السـقوط إلـى أعلـى2
مقتطفات من رواية
القسـم الـرابع الفـصل الأول
ص155-159
يجول في ذهن
فراس قول لفاليري.. " ويقول له عفريت.. أعطني دليلاً على أنك ما زلت
الإنسان الذي كنت
" !..
راح ينظر من
نافذة الطائرة، ثم يمعن النظر بقطر الندى التي جلست قربه وغاصت مؤخرة رأسها
في وسادة المقعد، مغمضة عينيها، مستسلمة إلى نعاس هادئ..
لم يبق لديه
شك في طبيعة المشاعر التي تتنازعه نحوها!.. مشاعر بدأت، وهي تتكشف عارية
أمام عينيه، تخلق بدورها، وإزاء نفسها، مشاعر أخرى في نفسه!..
أحس وكأن
هواء جافاً غريباً قد عصف في أعماقه.. فأخذ قاعها يجف عن رواسب بدأت تتبلور
وتتبدى عن أشكال ظهرت غريبة أمام عينيه..
لم يكن يدري
أن للعاطفة أقنية ومتاهات مرسومة في نفسه.. لا علم له بها!..
أقلقته هذه
الكهوف!.. يحس، مهما يُشحْ بوجهه عنها، أنه مرغم على السير فيها.. مرغم على
تخطيها!..
لم يشأ أن
يحرك ذراعه التي كانت تلامس ذراع قطر على مسند مقعديهما المشترك.. لم يشأ
أن يقوم بأية حركة قد تنبهها من نومها..
راح ينظر
بإمعان إلى وجهها، وقد استدار نحوه، وود لو يستطيع أن يلامس بشفتيه جفنيها
المغلقين..
لم يكن قد
رأى جفنيها بعد..
ما أطهر هذا
الوجه حين يستكين، وما أشد نعومة بشرته!..
رفع ذراعه
الطليقة بهدوء، وأقفل مفتاح الهواء البارد الذي كان يتحدر برفق على وجهيهما..
كان ذلك
الهواء حاجزاً بينهما، فأزاحه، وراح يتابع أنفاسها ، حتى خيل إليه أنه
يسمعها فوق هدهدة المحركات..
تنفست قطر
بعمق، ففتح صدره لأنفاسها، وراح يعبّ منها..
تنهدت، ثم
فتحت جفنيها عن عينين حائرتين لم تدهشا إذ رأتا عينيه في انتظارهما..
تبسّمت كطفلة حائرة، وسألته..
_هل
أطلت النوم؟..
نظر إليها
بمجامع نفسه..
تمهل، ثم
قال..
_قطر
!.. أنت لا تنوين أمراً تخفينه عني بشأن جعفر.. أليس كذلك!؟..
تابعت النظر
إليه بصمت، ثم ابتسمت بعد أن زمت شفتيها بكسل..
_أتظنني
قادرة هذا؟..
أطلق لهفة
مكبوتة..
_لم
تردّي عن سؤالي!.. قد تكونين، أو قد لا تكونين قادرة على ذلك، فالذي أود
معرفته هو.. أثمة ما تخفينه عني ؟.. بحق صداقتنا يا قطر.. إن كنت تنوين
أمراً من هذا القبيل.. فأطلعيني عليه الآن!..
قاطعته
مازحة بدلال..
_ما
الذي يتغير في الأمر لو أطلعتك عليه.. أو أخفيته عنك؟!..
_أهذا
جوابك الأخير؟..
ضحكت بهدوء،
دون أن تزيح رأسها الغارق في الوسادة..
همست في
أذنه، مطمئنة..
_هدئ
من روعك!.. لم أفعل مثل هذه الأمور في الماضي.. ولن أفعلها في المستقبل!..
القصة كلها مزاح!.. هنالك بالطبع من لن يفهم هذا.. لكن الأمر واضح بالنسبة
للجميع!..
إزاء دهشة
فراس وصمته، تابعت..
_مالك
تعجب؟!.. هنالك من النساء من يستسلمن للرجل رضوخاً لإرادته وإصراره، لا
حباً أو إعجاباً به!.. وهنالك من يبعن أنفسهن بالقليل أوالكثير من المال..
والبيع واحد.. ولواختلف الثمن!.. أما أنا، فلا علاقة عندي بين المال
والجنس.. وأنت أدرى الناس بذلك!.. لا حاجة لي بأن أذكرك أني لم أقو على بيع
نفسي لهلال، رغم إغراء ثرائه!.. قد يكون في قبول دعوة جعفر طيش منا
واستهزاء بالعواقب، وبأقاويل الناس!.. وقد يكون في قبول هذا المبلغ الزهيد
منه أمر تقطب له ظاهرياً حواجب الأكثرية الساحقة من الناس!.. لكن، سيان
عندي!.. صحيح أن هلالاً لم يترك لي مالاً ألهو به، إلا أنّي لست في ضيق
حقيقي!.. فأنا أملك بين قصري وحليي ما تزيد قيمته على المليونين!.. أتظنني
كنت أقبل هذه الدعوة لو كنت وحدي!؟.. إن كوننا أربعة.. وشعوري بالاطمئنان
التام، بين أختي وأصدقائي، هو الذي شجعني على قبولها!.. إنها لعبة نلعبها
يا فراس، لا أكثر ولا أقل!.. كنا نلعب " الضيفة والضيوف " ونحن صغار..
وأرانا اليوم أمام لعبة تشبهها!.. ثق أن جعفراً ليس أكثر منا جدية في هذا
الأمر!..
_أواثقة
أنت من قصد جعفر!؟..
_وماذا
في قصد جعفر من تعقيد؟.. ألأنه معجب بي؟.. ألأنه يسعى إلى مغازلتي؟!..إني
أعرف هؤلاء القوم حق المعرفة.. جميعهم سواء!.. لا يعرفون سوى الجنس
والمال!.. فلا غرابة أن يحاول الرجل منهم السعي وراء ما يتيسر له من
النساء، ولا غرابة أن تقبل نساؤهم مضاجعة من يتيسر لهن!!.. هل نسيت أمر درة
وأخيها!؟.. هل نسيت حب درة لميساء؟..
قاطعها
فراس، مفاجئاً..
_إذن
أنت تعلمين بالأمر.. وتعترفين به!..
_أبعشق
درة لأخيها ولميساء معاً؟.. طبعاً!!.. لهذا أقول لك إنني لا أجد غضاضة في
ملاحقة جعفر لي بغزل قد تجده جريئاً لو قارنته بطرق الغزل التي نعرفها
نحن!.. لكن ذلك شأنه.. وقبولي أو رفضي لهذا الغزل شأني أنا!..
_لكن
قبولنا الدعوة يا قطر.. وقبول المال بهذه السهولة!..
قاطعته
متنهدة، صابرة على ما لم يفهمه بعد..
_قلت
لك إن أمر جعفر يختلف عن، لنقل، إنسان مثلك!.. إن مثل هذه الدعوة لا تعني
الشيء الكبير بالنسبة له.. وقبولي لها، لا يعني أنني أسلمت قيادي له!!..
لو قلت له "
إن سيارتك جميلة يا جعفر، لو أن لي مثلها " لأعطاكها على الفور!.. هذه
مفاهيم لا يهضمها من على مثل مفاهيمك الغربية
!!..
تنهد فراس
بدوره..
_إذن..
إن أي تطور في علاقتكما يتوقف على ما ستسمحين له به أنت؟!..
_بالطبع!..
_وتقولين
إنك لن تسمحي له حتى برفع الكلفة بينكما؟!..
ضحكت في
دلال محبب، وقالت وهي تشيح النظر عنه..
_هذا..
إذا استطعت مقاومة إغراء عينيه الخضراوين!!..
كانت ميساء
تجلس إلى جانب زوجة فراس، في الطرف الآخر، وعلى امتداد مقعدي فراس وقطر
الندى..
وإذ انتبهت
إلى ما يدور من همس بين أختها وفراس، اقتربت منهما وعلقت مازحة!..
_ألا
تكفان عن الهمس وتدبير المؤامرات؟!.. هل تنويان الإيقاع بمسكين جديد؟!..
أجابتها قطر
الندى، ضاحكة، متظلمة..
_ليتك
تدرين بحديثنا!.. أن فراساً قد تغير يا ميساء.. وكأنه إنسان آخر!..
سألتها
أختها، مازحة متعجبة..
_وهل
يمكن تحديد ما هو فراس.. كي يمكنك القول بأنه تغير؟!..
_بل
تغير بالفعل يا ميساء!!.. إنه الآن يخاف أن أقع في هوى جعفر!.. أين خوفه
هذا مما كان يحرضنا عليه في الماضي من حب للحياة والحرية الفردية؟ّ!.. يقول..
قاطعها فراس
مبتسماً..
_بل
أنصحها بالتروي.. هذا كل ما في الأمر!..
اصطنعت
ميساء التعجب.. ثم قالت ضاحكة..
_اسمع!..
لم نقم بهذه الرحلة كي نسمع النصح بالتروي!.. قمنا بها كي نلهو ونمرح.. لقد
مللنا الركود والحياة الرتيبة!..
وأضافت قطر
الندى ضاحكة كأنها في جوقة تشترك فيها مع أختها..
_..
ونود أن نغازل
جميع من يروق لنا من الرجال!..
_
ونود أن نتيه
في الطرقات حيث لا يعرفنا أحد!..
_..
ونجلس بلفافة..
ننتظر من يشعلها لنا من " دون جوانات " باريس!!..
تقاربت
رؤوسهم وهم يردّدون هذا الكلام، وكانوا يخرجون من مقاعدهم!.. علا همسهم، ثم
ضحكهم، حتى أثاروا انتباه بقية المسافرين!..
لم يكن في
تصرفاتهم، وإن بالغوا، ما يحيد عن اللياقة.. لقد تعودوا إثارة انتباه الناس
عن غير ما قصد.. وتعودوا أن يقابلوا دوماً بالابتسامات المحببة من أناس لا
يعرفونهم..
كان في
تقاطيع وجوههم ما يوحي بعراقة المنبت، وفي أناقة مظهرهم ما يدل على الثراء،
وما يوحي بأجواء بيئة مترفة، يسمع عنها الناس، ولا تسمح ظروفهم بأن
يخالطوها، عن قرب، أو عن بعد..
أربعة،
وكأنهم خلقوا للسعادة، لحياة لا تعرف الهموم..
القسم الرابع
الفصـل الثانـي
ص167-173
}ندت عنه ضحكة
استهزاء، وقال..
_أتعرف
القصر؟..
_"
قصرالأفراح "
؟.. لا.. مالك تهزأ؟.. لكنني رأيت صوراً خارجية له في شتى المجلات.. إنه في
ظني أجمل ما بني من قصور عصر ما بعد النهضة!..
_أنا
لا أهزأ من القصر!.. أنا الآخر دهشت لروعة تصميمه.. بل أخذت بأناقة أبراجه
الشامخة المرهفة..
_مم
تهزأ إذن؟..
_مهلاً!..
صمت
قليلاً.. ثم تابع..
_كنا
قد وصلنا في الصباح الباكر.. وكان الضباب لا يزال مخيماً على أرجاء
البحيرة.. كيف أصف لك شموخ ذلك القصر وكبرياءه؟.. كان لقيامه على قمة تلك
التلة الخضراء المتحدرة نحو البحيرة، إطلالة أمير أوروبي من القرن الثامن
عشر، يستعرض على صهوة جواد أصيل، شروق الشمس على زرقة مياه البحيرة، وخضرة
الغابات المحيطة بها.. غريب كيف لا يمكنني التخلي عن إطلاق أوصاف إنسانية
على مثل هذه المباني!.. ولا يقل داخل القصر روعة عن خارجه.. لن أطيل عليك
وصف جمال حفر أبوابه، ودقة تصفيف أرضه الخشبية، المهم في الأمر هو أننا حين
دخلنا البهو الكبير، فوجئت بقطع كبيرة من " النايلون " تكسو معظم جدرانه!..
مستطيلات شاسعة من " النايلون " الرخيص، تغطي سطوحاً كبيرة، وتحيط بهذه
المساحات أطر جميلة الزخرف والحفر!.. ظننتها مساحات في دور التهيئة لنقش أو
رسم.. فلم أسأل جعفراً عنها إلى أن نظرت إلى الأعلى، فأدهشني ما جمّل به
السقف من مشاهد لفتية، وفتيات، يلهون مرحين في غابات مشرقة شبه منسقة، لونت
على طريقة مدرسة " فونتنبلو "، ترى حرير أثواب الفتيات فيها، رغم قدم
الرسوم، لا يزال يعكس نور النهار وكأنه أوشحة حقيقية لصقت على السقف!.. لا
بد وأن هذا القصر كان بحيازة قوم يعشقونه.. عجبت لماذا تخلى عنه أصحابه؟..
أحباً في الربح؟.. ضائقة مالية؟.. كيف اهتدى جعفر إليه؟.. كنت أعلم أن
جعفراً وأمثاله لا يميلون إلى ما هو من الطراز القديم أو الكلاسيكي.. كنت
مرتاحاً لهذا، أرى دراهمهم لا تمس سوى الجديد والتجاري من الأشياء، بل
والقبيح منها في معظم الأحيان!.. لأول مرة، بدأت أحسد جعفراً وأنا أتجول في
أرجاء ذلك القصر!.. هل تنبه إلى فساد ذوق قومه، فأراد بهذا القصر أن يبرهن
على ذوق جديد؟..
تابع فراس
بصوت حزين..
_عدت
إلى الجدران أتفحصها.. إلى أن وجدتني أسأله، مستطلعاً، أمر هذه السطوح
المكسوة بالنايلون.. أتعلم ماذا كان جوابه لي؟..
أجبته على
الفور..
_لابد
وأنهم كانوا يرممون ما عتق من الرسوم القديمة على الجدران..
هز رأسه،
وأجابني..
_لم
يكن شيئاً من هذا القبيل!.. أجابني جعفر بالحرف الواحد: " آه!.. هذه؟..
كانت صوراً لنساء عاريات.. وحيوانات.. وغير ذلك مما حرمه الدين!.. حاولنا
خلعها عبثاً!.. يظهر أنها رسمت مباشرة على الحائط.. فقشرناها!.. قشرناها
بما لدينا من أدوات، فبات منظر الحائط قبيحاً!.. فسترناه بالنايلون الذي
تراه!!.. ما رأيك؟!.."
_قشروا
" الفريسك " ؟!.. أمعقول هذا؟!..
_أقسم
لك بأن هذا هو ما شاهدته بأم عيني وسمعته من جعفر!.. هرعت أستكشف بقية
ردهات القصر، فوجدت جميع جدرانها قد لاقت نفس المصير!!.. انتابتني غصة
مؤلمة في حنجرتي .. أقسم لك مرة أخرى أنني كدت أبكي!.. فطنت إلى أمر آخر،
فعدت إلى جعفر أسأله ما إذا كانت هنالك تحف أو تماثيل فنية في القصر حين
ابتاعوه!.. فأجابني.. " طبعاً، طبعاً!.. كانت هنالك تماثيل وأصنام
كثيرة!!.. من الرخام والمعدن والخشب!.. وصور صغيرة الحجم تملأ الجدران "..
فازدادت ضربات قلبي وأنا أسأله خائفاً، متردداً.. " أين هي؟!.. " فإذ به
يقول..
_لقد
حطمناها جميعاً، طبعاً!.. وأحرقنا القابل للحرق منها!!..".....
لاريب أنه
رأى نظرة غريبة، مروعة، وأنا أسأله في محاولة أخيرة.. " لكن.. إن كنتم لا
تريدونها في القصر.. أفلا تعلمون أنها أشياء ذات قيمة بالنسبة لغيركم من
الناس؟!.. لماذا لم تتخلصوا منها بإعطائها لمن يحبها.. أو لماذا لم تطرحوها
للبيع؟!.." أتدري بماذا أجابني؟..
_بماذا؟!..
_قال..
" نفرق الحرام على الناس؟!.. ماذا دهاك يا فراس؟.. نبيعها؟!.. ونأخذ بذلك
مالاً قذرا ً
"!!..
عاد فراس
إلى الصمت.. وأغرقت أنا الآخر أقلب ما رواه لي، ساهياً عن كل ما عداه..
ناسياً هدف طلبي للقائه!..
سألته بعد
حين..
_هل
مكثتم طويلاً في القصر؟..
_لا..
نصف ساعة على الأكثر.. خرجنا بعدها نتنزه في حديقته المنحدرة نحو البحيرة..
ضحك لأمر
جال في ذهنه..
_أتعرف
ماذا وجدنا في الحديقة؟..
_...؟
_ماعز!!..
استرعى انتباهنا صوتها.. كانت مربوطة إلى الشجرة الوحيدة في الحديقة..
_ماعز؟..
وماذا كانت تفعل ماعز في حديقة ذلك القصر؟..
_سألت
جعفراً عنها.. فأجابني بأن الشيخ الكبير، صاحب القصر، لا يثق بحليب
الأسواق.. لذلك استحضر هذه الماعز من بلاده كي توفر له الحليب الطازج!..
_القصر
إذن ليس ملك جعفر!..
_لا..
بل ملك شيخ بلاده، كنت أنا الآخر في شك من ذلك، حتى علمت أخيراً أن جعفراً،
بوصفه من أقوى عائلات تلك البلاد، يشغل لدى الشيخ مكانة الحاجب لدى
الخليفة، ولهذا المنصب أهمية قصوى!.. إذ لا تنفذ مشيئة من مشيئات الشيخ إلا
عن طريقه..
تبادرت قطر
إلى ذهني، فسألته..
_وقطر
الندى؟.. ماذا تم من أمر غرام جعفر المتأجج؟!..
_لاشيء!..
قال ذلك
بحدّة، وما عوّدني التكلم عن هذا الموضوع سوى ببساطة ولامبالاة!..
أشاح بوجهه،
كأنه يمنعني أن أستوضحه الأمر..
أطرقت أحاول
تفسير امتعاضه.. لابد أن هنالك جديداً لم يخبرني عنه!.. أكان هذا هو الدافع
وراء تلكئه في مقابلتي؟!..
عجبت لحدته
وارتباكه.. أين فراس الذي يضحك من الحب، ويهزأ من القيم!.. أين مقدرته على
الخوض في لجج العاطفة دون أن يفقد تجرده في الحكم على تجربته؟!..
كم سمعت منه
أقوالاً مثل " ما أسخف غرامي وأوهاه!.. ومع هذا، فأنا غارق فيه، سعيد، أشرب
منه حتى الثمالة
"!..
ما باله
اليوم ينطوي على نفسه، متحفظاً في سره بما يشعر به نحو قطر الندى؟.. أهي
عفة منه إزاء هذه العاطفة المفاجئة؟!..
لا أظن!..
فأنا لا أعرف موضوعاً يمكن له إثارة الحرج بيننا!..
لم يبخل
عليّ يوماً بتفاصيل علاقة نسائية.. فما باله يكتم مشاعره الآن؟!..
ما الذي
يحرقه؟.. أهي علاقة جعفر بها!.. وليس في علاقة جعفر بها قضية غيرة فحسب..
إذ لو كان ذلك هو السبب لحدثني عن هذه الغيرة ببساطة!
لابد أنه
أمر أعمق..
أحسست وكأن
فراساً يواجه مشكلة جذرية.. مشكلة إعادة تقييم أمور ظنّ أنه فرغ من تقييمها!..
لم أشأ، رغم
متانة معرفتي به، أن أتسرع في الحكم..
أحسست بأنني
بحاجة إلى المزيد من الأدلة كي لا أخطئ فهمه..
سألته
متريثاً.. محاولاً تبسيط الأمور..
_أللأمر
علاقة بجعفر؟.. أتقلقك غيرتك منه؟..
_لا..
لاشيء من هذا القبيل..
تبسم، ثم
تابع..
_إنها
ليست قضية غيرة، أو قلق على نفسي من إحساسي بالغيرة.. إنه شعور ينتابني
تجاه ما أحس به من عاطفة نحو قطر الندى..
_لم
أفهم بالضبط..
_أعرف
أنك لن تتركني وشأني.. اسمع.. لايكفي أن يعلم الإنسان بأن لا قبح هنالك ولا
جمال، وأن هذه ليست سوى مفاهيم نسبية!.. لا يكفي أن يعلم المرء أن معرفته
هذه تتيح له أن ينعم بما يريد، ما دام مصغياً في قرارته إلى صوت يذكره
دوماً بأن إحساسه بالجمال، أو القبح، وإن كان أكيداً، فإن ما يحرك هذا
الإحساس ليس سوى عوامل نسبية!.. ظننت أن باستطاعتي أن أتوقف عند هذا الحد..
أحب وأكره ما يروق لي، مطلقاً العنان لنفسي فيما تتذوقه، مستنداً إلى
معرفتي أصلاً ببطلان قيم ثابتة للجمال والذوق!.. بكلمة أخرى.. كنت قانعاً
بما وضعته من فاصل بين المعرفة والشعور، سعيداً بما حررت به نطاق الشعور
عندي من قيود المعرفة!..
سمعت ضربات
قلبي تعلو وأنا أستمع إليه يقترب من عالمي..
سألته
كابتاً لهفتي..
_والآن؟..
ماذا تبدل في الأمر؟!..
_يتفق
للإنسان أن يقف أمام أمر يثير في نفسه فيضاً من الحس الجمالي، فيود لو
باستطاعة هذا الحس أن يغلّف معرفته ويحتويها!.. يود لو تكون لما يهزه من
شعور قيمة ثابتة، تقف صلبة، لا تفككها المعرفة، ولا يبطلها العقل!.. قيمة
مطلقة يود في قرارته لو أن شعوره، لا عقله، هو الطريق إليها!..
باغتني ما
سمعت!.. لم أفهم ما الذي اعتمل في نفسي وأنا أسمعه يردد ما طالما تمنيت
سماعه منه!.. فوجئت بما كنت أتطلع إليه.. لم أفهم لماذا كرهت هذا التحول
المفاجئ بدل أن أرحب به!..
لست أدري ما
الذي انتابني، لكني وجدت نفسي أقول بلهجة ساخرة..
_أهو
الحب.. يا فراس!؟..
تغاضى عن
سخريتي.. وأجاب..
_ربما!..
لست أدري..
_لم
يخيل لي أن حبك لقطر الندى من القوة بما يدفعك لمراجعة مفاهيمك!..
_وماذا
كنت تظنني؟.. حصناً منيعاً من البرود وعدم المبالاة؟!.. فتعجب كيف يوشك هذا
الحصن على الانهيار أمام تجربة لا تؤمن بأبعادها؟!..
سألته بدوري
مستغرباً..
_أأنا
الذي لا يؤمن بالحب يا فراس.. أم أنت..؟!
ثم تابعت
مستفسراً..
_..
وتجربتك.. أمن
العنف بهذا المكان؟..
_ليس
هنالك تجربة عنيفة بحد ذاتها!.. قوة التجربة تعكس قوة صاحبها.. وعنفها يقاس
بمقدار عنف توتره الداخلي!.. أن تجربتي مع قطر لم تصل إلى هذا العمق ولن
تصل.. بل إنها على عكس ما تقول تماماً.. فلا عنف هنالك ولا عواطف متأججة!
لا ريب في أنني في مأمن من مثل هذه التجارب المستعرة، لانعدام هذه التوترات
الداخلية في نفسي!.. ليس بيني وبين قطر كلمة حب واحدة.. ولا شك عندي أننا
لو تبادلنا مثل هذه الكلمات لأغرق كلانا في الضحك مما نقول!.. إن ما أشعر
به نحوها هو مشاركة من نوع آخر..
_أأذكرك
يا فراس بقولك.. " إن الحب شهوة طويلة، والشهوة حب قصير
"!..
_..
لكني لا أتحدث
عن هذا الحب.. أو عن " الحب " إطلاقاً!..
أطرق
ساهماً، ثم تابع..
_..
لعل كل إنسان،
إذ يحب، يظن أن حبه يختلف عن حب من عداه من الناس.. من يدري.. لعل كل إنسان
محق في محاولة الخروج عن تصانيف الحب المعروفة.. لا ريب أن هنالك من أنواع
الحب ما يعادل عدد من يخوضون هذه التجربة من بشر.. ومع ذلك، فإن ما بيني و
بين قطرالندى أقرب ما يكون إلى القلة النادرة! ثق أنني لو حاولت أن أجد
ركيزة لعلاقتنا، لأعياني الأمر.. فلا شهوة جنسية عارمة تدفعني نحوها.. ولا
حب بالتملك أشعره تجاهها.. ولا إعجاب أعمى أحسه بجمالها!.. سأقول ما قد
يضحك.. لعل علاقتنا لا تستمد قوتها سوى من نقصان جميع هذه العوامل بالذات!!..
سهوت عن
كلامه.. أهذا " فراس " الذي يكلمني؟!..
أهذا هو
فراس الذي عرفت لسنوات طويلة؟!..
ماالذي يجري
بيننا الآن؟ ولماذا أرفض في سري أن يلعب فراس دور المحب؟! ألم أسع في
الماضي جاهداً في البحث عن عاطفته؟.. ألست ممن ينادون بربط الشعور
بالمعرفة؟!..
أحسست بضيق
مفاجئ!..
هل كان فراس
حقاً ذلك المارد العقلاني.. وهل كنت حقاً ذلك الإنسان الحائر الذي يرفض
عقلانيته الباردة؟!..
جعفر!.. قطر
الندى!.. ميساء!.. هلال!.. ودرة.. والبدر وسلاطين وملوك.. وحياة مغامرات
ومؤامرات لها أول، وليس لها آخر!!.. أيمكن أن ينشأ حب في مثل هذه الدوامة؟!
أم أن هذه الأحداث نفسها دفعت قطر الندى وفراساً أحدهما إلى الآخر؟!{
القسم الرابع
الفصـل الثـالث
كانوا في
لهف للوصول إلى باريس، لذلك جهدوا ألا يقضوا برفقة جعفر سوى أيام قلائل..
لم يبق
لوجوده بينهم، بعد أن قاموا بزيارة القصر، سوى مبرر واحد، وهو سيارة "
الفراري "، فما أن أطلعهم على حظيرة سياراته، وأبدوا إعجابهم بمحتوياتها
كما لو كانت خيولاً أصيلة تعب في تربيتها، حتى زال من نفوسهم آخر سبب
لاستبقائه بينهم، وكادوا ، لولا بقية من كياسة، أن يكاشفوه عن تبرمهم به!..
