهم كثيراً في ترتبي الفكر وتقريب المعنى إلى الأذهان
والوجدان بما هذب نفوسهم ورقق طباعهم من دراسة كتاب الله وحديث رسول الله،
وكذلك لم يخرجوا جملة في هيئة تأليف اللفظ ونسجه ومتانة أسلوبه عن نظائرهم
في الجاهلية، وإنما آثروا جزالة اللفظ وفخامته ومؤالفته لسابقته ولاحقه دون
غرابته كما آثروا جودة الأسلوب ومتانته وروعة تأثيره ولاسيما أهل النسيب:
ولم يطرأ على أوزان الشعر العربي حدث غير ما عرف عنه في الجاهلية وإنما شاع
في هذا العصر نظم الأراجيز والتطويل فيها، واستعمالا في جميع أغراض القصيد،
حتى في افتتاحها بالنسيب والتخلص منه إلى المدح والذم ونحو ذلك.
الشعراء
شعراء ةهذا العصر ممن خلصت عربيتهم واستقامت ألسنتهم ولم يمتد إليهم
اللحن، ولد زادتهم مدرسة القرآن الكريم فصاحة وبلاغة وإحكاماً وإتقاناً حتى
فضلهم بعض الرواة على سابقيهم من الجاهلين، ومن أشهر شعراء هذا العصر كعب
بن زهير، والخنساء، والحطيئة، وحسان ن ثابت، والنابغة الجعدي، وعمر بن أبي
ربيعة، والأخطل، والفرزدق، وجرير، والكميت، وجميل، وكثير، ونصيب والراعي،
وذو الرمة.
كعب بن زهير
هو كعب بن زهير بن أبي سلمى أحد فحول المخضرمين ومادح النبي ولما
ظهر الإسلام ذهب أخوه بجير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب كعب
لإسلامه وهجاه وهجا رسول الله وأصحابه، فتوعده النبي صلى الله عليه وسلم
وأهدر دمه فحذره أخوه العاقبة إلا أن يجيء إلى النبي مسلماً تائباً، فهام
كعب يترامى على القبائل أن تجيره فلم يجره أحد، فلما ضاقت الأرض في وجهه
جاء أبا بكر رضي الله عنه بالمدينة وتوسل به إلى الرسول فأقبل هو عليه وآمن
وأنشده قصيدته المشهورة:
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
فخلع عليه النبي بردته فبقيت في أهل بيته حتى باعوها لمعاوية بعشرين
ألف درهم ثم بيعت للمنصور العباسي بأربعين ألفاً، ومات سنة 24ه.
شعره: كان كعب من الشعراء المجيدين المشهورين بالسبق وعلو الكعب في
الشعر، وكان خلف الأحمر أحد علماء الشعر يقول: لولا قصائد لزهير ما فضلته
على ابنه كعب، وكفاه فضلاً أن الحطيئة مع ذائع شهرته رجاه أن ينوه به في
شعره فقال:
فمن للقوافي شأنها من يحوكها
إذا ما مضى كعب وفوز جرول
ومن شعره قوله في قصيدته بانت سعاد:
وقاتل كل خليل كنت آمله
لا ألهينّك إني عنك مشغول
فقلت خلّوا سبيلي "لا أبالكم"
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال
قرآن فيها مواعيظٌ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنبْ وقد كثرت فيَّ الأقاويل
ومن قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
سعيّ الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
والنفس واحدة والهمُّ منتشر
فالمرءُ ما عاش ممدود له أملٌ
لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
ومن قوله أيضاً:
إن كنت لا ترهب دمي لما
تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش إذ أنا منصت
فيك لمسوع خنا القائل
فالسّامع الدم شريك له
ومطعم المأكول كالآكل
مقاله السُّوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
ومن دعا الناس إلى ذمّه
ذموه بالحقّ وبالباطل
الخنساء
هي السيدة تماضر الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية، أرقى شواعر
العرب، وأحزن من بكى وندب. كان أبوها عمرو، وأخواها معاوية وصخر، وكانت هي
من أجمل نساء زمانها فخطبها دريد بن الصمة فارس جشم، فرغبت عنه، وآثرت
التزوج من قومها فتزوجت منهم، وكانت تقول المقطعات من الشعر فلما قتل
شقيقها معاوية ثم أخوها لأبيها صخر، جزعت عليهما جزعاً شديداً،وبكتهما
بكاءً مراً، وكان أشد وجدها على صخر: لأنه شاطرها هي وزوجها أموالها مراراً
ولما جاء الإسلام وفدت مع قومها على النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت وكان
يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول هيه يا خناس، ويومئ بيده.
وما فتئت تبكي صخراً قبل الإسلام وبعده حتى عميت، وبقيت إلى أن شهدت
حرب القادسية مع أولادها الأربعة، فأوصتهم وصيتها المسرة وحضتهم على الصبر
عند الزحف فقتلوا جميعاً، فقال: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، ولم تحزن
عليهم حزنها على أخويها، وتوفيت سنة 24ه?.
شعرها: أغلب علماء الشر على أنه لم تكن امرأة قبل الخ=نساء ولا بعدها أشعر
منها، ومن فضل ليلى الأخيلية عليها لم ينكر أنها ارثى النساء
وكان شار يقول لم تقل امرأة شعراً إلا ظهر العف فيه لقيل وكذلك الخنساء
فقيل تلك التي غلبت الفحول، ولم يكن شأنها عند شعراء الجاهلية أقل منه عند
شعراء الإسلام فذلك النابغة الذبياني يقول لها وقد أنشدته بسوق عكاظ
قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوّار
أمة ذرَّفت إذ خلت من أهلها الدارُ
لولا أن أبا بصير (يعني الأعشى) أنشدني قبلك لقلت أنك اشعر من
بالسوق، وسئل جرير من أشعر الناس قال أنا لولا الخنساء، قيل فبم فضلتك قال
بقولها:
إن الزمان (وما يفنى له عجبُ)
أبقى لنا ذنباً واستوصل الراس
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
ومن جيد شعرها ترثي أخاها صخراً:
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر النَّدى
ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السّيدا
رفيع العماد طويل النّجا
د ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم انتمى مصعدا
يحملّه القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا
وإذن ذكر المجد ألفيته
تأزّر بالمجد ثم ارتدى
ومن قولها ترثيه أيضاً:
ألا يا صخر إن أبكيت عيني
فقد أضحكتني زمناً طويلاً
دفعت بك الخطوب وأنت حيٌّ
فمن ذا يدفع الخط الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
رأيتُ بكاءك الحسن الجميلا
ومن بديع قولها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمس
فلولا كثرةُ الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزال أرى عجولاً
ونائحة تنوح ليوم نحس
هما كلتاهما تبكي أخاها
عشية رزئه أو غبّ أمس
وما يبكين مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسيّ
فقد ودّعت يوم فراق صخر
أبي حسان لذاتي وأنسي
فيا لهفي عليه ولهف أمي
أيصبح في الضّريح وفيه يمسي
الخطيئة
هو أبو بكر جرول الحطيئة العبسي، نشأ كما قال الأصمعي جشعاً سؤولاً
ملحفاً دنيء النفس كثير الشر قليل الخير بخيلاً قبيح المنظر رث الهيئة
مغموز النسب فاسد الدين، وعاش الحطيئة مدة في الجاهلية وجاء الإسلام فأسلم
ولم يكن له صحية برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاش متنقلاً في القبائل
يمدح تارة ويذم تلك أخرى، وينتسب إلى عس طوراً وطوراً إلى ذهل ويهجو اليوم
من يمدحه بالأمس، وكل قبيلة تخطب وده وتنقي شر لسانه حتى أن أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب حبس الحطيئة فما زال يستشفع إليه الناس وقول الشعر حتى أطلقه
وهدده بقطع لسانه إن هجا أحداً، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف
درهم، وكنه نكث وأوغل في الهجاء بعد موت عمر، وبقي كذلك حتى مات أوائل خلاف
معاوية.
شعره: لولا ما وصم به الحطيئة من خسة النفس ودناءة الخلق وجهالة
النسب لكان بإجادته في كل ضرب من ضروب الشعر شاعر المخضرمين على الإطلاق
إلا أنه لم يقف ببراعته وفصاحته موقفاً لله ولا للشرف، وقلما يوجد في كلام
الحطيئة مظنة ضعف أو مغمز لغامز من ركاكة لفظ أو غضاضة معنى أو اضطراب
قافية ومن مدحه الذي لا يلحق فيه غبار قوله:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم (لا أبا لأبيكم)
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدروا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى
بنى لهم آباؤهم وبنى الجد
ويعذلني أبناء سعد عليهم
وما قلت إلا بالذي علمت سعد
ومن أبياته التي استعطف بها أمير المؤمنين عمر وهو في سجينه قوله:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه
ألقي إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذا قدموك لها
لكن لأنفسهم كانت بك الخير
حسان بن ثابت
هو أبو الوليد حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول اله صلى الله عليه
وسلم وأشعر شعراء المخضرمين.
وهو من بني النجار من أهل المدينة، نشأ في الجاهلية ونبه شأنه فيها،
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأسلم الأنصار، واسلم معهم
ودافع عنه بلسانه كما دافع عنه قومه الأنصار بسيوفهم.
وعاش حسان بعد رسول الله محبباً إلى خلفائه مرضياً عنه وعمره قريباً
من 120 سنة، وبقي أكثر حياته متمتعاً بحواسه وعقله، وحتى وهن جسمه في أواخر
عمره وكف بصره، ومات في خلافة معاوية سنة 54ه?.
شعره: كان حسان شاعر أهل المدر في الجاهلية وشاعر اليمانية في الإسلام
ولم يكن في أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أعجائه
عند عودته إلى الله أشعر منه، ولذلك رم مشركي قريش من لسانه بالداهية لم
يكن قبل بها فأوجعهم وأخرسهم من غير فحش لا هجر، ولما أذن له النبي في
هجائهم قال له كيف تهجوهم وأنا منهم، قال: اسلك منهم كما تسل الشعرة من
العجين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصب له منبراً بالمسجد ويسمع
هجاءه في أعدائه ويقول: (أجب عني اللهم أيده بروح القدس) وكان في شعر حسان
زمن الجاهلية شدة وغرابة لفظ فلما أسلم وسمع القرآن ووعاه وكثر ارتجاله
الشعر لأن شعره سهل وأسلوبه، ومن شعره في الجاهلية:
ولقد تقلدنا العشيرة أمرها
ونسود يوم النائبات ونعتلي
ويسود سيدنا حجاجح سادة
ويصيب قائلنا سواء المفصل
ونحاول الأمر المهمَّ خطاية
فيهم ونفصل كلَّ أمر معضل
وتزو أبواب الملوك ركابنا
ومتى نحكَّم في البرية نعدل
ومن شعره في الإسلام يفاخر وفد تميم بقوم رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سننا للناس تتّبع
يرضى بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدّوهم
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك فيهم غير محدثة
إن الخلائق (فاعلم) شرُّها البدعُ
لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم
عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
فكل سبق لأدنى سبقهم تبعُ
وعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم
لا يطمعون ولا يزري بهم طمعُ
لا يفخرون إذا نالوا عدّوهم
وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا جزعُ
النابغة الجعدي
هو أبو ليلى حسان بن تعبد الله الجعدي العامري أحد القدماء المعمرين
ولشعراء المخضرمين، ووصاف الخيل المشهورين.
قال الشعر في الجاهلية ثم أجبل دهراً، ثم نبغ في الشعر عند ظهور
الإسلام وبعده: ولذلك سمي النابغة، وهو ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر
وما تفعل العقل، وهجر الأزلام والأوثان، وذكر دين إبراهيم، وصام واستغفر،
ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعاش طويلاً في الإسلام، فأقام زمناً مهاجراً حتى أيام عثمان رضي
الله عنه فأحس بضعف في نفسه، فاستأذن عثمان في الرجوع إلى البادية فأذن له،
ثم كانت خلافة علي شهد معه وقائعه صفين، وظاهره بيده ولسانه، ونال من
معاوية وبني أمية، ومكان بأصبهان سنة 58ه? عد أن عمّر مائة وثمانين سنة.
شعره: كان النابغة الجعدي شاعراً مطبوعاً في الجاهلية والإسلام، وهو
أول من سبق إلى الكناية في الشعر عن اسم من يغني إلى غيرها وتبعه الناس
بعد، قال:
أكنى بغير اسمها وقد علم لل
ه خفيات كلّ مكتتم
وكان ممن يصون الخيل فلا يلحق له في ذلك غبار، حتى ضرب به المثل قال
الأصمعي: ثلاثة يصفون الخيل فلا يقاربهم أحد: طفيل الغنوي وأبو داود
الإيادي، والنابغة الجعدي، وله في الفخر والهجا والمديح والرثاء شعر كثير
ومن أشرفه قصيدته التي مدح بها الرسول الكريم وهي:
خليلي عوجا ساعةً وتهجّرا
ونوحا على ما أحدث الدهر أو ذرا
ولا تجزعا إن الحياة ذميمة
فخفَّات لروغعات الحوادث أوقرا
وإن جاء أمر لا تطيقان معه
فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
ألم تريا أن الملامة نفعها
قليل إذا ما الشيء ولّى وأدبر
تهيج البكاء والندامة ثم لا
تغير شيئاً غير ما كان قدرا
أتيت رسول الله إذا جاء بالهدى
ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا
أقيم على التقوى وأرضي بفعلها
وكنت من النار المخوفة.. أحذرا
ومنها في الفخر:
وإنا لقوم ما تعوّد خيلنا
إذا ما التقيا أن تحيد وتنفرا
وتنكر يوم الرّوع ألوان خيلنا
من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولا خير في حلم مجدنا إذا لم تكن له
بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم (بلغنا السماء البيت) قال
فأين المظهر يا أبا ليلى ثقال الجنة، وقال إن شاء الله، ولما أتم قصيدته
قال له الرسول أجدت لا يفضض اله فاك فأتت عليه مائة سنة أو نحواها وما
انفضت من فيه سن.
عمر بن أبي ربيعة
هو أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي المخزومي اشعر
قريش وأرثق أصحاب الغزل، وأوصف الشعراء لأحوال النساء.
ولد بالمدينة ليلة مات عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وكانت أمه
نصرانية، وكان أبوه تاجراً موسراً وعاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولخلفا الثلاثة من بعده فشب في نعيم وترف، وقال الشعر صغيراًُ وسلك فيه
طريق الغزل ووصف أحوال النساء وتزاورهن ومداعبة بعضهن لبعض وتعرض للمحصنات
المتعففات من نساء قومه من غيرهن، فوقعن منه في بلاء عظيم وصرن يخفن الخروج
إلى الحج لأنه كان يتلقاهن مكن ويترقب خروجهن للطوف والسعي ويصفهن وهن
محرمات، وحلمت عليه رجالات قريش لمكانه نسبه منهم ولترقب توبته وإقلاعه،
فلما تمادى في أمره وشبب ببنات السادات ولخلفاء غضب عمرو بن عبد العزيز
ونفاه إلى جزيرة أمام المدينة مصوع، ثم رأى أن الكفر عن سيئاته بالتوبة
والجهاد فغزا في البحر فاحترقت السفينة التي كان فيها واحترق هو أيضا سنة
93ه?.
شعره: رقيق بلفظ رشيق ومعنى أنيق حتى قال فيه جرير هذا والله الذي أرادته
الشعراء فأخطأته وقد سلك الغزل طريقاً لم يسلكوه: ومن قوله المشهور:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
الأخطل
هو أبو مالك غياث الأخطل بن غوث التغلبي النصراني، شاعر الأمويين
وأمدح ثلاثة شعرائهم المتقدمين والمتفرد بوصف الخمر دون الإسلاميين قال
الشعر وهو صبي وما لبث أن زاحم شاعر تغلب وقتئذٍ (كعب بن جعيل) وهجاه وظهر
عليه ولما طلب يزيد ن معاوية قبل أن يلي الخلافة من كعب هجاء الأنصار لتعرض
حسان بن ثابت الأنصاري لأخته في شعره أبى عليه ذلك كعب، وقال أأهجو قوماً
نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآووه: ولكني أدللك على الأخطل فبعث
إليه وأمره بهجائهم فهجاهم بقصيدة منها:
ذهبت قريش بالسَّماحة والنّدى
واللؤم تخت عمائم الأنصار
فدعو المكارم لستم من أهلها
وخذوا مساحيكم بني النَّجار
وبلغ الشعر كبار الأنصار فغضبوا وشكوه إلى معاوية فوعدهم بقطع لسانه
فاستجار بيزيد، فمازال بأبيه حتى عفا عنه ولما ول يزيد الخلافة قربه غليه
وتابعه في ذلك خلفاء بني أمية، وبخاصة عبد الملك إذا كان يستعين ه على
أعدائه فقربه إليه وأدناه وسمح له بالدخول عليه بلا إذن وأجزل له العطايا
وسماه شاعر الخليفة.
ولما حدثت المهاجاة بين جرير والفرزدق وحكم فيهما أيهما اشعر عرض
بتفضيل الفرزدق، فهجا جرير، فرد عليه الأخطل وكانت الشيخوخة قد بلغت منه
فلم يلحق جريراً، وكان الأخطل يقيم أزماناً بدمشق وأحياناً ببلاده منم أرض
الجزيرة ومات سنة 95ه? وقد نيف على السبعين.
شعره: كان الأخطل أحد الشعراء الثلاثة السابقين سواهم من فحول الإسلاميين
وكان مطبوعاً على الشعر بعيداً عن التكلف والعمق فيه وامتاز بإجادته المديح
والإبداع في معانيه، قال يمدح بني أمية ويخص بشر بن مروان:
إن يحلموا عناك فالأحلام شيمتهم
والموت ساعة يحمى منهم الغضب
كأنهم عند ذاكم ليس بينهم
وبين من حاربوا قربة ولا نسب
كانوا موالي حق يطلبون به
فأدركوه وما ملوا ولا لغبوا
إن يك للحق أسباب يمد بها
ففي أكفهم الأرسان والسبب
هم سعوا بابن عفان الإمام وهم
بعد الشماس مروها ثمت احتلبوا
ومنها:
إذا أتيتَ أبا مروان تسأله
وجدته حاضراه الجودُ والحسب
ترى إليه رفاقَ الناس سائلة
من كل أوبٍ على أبوابه عصبُ
يحتضرون سجالا من فواضله
والخيرُ محتضر أبوابه عصبُ
والمطعم الكوم لا ينفك يعقرها
إذا تلاقى رواق البيت واللهبُ
كأن حيرانها في كل منزلةٍ
قتلى مجردة الأوصال تستلبُ
ومن أفضل شعره قوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى
طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
الفرزدق
هوب أبو فراس همام بن غالب التميمي الدارمي أفخر ثلاثة الشعراء
الأمويين وأجزل المقدمين في الفخر والمدح والهجاء.
ولد سنة 15 ه ونشأ بالبصرة. وأتى بها أبوه يوماً إلى أمير المؤمنين
علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه فسأله عنه. فقال ابني يوشك أن يكون شاعراً
مجيداً. فقال له أقرئه القرآن فأقرأه وحفظه ثم رحل إلى خلفاء بني أمي
بالشام ومدحهم ونال جوائزهم، وأخص من كان يمدحه منهم عبد الملك بن مروان ثم
أولاده من بعده. وكان الفرزدق فوق إقذاعه في الهجو وفحشه في السباب وقذف
المحصنات يرمى بالفجور وقلة التمسك بشعائر الدين ثم تاب في أواخر شيخوخته
على يد حسن البصري. وكان فيه تشيّع يستره أيام اختلافه إلى بني أمية ثم
كاشف به آخر حياته حتى أمام الخليفة هشام عندما رأى الناس تفسح طريق الطواف
بالكعبة مهابة وإجلالاً لعلي بن الحسين فسأله عنه كالمتجاهل لأمره، فشق ذلك
على الفرزدق وأنشد قصيدته الميمية الآتية يعرّف بعلي وينكر على هشام
تجاهله، فحبسه هشام ثم أطلقه. وعاش الفرزدق قريباً من مائة سنة ومات
بالبصرة سنة 110 ه.
شعره: يمتاز شعر الفرزدق بفخامة عبارته، وجزالة لفظه، وكثرة غريبه
ومداخلة بعض ألفاظه في بعض، ولذلك يعجب به أهل اللغة والنحو وكان يقال
(لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة) ويعتبر الفرزدق من أفخر شعراء العرب
وأشدهم ولوعاً بتعداد مآثر آبائه وأجداده.
ومن جيد شعره قوله يمدح علي بن الحسين:
هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته
والبيتُ يعرفه والحلُّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم
هذا التقي النقيُّ الطاهر العلمُ
وليس قولك من هذا بضائره
العربُ تعرفُ من أنكرتَ والعجمُ
إذا رأته قريشٌ قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
يغضي حياءً ويغضى من مهابته
فلا يكلّم إلا حين يبتسمُ
بكفه خيزرانٌ ريحها عبقٌ
من كف أروع في عرنينه شممُ
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
ينشقُّ ثوب الدّجى عن نور غرته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلمُ
من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم
كفرٌ وقربهم منجّى ومعتصمُ
إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
جرير
هو أبو حزرة بن عطية بن الخطفى التميمي اليربوعي: أحد فحول الشعراء
الإسلاميين، وبلغاء المداحين الهجائين، وأنسب ثلاثتهم المفلقين، وهو من بني
يربوع أحد أحياء تميم، ولد باليمامة سنة 42 ه ونشأ بالبادية وفيها قال
الشعر ونبغ. وكان يختلف إلى البصرة في طلب الميرة ومدح الكبراء، فرأى
الفرزدق وما كسبه الشعر من منزلة عند الأمراء والولاة وهو تميمي مثله وود
لو يسبقه إلى ما ناله، وأغراه قومه به للتنويه بشأنهم فوقعت بينهما
المهاجاة عشر سنين كان أكثر إقامة جرير أثناءها في البادية، وكان الفرزدق
مقيماً بالبصرة يملأ عليه الدنيا هجاء وسبا. فما زال به بنو يربوع حتى
أقدموه البصرة واتصل بالحجاج ومدحه فأكرمه ورفع منزلته عنده، فعظم أمره
وشرق شعره وغرب حتى بلغ الخليفة عبد الملك فسد الحجاج عليه، فأوفده الحجاج
مع ابنه محمد إلى الخليفة بدمشق ومات باليمامة سنة 110ه.
وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين وحسن خلق ورقة طبع.