انكبوا،
عشية اليوم المقرر للسفر، يحزمون به حقائبهم من أمتعة.. أمضوا معظم الليل
يلهون ويتسامرون، يضحكون من ولائم جعفر التي فرض عليهم تناول الطعام فيها
في غرف النوم، خوفاً من أعين المراقبين!.. ولائم، لم يتنوع الطعام فيها
أبداً.. خروف محشي بالأرز.. طبق كبير يحتوي من الطعام على ما يكفي لعشرين
شخصاً، يوضع في وسط المائدة، ليتناول كل منهم كفايته منه!..
وفي كل
وليمة.. يعيد جعفر على مسمعهم قصة المشقة التي عاناها طاهي الفندق لاستحضار
السمن العربي والأرز الهندي، ويكررون في كل وليمة تقديرهم لهذه المشقة، كأن
لاهمّ لهم في جنيف سوى أكل الأرز الهندي واللحم المطبوخ بالسمن العربي!..
تذكروا
اللعب بالورق.. فأغرقوا في ضحك سالت له دموعهم!..
كان جعفر،
كلما انتهوا من تناول الطعام، يطلب إحضار القهوة، ويردد نفس القول..
_ماذا
نفعل الآن؟.. لا يمكننا السهر .. ولا الخروج من الفندق، كي لا يرانا أحد!..
ما رأيكم فيما لو نلعب لعبة " أبو الفول " ؟..
ثم يجلس
الجميع على الأرض، بعد أن يكون جعفر قد جمع كل ما في الغرفة من وسائد،
وهيأها لراحة قطر الندى!..
كان يجلس
إلى جابنها مظهراً إغراقه في اللعب.. ينظر إلى أوراق قطر الندى، ليعرف ما
تحتاج إليه من مساعدة، وكلما جاء دورها لانتقاء ورقة من أوراقه، وأراد أن
يجنبها ما قد يضرها منها، يقول..
_..
ما أحلك
الليل!.. انظروا إلى ظلمة السماء!!..
فينظر
الجميع من النافذة، تاركين له عمداً فرصة القيام بما يريده من حيل!..
كان يوجه
أوراقه خلسة نحو قطر الندى، رافعاً كتفيه، مقطباً حاجبيه، كالقط إذا أحس
بالخطر، فإذا تنبه إلى أن أحدهم يوشك أن يوجه نظره نحوه، نهره بعينيه، أو
كرر عليه القول بأن الليل مظلم حالك!.. فما له لا ينظر إليه!!..
وتتكرر
الحيل.. وتتكرر المحاولات، حتى يعييه اختلاق الأعذار.. فتبادر ميساء إلى
نجدته!.. كأن تطلب من فراس أن يأتيها بحاجة، أو يقوم هذا مدعياً أنه سمع
قرعاً على الباب، فيسرع جعفر إلى إنقاذ ما يظن أن قطر قد وقعت فيه من مأزق
في اللعب!.. وتدّعي هذه السرور والامتنان لمساعدته.. فينظر إليها نظرة الذي
أعياه تنفيذ مهمة شاقة!.. ثم يعود بالنظر إليهم، متسائلاً عما إذا كان
هنالك أمر قد لفت انتباههم!..
تذكروا هذه
الولائم.. وهذه الجلسات.. فأفرغوا، في آخر ليلة لهم في " جنيف "، جميع ما
كبتوه من ضحك، على جعفر، وعلى أنفسهم، بسبب هذه المواقف التي فرضت عليهم من
جراء ما زجوا به أنفسهم..
تنفسوا
الصعداء إذ أحسوا أن الغد سينقلهم إلى باريس، وارتاحوا إلى فكرة أنهم
سيعودون بعد ذلك إلى ديارهم.. فيسدل الستار نهائياً على هذه المهزلة
القصيرة الأمد!..
وفي صبيحة
اليوم التالي استقلوا سيارتهم باتجاه باريس، يقودها سائقهم الأشقر، تتبعهم
سيارة أخرى.. خصصت لحقائبهم العديدة..
أحسوا بتعب
من سهرة الليلة الفائتة، فاسترخوا في مقاعدهم ينتابهم نعاس ملحّ تهيؤوا
للاستسلام إليه..
أدار فراس
مذياع السيارة إلى موسيقى هادئة، فراح كل منهم، وكأنه على موعد مع أحلامه،
ينتقل سلفاً بين أحياء باريس، ويستبق في ذهنه ما سيقوم به هناك من مغامرات..
راحت قطر
الندى تستعيد نظرات جعفر المفتونة، وكلمات الغزل التي كان يغرقها بها كلما
سنحت لهما الظروف لقضاء دقائق على انفراد..
ابتسمت في
سرها إذ تذكرت محاولات للإمساك بيدها تحت مائدة الطعام!.. لا شك في أنه
مستعد لبذل الغالي والرخيص للوصول إليها!..
أحست براحة
واسترخاء إذ جال في خاطرها أن هنالك من يشتهيها إلى هذا الحد!.. يداه
الكبيرتان الجميلتان.. أوتار أصابعه الظاهرة.. وعروق الدم النافرة من تحت
الجلد..
هل ستسمح
لهاتين اليدين بمغازلتها؟.. ماذا ستحس لو جالتا بأصابعهما القوية على
صدرها.. وأنحاء جسدها؟..
ضحكت من هذا
الخاطر في سرها..
هزأت، إذ
تذكرت ما كان يقوم به جعفر من حركات صبيانية أثناء اللعب بالورق!.. حدث!..
مراهق!..
ما بالها
تفكر به.. وهي التي تبحث عن رجولة عارمة تغرق بها أنوثتها؟!..
ومع ذلك،
فإنها تود أن تنتقي الرجل، وتشتهيه هي، لا أن ينتقيها الرجل، ليغرقها
بأحاسيس لم تطلبها منه!..
صحيح أنه
لمما يرضيها أن يدور في فلكها عشيق مثل جعفر.. لكن، ليس في هذا ما يسعدها..
طار خيالها
نحو هلال.. هل ستجده في باريس؟..
هل تحاول أن
تسترضيه إن وجدته؟..
وماذا عن أم
جوهر؟.. ألا يزال على حبه لها؟..
أحست بغصة
إذ جال في ذهنها أن قصته مع أم جوهر لا بد باتت على ألسنة الجميع؟..
كيف تنتقم
لكرامتها من هلال؟..
كم تود لو
تستطيع أن تمرغ كرامته بالتراب!!..
_قطر!..
مالك تقطبين هكذا؟!..
فتحت
عينيها.. وضحكت من سؤال ميساء..
_لاشيء..
لاشيء.. كنت أفكر بولدي..
"
ولدها!! ".. "
ولدها!؟.."
أغمضت ميساء
عينيها
أطلقت
لأفكارها العنان، لا لتحلق.. كتلك السحب البيض المتقطعة.. بل لتنساب بصمت
وأناة كانسياب السيارة الدافئة التي تقلهم عبر ثلوج تلك الطريق الجبلية
الملتوية..
هزأت مما
سمعته من قطر.. " ولدها "!.. متى كانت تفكر قطر بولدها؟!..
لا شك أن
أختها رتبت خطة تنوي أن تنفذها بصدد جعفر، وإلا لما تجرأت على قبول ذلك
المبلغ الإضافي منه!..
ألم يعطها
حقاً سوى عشرة آلاف في " جنيف "؟!..
ماذا سيظن
بهما فراس وزوجته لو علما بالأمر.. ماذا سيقولان إن علما بأن قطراً قد قبلت
ذلك المبلغ منه، وأنها أعطتها نصفه لتبتاع به ما يلزمها من ثياب لحفل
زفافها على مراد؟!..
تعجبت.. كيف
جرت هذه الأمور أمامها دون أن تشعر بها!..
لابد أنها
حصلت تحت سمعها وبصرها!..
لكنها لم
تفارق أختها لحظة منذ أن حطتا في جنيف!..
متى دبرت
قطر الندى ذلك؟!..
ألا يجدر
بها بعد اليوم أن تكف عن الاستخفاف بمقدرة أختها على حياكة المؤامرات في
الخفاء؟..
لكن، لا..
فقطر قد برهنت مراراً على أنها غير قادرة على التنبؤ بالعواقب البعيدة
للأمور!.. وإلا، فكيف تزج نفسها بمثل هذه العلاقة مع جعفر؟.. وما قيمة هذا
المبلغ حتى تقبله خفية عنهم جميعاً.. وبهذا الشكل؟!..
صحيح أنها
حاكت مع أختها هذه الرحلة منذ البدء.. وصحيح أنها بحاجة إلى ما أخذته من
أختها من المال.. لكنها لم تخاطر بشيء!..
ستقوم
بعملية التجميل.. ثم.. وهذا سر لم تخبر عنه أحداً بعد.. إن هدفها الأول من
هذه الرحلة هو مقابلة مراد!!.. لقد أبرقت إليه بأنها ستكون في باريس بعد
يومين.. وأجابها بأنه سيأتي لمقابلتها هناك!!..
انتابتها
غصة حين تذكرت بأنها قد أبرقت إليه كي يوافيها في جنيف، وأنها بدل أن تجده،
وجدت باقة من الورود في غرفتها، وعلمت من إدارة الفندق أنه ترك جنيف في
اليوم السابق لوصولها
!..
دار في
ذهنها خاطر بعث في نفسها غصة أقوى من الأولى!..
ما لها تكذب
على نفسها؟!..
وضعت يدها
على جبينها كي تخفي دموعاً أوشكت أن تنهمر من عينيها..
فتحت جفنيها
قليلاً لترى ما إذا كان أحد قد انتبه إلى حالتها.. فوجدت الجميع إما نائمين
أو شبه نيام..
عادت إلى
أفكارها.. تتمشى بينها بصدق وخوف!..
إنها لم
تبرق إليه كي يوافيها في جنيف.. لقد كان فعلاً في جنيف.. وكانت تعلم أنه
هناك، حين أرسلت إليه ببرقيتها!..
جّلّ ما
طلبته منه في تلك البرقية هو أن ينتظر قدومها يوماً أو يومين!!.. أكثير هذا
يا مراد؟!..
لم تخبر
فراساً أو أختها، بأن مراداً كان في جنيف.. أو أنها أبرقت إليه كي
ينتظرها!.. أرادت أن تجعل من تلك المصادفة مفاجأة لهم.. أرادت أن تتوهم بأن
مراداً جاء خصيصاً لمقابلتها في جنيف!!..
تذكرت
خيبتها حين قيل لها إنه ترك الفندق، ثم فرحها حين وجدت الورود في غرفتها!..
ظنت بلا شك
أنه ذهب إلى " لوزان
"..
لقد ترك
الفندق في اليوم السابق.. وهذه الورود مرسلة اليوم!.. أيقنت أنه لازال
موجوداً في البلاد، في لوزان، حيث له مقر محبب إلى نفسه.. على بعد
كيلومترات منها!..
ظنت أنه
يختبر ذكاءها!.. أرادت أن تظن ذلك!..
أرادت أن
تقنع نفسها أنه كان يستدرجها بطرق شاعرية إلى ذلك المقر.. فأسرعت إلى فراس
تخبره بذلك.. وطلبت منه أن يرافقها إلى لوزان!..
تساقطت
الدموع من عينيها حين تذكرت كيف لم يتعرف إليها حارس المقر.. وحين علمت منه
أن مراداً كان في ذلك المقر فعلاً، وأنه لم يمض فيه سوى ليلة واحدة!
تذكرت
ابتسامة الهزء التي قابلها بها ذلك الحارس المسن.. وقوله لها..
_..
الأمير مراد؟..
لا يا آنستي، لقد ذهب..
..
ثم كيف حنا
ظهره، وقام بحركة سريعة بأصابعه تدل على الركض، وكيف تابع مقطباً حاجبيه
الكثيفين، مبتسماً لها بسخرية..
_..
عليك اللحاق
به!.. لقد ذهب بعيداً.. إلى باريس.. أو ربما عاد إلى بلاده!!..
تذكرت
مفاجأته، وتلعثمه، حين نهره فراس لمخاطبته " الأميرة ميساء.. زوجة الأمير
مراد ".. بهذه اللهجة النابية!!..
_..
آه.. آه، معذرة
يا سيدي!.. أرجو المعذرة!.. ماذا تريدان.. ليست هذه أول مرة تسأل فيها
حسناء عن الأمير مراد!.. تدعي جميعهن بأنهن خطيباته!!..
تذكرت كيف
أقبل يفتح باب سور الحديقة الحديدي، يدعوهما باحترام شديد للدخول وهو يكرر
عبارات الاعتذار..
_آمل
أن تكون الورود قد نالت رضا صاحبة السمو!.. لقد قمت بنفسي بطلبها من "
انترفلورا " وأصررت عليهم ألا تكون قد تفتحت بعد.. ليت صاحب السمو أطلعتي
أن هذه الباقة كانت معدة لسموك!.. ظننت أن " الأميرة ميساء " اسم إحدى
أميرات العائلة المالكة، من قريباته.. ما أغباني.. كيف لم أدرك أنها لزوجة
الأمير بذاتها!.. آه.. كم يحب صاحب السمو المفاجآت..
وتذكرت كيف
تلعثمت هي الأخرى، وأجابته..
_أوه..
لابأس، فصاحب السمو لم يكن يتوقع قدومي إلى لوزان!..
لطالما علمت
بأن " صاحب السمو " يحب المفاجآت!!.. وأن لا بأس لديه أن تحط هذه الفاجآت
من كرامة الآخرين!!..
"
صاحب السمو" لا
يعلم أصلاً أن لدى الآخرين شيئاً يلقب بالكرامة!!..
آه لو
تستطيع تلقينه درسين أو ثلاثة!!..
لابأس!..
ستصبح زوجته الفعلية إن عاجلاً أو آجلاً!!.. وستعرف كيف تجعله يدفع ثمن هذه
الإهانات!!..
كانت زوجة
فراس تجلس بين الأختين في المقعد الخلفي.. وإذ راحت ترقبهما بصمت، شعرت
بضيق شديد لسهوهما عنها!..
كان الكلام
جسراً يربطها بصديقتيها.. وكانت بحاجة مستديمة لتحسس ذلك الجسر كي تستوثق
من الرباط الذي يجمعهما إليها!..
لطالما أحست
بأن الصداقة لا تكفي لتخطي ما بينها وبينهما من فوارق!.. وهذا زوجها.. إنه
أقرب إليهما منه إليها، لا في لون البشرة، وتشكيل تقاطيع الوجه فحسب، بل في
المظهر العام، في الطباع، والثقة بالنفس الظاهرة في جميع تصرفاته!..
كانت تعلم
أن في علاقة فراس بالأختين شيئاً أعمق وأوثق من العلاقات التي تحتاج
للمسامرة والحديث لدعمها!..
أليست هي
زوجة فراس؟.. أليس من الطبيعي لها أن تتقفى أثره، وأن تحاول أحياناً أن تخذ
من طريقته قدوة لعلاقتها بصديقتيها؟.. فإن سكتوا عن الكلام ركنت إلى
السكوت، متظاهرة بأنها تفكر هي الأخرى بأمور تشغلها عن الكلام! لكن شعورها
بأنها إنما تقلد الآخرين في ذلك كان يعذبها
!..
لم تكن من
النوع الذي يقبل راضياً بالمقام الثاني!.. وعلاوة على ذلك، فإن هنالك أمراً
آخر لا تفهمه.. فما أن يحل الصمت بينهم حتى تشعر بأن ثلاثتهم قد أجمعوا على
إهمالها
!..
فراس زوجها،
وفي ذلك ما يطمئنها بأنه مهما حلّق بعيداً عنها فإن بينهما خيطاً يصلهما..
يمكنها بواسطته أن تجذبه إليها
!..
لكن صمت
الصديقتين !.. صمت زوجها والصديقتين!.. كان في صمت هؤلاء الثلاثة ما يشعرها
بأن هنالك اتفاقاً مدبراً لإهمالها!!..
لطالما رددت
على نفسها بأنها حجر الأساس في صداقة زوجها بالأختين، ولولاها لما جمعت
الظروف فراساً بقطر الندى وميساء
!..
لكن الحوادث
التي تخطتها.. وشعورها بأنها الأساس في هذه الصداقة بدأ يوهن ويبهت
!..
فمن الظاهر
أن ما يجمع بين زوجها بهما لهو أقوى من أن تفككه سراً، وأن تتصدى له علانية
!..
لم يبق
لديها سوى وسيلة واحدة.. أن تشد ما يربط بينها وبين الأختين إلى أبعد ما
تستطيع.. أن تصبح أقرب إليهما من فراس!!..
وجاءتها
الفرصة المناسبة حين كانوا في زيارة القصر في جنيف!..
ضحكت في
سرها حين تذكرت نظرات جعفر إليها وهي تفاجئه بقولها..
_إن
قطراً تود منك أمراً تخجل من أن تصارحك به!..
ما الذي
أوحى إليها بهذه الفكرة؟.. كيف اختلقتها؟..
تعجب من
جرأتها حين ادعت أن قطراً تود أن تبتاع بعض الحاجيات، وأنها نسيت أن تحضر
معها دفتر شيكاتها إلى جنيف!.. هزأت من هذا العذر السخيف، وخشيت أن تعلم
قطر بأنها هي التي بادهت جعفراً بهذا الطلب، فأصرت على جعفر ألا يوسّط
غيرها، وأن يعطيها المبلغ، فتفاجئ قطراً به صباح ذهابهم إلى باريس، على أنه
هدية لا ذيول لها!..
نظرت إلى
قطر التي كانت ما تزال تحلم مغمضة العينين..
"..
ما أغباك من
أميرة!...."
عاد إلى
ذهنها كيف أسرّت إلى قطر، حين عادوا إلى الفندق، بأن جعفراً يلتمس الأذن في
أمر هدية يتردد في تقديمها!..
كم ضحكت قطر
للأمر.. وما أسهل ما انطلت عليها الحيلة!.. كم سارعت في القبول حيث تأكدت
أن فراساً لن يعلم بأمر هذه الهدية!..
سألت زوجة
فراس نفسها.. " لماذا خشيت قطر أن يعلم فراس!؟ ".. تعجبت من نفسها.. ما
الذي يهم قطر من أمر زوجها!؟..
نظرت إلى
زوجها.. وكان يتأمل أشجار السنديان الباسقة المحملة بالثلج.. ما أغباه.. هو
الآخر!..
أيظن أنه
يحيط علماً بجميع ما يدور حوله؟!.. ما أقل فطنة الرجال!.. ماذا لو علم أنها
أخذت عشرين ألفاً من جعفر في السر، على أن تسلمها لقطر الندى، يوم سفرها
إلى باريس، وأن هذه أعطتها ثلاثة آلاف منها، ثم أعطت خمسة آلاف لأختها
مدعية أمامها بأنها لم تأخذ من جعفر سوى عشرة آلاف!!.. مؤكدة لها بأن لا
علم لفراس وزوجته بالأمر!..
ألم تضرب
بذلك عصفورين بحجر واحد!..
ألا تشترك
الآن مع قطر في سر لم تطلعا ميساء سوى على جزء منه، ومن ثم، اشتركت مع
الأختين في كتمان نصف هذا السر عن فراس!..
ثم.. وهذا
هو ما يثلج صدرها الآن، أليس فيما قامت به ما يساعد قطر على الانزلاق؟..
ألم تدفع
بقطر، عمداً، إلى أحضان جعفر؟!..
فليعجب فراس
بقطر ما شاء!.. ولينظر إليها بحنان ما شاء!.. أيظنها عمياء عما يجري
بينهما؟!..
ستعرف كيف
تجعل من قطر عشيقة لجعفر!!..
تنبه فراس
من نومه.. نظر إلى الخلف، فوجد زوجته وصديقتيه مغرقتين في نوم عميق..
سأل السائق..
_أين
نحن؟..
_لقد
اجتزنا جبال الألب السويسرية، يا صاحب السمو.. نحن الآن في اﻟ
Juras،
في فرنسا..
تبسّم لوقع
" صاحب السمو " !..
عاد إلى
إغلاق جفنيه.. وتنفس بعمق كأنه يعب من عبق الغابات الكثيفة الممتدة أمامه..
تذكر "
باتريس "، صديق حداثته في باريس، وكيف كان يحدثه بإسهاب عن جمال هذه
الغابات.. حقاً.. إنها كما وصفها صديقه، وأجمل!..
شاهد من
بعيد قصراً قديم البناء..
أيكون هذا
هو القصر الذي كان صديقه يصفه له، مسقط رأس أسلافه من قرون طويلة؟..
أتكون هذه
القلعة التي ولد فيها صديقه؟..
لابد أنها
هي.. إنها القصر الوحيد في المنطقة..
لطالما حدثه
" باتريس " عن حجراته القديمة الواسعة.. وعن طفولته السعيدة، التعيسة، التي
أمضاها، يلعب مع أخيه بين جدرانه القديمة.. كانت الحرب على أشدها.. والدهما
أسير لدى النازيين، وأمهما الورعة لاهية عنهما بالصلاة أوبتدبير الطعام..
انقضى عامان على آخر لقاء له بصديقه.. ست سنوات من صداقة متصلة لم يشبها من
سوء تفاهم واحد.. سيتصل به، حال وصوله إلى باريس..
كم ستكون
مفاجأة باتريس كبيرة!..
سيصيح على
الهاتف: " مكسيم!!.. أهذا أنت حقاً!!.. " ابتسم، وخفق قلبه لهذه الصورة..
عاد فراس
بخياله من اﻟ Juras
، إلى باريس،
وحلق فوقها ليلتقط لها صورة شاملة في ذهنه
!..
تضاعفت
أصوات السيارات التي كانت تمر بالاتجاه المعاكس لهم..
تحول، في
خياله، ومض الأعمدة الكهربائية المتطاير أمامه، إلى أنوار السيارات الكاشفة
المتسابقة في شوارع باريس الواسعة التي كاد يحس أنه يحلق فوقها!..
اقترب من
سقوف الأبنية التي كان يحلق فوقها في ذهنه، ثم راح يتغلغل في أزقتها، وبين
أبنيتها القديمة، حتى كاد يشم رائحتها!..
وجّه مخيلته
نحو غابة " فانسين "، نحو داره القديمة فيها.. نحو بحيرة الغاب، وسار على
الطريق المؤدية نحو المصحّ..
ألا تزال "
لورا " في ذلك المصحّ؟..
لقد قطع
اتصاله بها منذ زواجه..
ألا يزال
ذلك الجسد الواهي أسير ذلك السرير؟..
ألا تزال
مشكلة الموت تحرق تلك النفس النبيلة؟..
لم تبرح "
لورا " سريرها منذ انتهاء الحرب!.. خمسة عشر عاماً قضتها مكبلة إلى ذلك
السرير، لا تبرحه سوى لحاجة ملحة، أو لتمضية بضع دقائق في حديقة ذلك المصحّ!..
"
لورا ".. يا
آخر أعرق سلالة ملكية في أوربا!..
ليس مكانك
هذا المصح.. ولا زمانك هذا العصر!..
كانت زوجته
على علم بأن له في باريس صديقة اسمها " لورا ".. فظنت أنها فتاة في مقتبل
العمر.. فتاة لعوب، على علاقة غرامية به!..
لابد أنها
لم تصدقه حين شرح لها الأمر!..
تذكر كيف
هزت رأسها صامتة حين أطلعها أن لورا سيدة جليلة قد ناهزت الستين من عمرها!..
أحس بفيض من
المحبة يملأ صدره.. سيفاجئ صديقته بوصوله إلى باريس!..
سيذهب
لزيارتها حالما يتسنى له ذلك..
سيضمها إلى
صدره برفق، ويربت على كتفها، ويمسح بيده على شعرها الأبيض.. تبسم في نفسه..
فهو يعلم أنه لن يفعل ذلك!..
لو فعل ذلك
لأجهشت لورا ببكاء قد تفيض روحها معه!..
لئن كانت
نفس لورا لا تزال في الثامنة عشرة من العمر، فإن جسدها المريض قد تجاوز
الثمانين!..
كانا حريصين
على تذكر ذلك.. يعلمان أنه لو حدث ما يطلق العنان لعاطفتها المكبلة لتهاوى
جسدها، ولما استطاع أن يتحمل شباب نفسها المكبوت، سوى لدقائق معدودات!..
القسم الرابع
الفصـل الرابـع
"
ديجون ".. "
لاروش ".. " سانس ".. " مانتيرو ".. " مولان ".. " فيل نوف " " فونتنبلو"
الأشجار الباسقة.. مدخل باريس.. الأتوستراد، بأروقته الثمانية.. سيل
السيارات الزاحف.. " باب إيطاليا ".. تمثال "أسد دانفير" المهيب..
الشوارع
الواسعة..
أنوار ساحة
" كونكورد " المتلألئة..
رذاذ
النوافير..
الأحلام
المضاءة..
مصابيح
الغاز المتوهجة..
الإيقاع
المتصاعد لحركة المرور..
دخلوا باريس
مثقلين بما حمّلوا رؤوسهم من صور وأحلام..
هاهو الخيال
يتبعثر أمام الصور الحقيقية.. وها هي حقيقة باريس تحتل المكان الذي ملأته
أفكارهم عنها!..
حلّ النور
مكان صور الخيال عن النور.. وأزاح الضجيج هدير أحلامهم عنها!..
خفّ السعاة
إليهم، أمام باب الفندق، ينقلون حقائبهم.. بينما ترجلوا من السيارة،
وتقدموا نحو مندوب الإدارة الذي هرع لاستقبالهم..
لم تبق في
رؤوسهم بعد لحظات سوى فكرة واحدة.. أن يخرجوا من الفندق بأسرع وقت..
ليضيعوا في أرجاء المدينة..
كانت إدارة
الفندق على علم بقدوم موكب الأميرات.. فهيأت له جناحين متصلين، سرّوا
بأثاثهما الفخم وفوجئوا بباقات الورود المنشورة في أرجائهما!..
لم يسألوا
عن مصدر الورود.. من غير جعفر يدفع ما يزيد عن الألفين ثمناً لهذه الورود
الحمر في شتاء باريس القارص؟!..
تعجب فراس
لأمر..
_أتشمون
ما أشم؟..
ضحكت قطر
الندى، وهزت رأسها موافقة..
_..
إنه عطري الذي
أستعمله!!..
وأضافت
هازئة..
_..
لابد أن أحدهم
كسر زجاجة منه في هذه الغرفة!..
لم ينتبهوا
إلى أنهم كانوا، كعادتهم، يتكلمون بالإفرنسية، لغة مندوب الإدارة، وعلى
مسمع منه..
ابتسم
المندوب بحرج، وقال متردداً..
_أرجو
المعذرة.. ليس هذا إهمالاً منا!.. بل الأوامر التي تلقيناها من " جنيف
"!..
سارعت قطر
إلى سؤاله متعجبة..
_..أوامر؟..
أية أوامر!؟..
_..
الزهور.. يا
صاحبة السمو!.. لقد طلب صاحب السمو.. أو صاحب الجلالة، آه.. أرجو
المعذرة!.. إن الذي أوصل إلينا الأوامر هو وكيله في جنيف.. ولم أستوثق منه
إذا كان ينوب عن " صاحب السمو " أو " صاحب الجلالة
"!..
قال هذا
وتوقف عن الكلام علّ أحداً يزوده بما ينقصه من معلومات!.. وإذ وجدهم
يتابعون النظر إليه ببرود، ارتبك، وحار فيما يقول!..
_حسن!..
وبعد؟!..
تدارك
نفسه.. وأجاب..
_آه..
لقد أمرنا بأن نوزع تسعاً وعشرين باقة، أرجو المعذرة.. لقد قيل لي إن هذا
هو سن سمو الأميرة!.. وأن نضع في كل باقة تسعاً وعشرين وردة حمراء.. ثماني
مئة وردة ونيفاً!!.. جميل!.. يا له من خيال شاعري!!.. إنه الشرق يا
سيدتي!.. من الذي يفكر بهذه الأمور من أمراء الغرب اليوم؟!..
ثم تابع
متداركا..ً
_..
آه.. لقد
نسيت!.. لقد طلب منا كذلك أن نفرغ تسعاً وعشرين زجاجة عطر " جولي مدام
"!!..
_تفرغونها؟..
أين؟..
_..
على الأثاث..
على الأسرة.. وعلى الأرض..
ثم تابع
مسرعاً..
_..
وحيثما اتفق..
ماذا؟.. هل أخطأنا؟!.. ألسيت هذه عادات مألوفة في بلاد سموكم؟!..
نظروا في
بادئ الأمر إلى بعضهم غير مصدقين!!..
كادوا
ينساقون مع حاجة ملحة بالضحك.. لكن فراساً استدرك الموقف بأن أعطى مندوب
الإدارة قطعة نقود كبيرة، من الظاهر أن هذا كان في انتظارها..
_..
بل لقد أحسنتم
الصنع!.. إنها عاداتنا بالفعل!.. لكنكم لابد نسيتم ان تفرغوا بعضاً من هذه
الزجاجات في دورة المياه!!..
بهت المندوب
لما سمع.. وانطلق خارجاً من الجناح، دون أن يجيب..
كانت ميساء
في الغرفة المجاورة..
عادت محتقنة
الوجه، تلمع على شفتها العليا حبيبات صغيرة من العرق!..
وقفت بينهم
صامتة لبرهة.. كان واضحاً أنها تحت تأثير انفعال قوي تحاول جاهدة أن تزيل
معالمه عن وجهها..
انفرجت
أساريرها عن ابتسامة منتصرة، وتمتمت..
_إنه
آت.. سوف يأتي بعد قليل..
سألتها قطر
الندى بدهشة..
_من
الذي سيأتي؟.. مراد؟!..
_..
نعم.. كنت
أكلمه على الهاتف.. سيكون هنا بعد عشر دقائق!..
قالت هذا،
وهرعت إلى غرفتها تهيئ زينتها..
سارع كل
منهم إلى غرفته.. ثم عاد فراس إلى البهو يفتح النوافذ ليخفف عن الجو وطأة
رائحة العطر!..
كان أول من
استعاد سكينته بينهم.. فجلس يستحثهن على الإسراع في إنهاء زينتهن، يصيح
لهن، بين الفينة والأخرى، مازحاً..
_..ها
هو قد أقبل!.. لقد وصل!.. لقد قرع الباب!..
عادت ميساء
بعد أن بدلت ثوبها وأنهت ترتيب جدائلها..
لم تشأ أن
تكون عند الباب لدى وصول مراد!.. رجت فراساً أن يقوم باستقباله، وأن يدع
بضع دقائق تمر قبل أن يناديها!..
ما كادت
تنهي كلامها حتى سمع قرع على الباب، فأسرعت عائدة إلى غرفتها.. بينما تقدم
فراس ليستقبل الزائر..
مضت لحظات
قبل أن يتكلم أحدهما!..
وقف الشابان
يتفحصان بعضهما، تعلو وجه كل منهما ابتسامة هادئة..
أخفى كل
منهما دهشته عن الآخر!..
ما هكذا
وصفت ميساء فراساً، لمراد.. ولا هكذا وصفت مراداً، لفراس!..
رأى فراس
أمامه شاباً يصغره بخمس سنوات على الأقل.. طويل القامة، شديد السمرة..
وسيماً.. بارز تقاطيع الوجه، أول ما يلفت فيه هو أناقته، يزيد في تأكيدها
استعداد قامته النحيلة لإبراز هذه الأناقة..
قال مراد
بلطف محبب..
_أنت
فراس!.. أميساء هنا؟..
ضحك فراس..
_طبعاً..
تفضل، ستخرج بعد لحظات!..
دخل مراد
ببط، يمشي وهو ينظر إلى فراس..
جلس على أحد
المقاعد، وتابع، وهو لا يزال يبتسم..
_..كانت
لدي فكرة تختلف تماماً عنك في الواقع!..
فوجئ فراس
بقوله.. لم يكن يعرف أن مراداً يعلم بوجوده أصلاً!..
استوضحه
الأمر، فأجاب مراد..
_..
لقد حدثتني
ميساء مراراً عنك.. في رسائلها طبعاً.. عن صداقتكما المتينة، ومعرفتك
القديمة بعائلتها، إنها تأخذ بنصحك في كثير من الأحيان.. أليس كذلك؟..
ازداد
عجبه.. وضحك في سره..
يا لها من
فتاة فطنة!..
لا ريب أنها
حدثت مراداً عنه، مدعية هذه المعرفة القديمة بعائلتها، كي تبرر صداقتهما،
ورفقتهما المتصلة!..
كان مراد
ينظر إليه وفي عينيه عجب بادٍ لم يحاول أن يخفيه..
_..
كنت أظنك كبير
السن!!.. على أبواب الشيخوخة!..
_حقاً؟..
وماذا وجدت؟!..
ضحك مراد..
_..
وجدت شاباً في
مثل سني!!.. أصحيح أنك متزوج؟..
صمت مراد
برهة، وغير مجرى الحديث، سائلاً..
_..
ما بالك ترتكز
على هذه العصا؟.. أهنالك ما يؤلم ساقك؟..
قال ذلك
بشيء من اللهفة كمن يهمه حقاً هذا الأمر!..
وإذ أوضح له
فراس أنه يعاني من ألم في إصبع قدمه، بدأ يشعر به منذ أسابيع، سارع مراد
إلى إبداء النصح، وأصر عليه أن يراجع طبيبه الخاص في باريس!..
أبدى من
الاهتمام بعلته ما لم يستطع فراس إزاءه سوى أن يتساءل عن دوافع هذا
الاهتمام!..
حار في
العثور على جواب شاف، لم يزح هذا السؤال من ذهنه قبل أن يكرر على نفسه
القول بأن ميساء كانت جد مخطئة في فهمها لمراد!.. إذ رغم أنه لم تمر دقائق
بعد على معرفتهما ببعض، فمن الظاهر أن مراداً ليس ذلك الأناني المتعجرف
الذي لا يرى في الكون وفي الآخرين سوى مكان وأدوات لتحقيق نزواته!..
نهض فراس
يعلن لميساء حضور زوجها، فدخلت هذه ببساطة واتزان، وتبعتها قطر الندى، ثم
زوجته..
عادوا إلى
الجلوس، بعد أن أزاحوا من المقاعد ما هيأ لهم جلسة دائرية، وبدأت ميساء
حديثاً وجهته إلى مراد، اشتركت بدورها فيه قطر الندى، ثم زوجة فراس.. بينما
راح فراس ينظر إليهن، ويتسلى بصورة تمر في خياله، يزيح فيها مراداً من
مقعده ليضع فيه هلالاً، فلا يتبدل في الجلسة الدائرية شيء، سوى لهجة هلال،
والمواضيع التي تهمه، تتناولها هؤلاء النسوة الثلاث بنفس الاهتمام ونفس
الدلال!.. ثم يزيح هلالاً من ذلك المقعد، ليضع جعفراً مكانه، ومرة أخرى، لا
يتغير إلا اللهجة، وموضوع الحديث، ويبقى اهتمام النسوة على ما هو عليه..
فلا يتبدل التصنع ولا يخف الدلال!..
كان فراس
ساهماً يحرك مقبض عصاه الفضية على خده..
شعر أن
مراداً يحدق فيه لسبب خفي عليه..
أحس بحرج إذ
انتبه إلى أن طرف المقبض بات بين شفتيه، وأن مراداً ينظر إليه بإلحاح وهو
على هذا الوضع..
اجتاحه حرج
طفولي.. كأنه ضبط وإصبعه في أنفه..
لم يشأ أن
يغير وضع العصا، بل تابع تحريكها بين شفتيه بإصرار!.. ماذا في الأمر؟!..
أليست عصاه هو؟!.. ومقبضها نظيف.. ومن الفضة الخالصة؟!.. ما لمراد يحدق به
وكأنه يقوم بأمر مشين؟!..
أمر، قام به
مراد، بقي في ذهن فراس دون تفسير!..
وجّه سؤالاً
لميساء، وفي الوقت ذاته، مد يده نحو فراس، مشيراً إلى أنه يود منه أن يعطيه
العصا..
فوجئ فراس
بذلك.. وناوله إياها، وإذا بمراد، في الوقت الذي كان يصغي فيه إلى جواب
ميساء، يمسك بالعصا أمامه، مثلما كان فراس ممسكاً بها، ودون أن يمسح البلل
عن مقبضها، يضعه بين شفتيه، ويحركه كما كان يحركه فراس!..
أخفى فراس
عجبه.. نظر إلى ميساء مستطلعاً، فأجابته بإشارة من حاجبيها كمن تقول له إن
حركة مراد صبيانية، لا يجب الانتباه إليها!..
لكنَ عجباً
بقي في ذهنه إثر تلك الحادثة..
تساؤل، لم
يفارقه لمدة طويلة!..
كان على
مراد أن يترك باريس لأمر هام في اليوم التالي، أو هكذا ادعى، فأصرَ في
دعوتهم لقضاء السهرة معه في مربع ليلي محبب إليه.
لم تكن
ميساء بحاجة لهذا الإصرار!..
قبلت دعوته
على الفور.. وكان على الجميع أن يقبلوها إسوة بميساء، ونزولاً عند رغبة
الأمير، زوجها!..
كان الوقت
قد تجاوز التاسعة مساءً.. فتركهم مراد على أن يعود بعد ساعة ليقلهم إلى
مكان السهرة..
ما كاد يخرج
من البهو.. حتى هرعت النساء إلى غرفهن مرة أخرى!..
ميساء..
تتذمر لضيق ما تركه لها مراد من وقت.. ولشعورها بالتعب من جراء رحلتهم
الطويلة..
قطر.. تتحسر
على ما سهت عن إحضاره من مجوهرات يليق إظهارها أمام الجميع في مثل هذه
السهرة!..
أما زوجة
فراس، فغابت في غرفتها دقائق، ثم عادت إلى البهو، حيث كان فراس لا يزال
غارقاً في تأملاته..
طالعته
قائلة والدموع في عينيها..
_فراس!..
لن أذهب معكم إلى هذه السهرة!..
سألها عن
السبب، فدهش إذ سمعها تقول متذمرة..
_..
تود أن تعرف
لماذا؟.. لأن ميساء، وقطراً سترتديان أجمل ما لديهما من ثياب!!..
سألها
حائراً متعجباً..
_وماذا
يضير؟.. ألا تجدين أن هذا أمر طبيعي؟..
_وما
الذي أقتنيه من ثياب السهرة؟..
_..
إن ما عندك لا
يقل أناقة عما لديهما!..
بادرته بما
كان يحرقها منذ البدء..
_..
ها!.. سترتدي
قطر معطف " الفيزون "!.. وستعطي فروها الرمادي لميساء!.. ستتحليان بأغلى
المجوهرات!!..
وتابعت، وقد
أجهشت فجأة بالبكاء..
_ما
الذي عندي من فراء أو مجوهرات ثمينة؟!.. سأبدو كخادمة بينهما!!..
امتعض فراس
من بكائها.. واشمأز من وجهها المتلوي..
تذكرذلك
الوجه يوم أعطاها ساعة جعفر الماسية!.. تذكر انفراج فمها العريض.. وتحديق
عينيها!..
ماذا تود؟..
أن تخدع نفسها.. أم الآخرين؟!..
ألم يعد في
هذا الجسد القصير المترهل نفس تحترم ذاتها؟!..
دخلت قطر
الندى البهو في تلك الأثناء وتساءلت متعجبة عن سبب دموع زوجته، فلما
أخبرها، ضحكت منهما..
_أهذه
هي المشكلة؟.. تعالي، إن عندي ما سيصلح كل شيء!..
ولما نظر
إليها فراس مستنكراً، ضحكت منه..
_..كفاكما
صبيانية!.. أتود تعقيد الأمور أم تبسيطها؟!..
دخلتا غرفة
قطر مسرعتين.. ولما خرجتا منها، كانت زوجته تحيط كتفيها بفرو ثمين بني
اللون، ويتدلى من أذنيها قرطان ماسيّان لم تكن قطر بحاجة إليهما لتلك
السهرة!..
نظرت زوجته
إليه، والزهو يملأ عينيها..
_..
ألا أبدو جميلة
هكذا؟..
قالت ذلك،
وتبخترت أمامه يمنة ويسرة!..
ودّ لو يقول
لها.. " قد تبدين أكثر أناقة وثراء من السابق.. لكنك لن تصبحي جميلة مهما
حاولت!!.."
لئن كان في
النفس أحياناً ما يعوض عن نقصٍ في جمال الوجه.. فنفس زوجته، لم تكن غير
قادرة على مثل هذا التعويض فقط، بل كانت تزداد قبحاً يوماً بعد يوم!..
* * *
أمضوا سهرة،
لعل زوجة فراس كانت الوحيدة التي استمتعت بها!..
عادوا إلى
الفندق واجمين..
ما هكذا كان
فراس يود أن يقضي أول ليلة له في باريس بعد غيابه الطويل عنها!..
تذكر كيف
دخل الملهى، برفقة مراد، يتبعهما زوجتيهما وقطر الندى، وكيف فوجئ بوجود
مدعوين آخرين، رفاقٍ لمراد، كانوا في انتظارهم في ذلك الملهى..
كان من بين
المدعوين ثلاثة سيدات إفرنسيات ما إن تقدمن لاستقبالهم، حتى بانت رشاقة
أجسامهن وأناقة ملابسهن البسيطة، فأظهرن تكلف صحبه بما كنّ قد تلفحن به من
فراء!..
سارعت ميساء
إلى رفع فروها، كي تظهر ثوبها الأنيق..
لحقتها بذلك
قطر الندى، كي تكشف ما حمّلت به صدرها من مجوهرات..
أما زوجة
فراس، فأصرت على أن تظل ملفوفة بفروها، مدعية البرد، رغم دفء الملهى، كي لا
يلاحظ الحاضرون أن ليس لها ما لقطر الندى من مجوهرات، أو أن ثوب ميساء أكثر
أناقة من ثوبها!..
لم يجلس
مراد بينهم.. بل تابع سيره نحو الراقصين برفقة إحدى مدعواته الإفرنسيات،
وما إن توسط حلبة الرقص، التي لم تكن قد اكتظت بعد، حتى بدأ يتلوى مع
رفيقته على أنغام إيقاع الموسيقى الصاخب!..
امتعضت
ميساء في بادئ الأمر.. لكنها، ما إن رأته مندفعاً في الرقص، ورأت إجادة
رفيقته في متابعته، والاستجابة لما كان يبتكره من حركات، حتى شكرت حظها
الذي أعفاها من هذه التجربة!..
كانت، رغم
ذلك، تتحرق لأن تكون مكان هذه التي يراقصها مراد!..
شردت
قليلاً.. كم كانت تود لو أن باستطاعتها أن تقف وسط الحلبة وحيدة وتصعق جميع
الحاضرين بتلويها!.. تبذهم الواحد تلو الآخر، ثم تخرج من الحلبة، لا بصحبة
مراد، بل برفقة أجمل شباب باريس!.. برفقة هذا الزنجي الذي يتصبب عرقاً.. بل
بصحبة ثلاثة منهم إن لزم الأمر!.. يصيح مراد " أين تذهبين ".. فتنظر إليه
شزراً، وتقول له بسخريتها التي تجيدها.. " وما شأنك أنت؟..اذهب وتعلم الرقص
"!!..
طالت
الموسيقى..
تتابعت
الرقصات ومراد على حاله مع رفيقته في مرح ولهو!..
وبعد سلسلة
طويلة من الأنغام الصاخبة، هدأت الموسيقى، وعلا صوت لحن محبب قديم..
توقف
الكثيرون عن الرقص وعادوا إلى مقاعدهم، مترنحين، ليحل مكانهم على الحلبة
هواة الرقص الحالم.. يتسابقون ليحتضنوا بعضهم لفترة دافئة حالمة..
أقبل مراد
نحوهم ضاحكاً..
أوصل رفيقته
إلى مقعدها، ثم تقدم إلى حيث كانت تجلس ميساء وأصحابها..
خفق قلب
ميساء!..
سيطلبها إلى
الرقص لا محالة!..
لاريب أنه
انتظر هذا اللحن الشاعري كي يراقصها على نغماته.. وستعرف كيف تستجيب إلى
خطواته!..
تناول مراد
مقعداً شاغراً..
ألقى إلى
ميساء بابتسامة عابرة.. ثم جلس على ذلك المقعد قرب فراس!..
لحظات، وشرع
معه في حديث وفكاهات عن عازفي الجوقة الذين كان يعرفهم شخصياً، والذين
طالما تابع السهر برفقتهم بعد انتهاء ساعات العمل..
بان امتعاض
ميساء واضحاً على وجهها.. وشاركتها قطر الندى هذا الامتعاض!.. لم يكن هنالك
ما يمكن أن تقوم به الأختان للأخذ بزمام الموقف!..
بدأت قطر
الندى بإشارات خفية لفراس، تومئ له فيها أن يكف عن محادثة مراد، ليتيح له
طلب ميساء للرقص..
حاول فراس
أن يفهمها أنه لا يتكلم مع مراد، بل يصغي إليه فقط!..
لم تأبه
لإشاراته!.. لابد أن ميساء تظن أنه يلهي مراد عنها!..
ضاق بوضعه..
وحار فيما يفعل..
أحس بحرج
شديد لم يجد إزاءه مخرجاً سوى أن يقول لمراد ضاحكاً..
_ياله
من نغم جميل.. هل تجيد الرقص البطيء؟..
_..طبعاً!..
ونهض مراد
على الفور، يطلب الفتاة الإفرنسية مرة أخرى، ليظهر لفراس براعته في الرقص
على ذلك الإيقاع الحديث!..
لعل زوجة
فراس كانت واعية لما خيم على الآخرين حولها من حرج.. لابد أنها انتبهت إلى
ما يدور بينهم من إشارات!.. لكنها جلست غير عابئة لما يجري حولها!..
أشار مراد
إلى فراس بالرقص مع مدعوته الإفرنسية الأخرى!.. وكانت هذه قد لاحظت إشارة
مراد، فنهضت، تلبية لإيماءة الأمير، تنظر نحو فراس، وتنتظر أن يتقدم لطلبها!..
لم يجد فراس
بداً من الذهاب إليها!..
لحظات..
وكان هو الآخر يتهادى على الحلبة، ويحس، رغم البعد، بنظرات زوجته وصديقتيه
وقد أضحت نقمتها عليه دون مراد!..
ما إن فرغوا
من الرقص وأعاد رفيقته إلى مقعدها حتى أشارت إليه ميساء بأن صداعاً شديداً
قد ألم بها.. وطلبت أن تعود على الفور إلى الفندق!!..
دخل فراس
غرفته مرتاحاً إلى أن السهرة لم تطل، سعيداً بأن مراداً رافقهم حتى الفندق،
وبذلك لم تتح لصديقتيه الفرصة كي تفرغا أمامه ما في جعبتيهما من انتقادات..
كانت الساعة
قد قاربت الواحدة صباحاً..
كان سريره
في غرفة منفردة تتصل بغرفة زوجته، فما إن أغلق بابه، واستلقى على الفراش،
حتى تناول الهاتف الذي بجانبه، وأدار رقم المصحّ، حيث تقيم صديقته " لورا
"..
القسم الرابع
الفصـل الخـامس
طغى التأهب
لعمليات التجميل على كل ما عداه من مشاغل..
قابلوا
الطبيب في اليوم التالي، ثم عادوا إلى الفندق يستعدون لدخول المشفى..
لم تمض
ساعات حتى كانت كل من ميساء وزوجة فراس في فراشيهما، تنتظران وصول الطبيب..
لم يند
عنهما أي تخوف أو دلع.. لقد صممتا على كسر قيود كبلتهما بهما الطبيعة،
فستواجهان هذه التجربة بما يليق بهما من تصميم
!..
لطالما
حلمتا بهذه اللحظة..
غداً، ستنظر
زوجة فراس إلى نفسها في المرآة، فيطالعها، بدل أنفها الحاد الطويل المعقوف،
أنف جميل، دقيق، مرفوع!..
ستقف ميساء
عارية أمام المرآة، وتفخر بما ترى!..
لن تحتاج
لأن ترفع ذراعيها لتخفف من تهدل ثدييها!.. ولن تلجأ إلى إخفائهما بيديها،
أو جمعهما بذراعيها، كي يبدوا ممتلئين ناضجين.. وتبدو هي صغيرة السن أمام
مراد!..
مراد؟.. أمن
أجل مراد تقوم بهذه العملية؟!..
لا، وألف
لا!.. بل من أجلها هي!..
من أجل أن
تصبح كما تود لنفسها أن تكون!..
كانت تعلم
في قرارتها أنها لا تسعى وراء مراد حباً به.. بل حباً بنفسها!..
لئن أرادته
زوجاً لها فلم يكن مبعث ذلك حبها الأمراء، بل تعزيزاً لثقتها بأنها ولدت
أميرة.. ولا يعوزها غير زوج يحمل هذا اللقب كي تتم الصورة التي لنفسها في
ذهنها!..
دخلتا غرفة
العمليات الواحدة تلو الأخرى.. وسرعان ما تمت العمليتان بنجاح، واقتيدتا
إلى فراشيهما، غارقتين بنوم عميق من تأثير المخدر..
لبث فراس
وقطر الندى إلى جانبيهما حائرين فيما يفعلان.. وإذا بالطبيب يشير عليهما
بترك الفتاتين، والعودة لزيارتهما في صباح اليوم التالي..
لم يكن قد
تبادر إلى ذهن فراس أنه سيجد نفسه يوماً وحيداً مع قطر الندى!.. هل جال في
ذهنها، هي الأخرى هذا الخاطر؟..
نظر إليها
مبتسماً، وهو يدير محرك السيارة، بعد أن خرجا من المشفى..
_..
إلى أين نذهب!؟..
انتبه إلى
أنها أخفت ابتسامة كانت قد تلاعبت على شفتيها!..
نظرت إلى
الناحية الأخرى، وقالت..
_..
لنذهب إلى
الفندق أولاً.. أود أن أبدل ملابسي..
كان المصح
في ضاحية من ضواحي باريس.. وفندق جورج الخامس في وسطها.. والطريق طويل..
أجابها على
وتيرة واحدة..
_إنها
ساعة الازدحام.. ولن نصل إلى الفندق قبل ساعتين على الأقل.. ما رأيك في أن
أطلعك عن قرب على بعض معالم باريس؟..
لم تجبه..
سألها وبعض الدفء يتسرب إلى صوته..
_..
لكن لماذا
تودين تبديل ملابسك؟..
أدارت
بوجهها نحوه بنزق، وقالت عاتبة، حائرة..
_ألا
تود أن نخرج إلى سهرة ما هذه الليلة؟!..
قالت ذلك،
وكأنها أجبرت على الإدلاء بأمر لا تود التحدث عنه!..
-..
وتودين أن
تبدلي ملابسك هذه بملابس سهرة؟.. معطف الفيزون؟.. والمجوهرات؟!!..
عجبت من
نبرة صوته الساخرة..
_طبعاً..
وماذا في ذلك؟!..
_وتسألين!!..أتظنين
أني متشوق لتكرار سهرة الليلة الماضية؟!..
سألته بذهول..
_ماذا
تعني؟..
_اسمعي!!..
إما أن أقرر أنا تفصيلاً ما سنقوم به الليلة، أو أن تقومي بذلك أنت!..
قالت عاتبة..
_أردت
أن أرتدي أجمل ما عندي.. ألهذا تسخر مني؟!..
_..ماذا
تعنين؟!..
_..
قد لا تسنح لنا
فرصة السهر معاً غير هذه الليلة..
_وهل
يمكن ذلك؟.. زوجتي وميساء في المشفى، ولن تخرجا منه قبل أسبوع على الأقل!..
خلدت إلى
صمت مثقل بالمعاني.. ثم نظرت إليه طويلاً.. وقالت مستسلمة..
_..
حسناً!.. وماذا
نفعل اليوم؟..
_..
لا.. يجب أن
توافقي أولاً على شرطي!..
_حسناً..
سأعمل بجميع ما تشيره علي!..
_أتقسمين
على ذلك؟..
_أقسم
على ذلك!..
نظرت إليه
كطفلة تسلم قياد اللعب إلى طفل أكبر منها وأقوى..
وشد فراس
على يدها كمن يقول لها " تعالي ندخل هذا الغاب العتم.. لن يصيبك مكروه ما
دمت معك
"!..
أخذ منديله
من جيبه، ومد به إليها قائلاً..
_..