شعره: اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر على أنه لم يوجد في الشعراء
الذين نشأوا في ملك الإسلام أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل وإنما اختلفوا
في أيّهم أشعر ولكل هوى وميل في تقديم صاحبه: فمن كان هواه في رقة النسيب
وجودة الغزل والتشبيه، وجمال اللفظ ولين الأسلوب والتصرف في أغراض شتى، فضل
الفرزدق، ومن نظر بعد بلاغة اللفظ، وحسن الصوغ إلى أجادة المدح والإمعان في
الهجاء واستهواه وصف الخمر واجتماع الندمان عليها، حكم للأخطل. وإن له في
كل باب من الشعر أبياتاً سائرة هي الغاية التي يضرب بها المثل فيقال أن
أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به
وهنّ أضعف خلق الله إنسانا
وإن أمدح بيت قوله:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وإن أفخر بيت قوله:
إن غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلّهم غضابا
وإن أهجى بيت مع التصون عن الفحش قوله:
فغضّ الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وإن أصدق بيت قوله:
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
والنفس مولعة بحبّ العاجل
وإن أشد بيت تهكماً قوله: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً=أبشر بطول
سلامة يا مربعُ ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي بها امرأته والتي هي ندبت
بها نوار امرأة الفرزدق:
لولا الحياءُ لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولهت قلبي إذا علتني كبرة
وذوو التمائم من بنيك صغار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليل ويكرّ عليهم ونهار
صلّى الملائكة الذين تخيروا
والطيبون عليك والأبرار
فلقد أراك كسيت أحسن منظرٍ
ومع الجمال سكينة ووقارُ
الكميت
هو الشاعر الخطيب الراوية النسابة أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي
الكوفي أشعر شعراء الشيعة الهاشمية، ومثير عصبية العدنانية على القحطانية
ولد سنة 60ه ونشأ بالكوفة بين قومه بني أسد إحدى قبائل العرب الفصحاء من
مضر فلقن العربية، وعرف الأدب والرواية، وعلم أنساب العرب وأيامها ومثالبها
بمدارسة العلم والأخذ عن الأعراب، وكان له جدتان أدركتا الجاهلية تقصان
عليه أخبارها وأشعار أهلها، فخرج أعلم أهل زمانه في ذلك وأقر له حماد
الراوية بالسبق عليه وقال الكميت الشعر وهو صغير وكان لا يذيعه ولا يتكسب
به، ويكتفي بحرفته تعليم صبيان الكوفة بالمسجد، ولما حصف شعره وقوي أثره،
ولا سيما قصائده التي أعلن فيها تشيعه لبني هاشم وآل علي، أنشده الفرزدق
مستنصحاً له في أمر إذاعته إذا أعجبه، فأمره بإذاعته فقال قصائده البليغة
المطولة المسماة "بالهاشميات" التي يقول فيها:
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ
ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزل
ولم يتطربني بنانٌ مخضّبُ
ولا السانحات البارحات عشية
أمرَّ سليم القرن أم مر أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنُّهى
وخير بني حواء والخير يطلب
بني هاشم رهط النبي فإنني
بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب
خفضت لهم مني الجناح مودة
إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وما لي إلا آل أحمد شيعةٌ
وما لي إلا مذهب الحقّ مذهب
بأي كتاب أم بأيّة سنة
يرى حبّهم عاراً علي ويحسب
شعره: لشعره من التأثير السياسي والمذهبي أثر سيئ شتت شملة الوحدة
العربية.
الرواية والرواة
ظهر العرب وعمدة العرب في ضبط علومهم وآدابهم على الحفظ والرواية:
فجاءهم من كتاب الله وسنة رسوله بالأمر الخطير، والعلم الكثير فكانت
عنايتهم بحفظها في الصدور أكثر من كتابتها في السطور. ولما اتسع علم
المسلمين بما أضيف إليهما من تفسير الصحابة والتابعين ومن أقوالهم في الدين
تعدد طوائف الرواة للقرآن والحديث وفنون الأدب.
وإذا كان الإنسان عرضة للنسيان، وأحوال الناس تختلف في الصدق والكذب
تشدد الصحابة والتابعون وتابعوهم في تصحيح الرواية وشدة التوثق من صدق
الرواة تحرجاً منهم أن يدخل في الدين ما ليس منه.
ولما خاف سيدنا عمر بن عبد العزيز أن تموت السنة الصحيحة بموت
رواتها وبما وضعه الزنادقة والشيعة والخوارج ودسوه فيها، أمر العلماء
بتدوين الحديث وبقي الأمر في الشعر والأدب كما كان في الجاهلية: لكل شاعر
راو أو عدة رواة. ومن أشهر هؤلاء هدبة بن خشرم رواية الحطيئة، وجميل رواية
هدبة، وكثير رواية جميل، وأبو شفقل وعبيد أخو ربيعة بن حنظلة رواية
الفرزدق، ومربع رواية جرير والفرزدق معاً، ومحمد بن سهل راوية الكميت،
وصالح بن سليمان راوية ذي الرومة وذو الرمة راوية الراعي.
وبقي الأمر كذلك حتى أواخر هذا العصر فاشتعل العلماء بالرواية وصار
الراوي منهم يروي لمئات من الشعراء والشواعر وإن لم يكن هو شاعراً وأكثر
هؤلاء العلماء من الرواة أدرك عصر بني العباس فيذكر فيه. ومع تشدد الناس في
تصحيح الرواية سنة وأدباً حدث في الشعر والخطب كثير من التصحيف والتحريف
والنقص والزيادة ونحو ذلك.
العصر الثالث عصر الدولة العباسية من 132 656 ه
أحوال اللغة العربية وآدابها في ذلك العصر
كان بنو أمية شديدي التعصب للعرب والعربية، فكان كل شيء في دولتهم
عربي الصبغة، وكانت جمهرة العرب منتشرة في كل مكان امتد إليه سلطانها فلما
قامت الدولة العباسية بدعوتها، لم تجد لها من العرب أنصاراً وأعواناً مثل
من وجدت من الفرس وأمم الأعاجم، فاكتسحت بهم دولة بني أمية وأسست دولة قوية
كان أكثر النفوذ فيها للموالي. فاستخدمهم الخلفاء والأمراء في كل شيء من
سقاية الماء إلى قيادة الجيوش والوزارة، وابتدأ شأن العرب السياسي يتضاءل
من ذلك الحين شيئاً فشيئاً واختلطوا بالأعاجم وكان من المجموع شعب ممتزج
لغة وعادة وخلقاً فأثر ذلك في اللغة لفظاً ومعنى، وشعراً ونثراً كتابةً
وتأليف ولم يظهر ذلك بالطبع في جميع الممالك بنسبة واحدة بل كان في أواسط
آسيا أظهر منه في مصر الشام. أما حال ممالك الغرب والأندلس صدر في هذا
العصر فلم يبعد كثيراً عما كان عليه في العصر الماضي ثم سرت إليها عدوى
تقليدها للمشارقة في أكثر الأمور.
ويمكن إرجاع جميع هذه التغيرات إلى ثلاثة أمور "الأول" ما يتعلق
بالأغراض التي تؤديها اللغة "الثاني" ما يتعلق بالمعاني والأفكار "الثالث"
ما يتعلق بالألفاظ والأساليب.
أغراض اللغة
لما قامت الدولة العباسية وتشبّه الخلفاء بملوك الفرس في أكثر أمور
السياسة والمعيشة، وحاكتهم العامة في ذلك بتقليد أمثالهم من طبقات الأعاجم،
تناولت اللغة في المشرق أغراضاً لم تعهد فيها من قبل بنقل علوم تلك الأمم
وآدابها وعاداتها وطرق معيشتها. ثم تناولت هذه الأغراض في الغرب بعدئذٍ
بفرق يسير فكان من تلك الأغراض ما يأتي:
(1) تدوين العلوم الشرعية واللسانية والعقلية ولم يدون في صدر
الإسلام من ذلك إلا نذر يسير، وكذا الترجمة من اللغات الأجنبية إلى
العربية.
(2) تأدية مقاصد الصناعات المختلفة، وخاصة بعد دخول العرب في غمار
الصناع وبعد تغرب الأعاجم.
(3) تأدية المقاصد التي استدعاها الانغماس في الترف بلذائد الحضارة
التي جرت فيها الأمم عصر الدولة العباسية إلى أمد بعيد، أو اقتضاها نظام
الملك والدفاع عنه. كالإمعان في وصف الأشياء النفسية مما لم يعرف للعرب في
صدر الإسلام أو عرف وكان قليلاً ممقوتاً صاحبه، وكوصف البحر والأساطيل
الحربية والمعارك البحرية. وامتاز بأكثر من ذلك المغرب والأندلس كما امتازت
الأندلس بالإجادة في وصف مناظر الطبيعة ومحاسن الوجود لملائمة بيئتها لذلك،
وكادت تلحق بها في الوصف صقلية وأفريقية إبان ازدهائهما.
(4) تأدية مقاصد أنواع الخلاعة والسخرية مما قل نظيره في صدر
الإسلام.
(5) المحاضرة والمناظرة والبحث والجدل وتدريس العلوم.
المعاني والأفكار
إن ما حدث في مشارق الممالك الإسلامية ومغاربها أثناء العصر العباسي
من الانقلابات السياسية والاجتماعية كان له نتيجة ظاهرة في الحركة الفكرية
للمتكلمين بالعربية ظهر ذلك في عباراتهم وأشعارهم بصور مختلفة. فمنها:
(1) ازدياد شيوع المعاني الدقيقة، والتصورات الجميلة، والأخيلة
البديعة.
(2) التعويل على القياس والتعليل في الأحكام الفردية: بالإكثار من
الحجج والبراهين العقلية وانتحاء مذاهب الفلسفة في الشعر والكتابة والتدريس
ولا سيما بعد عصر الترجمة وأكثر ما كان ذلك بالمشرق وقلما عني به أهل
المغرب.
(3) التهويل والغلو في التفخيم المقتبس في المشرق من اللغة الفارسية
والساري بعضه بالعدوى إلى أهل المغرب والأندلس.
الألفاظ والأساليب
غلب على عبارة اللغة العربية في هذه المدة أمران عظيمان: السهولة
والمحسنات البديعية. ويشمل ذلك على ما يأتي:
(1) انتقاء الألفاظ الرشيقة السهلة وقلة الحاجة إلى الارتجال.
(2) ازدياد الميل إلى استعمال ألفاظ القرآن والاقتباس منه
والاستشهاد به.
(3) الإكثار من ألفاظ المجاز والتشبيه والتمثيل والكناية والمحسنات
اللفظية.
(4) التوسع في إدخال ألقاب التعظيم على أسماء الخلفاء والأمراء
والعظماء.
(5) تفاقم الخطب في استعمال الكلمات الأعجمية في كثير من الأشياء.
(6) وضع اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات ودار الحكومة وغيرها.
(7) التأنق في صوغ العبارات وتوثيق الربط بينهما والميل إلى استعمال
السجع.
(8) التطرف إلى غاية حدي الأطناب والإيجاز ولكل منهما مقام.
(9) حدوث لغة تأليفية لتعليم العلوم تقاس بمعيار المنطق لا بمعيار
البلاغة. وإذا كانت اللغة إما نثراً وإما شعراً والنثر محادثة، وخطابة،
وكتابة، فاحفظ ما يتلى عليك.
النثر المحادثة أو (لغة التخاطب)
إن لغة التخاطب بين الخاصة من العرب في أواخر العصر الماضي كانت
العربية الفصيحة الخالية من اللحن إلا من آحاد عيروا به، وأن لغة العامة
والسوقة من العرب المختلطين بالعجم هي العربية المشوبة بشيء من اللحن، ولغة
المتعربين من العجم تقل عن هذه في الفصاحة، وتزيد عليها في اللحن بمراتب
مختلفة.
فلما تم امتزاج العرب بالعجم عصر الدولة العباسية، تكونت بين العامة
في البلاد التي تكثر فيها جمهرة العرب لغات تخاطب علمية، إلا بين أهل جزيرة
العرب، فلم يزل تخاطبهم باللسان العربي الفصيح إلى أواسط القرن الرابع.
وبقيت لغات التخاطب في البلاد التي تقل فيها جاليتهم هي اللغات الوطنية
الأعجمية ممزوجة ببعض الألفاظ العربية التي أدخلها عليها الإسلام.
وخاف الخلفاء والخاصة من هول تغلب العامية على الفصيحة فيستغلق على
المسلمين فهم الكتاب والسنة وهما كل الدين، فحرضوا العلماء على تدوين اللغة
والإكثار من العناية بضبط النحو وفنون البلاغة، ولكن ذلك كله لم يوقف تيار
العامية الزاخر، واستمر في طغيانه إلى أن غلب في النصف الأخير من عصر هذه
الدولة على جميع لغات التخاطب، حتى لغة الخلفاء وعلماء العربية أنفسهم
وأصبح لكل بلاد عربية لغة تخاطب عامية خاصة بها، ولكن لم تصبح العامية لغة
علم وأدب، كما وأن ذلك لم يكن طويل الأمد.
الخطابة والخطباء
لما كان قيام الدولة العباسية في المشرق والإدريسية في المغرب
الأقصى والأموية الثانية في الأندلس، من الأمور التي ينشأ عنها كثير من
الانقلابات السياسية والمذهبية والاجتماعية. وكان ذلك يستدعي تأليف
العصابات ودعوة الناس إلى التشيع لأصحاب الأحزاب كانت دواعي الخطابة
متوافرة لتوافر أسبابها. فكان بين قواد هذه الدول ودعاتها وخلفائها ورؤساء
وفودها خطباء مصاقع، ثم لما فترت هذه الدواعي باستقرار الدول. واشتد اختلاط
العرب بالأعاجم. وتولى كثير من الموالي قيادة الجيوش وعمالة الولايات
والمواسم، ضعف شأن الخطابة لضعف قدرتهم عليها، فلم يمض قرن ونصف من قيام
تلك الدول حتى بطل شأن الخطابة إلا قليلاً في المغرب أيام الحفل وقدوم
الوفود وبقيت الخطابة قاصرة على خطب الجمعة والعيدين والمواسم وخطب الزواج
ونحو ذلك. وقل فيها الارتجال أو عدم جملةً، وحل محل الخطابة في الأمور
السياسية نشر المنشورات، وفي الأمور الدينية مجالس الوعظ والتدريس في
المساجد والمدارس، واشتهر في صدر الدولة العباسية خطباء أشهرهم داود بن
علي، وشيب بن شيبة.
داود بن علي
هو داود بن علي بن عبد الله بن عباس خطيب بني العباس، وأحد مؤسسي
دولتهم، نشأ هو وأخوته (وكانوا اثنين وعشرين رجلاً) في قرية الحميمة من
أعمال عمّان، وكان الوليد بن عبد الملك أجلى علي بن عبد الله بن عباس وأهل
بيته إليها سنة 95 ه غضباً عليه.
وكان داود أحد النابغين من إخوانه، وكان بليغهم ولسانهم وأخطبهم في
وقته. وعاجلته منيته قبل أن يستطير سلطانه في الدولة. ولاه أبو العباس عقب
بيعته بالكوفة ولاية الكوفة وسوادها، ثم ولاه إمارة الحج في هذه السنة
وولاه معها ولاية الحجاز واليمن واليمامة، فقتل من ظفر به من بني أمية في
مكة والمدينة سنة 132ه وهو أول موسم ملكه بنو العباس وخطبهم الخطبة الآتية
وهي (شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً ولا لنبني فيكم
قصراً أظن عدو الله أن لن نقدر عليه إن روخى له من خطامه، حتى عثر في فضل
زمامه، فالآن حيث أخذ القوس باريها وعاد القوس إلى النزعة، ورجع الملك في
نصابه، في أهل بيت النبوة والرحمة، (والله قد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا)
أمن الأسود والأحمر لكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله ( ، لكم ذمة العباس،
لا ورب هذه البنية وأومأ بيده إلى الكعبة لا نهيج منكم أحداً).
شبيب بن شيبة
هو شبيب بن شيبة بن عبد الله المنقري التميمي خطيب البصرة ونشأ بها
وامتاز بنبالة نفس وسخاء كف. وحسن تواضع ونزاهة لسان كما امتاز بخطبه
القصيرة البليغة القريبة من حد الإعجاز. قال الجاحظ: يقال أنهم لم يروا
خطيباً كشبيب بن شيبة. فما ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة. فلم يزل
يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء
المصاقع بكثيره وقد يطول حتى يقول فيه الراجز:
إن غدت سعد على شبيبها
على فتاها وعلى خطيبها
من مطلع الشمس إلى مغيبها
عجبت من كثرتها وطيبها
وعرف شبيب أبا جعفر المنصور قبل خلافته ثم اتصل به بعدها. فجعله في
حاشية ولي عهده المهدي. وبقي كذلك حتى ولي المهدي الخلافة فصار من خيرة
سماره وجلسائه إلى أن مات في خلافته سنة 165ه.
ومن خطبه القصار ما عزى به المهدي يوم ماتت ابنته البانوقة وجزع
عليها جزعاً شديداً: "أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجراً.
وأعقبك صبراً ولا أجهد الله بلاءك بنقمه ولا نزع منك نعمه، ثواب الله خير
لك منها ورحمة الله خير لها منك، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده".
الكتابة خطية وإنشائية
الخط: تنوع في هذا العصر الخط الكوفي إلى أنواع أربت على خمسين
نوعاً ومن أشهرها المحرر والمشجر والمربع والمدور والمتداخل. وبقي مستعملاً
في المباني والسكة إلى حدود الألف. ثم نسي جملة وقد جددت منه أنواع في
عصرنا أما تاريخ خطنا المستعمل الآن فحدث في آخر الدولة الأموية أن استنبط
"قطبة المحرر" من الخط الكوفي والحجازي خطاً هو أساس الخط الذي يكتب به
الآن واخترع القلم الجليل الذي يكتب به على المباني ونحوها. وقلم الطومار
(الورقة الكبيرة) وهو أصغر أنواع الجليل وحسن عمله غيره من كتاب صدر الدولة
العباسية حتى ظهر إبراهيم الشخري وأخوه يوسف من كتاب أواخر القرن الثاني:
فولد إبراهيم من الجليل قلم الثلثين وولد يوسف من الجليل القلم الرياسي وهو
قلم التوقيع.
وعن إبراهيم أخذ الأحوال المحرر من (صنائع البرامكة) واخترع قلم
النصف. هذه هي أشهر الخطوط وقد تولد منها نحو من 20 خطاً يختص كل منها بغرض
خاص. واتفقوا على أن طول الألف يعتبر معياراً لارتفاع بقية الحروف. وأن
يكون طول الألف مربع مقدار قطعة القلم.
وعن الأحول: أخذ منهدس الخط الأعظم الوزير "أبو علي محمد بن مقلة"
وأخوه أبو عبد الله الحسن المتوفى سنة 338ه وهما اللذان تم على أيديهما
هندسة خط النسخ والجليل وفروعه على الأشكال التي نعرفها الآن وأتما العمل
الذي بدأ به "قطبة" فهندسا الحروف وقدرا مقاييسهما وأبعادهما وضبطاها ضبطاً
محكماً واخترعا له القواعد وعن الوزير ابن مقلة أخذ أبو عبد الله محمد بن
أسد القارئ المتوفى سنة 410ه. وعنه أخذ أبو الحسن علي بن هلال البغدادي
المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413ه وهو الذي أكمل قواعد الخط واخترع عدة
أقلام وإليه انتهت الغاية. وكل من جاء بعده فهو تابع لطريقته: كأمين الدين
ياقوت الملكي المتوفى سنة 618ه كاتب السلطان ملكشاه السلجوقي. أم
الأندلسيون والمغاربة فلم يعبئوا بهذا الإصلاح وبقوا يكتبون على طريقة الخط
الحجازي إلى الآن بنوع من التعديل. واخترع الخليل الشكل المستعمل الآن بان
كتب الضمة واواً صغيرة تكتب فوق الحرف والفتحة ألفاً والكسرة ياءً والشدة
رأس شين والسكون رأس خاء وهمزة القطع رأس عين ثم اختزل شكلها وزيد عليها
حتى آلت إلى الشكل المعروف الآن.
وهاك ترجمة الخطاط المتفنن المشهور.
ابن مقلة
هو الوزير أبو علي محمد بن علي بن الحسن بن مقلة إمام الخطاطين وأحد
كبار الكتاب البارعين، أخذ الخط عن الأحوال المحرر صنيعه البرامكة وتم على
يديه ويدي أخيه الحسن نقل الخط من الكوفي إلى الشكل المعروف في زماننا.
وكان ابن مقلة يتولى في أول أمره بعض أعمال فارس ويجبي خراجها وتنقلت به
الأحوال إلى استوزره الإمام المقتدر بالله سنة 316 ثم كاد له أعداؤه عنده،
فقبض عليه سنة 318ه ونفاه إلى فارس. ثم وزر للراضي فوشى به أعداؤه عنده
فقبض عليه وعزل ثم أطمعه نحسه أن يكيد لابن رائق أمير الأمراء ببغداد سنة
328ه ومن قوله في تلك الحوادث:
إذا مات بعضك فابك بعضاً
فإن البعض من بعض قريب
وقوله:
ما سئمت الحياة لكن توثّق
ت بأيمانهم فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتى
حرموني دنياهمو بعد ديني
ولقد حطت ما استطعت بجهدي
حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذة عيش
يا حياتي بانت يميني فبيني
الكتابة الإنشائية في الرسائل الديوانية الإخوانية
كانت كتابة الرسائل في أوائل حكم بني العباس جارية على نظام كتابتها
في أواخر عهد بني أمية، سالكة الطريق التي سلكها عبد الحميد وابن المقفع
والقاسم بن صبيح وعمارة بن حمزة ونظراؤهم: من العناية بجمل عبارتها جزلة
بليغة متناسقة الوضوع والأسلوب، وبقيت كذلك بل زادت حسناً وجمالاً ومراعاة
لمقتضى الحال إلى أوائل القرن الرابع. ثم أخذت الصناعات اللفظية تغلب عليها
تدريجياً بتضاؤل ملكة البلاغة في الكتاب وتقاصر هممهم عن استيفاء أداتها:
لتغلب الأعاجم من الديلم البويهيين والترك السلجوقيين على سلطان الخلفاء في
الشرق، وتغلب البربر على شمالي أفريقية والأندلس في الغرب، فلم يعد في
الملوك والأمراء من يعينهم أمر العربية وبلاغتها. ومازالت كذلك حتى سقطت
الدولة العباسية على أيدي الأعاجم من التتار فكان ذلك ابتداء اضمحلال
الكتابة واللغة.
الكتّاب كان أكثر كتاب المشرق في هذا العصر من سلائل فارسية أو
سوادية وقد بلغوا بحذقهم سياسة الملك ونبوغهم في البلاغة أن ارتقوا عند
خلفاء العباسيين إلى مرتبة الوزارة. وأول كاتب منهم ارتقى إليها هو أبو
سلمة الخلال. وأشهر من بلغ نفوذه وسلطانه مبلغاً زاحم فيه الخليفة يحيى بن
خالد بن برمك وابناه جعفر والفضل، ثم محمد بن الزيات في زمن المعتصم
والواثق. وكان كتاب الأندلس والمغرب أكثرهم من سلائل عربية. ومن أشهر كتاب
هذا العصر في الشرق ابن المقفع، ويحيى بن خالد بن برمك. وابناه: جعفر
والفضل، وإسماعيل بن صبيح، وعمرو بن مسعدة، وأحمد بن يوسف، وابن الزيات.
والحسن بن وهب وعلي بن الفرات، وابن مقلة، وابن العميد، والصاحب بن عباد،
وأبو بكر الخوارزمي، والبديع، والصابي، والعماد الكاتب، والقاضي الفاضل.