ابدئي بمسح
جميع ما على وجهك من زينة.. ولا تبقي غير الكحل حول عينيك!!..
_!!..
_هيا..!!..
ألم تقسمي على إطاعتي؟!!..
أخذت
المنديل منه مبتسمة، وبحركة بطيئة، قامت بما طلبه منها.. وإذ فرغت من ذلك،
سألته..
_..
وماذا بعد؟!..
_..
انزعي جميع ما
في شعرك من دبابيس، أطلقيه على هواه!..
نظر إليها
وقد أتمت ما طلبه منها..
كانت قد
جمعت قسماً من شعرها الطويل في ربطة أطلقتها إلى الوراء، وتركت ما تجعد من
شعر صدغيها يتهدل برفق على خديها..
بدت، بعد أن
زالت عن بشرتها المساحيق وأحمر الشفاه، غضة الوجه بريئته، أجمل مما تعود أن
يراها، وأصغر سناً!..
_..
والآن؟..
_..
والآن لم يبق
سوى أن تنزعي ساعتك وخواتمك الماسية هذه، ثم تضعيها هنا، في هذا الصندوق!..
سرّه أن
يراها تنصاع إلى مشيئته، راضية، بعد أن أعجبها زيّها الجديد..
سألته بدلال..
_والآن؟..
ابتسم..
نظر إلى
قدميها.. وسألها عن رقم حذائها.. وإذ أجابته مذهولة.. أوقف السيارة أمام
أول بائع للأحذية، وغاب دقائق، ليعود حاملاً معه حذاءاً بسيطاً ذهبي اللون،
بالغ الطراوة، لا كعب له..
-..
ستشعرين براحة
أكثر بهذا الحذاء!..
قال هذا..
ورفع قدمها الأولى إلى حضنه.. ثم الثانية..
نزع عن
قدميها حذاءها ذا الكعب الدقيق الطويل..
شدّ بيده
قليلاً على قدميها المتورمتين بعض الشيء.. فأغمضت عينيها ضاحكة متسلية،
وندّت عنها آهة تدل على ما شعرت به من راحة لملمس يده..
ألبس قدميها
الحذاء الذي كان قد أحضره، وشد عليهما من جديد، وإذ بها تطلقهما من يديه
ضاحكة.. وتحركهما في الهواء كطفلة تلهو!..
قهقهت إذ
تنبهت إلى بعض المارة الذين توقفوا ينظرون إليهما عبر نافذة السيارة،
فأنزلت قدميها عن حضنه بحركة أنيقة.. وقالت..
_..
والآن؟..
أدار فراس
محرك السيارة مرة ثانية..
_سأريك
الآن ما لا تعرفينه عن الحياة!..
غاص كالصائد
البحري، لا يلجأ إلى السطح إلا مضطراً لاستنشاق الهواء.. يعبّ منه ملء
رئتيه، ليعود إلى الأعماق، باحثاً عن اللآلئ والأسماك الغريبة التي كان
يتقفى أثرها!..
نزل بها
كهوفاً عرفها وأحبها في الماضي..
شاركها
ماضيه، وأطلعها على خباياه..
أحس تارة
أنه برفقة صياد قوي.. يجاريه في الغوص، وتارة بأنه، بهذه الرحلة إلى
الأعماق، إنما يمكّن نفسه من الإمساك بها، يمكّن نفسه من الإمساك بصيد جديد!..
هل أحست قطر
الندى بذلك؟..
ألهذا كانت
لا تكاد تندفع نحوه حتى تبتعد عنه.. لتستنشق الهواء؟..
لقد جردها
من سلاح تعودت أن تحتمي وراءه!..
فلا زينة،
ولا فراء، ولا مجوهرات، ولا شعر مصفف!..
حتى حذاءها
ذا الكعب الطويل!..
جردها منه،
فأعادها بذلك إلى طولها الطبيعي.. إلى طريقة طبيعية في المشي، لم تتعودها!..
أحبته،
وكرهته!..
أرجعها
قسراً إلى طفولتها.. طفولة حزينة لا تكلُف فيها، ولا مبارزة!..
طفولة لا
سلاح فيها، ولا مال..
ذكّرها
بطفولة تعيسة.. لم يكن لها يوماً الدورالأول فيها..
غاصا في
كهوف صاخبة، وفي كهوف هادئة..
سمعا شعراً
عاطفياً وشعراً تجريدياً، وضحكا لنكات جريئة، ثم انساقا مع أغنيات شعراء
يائسين..
ارتعشا
لخفقات أوتار قيثارة أندلسية..
لم تكن قطر
تعرف أنها قادرة على التجاوب مع الألحان الصاخبة!..
يد خفية
أمسكت بباب موصد في نفسها وفتحته على مصراعيه!..
هندامها
البسيط.. وحذاؤها المريح.. والنبيذ المعتق!.. شياطين، وملائكة تحركت في
أعماقها، فانساقت لأنفاسها، واندفعت مع اللحن!..
لم ير
الآخرون غرابة في أمرهما، كأنهما باريسيان، شاب وسيم، يجيد مصاحبة فتاة
جميلة، تجيد الرقص.. تندفع بين الفنية والأخرى مع سحر النغم، وكأن مساً
أصابها من إيقاعه.. فتجوّد في تحريك أطرافها.. تغلق جفنيها على ما يرتعش في
أعماقها.. تبادل الشاب قبلات تائهة، ثم تعود إلى الرقص!..
منظر تعودته
كهوف باريس..
لكن فراساً
كان يشاهد أمامه تفتح معجزة!..
أهذه قطر؟..
أهذه قطر الندى التي لا تعرف من الكون سوى المال والزينة والدسم من الطعام؟!..
أهذه هي قطر
التي لا تحب من الأنغام سوى نحيب الشرق!؟..
أهذه الفتاة
المرحة الطروب، التي تكاد أقدامها تطير عن الأرض خفة ورشاقة، هي نفس المرأة
التي دخلت ملهى الأمس، يضج وقع خطاها بما لفّحت به نفسها من فراء، وما
أثقلت به عنقها من قلائد ثمينة؟!..
نال منهما
النبيذ..
أحسا بدوار
طفيف، فتوقفا عن الرقص، وخرجا يطلبان الهواء الطلق..
خرجا
يتنزهان في الشوارع الباردة..
قادها بين
طرقات باريس الضيقة المظلمة، وأطلعها على الأماكن التي كانت تصدح فيها
نغمات آلته الموسيقية، حين كان يرتدي زي بحار، ويعزف ألحان باريس القديمة..
وسار الهوينى تحت المساكن التي كان أهلها يلقون إليه بقطع النقود من
نوافذها!..
سارا على
الجسر القديم، ثم توقفا في منتصفه يتأملان مياه " السين "، وأضواء ضفّتيه
المتلألئة..
_..
أحس بقشعريرة
باردة..
لفّها
بذراعه بحنان.. نظرت إليه، ثم إلى المياه ثانية..
_..
إنه مفعول
النبيذ..
_لقد
دار رأسي أنا الآخر..
عادا إلى
السيارة بصمت.. وتوجها نحو الفندق..
استقلا
المصعد وهما يتحاشيان النظر..
أغلقا باب
الجناح المشترك، وتوجه كل منهما نحو غرفته في الظلام!..
مضت برهة،
عاد فراس بعدها إلى البهو يبحث عن مجلة يقرؤها..
لم يضئ
النور، بل اكتفى بالذي كان يتسرب منه من غرفته..
تعثر بشيء
أوقعه على الأرض..
_..
أهذا أنت يا
فراس؟..
سمع صوتها
خافتاً.. ورأى النور ينبعث من أسفل باب غرفة نومها..
_..
أبحث عن شيء
أقرؤه.. ألم تنامي بعد؟..
_..
عندي مجلة
هنا.. تعال إن شئت، خذها..
أحس قلبه
يخفق بشدة لا تطاق!..
ما إن فتح
باب غرفتها.. حتى أطفأت نور السرير..
وقف على
الباب طويلاً ينظر إليها متمددة في فراشها..
لم ير وجهها
بوضوح..
كان شعرها
لا يزال على الشكل الذي ربطته فيه من أجله..
سمعها تهمس
إليه بقول، علت عليه ضربات قلبه، فلم يفهمه..
سألها
واجفاً..
_..
هل قلت شيئاً؟!..
تنهدت..
وأشاحت بوجهها عنه!..
وكأن تلك
كانت إشارة منها إليه..
أغلق الباب
وراءه.. وتقدم من سريرها في الظلام..
القسـم الـرابع
الفصـل السـادس
يندر أن يحلو لشمس باريس إيقاظ النائمين أيام برد الشتاء القارص!..
أطلّت ذلك الصباح، شاحبة اللون، من فوق الأبنية الرمادية، وعبر مداخنها
القاتمة، وأطلقت قبساً تسلل من فتحة في النافذة، فسقط متمدداً على الأرض في
غرفة فراس..
بدأ القبس زحفه الهادئ نحو السرير، فارتقى جانبه ببطء، وتسلق على الوسادة،
إلى أن وصل جفني فراس، فحركهما..
نظر فراس حوله..
كيف عاد إلى غرفته؟.. ومتى؟..
رفع غطاء السرير عن وجهه.. وتمسك بأذيال النوم!..
نادى نهدين سخيين كانت صورتهما ماثلة أمامه.. فجال بشفتيه عليهما، وطوق
بذراعيه ذلك الجسد الرخص!..
تسارعت نبضات قلبه.. وأحس بتوتر في جميع أنحاء جسده!..
تسلل النور مرة ثانية عبر غطاء السرير، فأدرك جفنيه المغمضين.. فتحهما،
فأفاق إلى أنه وحيد في فراشه.. وأن ذلك الجسد في غرفة مجاورة، يفصلهما بهو
واسع الأرجاء!..
متى عاد إلى غرفته؟.. لا يهم..
تناول سماعة الهاتف، وإذ أخبرته العاملة أن الوقت قارب الظهيرة، طلب منها
أن تصله بغرفة قطر..
جاءه صوتها ناعساً دافئاً..
_م م م م...
_هل أيقظتك من نومك؟..
_م م م م!..
_... قطر.. كان علينا أن نكون في المشفى منذ ساعة.. والساعة الآن الثانية
عشرة!..
_م م م م ؟..
أعادت أنّاتها ذكريات الليلة الماضية إلى رأسه.. فتسارع نبضه مرة ثانية،
وتمنى لو لم يفارق فراشها..
_.. قطر! انهضي!.. لقد تأخرنا!..
_.. حسناً.. حسناً.. سأكون جاهزة بعد عشر دقائق..
أسرع في الاستحمام..
أحس بنشاط ومرح داخليين ما عرف مثلهما منذ زمن طويل..
هرع إلى ثيابه، يختار منها أبسط ما لديه وأدفأه، ثم أسرع إلى البهو، وقرع
باب غرفة قطر..
أتاه صوتها..
_.. مهلك.. مهلك.. سأخرج بعد دقائق!..
جلس ينتظرها في البهو.. تمشّى نحو النافذة، وأزاح ستائرها..
وقف يرتشف قهوته، وينظر من باب الشرفة الزجاجي إلى الأبنية الرمادية
والمداخن البعيدة..
سمعها تفتح باب غرفتها.. فاستدار مبتسماً وهمّ بالاقتراب منها..
أمعن النظر فيها.. ثم تسمّر في مكانه مذهولاً لما رأى!..
وقفت أمامه وقد طلت وجهها بأضعاف المساحيق والزينة التي تعودتها.. وكأنها
تزيّنت لعرس أحد الأمراء الشرقيين!..
لابد أنها تحلّت بكل ما كانت تحمله معها من مجوهرات!..
وهذا الثوب المخملي الأسود!.. وهذا الفرو الطويل على ذراعها!.. وحذاؤها
الدقيق العالي!..
سألته متعجبة، متشامخة..
_ما بالك تحدق هكذا؟..
كان في صوتها برود أقلقه، وزاد من دهشته..
أجابها متردداً..
_أجادة أنت؟!.. الوقت ظهر!.. لماذا كل هذه الزينة؟..
لم تجبه!.. ولما ظل واقفاً في مكانه ينتظر جوابها.. قالت..
_.. سأذهب إلى " ديور" بعد زيارة المشفى لشراء بعض الثياب!.. ولا أود أن
أعود إلى الفندق لتبديل ثيابي!!..
كان يعلم بأنها ذاهبة إلى " ديور".. لكنه أحس أن في مبالغتها بالزينة على
هذا الشكل هدفاً آخر!.. وأنها إنما تنتحل هذه الزيارة كعذر لتغطية أمر صممت
على القيام به!..
قال ببرود، واستخفاف..
_أتظنين حقاً أن " ديور" سيعجب بك لو رآك بمثل هذه الزينة، وهذه المجوهرات،
في مثل هذه الساعة المبكرة من النهار؟!..
لم تجبه.. لعل وجهها امتقع تحت المساحيق..
أحس أن عليه التراجع أمام حدود لا تتيح له اللباقة أن يتجاوزها.. فتابع
قائلاً..
_.. حسناً.. لنذهب.. لقد تأخرنا بما فيه الكفاية!..
خيم الصمت عليهما في السيارة.. أدار فراس المذياع إلى موسيقى جميلة هادئة..
تلهّى بالمارة..
كان ينظر أمامه فنسي زينة قطر المفتعلة، وفروها، وحليها، واسترجع إلى ذهنه
ملاك العشية.. وسكون الليل..
كان ما خلعته من حلي، قبل سهرة الليلة الفائتة، ما يزال في صندوق السيارة،
يذكره بما عرفه معها من سعادة..
امتلأ صدره مرة ثانية بفيض من العاطفة.. وتدفقت ابتسامة على شفتيه..
سألها برفق..
_.. هل هنئت بالنوم البارحة؟..
أبدت عجباً من سؤاله، وأجابت..
_وكيف لا أرتاح؟.. لم أكد أغلق باب غرفتي، حتى أويت إلى فراشي وأغرقت في
نوم عميق!..
صمت.. أحس بأنها تقول شيئاً لم يفهمه.. أو أنها ترمي إلى هدف لم يدركه!..
تابعت كلامها..
_.. وماذا فعلت أنت؟.. أقرأت كعادتك، أم هل لجأت فوراً إلى النوم؟!..
صعق لما سمع!!..
أيمكن أنها تحاول تجاهل البارحة؟!..
كيف تقوى على ذلك؟.. لماذا.. لماذا؟!..
امتقع وجهه، ثم شحب.. راح يردد على نفسه، ويهز رأسه هزات خفيفة " تريد إذن
أن تنسى ".. " تريد إذن أن تنسى ".. " حسنا .. فليكن لها ما تريد " !..
ثارت كبرياؤه.. وجهد في إخفاء امتعاضه الشديد..
أدرك أن عليه أن يتكلم.. أن يقول أي شيء، وبصوت طبيعي، كي لا يمكّنها من
ألمه!..
تجاوز حادثة الأمس.. تجاوز نفسه..
تطرق في الحديث إلى مواضيع أخرى.. لكن لهجة البرود واللامبالاة المتعمدة لم
تفارق أجوبتها.. فأدرك أن في الأمر أكثر من تجاهل حب الليلة الفائتة.. أو
محاولة مسخ هذا الحب على شكل مغامرة عابرة!..
ومن خلال غيظه وألمه المكبوتين.. أحس وكأن قطراً قد واجهت مشكلة عميقة..
فاختارت أن تحلها على هذا الشكل!..
سرعان ما وصلا إلى المشفى.. فدخلاه واجمين..
أراحهما أن وجدا المريضتين متشوقتين إلى لقائهما، لا يحلو لهما سوى الكلام
عما قامتا به من تجميل..
مرت الساعات ببطء ممل، ولئن عاد كل منهما إلى طريقته الطبيعية في الكلام
إلا أن رأسيهما كانا يدويان بألف أمر وأمر!..
_.. كيف قضيتما ليلة الأمس؟..
فوجئ فراس!.. باغته أن تسأل زوجته عن أمس..
كان من الطبيعي أن تسأل زوجته هذا السؤال، ومن الطبيعي أن يحضّر مع قطر
جواباً له!.. لكنهما لم يخططا لحوادث البارحة!.. وكأن ما مرّ معهما أمر
طبيعي، لذلك لم يشعرا بحاجة إلى التحضير لإخفائه..
نظر إلى زوجته بصمت.. ثم انتبه إلى نفسه، فاستدرك قائلاً..
_..ذهبنا إلى السينما..
علّقت ميساء..
_.. التعب بادٍ على وجهيكما.. هل أطلتما السهر؟..
_..أتعبنا الفيلم..
_ماذا كان عنوانه؟..
ذكر لها فراس أول عنوان جال في خاطره!.. ثم نظر إلى قطر، ولأول مرة منذ
البارحة، أحس بعينيها تنظران إليه ببراءة، تستنجدان منه العون!..
أدرك أنها لا تعرف شيئاً عن الفيلم الذي ذكره.. وأنها تخاف أن تُسأل عنه،
فتابع قائلاً..
_لابد أنه لم يعجب قطراً.. لقد أمضت العرض وهي نائمة!..
ضحكت ميساء.. ونهضت قطر، وقد استرجعت ثقتها، فقالت على عجل..
_عليّ أن أذهب الآن إلى موعدي مع " ديور"..
ثم نظرت إلى فراس، وسألته مسترجعة لا مبالاتها..
_وأنت.. ماذا ستفعل الليلة؟.. أنا شخصياً، أود أن ألجأ إلى النوم مبكرة !..
نظر إليها ملياً.. ثم قال متعمداً عدم الاكتراث..
_.. سأذهب لزيارة صديقي " باتريس ".
كان على المريضتين أن تلجآ إلى الراحة.. فنهض فراس مع قطر.. وتركاهما على
أن يعودا إليهما في اليوم التالي..
عاد فراس إلى الفندق.. وحاول عبثاً الاتصال بصديقه " باتريس ".
همّ بالخروج ثانية.. وإذا بالهاتف يدوي في غرفته.. فهرع إليه..
سمعت صوته يجيبني..
_..كنت على وشك مغادرة الفندق حين سمعت رنين الهاتف.. ثم صوتك!..
فقلت على عجل..
_.. وصلت اليوم.. وها أنا أتصل بك على الفور.. هل أنت على موعد؟.. سأمكث في
باريس أياماً.. إن كان لديك ما يشغلك فباستطاعتنا أن نلتقي غداً، إن شئت!..
أجابني لهفاً..
_.. بل أشكر الصدف التي أعادتني إلى الفندق لأتلقى مخابرتك!.. كنت على وشك
الاتصال ﺒ " لورا ".. أتود أن نذهب لزيارتها معاً هذه الليلة؟..
_لم أرها منذ سنين.. يسعدني جداً أن نذهب!..
_حسناً.. أنا بانتظارك..
لم تمض ساعة من الزمن حتى كنا في طريقنا إليها..
المصح في غاب " فانسين ".. قطعة من الغاب نفسه، أحيطت بسور كبير.. وبين
أشجاره الباسقة، وعلى مسافات من بعضها، بنيت بيوت منفردة أنيقة، لولا
الممرضات المتنقلات بينها بزيهن الأبيض، لما حسبها الناظر سوى مساكن أنيقة،
بنيت لأناس مترفين.. أثرياء، اقتطعوا هذا الغاب من العالم، ليبتعدوا عن صخب
باريس..
لم تكن زيارة " لورا " بالأمر السهل، فهي تسهر الليل، وتنام النهار.
يُسأل الطبيب المشرف على المصح ما إذا كانت حالتها الصحية تسمح لها بقبول
الزائرين..
وحتى لو سمحت حالتها بذلك، فلا يأذن طبيب، ما لم يكن على معرفة شخصية
بالزائر..
كانت حالتها تستوجب منه هذا الحذر.. ليستوثق من حسن تأثير الزائر على وضعها
النفسي..
لذلك، كان عدد الذين يسمح لهم بزيارة " لورا " لا يزيد عن عدد أصابع اليد
الواحدة.. كثيراً ما كان الطبيب يستثني معظمهم!.. فلا يسمح بزيارتها لمن
شاء، متى شاء، سوى لاثنين منهم.. فراس، وامرأة طريفة، صديقة قديمة للورا،
تقرأ الغيب وتزاول جميع ما يرفضه العلم مما يتعلق بالنجوم!..
طرقنا، ونحن في دربنا موضوعات شتى..
كان فراس يحدثني بمرح ولهفة ظاهرين.. ثم يصمت، فيعتريه الوجوم، ولا يعود
إلى الكلام ما لم أجرّه على متابعة الحديث، فيفيق من شروده، كمن يصحو من
حلم عريب..
_ماذا تخفي عني يا فراس؟.. هل ألم سوء ﺒ " لورا "؟..
_.. الأمر لا يتعلق ﺒ " لورا " !..
_هنالك أمر إذن.. بمن يتعلق؟!..
_بي أنا.. وبقطر الندى!..
لم أعلق على ما سمعت.. فنظر إليّ متفحصاً..
_لابد أنك تهزأ مني في سرك!..
أجبته عاتباً..
_متى كنت أهزأ منك؟.. أو من أيّ إنسان يحب؟..
أجابني ساخراً..
_إن أكثر ما يضحكني فيك هو هذه القدسية التي تضفيها على الحب!.. قل لي
بربك!.. ألا ترى في ذلك نزوعاً لا شعورياً منك نحو القيام بدور " ملاك الحب
"!..
_.. وما سبب هذه السخرية؟.. ماذا بينك وبين قطر؟..
عاد فراس إلى نفسه، هز رأسه بوجوم..
_.. بالضبط.. ماذا !..
وبعد أن سرد علي حوادث الليلة الماضية.. قال واجماً..
_.. لم أعد أفهم نوع العاطفة التي أشعر بها نحوها!..
سألته متردداً
_..وقطر؟..
_أظن أنها أحست بخطورة ما تشعر به!.. إنها الآن تدافع عما بنت لنفسها من
كيان!.. ترفض الخوض في مثل هذه التجربة!..
_أتظنها واعية لذلك؟..
_كل الوعي!.. وهذا ما يؤلمني!..
كنا قد أشرفنا على المصح.. فطالعتنا أشجاره من بعيد..
لم أستطع أن أمنع نفسي عن القول لفراس..
_ما بالك لا تهوى سوى أغرب ما خلق الله من مخلوقات؟!..
ضحك بشيء من الحزن..
_لعله حب الصيد!..
كنا قد وصلنا.. فتعمدت ألا أرد عليه قبل أن يوقف محرك السيارة، ونخرج
منها.. وما إن قرع باب المصح، حتى قلت له..
_.. وتظن أنك الصائد البارع!!.. ألا ترى أنك الضحية دوماً في هذه
المحاولات؟ !..
ضحك من وجومي، وقال..
_لحظة أخرى، وتجعل مني القديس " سيباستيان "!!..
سأل الحارس عن أسمائنا من وراء كوّته الحديدية الصغيرة..
ما إن سمع جواب فراس، حتى أطلق تياراً كهربائياً فتح الباب الحديديّ الكبير
ثم خرج متلفحاً بدثار صوفي، اتقاء للبرد القارص، وقال مرحباً..
_.. أهلاً بمسيو " مكسيم "!!.. لم تأت لزيارتنا منذ زمن طويل!!..
لم يكن من واجب الحارس أن يخرج لاستقبالنا.. أبديت عجبي لفراس يالانجليزية،
فأفهمني بأنه صديق قديم له..
كان كلب الحارس قد اغتنم فرصة خروج سيده لينطلق كالسهم خارج الغرفة، يعدو
ويلعب بين الأشجار!.. توقف فجأة!.. تنسم في الهواء رائحة مألوفة!..
عاد يركض نحو فراس.. فركع يداعب الكلب ويحدثه متحبباً، بينما وقف الحارس،
ينظر إليهما والرضا باد على وجهه..
أخذ يحدثني، فأتاني صوته من وراء دثاره، وكأنه يحدث نفسه..
_.. ليس مسيو " مكسيم " من الأشخاص الذين ينساهم الإنسان بسرعة.. إن له
قلباً كبيراً..
نهض فراس.. وبعد حديث قصير مع الحارس، تبادلا فيه الأسئلة عن أشخاص عرفاهما
سوية في المصح، ترك الرجل العجوز، بعد أن أودع في يده قطعة نقد كبيرة،
وتقدمني نحو منزل " لورا "..
كانت " لورا " كعادتها، متمددة على فراشها الواسع الوثير.. تحيط بها، عن
يمينها، آلة مسجلة لا تفارقها، وتحت أقدامها، بعيداً في صدر الغرفة، يقف
بيانو قديم قلما كانت تعزف عليه.. وإلى يسارها مقعدان مريحان من الجلد
القديم ترقد بينهما منضدة صغيرة، صفت عليها صور كبيرة للقديس " كريستوف "،
بين صور عديدية لأفراد من عائلتها المالكة، وتحيط بهذين المقعدين كتب
واسطوانات موسيقية كثيرة..
لم تكن " لورا " من النساء اللواتي يأبهن للشكليات كي تبادر ضيوفها بعبارات
الترحيب والمجاملة المألوفة..
هل أبدو كمن يبالغ بالمدح إن قلت إن الطبيعة لا تجود بمثل هذه الإنسانة سوى
مرة كل عدة قرون؟..
إن كان ذلك، فلا بأس !.. فأنا لا أعرف من النساء في عالمي من تدانيها
مكانة.. ولم أقع، في ما قرأته من أدب ، قديم أو حديث، على امرأة تشابهها من
بعيد في عمق التفكير، وأصالة النفس..
رفعت " لورا " حاجبيها للقائنا، وتبسمت بتعب..
أفهمتنا أنها تعاني من أزمة حادة تمنعها عن الكلام الكثير، وأشارت إلينا
بأن نستريح..
تمدد فراس إلى جانبها على الفراش.. بينما جلست على أحد المقاعد الجلدية إلى
يسارها، وبادرت إلى تسليتها بالحديث بهدوء عما شاهدته من مسرحيات، وما
حضرته من حفلات موسيقية..
أصغت إليّ بإمعان، بينما راح فراس يحدق في سقف الغرفة..
انسقت مع حديثي، جاهداً أن أنقل العالم الخارجي إلى غرفة لورا التي نسيته..
أطلقت لأفكاري العنان..
تحدثت طويلاً، حتى تنبهت فجأة إلى أنني بدأت أمل سماع صوتي..
وفي النهاية.. خلدت أنا الآخر إلى الصمت..
همست " لورا " بصوتها الخافت..
_معذرة.. إن كنت لا استطيع أن أشاركك الحديث..
أشرت إليها أن لا عليها من ذلك.. فتبسم فراس، ثم استوى وتوجه نحو
الاسطوانات فانتقى إحداها، وأدارها على العازف..
علت مقدمة Peleasse .. فتذكرت آخر مرة كنا فيها في الأوبرا.. تذكرت عيني
فراس.. وأدركت من انتقائه لتلك المقطوعة أنه يعاني من ألم مرير!..
كأنما أدركت " لورا " ذلك.. فأشارت إليه بأن يوقف الموسيقى.. وإذ فعل ذلك،
قالت له، شبه متوسلة..
_" ميشكا "!.. لماذا لا تعزف لنا مقطوعة من تأليفك؟..
سمعت نفسي أردد قولها متعجباً..
_.." ميشكا "؟..
أجابتني مبتسمة..
_.. أعرف أن اسمه فراس.. و" مكسيم ".. لكنني اخترت له اسم " ميشكا ".. أجد
أن هذا الاسم يناسبه.. ألم يخبرك ميشكا أن " لورا " اسم اختاره هو لي؟!..
ضحك فراس لحيرتي.. توجه نحو البيانو، ثم جلس يعزف بهدوء أحد ألحانه
الحزينة.. ولما انتهى من العزف، نظرت " لورا " إليه بحنان، وقالت..
_ما أجمل حزنك..
ثم التفتت نحوي .. وتابعت..
_.. أليس " ميشكا " من قرنٍ مضى؟..
وجدت نفسي أجيبها، دون أن أفهم ما أقول..
_.. ومن قرن مقبل في الوقت ذاته!..
تبسمت لقولي.. ثم عادت تسأل فراساً..
_لماذا لا تزاول الموسيقى جدياً؟..
أجابها.. متنهداً..
_لأن مثل هذه الألحان التي نحب، قديمة في أوروبا، جديدة على الشرق،
لايفهمها!
_.. والرسم؟.. ألا تذكر كيف بيعت جميع لوحات معرضك هنا منذ أربع سنين؟..
لماذا لا تعود إلى الرسم؟.. لا زلت أحتفظ باللوحة التي رسمتها لي..
انظرا!..
وأشارت بإصبعها الدقيقة الطويلة إلى لوحة كبيرة على الحائط لم أكن قد تنبهت
إليها..
أعجبت بألوانها الليلية الداكنة، فقلت لفراس..
_.. لم أدر أن لك لوحات من مدرسة رامرانت!.. حقاً؟.. هل تركت الرسم؟..
ضحك من سؤالي..
_أراكما تستدرجاني إلى شرك!..
_.. ولماذا تعتبر هذا استدراجاً؟.. ألست فناناً؟.. أليس عليك أن تخلص
لفنك؟..
_.. وما هو " الفن "؟..
تنهدت لورا كمن عذّبها هذا السؤال..
_..لا يهمنا التعريف.. الفن هو ما يزاوله أناس مرهفون خلاّقون.. إنه
فعاليتهم الطبيعية.. هذا كل ما في الأمر..
ثم تابعت متوسلة..
_.. إن ما يهمنا الآن يا ميشكا هو رفضك مزاولة الفن بصورة جديّة!..
أجابها، وكأنها أقسرته على الكلام..
_" لورا ".. لا تجيبي إن كان في ذلك إجهاد لك.. لكن علي أن أقول لك هذا..
أن يكون الإنسان فناناً-حسب اجتهاد المجتمع في تعريف الإبداع- فهذا شيء.. "
واقع "!.. وأن يزاول الإنسان فنه وإن كان بالنسبة إلى ذاته، بشكل جدي كما
تقولين، فهذا شيء آخر.. " عمل " !.. وأن يعرّف الآخرين على نفسه وفنّه،
فهذا شيء آخر أيضاً، بل عالم آخر، " حملة دعائية " !!.. أما أن يفرض فنه
على الآخرين، سواء أكان ذلك بالانصياع لذوقهم، أو بمهاجمته لهذا الذوق،
فذلك، مرة أخرى، عالم يختلف عن جميع ما ذكرت.. حملات تبشيرية لا آخر لها..
محورها " الأنا " !!..
صمت برهة ثم تابع..
_ثم.. ما هو الفن؟.. كلمة لا معنى لها!.. هنالك " أشخاص ".. أراهم
وأعرفهم.. وهنالك " أعمال ".. أراها وأتذوقها!.. أما " الفن " فكلمة
جوفاء!.. " مفهوم " يظن الإنسان أنه يفهمه في حين أنه لا يفقه منه شيئاً!..
يكبل الفنان نفسه بالتعريف الذي يختاره له، فيأتمر بما يظن أنها شروطه، حتى
لا يعود يقوى على التحرك ضمن هذه القيود!!.. الفن.. كالحقيقة.. كلمات، لا
واقع لها!!..
نظرت إليّ لورا تطلب مني أن أجيبه، فبادرت..
_.. وكيف لا يكون هنالك فن؟.. أليس الفن هو ما يزاوله كل فنان؟!..
أجابني مبتسماً..
_.. وكأنك تكلمني عن الحب " أليس الحب هو ما يشعر به كل محب؟!...."!
قلت مازحاً..
_عدنا إلى السيمانتيكية!.. حسناً أين الخطأ في ذلك؟..
_.. هنالك إنسان يحب.. وليس هنالك " حب " يقف بحد ذاته!..
_وهذا الشعور الذي يتنازعك نحو قطر الندى؟.. أليس هو الحب؟..
نظرت إليه لورا دهشة وسألته..
_أحقاً أنك تحب هذه الفتاة؟.. ومن هي؟..
_سأكلمك عنها بعد حين..
وتابع قوله..
_.. إن ما أشعر به نحو قطر الندى ليس سوى.. " ما أشعر به "..لا أكثر ولا
أقل!.. إنه " شعور "!.. وشعوري هذا هو حركة داخلية، لا يحددها سوى اتجاهها
العام !.. أما أن أعطي هذه الحركة " اسماً ".." لقبا ً".. فإني بذلك أقفز
إلى عالم آخر.. مجال اللغة، ثم الأدب!..
_.. أليست " الحركة " لقباً لما يقوم به الجسم المتحرك؟.. لماذا إذن لا
تسمي هذه الحركة " حباً " في عالم الشعور، أو " فناً " في عالم الإبداع
؟!..
_أقبل بالحب كتسمية لانفعال، والانفعال " تابع " لا يمكن أن يستقل بوجوده،
خلافاً للحركة.. التي أقبل بها موضوعياً، رغم كونها
" مفهوماً " لأنها ظاهرة تتقيد بشروط رياضية!.. لأنها تبدأ من نقطة الصفر،
وتتباعد بسرعة منتظمة أو متسارعة نحو اللانهاية، أي إنه يمكننا قياس الحركة
بالنسبة لأبعادها النسبية، الزمن، والمكان! وهل للشعور أبعاد يقاس بها سوى
" ألقاب " لا آخر لها؟..
كلمات جوفاء اخترعها الأدب؟!..
_أنت تحب، وليس هنالك " حب "!!.. أنت تبدع.. وليس هذا " فناً " أهذا ما
أفهمه منك؟!..
_هنالك قوانين نحددها نسبياً عن حال الأشياء.. وأبعاد عالم الأشياء
معروفة!.. فما هي أبعاد عالم الشعور، كي نقيس الشعور ضمن شروط هذا
العالم؟!..
_.. لنقل أن " نقطة الصفر " هي اللامبالاة، و" اللانهاية " هو الحب
المتفاني!!..
_وما هو الحب المتفاني؟..
_الموت!!.. تضحية الإنسان بحياته من أجل من يحب!!..
_لئن قبلت معك جدلاً أن اللامبالاة هي نقطة الصفر في الشعور.. فمتى كان
التفاني واحداً عند الجميع؟.. أعرف من الناس من كان التفاني طبيعة ثانية
لهم! والموت.. متى كانت قيمة الموت واحدة عند الجميع؟!..
تبسم فراس إزاء صمتي، وقال..
_يا ملاك الحب!.. ألم اقل لك مرة إن عالمك ليس سوى " شهوة طويلة "، وأن
الشهوة ليست سوى حب قصير؟!..
عاد فراس إلى سرير " لورا " واستلقى عليه مرة ثانية.. تنهد طويلاً ثم أغلق
عينيه..
أشارت إليّ لورا بعينيها كي أدير الحاكي.. فأدرت الأسطوانة التي كانت
عليه.. ومرة أخرى.. من أعماق الأرض .. من أعماق عالم خفي.. من خبايا النفس
البشرية، تصعّدت أنغام " ديبوسي ".. وغلّفتنا بدثار دافئ شفاف..
مال فراس إلى جنبه ضاماً ذراعيه بين ركبتيه، وأخفى رأسه بين جنب لورأ
والسرير..
رفعت لورا ذراعها النحيلة، وأرقدتها برفق على كتفه..
رفع وجهه نحوها دون أن يفتح عينيه، فمدت أصابعها الدقيقة ببطء شديد، وجالت
برؤوسها المرهفة على تقاطيع وجهه دون أن تمسها..
نظرت إلي.. فتجاوزت نظرتها عينيّ وانطلقت، عبرهما، نحو أبعاد سحيقة..
همست قائلة.. وفي صوتها شيء من العتاب..
_متى ستعرف أن " ميشكا " طفل يتألم؟..
كان فراس يعبّ من عبقها الدافئ الذي جردته السنون من أنوثته..
رفع وجهه نحوها، وقال ، دون أن يفتح عينيه..
_.. ومتى ستعرفين أنني Per Guynt؟..
صمتت " لورا " طويلاً.. ضمت رأسها إلى جنبها برفق، وتمتمت بحزن مهيب..
_.. متى ستعرف أنني " جوكاست "؟.. متى ستدرك أنني أسطورة تتألم؟!..
خيّم على الغرفة جو غريب..
وددت في تلك اللحظة لو أن في الكون قدرة يمكنها أن تبدد وجودي دون إحداث
جلبة..
تمنيت لو أن باستطاعتي أن أختفي.. أن أتحول إلى ضباب يتمدد ثم يتبعثر بين
أرجاء الأثير..
اجتازت الغرفة ومضةﹲ من لحظة كنت أعرف أنها موجودة بين أبعاد الزمن..
من هو " فراس "؟.. من هو " مكسيم "؟..
من هو " ميشكا "؟.. من هي " لورا "؟..
من أنا؟.. ما هو الكون؟..
ما هو الزمن؟..
ما هو اللا كون.. ما هو اللا زمن ؟؟..
هل نعيش، جميعاً، ضمن نفس الأبعاد؟..
كيف تمتدّ، ثم تنصرم الحركة.. أبخطّ مستقيم أم بأمواج دائرية؟..
أتبتعد اللانهاية عن مركز.. أم تتقارب بحركة لا يُعبّر عنها نحو لا
مركز؟!..
وكوننا؟.. أموجب أم سالب؟.. وهل يدرك اللاشعور هذا الانفصام؟..
أهذا هو التناقض الأول؟..
أهذا هو المفتاح؟..
ألقيت برأسي إلى الوراء.. وغبت في شبه دوار آني..
نهضنا بعد فترة صمت، لم أعد أذكر مداها.. واستودعنا " لورا " بابتسامات
وسكون..
عاد فراس إلى الفندق مع أولى ساعات الفجر..
لم يشأ أن يحدث جلبة توقظ قطر الندى، فدخل الجناح على أطراف أصابعه.. وتقدم
من البهو نحو غرفته دون أن يضيئ النور..
فوجئ بنور ينبعث من أسفل باب غرفتها، فتوقف متعجباً..
لعل قطر قد لجأت إلى القراءة قبل النوم، فأغفت دون أن تطفئ مصباح السرير!..
كاد يتجه نحو غرفته حين سمع صوتاً ينبعث من غرفتها.. تقدم من بابها بحذر
وهدوء وأصغى إلى الصوت!..
لم يسمع سوى صوتها.. تتكلم، وتصمت، ثم تعود إلى الكلام..
كانت تتكلم على الهاتف!.. ومن تكلم في مثل هذه الساعة؟..
لا بد أنه جعفر!.. هل يكلمها من جنيف؟!..
جلس القرفصاء.. وألصق أذنه بفتحة في الباب..
سمع صوتها خافتاً واضحاً..
_.. قلت لك إن فراساً وصل! لا.. لا لم يكلمني.. ارفع صوتك، لا أكاد
أسمعك!... أعرف أن فراساً هنا.. أنا التي أخبرتك عن ذلك!..
.. يا الله!.. قد يسمع صوتي أنا، لا صوتك أنت!!... حسناً سأطفئ النور..
واختفى النور من أسفل الباب..
تبسّم فراس لسذاجة حذر جعفر..
عاد صوت قطر..
_..لا، لم يكن على علم بأنك ستصل هذه الليلة!... لو تأخرنا قليلاً لأدركنا
في البهو!... ماذا؟.. لم أفهم.. آه.. إرفع صوتك قليلاً!!... آثار؟!.. ماذا
تقول؟!.. أي مقعد؟!... آثار ماذا؟؟!.. .. آه منك!!.. كيف لم تنتبه
أنت؟!.... لا، لم أنتبه !.. ليست هذه مهمتي!!... لا أظن.. لن يلا حظ
شيئاً!!.. كيف؟.. .. لأنه لم يضئ النور في البهو!!.. كيف يمكنه أن يرى في
الظلام؟!!..
انتصب فراس واقفاً!!..
جعفر هنا في باريس.. لقد كان هنا في هذا البهو!!..
سمع دوياً في رأسه!..
توجه نحو غرفته وأضاء نورها، ثم عاد إلى البهو يتفحص المقاعد..
نظر ملياً إلى المقعد الكبير.. وتوجه نحوه!..
جلس القرفصاء يتفحص الوسائد.. فلم يلاحظ شيئاً!..
جال بيديه عليها.. ثم توقف إذ شعر بتقزز مما قد تمسّه يده!..
حمل الوسادة الوسطى وعاد بها إلى غرفته.. لم يكد يقع النورعليها، حتى رأى
ما كان يبحث عنه..
.. بقعة جليّة واضحة!!..
أعاد الوسادة إلى مكانها..
أحس بدوار، ثم بتعب شديد في ساقيه..
عاد إلى غرفته، وتناول حبوباً منومة..
لجأ إلى فراشه، ورأسه تدوي بما سمعه، والبقعة ماثلة أمام عينيه !..
متى عاد جعفر؟..!.. كيف لم يتوقع قدومه؟.. يا له من غبي!..
كيف لا!.. ألم يحضّر جعفر لهذه المناسبة؟.. العمليات الجراحية!.. الفرصة
التي تحدث عنها حين كانوا في بلادهم.. الظفر بقطر الندى، وحيدة، دون
أختها!..
البقعة!.. البهو!..
لماذا في البهو؟!..
عادت ضربات قلبه إلى التصاعد.. لم تلجأ قطر إذن معه إلى الفراش!.. لم تذعن
له!..
في البهو على المقعد الكبير!!.. لم تنزع ثيابها له!..
البقعة!..
كيف يترك آثاراً؟.. إنه نصف إذعان منها!.. نصف مطارحة.. لماذا؟!..
دلال منها؟..
هل أقسرها؟!..
لا يجرؤ!..
نصف عملية!..
أهو ثمن الهدايا؟.. ثمن الرحلة.. وعشرات الألوف؟!..
أم هي دفعة على الحساب؟!..
كم عدد الأقساط!..
............
كان باستطاعتها أن تستبقيه في جنيف..
...........
أياماً أخرى على الأقل..
.....
لماذا أتى اليوم؟.. هل استدعته خصيصاً؟.. لماذا؟..
.. لماذا تهرب من الحب؟..
....
لماذا تهرب منه؟.. البقعة..
....
البقعة..
....
....
القسم الرابع
الفصـل الثامـن
ص238-243
}عاد فراس في
العاشرة مساء ليجد أن مراداً قد أقلّ ميساء إلى السهرة الموعودة، وأن زوجته
وقطر الندى، بعد أن قطعتا الأمل من عودته مبكراً، قد اغتنمتا فرصة وجودهما
وحيدتين لتتناولا عشاءهما بمفردهما في الفندق..
اقترب من
باب الجناح وهو يذكر شجار الصباح.. ويتوجس سلفاً من سهرة سيمضيها وحيداً
بين زوجته وقطر الندى الناقمة!..
فوجئ، إذ
همّ بفتح باب الجناح، بقطر وبزوجته تهرعان نحو الباب تدفعانه بكتفيهما
محاولتين منعه من الدخول!..
صعق
لحركتهما!!..
أذهله ما
كان يمر معه!..
..
أهذه حقاً
زوجته، وقطر الندى، اللتان تدفعان الباب بهذا الشكل كي تمنعاه من الدخول؟!..
ولماذا؟!..أهو نفسه الذي يدفع الباب عنوة ليدخل الجناح، حيث يقيم؟!!..
راح يدفع
الباب، حتى تم له إحكام قدمه بين مصراعيه..
..
علا صراخ
المرأتين من الداخل!..
..
تابع دفع
الباب، حتى تغلب عليهما.. فتقهقرتا أمامه، ودخل حائراً، باحثاً عن سبب دفع
زوجته وقطراً إلى مثل هذا السلوك..
ما إن نظر
حوله مستجلياً الأمر، حتى فوجئ بهما تركضان نحو مائدة الطعام، تقفان بثياب
نومهما، فاتحتين ذراعيهما، وظهرهما نحو المائدة، محاولتين إخفاء ما كان
عليها!..
لحظات روّع
أثناءها لما وجده على تلك المائدة!..
وقف أمامها
فاغر الفم، لا يصدق ما تراه عيناه!..
لحظات.. ثم
أغرق في ضحك سالت دموعه له!..
كان فراس
على حرب مستديم مع نهم زوجته.. وجرت دعابة بينه وبين قطر الندى يمنعها
فيها، هي الأخرى، عن تناول الأطعمة الدسمة لما لديها من استعداد للسمنة..
قام بعدّ ما
كان على المائدة من أطباق..
أربعة عشر
طبقاً كبيراً، تكفي محتويات كل منها لإطعام ستة أشخاص على الأقل، تحتوي على
معظم ما يمكن للمطبخ الإيطالي تحضيره من معجنات!!..
ضحكوا
طويلاً.. ضحكوا حتى لم يعد في مقدورهم متابعة الوقوف..
..
شهوة أرادتا
إشباعها منذ زمن طويل !..
..
حلم كانتا قد
اتفقتا على تحقيقه منذ أن كانتا في الوطن!..
_..
أتسمحان لي أن
أشارككما هذه المأدبة على الأقل؟..
_..
على ألا تأكل
كثيراً!..
ثم عادوا
إلى الضحك من جديد..
قطر الندى
سعيدة مرحة!..
أنستها دعوة
مراد لأختها شجار الصباح، فتناساه فراس، ثم أتت المأدبة، وما تلاها من ضحك
لتفعل فعلها السحري على نفسها!..
شربوا
نبيذاً إيطالياً معتقاً، فطربوا، وغلبهم خدر لذيذ استرسلوا فيه، حتى لم يعد
في مقدورهم متابعة الكلام!..
قاموا إلى
النوم يبتسمون لثقل رؤوسهم.. ونفوسهم تعمرها السعادة ويملؤها الترف..
كان البهو
الكبير يفصل غرفتي نوم وثيرتين تقع كل منهما على أقصى طرفيه.. وكعادتهما في
باريس، كانت الأختان تأويان إلى إحدى الغرفتين، بينما فراس وزوجته ينامان
في الأخرى..
انقضى ما
يقارب عشر دقائق على إطفاء النور، حين ظهر خيال قطر الندى على باب غرفة نوم
الزوجين يؤكده، من خلفها، وهج يتسلل إلى البهو من أضواء الشارع..
استوت زوجة
فراس في فراشها، شبه مذعورة، وسألتها بصوت واجف..
_..
قطر؟.. ما
بالك!.. أهنالك شيء؟..
جاء صوت قطر
حييّاً، وجلاً..
_لا..لا..
تعودت النوم مع ميساء.. لا أستطيع النوم وحيدة في غرفتي!.. لقد أدار رأسي
النبيذ.. أخاف الوحدة..
رفع فراس
رأسه يصغي إلى ما تقول..
ضحكت زوجته
منها بحنان، وقالت مداعبة..
_..
تعالي نامي
معنا إن شئت.. فالسرير يتسع لثلاثة..
_حقاً..
ألا يزعجكما ذلك؟..
تلكأت زوجته
بالجواب.. لم تكن تتوقع أن تقبل قطر عرضها..
أمسكت بذراع
فراس في الظلام، وهزتها.. تستحثه على إبداء رأيه!..
قال متصنعاً
عدم اكتراث مهذب..
_لا..
أبداً.. ليس في ذلك إزعاج.. تعالي إن شئت!..
شعرت قطر
بأن زوجة فراس تحركت نحو المصباح لإشعاله.. فاستوقفتها مازحة..
_لا..
أرجوك!.. لا تشعلي النور.. سأبدو مخيفة دون زينة!..
سرّت زوجته
قائلة لفراس..
_..هل
سمعت؟.. كلنا سواء!..
ثم تابعت،
تحث قطراً، وقد ازداد حبها فجأة نحوها..
_تعالي..
أسرعي!..
..
وإذ تقدمت من
السرير، أكملت..
_..
من جهتي أنا
طبعاً.. سأنام بينك وبين فراس!..
اقتربت
زوجته منه، مفسحة لقطر مكاناً في الفراش، بينما دخلت هذه تحت الغطاء، وهي
تضحك..
مرت دقائق
صمت طويلة ازداد فيها دفء الفراش..
أحس فراس
فجأة بضيق مكانه، فراح يتقلب فيه..
طار
النعاس.. تواترت أفكارهم، وغمرهم عدم ارتياح لذيذ..
صار لقرب
زوجته منه معنىً جديداً.. ولجسدها المألوف، سحر، وغموض لم يكونا له منذ
دقائق!..
لم يشأ أن
يحدد دور قطر الندى في هذا الشعور المفاجئ..
..
مدّ ذراعه ليلف
خصر زوجته، وإذ بهذه تستجيب له، وتلتصق به كأنها هي التي حركت تلك الذراع!..
دقائق أخرى
طوال.. طوال، خلد الزوجان فيها إلى سكون مريب.. أحست قطر بما كان يجري
بينهما، فعلت ضربات قلبها، وتململت وهي تقول بصوت متقطع أجش..
_..
لا تدعا وجودي
يعيقكما!.. ليست هذه ليلة الشكليات.. أو التحفظ!!..
سمع كل من
الزوجين ضربات قلبه..
ثوان أخرى
طويلة.. طويلة، وبحركة لاشعورية، استسلما للغريزة دون ضوضاء..
ما أوسع
مخيلة الإنسان، وما أضيق ما يمكن لشخص واحد أن يشغله من حيز فيها..
تواترت في
رأس فراس ألوف الخيالات، واختلطت في ذهنه صور البشر!..
كان واعياً
حاسباً لما يقوم به، سيّد جميع ذرات جسده.. وفي الوقت ذاته أحس بأن شيئاً
من وعيه أفلت ليطير بعيداً، ثم يعود ويطل على ذلك السرير، فيراقب هذه
الأجساد الثلاثة التي تمددت فيه..
لم تكن تلك
المرة الأولى التي قام فيها بمثل هذه التجربة.. لكنه حتى ذلك اليوم، لم
يجلس إلى مثل هذه الوليمة إلا مع غرباء، لايهمه أمرهم!..
أدرك منذ
زمن طويل أن ليس للإنسان سوى طرق محدودة يحس بالعالم الخارجي بواسطتها، وأن
ليس بين هذه الطرق، ما هي أفضل أم أنبل من الأخرى!..
كان قد تخطى
منذ زمن طويل مرحلة المحاكمة، مرحلة البحث، وأصبح يعيش جميع إحساساته بنفس
العفوية وبنفس البساطة اللتين يعيش الناس بعضها.. لكن تجربته لم تكن قد
أتاحت له بعد أن يتذوق جميع الإحساسات!..
لئن تذوق
معظمها.. وعلى مختلف مستوياتها، فإن قيود المجتمع كانت تفرض عليه التزامات
ضرورية نحو بعضها الآخر، كان يتظاهر بقبولها، ولا يفصح سوى للقليلين من
أصدقائه عن حقيقة ازدرائه لها..
..
وفي هذه
الليلة، أحس بأنه طار إلى ارتفاع جديد!..
كان حتى ذلك
اليوم كمن يختنق بسحر لحن لا يعرف كيف يسمعه للآخرين.. كان كالذي يشرح
النور لمن خلقوا دون نعمة البصر!..
وفجأة.. دون
حاجة لبحث، أو تمهيد، تفتحت عن هاتين الانثيين حاجة طبيعية لمزاولة ما هو
أقوى وأقدم اللذات عند كافة البشر!..
..
ولدقائق
معدودات، وبمزيج غريب من التلقائية، والإصرار.. تجاهلت كل منهما وجود
الأخرى، وانساقتا وراء ما التهب في أحشائهما من رغبة طبيعية..
هل كانت
زوجته اللاهثة تعلم بأن يده امتدت لتطبق على يد قطر الندى؟!..
وإذ
هدأ جسداهما، وقامت بصمت وهدوء لكي تغتسل، هل جال في خاطرها أنها ستترك تحت
الظلام، وفي فراش واحد، جسد امرأة في أوج التهابه إلى جانب رجل لا يمكن له
إلا وأن يستجيب لذاك اللهب؟!..
لعلها لم
تنتبه إلى يد زوجها، أو لعلها أقنعت نفسها أن قطراً كانت تغط في نوم عميق..
لكنها لم تبد، حين عادت بعد دقائق طويلات، أنها تكترث لما جال في ذاك
الفراش أثناء غيابها..
بدا على قطر
الندى وزوجها أنهما يغطان في النوم..
هل كانا
يصطنعان ذلك؟!..
ماذا يهم!..
تسللت بصمت
إلى مكانها الذي تركته..
وأسدل ذلك
الليل إلى زمن طويل ستاره، إلى هذه اللحظات، على ما دار في ذلك الفراش.. في
غرفة ذلك الفندق.. في روما{..