ومن أشهر كتابه في الأندلس ابن شهيد، وأبو المطرف بن عميرة، ولسان
الدين بن الخطيب.
ابن المقفع
هو أبو محمد عبد الله بن المقفع أحد فحول البلاغة وثاني اثنين مهدا
للناس طريق الترسل. ورفعا لهم معالم صناعة الإنشاء أولهما "عبد الحميد".
نشأ ابن المقفع بين أحياء العرب. فكان أبوه داذويه المقفع الفارسي
يعمل في جباية الخراج لولاة العراق من قبل بني أمية، وهو على دين المجوسية
وولد له ابنه هذا حوالي سنة 106ه وسماه (روزبة) فنشأ بالبصرة. وهي يومئذ
حلبة العرب ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء. فكان لكل ذلك (فوق ذكائه
المفرط تأديب أبيه له) أعظم أثر في تربيته وتهيئته لأن يصير من أكبر كتاب
العربية وعلمائها وأدبائها والمترجمين إليها. وقد أسلم بمحضر من الناس
وتسمّى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد، وكان نادرة في الذكاء غاية في جمع علوم
اللغة والحكمة وتاريخ الفرس متأدباً متعففاً قليل الاختلاط إلا بمن على
شاكلته كثير الوفاء لأصحابه.
وكان أمة في البلاغة ورصانة القول وشرف المعاني إلى بيان غرض وسهولة
لفظ ورشاقة أسلوب. ولا توصف بلاغته بأحسن مما وصف هو البلاغة حيث يقول:
(البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها).
ومن رسائله أنه عزى بعضهم فقال: أما بعد: فإن أمر الآخرة والدنيا
بيد الله هو يدبرهما ويقضي فيهما ما يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فإن
الله خلق الخلق بقدرته. ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة لئلا يطمع أحد من
خلقه في خلد الدنيا ووقت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا
يستقدمون فليس أحد من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت لا يرجو أن يخلصه من ذلك
أحد. نسأل الله تعالى خير المنقلب وبلغني وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب
العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا.
فعليك بتقوى الله والصبر وحسن الظن بالله فإنه جعل لأهل الصبر صلوات
منه ورحمة وجعلهم من المهتدين.
وقد ترجم كتباً عديدة من أشهرها كتاب كليلة ودمنة وقيل إن هذا
الكتاب من وضع ابن المقفع وهو قول مقبول لا بأس به: وله كتاب الأدب الكبير
والأدب الصغير والدرة اليتيمة. وقتله والي البصرة سفيان بن معاوية سنة 142ه
لاتهامه بالزندقة والكيد للإسلام بترجمة كتب الزندقة.
إبراهيم الصولي
هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول كاتب العراق وأشعر
أصحاب المقطعات. نشأ ببغداد فتلقى العلم والأدب عن أئمة زمانه، واشتغل
بالشعر في حدثاته، فبرع فيه، وتكسب به. ورحل إلى العمال والأمراء يمدحهم
ويستميح جدواهم. ثم قصد الفضل بن سهل وزير المأمون أيام مقامه معه بخراسان
ومدحه فوهب له ولي العهد عشرة آلاف درهم. وجعله الفضل كاتباً لأحد قواده
وبقي يتنقل في أعمال النواحي والدواوين حتى كان زمن الواثق عاملاً على
الأهواز فتحامل عليه وزيره ابن الزيات فعزله وسجنه بها. فكتب إليه يستعطفه،
فلم يزدد بذلك إلا جفاء وغلظة، ثم اطلع الواثق على ذلك فأطلقه. وتولى ديوان
الضياع والنفقات في خلافة المتوكل ومات سنة 242ه ومن رسائل تعزية عن لسان
المنتصر بالله إلى طاهر بن عبد الله مولى أمير المؤمنين "أما بعد" تولى
الله توفيقك وحياطتك. وما يرتضيه منك ويرضاه عنك إن أفضل النعم نعمة تلقيت
بحق الله فيها من الشكر وأوفر حادثة ثواباً حادثة أدي حق الله فيها من
الرضا والتسليم والصبر ومثلك من قدم ما يجب الله عليه في نعمة فشكرها وفي
مصيبة فأطاعه فيها وقد قضى الله سبحانه وتعالى في محمد ابن إسحاق مولى أمير
المؤمنين "عفا الله عنه" قضاءه السابق والموقع. وفي ثواب الله ورضا أمير
المؤمنين "أدام الله عزه" وتقديم ما يعدم مثله أهل الحجا والفهم ما اعتاضه
معتاض وقدمه موفق فليكن الله "عز وجل" وما أطعته به وقدمت حقة فيه أولى بك
في الأمور كلها فإنك تتقرب إليه في المكروه بطاعته يحسن ولايتك في توفيقك
لشكر نعمه عندك.
ابن العميد
هو الأستاذ الرئيس الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين العميد كاتب
المشرق وعماد ملك آل بويه وصدر وزراهم: نشأ شغوفاً بمعرفة العلوم العقلية
واللسانية فبرع في علوم الحكمة والنجوم ونبغ في الأدب والكتابة حتى قيل
فيه. (بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد) ثم رحل عن أبيه إلى آل
بويه وتقلد شريف الأعمال في دولتهم إلى أن تولى وزارة ركن الدولة سنة 328
فساس دولته ووطد أركانها وتشبه بالبرامكة ففتح بابه للعلماء والفلاسفة
والشعراء والأدباء وكان يشاركهم في كل ما يعملون إلا الفقه وما زال في
وزارته محط الرحال وكعبة الآمال حتى توفي سنة 360ه.
ومن رسائله:
كتابي إليك وأنا بحال لو لم ينغصها الشوق إليك ولم يرنق صفوها النزوع نحوك
لعددتها من الأحوال الجميلة، وأعددت حظي منها في النعم الجليلة. فقد جمعت
فيها بين سلامة عامة. ونعمة تامة. وحظيت منها في جسمي بصلاح وفي سعيي
بنجاح، لكن ما بقي أن يصفو لي عيش مع بعدي عنك ويخلو ذرعي مع خلوي منك،
ويسوغ لي مطعم ومشرب مع انفرادي دونك وكيف أطمع في ذلك وأنت جزء من نفسي
وناظم لشمل أنسي وقد حرمت رؤيتك وعدمت مشاهدتك وهل تسكن نفس متشعبة ذات
انقسام وينفع أنس بيت بلا نظام، وقد قرأت كتابك جعلني الله فداك فامتلأت
سروراً بملاحظة خطك وتأمل تصرفك في لفظك وما أقرظهما فكل خصالك مقرظ عندي.
وما أمدحهما فكل أمر ممدوح في ضميري وعقلي.
وأرجو أن تكون حقيقة أمرك موافقة لتقديري فيك فإن كان كذلك وإلا فقد غطى هواك وما
ألقي على بصري.
الصاحب بن عباد
هو كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد وزير آل بويه.
ولد سنة 326ه بطالقان قزوين. وتعلم العلم والأدب من أبيه، ثم اتصل
بابن العميد، فلزم صحبته وأخذ عنه الأدب، وتولى له كتابة خاصته ثم تنقلت به
الأحوال في خدمة ملوك بني بويه، فكان وزيراً لمؤيد الدولة ثم لأخيه فخر
الدولة، وله في ملكهما اليد المطلقة والأمر النافذ حتى مات سنة 385ه. ويعد
ابن عباد في الكتابة ثاني ابن العميد في حلبته وأبلغ من سلك طريقته، غير
أنه أولع بالسجع والجناس، ولا يعرف بعدهما من بلغ بشرف العلم والأدب
مبلغهما، ولا حل من شرف الملك والسلطان بمهنة الكتابة منزلتهما، ومن رسائله
ما كتب به إلى بعض السادة وقد أهدى إلى ابن عباد مصحفاً.
البر "أدام الله السيد" أنواع، تطول به أبواع، وتقصر عنه أبواع فإن
لم يكن فيما هو أكرم منصباً وأشرف منسباً فتحفة السيد إذا أهدى ما لا
تشاكله النعم ولا تعادله القيم: كتاب الله وبيانه وكلامه وفرقانه ووحيه
وتنزيله وهداه وسبيله ومعجز رسول الله ( ودليله طبع دون معارضة على الشفاه
وختم على الخواطر والأفواه فقصر عنه الثقلان وبقي ما بقي الملوان. لائح
سراجه. واضح منهاجه. منير دليله. عميق تأويله يقصم كل شيطان مريد ويذل كل
جبار عنيد، وفضائل القرآن لا تحصى في مطولات الأسفار فأصف الخط الذي بهر
الطرف وفاق الوصف وجمع صحة الأقسام وزاد في نخوة الأقلام بل أصفه بترك
الوصف فأخباره آثاره وعينه فراره وحقاً أقول إني لا أحسب أحداً ما خلا
الملوك جمع من المصاحف ما جمعت وابتدع في استكتابها ما ابتدعت، وإن هذا
المصحف لزائد عن جميعها زيادة الفرع على الغرة بل زيادة الحج على العمرة.
أبو بكر الخوارزمي
هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الكاتب الشاعر اللغوي الأديب
الرحالة ولد بخوارزم سنة 323ه ونشأ بها وكان ضليعاً في كل فن من فنون
العربية وخاصة الكتابة والشعر.
جاب الأقطار ودخل الأمصار من الشام إلى أقصى خراسان في استفادة
العلم والأدب وإفادتهما: وكان كثير الحفظ للشعر غزير المادة من اللغة.
وتقلب الخوارزمي في خدمة كثير من الملوك والأمراء والوزراء حتى ألقى
عصا التسيار بمدينة نيسابور وطاب عيشه بها إلى أن مني في آخر أيامه بمساجلة
بديع الزمان الهمذاني ومناظرته ومناضلته وأعانه عليه قوم من أعيان البلدة
ووجوهها فانخذل الخوارزمي انخذالاً شديداً وكسف باله ولم يحل عليه الحول
حتى مات سنة 383ه.
وكان الخوارزمي ممن يجري على طريقة ابن العميد في الكتابة متوخياً
جزالة الألفاظ محتفلاً بصحة المعاني مع ميل فيه إلى الغريب، وتقدم له كثير
من الرسائل.
بديع الزمان الهمذاني
هو أبو الفضل أحمد بن الحسين الكاتب المترسل والشاعر المبدع: حافظ
عصره. نشأ بهمذان ودرس العربية والأدب ونبغ فيهما وضرب في الأرض يتكسب
بأدبه ثم أقام بنيسابور مدة أملى بها أربعمائة مقامة بلفظ رشيق وسجع رقيق،
وعلى منوالها نسج الحريري. ثم شجر بينه وبين الخوارزمي ما كان سبباً في
هبوب ريحه وبعد صيته إذ لم يكن في الحسبان أن أحداً يجترئ على الخوارزمي.
وبموت الخوارزمي خلا له الجو عند الملوك والأمراء، فتجول في
حواضرهم، ثم استوطن هراة وصاهر أحد أعيانها العلماء، فحسنت حاله، ونعم
باله، وبكن المنية عاجلته وهو في سن الأربعين سنة 398ه وتقدم له كثير من
الرسائل والمقدمات.
ابن زيدون
هو الكاتب الشاعر ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله المشهور
بابن زيدون المخزومي الأندلسي. نشأ في مدينة قرطبة وتأدب على كبار أئمتها
وقال الشعر وأجاده، ولما نبه شأنه بين شعراء قرطبة اتصل بأبي وليد بن جهور
أحد ملوك الطوائف، فحظي عنده ومدحه حتى أصبح لسان دولته الناطق، وحسامها
المسلول. فأفسد أعداؤه ما بينه وبين ابن جهور، فاعتقله ومكث في محسبه مدة
استشفع فيها بقصائد أبدعها، ورسائل استنفذ فيها جهده، فما ألانت له قلباً
فأعمل الحيلة في فراره من سجنه، وخلص إلى المعتضد بن عباد ملك إشبيلية إذ
كان أشد ملوك الطوائف رغبة فيه وأكثرهم تمسكاً بالأدباء، فألقى إليه مقاليد
وزارته، وأصبح صاحب أمره ونهيه، ولما مات المعتضد وخلفه ابنه المعتمد كان
له كما كان أبوه. وأغدق عليه بره ونعمته.
ومكث ابن زيدون على هذه الحال حتى مات بإشبيلية سنة 463ه (راجع
رسالة الجدية في فن المكاتبات إذا شئت).
القاضي الفاضل
هو أبو علي عبد الرحيم البيساني اللخمي ولد بمدينة عسقلان سنة 529
وتعلم على أبيه وغيره. قدم مصر وهو شاب أواخر الدولة الفاطمية وتعلم في
ديوان ابن حديد قاضي الإسكندرية. وظهر فضله فيما كان يرسله إلى القاهرة من
الرسائل فاستقدم أيام الظافر إليها، وكان من كتاب ديوانه، ولازم خدمة أكابر
القضاة والكتاب في الديوان، وأخذ عنهم، وحاكاهم بل فاقهم فصاحة وبلاغة لسعة
اطلاعه وغزارة مادته وسرعة بديهته وصفاء خاطره.
ولما سقطت الدولة الفاطمية تولى وزارة صلاح الدين بن أيوب، وكان
يتردد بين مصر والشام في الحروب الصليبية، ودبر المملكة أحسن تدبير وبقي في
الوزارة حتى مات صلاح الدين فوزره لابنه العزيز على مصر. ثم وزر من بعده
لأخيه ومات سنة 569 ه .
ومن رسائله القصيرة رسالة كتبها على يد خطيب عيذاب إلى صلاح الدين
يتشفع له في توليه خطابة الكرك وهي: أدام الله السلطان الملك الناصر وثبته،
وتقبل عمله بقبول صالح وأثبته وأخذ عدوه قائلاً أو بيته، وأرغم أنفه بسيفه
وكبته.
خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب. ولما نبا بن المنزل عنها
وقل عليه المرفق منها. وسمع هذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها. ووجب على
أهلها شكرها، هاجر من هجير عيذاب وملحها. سارياً في ليلة أمل كلها نهار فلا
يسأل عن صبحها قد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب، وتوسل بالمملوك في هذا
المتلمس وهو قريب، ونزع من مصر إلى الشام وعن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب
والفقر سائق عنيف، والمذكور عائل ضعيف ولطف الله بالخلق بوجود مولانا لطيف
والسلام.
التدوين والتصنيف
كانت الحاجة إلى التدوين قد اشتدت في مبدأ الدولة العباسية لاتساع
ممالك الإسلام فهب العلماء إلى تهذيب ما كتب في الصحف المتفرقة وما حفظوه
في الصدور ورتبوه وبوبوه وصنفوه كتباً، وكان من أقوى الأسباب لإقبال
العلماء على التصنيف حث الخليفة أبي جعفر المنصور عليه وحمله الأئمة
والفقهاء على جمع الحديث والفقه ولم يقتصر على معاضدة العلوم الإسلامية بل
أوعز إلى العلماء والمترجمين أن ينقلوا إلى العربية من الفارسية واليونانية
فنون الطب والسياسة والحكمة والفلك والتنجيم والآداب، وتابعه في ذلك أولاده
وأحفاده حتى زخرت بحور العلم واخترعت الفنون وتفرعت المسائل ودونت الكتب في
كل فن.
كتابة التصنيف والتدوين
وكانت كتابة التصنيف والتدوين في القرن الأول وبعض الثاني من النهضة
عبارة عن سلسلة من الروايات المسندة إلى رواتها، وبعضها يروى بلفظ أصحابها
غالباً: كما في الشعر والخطب والرسائل، وبعضها بلفظ الراوي كما في أخبار
الفتوح والتاريخ والقصص، ثم ظهرت بعد ذلك في العلوم الشرعية واللسانية
طبقات الاستنباط والتعليل والتفريع والشرح والاختصار وجمع الفروع تحت كليات
عامة فلم يكن للمؤلفين بد من حذف أسانيد الروايات وترك المحافظة على نقلها
بلفظها إلا في الحديث ونحوه.
أما كتب العلوم المترجمة فكانت عبارتها هي تفسير ألفاظها الأعجمية
بالعربية، ولم تكن ترجمتها جيدة في عصر المنصور، ثم صححت ترجمتها في زمن
الرشيد والمأمون. ثم لما أتقن كثير من فلاسفة المسلمين هذه العلوم كتبوا
فيها بعبارتهم، وكانت أول أمرها بليغة مفهومة ثم عموها على بعض الفقهاء
المفكرين لهم والمغرين الأمراء والسلاطين بقتلهم، حتى أصبحت عبارة كتب
الفلسفة والتوحيد أصعب ما يقرأ باللسان العربي.
العلوم اللسانية ونشأتها
العلوم اللسانية هي الأدب، والتاريخ، والعروض، والنحو، واللغة،
والبلاغة.
علم الأدب: كانت كتبه في أول هذا العصر رسائل يبحث كل منها في ضرب
خاص من ضروبه، كرسائل ابن المقفع ورسائل سهل بن هارون في الأخلاق وكتاب
النوادر، وكتاب الأراجيز، وكتاب الشعر للأصمعي، وكتاب الشعر والشعراء لأبي
عبيدة، وإذا تابعنا من يقول إن ابن المقفع هو الذي ابتدع كتاب كليلة ودمنة
ونحلة الهند والفرس كان هذا الكتاب أول كتاب ظهر في الأدب العربي الخاص
بموضوع واحد: وأول كتاب ظهر فيه جامع لفنون كثيرة منه كتاب البيان
والتبيين. وكتاب الحيوان للجاحظ، واقتفى أثره أحمد بن طيفور في كتابه
العظيم المنظوم والمنثور في أربعة عشر جزءاً.
ثم أبو العباس محمد المبرد، في الكامل والروضة، ثم أبو حنيفة
الدينوري. وأبو بكر محمد الصولي. وابن قتيبة صاحب أدب الكاتب. وابن عبد ربه
صاحب العقد الفريد، وأبو علي القالي صاحب الأمالي، وأبو الفرج الأصفهاني
صاحب الأغاني وغيرهم، ومن أشهر المؤلفين في الأدب الجاحظ، وأحمد بن عبد
ربه، والحريري: وهاهي ترجمتهم.
الجاحظ
هو إمام الأدب أبو عثمان عمرو بن الجاحظ بن بحر بن محبوب الكناني
البصري. ولد حوالي سنة 160 بمدينة البصرة. ونشأ بها فتناول كل فن ومارس كل
علم عرف في زمانه مما وضع في الإسلام أو نقل عن الأمم الأوائل فاصبح له
مشاركة في علم كل ما يقع عليه الحس أو يخطر بالبال فهو راوية متكلم فيلسوف
كاتب مصنف مترسل شاعر مؤرخ عالم بالحيوان والنبات والموات، واصف لأحوال
الناس ووجوه معايشهم واضطرابهم وأخلاقهم وحيلهم إلا أنه غلب عليه أمران:
الكلام على طريقة المعتزلة: والأدب الممزوج بالفلسفة والفكاهة: وكان غاية
في الذكاء ودقة الحس وحسن الفراسة: وكان سمحاً جواداً كثير المواساة
لأخوانه: وكان على دمامة خلقه وتناقض خلقه خفيف الروح فكه المجلس غاية في
الظرف وطيب الفكاهة وحلاوة الكلام، وهو على الجملة أحد أفذاذ العالم وإحدى
حجج اللسان العربي، وأقام الجاحظ أكثر عمره بالبصرة يعيش معيشة الأدباء
والعلماء محسوباً لولاتها وأعيانها محبواً منهم بالعطايا والمنح بما يصنفه
لهم من الكتب المتفقه مع أهوائهم المختلفة، وكان كثير الانتجاع للخلفاء
ببغداد وسر من رأى حتى فلج بالبصرة وبقي مفلوجاً بها مدة إلى أن انتقل إلى
بغداد فمات بها ودفن بمقبرة الخيزران (أم الرشيد) سنة 255 ه، وله أكثر من
مائتي كتاب.
أحمد بن عبد ربه
هو أديب الأندلس وشاعرها أبو عمر أحمد بن محمد به عبد ربه القرطبي
ولد سنة 246 ه ونشأ بمدينة قرطبة ودرس علوم العربية فنبغ في جميعها. وحفظ
منها ما لم يحفظه أحد من علماء زمانه وقرأ رسائل المحدثين من المشارقة وما
ترجم من كتب الأوائل في أكثر العلوم، وأودع زبدة ذلك في كتابه "العقد
الفريد" وكان يشتغل في حداثته بالشعر ويجري في مضمار اللهو والطرب ونظم في
ذلك من القصائد والمقطعات الرقيقة الجميلة ما جعل المتنبي على صلفه وكبره
حين سمع شعره يسميه (مليح الأندلس) ثم أقلع في كبرته عن صبوته وأخلص لله في
توبته: فاعتد أشعاره التي قالها في الغزل واللهو عملاً باطلاً: وعمل على
أعاريضها وقوافيها قصائد في الزهد يعارضها بها، وسماها الممحصات، ونال من
خلفاء بني أمية بالأندلس قبولاً وحل عندهم في المكان الأسمى، وبقي بقرطبة
رئيساً مسوداً حتى فلج وعاش كذلك عدة سنين ثم مات بها سنة 328 ه.
الحريري
هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري الكاتب
الشاعر اللغوي النحوي صاحب البدائع المأثورة في مقاماته المشهورة التي
نسجها على منوال مقامات بديع الزمان الهمذاني وأنشأ خمسين مقامة أتى فيها
على كثير من مواد اللغة وفنون الأدب وأمثال العرب وحكمها بعبارة مسجعة
مزينة بأنواع البديع، ولا سيما الجناس ترغيباً للطلاب في حفظ اللغة وأدبها
وتفكيهاً لهم بمطالعتها وتحل وقائعها أبا زيد السروجي وهو أعربي فصيح من
سروج كان قد قدم البصرة وأعجب به علماؤها، وسمى راويها عنها لحارث بن همام
(يريد نفسه) وأهداها إلى الوزير جمال الدين بن صدفة وزير المسترشد العباسي،
وله غير المقامات شعر كثير ورسائل بديعة وكتب في النحو واللغة منها كتابه:
درة الغواص في أوهام الخواص، وملحة الإعراب في النحو، وتوفي بالبصرة سنة
515 ه.
فن التاريخ
أول ما وضع في التاريخ باللغة العربية الكتاب الذي وضعه عبيد بن
شرية لمعاوية وفي صدر الدولة العباسية وضع كثير من العلماء كتباً في
التاريخ بأقسامه التي من أشهرها: (1) فن السيرة والمغازي: وأشهر من ألف فيه
من الأوائل محمد بن إسحاق.
(2) فن الفتوح: وأشهر من ألف فيه منهم الواقدي والمدائني وأوب مخنف.
(3) فن طبقات الرجال: وأشهر علمائه ابن سعد كاتب الواقدي والبخاري.
(4) فن النسب: وأشهر قدماء علمائه الكلي وابنه.
(5) فن أخبار العرب وأيامها: وأشهر علمائه أبو عبيدة والأصمعي.
(6) قصص الأنبياء: وكتب فيه كثيرون.
(7) تاريخ الملوك: ومن أقدم من كتب فيه ابن قتيبة والهيثم ابن عدي
وابن واضح اليعقوبي، ثم شيخ المؤرخين وعمدتهم محمد بن جرير الطبري الجامع
كتابه هذه الفنون السابقة مرتباً على حسب السنين الهجرية.
وحاكاه بعده ابن الأثير في تاريخه الكامل.
العروض والقافية
أول من اخترع علم العروض الخليل بن أحمد من غير سابقة تعلم على
أستاذ أو تدرج في وضع بل ابتدعه وحصر فيه أوزان العرب في خمسة عشر بحراً
وزاد عليها تلميذ تلميذه الأخفش بحراً آخر ثم لم يزد عليها أحد شيئاً يعتد
به.
أم القافية فقد كان العلماء قبل الخليل يتكلمون فيها، ولكن الخليل
هو أول من فصل الكلام فيها وجعلها علماً مدوناً.
النحو
جاءت الدولة العباسية والنحو علم يدرس في المعاهد ولكن البصريين
سبقوا الكوفيين في الاشتغال به كما سبقهم الكوفيون في الاشتغال بالشعر وعلم
الصرف.
ومن أكثر الأئمة الذين اشتغلوا بالنحو وهذبوه من البصريين أبو عمرو
بن العلاء وتلميذه الخليل وتلميذ الخليل سيبويه الواضع لأول كتاب جامع في
النحو ثم بعده الأخفش شارح كتابه.
ومن الكوفيين معاذ الهراء والرواسي وتلميذهما الكسائي وتلميذه
الفراء.
علم اللغة
ويسمى متن اللغة، ونعني به معرفة معاني ألفاظهم المفردة. وأول ما
وضع الأئمة في رسائل وكتب صغيرة في موضوعات خاصة، فلما ظهر الخليل أحصى
ألفاظ اللغة بطريقة حسابية في كتاب، ورتبه على حروف المعجم مقدماً حروف
الحلق ومبتدئاً منها بالعين ولذلك سمى معجمه "كتاب العين" ثم ألف أبو بكر
بن دريد معجمه العظيم الذي سماه (الجمهرة) مرتباً له على حروف المعجم
بترتيبها المعروف الآن. وأدرك عصره الأزهري فألف كتاب (التهذيب) على ترتيب
الخليل ثم وضع الجوهري في كتابه المسمى ب(الصحاح) على ترتيب الجمهرة وابن
سيده الأندلسي كتابه (المحكم) على ترتيب الخليل وابن فارس كتابه (المجمل)
والصاحب بن عباد كتابه (المحيط) وهذه هي أصول كتب اللغة وما بعدها من
("العباب" و"مجمع البحرين") للصاغاني، و"النهاية" لابن الأثير و"لسان
العرب" لابن مكرم، و"المصباح" للفيومي و "القاموس" للفيروزابادي، فهو جمع
لها أو اختصار منها.
علوم البلاغة المعاني والبيان والبديع
أول كتاب دون في علم البيان كتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة تلميذ
الخليل ثم تبعه العلماء: ولا يعلم أول من ألف في المعاني بالضبط، وإنما أثر
فيها كلام عن البلغاء وأشهرهم الجاحظ في إعجاز القرآن وغيره. وأول من دون
كتبا في علم البديع ابن المعتز وقدامة بن جعفر. وقبل ذلك كان البديع يستعمل
في الشعر عملاً، وبقيت هذه العلوم تتكامل ويزيد فيها العلماء حتى جاء فحل
البلاغة عبد القاهر الجرجاني فألف في المعاني كتابه دلائل الإعجاز وفي
البيان كتابه أسرار البلاغة وجاء بعده السكاكي فألف كتابه العظيم مفتاح
العلوم.
الخليل بن أحمد
هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي
البصري مخترع العروض، ومبتكر المعجمات، وواضع الشكل العربي المستعمل الآن.
ولد سنة 100 بالبصرة ونشأ بها وأخذ العربية والحديث والقراءة عن
أئمة زمانه وأكثر الخروج إلى البوادي، وسمع الأعراب الفصحاء، فنبغ في
العربية نبوغاً لم يكن لأحد ممن تقدمه أو تأخر عنه، وكان غاية في تصحيح
القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله ولقن ذلك تلميذه سيبويه.
ومما يشهد له بحدة الفكر وبعد النظر اختراعه العروض علماً كاملاً لم
يحتج إلى تهذيب بعد، وابتكاره طريقة تدوين المعجمات بتأليف كتاب "العين"
وتدوينه كتاباً دقيقاً في الموسيقى على غير معرفة بلغة أجنبية واشتغال
بلهو، وزاد في الشطرنج قطعة سماها جملاً لعب بها الناس زمناً، وبقي الخليل
مقيماً بالبصرة طول حياته زاهداً متعففاً مكباً على العلم والتعليم حتى مات
في أوائل خلافه الرشيد سنة 174 ه? بصدمة في دعامة مسجد ارتج منها دماغه.
سيبويه
هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: إمام البصريين وحجة النحويين.
ولد بالبيضاء من سلالة فارسية ونشأ بالبصرة وكان يطلب أول أمره
الحديث والفقه فعيبت عليه لحنة لحنها في مجلس شيخه فخجل، وطلب النحو ولازم
الخليل وأخذ عن غيره أيضاً وكان الخليل يؤثره على أصحابه، فدون جميع ما
أخذه عنه ونقله عن غيره في كتابه الذي لم يجمع قبله مثله ولولا هذا
(الكتاب) الذي رواه عنه وشرحه تلميذه الأخفش ما كان لسيبويه خبر يشهر
لوفاته كهلاً ولقلة من أخذ عنه هذا الكتاب ولأنه لا يعرف له كتاب غيره
وبحسبك هو، ومات ببلدته البيضاء بفارس سنة 177 ه?
الكسائي
هو أبو الحسن علي بن حمزة: أحد القراء السبعة وإمام الكوفيين في
النحو واللغة: نشأ بالكوفة وتعلم على الكبر بعد لحنة لحنها أمام جمع من
طلبة العلم فلازم أئمة الكوفة حتى أنفذ ما عندهم، ثم خرج إلى الخليل
بالبصرة وجلس في حلقته، وأعجبه علمه. فقال له: من أين علمك هذا قال من
بوادي الحجاز ونجد وتهامة فخرج إليها، وأنفد خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة
عن العرب سوى ما حفظ عنهم. ولما رجع من البادية وجه إليه المهدي فخرج إلى
بغداد فحظي عنده وضمه إلى حاشية ابنه الرشيد، ثم جعله الرشيد مؤدب ولده
الأمين، فكان يجلسه هو والقاضي محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة على كرسيين
متميزين بحضرته، وما زالا على هذه الكرامة حتى خرج الرشيد إلى الري وهما في
صحبته فماتا في يوم واحد فبكاهما وقال دفنت الفقه والعربية بالري وذلك سنة
189 ه? وقد انتهت إليه إمامة القراءة والعربية بالكوفة وبغداد، وكان يروي
الشعر وليس له فيه جيد نظر.
العلوم الشرعية
التفسير: لم يدون في كتب جامعة تجمع سور القرآن الكريم كلها إلا في
عصر الدولة العباسية. وكان التفسير عبارة عن نقل روايات عن النبي ( وأصحابه
تبين المراد من آياته، وأول طبقة من المفسرين أدركت الدولة العباسية أو
نشأت في صدرها طبقة سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج وإسحاق
بن راهويه ومقاتل بن وسليمان والفراء.
الحديث
أول كتاب جمع في الحديث الكتاب الذي أمر الخليفة الأموي عمر بن عبد
العزيز بتدوينه ولم يعرف له خبر بعد: ثم أخذ العلماء يدونون فيه بحض
الخليفة أبي جعفر وأولاده، فدون الإمام مالك موطأه. ولما اشتدت رغبة الناس
في طلب الحديث وضع كثير من الزنادقة واليهود المتظاهرين بالإسلام كثيراً من
الأحاديث فتجرد لها الأئمة الأعلام وبينوا صحيحها من فاسدها كإسحاق بن
راهويه وتلميذه محمد بن إسماعيل البخاري الذي دون كتابه في الأحاديث الصحاح
فقط، وتبعه تلميذه مسلم بن الحجاج، والإمام أحمد بن حنبل وأصحاب كتب السنة
الصحاح وهم: الترمذي وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. هذه هي أصول الكتب في
الحديث
الإمام البخاري
هو أبو عبد الله محمد بنم إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، إمام
المحدثين وصاحب الجامع الصحيح أجل كتب الإسلام بعد كتاب الله العزيز.
ولد ببخارى من سلالة فارسية سنة 194 ه? ونشأ بها يتيماً فحفظ القرآن
وألم بالعربية وهو صبي وحبب إليه سماع الحديث فكان أول سماعه من علماء
بخارى وهو لم يناهز البلوغ حتى حفظ عشرات الألوف من الأحاديث ودخل من أجله
أكثر ممالك المشرق وأخذ عنه علماؤها وأئمتها ومنهم أحمد بن حنبل. وتفقه على
مذهب الشافعي واستخرج كتابه "الجامع الصحيح" من ستمائة ألف حديث في ست عشرة
سنة جمع فيه تسعة آلاف حديث مكرر بعضها بتكرر وجوهها وقال إني جعلته بيني
وبين الله فأجمع علماء السنة على أنه لم يكن فيها أصح منه ومات سنة 256 ه?.
علم الفقه
لما كان المروي عن رسول الله وظاهر نص القرآن لا يستوعبان كل أحكام
الوقائع المختلفة المتجددة بتجدد الزمان والمكان كان الاجتهاد ضرورياً في
الدين وجاءت الدولة العباسية وأهل الحجاز يرجحون جانب الأخذ بالحديث لكثرة
رواته بينهم، وإمامهم في مذهبهم مالك بن أنس، وأهل العراق يرجحون جانب
الأخذ بالقياس، وإمامهم في مذهبهم أبو حنيفة لكثرة ما وضعه متزندقة العراق
في الحديث ثم لما دخل أهل الحجاز العراق وتساوى الفريقان في معرفة الأحاديث
عملوا بهما، ونشأ من ذلك عدة مذاهب أشهرها مذهب أبي حنيفة، ومذهب مالك،
ومذهب الشافعي، ومذهب أحمد بن حنبل، وهذه المذاهب الأربعة هي التي ارتضاها
معظم الأمة في أمر دينها ودنياها ثم كان لكل مذهب أئمة مجتهدون فيه:
الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان
هو الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت فقيه العراق. ولد سنة
80 ه? من سلالة فارسية ونشأ بالكوفة بعض الصاحبة وأخذ كل علمه عمن شافه
الصحابة ونقل عنهم، وكان من أعبد الناس وأكثرهم تهجداً وقراءة للقرآن
الكريم وأكثرهم ورعاً وتوخياً للكسب من وجه حل، رضي أن يعيش تاجر خز ورغب
عن وظائف الملوك والخلفاء، وعرض عليه القضاء من قبل أمراء بني أمية ثم
المنصور فأبى فسجنه وآذاه حتى قيل أنه مات في سجنه وكان يعتذر بأنه لا يأمن
نفسه أن تزل وقرأ عليه الكوفة وبغداد وتخرج عليه منها الأئمة من أصحاب
كمحمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر، ومات ببغداد سنة 150 ه? واستنباط فقهه من
القرآن والحديث مع استعمال الرأي والقياس.
الإمام مالك
هو أبو عبد الله مالك بن أنس أمام دار الهجرة وسيد فقهاء الحجاز من
سلالة عربية ولد سنة 95 ه? بالمدينة المنورة ونشأ بها وأدرك خيار التابعين
ومن الفقهاء والعباد ورحل إليهم وأخذ عنهم وما زال يدأب في التحصيل وجمع
السنة حتى صار حجة من حجج الله في أرضه وضرب به المثل فقيل: (لا يفتى ومالك
بالمدينة) وعرف الخلفاء قدره فأجلوه، حتى أن الرشيد رحل هو وأولاده إليه
بالحجاز ليسمع موطأه فسمعه وأغدق عليه. وكان مالك أول أمره فقيراً فلما
كثرت منح الخلفاء له حسن حالة فالظهر نعمة الله عليه ووصل أهل العلم
وأشركهم في ماله ومنهم الشافعي. وأخلاقه: من الكرم والطلاقة والوقار والنبل
والتواضع والحب لرسول الله عليه الصلاة والسلام تجل عن الوصف حتى أنه كان
لا يركب دابة في المدينة إجلالاً لأرض ضمت جسد رسول الله وتوفي سنة 179
بالمدينة ودفن بالبقيع.
الإمام الشافعي
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع. عالم
قريش وفجرها وإمام الشريعة وحبرها، وهو من ولد المطلب بن عبد مناف ولد
بمدينة غزة سنة 150 ه? وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بها فقيراً تربيه
أمه ويواسيه ذوو قرابته من قريش، حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين وأولع بالنحو
والشعر واللغة ورحل إلى البادية في تطلبها ولم يناهز سن البلوغ حتى حفظ
منها شيئاً كثيراً، ثم تفقه وحفظ موطأ مالك وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة. ثم
رحل في هذه السن إلى مالك وقرا عليه الموطأ من حفظه فقال مالك: إن يكن أحد
يفلح فهذا الغلام. وأضافه وخدمه بنفسه. ثم رجع إلى مكة، وعلم بها العربية
والفقه، وصحح عليه الأصمعي شعر الهذليين ثم دخل بغداد سنة 195 فاجتمع عليه
علماؤها وأخذوا عنه. وفي سنة 199 أو سنة 200 ه? خرج إلى مصر وسكن الفسطاط
فكانت دار هجرته، وبها أملى مذهبه بجامع عمرو، وتوفي سنة 204ه?.
الإمام أحمد بن حنبل
هو الإمام الصابر المحتسب أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ولد
ببغداد من سلالة عربية سنة 164 فتعلم العلم وطلب الحديث وسمع من أئمة وقته
حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث وأختار منها نيفاً وأربعين ألف حديث ضمنها
كتابه المسند، واستنبط مذهبه من السنة مشوباً بشيء من القياس والرأي وظهرت
في مدته فتنة خلق القرآن، فامتحن بها في مجلس المعتصم ليجيبهم إلى القول
بخلق القرآن فلم يفعل، فضرب حتى أغمي عليه، ثم عوفي واشتغل بالعلم والتعليم
ببغداد حتى مات سنة 241 ه?.
علم الكلام
كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يستدلون على عقائدهم بظاهر
الكتاب والسنة. وما وقع فيهما من المتشابه أو أوهم التشبيه المنافي لتنزيه
المعبود توقفوا فيه خوف أن يحيد بهم فهمهم في التأويل عن القصد. غير أن ذلك
لم يقنع من دخل في الإسلام فكثر جدلهم واضطر العلماء أن يعارضوهم وساعدهم
الخلفاء وأولهم المهدي الذي حرضهم على تدوين علم الكلام "التوحيد" فافترق
المرضي عن مذهبهم من علماء الكلام فرقتين، فرقة اعتقدت ما يقرب من مذهب
السلف وسموا الجماعية أو أصحاب الحديث، وفرقة اعتزلها وخالفتها في بعض
المسائل وسموا المعتزلة أو أصحاب العدل، وجرى رجال الحكومة العباسية على
هذا المذهب ونصروه، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فألف مذهبه الكلامي الذي سمي
بعد بمذهب الأشاعرة وغلب على كل مذهب شواء إلا بعض مذاهب قليلة كمذهب
الشيعة "وبقي كثير منها إلى الآن" ومذاهب الخوارج وبقي منهم إلى عصرنا بقية
في الجبل الأخضر من برقة، وفي جزيرة جربة على ساحل تونس وببلاد البحرين.
أبو الحسن الأشعري
هو أبو الحسن علي بن إسماعيل شيخ طريقة أهل السنة والجماعة وإمام
المتكلمين ولد بالبصرة سنة 260 ه?، ونشأ علم الكلام عن أبي علي الجبائي شيخ
المعتزلة وتبعه في الاعتزال، واحتج له حتى صار لسان المعتزلة أكثر من
ثلاثين عاماً، ثم هداه البحث. فرأى أن كلا الفريقين من هؤلاء ومن المعتزلة
غال في نظره، فتوسط وتغيب عن الناس مدة ألف فيها كتبه في نصرة أهل السنة
والرد على أكثر عقائد المعتزلة؛ وكان شافعي المذهب، توفي سنة 324 ه? وممن
نصر مذهبه الفجر الرازي والغزالي وقاربه في مذهبه القاضي أبو منصور
الماتريدي.
الإمام الغزالي
هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي الشافعي حجة الإسلام ولذ
سنة 450 ه?? ونشأ بطوس وتعلم بها مبادئ العلوم ثم رحل إلى نيسابور، ولازم
إمام الحرمين الجويني وهو يومئذ عالم الشافعية في الشرق فما زال يتلقى عنه
العلم حتى صار من أكابر متكلمي الأشاعرة وفقهاء الشافعية. ولما مات الجويني
ذهب إلى بغداد ولقي الوزير نظام الملك صاحب المدرسة النظامية الشهيرة وناظر
بحضرته العلماء فظهر عليهم وأقر له فحول العراق بالفضل فتولى التدريس
بالمدرسة النظامية أربع سنوات، ثم حج وذهب إلى الشام يدرس ويسيح لزيارة بعض
مشاهد أنبيائها ثم دخل مصر وأقام بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى موطنه طوس
واشتغل بتأليف الكتب الجليلة التي في مقدمتها كتاب "إحياء علوم الدين" ثم
لزم التدريس بنيسابور ثم عاد إلى موطنه حيث مضى بقية عمره بين التدريس ووعظ
الصوفية وعمل البر حتى مات بطوس سنة 505 ه?.
نشأة العلوم الكونية المنقولة وترجمتها وأشهر
المترجمين والمشتغلين بها
وكانت تسمى علوم الفلسفة والحكمة وتشمل أربعة علوم: المنطق،
والطبيعيات، والرياضيات، والإليهات، وتشمل الطبيعيات علم الطبيعة والكيمياء
وفن المواليد الثلاثة والطب والصيدلة والفلاحة.
وتشمل الرياضيات علم الحساب وعلم الجبر وعلم الهندسة وعلم الآلات
والحيل (الميكانيكا) وعلم الفلك الشامل للهيئة والتنجيم، ومن متعلقاته علم
الجغرافيا الرياضية. ويلحق بهذه العلوم علم السياسة وتدبير المنزل والمال
وعلم الأخلاق والموسيقى: وتشمل الإلهيات علم ما وراء الطبيعة من الروحانيات
والمدركات العقلية كالبحث عن صفات الخالق والقوى النفسية والجن والملائكة
ونحو ذلك.
وهذه العلوم فطرية في الإنسان من حيث أنه متفكر متمدين لا تختص بها
أمة دون أخرى فكان الاشتغال بها ضرورياً لكل أمة أصبحت ذات حضارة ولذلك
ترجم المسلمون يعضها في عصر بني أمية، واستقدم المنصور العباسي كثيراً من
الأطباء والمترجمين، فترجموا له كتب اليونان والفرس والهنود في الطب والفلك
والسياسة، ولما مات المنصور فتر أمر الترجمة إلى زمن الرشيد والبرامكة
فحثوا العلماء على ترجمة الكتب اليونانية وصححوا بعض ما ترجم زمن المنصور،
ثم جاء عصر المأمون فزخرت بحور الترجمة الترجمة، وبعث إلى بلاد الروم جماعة
من المترجمين كابن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة والحجاج بن مطر وحنين بن
إسحاق فاختاروا كتباً حملوها إلى بغداد وترجمت وتعلمها الناس وصححوا
أغلاطها واستدركوا عليها ولم يمض قرن من تأسيس الدولة العباسية حتى برع
المسلمون في هذا العلوم كلها، وظهر منهم من الحكماء والفلاسفة من كاد يلحق
فلاسفة اليونان. ومن هؤلاء فيلسوف الإسلام والعرب أبو يوسف يعقوب بن إسحاق
بن الصباح الكندي وتلميذه أحمد بن الطيب السرخسي وبنو موسى بن شاكر محمد
وأحمد والحسن أشهر رياضي هذا العصر، وأول المخترعين من المسلمين في الحيل
والهندسة، ومحمد بن موسى الخوارزمي مخترع علم الجبر والمقابلة. ومذيع
الحساب الهندي بين العرب.
ثم ذهب طور الترجمة والتصحيح. وتلاه طور التأليف والتكميل والاختراع
فأتى فيه بالعجب العجاب أبو نصر محمد بن محمد طرخان الفارابي الحكيم الكبير
مخترع آلة الطرب المسماة بالقانون، والتي استنبط الإفرنج بمحاكاتها آلة
المعزف (البيانو) المتوفى سنة 339 ه? وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب
الكيميائي الشهير المتوفى سنة 313 ه? والشيخ الرئيس حكيم المشرق أبو علي
الحسين بن سينا المتوفى سنة 428 ه? وأبو الريحان احمد بن محمد البيروني
الفلكي الرياضي المقوم المتوفى سنة 430 ه?.
وكان لدولة الفواطم في مصر اشتغال بهذه العلوم فاشتهر في دولتهم في
الفلك والرياضيات ابن يونس، وفي الطب ابن رضوان وغيرهما، ولم يعن أهل
الأندلس بهذه العلوم عناية أهل المشرق، وأشهر من نبع منهم فيها أبو الوليد
القاضي أحمد بن رشد وأبو القاسم الزهراوي، ومن كتب هؤلاء الأئمة وأمثالهم
اقتبس أهل (أوربا) كثيراً من أصول مدينتهم الحاضرة.
الشعر والشعراء
قد كان للشعر عند الخلفاء والوزراء والقواد سوق نافقة حتى عند رؤساء
الأعاجم من الديلم والترك، ودام كذلك إلى انتهاء الدولة العباسية. وبهذه
العناية العظيمة بل وكثرة قائليه ومنتحليه تفنن الناس وأدخلوا عليه فنوناً
لم تعهد فيه واستعملوه في كل غرض حتى التعبد به، وتشكل أسلوبه وتنوعت
معانيه بما يطابق أغراض استعماله.
ولم يقصر الشعر على الموالي في صدر الدولة العباسية كالكتابة، بل
اشتركوا فيه هم وغيرهم من أعراب البادية أحياناً ومن سلائل العرب بالأمصار
أخرى، غير أن بضعة من فحول صدر الدولة كانوا موالي مثل بشار، وأبي نواس،
ومسلم، وأبي العتاهية، وابن الرومي.
ومن أشهر شعراء الأمصار من العرب أبو تمام، والبحتري، وابن المعتز،
والمتنبي، وأبو فراس، وأبو العلاء المعري، وابن هانئ الأندلسي، والشريف
الرضي.
بشار بن برد
هو أبو معاذ بشار المرعث بن برد: اشعر مخضومي الدولتين ورأس الشعراء
المحدثين، وممهد طريق الاختراع والبديع للمتفننين، وأحد البلغاء المكفوفين.
وأصله من فرس طخارستان من سبي المهلب بن أبي صفرة فنشأ بشار فيهم وأختلف
إلى الأعراب الضاربين بالبصرة حتى خرج نابغة زمانه في الفصاحة والشعر، وكان
أكمه مجدور الوجه قبيح المنظر، مفرط الطول، ضخم الجثة، متوقد الذكاء، لا
يسلم من لسانه خليفة ولا سوقة، لا يألف ولا يؤلف.