القسم الرابع
الفصـل التـاسع
ص251-258
}تقدم خطوة نحو
مراد، ثم توقف حائرأً فيما يفعل..
كان مراد
جالساً وساقه اليسرى على الأرض، خارج السيارة..
صاح وهو
يدير المحرك..
_..
ما لك يا
فراس؟.. أتخاف السيارات السريعة؟!..
زاد حرج
فراس!..
تلفّت خلفه
ليجد ميساء صفراء اللون، يكاد يغمى عليها!.. فتقدم نحو مراد بحزم، وقال..
_إن
ميساء تنتظر أن تركب معك!!..
ودون أن
ينتظر الجواب، نادى ميساء..
_..
إن زوجك
بانتظارك.. ما لك تقفين هكذا؟..
نفث مراد
دخان لفافته بصوت مسموع.. وتمتم..
_..
حسناً لتركب
معنا إذن!..
وشدد على "
معنا "!..
نظر فراس
إلى حيث يمكنه الجلوس في هذه السيارة الضيقة..
كان واضحاً
أن ميساء لا يمكن أن تجلس، أثناء تلك الرحلة الطويلة، على عتبة المحرك
الناتئة التي تتوسط المقعدين!.. لذلك، صار عليه هو أن يجلس على ذلك النتوء،
بين الزوجين!..
دخل
السيارة، وارتفع إلى مكانه الضيق معتمداً ذراعيه، تاركاً مقعد اليمين إلى
ميساء التي كانت لا تزال واقفة في مكانها وكأن السماء قد أطبقت عليها!..
ابتسم مراد
بطريقته التي لا تفصح عما إذا كان واعياً لما يدور حوله أم لا، وتقدم نحوها
بسيارته..
أشار إليها
من خلف الزجاج بأن تصعد، فأقبلت نحوهما بصمت، وانزلقت في مقعدها ببطء، ثم
اسرتخت.. وكأنها لم تعد تقوى على الحراك..
ضغط مراد
مدعس الوقود عدداً من المرات، فضج بدوي هائل!.. أعاد الضغط.. وفي كل مرة
كان الدوي يزداد ليستحوذ على المزيد من مشاعرهم!..
تملكت زمجرة
المحرك منهم.. فبعثرت أفكارهم، حتى أرخت سدول النسيان على جميع ما كان قد
مر بهم حتى تلك اللحظة!..
كان رجال من
الأمن قد عطلوا سير السيارات الأخرى، ووقفوا متأهبين لتحرك سيارة الأمير،
فما أن أحكم مراد المحرك، وانطلق بصفير مفزع ليسابق الريح، حتى أدرك كل من
فراس وميساء أنهما باتا رهناً لمشيئته، وأن قدرهما، لساعات مقبلة، قد بات
بين يديه!..
دقائق،
اجتازوا فيها شوارع روما، وما لبث بعدها أن تفتحت أمامهم آفاق سهول الجنوب
المنبسطة..
راح مراد
يناوئ السائقين، ويحرضهم على السباق، ولما لم يعترضه من تجرأ على مسابقته،
استجاب لنداء داخلي، فراح كالشهب يسابق نفسه، ويتحدى مقدرة الآلة على
الاستجابة لبراعة ذراعيه في تخطي الخطر!..
أُخذ فراس!..
أحس وكأنه
يمتطي جواد الموت، فنسي الخطر!..
كان حذراً،
ألا تعيق ساقه حركة ذراع المحرك الذي تلامسه، لكنه سرعان ما شعر بآلام في
جنبه من ضيق المكان.. وبخدر بدأ يعلو ساقه..
اضطر إلى
محاولة تبديل موضع ساقه، فحركها بعض الشيء..
لم يكن له
الخيار في طريقة جلوسه..
امتدت ساقاه
إلى اليمين، حذو ميساء، فكان لا بد لجذعه من ملامسة جذع مراد، والاستناد
عليه بعض الشيء..
رفع ذراعه
اليسرى، كي يخفف من ثقله، وأحاط بها مقعد مراد.. كانت تنزلق في المنعطفات،
فيضطر للاستناد على كتف مراد ليعود إلى وضعه الأول..
شعر مراد
بحركة ساق فراس، فأشار إليه بأن يريحها بالوضع الذي يناسبه..
وبعد تلكؤ
طفيف، أراح هذا ساقه بأن قربها من ذراع المحرك حتى لامسته، فكان لا بد ليد
مراد من ملامسة ساقه كلما أراد تغيير السرعة..
دقائق من
الارتباك مرت، أجبر كل منهما في نهايتها على اتخاذ الوضع الذي يريحه، فاتكأ
فراس بذراعه حول كتف مراد، دون حرج، وأركن هذا ذراعه على ساق فراس.. تاركاً
يده على رأس ذراع المحرك..
أتاح الوضع
الجديد لفراس أن يريح ما تشنج من عضلاته.. زاد دفء جنبه الملاصق لمراد،
وأحس بدفء ذراع صديقه على ساقه..
كان مراد
يقود بسرعة فائقة..
فسأل زوجته..
_أتزعجك
السرعة؟..
ولما لم
يسمع جوابها، نظر فراس نحوها بطرف عينيه دون أن يحرك رأسه، فوجدها مسندة
رأسها إلى الخلف، مغمضة العينين..
لاحظ توتر
أصابعها على فخذيها، فأدرك أنها تصطنع النوم!..
همس لمراد
بصوت تعمد أن تسمعه ميساء..
_إنها
نائمة.. يستحسن أن تخفف السرعة كي لا توقظها المنعطفات.. مسكينة، لقد
أتعبتها هذه الرحلة..
قال ذلك،
وضغط بيده على كتف مراد..
حاول هذا أن
يلتفت إليه مستفسراً، فأعاد فراس الضغط مرات كي يمنعه من ذلك!.. وفي
النهاية، عدّل مراد وضع المرآة الصغيرة التي أمامه، فالتقت فيها عيناه
بعيني فراس، وفهم من إيماءته أن ميساء يقظة، متنبهة إلى ما يدور بينهما من
حديث..
لم يدر ما
الذي دفعه إلى تنبيه مراد.. هل جال في خاطره أن صديقه قد يفوه بشيء يزيد من
تعقيد الأمور؟..
ابتسم مراد
لهذا التواطؤ الذي خلقه ذلك التنبيه!.. وعاد ينظر إلى الطريق أمامه محتفظاً
بابتسامته المبهمة لمدة طويلة..
أتاح وضع
المرآة الجديد لمراد أن يرى عيني صديقه كلما حلا له ذلك، فراح يطيل النظر
إليهما، ويجيبه فراس بابتسامة طفيفة..
_ما
أجمل هذه الطريق!..
_لو
لم أكن خلف المقود، لأخافتني ظلمتها.. لأخافني سكون هذه الأشجار!..
تعجب فراس،
نظر ملياً إلى عيني مراد الذي كان مقطباً، ينظر باهتمام إلى الطريق أمامه،
وقد خيمت عليها الظلمة من كثافة الأشجار..
..
طفل كبير!..
..
نظر إلى يدي
مراد اللتين أطبقتا بشدة على جانبي المقود حتى نفرت منهما العروق..
رآهما
تسترخيان بعد أن تجاوز المنعطف الخطر، وعادت ذراعه اليمنى لتستريح على
ساقه، بينما رفع مراد بناظريه مرة أخرى إلى المرآة..
ولأول مرة..
أحس فراس بوجود صديقه!..
كان لاهياً
عنه في الماضي.. لعل الصورة التي رسمتها له ميساء في ذهنه، ثم التعقيد الذي
خلقته حول صداقتهما، كانا قد شغلاه عن النظر إلى مراد ببساطة كما كان ينظر
إلى أي شاب آخر جمعتهما مثل تلك الظروف المقربة..
أحس فجأة
بالمعنى الذي تضمّنته إحاطة ذراعه بكتف صديقه.. وشعر بالعطف الذي تولده تلك
الحركة..
ابتسمت
عيناه في المرآة، وشعر بضغط خفيف من ذراع مراد على ساقه، فأجابه بأن شدّ
على كتفه..
تسللت عتمة
أول الليل على الطريق..
مضى زمن
طويل دون أن يصلوا إلى بلدة صغيرة تقرر أن يستريحوا فيها..
همس فراس..
_أظن
أننا ضللنا الطريق!..
_لا
ريب.. إننا انعطفنا على الطريق الأطول والأشق، لكن الطريقين تؤديان في
النهاية إلى نفس الهدف!..
_أتخيفك
هذه الطريق؟!.. أيخيفك الضياع؟!..
_ليتني
لاه عنه!..
_لا
بأس.. لن نأسف لهذه التجربة!..
لم يكن في
السيارة مذياع تطرد موسيقاه ذلك السكون الموحش..
زاد مراد
السرعة!..
كانوا
يجتازون غابة كثيفة تشابكت أغصان أشجارها فوق رؤوسهم..
نفق طويل لا
نهاية له..
لا ريب أنها
طريق جبلية مهجورة تلك التي عرج عليها مراد!.. فلا سيارات تعترضهم، ولا
بيوت، ولا سكان على أطرافها..
أضاء مراد
الأنوار الكاشفة.. فأتت باهتة في تلك الساعة المبكرة من الليل..
زاد ذلك من
شعورهم بالوحشة والضياع!..
أحسا بأنهما
معلقين بين زمنين.. تائهين على طريق مهجورة تلك التي من عالم منسي!.. ماذا
يفيد أنها طريق سلكها الرومان.. وعبّدها الإغريق من قبلهم، منذ ألوف
الأعوام؟!..
ماذا يفيد
أنها طريق يطؤها الإنسان منذ فجر التاريخ؟...
ماذا يفيد
أن يتيها فيها وهما في أجمل وأقوى سيارة خلقتها صناعة العصر؟..
..
أو أن أميراً
يسوقها؟..
..أو
أن حاشيته الكبيرة في انتظاره، لا تجرؤ على انتقاده مهما تأخر فيها وتاه؟..
لاريب أن
ميساء أحست بما يجري، فانكمشت في مقعدها، مضاعفة تظاهرها بالإغراق في النوم!..
ماالذي كانت
تنشده من هذا السكون؟.. ما الذي كانت تحس به.. فيخيفها؟!..
لعلها أرادت
في البدء أن تسترق السمع إلى ما قد يجول بينهما من حديث.. أو لربما غلبها
التعب بعد ذلك.. أو الخوف!..
لعلها تمنت
ألا تكون في تلك السيارة..
تضاءل
وجودها، حتى غاب.. ولفترة قصيرة، باتت فعلاً وكأنها لم تكن!..
زاد مراد من
سرعته.. وبالغ في مبادهة الخطر!!..
شد بذراعه
على ساق صديقه، مرتكزاً عليها، فلم يعد يتركها عند المنعطفات!..
تعمد أمراً
غامضاً.. ولم يعد فراس يرى عينيه في الظلام!..
علا صوت
زئير العجلات.. وقرقعة الحصى المتطاير من تحتهما..
كان دائم
الحاجة إلى تحريك ذراع المحرك.. وفي الوقت ذاته، بحاجة لذراعيه كليهما كي
يسيطر على المقود، ورغم ذلك لم يعتمد في القيادة، سوى يده اليسرى..
كانت الطريق
ضيقة، وفي صعود وتعرج مستديمين.. فكادت تفلت القيادة منه أكثر من مرة، فما
زاده ذلك إلا سرعة وتهوراً!!..
لم يدر فراس
ما الذي أعاد إلى ذاكرته في تلك اللحظة حديث مراد له وهما في الطائرة، في
طريقهما إلى فلورنسا!..
ذكر سؤال
مراد له " ألا تود أن ترى قصري الجبلي "؟.. ثم ذكر قوله..
"
لنذهب إلى
هناك، بعد أن تودع زوجتك في بلادك
"..
ثم قوله.. "
سنأخذ معنا من جميلات روما من تشاء" !.. ".. أعدك أننا سنقضي أسبوعاً لن
تنساه ما حييت
" !!..
تذكر أشياء
كثيرة سها عنها، كان قد ذكرها له أثناء تلك الرحلة.. أشياء سها عنها حتى
تلك اللحظة..
شغله شجاره
مع قطر وميساء، ذاك الصباح، عن الانتباه إلى أقوال صديقه.. فما الذي يذكره
الآن بها؟..
.. "
لست أدري ماذا
أود.. أو عمّ أبحث يا فراس ".. " أود الموت أحياناً!.."
.."..
ألا تبحث أنت
عن الشيء نفسه؟!.."
تذكر حزناً
عميقاً في عينيه.. حزناً، لم يدرك معناه في ذلك الحين!..
ماالذي جعله
يدرك حزن مراد الآن؟..
وما علاقة
ذاك الحزن بهذا الضياع الموحش في تلك الطريق النائية المتعرجة القفر ؟!..
وكمن يصحو
من حلم سحيق مخيف.. اندفع فراس وميساء إلى مقدمة السيارة حتى كادا يصدمان
زجاجها الأمامي برأسيهما!..
كان مراد قد
ألجم سيارته في آخر لحظة، فتوقفت.. على شفا منحدر مخيف!!..
صاحت ميساء،
وهي تنظر إلى أسفل المنحدر من نافذتها..
_..
إنها
نابولي!!.. إنها نابولي!!..
وصلوا
نابولي عن طريق جبلية مهجورة..
أزالت تلك
المفاجأة السارة ما سيطر عليهم من خوف .. فوقفوا ينظرون إلى أضواء المدينة
الخافتة، إلى خليجها الرائع.. إلى البحر يحضنها.. إلى بركان " فيزوف "
البعيد..
قالت ميساء..
_..
لا بد أن "
بومبايي " تقع هناك!..
تبسم فراس
هازئاً..
_..
وهل يمكن تمييز
ما يرى الإنسان في هذه الظلمة المعتمة؟!..
..
أين كانوا؟..
في أي حلم تاهوا؟!..
ضحك مراد،
وهو يقودهم منحدراً نحو نابولي..
همس في أذن
فراس..
_ليتنا
ظللنا تائهين{...!
القسم الرابع الفصــل العـاشر
ص262-267
}زاد عدد
المدعوين على الخمسين، وقفوا، أو جلسوا يتسامرون في البهو الكبير بانتظار
قدوم ضيف الشرف..
نبلاء
أوروبيون أثرياء، ونبلاء لم يبق الدهر لهم غير اللقب..
..
كبار رجال
أعمال، يتوسطهم مضيفهم، محاولاً جهده منعهم عن الدخول في مناقشات صناعية قد
يستشم مراد منها أن لهم أهدافاً يسعون وراءها في بلاده..
ظهرت
الأميرة " سيتا " متوشحة " ساري " أحمر شفافاً، وعلى عنقها عقد رائع من
الياقوت، أدهشت روعته حتى قطر الندى!..
تقدمت، مع
ميساء وقطر وزوجة فراس، جميع المدعوين.. ومشى خلفهن الأمير مراد برفقة فراس
والمهراجا، والد سيتا، ثم حموها وزوجها..
ثم أقبل
المدعوون يجلسون حسب ترتيب مقاعدهم، إلى مائدة فرشت بأطباق، وصحون، وأدوات،
جميعها من الذهب الخالص!..
مرت المأدبة
على ما كان متوقعاً لها من الرتابة والتكلف..
وقفت " سيتا
"، في الوقت المناسب، تدعو ضيوفها إلى تناول القهوة في البهو المرجاني..
ساروا
الهوينى بعد ذلك إلى الحديقة، وجلسوا على مقاعد وثيرة يستمعون إلى أغاني
الحب القديمة، ينشدها عازف قيثارة كبير، بلغة نابولي، التي برعت في الجمع
بين قسوة إسبانيا والإشراقة الإيطالية..
تغلب سكون
الليل على هواجسهم، فأسكتها..
وكأن ضوء
القمر قد تسرب إلى نفوسهم، فشذب تجاعيدها، وأشواكها، مخلفاً وراءه طريقاً
سمحة تدفقت عليها أنغام القيثارة.. تطفو فوق خرير أوراق الشجر..
مرت الساعات
بهدوء، حتى انسحب من المدعوين من شاء.. دون جلبة.. تاركاً ذلك الجو لمن
أراد أن يبقى، لينعم بالمزيد من سخائه..
مضى الوقت،
حتى لم يبق في تلك الحديقة سوى الذين كانوا سيأوون إلى القصر في تلك الليلة..
همست " سيتا
"..
_أشعر
ببرد زائد.. أتأذنون لي؟.. سأحرم نفسي لذة هذا الليل وأتركه لكم..
أشار مراد
إلى رغبته في متابعة السهر، فانسحبت مع زوجها وأقربائها بهدوء..
تنهدت قطر
الندى..
_..
سآوي إلى
الفراش أنا الأخرى.. هل من آت معي؟..
وقفت زوجة
فراس، وقالت شبه نائمة..
_..
لا أقوى على
البقاء في هذا البرد.. سأذهب إلى النوم، أنا الأخرى..
أغمضت ميساء
عينيها، ولفت صدرها بذراعيها تحميه من نسائم الليل..
سكت
المغني.. وراح يعزف على قيثارته أنغاماً عذبة تقترح لنفسها الكلمات..
هدأت نفس
فراس إلى الصمت، ولفه همس أوراق الشجر..
أغمض
عينيه.. فلم يبق في الكون سوى خيالات شاحبة..
فتح عينيه
بعد برهة، فرأى أن الخدم قد أزاحوا المقاعد الخالية والكؤوس الفارغة!..
قاموا بذلك
دون ضوضاء، ثم أعادوا تهيئة المكان، بحيث بدت الحديقة وكأنها لم تعدّ في
الأصل سوى لاستقبال هؤلاء الضيوف الثلاثة.. ميساء، مراد، وفراس..
أشار رئيس
الخدم المسن إلى أعوانه بالانصراف، فتسللوا بهدوء، وجلس بعيداً عن الحاضرين
ليستريح من عناء ليلته الطويلة
كانت مقاعد
الضيوف قد صفت في شبه دائرة كبيرة، فما أن أزيح ما خلا منها، حتى بدا
الثلاثة الباقون وكأنهم جلسوا عمداً في مثلث كبير..
لم يقترب
عازف القيثارة منهم..
لعله سر إذ
لم يبق من المدعوين غيرهم.. لربما أحس بأن ما بين هؤلاء الثلاثة عالماً غير
مألوف، لا مكان له فيه.. فبقي في مكانه، بعيداً عنهم بعض الشيء..
مال إلى
الخلف، محتضناً قيثارته على صدره، وراح ينظر إلى السماء ويعزف لنفسه ما
أوحى إليه ذلك الليل من ألحان..
مضى وقت
طويل.. وجالت في ذهن فراس خيالات كثيرة..
كان إذا غرق
في الشرود، يسمع دوي محرك السيارة، وكأنه لا يزال تائهاً على تلك الطريق
الجبلية..
يقفل جفنيه،
فيرى عيني مراد ماثلتين أمامه ضمن إطار مرآة السيارة المستطيلة..
ولم يكن
فراس يشعر في ذلك بارتياح أو بسرور..
استرجع
نظرات مراد في ذهنه وراح يقيّمها من جديد..
كان فيها
غير التودد، أو المحبة..
فيها جانب
التطلع والتساؤل، معنى آخر لم يرتح إليه..
كانت تنتاب
جفني مراد رجفة طفيفة تضفي على نظراته ومضة من قسوة لم يألفها في عيني
إنسان من قبل.. قسوة مرضية..
ثم يفتح
فراس جفنيه، فتختفي الصورة، وتعود العينان إلى صاحبهما ليحيطهما وجهه
الأسمر الطفولي، فيرى مراداً وقد أسند ذقنه إلى يديه المتشابكتين، ينظر
إليه ويبتسم بين الفينة والأخرى، وكأنه يفهم ما يدور في ذهن صديقه.
مرة أخرى..
غابت ميساء عن وجودهما..
جلست غير
بعيدة عنهما، تصطنع الإغفاء أو الشرود في ليل لا يحبّ المتطفلين..
عاد يعتمل
في نفسها ما كانت تشعر به في السيارة من وحدة مريرة قاتلة..
لم تكن تدري
أنه يمكن للإنسان بأن يحس بمثل هذه الوحدة!..
ظنت ان تلك
كانت تجربة وحيدة لن تتكرر.. فما لهذا الليل يغمرها بهذا الشعور من جديد؟!..
هل كانت
ميساء تتمزق في وحدتها؟..
هل كانت تود
أن تصيح ليضج الليل بمأساتها؟..
لكن.. أي
مأساة هذه التي كانت تعيشها؟.. وما حقيقة مكانها في تلك اللحظة؟..
لئن لفظها
ذلك الليل.. فلأنها أقحمت نفسها فيه!..
أين المأساة
في إنسان يطلب من الحياة أكثر ما يمكن لظروفه أن تحققها له؟!..
ومتى كان
عذاب الطموح.. حقيقة مأساوية؟!..
لا ريب في
أن ما أحست به كان أكثر من أن تتحمله بصمت..
لكن ما
أسكتها، ما أحالها إلى جسد دون حراك في ذلك المقعد، لم يكن خفراً أو
كبرياء، بل صدى لإدراك طالما حاولت خنقه في أعماقها..
قبس، من
حقيقة ذلك الفجر المقبل..
ومض، تمكن
من شقائها، فكبله..
صوت، همس في
أذنها أن لا مكان لها في تلك اللحظات..
وأن من
يعيشون شروق الفجر، أناس، غير الذين ينتظرون شروقه!..
أحست أن في
الفجر معنى آخر لا تراه هي.. يدركه أناس يحرك حياتهم بحث عن شيء آخر غير
الطموح الذي لا تعرف غيره!..
كان العازف
قد غط في إغفاءة طويلة..
سمعوا تغريد
بلبل شجي..
استيقظت
عصافير الفجر المبكر، فحط بعضها عن الأشجار الباسقة يتطاير وجلاً، ويحوّم
حول المائدة بينهم..
أقبل شحرور،
ناقع السواد، يحاول التقاط ما سقط على الأعشاب من فتات..
نظر إلى
الجالسين طويلاً، مستغرباً سكونهم.. ثم تقدم من المائدة دون وجل.. وقفز فوق
الصحون يلتقط ما حلا له..
راق له شيء
في إحدى الكؤوس، فطار وحط على طرفها.. وإذا بالكأس تقع وتتدحرج، وبالشحرور
يتعثر قليلاً، ثم يطير وجلاً، متعجباً لما حصل..
ضحك الشابان
منه، وأخذا يلقيان بالفتات إلى العصافير.. كل يلقي ما كان لديه من فتات حول
مقعد الآخر، فتتطاير العصافير بين المقعدين حائرة أين تحط، تتخاطف الفتات
في الهواء، أو على الأرض، فيضحكان لها وكأنهما طفلان صغيران..
نهضت ميساء
فجأة من مقعدها.. وكأنها لم تعد تطيق ثقلاً جثا على صدرها!..
فزعت
العصافير.. فتطايرت مبتعدة عنهم..
خيم الصمت
على الحديقة من جديد..
_..
ألا يجدر بنا
أن نأوي إلى النوم؟..
تنبهت لحدة
بانت على نبرات صوتها، فتمالكت نفسها، وتابعت بهدوء..
_..
أمامنا رحلة
الغد!.. وهؤلاء المساكين ينتظرون ذهابنا..
وأشارت إلى
العازف، والخادم العجوز المستغرقين في النوم..
كان وجهها
مشدوداً.. زائد الشحوب..
نظر إليها
مراد طويلاً..
هزّ رأسه
بالإيجاب وقد زالت الابتسامة عن وجهه..
_حسناً..
إلى النوم{
القسم
الرابع
الفصـل الحـادي عشـر
ص272-275
}أمضوا ساعة
يمرحون بها في ساحة البلدة، يتنقلون بين متاجرها، يتبادلون قبعات القش التي
ابتاعوها..يتقاذفونها في الهواء ويجرون كالأطفال لالتقاطها قبل أن تقع على
الأرض..
وفي كل ذلك
كانت الحاشية تقف منهم على بعد مدروس، لا يقترب أفرادها منهم إلا بمقدار
علو مرتبتهم، ولا يجرؤ أحدهم على مشاركتهم اللعب، إلا بمقدار قرب صلته
بالأمير، أو بأحد أقربائه..
صاح مراد
ضاحكاً..
_هلموا
نتمشى نحو المطعم !.. لا حاجة لنا بالعربات!..
فتحت
الأميرة سيتا عينيها هلعاً.. وندت عنها آهة لم يسمعها غير جورجيو، فأدرك
قصدها، وقال لمراد..
_لكن
المطعم على السفح الآخر!.. في قاع الوادي!..
وأشار إلى
البحر، بأسفل المنحدر الذي أمامهم..
_إنه
هناك على شاطئ البحر، بين أشجار الخليج.. كيف يمكننا أن نسير هذه المسافة
الطويلة؟..
لم يأبه
مراد لاعتراضه.. تابع سيره قائلاً..
_لتلحق
بنا العربات، إذن!.. سننزل سيراً على الأقدام!..
وتقدم
مسرعاً نحو المنحدر..
لم ينتظر
فراس قرار مراد..
كان قد أحس
بحاجة ملحة إلى خلوة، فسأل أحد المارة عن الطريق المؤدية نحو المطعم.. ثم
اغتنم فرصة لهو رفاقه عنه، فتسلل بهدوء، متتبعاً طريقاً مستقيمة، تنحدر عبر
المنعطفات، فتختصرها..
اعترضته
عربة، فما إن مرت أمامه حتى تجاوز الطريق المعبدة، ودخل بين الأشجار
محاولاً الخروج منها على الطرف الثاني من الطريق، ينتظر وصولها من جديد..
..
سمع صوت أجراس
الجياد يسبق وقع حوافرها.. بانت العربة من بعيد.. مرت أمامه، ثم اختفت..
توغل في
الغاب..
علت من
الأرض رطوبة دافئة، أمواج.. راحت تغمره بين الفينة والأخرى، فتسكره بعبق
الصنوبر والسنديان..
وقف ينظر
عبر الأشجار الكثيفة إلى زرقة البحر البعيد..
قفز فوق
الصخور، ثم تمهل، ليستمتع بالدوس على بساط بني كثيف من أوراق الشجر..
تنبه فجأة
إلى صوت الطبيعة..
عالم
بأسره.. لم يكن يدري بوجوده منذ لحظات!..