شعره: قد أجمع رواة الشعر ونقدته على أن بشاراً هو رأس المحدثين
وأسبقهم إلى معاطاة البديع وطرق أبواب المجون والخلاعة والغزل والهجاء وأنه
أول من جمع في شعره بين جزالة العرب ورقة وفتق عن المعاني الدقيقة والأخيلة
اللطيفة حتى عد شعره برزخاً بين الشعر القديم والحديث ومجازاً يعبر عليه
الشعر من مرابع البدواة إلى مقاصير الحضارة، ومات سنة 167 ه?.
ومن شعره في المشورة والحكم والنصائح:
إذا بلغ الرأيُ المشورةَ فاستعن
برأي نصيحٍ أو نصيحةِ حازم
ولا تجعل الشُّورى عليك غضاضةً
فإن الخوافي قوةٌ للقوادم
وما خيرُ كفّ أمسك الغلُّ أختها
وما خيرُ سيفٍ لم يؤيّد بقائم
وخلّ الهوينى للضعيف ولا تكن
نؤوماً فإنّ الحرِّ ليس بنائم
وقوله:
إذا كنتَ في كلّ الأمور معاتباً
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبهْ
فعش واحداً أو صلْ أخاك فإنه
مقارفُ ذنب مرَّةً ومجانبهْ
إذا أنت لم تشربْ مراراً على القذى
ظمئتَ وأي الناس تصفو مشاربه
وقوله:
خليليَّ إن المالَ ليس بنافع
إذا لم ينلْ منه أخٌ وصديقُ
وكنتُ إذا ضاقت عليَّ محلة
تيمّمت أخرى ما عليَّ مضيقُ
وما خاب بين الله والناس عاملٌ
له في التقى أو في المحامد سوق
وما ضاق فضلُ الله عن متعفِّف
ولكنَّ أخلاقَ الرجال تضيق
أبو نواس
هو أبو علي الحسن بن هانئ، الشاعر المتفنن الجاد الماجن، صاحب الصيت
الطائر، والشعر السائر، ورأس المحدثين بعد بشار، وهو فارسي الأصل.
ولد بقرية من كورة خوذستان سنة 146 ه? ونشأ يتيماً فقدمت به أمه
البصرة بعد سنتين من مولده فتعلم العربية ورغب في الأدب فلم تعبأ أمه بحاله
وأسلمته إلى عطار بالبصرة، فمكث عنده لا يفتر عن معاناة الشعر إلى أن صادفه
عند العطار "والبة بن الحباب" الشاعر الماجن الكوفي في إحدى قدماته إلى
البصرة فأعجب كل منهما بالآخر، فأخرجه والبة معه إلى الكوفة فبقي معه ومع
ندمائه من خلعاء الكوفة، وتخرج عليهم في الشعر وفاقهم جميعاً، وبلغ خبره
الرشيد فأذن له في مدحه فمدحه بقصائد طنانة، ثم انقطع إلى مدح محمد الأمين
وثبت عنده بعض ما يوجب تعزيره فسجنه ولم يلبث بعد خروجه من السجن أن مات
ببغداد سنة 198 ه?.
وكان أبو نواس جميل الصورة فكه المحضر، كثير الدعابة، حاضر البديهة،
متيناً في اللغة والشعر والأدب.
شعره: أكثر علماء الشعر ونقدته وفحول الشعراء على أن أبا نواس أشعر
المحدثين بعد بشار وأكثرهم تفنناً وأبدعهم خيالاً مع دقة لفظ وبديع معنى
وأنه شاعر مطبوع برزفي كل فن من فنون الشعر، وامتاز من كل الشعراء بقصائد
الخمريات ومقطعاته المجونيات. وكان شعره لقاح الفساد والقدوة السيئة لنقله
الغزل من أوصاف المؤنث إلى المذكر.
ومن قوله لما حضرته الوفاة:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلاَّ محسنٌ
فبمن يلوذُ ويستجير المجرمُ
أدعوك ربّ كما أمرت تضرُّعا
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ؟
مالي إليك وسيلة إلاّ الرّجا
وجميلُ عفوك ثم إني مسلمُ
مسلم بن الوليد
هو صريع الغواني أبو الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري، أحد الشعراء
المفلقين. قال الشعر في صباه ولم يتجاوز به الأمراء والرؤساء مكتفياً بما
يناله من قليل العطاء، ثم انقطع إلى يزيد بن مزيد الشيباني قائد الرشيد، ثم
اتصل بالخليفة هارون الرشيد ومدحه ومدح البرامكة وحسن رأيهم فيه ولما أصبح
الحل والعقد بيد ذي الرياستين: الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته،
قربه وأدناه وولاه أعمالاً بجرجان، ثم الضياع بأصبهان. ولما قتل الفضل لزم
منزلة ونسك ولم يمدح أحداً حتى مات بجرجان سنة 208 ه?.
شعره: قد تكلف البديع في شعره واستكثر منه في قوله، ومزج كلام
البدويين بكلام الحضريين فضمنه المعاني اللطيفة وكساه الألفاظ الظريفة. فله
جزالة البدويتين ورقة الحضريين.
ومن جيد قوله:
تجودُ بالنَّفس إن ضنَّ الجوادُ بها
والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجود
أبو العتاهية
هو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد، أطبع أهل زمانه شعراً
وأكثرهم قولاً وأسهلهم لفظاً وأسرعهم بديهة وارتجالاً وأول من فتح للشعراء
باب الوعظ والتزهيد في الدنيا والنهي عن الاغترار بها وأكثر من الحكمة.
ولد بالكوفة سنة 130 ه? ونسا في عمل أهله وكانوا باعة جرار إلا أنه
ربا بنفسه عن عملهم. وقال الشعر في صباه وامتزج بلحمه ودمه فذاع صيته وسلك
طريق خلعاء الكوفة ثم قدم بغداد ومدح المهدي. ثم عرضت له حال امتنع فيها عن
قول الشعر حتى حبسه الرشيد لعدم تلبيته ما اقترحه علي من القول فيه ثم
أطلقه بعد أن أجاب طلبته وعاد إلى قول الشعر على عادته فيه، وترك الغزل
والهجاء وبقي على ذلك مدة الرشيد والأمين وأكثر أيام المأمون حتى مات سنة
211 ه? ببغداد ومن شعره يمدح المهدي:
أتته الخلافةُ منقادةً
إليه تجررُ أذيالها
فلم تك تصلح إلاَّ له
ولم يكُ يصلح إلاَّ لها
ولو رامها أحدٌ غيره
لزلزلتِ الأرضُ زلزالها
ولو لم تطعهُ بناتُ القلو
ب لما قبلَ الله أعمالها
وأن الخليفة من بغضِ لا
إليه ليبغضُ من قالها
وكتب على البديهة في ظهر كتاب:
ألا إنّنا كلّنا بائدُ
وأيُّ بني آدمِ خالدُ
وبدؤهم كان من ربهمْ
وكلٌّ إلى ربّه عائدُ
فيا عجباً كيف يعصي الإل
ه أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كلّ تحريكة
وفي كلّ تسكينةٍ شاهدُ
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ
تدلُّ على أنهُ واحدُ
أبو تمام
هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي أسبق ثلاثة الشعراء الذين سارت
بذكرهم الركبان. وخلد شعرهم الزمان. ثانيهم البحتري، وثالثهم المتنبيء ولد
سنة 190 ه? بقرية جاسم من أعمال دمشق ونقل صغيراً إلى مصر فنشأ بها فقيراً
وكان يسقي الماء بالجرة في جامع عمرو. وتعلم العربية وحفظ ما لا يحصى من
شعر العرب ونبغ في قوله، ثم خرج إلى مقر الخلافة فمدح المعتصم وحظي عنده
ومدح وزيره محمد بن الزيات والحسن بن وهب الذي ولاه بريد المصل فأقام بها
إلى أن مات سنة 231 ه?.
شعره: يعد أبو تمام رأس الطبقة الثالثة من المحدثين، انتهت إليه
معاني المتقدمين والمتأخرين وظهر والدنيا قد ملئت بترجمة علوم والأوائل
وحكمتها فحصف عقله ولطف خياله بالاطلاع عليها. وهو الذي مهد طريق الحكم
والأمثال للمتنبي وأبي العلاء وغيرهما، ولذلك كان يقال إن أبا تمام
والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري.
وأجاد أبو تمام في كل فن من فنون الشعر، أما مراثيه فلم يعلق بها
أحد جاش صدره بشعر، وأشهرها القصيدة التي رثي بها محمد بن الطائي ومنها:
كذا فخليلَّ الخطبُ وليفدحِ الأمرُ
فليسَ لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
توفيتِ الآمالُ بعد محمد
وأصبح في شغلٍ عن السَّفر السفرُ
وما كان إلاَّ مالَ من قلّ ماله
وذخراً لمن أمس وليس له ذخر
وما كان يدري مجتدى جودٍ كفه
إذا ما استهلّتْ أنهُ خلق العسرُ
ألا في سبيل الله من عطّلت له
فجاجُ سبيل الله وانثغرَ الثغرُ
فتى كلّما فاضت عيون قبيلة
دماً ضحكت عنهُ الأحاديث والذكر
فتى دهره شطران فيما ينوبه
ففي بأسه شطر وفي جوده شطر
فتى مات بين الطَّعن والضرب ميتة
تقوم مقامَ النصر إنْ فاته النصرُ
وما مات حتى مات مضربُ سيفه
من الضرب واعتلّت عليه القنا السُّمر
وقد كان فوتُ الموت سهلاً فرّده
إليه الحفاظ المرُّ والخلقُ الوعرُ
ونفسٌ تعاف العارَ حتى كأنما
هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر
فأثبتَ في مستنقع الموت رجله
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
غدا غدوة والحمد نسج ردائه
فلم ينصرف إلا وأكفانهُ الأجر
البحتري
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي أشعر الشعراء بعد أبي نواس ولد
سنة 206 ه? بناحية منبج في قبائل طي وغيرها من البدو الضاربين في شواطئ
الفرات ونشأ بينهم فغلبت عليه فصاحة العرب وخرج إلى العراف وأقام في خدمة
المتوكل والفتح بن خاقان محترماً عندهما إلى قتلا في مجلس كان هو حاضرة
فرجع إلى منبج، وبقي يختلف أحياناً إلى رؤساء بغداد وسر من رأى حتى مات سنة
284 ه?: وكان على فضله وفصاحته من أبخل خلق الله وأوسخهم ثوباً وأكثرهم
فخراً بشعره حتى كان يقول إذا أعجبه شعره أحسنت والله، ويقول للمستمعين: ما
لكم لا تقولون أحسنت. والكثير على أنه لم يأت بعد أبي نواس من هو أشعر من
البحتري، ولا بعد البحتري من هو أطبع منه على الشعر ولا أبدع منه في الخيال
الشعري.
شعره: كله بديع المعنى حسن الديباجة صقيل اللفظ، سلس الأسلوب كأنه
سيل ينحدر إلى الأسماع مجوداً في كل غرض سوى الهجاء ولذلك اعتبره كثير من
أهل الأدب هو الشاعر الحقيقي واعتبروا أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري
حكماء، ولسهولة شعره ورقته كان أكثر الأصوات التي يتغنى بها في زمنه من
شعره المطبوع في ديوان حافل. ومن قوله يمدح الخليفة المتوكل ويصف موكب
خروجه لصلاة عيد الفطر وخطبته في الناس:
بالبرِّ صمتَ وأنتَ أفضل صائم
وبسنَّة الله الرَّضيَّة تفطر
فانعمْ بيوم الفطر عيدا إنهُ
يوم أغرُّ من الزمان مشهَّرُ
أظهرتَ عز الملك فيه بجحفل
لجبِ يحاطُ الدّينُ فيه وينصرُ
خلنا الجبالَ تسير فيه وقد غدتْ
عدداً يسير بها العديدُ الأكثرُ
فالخيلُ تصهلُ والفوارسُ تدّعي
والبيض تلمع والأسنّةُ تزهرُ
والأرضُ خاشعةٌ تميد بثقلها
والجوُّ معتكرُ الجوانب أغبرُ
والشمس طالعة توقّدُ في الضحى
طوراً ويطفئها العجاجُ الأكدرُ
حتى طلعتَ بضوء وجهك فانجلى
ذاك الدُّجى وإنجاب ذاك العثيرُ
فافتنّ فيك الناظرون فإصبعٌ
يوماً إليك بها وعينٌ تنظرُ
يجدون رؤيتك التي فازوا بها
من أنعمِ الله الَّتي لا تكفرُ
ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا
لما طلعتَ من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيتَ إلى المصلّى لابساً
نورَ الهدى يبدو عليكَ ويظهرُ
ومشيتَ مشية خاشع متواضعِ
لله لا يزهى ولا يتكبَّرُ
فلوَ أن مشتاقاً تكلّف فوق ما
في وسعه لسعى إليك المنبرُ
أبديتَ من فصل الخطاب بحكمة
تنبي عن الحق المبين وتخبرُ
ووقفتَ في براد النبيّ مذكّراً
بالله تنذر تارة وتبشِّرُ
ابن الرومي
هو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج الرومي مولى بني العباس الشاعر
المكثر المطبوع، صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، والمعاني المخترعة
والأهاجي المقذعة.
ولد ببغداد سنة 221 ه? ونشأ بها، وأقام كل حياته، وكان كثير التطير
جداً وكان القاسم بن عبيد الله وزير المعتز يخاف هجوه وفلتات لسانه فسلط
عليه من دس له السم في الدسم إلى أن مات سنة 283 ه? ببغداد ه? وآثاره في
أبواب هذا الكتاب.
شعره: قاله في كل غرض ولا سيما الوصف والهجاء، ونبغ في الشعر نبوغاً
لم يقصر به كثيراً عن درجة البحتري، وربما فاقه في اختراع المعاني النادرة
أو توليدها من معاني من سبقه بشكل جديد، ووضعها في أحسن قالب، وله ديوان
كبير.
ابن المعتز
هو أمير المؤمنين أبو العباس عبد الله بن أمير المؤمنين محمد المعتز
بالله أشعر بني هاشم، وأبرع الناس في الأوصاف والتشبيهات.
ولد سنة 249 ه? في بيت الخلافة، وتربى تربية الملوك وأخذ عن المبرد
وثعلب ومهر في كل علم يعرفه أئمة عصره وفلاسفة دهره حتى هابه وزراء الدولة
وشيخ كتابها وعملوا على أن لا يقلدوه الخلافة خشية أن يكف أيديهم عن
الاستبداد بالملك، وولوا المقتدر صبياً، ثم حدثت فتن عظيمة فتسرع محمد بن
داود بن الجراح وجمع العلماء وخلعوا المقتدر، وبايعوا ابن المعتز بالخلافة
على غير طلب منه. فلما رأى غلمان المقتدر أن الأمر سيخرج من أيديهم تآمروا
على قتله وخنق من ليلته سنة 296 ه?، وآثاره متفرقة في هذا الكتاب.
أبو الطيب المتنبي
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي المتنبي الشاعر
الحكيم، وخاتم ثلاثة الشعراء، وآخر من بلغ شعره غاية الارتقاء.
وهو من سلالة عربية من قبيلة جعفي بن سعد العشيرة إحدى قبائل
اليمانية. ولد بالكوفة سنة 303 ه? في محلة كندة ونشأ بها وأولع بتعلم
العربية من صباه وكان أبوه سقاء فخرج به إلى الشام ورأى أبو الطيب أن
استتمام علمه باللغة والشعر لا يكون إلا بالمعيشة في البادية فخرج إلى
بادية بني كلب فأقام بينهم مدة ينشدهم من شعره وبأخذ عنهم اللغة فعظم شأنه
بينهم. وكانت الأعراب الضاربون بمشارف الشام شديدي الشغف على ولاتها فوشى
بعضهم إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية بأن أبا الطيب ادعى النبوة في
بني كلب وتبعه منهم خلق كثير ويخشى على ملك الشام منه. فخرج لؤلؤ إلى بني
كلب وحاربهم وقبض على المتنبي وسجنه طويلاً ثم استتابه وأطلقه.
فخرج من السجن وقد لصق به اسم المتنبي مع كراهته له. ثم تكسب بالشعر
مدة انتهت بلحاقه بسيف الدولة بن حمدان فمدحه بما خلد اسمه أبد الدهر.
وتعلم منه الفروسية وحضر معه وقائعه العظيمة مع الروم حتى عد من أبطال
القتال رجاء أن يكون صاحب دولة.
ثم قصد كافوراً الأخشيدي أمير مصر ومدحه ووعده كافور أن يقلده أمارة
أو ولاية، ولكنه لما رأى تغاليه في شعره وفخر بنفسه عدل أن يوليه. وعاتبه
بعضهم في ذلك فقال: يل قوم، من ادعى النبوة بعد محمد ( أما يدعي المملكة
بعد كافور، فحسبكم فعاتبه أبو الطيب واستأذن في الخروج من مصر فأبى. فتغفله
في ليلة عيد النحر وخرج منها يريد الكوفة ومنها قصد عضد الدولة بن بويه
بفارس ماراً ببغداد فمدحه ومدح وزيره ابن العميد فأجزل صلته وعاد إلى
بغداد. وخرج إلى الكوفة فخرج عليه إعراب بني ضبة وفيهم فاتك بن أبي جهل،
وكان المتنبي قد هجاه هجاء مقذعاً فقاتلهم قتالاً شديداً حتى قتل المتنبي
وابنه وغلامه سنة 354 ه???.
شعره: لا خلاف عند أهل الأدب في أنه لم ينبغ بعد المتنبي في الشعر
من بلغ شأوه أو داناه. والمعري على بعد غوره وفرط ذكائه وتوقد خاطره وشدة
تعمقه في المعاني والتصورات الفلسفية يعترف بأبي الطيب ويقدمه على نفسه
وغيره. ومن قوله:
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً
فلا تظنَّنَّ أن الليثَ يبتسمُ
أعيذها نظراتٍ منك صادقةَ
أن تحسبَ الشحم فيمن شحمهُ ورم
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرةٍ
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ
إن كانَ سرَّكم ما قال حاسدنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ
وبيننا لو رعيتمْ ذاك معرفة
أن المعارفَ في أهل النّهى ذممُ
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرمُ
إذا ترحلتَ عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهمْ فالراحلون همُ
ومن قوله:
ذو العقلِ يشقى في النّعيم بعقله
وأخو الجهالةِ في الشقّاوة ينعمُ
لا يخدعنكَ من عدوًّ دمعهُ
وارحمْ شبابك من عدوًّ ترحمُ
لا يسلم الشرفُ الرفيعُ من الأذى
حتى يراقَ على جوانبه الدّمُ
والظلمُ من شيمِ النفوس فإن تجدْ
ذا عفَّة فلعلَّة لا يظلم
ومن البليّة عذلُ من لا يرعوي
عن غيّة وخطابُ من لا يفهم
ومن العداوة ما ينالك نفعة
ومن الصّداقة ما يضرُّ ويؤلم
ومن قوله:
ما كنت أحسبُ قبل دفنك في الثَّرى
أن الكواكبَ في التراب تموزُ
ما كنت آملُ قبل نعيك أن أرى
رضوى على أيدي الرجال يسير
خرجوا به ولكلّ باكٍ حوله
صعقاتُ موسى يومَ دكَّ الطُّور
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه
في كل قلب موجدٍ محفور
كفلَ الثناءُ له بردّ حياتهِ
لمَّا انطوى فكأنه منشور
ابن هانئ الأندلسي
هو أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي شاعر الغرب ومتنبيه
والمؤثر فخامة ألفاظه على رقة معانيه، وأحد المفرطين في غلو المدح واستعمال
الاستعارة والتشبيه.
ولد بأشبيلية 326 ه? ولما نبه شأنه اتصل بعامل أشبيلية زمن المستنصر
الأموي، ومدحه بغرر القصائد فأحله منه منزلة سنية وأغدق عليه العطايا فأكب
على اللهو والطرب والاستهتار، واتهم بالزندقة والكفر لاشتغاله بالفلسفة.
ولما شاع ذلك عنه نقمة أهل أشبيلية وأشركوا عاملها في التهمة وكادوا
يهمون به فأشار عليه بالهجرة متن أشبيلية فاختار البحر إلى عدوة المغرب
ومدح ولاته من قبل المعز الفاطمي، ثم نمي خبره إلى المعز فوجه في طلبه فوفد
عليه بأفريقية ومدحه فاصطفاه واتخذ شاعر دولته.
ولما فتح جوهر مصر وبنى القاهرة ورحل إليها المعز ليتخذها دار ملكه
شيعه ابن هانئ، ورجع لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه، فلما وصل إلى
برقة مات بها سنة 362 ه?، وعمره 36 سنة.
شعره: لم ينبغ في شعراء جزيرة الأندلس ولا بر المغرب جميعهما من
يفوق ابن هانئ في صناعة الشعر أو يساويه فقد كان عندهم في الشهرة والإجادة
وشرف الشعر بمنزلة المتنبي عند المشارقة ويسميه كثير من الأدباء بمتنبي
المغرب.
ومن قوله في وصف الخيل:
وصواهلٍ لا الهضبُ يوم مغارها
هضبٌ ولا البيدُ الحزون حزون
عرفتْ بساعة سبقها لا أنها
علقتْ بها يومَ الرّهان عيون
وأجلُّ علم البرق فيها أنها
مرّت بجانحتيهِ وهي ظنون
ومن قوله الموهم الكفر في مطلع قصيدة يمدح بها المعز:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكم فأنت الواحدُ القهّار
أبو العلاء المعري
هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري التنوخي الشاعر
الفيلسوف المتفنن: وهو عربي النسب منى قبيلة تنوخ من بطون قضاعة من بيت علم
وقضاء.
ولد بمعرة النعمان سنة 363 ه? وجدر في الثالثة من عمره فكف بصره
وتعلم على أبيه وغيره من أئمة زمانه، وكان يحفظ كل ما يسمعه من مرة: وقال
الشعر وعمره إحدى عشرة سنة، ودخل بغداد، وأقبل عليه السيد المرتضى إقبالاً
عظيماً ثم جفاه. ولما رجع إلى المعرة أقام ولم يبرح منزلة، ونسك وسمى نفسه
رهن المحبسين: محبس العمى ومحبس المنزل وبقي فيه مكباً على التدريس
والتأليف ونظم الشعر مقتنعاً بعشرات من الدنانير في العام يستغلها من عقار
له، مجتنباً أكل الحيوان وما يخرج منه مدة 45 سنة، مكتفياً بالنبات متعللاً
بأنه فقير وأنه يرحم الحيوان. وعاش عزبا إلى أن مات سنة 449 ه? بالمعرة.
وأوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي عل
يّ وما جنيتُ على أحد
شعره: وله كثير من الشعر يناقض بعضه في حقيقة العالم والشرائع
والمعبود وللناس في اعتقاده أقوال كثيرة والظاهر أنه كان شاكاً متحيراً وهو
أحكم الشعراء بعد المتنبي ويفضل عليه في الطبيعيات والاجتماعيات والأخلاق
والقوانين والفلسفة والشرائع والأديان. ومن مراثيه قوله:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوحُ باك ولا ترنُّم شادِ
وشبيهٌ صوتُ النَّعي إذا قي?
??س بصوت البشير في كل ناد
أبكتْ تلكمُ الحمامة أم غنّ
?تْ على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبرونا تملأ الرُّح
بَ فأين القبورُ من عهد عاد
خفِّف الوطء ما أظنّ أديم أل
أرض إلاّ من هذه الأجساد
وقبيحٌ بنا وإن قدم العه
د هوانُ الآباءِ والأجداد
سر إن استطعتَ في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفاتِ العباد
ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحك من تزاحمُ الأضداد
ودفينِ على بقايا وفين
في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسّا
من قبيل وآنساً من بلاد
كمْ أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلجِ في سواد
تعبٌ كلها الحياةُ فما أع
جبُ إلاّ من راغبٍ في ازياد
إنّ حزناً في ساعة الموت إضعا
فُ سرورٍ في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاءِ فضلّت
أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنما ينقلون من دار أعما
لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشاد
ومنها:
بانَ أمرُ الإله واختلف النا
س فداعٍ إلى ضلالَ وهاد
والذي حارت البريةُ فيه
حيوان مستحدثٌ من جماد
فاللبيبُ اللبيبُ من ليس يغت
رُ بكونٍ مصيره للفساد
ومن قوله:
ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةً
وحقّ لسكَّان البسيطة أن يبكوا
تحطّمنا الأيام حتى كأننا
زجاجٍ ولكن لا يعاد لنا سبك
ابن خفاجة الأندلسي
هو أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله خفاجة شاعر شرقي الأندلس واشهر
وصاف الطبيعة: ولد بجزيرة شقر من أعمال بلنسية سنة 450 فتعلم ونظم الشعر
وكتب الرسائل الإخوانية البليغة، الحوداث الجوية ومناظر الطبيعة: وله غزل
رقيق ومدح بارع ورثاء بليغ.
شعره: يمتاز بالجزالة وكثرة المعاني وازدحامها في اللفظ حتى يحتاج
في فهمها إلى التأمل على خلاف مذهب الأندلسيين في ذلك: توفي سنة 533 ه?:
ومن قوله يصف زهرة:
ومائسة تزهى وقد خلع الحيا
عليها حلّي حمراً وأودية خضراً
يذوب لها ريقُ الغمائمُ فضّةً
ويجمدُ في أعطافها ذهباً نضراً
وقوله:
يأهل أندلسٍ لله دركمُ
ماءٌ وظلٌّ وأنهارٌ وأشجارٌ
ما جنةُ الخلد إلاّ في دياركم
ولو تخيّرتُ هذي كنتُ أختارُ
لا تخشوا بعدَ ذا أنْ تدخلوا سقراً
فليس تدخلُ بعد الجنة النّارُ
الرواية والرواة
جاءت الدولة العباسية وقد اتسع نطاق الرواية واختص كل فريق من الناس
برواية شيء: فلما دونت الكتب في عصر الدولة العباسية أفرغ الرواة ما حفظوه
فيها وأخذ أمر الرواية يضمحل شيئاً فشيئاً في أكثر العلوم ولا شيما الأدب
ثم اقتصر في الرواية على تصحيح النطق والأداء: ولكل علم رواة مشهورون وقد
سبق الكلام على رواة العلوم والفنون في تاريخ وضعها.
وأما رواة الأدب والشعر خاصة فأشهرهم حماد الرواية الكوفي، وخلف
الأحمر البصري، وأبو عمرو الشيباني الكوفي، والسكري البغدادي.
ومن رواة الأدب بجميع فنونه لغة وشعراً وأخباراً أبو عمرو بن العلاء
وأبو عبيدة معمر بن المثنى، والأصمعي، وأبو زيد الأنصاري، وأبو عبيد القاسم
بن سلام، ومحمد بن سلام الجمجمي، وغيرهم. وهاك ترجمة أشهرهم في الرواية.
الأصمعي
هو شيخ رواة الأدب الإمام الثبت الحجة الثقة التقي أبو سعيد عبد
الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي أصمع الباهلي البصري. ولد سنة 123 ه?
ونشأ بالبصرة فأخذ العربية والحديث والقراءة عن أئمة البصرة وأخذ عن فصحاء
الأعراب وأكثر الخروج إلى البادية وشافه الأعراب وساكنهم وتعلم من خلف
الأحمر نقد الشعر ومعانيه وكان أحفظ أهل زمانه حتى قال مرة إني أحفظ اثني
عشر ألف أرجوزة فقال له رجل: منها البيت والبيتان. فقال: ومنها المائة
والمائتان. وعمر حتى أدرك زمن المأمون. وأراد المأمون أن يقدمه إليه فاعتذر
بكبر السن. ومات سنة 216 ه? وله مؤلفات كثيرة.
العصر الرابع عصر المماليك التركية 656 1330 ه?
حالة اللغة العربية وآدابها في ذلك العصر
لما اكتسح التتار ممالك الدولة العباسية افترقوا إلى ممالك متعددة
بآسيا وشرقي أوروبا، ولم يلبثوا أكثر من نصف قرن حتى أسلموا وشرعوا يخدمون
الإسلام: بتقريب العلماء إليهم وترغيبهم في التأليف، ففاد ذلك في إدامة
الحركة العلمية في الجملة، وإن لم يفد اللغة العربية فائدة تذكر لمكان
العجمة منهم، أما علوم العرب وأدبها فلم يكن لها مباءة ترجع إليها إلا
البلاد العربية كالشام ومصر غير أنه أصبحت اللغة التركية العثمانية هي
اللغة الرسمية للأعمال الديوانية والسياسية في جميع الممالك العثمانية،
فزاحمت اللغة العربية مزاحمة ظهر أثرها بيناً في تحرير الرسائل الديوانية
والمعاهدات السياسية، ودخل في اللغة أثناء دولتي المماليك والعثمانيين كثير
من الألفاظ التركية والفارسية:
النثر لغة التخاطب كادت تحل محل اللغة العامية العربية (في أعالي
الجزيرة وشرقي العراق) اللغة الفارسية والتركية والكردية ممزوجة بشيء من
الألفاظ العربية.
أما في بقية الجزيرة والعراق ومصر والشام فقد بقيت العامية العربية
لسان الجميع فيها حتى الملوك والسلاطين لغلبة العناصر العربية فيها. بل دون
بها بعض العلماء ونظم بها الشعراء ثم أخذت العناية بها في الانحطاط.
الخطابة
لم تتغير الخطابة هما كانت عليه أواخر الدولة العباسية من حيث
قصورها على خطب الجمع والأعياد وتلاوة بعض المرسومات والمنشورات وبقيت لغة
الخطابة العربية وحدها أو مع الترجمة إلى الأعجمية.
الكتابة الكتابة الخطية
درج الخط في هذا العصر في الطريق التي مهدها ابن مقلة وابن البواب
وياقوت الملكي وياقوت المستعصمي، واستعملت فيه أكثر أنواعه وما زال الخط
يجري في مضماره حتى قبض على عنانه مكتبو الترك العثمانيين فأبدعوا في
تحسينه بما جعل جميع العالم يعترف لهم بالسبق: ومن أشهرهم الشيخ حمد الله
الأماسي إمام الخطاطين العثمانيين، وجلال الدين، والحافظ عثمان.
الكتابة الإنشائية كتابة الرسائل
اتبعت في كتابة الرسائل أثناء هذا العصر طريقة القاضي الفاضل التي
أساسها المعاني الخيالية والتزام السجع والمحسنات البديعة وعضد هذه الطريقة
من كتاب هذا العصر شهاب الدين محمود الحلبي المتوفى سنة 755 ه?. ومحيي
الدين بن عبد الظاهر، وابن فضل الله العمري وأولاده، وبقيت هذه الطريقة
مرعية في مصر والشام حتى نهاية دولة المماليك وصدر حكومة العثمانيين. ولما
غلبت اللغة التركية العثمانية على كتابة الدواوين وأصبحت رسمية في الحواضر
والأمصار، أخذ شأن الكتابة العربية في الاضمحلال.
الكتاب
القاضي محيي الدين عبد الظاهر
هو الكاتب الشاعر عبد الله بن عبد الظاهر الجذامي المصري ولد سنة
620 ه? ورباه والده، وبرع في كتابة الرسائل سالكاً طريقة القاضي الفاضل
وخدم في ديوان الإنشاء مدة الملك الظاهر بيبرس وولديه، وبعض أيام المنصور
قلاوون ويعتبر محيي الدين وابنه محمد فتح الدين من واضعي اصطلاح الإنشاء
ونظام ديوانه الذي ظل مرعياً في مصر والشام حتى نسخة النظام التركي
العثماني، وتوفي سنة 692 ه? وله تأليف ومكاتبات سلطانية كثيرة، وله من
رسالة كتبها على لسان الملك المنصور قلاوون يرد على صاحب اليمن في تعزيته
على موت ابنه: "ولنا (والشكر لله) صبر جميل، لا نأسف معه على فائت ولا نأسى
على مفقود، وإذ علم الله (سبحانه) حسن الإستنابة إلى قضائه، والاستكانة إلى
عطائه، عوض كل يوم ما يقول المبشر به: هذا مولى مولود، وليست الإبل بأغلظ
أكباداً ممن له قلب لا يبالي بالصدمات كثرت أو قلت، ولا بالتباريح حقرت أو
جلت، ولا بالأزمات إن هي توالت أو تولت ولا بالجفون إن ألقت ما فيها من
الدموع والهجوع وتخلت ويخاف من الدهر من لا حلب أشطره، ويأسف على الفائت من
لا بات بنبإ الخطوب على أن الفادح بموت الولد الملك الصالح (رضي الله عنه)
وان كان منكياً والنافح بشجوه وإن كان مبكياً. والنائح بذلك الأسف وإن لنار
الأسف مذكياً. فإن وراء ذلك من تثبيت الله عز وجل ما ينسفه نسفاً، ومن
إلهامه الصبر ما يجدد لتمزيق القلوب أحق ما به ترفى. وبكتاب الله (تعالى)
وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) عندنا حسن اقتداء يضرب عن كل رثاء صفحاً".
شهاب الدين بن فضل الله العمري
هو الشاعر الكاتب المصنف القاضي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن يحيى
بن فضل الله العمري سليل عمر بن الخطاب، وصاحب كتاب مسالك الأبصار ولد
بمدينة دمشق سنة 700 وتفقه وتأدب على أبيه وغيره، وكان أعلم أهل القطرين
بتاريخ الملوك، وطبقات العلماء، والأدباء، وعلم وصف الأرض، فوق الفقه الذي
نال فيه مرتبة الإفتاء وتوفي سنة 749 ه?، ومن إنشائه في وصف قط زباد من
رسالة طويلة (وقط الزباد الذي لا تحكيه الأسود في صورها: ولا تسمح غزلان
المسك بما يخزنه من عرفه الطيب في سررها كم تنقل في بيوت طابت موطناً، ومشى
من دار أصحابه فقالوا: (رَبّنَا عَجّل لّنَا قِطّنَا) [ص: 16]).
ومن فصول رسائله فصل كتبه من رسالة عن لسان سلطانه إلى الشام مع
طيور صيد جوارح أرسلها إليه:
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي بسلام جميل الافتتاح، وثناء يطير إليه وكيف
لا تطير قادمة بجناح، ونعلمه أن مكاتبته المتقدمة الورود تضمنت التذكار من
الجوارح بما بقي من رسمه وجرت عادة صدقاتنا الشريفة أن تحسب في قسمه وقد
جهزنا له الآن منها ثلاثة طيور لا يبعد عليها مطار، ولا يوقد للقرى في غير
حماليقها جذوة نار: ولا تؤم طيراً إلا وترش الأرض بدمه فلا يلحق لها وهي
طائركم لها من فتك أخذ الطير من مأمنه، وسلب ما تحلى به من رياش الريش ثم
تزيا بأحسنه.
لسان الدين بن الخطيب
هو ذو الوزارتين الكاتب الشاعر. أبو عبد الله لسان الدين محمد بن
عبد الله المعروف بابن الخطيب تأدب وتفقه واجتمع له من الحكمة والأدب ملكة
يلذ بها أدباء الأندلس كتابة وشعراً وتصنيفاً وسياسة ومات سنة 776 ه?.
ومن قصار رسائله رسالة في الشوق كتبها إلى ابن خلدون وهي بعد
الديباجة (أما الشوق فحدث عن البحر ولا حرج، وأما الصبر فسل به أية
درج، بعد أن تجاوز اللوى والمنعرج، لكن الشدة تعشق الفرج، والمؤمن ينشق من
روح الله الأرج، وأني بالصبر، على إبر الدبر. بل الضرب الهبر. ومطاولة
اليوم والشهر حتى حكم القهر، وهل للعين أن تسلو سلو المقصر. عن إنسانها
المبصر، أو تذهل ذهول الزاهد. عن سرها الرائي والمشاهد. وفي الجسد مضغة
يصلح إذا صلحت فكيف حاله إن رحلت عنه ونزحت، وإذا كان الفراق هو الحمام
الأول. فعلام المعول، أعيت مراوضة الفراق على الراق، وكادت لوعة الاشتياق،
أن تفضي إلى السياق.)
تركتموني بعد تشييعكم
أوسعُ أمرَ الصبر عصيانا
أقرعُ سنّي ندماً تارةً
وأستميحُ الدمعَ أحياناً
التدوين
ألف علماء هذا العصر تأليف جمة أخلفت على العربية بعض ما أباده
التتار والصليبيون: من الكتب النفسية. ويرجع أكثر الفضل في ذلك إلى علماء
مصر والشام وجالية الأندلس. أما أعاجم المشرق وإن ألفوا في العلوم
الإسلامية والفلسفية فإن تأثير بيئتهم الأعجمية جعل كتبهم صعبة التناول
ضعيفة الأثر في تقدم اللسان العربي مما ستعرفه من أحوال العلوم ومؤلفيها.
الأدب
قد كان لأدباء القاهرة من الكتاب السبق في وضع الكتب الجامعة التي
تبحث في عدة علوم أدبية أو ملحقة بها. ومن هؤلاء:
شهاب الدين النويري
صاحب "نهاية الأرب"، وابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار،
وشهاب الدين القلقشندي صاحب صبح الأعشى. وممن ألف في الأدب بمناح مختلفة:
جمال الدين الوطواط صاحب الغرر والعرر، وشهاب الدين الحلبي صاحب منازل
الأحباب، وحسن التوسل إلى صناعة الترسل، وشهاب الدين أحمد الأبشيهي صاحب
المستطرف، والنواجي صاحب حلبة الكميت.
بقية العلوم الإسلامية
لما أباد التتار بقية العلماء والنحاة في الشرق، كاد أفق المشرق
والشام ومصر يصفر من النحاة وأهل اللغة، لولا أن تداركها الله بدخول التتار
في السلام ومعاضدتهم هم والدول التي خلفتهم للعلم والعلماء، وبجلاء بعض
كبار النحاة واللغويين من الأندلس والغرب قبيل حادث التتار وبعده. كابن
مالك، والشاطبي، وأبي حيان، وابن منظور الأفريقي، فجددوا والنحو واللغة
بمصر والشام، وتخرج عليهم تلاميذ أفاضل كانوا كواكب العصور المتأخرة،
فدونوا العلم وحفظوه لمن أتى بعدهم ممن نشؤوا في العصور المظلمة.
كتابة التدوين والتصنيف
أما كتابة التدوين فكانت في المتون ونحوها موجز جداً. وكانت في
الشروح والمطولات مبسوطة: ومن أشهر المؤلفين في هذا العصر ابن خلكان: وابن
خلدون والسيوطي: وابن مكرم:والفيروز أبادي: وعز اليدين بن عبد السلام
المتوفى سنة 660 ه?، وابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه?، وابن
هشاالجرجاني، المتوفى سنة 816، والشهاب الخفاجي. م النحوي المتوفى سنة 761
ه?، ولسان الدين بن الخطيب المتوفى 776 ه?، وسعد الدين التفتازاني المتوفى
سنة 791، والسيد
ابن خلكان
هو قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن أبي بكر
خلكان الإربلي ولد سنة 608 ه? بمدينة أربل وأقام بها إلى سنة 621 ه? فرحل
إلى حلب ومكث بها سنين ثم إلى دمشق وأقام مدة، ثم أقام بمصر وتولى القضاء
بها وفيها ألف أكثر تاريخه العظيم "وفيات الأعيان" ثم تقلبت ب الأحوال بين
مصر والشام إلى أن مات بدمشق سنة 681: وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً،
حسن المحاضرة، لطيف المعاشرة، وساع الاطلاع، شديد التحري والضبط ("وتاريخه"
"وفيات الأعيان" "وأنباء أبناء الزمان") أفضل بأيدي الناس ممن كتب التاريخ
لشدة عنايته بضبط الأعلام وأسماء البقاع والبلدان وتحقيق الحوادث بحسب
الإمكان.
ابن خلدون
هو حكيم المؤرخين، وعلم المحققين، الفقيه القاضي الكاتب الشاعر
المصنف عبد الرحمن ابن محمد المعروف بابن خلدون ولد بتونس سنة 732 ه?،
وتلقى العلم والأدب من أبيه ومن كبار العلماء، وقرأ العلوم العقلية
والفلسفية على بعض حكماء المغرب، واحترف بصناعة الكتابة وهو شاب لم يطر
شاربه، ثم وصل بعد ذلك إلى ملوك بني الأحمر فحظي عندهم حتى حسده على ذلك
صديقه لسان الدين بن الخطيب فأقلع عنها،وذهب إلى صاخب بجاية بالمغرب الأوسط
فوزر له، وبقي يتردد بين المغرب الأوسط والأقصى وأفريقية والأندلس حتى حسن
في عينه التخلي عن السياسة والانقطاع إلى العلم، فنزل إلى بعض قبائل العرب
على حدود الصحراء أربعة أعوام ألف فيها تاريخه ومقدمته التي لم ينسج أحد من
المتقدمين ولا المتأخرين على منوالها، ثم عزم على الحج فدخل مص زمن سلطانها
برقوق. ثم استقدم أهله وولده من المغرب فغرقت بهم السفينة فأقام بمصر
حزيناً، وجلس للتدريس بالجامع الأزهر، وتولى قضاء المالكية سنة 786 ه? إلى
أن مات سنة 808 ه?.
جلال الدين السيوطي
هو عبد الرحمن جلال الدين بن الإمام كمال الدين الخضيري السيوطي
العالم المحدث المفسر صاحب التصانيف المشهورة: واد سنة 849 ه? ونشأ يتيماً
وحفظ القرآن وعمره دون الثمان، ثم حفظ متون الفقه والنحو، وأخذ العلم عن
مشايخ وقته وابتدأ في التصنيف وسنه 17 سنة، ثم لازم الأشياخ وطلب العلم في
بقاع الأرض فدخل الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور ونبغ في
كثير من العلوم، ورزق التبحر في التفسير والحديث والفقه والنحو والمعان
والبيان والبديع وتولى التدريس والإفتاء ولم يكن أشهر منه في زمنه. ويعد
السيوطي من الأئمة الذين حفظوا العلم للخلف وسهلوا سبيله للمتأخرين، وقد
ترك للناس أكثر من ثلاثمائة مصنف، وتوفي ستة 911 ه? بالقاهرة.
الشعر
لما كان أكثر الملوك والأمراء في هذا العصر أعاجم بالفطرة، كان
نيلهم إلى الشعر العربي غير طبيعي، ولذلك انقرض الشعر العربي من أواسط آسيا
وبقيت صبابة منه بالعراق والجزيرة: وبقي على كل شيء من الرونق في الشام
ومصر والأندلس والمغرب، غير أنه قل التكسب به فيها، فمال أكثر الشعراء إلى
انتحال الكتابة والدواوين صناعة واستعملوا الشعر في تملق الملوك والرؤساء
وفي إظهار التفصح والتسلية فهجر قوله في الأغراض الهامة وعدل به إلى أغراض
أخرى.
الشعراء
ظهر في هذا العصر شعراء كثيرون، من أشهرهم، شرف الدين الأنصاري
المتوفى سنة 662 ه?، وجمال الدين بن نباتة المصري المتوفى سنة 768 ه?،
وشهاب الدين التلغفري المتوفى سنة 675 ه?، وأبو بكر بن حجة المتوفى سنة 837
ه?، وصفي الدين الحلي المتوفى سنة 1111 ه?، وهاك ترجمة بعضهم:
البوصيري
هو شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري، صاحب البردة
والهمزية، ولد بدلاص ونشأ ببوصير ثم انتقل إلى القاهرة، وتعلم علوم العربية
والأدب فقال الشعر البليغ في جده وهزله ومن أشهر شعره قصيدة البردة الشهير
التي أولها:
أمن تذكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ
مزجتَ دمعاً جرى من مقلةٍ بدم
أم هبّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ
وأومضَ البرقُ في الظّلماء من إضم
فما لعينيك إن قلتَ اكففاهمتا
وما لقلبك إن قلتَ استفق يهمِ
أيحسب الصبُّ أن الحبّ منكتم
ما بيَن منسجم منه ومضطرمِ
ومن حكمها البديعة المشوبة بمحاسن البديع قوله:
والنّفس كالطّفل إن تهمله شبّ على
حب الرّضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرفْ هواها وحاذرْ أن تولّيه
إن الهوى ما تولَّى يصمِ أو يصمِ
وراعها وهي في الأعمال سائمةٌ
وإن هي استحلت المرعى فلا تسمِ
كم حسنتْ لذةً للمرء قاتلةً
من حيث لم يدر أن السُّم في الدَّسم
واخشَ الدسائس من جوع ومن شبع
فربّ مخمصةٍ شرٌّ من التُّخمِ
واستفرغ الدمعَ من عين قد امتلأتْ
من المحارمِ والزمْ حميةَ النَّدمِ
وقصيدته الهمزية في مدحه محمد صلى الله عليه وسلم لا تقل عن البردة
في فصاحتها، وأولها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا
ل سنا منك دونهم وسناء
وتوفي البوصيري سنة 696 ه? بالإسكندرية وقبره بها مشهور يزار.
صفي الدين الحلي
هو عبد العزيز الملك المنصور بن علي الشهير بابن سرايا الطائي الحلي
شاعر الجزيرة ولد سنة 677 ه?، ونشأ بمدينة الحلة من مدن الفرات فتأدب ونظم
الشعر وأجاده وأصبح فيه أشهر شعراء عصره، وخدم به نجم الدين غازي بن قره
أرسلان: أحد ملوك الدولة الأرتقية (ديار بكر.
واتصل بعده بابنه الملك الصالح شمس الدين، ثم ذهب إلى الحج وعرج
منصرفه منه إلى مصر فمدح الملك الناصر بن قلاوون وتوفي سنة 750 ه?.