سمع بوضوح
همس ووشوشة ألوف الحشرات، يعلوه صرير أخاذ، تسرب إلى نفسه حتى امتلكها..
شعر بسعادة
ضاق بها..
فتح
ذراعيه.. وتنهد كمن يتألم..
وفجأة ..
توقف الصرير والهمس المتناغم..
ساد السكون
على الغاب وكأن قدرة خفية أشارت إلى الطبيعة بأن تصمت!..
لم يعد يسمع
غير صفير النسيم وهو يتخلل أوراق الصنوبر الحادة..
لم يطل عجبه
لهذا السكون، إذ فوجئ بوقع أقدام يأتيه من الخلف..
نظر إلى
الوراء.. لم يدر إلا ومراد يحط، بعد قفزة عالية، إلى جانبه، ينظر إليه
كالطفل، ويبتسم لاهثاً!..
لحظات
صمت، عاد الصرير بعدها خافتاً متقطعاً، ثم ارتفع وتكاثف، حتى صار إلى ما
كان عليه، ولف الغاب مرة أخرى بطنينه المسحور..
سأل فراساً
برفق..
_..
وأين الآخرون؟..
_
يتبعوننا..
يسيرون على الطريق العام.. وكيف عرفت أني هنا؟..
_رأيتك
تتسلل من الساحة.. فأشرت إلى البقية أن يسيروا على الأقدام، ثم تبعتك!..
ثم تابع،
وهو ينظر إلى فراس بطرف عينيه..
_..
لماذا تسأل؟..
هل كنت تنوي الهروب؟..
_ليس
منك على أية حال..
_ممن
تهرب إذن؟.. أمن نظرات ميساء.. وزوجتك؟..
ساء فراس أن
يطرق هذا الموضوع، وبهذا الشكل؟..
لم يشأ وهو
في هذا الغاب، وفي هذا الدفء، أن توضع أمامه النقاط على الحروف!..
تمنى لو أن
مراداً لم يدركه..
لم يجبه..
تغلب على امتعاضه، وتقدم قليلاً على المنحدر..
توقف بعد
خطوات، ونظر نحو مراد الذي كان لا يزال ينتظر في مكانه حائراً، يدرك جزءاً
مما يدور في خاطر فراس، ويحرك غصناً في يده..
أشار فراس
إليه بأن يتابع السير.. فتلكأ..
مدّ إليه
ذراعه.. فتح يده..
_تعال!..
أخذا يسيران
على الدروب الضيقة.. يتمهلان كلما خرجا إلى حافة الطريق.. فما إن يبدو
الموكب من بعيد، تتقدمه النساء، حتى يتوغلان الأشجار من جديد.. ثم يظهرا
بعد المنعطف التالي، فيعودا إلى التمهل والانتظار..
أشارت
إليهما قطر مراراً، ملوحة بيدها.. وفي كل مرة، كان مراد يحرض فراساً على
تجاهل إشارتها، ويصر على عدم التوقف لانتظار الآخرين..
ضاق في
النهاية من إشاراتها، فأمسك بيد فراس وجره إلى الركض، متجاوزاً عدداً من
المنعطفات مرة واحدة..
بات من
الواضح أنهما لن يجتمعا بالآخرين إلا في نهاية الطريق..
_أتظن
ميساء ستسكت عن ابتعادنا عنها بهذا الشكل؟..
بدا على
مراد وكأنه لم يفهم قصد صديقه..
_..
أتود حقاً أن
نعود إليهم؟..
أجاب فراس،
كمن يحدث نفسه..
_..
لا سبيل إلى
الرجوع الآن{
القسـم
الخامـس
الفصـل الثـالث
ص306-311
}لست أدري ما
إذا كانت هذه الصورة هي التي أوحت إلي بفكرة ضياع هؤلاء الأشخاص..
كيف يعيشون
عوالمهم وكأنهم أفلاك تدور ضمن أبعاد خاصة منقطعة عما يحيط بها؟
ليسوا من
الذين يكسبون عيشهم بعرق الجبين، ليلتفتوا إلى عالم العمل، والواقع..
وليسوا من
الذين يهتمون بما فوق عالمهم من مجالات الجمال، والحس الفني..
..
العامل يجاهد
في سبيل عيشه، فيجد في ذلك مبرراً، وهدفاً لحياته..
..
الفنان أو صاحب
العقيدة، يسعيان في سبيل قيم وضعاها سلفاً لحياتهما.. فيعملان في ذلك
الاتجاه مستنيرين بما وضعاه من هدف نصب أعينهما..
..
أين يقف هؤلاء
الذين لا يجبرهم واقعهم على تحديد أماكنهم في الحياة؟..
..
أين يقف هؤلاء
الذين لم تهيئ لهم الظروف إدراك.. أن الإدراك أمر مهم؟!..
لم أدر وأنا
أتلذذ بأشعة الشمس ما إذا كنت جاداً بهذا التفكير، ولم أقف لأتحقق من ذلك.
ضحكت من
نفسي عالياً، فتعجب فراس لضحكي وسألني عن سببه، فلم أجبه.. ثم وجدتني أسأله
فجأة..
_أتؤمن
بالروح يا فراس؟..
_جاء
دوري بالضحك!.. أجادٌ أنت بهذا السؤال؟..
_لا،
طبعاً!.. خذه على محمله الظاهري البسيط، وأجبني عنه.. أرجوك!..
لعل
دافعاً لا شعورياً من أعماقي حضني على التفكير بأنه إن لم يكن لهؤلاء
الأشخاص صفة مميزة ظاهرة غير أجسادهم المتحركة، فإن وراء هذه الأجساد
أرواحاً لها الحق في الحياة ما لغيرها..
سمعت فراساً
يسألني..
_حسناً..
أي روح تعني؟..
_ضحكت
من غمزته، وقلت..
_هذه
التي يتحدث عنها الجميع!.. التي تتوق إلى الخلاص من ضياع الجسد.. التي
يكبلها الجسد بحدوده الضيقة وبحاجاته الدنيا!..
_سأتعامى
عن معتقداتي، وأجيبك، كما لو كنت أعتقد بأن للروح وجوداً فعلياً!..
صمت برهة
وعلى فمه ابتسامة هادئة.. حدق بي مقلصاً جفنيه..
_هل
نتكلم عن الروح كما يفهمها المتصوفون؟..
أشرت برأسي
موافقاً، فقال..
_لئن
آمنت، جدلاً، بمثل هذه الأرواح، فلا شك عندي في أنها الفرع، وليست الأصل..
وأنها تائهة في هذا الكون.. تنتظر فرصتها لكي تتجسد!!..
استويت في
مكاني فجأة.. وصحت به مازحاً..
_..
كيف؟؟.. أين ما
يقال عن سعادة الروح لدى انعتاقها من الجسد!؟.. ما لك تقلب المفاهيم؟!..
ولماذا تتوق الروح للرجوع إلى الجسد!؟..
_..
كي تشعر
بذاتها.. كي تدرك أنها روح!!..
ساورني شعور
بأني على وشك أن أضيع مع فراس في نقاش لم أسع وراءه.. فجهدت أن أعيد الحديث
إلى حيث ابتدأت..
_دعك
من المزاح!.. وهل الروح بحاجة للجسد كي تشعر بذاتها؟.. وما علاقة سعادة
الروح بسعادة الجسد؟..
_يالك
من جاهل!.. وهل يعرف السعادة إلا الجسد؟..
ألهاه
حديثنا عن مشاكل داره.. واتخذ، رغم الهزال والمزاح، طابعاً غير منتظر من
الجدية..
سعدت لذلك،
إذ لو كنت جاداً في الأصل، لاتخذ الحديث غير هذا المجرى، ولتطرقنا إلى
إثبات وجود الروح، أو نفي ذلك.. ولما استطعت أن أنتقل إلى صفات هذه الروح،
ليقيني أن فراساً في الأصل لا يؤمن بها، فكيف لي أن أجره إلى الحديث عن
صفات شيء لا يؤمن به؟..
عاد إلى
الكلام مبتسماً..
_إن
سعادة الروح مربوطة بوجودها أسيرة في الجسد!.. تتوق إلى حريتها، وتتصور
سعادتها حين ستفك من قيودها!.. فإذا فك أسرها بالفعل، وعادت إلى حالتها
الطبيعية، فكيف تكون سعادتها.. أن تذكر الأسر؟.. أو تسعد في أنها خلصت
منه؟!.. ما أتفهها من سعادة.. حين تكون مربوطة بذكرى الأسر والجسد!!..
_
بل سعادتها في
أنها.. لا.. لن أقول " حرة " فمعنى ذلك أنها لا تزال تذكر الأسر، ماذا
أقول.. في أنها.. في أنها " هي
" !..
ضحك من
حيرتي..
_..
لا مخرج لك من
الشرك الذي أوقعت نفسك فيه!.. لئن عادت الروح إلى وضعها الطبيعي، بأكمل ما
لهذه الحالة من معنى، فمعنى ذلك أنها ستنسى ذاتها حتماً.. وتضيع فيها!..
وهذه حالة أقرب إلى الحياد منها إلى السعادة!.. لئن لم تكرر الروح لذاتها..
" أنا الروح.. أنا ذاتي.. أنا.. أنا.. " إلى آخره.. وتضيع في لا نهاية من
امتداد الأنا، فلا يمكن أن تكون قد نسيت غير آناها من الهويّات !.. أما إذا
وصلت فعلاً إلى هذه الغاية.. وتوقفت عن إدراك الأنا، ضائعة، أو غائبة في
ذاتها.. فأين السعادة في ذلك؟.. وما سعادتها في أن تكون في وضع لا تدرك
احتمال غيره؟..
_واﻟ
" نرفانا "؟!..
_وهل
شعرت بها يوماً؟..
_لا!..
لكن..
قاطعني
هازئاً..
_..
دعك إذن مما
قاله فلان، نقلاً عن قول فلان، عما أحس به فلان حين وصل إلى هذه الحالة من
الإشراق!.. ثم.. عليك ببعض
اﻟ " ل.س.د.
".. وسترى أنك ستصل إلى هذه اﻟ " نرفانا " عن طريق مركب كيميائي بسيط
!..
ضاع
المزاح.. عدت أنا الآخر إلى الاستلقاء، وقلت..
_..
معنى ذلك في
نظرك أن لا سعادة دون تعاسة!..
_بالطبع!..
إذ كيف يعرف الإنسان أنه سعيد، ما لم يذق طعم التعاسة؟.. إن ذكرى التعاسة
نقطة الدنيا لدى الفرد، يقيس سعادته بها، فيسعد بمقدار ابتعاده عنها!.. ولا
يكفي أن ينظر الإنسان من نافذته إلى تعاسة الآخرين كي ينعم بالسعادة.. بل
عليه أن يشعر بالتعاسة بنفسه كي يحسن قياس بعده عنها!.. وإلا.. لو قاس
الإنسان سعادته بمقدار " فهمه " لتعاسة الآخرين، لأصبحت هذه قضية " فهم "
لا قضية " شعور "!.. وﻟَ " فََهمَ " أنه سعيد، بدل أن " يشعر " بذلك!..
_..
ألا تظن أن
للسعادة شروطاً يمكن أن يحددها الإنسان سلفاً، ويسعى إليها؟..
_قد
تكون شروط سعادة بعض الناس شروطاً لتعاسة الآخرين!.. لا.. ليس للسعادة شروط
يمكن للإنسان أن يسعى وراءها كي يحققها لنفسه.. أو لنقل.. إن تهيئة الشروط
الخارجية ليست، بجملتها، سوى أحد شروط السعادة.. والشرط الآخر، هو مقدرة
الإنسان على تقييم هذه الشروط، وهذا أمر لا يمكن للفرد أن يستخلصه عن طريق
" فهمه " لتجربة الغير!.. إن ألوفاً من المال قد توفر أقصى السعادة لقدر من
الناس.. وما قيمة الألوف لمن ولد بين مئات الملايين؟..
المال ثمين
بمقدار حاجتك إليه.. والطعام مهم بمقدار معرفتنا للجوع. ما قيمة الهواء إن
لم يشرف الإنسان على الاختناق!..
توقف فراس
عن الكلام.. استند على ذراعه، ثم صاح بي بعد أن كان يتكلم بهدوء..
_..
ثم، ما هذا
الحديث الذي جررتني إليه!؟.. وما علاقة كل هذا بالمشكلة التي أنا فيها!؟..
ضحكت منه..
_وما
العلة فيه؟.. ألم يلهك عن مشاكلك اليومية!.. ألم يحدد موقفك منها؟!..
أطرقت برهة،
ثم قلت وفي صوتي حسرة لم أتوقعها..
_..
لن تقع في
مشكلة، لا تحسن الخروج منها!..
فاجأني
قولي.. خجلت منه!..
نظر فراس
إليّ مستغرباً لهجتي..
_..
ما بالك تقول
هذا وكأنك تود لي السقوط؟!..
لست أدري
بماذا أجبته..
لا بد أنه
أحس بتخبطي.. حار برهة ثم خف إلى مساعدتي بابتسامة ملؤها المحبة..
سعيت جهدي
لأن أخفي من لهجتي ما بعث في نفسه ذاك الانطباع..
لئن نجحت في
محو ذلك الأثر من نفسه، فلأنه تعامى عما أفلت مني بدافع من إدراكه لعمق
صداقتنا، وليس لمقدرتي على إخفاء عواطفي!..
أحسست نحوه
بغيرة خفية، حسد.. لا كره فيه!..
هل كان ذلك
نتيجة تحول طبيعي لإعجابي به، وقد وصلت معه، في درب المعرفة، على مفترق
الطرق؟!..
لم يكن
إعجابي به لدهشة من عظم معرفته، بمقدار ما كان شعوراً بأن معرفته هذه تنبع
من مصدر عريق!..
حسدت تعاليه
على المعرفة.. وهزأه منها!..
لم يجذبني
إليه مقدار ما عاد به من ماء، بقدر يقيني أنه شرب يوماً من ينبوع المعرفة..
وأنه يعرف مذاق ذلك الينبوع!..
كرهت نقاشنا
لفرط ما باعد بين عالمينا..
أسفت لأنني
عرجت على بلده قبل العودة إلى بلادي، وازداد شعوري بالغربة حتى أصبحت أتذمر
لأي سبب!..
نبحث عن
المعرفة بحثنا عن الثمار.. نظن أنه يكفي أن تكون لنا أيد تمتد كي نقطفها
من منبع ما، فنقلبها متعجبين، أو نلتهمها، أو نرمي بها جانباً إن لم يعجبنا
مذاقها!..
أشعرني طول
احتكاكي بفراس أن المعرفة ليست ثماراً، أو ساقاً، أو جذوراً.. لا.. لايمكن
التقاط المعرفة.. إذ ليس هنالك معرفة مستقلة عن وجود الإنسان.. هي النبتة
بكاملها.. الإنسان بلحمه وصفاته..
كنت أعلم أن
مرجع تبرمي هو وحدتي.. لكن ما أرقني هو إدراكي أن شعوري بالوحدة هذا..
مرجعه أنني أودع فراساً الذي عرفت..
لم تطل
إقامتي في الشرق..
تركته على
أن ألتقي بفراس في باريس، قبل الشتاء{..
القسم الخامس الفصـل السـابع
ص337-349
}سها فراس عن
الاتصال بصديقته من الفندق..
توقف في
الضاحية النائية، غير بعيد عن المصح، يبحث عن هاتف، لينبئ لورا بقدومه،
ويستوثق أن حالتها الصحية تسمح لها بقبول الزائرين..
اهتدى إلى
المقهى الوحيد في تلك المنطقة.. النوافذ الوحيدة التي ينبعث منها النور في
تلك الطريق الطويلة المعتمة..
نقله دخان
المقهى المتكاثف، وأضواؤه البرتقالية الباهتة، والأثاث القديم، إلى حقبة ما
بعد الحرب.. حقبة نسيتها باريس، ومحتها من معالمها..
دخل مقصورة
الهاتف القديمة..وتنبه إلى رائحة الرطوبة المألوفة لديه.. فتبسم غبطة..
أدار رقم
المصح، وأخذ ينتظر الجواب، ينقل ناظريه عبر غمامة الدخان، بين مصابيح
الغاز، واللوحات القديمة.. بين انعكاسات النور على المرايا الكبيرة المعلقة
على جدران المقهى..
سرّه توقفه
عند هذه القطعة القديمة من باريس قبل دخوله غاب المصح بأشجاره الباسقة..
ابتسم للصدف
التي أدخلته هذا المقهى المنسي، قبل زيارة صديقته المنسية..
جاءه صوت
مرافقة لورا على الهاتف..
وإذ سألها
عن سيدتها، وأنبأها بأنه يود زيارتها.. فوجئ بها تخبره بتوعك قد ألمَ
بصديقته.. وبأن حالتها المتدهورة لا تسمح لها باستقباله!..
لم ترفض
لورا زيارته في الماضي إلا في حالات الإعياء التام، أو حين كانت مشرفة على
الخطر.. فتطيّر لقول المرافقة، وأصرّ على مكالمة لورا وسماع صوتها على
الأقل..
بعد انتظار
طويل، سمع صوت صديقته وكأنه يأتيه من بئر سحيق..
_.. "ميشكا
" ؟.. أهذا أنت؟.. من أين تتكلم؟..
_..
من باريس!..
_..
لا.. أعني.. هل
تكلمني من الفندق؟.
_لا..
من مقهى قريب من المصح.. إني على بعد خطوات منك!..
ندت عنها
آهة ارتياح.. آهة تَعس!..
_آه
لو أستطيع أن أراك!.. كم أود ذلك.. لكن هذا مستحيل..
أصرّ فراس
على رؤيتها.. فأنبأته بأنها إنما تنصاع بتعليمات الطبيب..
طلب إذ ذاك
مكالمة الطبيب على الهاتف، وكان على معرفة شخصية به، فلم يتركه، حتى سمح له
برؤيتها، بعد وعد قاطع بألا يطيل البقاء، وأن يتجنب كل ما يمكنه إثارة
أعصابها..
خفّ الحارس
المسن لرؤيته، وقال مستبشراً..
_كنت
أعلم أنك ستأتي في الوقت المناسب!.. آه يا سيدي.. كنت أعلم أنك ستأتي..
داعب كلب
الحارس على عجل، ثم دخل مسرعاً، وتوجه نحو مسكن صديقته في قاع الغاب..
كانت لورا
كعادتها مستلقية على فراشها الوثير.. ترتدي ثوباً من أثواب نومها الطويلة
الهفهافة التي تكاد تصلح أن تكون ثوباُ للسهرة لفرط أناقتها، وبساطتها..
¬تبسمت
وهو يمس ظهر يدها بشفتيه.. ثم سكنت تقاطيع وجهها وسألته..
_..
متى وصلت
باريس؟..
_منذ
أيام..
_هل
أتت زوجتك معك؟..
عجب لسؤالها..
_
نعم.. لماذا
تسألين!..
_..
آه.. لا لسبب..
لا لسبب..
لم تكن لورا
ممن يسألون الأسئلة الاجتماعية التي لا معنى لها
!..
لماذا تسأل
عن زوجته ؟..
لماذا أشاحت
بوجهها عنه حين أجابها بأن زوجته أتت معه إلى باريس؟..
_..
من الخير أنك
لم تكلمني من الفندق..
زاد عجبه..
تذكر سؤالها له على الهانف بشأن الفندق، فسألها برفق..
_..
لورا؟.. ما
المانع في أن أكلمك من الفندق؟..
نظرت إليه
ملياً ثم استرخت وكأن ومضاً أطفئ في نفسها..
_صحيح..
أنك لا تعلم..
_..
لا أعلم ماذا ؟..
_..
أن زوجتك جاءت
لزيارتي..
_..
زوجتي ؟!!..
متى؟!!..
وراح يقدح
ذهنه مسترجعاً.. متى سنحت لزوجته الفرصة لزيارتها؟.. ولم يصلوا باريس إلا
منذ أيام!..
_أتت
لزيارتي منذ أشهر.. في المرة السابقة التي كنتما هنا فيها.. يالها من امرأة
جميلة!..
كادت تئن
وهي تقول ذلك..
_زوجتي!..
جميلة!؟..
تابعت لورا
بنفس اللهجة الحالمة الحزينة..
_جميلة
بصحتها.. ممتلئة.. تتفجر حيوية..
وأشارت إلى
جسدها..
_..
أنظر إلي
أنا!.. جسدي السقيم.. نحافتي المخيفة.. طولي المفرط
!..
_وكيف
أتت؟.. لماذا؟.. لماذا لم تخبرني بذلك؟..
رفعت لورا
حاجبيها، مبتسمة بحزن..
أرادت أن
تعرف من أكون !.. ظنت إني فتاة مراهقة، فأتت لترى عشيقة زوجها السابقة..
لترى الفتاة التي كان زوجها يكلمها على الهاتف حين يأوي إلى الفراش
!..
وإذ رأت
تعجب فراس، تابعت..
_لقد
أخبرتني هي بذلك.. صحيح أنك أخبرتها أنني قد تخطيت الخمسين.. لكنها لم
تصدقك يا ميشكا.. وهذا طبيعي.. مَن من الشباب يهتم بامرأة على حافة القبر
مثلي.. أتت لتتحقق من كلامك! واستحلفتني ألا أطلعك على هذه الزيارة
!..
تابعت "
لورا " بلهحة ساهمة..
_..
جلست حيث تجلس
أنت الآن.. متحفزة في مقعدها.. تنظر إليّ بإمعان.. تحدثنا طويلاً.. تحدثنا
عنك.. أعذرني يا ميشكا.. لقد صدقتها في البدء.. صدقت حبها لك.. وغيرتها
عليك.. لم أشعر أنني بحاجة إلى أن أؤكد لها أن علاقتي بك لم تكن سوى.. ماذا
أقول.. علاقة صداقة عاطفية؟..
صمتت " لورا
".. ثم رفعت أصابعها الدقيقة لتمسح بها دموعاً انهمرت على خديها
_ألم
ترَني عيناها؟.. ألم ترَني عيناها؟!.. ألم ترَ، وهي تنظر إلي.. أنه لا يمكن
أن يكون لي علاقة جنسية بأحد!..
أحس فراس
بأعماقه تغلي..
سألها،
محاولاً جهده كبت انفعالاته..
_وما
الذي حصل؟.. هل حدث شيء؟.. هل قالت شيئاً أساء إليك؟!..
هزت رأسها
نافية..
_لا..
لم تقل شيئاً.. ذهبت بهدوء..
صمتت برهة
طويلة.. قالت بعدها..
_..
وبعد أيام..
خمسة أو ستة على ما أظن، رن جرس الهاتف، وإذ بها تطلب مكالمتي..
قالت " لورا
" ذلك.. ومدت يدها نحوالمسجل الذي لا يفارق جنب سريرها، فأدارته على شريط
كانت قد أعدته عليه..
سمع فراس
طنين المسجل.. تلاه صمت، ثم صوت زوجته يقول..
_ألو..ألو..أود
التحدث إلى السيدة " لورا
"..
_..
أنا لورا.. من
المتكلم؟..
كان صوت
زوجته متحفزاً.. يضمر الشر..
_..
لا تعرفينني
!.. أليس كذلك؟!.. أنا زوجة فراس.. هل نسيت من أكون؟!.. هل نسيت صوتي؟..
كنت عندك منذ أسبوع
!..
_أرجوك
المعذرة.. لم أتعرف إلى صوتك.. إنها أول مرة أسمع فيها صوتك على اﻟ..
_طبعاً..
لا تعرفين صوتي!.. أنت لا تعرفين غير صوت زوجي!..
_...
تقلصت أحشاء
فراس..
عاد صوت
زوجته..
_اسمعي!..
أنا أعرف اللواتي مثلك من النساء!.. أمثالك من العجائز اللواتي يسعين وراء
الشباب!.. يدفعن لهم الدراهم ليطارحنهم الغرام
!..
علا الدم
إلى رأس فراس وأحس بدويّ في أذنيه..
جاء صوت
لورا مفجوعاً..
_ماذا
؟.. ماذا ؟..
_أمثالك
من الساقطات اللواتي لم يشبعن من الجنس في شبابهن.. اللواتي شبقهن لا يشبعه
شيء!.. يتابعن ملاحقة الشبان.. ويسعين وراءهم بأي ثمن!!..ا
صاحت لور
باكية.. متوسلة، يائسة..
_آه..
آه.. ماذا تقولين؟.. من الذي يتكلم؟.. من الذي يتكلم؟..
-اسمعي
ايتها الساقطة !.. لقد أتيت شخصياً لمحادثتك.. وذهبت.. ظانة أنك بعد تلك
الزيارة ستكفين عن ملاحقة زوجي!.. يظهر أنك لم تفهمي معنى زيارتي
!..
_أرجوك..
ماذا تقولين؟!.. أنا ألاحق ميشكا؟!..
علا صوت
زوجته بضحك هستيري غريب..
_ها..
ها.. ميشكا !.. اسمعوا ماذا تقول !.. ميشكا.. تقول المجنونة !.. ألا زلت
تسمينه ميشكا؟!.. أيتها المجنونة !.. أيتها المعتوهة
!..
تفطر قلب
فراس حزناً وهلعاً على صديقته التي بدا صوتها، وهي تحاول الدفاع عن نفسها،
وكأنه يصدر عن إنسان على شفا الموت..
راحت تبكي
وتشهق..
_..
أنا مجنونة؟..
أنا مجنونة؟.. ما الذي تقولينه؟.. لم أعد أفهم شيئاً.. يا الله!.. يا
الله!..أين أنا؟!.. ما هذا الذي يحدث لي.. ما هذا الذي..
_اسمعي
أيتها العجوز الساقطة!.. لن ينفعك بكاؤك !.. لقد يئست من استجدائك لفراس..
فلجأت إلى مطارحته الغرام على الهاتف؟!.. أليس كذلك؟!.. مل فراس عظامك
الجافة.. فلجأت للجنس بواسطة الهاتف؟!!..
دوّى عويل "
لورا " وزعيقها..
_آه..
آه.. ما هذا يارب.. ماذا أسمع؟.. " ميشكا " !.. " ميشكا " أين أنت!..
_..
وتصيحين له
أيتها الساقطة!.. وتصيحين له!.. لو لم يكن ساقطاً مثلك لما كلمك!.. أتظنين
أنني أجهل أمر مكالمتكما الليلية حتى الصباح أيتها العاهرة!.. أجهل أنك كنت
تكلمينه.. وتعصّين الساق على السّاق!؟.. أتظنين أنني بلهاء، لا أفهم معنى
هذه المكالمات!؟..