ويعتبر صفي الدين من أئمة البديع المبتدعين في أنواعه المغالين في
استعماله في شعرهم بلا كثير تكلف، وهو أول من نظم القصائد النبوية الجامعة
لأنواع البديع المسماة بالبديعيات على مثال بردة البوصيري. ومن وقوله في
الأدب:
اسمعْ مخاطبةَ الجليس ولا تكنْ
عجلاً بنطقك قبلما تتفهَّمُ
لم تعطَ مع أذنيك نطقاً واحداً
إلا لتسمع ضعفَ ما تتكلمُ
ابن نباتة المصري
هو جمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن بناتة، أشعر شعراء
المصريين زمن المماليك. ولد سنة 686 ه? ونشأ بالقاهرة، وتلقى العلم والأدب
وانكب على قراءة شعر القاضي الفاضل ورسائله، فرسخت في طريقته من الولوع
بالتورية والتلميح والطباق، لم يأت بعده من شعراء مصر والشام من بلغ غايته
في لطف التصور ورقة اللفظ وانسجام العبارة ومات سنة 768 ه? ومن شعره قوله:
يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجاً
ودار وقتك من حين إلى حين
ولا تعاند إذا أصبحت في كدر
فإنما أنت من ماء ومن طين
ابن معتوق الموسوي
هو شهاب الدين بن معتوق الموسوي شاعر العراق في عصره وسابق حلبته في
رقة شعره. ولد سنة 1025 ونشأ بالبصرة وبها تعلم وتأدب وقال الشعر وأجاده،
وكان في نشأته فقيراً فاتصل بالسيد على خان أحد أمراء البصرة من قبل لدولة
الصفوية الإيرانية وكانت وقتئذ تملك العراق والبحرين، ومدحه مدحاً رقيقة،
وأكثر شعره مقصور عليه وعلى آل بيته فغمره بإحسانه. وابن معتوق من كبار
شعراء الشيعة فمدح علياً والشهيدين بما يرج عن حد الشرع والعقل، ومات سنة
1111 ه?، ويمتاز شعره بالرقة وكثرة المجازات.
العصر الخامس عصر النهضة الأخيرة من 1330
إلى الوقت
الحاضر
حالة اللغة العربية وآدابها في هذا العصر كانت حالة البلاد العربية
في أوائل القرن الثالث عشر غاية ما وصلت إليه من الفساد والاضمحلال، فلما
استولى ساكن الجنان محمد علي باشا على مصر رأى بحكمته أن يربي من يكون خير
واسطة لنقل معارف الأوروبيين إليها. فبعث إلى أوروبا ثلاثة بعوث علمية في
أزمنة مختلفة كونت بعد ثلاث طبقات من العلماء، والأطباء، والمهندسين،
والضباط. فنقلوا إلى اللغة العربية عشرات الكتب الجليلة في العلوم المختلفة
فأحدث ذلك في اللغة العربية انقلاباً عظيماً، واكتسبت من سعة الأغراض
والمعاني والألفاظ العلمية والأساليب الأجنبية وطرق البرهنة والاستنباط
وترتيب الفكر ثروة طائلة، ورأى العلماء والأدباء أنه صارت لهم دولة منظمة
متحضرة تقبل منهم بقبول حسن كل كما يحسنونه من نتيجة كدهم وثمرة أفكارهم
فالتفوا حولها وصارت للدولة كتاب وشعراء ومنشؤون في جريدتها "الوقائع" أول
جريدة عربية، واقتدى بمصر أهل الشام، بل ركدت ريها زمن عباس باشا الأول
وزمن سعيد باشا، ثم تنسمت في عصر اسماعيل، وما لبثت أن صارت رخاء طيبة
فأعاد سيرة في نشر العلم، وظهرت ثمرة أعماله في حياته وكادت مصر توشك أن
تكون قطعة من أوروبا.
النثر المحادثة أو لغة التخاطب
كانت العامية في أوائل هذه العصور غاية في الانحطاط، ثم لما انتشر
التعليم بين طبقات المصريين دخل عباراتهم كثير من الفصيح، وانتقل ذلك
لمعاشريهم من الأميين وبعض النساء، ومما ساعد على ذلك أيضاً جعل التقاضي
باللغة الفصيحة وكثرة الصحف والمجلات والروايات.
الخطابة
كان المصريون والسوريون أوائل هذا العصر لا يستعملون الخطابة في غير
الأغراض الدينية، ثم اتسعت ائرة الأفكار في عصر إسماعيل باشا، وصادف ذلك
مجيء السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر، والتف خوله لفيف من أدباء
المصريين والسوريين، فأدخلهم في عداد جمعيته وألف منهم أندية كانوا ينتابون
الخطابة فيها في الأمور الدينية السياسية والاجتماعية، وانتشرت الخطابة بين
شبان مصر وفشت بعد عصر إسماعيل في زمن توفيق باشا وصاحب السمو الخديوي عباس
باشا الثاني: ومن أشهر خطبائهم السيد عبد الله النديم، والشيخ محمد عبده،
ومصفى باشا كامل، ومحمد بك فريد، وسعد باشا غلول، والشيخ عبد العزيز جاويش
وغيرهم، حتى بلغت الخطابة في عصرنا هذا مبلغاً عظيماً.
الكتابة الخطية
وقف الخط في سبيل تقدمه عند الحد الذي رسمته له الطبقة الناشئة
والحادي والثاني عشر من خطاطي الترك، وكل ما نشأ بعدهم فإنما هو متبع
طريقهم. وأشهرهم عبد الله الزهدي، وهو الذي خط بالقلم الجليل جدران المسجد
النبوي وجدران سبيل والدة عباس باشا بالصليبية بالقاهرة، ومحمد مؤنس أفندي،
وتخرج عليه وعلى تلميذه محمد جعفر بك جميع خطاطي قطرنا المصري.
الكتابة الإنشائية
مضى العصر المتقدم وليس لكتابة الدواوين في أواخره شيء يذكر لجعل
التركية هي اللغة الرسمية، وأقبل العصر الحاضر والحال لم تتغير في المماليك
العثمانية إلا قليلاً وشرعت تتغير في مصر، ثم لما أنشئت المدارس النظامية
نشأت طبقة من كتاب الدواوين رقوا كتابتها. وقد هجر السجع الذي أكثر منه
الأقدمون إلا أن عبد الله باشا الفكري أشهر المصلحين للكتابة الديوانية
الفصيحة ألم به في كثير من مكاتبته الرسمية، كما سبق ذلك في المكاتبات.
أما كتابة التأليف والصحف فأخذت تنحو منحى كتابة ابن خلدون في
"مقدمته". ولما ولت الحكومة الشيخ محمد عبده تحرير الوقائع الرسمية
والإشراف على تحرير الجرائد، ترقت كتابتها كثيراً ودرجت في سبيل التقدم إلى
الآن:
كتابة التدوين
كان أكثر الكتب التي ألفت أو ترجمت في مصر علمية، لشدة احتياجها
إليها. أما سورية فكانت حالة الأدب فيها في لنصف الأول من العصر الحاضر
خيراً منها في مصر، ولكن مصر نهضت في النصف الثاني واسترجعت حياتها الأدبية
وأدخلت دراسة أدب اللغة في مدارسها وألف فيها عدة كتب. وانح شأن سورية في
العربية فلم ينبغ في اللغة من السوريين في السنوات الأخيرة من يضارع
سابقيهم. ومن أشهر العلماء الأزهريين في هذا العصر الشيخ الجبرتي، الشيخ
حسن العطار، والشيخ العروسي، والشيخ التميمي، والشيخ الباجوري، والشيخ عليش،
والشيخ الأبياري، والشيخ السقا، والشيخ الأنبابي، والشيخ محمد الأشموني،
والشيخ الشربيني، والشيخ سليم البشري، والشيخ محمد البحيري، ووالد مؤلف هذا
الكتاب وغيرهم: ومن غير الأزهريين من غير النهضة الحديثة رفاعه بك شيخ
المترجمين والمؤلفين المصريين، والنطاسي الشهير محمد علي باشا، والسيد صالح
مجدي بك ومحمود باشا الفلكي، وأحمد ندا بك، وعبد الله باشا فكري، وقدري
باشا، ودري باشا، والشيخ ناصيف اليازجي، والشيخ إبراهيم اليازجي، وأحمد
فارس، والشيخ علي يوسف، وأديب أسحاق وغيرهم. وهاك ترجمة النهضة الخديثة.
رفاعة بك رافع الطهطاوي
هو الكاتب الشاعر السيد رفاعة بك الحسيني الطهطاوي شيخ الترجمة إمام النهضة
الحديثة، ولد بطهطا من أسرة شريفة، وتأدب وتعلم في الجامع الأزهر ثم انتخب
إماماً لبعض فرق الجيش، ولم يلبث أن اختاره المرحوم محمد علي باشا إماماً
ومعلماً لأول بعث علمي أرسل إلى فرنسا سنة 1241 ه? فراقته علوم أوروبا
وعظمتها أكب بنفسه على تعلم اللغة الفرنسية، فلما عاد إلى مصر سنة 1247
اختار محمد علي باشا رئيساً للترجمة بمدرسة أبي زعبل، واشترك هو وأستاذه
الشيخ حسن العطار في إنشاء جريدة "الوقائع المصرية" وتحريرها ثم نقل إلى
مدرسة المدفعية (الطبجية) ثم صار مديراً لمدرسة الألسن والترجمة، ثم انتخب
عضوا بلجنة المدارس وتولى "إدارة مجلة روضة المدارس المصرية" وعكف على
الترجمة والتأليف حتى توفي سنة 1290 ه? تاركاً لمصر كتباً ورجالاً هم أركان
النهضة الحديثة، وآخر ما ألفه "نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز".
عبد الله فكري باشا
هو عبد الله فكري بن محمد بليغ الضابط بن الشيخ عبد الله: هو أحد
أركان النهضة الأدبية في الديار المصرية. ولد سنة 1250 ه? وأكب على تعلم
علومه بالأزهر مشتغلاً أيضاً باللغة التركية واستخدم من أجلها مترجماً
للعربية والتركية في عدة مناصب آلت إلى نقله إلى حاشية سعيد باشا ثم
إسماعيل باشا، فعهد إلي بتأديب بنية لكرام وغيرهم من أمراء بيت الملكز ثم
تقلب في جملة مناصب آخرها نظارة المعارف سنة 1299 ه?، وبقي بها حتى زمن
الثورة العرابية فسقط مع الوزارة، واتهم في الثورة فقبض عليه ثم اتضحت برا
ءته فأطلق ورد إليه معاشه بعد أن استعطف الخديوي توفيقاً بقصيدة طويلة
وتوفي سنة 1307 ه?، وكان فكري باشا كاتباً بليغاً سلك في كتابته طريقة كتاب
القرن الرابع كالبديع الهمذاني والخوارزمي من التزام السجع القصير القليل
التكلف، ولذل يقول فيه المرحوم الشيخ حسين المرصفي مدرس دار العلوم (لو
تقدم به الزمان، لكان فيه بديعان، ولم ينفرد بهذا اللقب علامة همذان).
علي مبارك باشا
هو أبو المعارف المصرية، العالم المؤرخ، المؤلف المترجم، المربي
العظيم علي بن مبارك بن سليمان بن ابراهيم، مصلخ العلم والإدارة بالديار
المصرية ومؤسس دار العلوم، ودار الكتب العربية: ولد سنة 1239 ه? وكان والده
يرسله إلى معلم قاس يتعلم عليه القرآن الكريم فحفظه، وهرب من المعلم لقسوته
وضربه، وأخذ يتعلم الكتابة على بعض الكتاب حتى عثر في بعض خرجاته بتلاميذ
ذاهبين إلى مدرسة أبي زعبل فصحبهم ودخل المدرسة.
ثم اختير في جملة من تلاميذها إلى مدرسة قصر العيني وسنه 12 سنة
ودرس الرياضة فبرع فيها فاختير طالباً بمدرسة الهندسة فأكمل في خمس سنوات
درس فن الهندسة وأرسل إلى أوروبا سنة 1260 ليتمم دراسته بها، فمكث نحو أربع
سنوات درس فيها فن الهندسة والحرب، ثم عاد إلى مصر ضابطاً بالجيش، ثم قدم
لعباس باشا الأول مشروعاً بنظام المدارس المصرية فأعجبه وعهد إليه رياسة
ديوانها فقام به خير قيام، وألف بعض الكتب الدراسية فكان أول من نظم
المدارس المصرية، وتزاحمت عليه المناصب فكان مديراً للسكك الحديدية،
وناظراً للمعارف وللأشغال وللأوقاف والقناطر الخيرية، فقام بذلك جميعاً خير
قيام. ومن أعماله العظيمة إنشاء دار للكتب وإنشاء مدرس دار العلوم ليوفق
بين طلبة العلم القديم وطلبة العلم الحديث ويحسن تعليم العربية، فجاءت هذه
المدرسة بأحسن ما يطلب منها وتجديد مدينة القاهرة وأمهات مدن القطر إلى أن
وافته المنية سنة 1311 ه??.
الشيخ محمد عبده
هو المصلح الكبير، والمجتهد الخطير، والكاتب البليغ، والخطيب المصقع،
الأستاذ الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده،أحد أركان النهضة العربية ومؤسسي
الحركة الفكرية، ولد سنة 1266 بإحدى قرى مدرية الغربية ونشأ بين أسرته
بمحلة نصر من مدرية البحيرة، وترك بلا تعليم حتى ناهزت سنه العاشرة، ثم رغب
بالتعلم فحفظ القرآن الكريم، وطلب العلم بالجامع الأحمدي، ثم انتقل إلى
الأزهر ونبغ في علومه. ولما قدم مصر السيد جمال الدين الأفغاني سنة 1286
وأعاد إلى مصر دراسة الفلسفة وعلوم الحكمة والكلام لزمه الشيخ محمد عبده
وكان أنبغ تلاميذه،و أحرصهم إلى الإستفادة منه، ونال درجة العالمية سنة
1294، واختير سنة 1295 مدرساً للأدب والتاريخ العربي بدار العلوم ومدرسة
الألسن، ثم اختير لإصلاح لغة الوقائع المصرية، ثم صار رئيس تحريرها وفي هذه
المدة جعله رياض باشا مراقباً على كتابة الجرائد وتحريرها: وحدثت عقب ذلك
الثورة العرابية ونفي من مصر إلى سورية وتولى التدريس بمدارسها، ثم انتقل
إلى أوروبا فالتقى بالسيد جمال الدين بباريس فأنشأ جريدة العروة الوثقى، ثم
عفا عنه الخديوي وعاد إلى مصر قاضياً بالمحاكم الأهلية، ثم مفتياً للديار
المصرية وتولى التدريس بالأزهر، وما زال كذلك حتى توفي سنة 1323 ه?.
مصطفى باشا كامل
هو الوطني الكبير. مصطفى بن علي أفندي محمد المهندس المولود
بالقاهرة في 14 أغسطس سنة 1874. ولما بلغ السادسة من عمره أدخله والده
المكاتب الأولية، ثم انتقل إلى مدرسة والدة عباس باش الأول، وفي أثناء
وجوده في هذه المدرسة توفي والده فانتقل إلى مدرسة القربية فأتم فيها
الدراسة الابتدائية سنة 1887، ثم تحول إلى المدارس الثانوية ونال في
نهايتها شهادة البكالوريا بتفوق باهر وذكاء نادر ألفت إليه نظر المرحوم علي
باشا مبارك وزير المعارف فاختصه بمرتب شهري يصرف إليه مساعدة له، وكان
منظوراً إليه بعين الإجلال والاحترام من إخوانه ومعلميه ورؤسائه لما امتاز
به من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان وصراحة القول واستقلال الفكر ومناقشته في
المسائل العلمية والاجتماعية والكل يعجبون به ويتوقعون له مستقبلاً مجيداً.
ثم دخل مدرسة الحقوق الخديوية نهاراً ومدرسة الحقوق الفرنسية ليلاً فكان
يتلقى دروسهما حتى نال الكفاية منها فذهب إلى طولون بفرنسا وأدى فيها
الامتحان ونال الشهادة النهائية. وفي أثناء دراسته للحقوق تنبه خاطره
للمسائل السياسية وأصبح همه إنقاذ مصر من الاحتلال. وكان يتردد على الجرائد
الوطنية ليكتب فيها آيات الوطنية. وأنشأ المجلة المدرسية، وألف كتاب
المسألة الشرقية ورواية فتح الأندلس وكتاباً في حياة الأمم والرق عند
الرومان. كلها ترمي إلى تحبيب الاستقلال وإحياء الشعور الوطني في أفكار
المصريين. واجتمع مصطفى بالمرحوم عبد الله النديم الخطيب المفوه والكاتب
البليغ ومشعل نار الوطنية من قبل فاقتبس مصطفى منه الأساليب والتعليمات
العظيمة وأضاف إلى معلوماته الماضية. ونهض نهضة الأسد إلى فريسته وأذكى
أوار الوطنية في عقول الشباب الناهض وتطورت مصر الفتاة إلى يومنا هذا في
مراقي التقدم والنجاح. وقد صار صيته في الآفاق وأصبح اسمه مرادفاً للشمس في
رائعة النهار. وحدث عن شجاعته وفصاحته وقوة معارضته مما لا يمكن لقلم وصفه.
وقد أنشأ
جرائد اللواء العرب والفرنسي والإنكليزي لهذا الغرض. وتوفي يوم
الأربعاء 10 فبراير سنة 1908، وشيعت جنازته باحتفال كبير لم يسبق له مثيل،
واشترك فيه عشرات الألوف من جميع طبقات القطر المصري، وعم الخزن الشديد على
جميع المصريين. ورثاه الكتاب والشعراء وجميع جرائد العالم. وطيرت نعيه
الشركات البرقية الأجنبية في الممالك الأوروبية. وخطبه الظنانة كثيرة لا
نطيل بذكرها.
محمد بك فريد
هو المخلص الأمين. محمد بن أحمد باشا فريد ووالدته أميرة من فضليات
سيدات الخلفاء العباسيين. وكان ميلاده في 27 رمضان سنة 1284 ه? وعاش 52
سنة، ولما كان عمره 7 سنوات أدخله المرحوم والده مدرسة خليل آغا فدرس
الدروس الابتدائية، ثم دخل المدرسة الثانوية فجد واجتهد حتى فاق أقرانه
وأحرز شهادة البكالوريا، ثم انتقل إلى مدرسة الإدارة والألسن، ومنها دخل
مدرسة الحقوق الخديوية حتى نال الشهادة النهائية في شهر مايو سنة 1887 م،
وعقب ذلك عينته الحكومة المصرية بقلم قضايا الدائرة السنية الذي لم يلبث
فيه إلا قليلاً حتى أصبح رئيسه. وقد أنعم عليه سمو الخديوي بالرتبة
الثانية، ثم تدرج في وظائف القضاء إلى أن صار أحد رؤساء النيابة العمومية.
وفي خلال ذلك كان يكاتب أمهات الصحف العربية والإفرنجية حتى استقال من خدمة
الحكومة في 21 نوفمبر سنة 1896 م، واشتغل بالمحاماة وانضم بكل قواه إلى
الحزب الوطني لتحرير مصر والسودان. ولازم صاحبه الزعيم الأكبر المرحوم
مصطفى باشا كامل. وقد ألف كتاب البهجة التوفيقية في تاريخ العائلة الخديوية
وتاريخ الدولة العثمانية وتاريخ الرومان، وأشنأ مجلة الموسوعات وكتب آلاف
المقالات في المؤيد واللواء والصحف الأوروبية، والق مئات من الخطب في الشرق
والغرب. وتعرق بكثير من كبار ساسة جميع العالم.
ولما شعر المرحوم مصطفى باشا كامل بدنو الأجل جمع الحزب الوطني وأوصاهم
بانتخاب فريد بعده رئيساً فقام برياسته خير قيام وقد ضحى نفسه وأولاده
وأهله وماله ومناصبه حباً في الوطن حتى مات غريباً في برلين يوم الإثنين 15
يونيه سنة 1920م. وشيعت احتفال مهيب في اسكندرية ومصر لم تر العيون مثله
اشتركت فيه العلماء والأمراء والوزراء وجميع الأعيان والوجهاء. ورثته
الكتاب والشعراء وجرائد ومجلات الشرق والغرب
معالي الرئيس المحبوب سعد باشا زغلول
هو روح مصر الزعيم الأكبر. سعد ين الشيخ إبراهيم زغلول المولود
ببلدة إبيانا التابعة لمديرية الغريبة سنة 1277 ه?، قرأ القرآن الكريم ودرس
العلوم الابتدائية في بلده. ثم رحل إلى مصر ودرس الأزهر الشريف وحضر علوم
اللغة والأدب والنحو والمنطق والتوحيد وعلوم التشريع وغيرها على فطاحل
العلماء كالشيخ المهدي العباسي. والشيخ أبو النجا الشرقاوي، والشيخ أحمد
الرفاعي، والشيخ محمد عبده وخلافهم من كبار الأئمة. ثم تعين محرراً لجريدة
الوقائع المصرية الرسمية بالداخلية. ثم انتقل معاوناً بنظارة الداخلية في
مدة وزارة محمود سامي باشا البارودي. ثم تعين مديراً لقلم قضايا مديرية
الجيزة وذلك في مدة اشتداد الثورة العرابية. ثم استقال واشتغل بالمحاماة
وقد انتخبته الجمعية عضواً في لجنة تنقيح قانون الجنايات بالاستئناف.ثم
اختاره اللورد كرومر أن يكون وزيراً لوزارة المعارف، ثم وكيلاً للجمعية
التشريعية إلى أن تطورت الحالة الوطنية في القطر المصري فانتخبته الأمة
وكيلاً عنها في مطالبة انكلترا بالجلاء عن مصر والسودان إلى يومنا هذا.
ومن كلماته المأثورة في الوطنية:
(1) لا استعباد.؟ لا استعمار. لا حماية. لا رقابة. لا تداخل لأحد في
شأن من شؤوننا. هذا ما نريد وهذا ما لا بد أن نحصل عليه.
(2) أقسم بالوطنية وعزتها لو كنت أعرف أني أقود أمة بلهاء تنقاد لكل
زعيم بدون تصور ولا إدراك كما يصفها أعداؤها ما رضيت أن أكون قائداً لها.
(3) إن قوتنا ليست مستمدة من الخارج بل هي في نفوسنا فلتكن نفوسنا
قوية نصل إلى غايتنا.
(4) الإدارة متى تمكنت من النفوس وأصبحت ميراثاً يتوارثه الأبناء عن
الآباء ذللت كل صعب ومحت كل عقبة وقهرت كل مانع مهما كان قوياً ووصلت
عاجلاً أو آجلاً إلى الغاية المطلوبة.
(5) لا يمكن أن نعتبر للحكوميين مذهباً لأن المذهب يقتضي مبادئ
وقواعد أما هم فقاعدتهم القوة. وما يعتمد على القوة لا يصح أن يسمى مذهباً.
ومن كلماته المأثورة في الحرية وحدودها
كل أمر يقف في طريق حريتنا لا يصح أن نقبله مطلقاً مهما كانة مصدره
عالياً ومهما كان الآمر به.
(2) كل تقييد للحرية لا بد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية نفسها
وإلا كان ظلماً.
(3) الصحافة الحرة تقول في حدود القانون ما تشاء وتنتقد ما تريد
فليبس من الرأي أن نسألها لم تنتقدها بل من الواجب أن نسأل أنفسنا لم نفعل
ما تنتقدنا عليه.
(4) نحن نحب الحرية ولكنا نحب أكثر منها أن تستعمل في موضعها.
(5) جميل جداً أن يقال لا تحجروا على الناس ولا تقيدوا حريتهم وإنها
لنغمة لذيذة يحسن وقعها في الأسماع والقلوب. ولكنا لا نريد الحجر على الناس
ولا تقييد حريتهم بل نريد حماية الحق وصيانته من أن يتمتع به غير صاحبه من
حيث يحرم منه صاحبه.
ومن آرائه في التشريع: (1) كل شريعة تؤسس على فساد الأخلاق فهي
شريعة باطلة.
(2) لا تصدقوا أن هناك قاعدة يرجع إليها القاضي في تقدير العقوبة،
أو أن هناك ميزاناً توزن الجزاءات، وإنما هي أمور اجتهادية يلهم بها القاضي
إلهاماً.
(3) الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة.
(4) إننا إذا احترمنا أمراً للحكومة نحترمه لأنه نافع للأمة لا لأنه
صادر من تلك القوة المسيطرة.
(5) يجب أن ننقاد للقانون وألا نعتبر الانقياد إليه مهانة ومذلة بل
عزاً وشرفاً.
(6) إن كانت الحكومة تريد أن نكون في صفها مدافعين عنها فما عليها
إلا أن تتبع الحق والعدل وتحترم القانون.
(7) يعجبني الصدق في القول والإخلاص في العمل وأن تقوم المحبة بين
الناس مقام القانون.
(8) الذي يلزمنا أن تفاخر به هو أعمالنا في الحياة لا الشهادات التي
في أيدينا.
(9) أعاهدكم عهداً لا أحيد عنه. على أن أموت في السعي إلى استقلالكم
فإن فزت فذاك، وإلا تركت لكم تتميم ما بدأت به.
هذا قليل من كثير لا نحيط به جمعاً خصوصاً خطبه المطولة الممتعة
التي تكاد أن تكون في درجة الإعجاز ولا غرابة في ذلك، فمعالي الرئيس معروف
بالشجاعة والصراحة، ويمتلك في يده أعنة الألفاظ يتصرف فيها كيف يشار، حتى
إنه ليعبر عن أقسى المعاني وأخشنها بأرق الألفاظ وأعذبها وأخفها وقعاً على
النفوس والأسماع خصوصاً وأنه لقدير على التأثير على نفس السامع وامتلاكه
أزمة الأهواء وتلاعبه بالعواطف والقلوب واقتداره على إسناد كل جزئية من
جزئيات المسائل الاجتماعية أو القانونية أو الأخلاقية أو السياسية إلى
قاعدتها العامة التي توضح طريقها وتكشف الغامض منها.
وبالجملة فمعالي الرئيس متشرع يبحث النظامات ويدققها. وسياسي يبارز خصمه
مبارزة الرجل الذي يحسن تقليب الحسام بين يديه، فلا كلماته تخرق حجب الآداب
ولا تتجاوز حد اللياقة، ولقد كان كلامه ينزل على السامعين نزول الندى على
أكام الزهر فلا يرتفع صوت ولا تبدو حركة مع طول خطابته نحو ساعتين، نسأله
سبحانه وتعالى أن يمن على مصر والسودان بالاستقلال التام وأن يمنحها الحرية
على يد بطلها العظيم وزعيمها الجليل ورئيسها المحبوب "سعد باشا زغلول" حفظه
الله آمين.
الغازي مصطفى باشا كمال
أشهر حماة الشرق وداهية أقطاب الساسة البطل الغازي مصطفى كمال باشا
المولود في سلانيك سنة 1298 ه? 1880 م، ولما بلغ السنة السادسة من عمره
أدخله والده مدرسة تدرس فيها العلوم الابتدائية على الطراز الحديث. وما لبث
أن ترك المدرسة على أثر وفاة المرحوم والده. ثم انتقل إلى قرية مع والدته
إلى خاله الذي كفله وعهد إليه القيام بحراسة الحقول والاشتغال بالزراعة مدة
ليست بالقصيرة فأوجست والدته خفية من ضياع أيامه الدراسية بدون جدوى، وصحت
عزيمته على إرساله إلى دار جدته في (سلانيك) فسافر أليها ودخل في المدرسة
الملكية الإعدادية. غير أنه لم يوفق للتعلم بها وذلك لشغفه بحب المدرسة
الرشدية العسكرية الابتدائية رغم إرادة والدته التي كانت لا توافقه على
الالتحاق بها. وما زال بها حتى استطاع التأثير عليها وتمكن من التغلب على
فكرها وأدى الامتحان المؤهل لدخول المدرسة العسكرية بتفوق باهر وكان أحد
التلاميذ وأشدهم حباً في الرياضيات. وقد حصل في زمن يسير بجده واجتهاده على
معلومات جمة في هذا العلم بدرجة تساوي درجة أستاذه المدعو مصطفى بك القائل
له أن بين اسمي واسمك اشتباه فيجدر أن أضيف إلى اسمك يا ولدي لفظة "كمال"
للتمييز بيننا.
وقد أتم الدراسة في المدرسة العسكرية الابتدائية وفاق زملائه في
العلوم الرياضية بحيث لم يصادف أية صعوبة في المدرسة الإعدادية العسكرية
الثانوية في (مناستر) غير أنه كان ضعيفاً في اللغة الفرنسية، فتحين فرصة
العطلة المدرسية ودخل مدرسة الفرير وتزود بقسط وافر من اللغة الفرنساوية.
وفي خلال ذلك كان يجتمع بالمرحوم الشاعر التركي المشهور (عمر ناجي بك)
فارتشف من منهله العذب وتأدب بأدبه ودرس عليه آداب اللغة وضرب بسهم فيها
حتى صار الشعر هو المادة التي تنجذب نفسه إليه وترتاح به رغم النصائح التي
كانت لقيها عليه بعض معلميه العسكريين بقولهم "إذا أردت أن تكون جندياً
حقيقياً فاترك الأدب وخيال الشعراء" وبعد إتمامه الدراسة في تلك المدرسة
سافر إلى الأستانة سنة 1319 ه? والتحق بالمدرسة الحربية وكان شغفه العظيم
بالرياضيات ولا يزال حياً ونامياً نمو اشتغاله بعلوم الأدب ومزاولة الخطابة
وأساليبها فتولد من ذلك توقه واسترعاء نظره حب الاشتغال السياسة وخصوصاً
وقد وقعت في يده كتب الوطني العظيم "نامق بك كمال" فطالعها مراراً ووقف على
ما فيها وأدرك مراميها فرسخت في عقيدته الوطنية وكان ذلك في عهد المرحوم
السلطان عبد الحميد الداهية العظيم، ومع ذلك تخرج من هذه المدرسة برتبة
"ملازم ثان". ولما انتقل إلى مدرسة أركان الحرب بدأ يتعرف مع بعض إخوانه من
الطلبة ما يكشف إدارة البلاد وسياستها من السوء والفساد. فكان أول ما فكر
فيه أن يفهم زملاءه البالغ عددهم 5000 طالب موقف البلاد الإداري والسياسي.
وقد فكروا جميعاً في تأسيس جريدة تكون لسان حالهم. وقد أخذ على عاتقه تحرير
الكثير من مقالاتها وأبحاثها غي أن "اسماعيل باشا" مفتش المدارس وقف على
حركتهم وسلط الجواسيس عليهم، ثم وشى بهم إلى المرحوم السلطان الغازي عبد
الحميد الثاني وقال لجلالته إن ناظر المدرسة رضا باشا وهو المسؤول عن حركة
الطلبة وواجب إدانته فاستدعاه جلالة السلطان فأقنعه
بعدم وجود حركة سياسية، واستمر مع ورفاقه على إصدار جريدتهم حتى آخر
سنتي مدرسة أركان الحرب. وبعدها خرج من المدرسة برتبة "يوزباشي" في أركان
الحرب العامة، واستأجر لنفسه مكاناً خاصاً في "بك أوغلي" رغبة في استئناف
العمل وعقد الاجتماعات وإصدار القرارات لصالح الوطن، ولكن لم تمض مدة وجيزة
حتى عرف الجواسيس عمله وألقوا القبض عليه واعتقلوه بضعة اشهر ثم أطلق سراحه
بواسطة سعي رضا باشا ناظره السابق في المدرسة وأصر على اشتغاله بالسياسة
حتى نفته الحكومة إلى ولاية الشام للخدمة في الجيش، وقد أسس هناك "جمعية
الحرية" واتخذ بعض التدابير لتوسيع نطاق هذه الجمعية.
فأسس لها فروعاً في بيروت ويافا والقدس وفي كل مدينة حل فيها ونزل
بها. ولما كان انتشار مبادئ الجمعية غير ممكن في تلك المدن عزم على السفر
إلى "مقدونيا" حيث هناك الأرض صالحة لبذر تلك المبادئ والعمل على إنمائها
وإنباتها حسناً وأطلع جمعيته على رأيه وعلى ذلك سعى أفرادها وتمكن من إصدار
إذن يستطيع به السفر في بادئ الأمر إلى "أزمير" وعلى أثر ذلك أرسل رسالة
خاصة إلى (شكري باشا) المعروف هناك بوطنيته الحارة وطلب منه مساعدته.
ولما شد الرحال إلى مقدونيا وركب البحر غير وجهته إلى مصر ومنها إلى
بلاد اليونان ثم إلى سلانيك رغبة في إخفاء أغراضه عن أعين الجواسيس. وقد
أسس في مدينة سلانيك فرعاً عاماً للجمعية، وما كادت حكومة الآستانة تتلقى
تقرير الجواسيس عن أعماله وأخذت في البحث عنه حتى سافر على وجه السرعة إلى
(يافا) وعلى أثر ذلك ظهرت مسألة العقبة. فاستصدرت جمعية الحرية أمراً
بتعينه على الحدود المصرية. وما كاد يصل أمر البحث عنه إلى ولاية الشام حتى
كان متولياً شؤون وظيفته الجديدة على حدود مصر.
وقد مكث في سوريا ثلاثة أعوام ثم طلب من الحكومة نقله إلى مقدونيا
فقوبل طلبه بالقبول وعلم بعد وصوله إلى سلانيك إن جمعية الحرية غيرت اسمها
باسم جمعية الاتحاد والترقي وما وافى
إعلان الدستور حتى برز إلى ميادين السياسة بفضل إعلانه جميع الأحرار
وقد اقترح على الجمعية انسحاب الجيش في ميادينه فقوبل بالارتياح غير أن
الجمعية لم تتمكن من تنفيذه في ذلك الحين.
ولما نشبت الثورة الرجعية في الأستانة سنة 1909: أخمدها واستتب
الأمن ثم تعين بمهمة الإصلاح على ولاية طرابلس. ثم شرعت الحكومة التركية في
الأنظمة الجديدة لضباط الجيش وهي تقضي بتنزيل درجاتهم ورتبهم، وألحق حسب
النظام الجديد برتبة ضابط صغير "قول أغاصي" بهيئة أركان حرب في فرقة "سلانيك"
فأخذ يبذل جهده في تعليم الجيش وتدريبه على الأصول الحربية الحديثة
والأنظمة الجديدة.
وكان كثيراً ما يكتب من الاقتراحات النافعة والانتقادات المفيدة
لإصلاح شأن الجيش فكان ذلك من الأسباب الجوهرية التي بعثت بعض القواد
القدماء على حقدهم عليه وكان جزاؤه تعيينه قائداً للآلاي الثلاثين فجاء هذا
التعيين على عكس غرضهم الأساسي إذا أفسح له مجالاً واسعاً لإلقاء بعض
المحاضرات الفنية وشرح أساليب الخطط الحربية وتوضيح المواقف الهامة وغير
ذلك مما يحتاج إليه الضباط والقواد. ثم بعد ذلك دعته حكومة الأستانة وعينته
ضمن أركان الحرب العامة فيها وقام بصحبة المرحوم شوكت باشا بالحركات
الحربية لإخماد الثورة في بلاد ألبانيا.
وقد ذهب مع جماعة من إخوانه متنكراً إلى مصر على أثر إعلان الحرب
الإيطالية سنة 1911 وسافر منها إلى بنغاري. ثم عاد إلى الأستامة بعد نشوب
الحرب بين الترك والبلغار وتع ين رئيساً لأركان الحرب، ثم عاد إلى الأستانة
وتعين ملحقاً عسكرياً في سفارة "صوفيا" عاصمة بلغاريا ومكث هناك مدة سنة
كاملة.
ولما نشبت الحرب العامة سنة 1914 تعين قائداً للفرقة السادسة عشر في
(تكفورطاغ)، ثم تعين لفيلق ديار بكر وبعدها تولى قيادة الجيوش. وعين بعد
ذلك قائداً للقوات الحجازية فتوجه إلى الشام وتفاوض مع جمال باشا وأركان
حربه وأنور باشا وأركان حربه وبعد أخذ ورد أقنع الجميع
بضرورة الجلاء عن الحجاز ثم عاد إلى ديار بكر ومنها عاد إلى
الأستانة وأخذ القيادة على عاتقه وحصل بينه وبين كبار القواد الألمانيين
مناقشات أدت إلى استقالته وسافر من الأستانة مع ولي العهد (جلالة الخليفة
الأعظم الحالي) إلى ألمانيا، وفيها تقابل مع القائدين العظيمين (هندنبورج
ولوندرف) وبعد ذلك عاد فرأى ما حل بالبلاد من المصائب فاقترح على الحكومة
إسقاط الوزارة وتشكيل وزارة أخرى حسب برنامج قرره لها.
وكان نظره متجهاً نحو نقطتين هامتين:
(1) التوسل بالأسباب الناجحة
في الحصول على ما تمس الحاجة إليه.
(2) إنشاء قوة قوية للدفاع عن مصالح الوطن.
وقد صحت عزيمته على ترك الأستانة والتوغل في داخلية البلاد وبسط
موقف البلاد المحفوف بالمخاطر. ولأجل هذا بذل جهده في العمل على إنقاذ
الوطن خاصة والشرق عامة. وبينما كان مشتغلاً بتهيئة الأسباب لذلك إذ تلقى
أمراً بتعيينه قائداً ومفتشاً لجيش الصاعقة مع ضرورة ذهابه به الأناضول
فتقبل ذلك بالسرور العظيم. وقام إلى الأناضول وهو حاصل على رتبة القائد
والمفتش معاً لذلك الجيش، وكان ذلك من أهم العوامل الفعالة للوصول إلى
تحقيق إنقاذ الوطن (حاجة في نفس يعقوب قضاها) ولما شعرت الحكومة بخطئها
استدعته في الحال إلى الأستانة فرفض واستقال وسعى في جمع نواب الأمة وتأليف
المجلس الوطني الكبير في الأناضول وقد افتتح المجلس الوطني يوم 23 فبراير
سنة 1920، وأخذ في مباشرة الأعمال والقيام بواجب البلاد وكان شغله الشاغل.
(كيف تمثل إرادة الأمة أحسن تمثيل) فاهتدى بعد أبحاث طويلة أنه لا يتم ذلك
إلا باجتماع نوابها العظام. وهذا ما دعاه إلى وضع مستقبل الأمة من حريتها
واستقلالها في يد وزارة كبيرة تمثل البلاد، وقد تم له ما أراد ففاز بالنصر
والسداد وفقه الله إلى ما فيه صلاح العباد.
والغازي على جانب عظيم من الفضيلة ومكارم الأخلاق بعيداً عن الزهو
وحب النفس متواضعاً محبوباً محترماً صريحاً في قوله
وعمله. فصيحاً بليغاً. من كبار الكتاب ومن فحول الشعراء ينادي
المعالي ويناجي الحرية والإخاء والمساواة وقد اجتمع بين يديه إمارة السيف
والقلم: وخطبه أشهر من أن تذكر من أقواله: في الوطن: إن وطننا العزيز
لا
يموت ولن يموت. وإذا فرضنا المحال وسلمنا بموته (لا قدر الله) فكاهل
الكرة الأرضية لن يستطيع حمل تابوته الجسيم. نعم يسقط مهمشاً مقطع الأوصال
مادام فرد منا يتنسم نسيم الحياة.
ومن آرائه في تعليم المرأة:
تعليم المرأة "أم الوطن" وتثقيف عقلها بالعلوم الدينية والمعارف
الأهلية من أهم ما ترمي إليها نهضتنا العلمية الوطنية.
ومن وصفه للفلاح: سيد تركيا بل سيد العالم الحقيقي (الفلاح) لأنه هو العنصر
الأول في تكوين عناصر الأمة وكيانها. والوطن بدونه لاشيء بل الوطن هو
فيتعين أن نعتني به عناية خاصة، وأن نضع قبل كل شيء سعادته نصب أعيننا.
الشعر
كانت حالة الشعر في النصف الأول من هذا العصر لاتزيد شيئاً مذكوراً
على ما كنت عليه في العصر الماضي، إذ كانت
حكومة محمد علي باشا في أول أمرها تركية الصبغة، وكان هو أمياً، ولكن الشعر
أخذ بعد ذلك في الترقي خصوصاً في عصر اسماعيل باشا، فتقدم خطوات تمثلت في
شعر السيد علي أبي النصر المتوفي سنة 1298، والشيخ علي الليثي المتوفي سنة
1309، وعظيم الشعراء البارودي.
ولم يزل العلم والعلماء مع ذلك لهم المقام الأول في مصر حتى كان
العصر الحاضر، ونالت مصر بعض حاجاتها من العلم وكتبه فهب أهله يتفكهون
بالأدب وكتابته والتأليف فيه ويستمعون الشعر ويحرضون المجامع العظيمة
لإنشاده فأقبل الشعراء على نظمه في كل أغراضه القديمة والحديثة ونحوا به
نحو الشعر الإفرنجي من وصف المناظر الطبيعية، وأحوال الوجدان والعواطف
النفسية ومن وصف القطار والكهرباء والمسرة والبرق وغير ذلك.
ومما يمتاز به شعر هذا الوقت خلوه من تكلف البديع والجناس. والرجوع
له إلى حالته القديمة الطبيعية حتى صار شعر فحوله يشبه شعر أهل القرن
الرابع والخامس.
الشعراء
شعراء هذا العصر كثيرون وأشهرهم محمود باشا سامي البارودي، وأحمد بك
شوقي، ومحمد حافظ بك ابراهيم، واسماعيل باشات صبري،ة وخليل بك مطران
وغيرهم.
محمود
سامي البارودي
هو رب السيف والقلم أمير الشعراء وشاعر الأمراء، محمود سامي باشا بن حسن
حسني بك البارودي، أحد زعماء الثورة العرابية وأشعر الشعراء المتأخرين
بالديار المصرية: ولد سنة 1255ه? وتأدب وأدخل المدرسة الحربية ومازال يترقى
حتى ولاه المرحوم الخديوي توفيق باشا نظارتي الحربية والأوقاف. ثم ولي
رياسة النظار قبيل الثورة العرابية. فلما اضطرمت نيران الثورة أرغمه
زعماؤها على اصطلاء نارها فخب فيها ووضع. وحكم عليه بعد انقضائها بالنفي
إلى جزيرة (سيلان) حتى عمي، وشفع فيه فأذن له بالقدوم إلى مصر بعد مضي 17
سنة من منفاه، وبقي في منزله كفيفاً يشتغل بالأدب إلى أن مات سنة 1322ه?.
أحمد شوقي بك
هو رب القلم محيي دولة الشعر بعد العدم شاعر النيل أحمد بن علي شوقي
بك المولود سنة 1285ه??.
شعره، ينظم بين أصحابه فيكون معهم وليس معهم، وينظم حين يشاء، وحيث
يشاء، لا يجهد فكره ولايكده في معنى أو في مبنى، فأما المعنى فيجيئه على
مرامه أو على أبعد من مرامه ولاينضب عنده لأنه يستخلصه من عقل فوار الذكاء
ومعارف جامعة إلى أفانين الآداب في لغات الإفرنج والأعراب، فلسفة الحقوق
وحقائق وحقائق التاريخ، وغرائب السير التي يحفظ منها غير يسير إلى مشاركات
علمية وتنبيهات فنية استفادها من مطالعته في صنوف الكتب، واتخذها عن
ملحوظاته ومسموعاته في جولاته بين بلاد الشرق والغرب. وأما المبني فله فيه
اذواق متعددة مقامات القول: ترى فيه من نسج البحتري ومن صياغة أبي تمام ومن
ثبات المتنبي، ومن مفاجآت الشريف، ومن مسلسلات مهيار.
محمد حافظ بك إبراهيم
هو الشاعر الكبير محمد حافظ بن ابراهيم أفندي فهمي المولود سنة
1288ه?. يقول الشعر، في كل مكان يتفق له فيه أن يخلو بنفسه، ويتعب في قرض
قريضه تعب النحات الماهر في استخراج مثال جميل من حجره.
يؤثر الجزالة على الرقة، وله فيها آيات، يطرق الموضوع في الغالب من
جوهره وربما نظم أكثر الأبيات قبل المطلع شان الصانع القدير الذي يبدأ
بأصعب ما بين يديه آمناً أن تهن عزيمته دون الإجادة بعد ذلك عالماً أن
الكلام لابد لأن يأتيه في أي مقام طيعاً ولو بعد حين.
حاضر المحفوظ من أفصح أساليب العرب ينسج على منوالها ويتخير نفائس
مفرداتها وأعلاق حلاها. له غرام باللفظ لايقل عن الغرام بالمعنى. وفي أقصى
ضميره يؤثر البيت المجاد لفظاً على المجاد معنى. فإذا فاته الابتكار حيناً
في التصوير، أولع بالاجتماعيات فقال فيها وأجاد ما شاء، فهو على الجملة أحد
الثلاثة الذين هم نجوم الأدب العربي في مصر لهذا العصر، ولكل من تلك النجوم
منزلة وإضاءته وأثره الخالد.
إسماعيل صبري باشا
أكثر ما ينظم فلخطرة تخطر على باله من مثل حادثة يشهدها أو خبر ذي بال
يسمعه أو كتاب يطالعه، ينظم المعنى الذي يعرض له في بيتين عادة إلى أربعة
إلى ستة، وقلما يزيد على هذا القدر إلا حيث يقصد قصيدة، شديد النقد لشعره
كثير التبديل والتحويل فيه حتى إذا استقام على ما يريده ذوقه من رقة اللفظ
وفصاحة الأسلوب أهمله ثم نسيه،
خليل بك مطران
هو شاعر الشعور والخيال، وشاعر بعلبك والأهرام، ولد سنة 1871 ببعلبك
وتعلم بها قدم مصر سنة 1893 م واشتغل بمكاتبة الصحف وانشأ باسمه "المجلة
المصرية" سنة 1899 م وأنشأ أيضاً (جريدة الجوانب المصرية) وله ديوانه
المسمى (ديوان الخليل).
شعره: مجمع الصور وملعب الخيال، ونفسه كالصحيفة الحساسة ينطبع عليها كل ما
يمر بها، بل الغصن الرطب يميل به كل نسيم بل وج البحيرة الصافي يحركه كل
ريح
أبواب الشعر العربي لقراءة تتمة الكتاب
(الجزء
الثاني من جواهر الأدب)
أضيفت في01/06/2008/
خاص القصة السورية /
من كتاب جواهر
الأدب
|