لم يعد فراس
يعي ما كان يسمع!..
طغى صوت
زوجته.. ونحيب وصراخ لورا على فهمه، فراح يصغي دون أن يفهم شيئاً مما كان
يسمع..
وفجأة سمع
همساً باللغة العربية أعاد انتباهه إلى الشريط
..
كانت لورا
قد كفّت عن المقاومة.. ولعلها كانت قد تشنجت.. فبقيت سماعة الهاتف في
مكانها على وسادتها، تسجل شهيقها، بينما تابعت المسجلة التقاط ما كان يجري
على الطرف الآخر من الهاتف!..
سمع
صوت ميساء يقول لزوجته..
_..
ما لك لا
تعرفين ما تقولين!؟.. هاتي السماعة!!..
ثم صوت
زوجته تجيبها..
_لم
أعد أدري ماذا عليّ أن أقول!!.. إن اللعينة لم تلجأ إلى السباب!!.. لا أسمع
سوى شهيقها!!..
_أعطني
الهاتف لأكلمها أنا!!..
وجاء صوت
ميساء.. يكلم " لورا
"..
_اسمعي
أيتها المومس الساقطة!!.. إن لأمثالك من العاهرات لغة واحدة لا يفهمن
غيرها!!.. فإما أن تكفّي عن ملاحقة فراس، ومكالمته، أو سنعرف كيف نتدبر
أمرك.. ونزيحك من الوجود!!.. هل فهمت؟!.. سنقتلك!!.. هل فهمت ؟!..
ثم أقفلت
ميساء طرفها من الهاتف..
ظلّ الشريط
يدور مدة طويلة.. لا ينبعث منه سوى شهيق " لورا " ونحيبها!..
وفجأة دوت
صرخة أطلقتها " لورا " ضجّ لها الشريط!!..
تلا ذلك وقع
أقدام.. ثم اختلط صوت المرافقة بصراخ " لورا " المتشنج.. وبصوت ممرضات
يتصايحن طالبات الطبيب، يتكلمن عن تحضير حقنة المخدر..
وانقطعت
الأصوات عن الشريط، كأن أحدهم أقفل الآلة..
راح الشريط
يتابع دورانه على صمت رهيب، حرض خيال فراس على تصور أبشع نهاية ممكنة لتلك
الليلة!..
مدّت لورا
يدها مرة ثانية، وأقفلت المسجل..
همست..
والدموع تسيل على خديها..
_..
لا أذكر أزمة
في حياتي أقسى من التي مررت بها بعد ذلك الحادث..
تبسمت
والدموع تسيل على خديها..
_..
مُنعت عني
الزيارات.. ولا زالت ممنوعة إلى الآن.. لقد انقضت شهور على هذه الحادثة،
ولا زلت أعاني من تأثيرها..
تقدم فراس
منها..
ركع إلى
جانب سريرها مغرقاً وجهه بين يديها الحزينتين اللتين امتدتا للقائه..
مضت برهة
طويلة وهما في هذه الحال..
رفع وجهه
إليها.. بينما نظرت إلى راحتيها اللتين أغرقتهما دموعه..
رفعت يديها
ببطء وهي تنظر إليه.. ثم ضمتهما إلى خديها النديين..
لم يترك
فراس مسكن لورا إلا مع أول ساعات الفجر..
كان الغاب
يسبح بنور أزرق باهت..
لفحه برد
الصباح، فسرت في جسده قشعريرة أحكم لها لف ردائه، وأسرع نحو السور..
هرع كلب
الحارس إليه يداعبه، وراح يقفز حوله فرحاً..
ابتسم فراس
له بحزن.. وتوسل إليه في سره أن يتركه وشأنه..
تسلل من
المصح، عبر باب السور الحديدي، دون جلبة، كي لا يوقظ الحارس فيضطر إلى
محادثته..
سار في
الغاب الكبير على غير هدى..
أعاد ذلك
إلى ذهنه سني حداثته.. أيام كان يتيه في هذا الغاب، وليس في رأسه من شاغل
سوى تأمل أشجاره، والتلذذ بعبقها..
قادته قدماه
إلى بحيرة طالما جلس بقربها، في مثل هذه الساعة، يراقب صيادي الأسماك الذين
خرجوا مبكرين إلى صيدهم..
جلس إلى حيث
تعود الجلوس في الماضي..
تذكر كلبه
الأسود الكبير.. وكيف كان يلعب مرحاً، يجري وراء روائح لا يتنسمها غيره،
يقف فجأة، كمن تصلبت عنقه، ثم يعود إلى الجري، متقفياً آثار رائحة جديدة..
بعثت هذه
الذكريات في نفسه شعوراً غريباً من عدم الراحة لما هو فيه!..
هل نسي
السكينة الداخلية، حتى ظن أنه، بما يعيش فيه الآن، لا يزال على اطمئنانه
الداخلي السابق؟..
كيف استطاع
معايشة زوجته؟..
كيف تحملها
طوال هذه السنين؟..
كيف يُسمح
لأمثالها من الناس بالحياة؟..
كيف لا
يُغلق على أمثالها بالمصحّات؟..
وميساء؟..
وقطر؟.. وجعفر؟.. وجميع من لف حول هؤلاء؟..
أين له بمن
يجمع رؤوسهم تحت مقصلة تنقض عليها، فتقطعها جميعاً دفعة واحدة!!..
أحس أنه على
وشك أن يطلق لجام غضبه تمتلكه رغبه بالزعيق والبكاء.. فشدّ على شفتيه..
وتمالك نفسه!..
عاد ينظر
إلى الصيادين والبحيرة.. والتُمّ ينساب عليها كتماثيل رائعة الجمال.. "
إنها جميلة ".. " إنها جميلة ".. وراح سيل غضبه ينساب وراء قوله " إنها
جميلة ".. يكرره على نفسه، وكأنه سحر لتهدئة النفس..
"
إنها جميلة "..
" عليّ أن أطرد كل ما عدا ذلك من رأسي ".. " يجب ألا أغضب ".. " لن يفيد
غضبي في شيء ".. " يجب أن أتمالك نفسي.. أن أجد مخرجاً من هذه الدوامة "..
" أن أخرج من هذه الدوامة.. بهدوء " !..
تملكه تعب
مفاجئ..
وهن، أحس به
كموجة من السكر تسري في أوصاله..
ترك الغاب
مسرعاً، واستقل أول عربة نقل عامة متجهة نحو الحي اللاتيني..
جلس ينظر
إلى من حوله من الركاب.. وجوه، كان ينسى وجودها.. نظرات، وتعابير من
يستيقظون مبكرين إلى أعمالهم.. عالم نسيه!..
أيدٍ خشنة،
وأخرى رقيقة، تلفها كفوف من صوف غليظ.. جميعها أيد تعمل بكدٍ لتعيش !..
أيدٍ تطبق
على قطع النقود المعدنية التي نسيها لضآلة قيمتها، تحتفظ بها ضمن أكياس
جلدية خاصة.. قطع نقود صغيرة، لم يشاهدها منذ سنين!..
ما الذي
أبعده عن هذا العالم؟!..
أحس بلهف
وشوق إليه..
راح يتأمل
وجوه من حوله.. ويود لو يعانقها جميعاً..
لاحظ أن
بعضهم ينظر إليه بإلحاح.. لا ريب أنها ملابسه الأنيقة في هذا الصباح الباكر!..
تبسم حزناً
في سره.. " لا تخدعنكم الملابس ".. " إنها تباع وتشترى ".. " إنها في
الأسواق.. معروضة للجميع ".. " المهم هو الجوهر ".. " خلاصة ما تتدفق به
النفس ".. " رائحة الرحيق الإنساني ".. " رحيق الإنسان
" !..
لفت انتباهه
همس وراءه..
نظر حذراً
إلى الخلف، بطرف عينيه، فلاحظ عاملتين تتحدثان عنه.. أصغى إلى ما يدور
بينهما..
قالت الأولى..
_لا
أعتقد أنه أجنبي!.. رأيته يصعد الأوتوبيس في محطة " فانسين ".. ماذا يفعل
أجنبي في مثل هذه الساعة المبكرة في ضاحيتنا؟!..
ضحكت
صاحبتها منها، مغطية فمها بيدها..
_لعله
ممثل سينما!.. ألا تعتقدين أنه يشبه الممثل.. آه.. ما اسمه؟.. ما اسمه؟..
_..
بلهاء!.. دعك
من هذا الكلام!.. ممثل.. ويركب الأوتوبيس؟!.. وفي ساعة خروج العمال إلى
مصانعهم؟!..
_ماذا
تظنين إذن؟..
_أظن
أنه " جيغولو ".. عائد من مهمة شاقة ! وإلا ما هذه الأناقة في مثل هذه
الساعة؟.. انظري كيف يبدو عليه التعب.. لا بد أنها أتعبته!!..
ضحكت
واستطردت..
_..
لعل عميلته لم
تدفع له كفاية.. فأجبر على ركوب الأوتوبيس!!..
_على
أية حال.. إنه وسيم!..
وعادت
الفتاتان إلى القهقهة المستورة..
صعد الدم
إلى وجه فراس!..
كان قد أوشك
أن يصل الحي اللاتيني، فنزل عند أول موقف.. وسار نحو المقهى الذي يقصده..
طلب قهوة
مكثفة، وجلس ينظر إلى نفسه في المرآة المقابلة، ثم إلى الشارع، وقد تزايد
عدد المارة فيه، وكأن الوقت منتصف النهار..
عاد ينظر
إلى المرآة.. إلى نفسه فيها، ويستعيد ما سمعه منذ لحظات..
أطال النظر
إلى صورته.. لا.. ليس ذنب الفتاة إن أخطأت في الحكم علي!.. ليس مكان هذا
الزي الذي يراه في المرآة، في أوتوبيس يطفح بعمال لا معنى للفجر عندهم سوى
أنه وقت اليقظة من نوم مريح، والاقتراب من ساعة العمل البغيضة!..
سيأتي
أصدقاء له من الفنانين الذين اعتادو السهر، سيأتي بعضهم بعد لحظات، يطلبون
قهوة قبل الهجوع إلى غرفهم، حتى هؤلاء، سواء جاهروه ذلك أم لا، فإنهم لا
ريب سيشعرون ببعده عن عالمهم.. باختلافه عنهم!..
اختلافه؟..
لم تمض سنون بعد على تلك الأيام التي كان فيها هو المحور، هو الفنان الذي
تقاس البوهيمية بتصرفاته!..
أين هو
اليوم مما كان عليه!..
لن يعود إلى
الفندق.. لن يعود إلى زوجته أو قطر أو ميساء!!..
ما علاقته
بهن؟.. ماذا يربطه إليهن؟!.. كيف ينظر إلى زوجته بعد اليوم؟!..
كيف يسمي
هذه المخلوقة البغيضة " زوجته " بعد اليوم!؟..
تملكه شعور
جارف.. وأحس بألم في حنجرته!..
أين يذهب؟!..
اضطر في
النهاية إلى العودة.. هنالك ابنته في الوجود.. فلن يرتجل الحلول!..
يجب التروي..
لقد وصل إلى
حل نهائي في قرارته، فلا داعي للتهور أو التسرع في تنفيذه..
إنه وزوجته
من عالمين مختلفين، يجب وضع حد لهذه المهزلة!..
يجب أن يعود
كل منهما إلى عالمه الذي نشأ فيه..
شيء تحرك..
واتخذ مقراً جديداً في أعماقه..
صحيح أنه
إنسان.. وأن غيره من الناس أناس.. وأن الجميع يستظلون تحت كلمة " إنسان "..
لكن.. ما أبعد الفوارق بين إنسان وإنسان!..
لهذه الكلمة
معنى كبير اليوم.. مدلول عاطفي، لا سبيل حتى إلى مناقشته.. سيأتي اليوم
الذي لن يشار إلى الإنسان سوى بكلمة "هوموسيبيان ".. ولن يقوّم هذا المخلوق
سوى بمقدار حضارته وثقافته!!..
ليس العالم
كما كان يقول.. لا، ليس تماماً كما كان يظن!..
صحيح أن أصل
المادة واحد.. وأن باستطاعة رجل العلم أن ينسى الشكل وألا يهتم سوى
بالتركيب الذي للمادة، وللمخلوقات..
وصحيح أن
تركيب جميع الوجود واحد.. وأن باستطاعة الرسام ألا يرى فارقاً بين الجمال
والقبح سوى في انحناءة طفيفة هنا، أو ظل هناك..
صحيح أن
العلم في يوم من الأيام سوف يعبر عن تعقيد النفوس أو مرضها، بمعادلة
رياضية، أساسها يكاد يكون واحداً بالنسبة للجميع..
كل هذا
صحيح! لكن الإنسان الاجتماعي اليوم لم يصل إلى هذه المرحلة بعد، بل هو بعيد
عن أن يكون هذا العقل الإلكتروني الذي لا يرى في التعقيد سوى مسبباته!..
ومن السخف
أن يخلط الإنسان بين الرياضيات وبين إحساساته، وإن كان أساس هذه الإحساسات،
معادلة رياضية!..
الخير؟..
الشر؟.. هل أزالت النسبية حقاً معنى هذين المفهومين؟..
هل قوضّت "
السيمانتيكية العامة " فعلاً جذورهما؟..
ربما كان
صحيحاً.. على الورق!..
أمضى النهار
يتسكع في الطرقات..
لم يجد غير
واجهات المخازن يلهي نفسه بها، وفي النهاية لجأ إلى الشراء ليشغل نفسه عما
كان يشعر به من ضيق وسأم..
بدأ في شراء
أشياء بدت له ضرورية، ثم أشياء لا على التعيين، إلى أن راح يبتاع جميع ما
كان يثير انتباهه..
لم يأت
المساء، حتى كان يسير كالسكران من فرط تعبه وحاجته إلى النوم..
لم تغلق
المتاجر أبوابها، حتى كان قد أنفق ثروة صغيرة على ما اشتراه!..
عاد إلى
الفندق وقد أنهكه التعب.. أوصد باب غرفته، واستلقى بثيابه على الفراش، فغط
في الحال في نوم عميق لم يستيقظ منه إلا بعد ظهيرة اليوم التالي{
القسم الخامس
الفصـل التـاسـع
ص359-364
أيام ..
وكانت طائرتهم تحلق فوق جبل طارق بن زياد..
بدت الصخرة
في غير موضعها.. قاتمة السواد مقيتة المنظر.. كأنما تنتظر أن ينشق البحر
ليبتلعها !..
سر فراس حين
هبطت طائرتهم.. وغاب عن ناظريه ذلك المنظر الكئيب..
ما إن
استقلوا عربة خيل أخذت تتسلق الجبل، من سفحه الآخر، عبر أشجاره وزهوره
البرية نحو الفندق المرتفع، حتى عاد الارتياح إلى نفسه، وأحس بحاجة ملحة
إلى ترك النساء في العربة، والسير على الأقدام..
قفز إلى
الطريق.. وأخذ يعدو مبتعداً عن العربة..
أجاب صياح
قطر وزوجته قائلاً..
_سنلتقي
في الفندق!.. لن أتأخر.. سأوافيكم في الفندق!..
وابتعدت
العربة، فأخذ نقر حوافر جيادها يخف شيئاّ فشيئاً إلى أن غاب..
لم يبق سوى
صوت الأجراس، كان يأتي بإيقاع منظم، راح يخفت.. حتى اختفى هو الآخر..
لم يعد من
تلك النزهة إلا بعد المغيب..
لم تجرؤ
زوجته على تقريعه لتركهن يدخلن الفندق دون رجل.. كانت قد تعودت هروبه
المفاجئ عنها.. وعزوفه المتكرر عن صحبتهم..
كانت قطر
وميساء في جناحهما منصرفتين إلى تحضير زينتهما، فجلس وحيداً على الشرفة
الكبيرة، بين النزلاء المسنين، يراقب الطبيعة الهادئة الممتدة نحو البحر،
باحثاً عن سواحل شمال إفريقيا في الأفق البعيد..
لم يضطر إلى
الكلام إلا حين أقبلت قطر وميساء وزوجته، قبيل العشاء، ترتدي كل منهن أجمل
ما لديها من حلي وثياب!..
عجب من
زينتهن، وتساءل عن سببها..
أحس أنهن
يخفين أمراً يتحرقن لإطلاعه عليه..
نظر إليهن
دهشاً.. فضحكت قطر وميساء تيهاً، بينما تقدمت زوجته منه، وهمست كأنها هي
المعنية بالخبر..
_..
لقد كلمت ميساء
ولي العهد على الهاتف!.. نظن أنه سيأتي لزيارتها هذه الليلة!..
هزأ من صيغة
الجمع التي استعملتها زوجته، وأشاح بوجهه عنها..
توجه نحو
ميساء ، مستغرباً..
_هذه
الليلة؟!.. هل كلمته شخصياً.. كيف تم لك ذلك؟..
أجابته وهي
تضحك، وتغلي فخاراً..
-تم
ذلك يا عزيزي، بينما كنت تتلهى بين الأشجار.. تبحث عن قرود " تشرشل " على
الصخور!..
_لا
عليك مما كنت أفعله.. أخبريني عن المكالمة!..
_كلمت
القصر!.. هذا كل ما في الأمر!..
_من
الذي كلمك؟.. وماذا قيل لك؟..
_كلمت
ولي العهد بذاته!.. ماذا تود أكثر من ذلك؟!.. وقد يأتي هذه الليلة!..
_يأتي؟..
إلى أين؟!..
_..
هنا!..
لزيارتي!!.. أيدهشك هذا؟!..
أعدت مائدة
الطعام، فقاموا إليها.. تتقدمهم قطر الندى..
اضطروا، كي
يصلوا إلى غرفة الطعام، سلوك ممر طويل خرجوا منه إلى شرفة جانبية تطل على
الصخرة السوداء والمطار العسكري الذي يقع على سفحها..
سطعت أنوار
مدرج المطار فجأة، ودونما سبب ظاهر.. فتعجبوا لذلك، وما إن جلسوا إلى
المائدة، حتى أقبل مدير الفندق مسرعاً نحوهم، وقال باحترام زائد..
_..
سمو الأميرة!..
سمو الأميرة!.. إن صاحبة السمو مطلوبة على الهاتف!..
قال ذلك وهو
ينقل ناظريه بين قطر الندى وميساء.. لا يدري أيهما المعنية بكلامه!..
ساء قطر
الندى في تلك اللحظة أن تكون هنالك أميرة سواها.. نظرت إلى أختها شزراً..
بينما وقفت ميساء وأسرعت إلى الهاتف..
عادت بعد
دقائق ممتقعة الوجه..
_فراس!..
أرجوك أن تأتي معي إلى المطار.. على الفور!..
بهت فراس،
وهب واقفاً..
_..
ماذا حدث؟..
قولي!..
_لا..
لا.. لاتخف!.. إن الأنوار التي شاهدناها مضاءة لطائرته!.. سيحط ولي العهد
بين دقيقة وأخرى!..
وقفا في
المطار ينتظران هبوط الطائرة الملكية، بينما سمع هدير بعض الآلات وسط دبيب
العسكريين الذين هرعوا في تلك الساعة المتأخرة من الليل لإنجاز آخر
الترتيبات لهذا الوصول المفاجئ!..
أقبل نحوهم
أربعة حراس بزيهم البريطاني الأنيق، متنمنطقين أسلحتهم، يمشون بوقع عسكري
مهيب!..
وقفوا
خلفهما لحراستهما في تأهب، بعد أن قرعوا أكعابهم في تحية على الأرض وتسمروا
على بعد أمتار منهما!..
دوى أزيز
المحركات النفاثة!.. وأسرع الجند يصطفون بين صالة الاستقبال ومكان الهبوط
المتوقع!..
وما هي إلا
دقائق حتى سمعت الزمجرة التي تطلقها المحركات قبل توقفها، ثم ساد صمت لا
يعكره سوى صيحة عسكرية حادة، أعقبها صدى أقدام وبنادق، تضرب على الأرض،
معلنة التحية والتأهب!
سارعت ميساء
للقول، متوسلة، مؤكدة، متفائلة..
_هي
نزهة قصيرة.. نعدك بأننا لن نتأخر!..
فهم فراس
أنها تود منه أن يسمح لها بالذهاب.. فتوجه نحو ولي العهد، ليلعب أمامه دور
القريب، الحريص على ما ائتمن عليه..
_..
نصف ساعة فقط،
إذن؟!..
ضحك حسان،
وقال هو الآخر بلهجة من يكلم قريباً له، أكبر منه في السن..
_نعدك
أننا سنعود بعد نصف ساعة، على أكثر تقدير!..
_حسناً!..
احرصا على سلامتكما.. ولا تتأخرا!..
لم يشهد
فراس إقلاع الطائرة..
عاد من فوره
إلى الفندق، ليخبر قطر بما جرى له..
فوجئت هذه
وصاحت..
_وسمحت
لهما بالذهاب؟!.. هكذا دون مقدمات أو مؤخرات؟!..
بهت فراس..
_..
وماذا كان
بوسعي أن أفعل لمنعهما!.. وما شأني أنا لأمنعهما؟..
تبسمت قطر
شاردة، وكأنها لم تصغ إلى جوابه..
_..
يالها من خبيثة
فائقة الذكاء!.. ترى كيف رتبت الأمور كي تقنع حساناً بأن عليه أن يخطفها؟!..
_..
يخطفها؟!..
_..
بالطبع!.. وهل
تظن أنهما سيعودان من هذه النزهة، الليلة؟..
_لم
أفهم!..
_ذهب
بها إلى قصر أبيه!.. لا بد أنها ستقابل الباي هذه الليلة!!.. لابد أنها
أفهمت ولي العهد أن عائلتنا لا يمكن أن توافق على مثل هذه الزيارة، قبل أن
يتم حفل الزواج، وأن عليه لذلك أن يخطفها!!..
صمت فراس
برهة، ثم سألها..
_لكن
لماذا أتى ولي العهد بالطائرة.. بدل مراد؟!..
تبسمت هازئة..
_لأن
ميساء ادعت على الهاتف أنها لا تود أن تراه بعد اليوم!.. سمعتها بأذني تقول
ذلك لحسان.. وسمعت أشياء أخرى لا استطيع البوح بها.. لذك خفّ ولي العهد
مسرعاً لإصلاح الأمور.. قبل أن تحل الفضيحة!!..
لم تعد
ميساء في تلك الليلة..
ولأول مرة
منذ زمن طويل.. سارت الأمور على ما تشتهيه!..
عادت في
مساء اليوم التالي، برفقة الأمير مراد.. ضاحكة مستبشرة..
وفي أول
مناسبة سنحت لها، صرحت أمام الجميع بأن مراداً سيرافقهم إلى مدريد لقضاء
أيام معها.. وأن موعد الزفاف قد تقرر، وأن الحفل سيتم بعد أشهر معدودات، في
أول فصل الصيف المقبل..
القسـم الخامـس
الفصـل العـاشـر
ص369-375
ملهى اﻟ " ثمبرا ".. صالة طويلة، يحتل مسرحها ثلثها بأكمله !..
كان أول ما لفت انتباه فراس هو كثرة المقاعد المصفوفة، على شكل نصف دائرة،
فوق خشبة المسرح، وعدد من الراقصين والراقصات يجلسون على بعضها، يتبادلون
الحديث والنكات، غير عابئين بمن كان يدخل الملهى، أو يخرج منه.
قال مراد، وهم يجلسون إلى الصفوف الأولى الملاصقة بالمسرح..
_قيل لي إننا سنشاهد هنا أجود فناني الأندلس!.. ما للمسرح خال إلا من هذا
العدد الضئيل من الراقصات؟!.
أجابه أحد أفراد حاشيته، مشيراً إلى المقاعد الشاغرة..
_سوف تمتلئ هذه المقاعد، بعد حين، بألمع فناني " الفلامينكو ".. يأتون إلى
هذا المسرح، يا سمو الأمير، لا كمهنيين، يؤدون عرضاً مقابل أجر، بل كما
يجلسون في دار أحد رفاقهم، يتسامرون، ويتحدثون، إلى أن يبدو لأحدهم أن
يبتدئ العزف أو الغناء، فتنطلق الشرارة الأولى التي تلهب الآخرين، والتي لا
معنى لموسيقى الأندلس بدونها!..
ملأ الإعجاب وجه الأمير..
_ومتى يحدث ذلك؟..
_لو حُدد موعد انطلاقها.. لزال معناها، يا صاحب السمو.. إنهم يتسامرون كما
ترون.. غير عابئين بأحد!.. ويقال إنهم في بعض الليالي لا يغنون أو يرقصون
على الإطلاق!.. أو إن الطرب قد يأخذهم، فيصلون الليل بالنهار!..
كان عدد الفنانين قد تزايد على المسرح، حتى قارب أن يملأ مقاعده الثلاثين..
سأل مراد فراساً..
_هل تفهم ما يتحدثون به؟..
هز فراس رأسه بالإيجاب، وأخذ يراقب الأثواب الأندلسية الأنيقة، ويصغي إلى
ما كان يدور بينهم من حديث..
جلس الراقصون ينظرون بدورهم إلى الرهط الملكي الذي كان مقابلهم، يملؤون
أعينهم بأناقته، وجماله..
ما إن اكتمل عددهم، وأتموا نصف الدائرة التي كانت لهم على المسرح، حتى
اكتملت بدورها دائرة كبرى، أتمها الصف الأول للمشاهدين، الذين تصدرتهم قطر
الندى وميساء، وإلى جانبهما مراد وفراس، ثم زوجته، ومن أتى برفقة الأمير من
الحاشية الملكية..
بدأ عازفو القيثارة الخمسة يداعبون أوتارهم بألحان متفرقة، بينما جلست
الراقصات الغجريات متأهبات على حافة مقاعدهن.. تتحسسن راحاتهن على بعض، ثم
تقرعهن بتصفيق عفوي حاد، وتخفين شفاههن عن المشاهدين بين حين وآخر،
لتتبادلن الكلام أو التعليق على المشاهدين!..
سمع فراس إحداهن تصيح لزميلتها بلهجة الجنوب، وكانت ترتدي زياً أحمر
صارخاً..
_.. بنيّتي.. بنيَتي!.. هل رأيت في حياتك مثل هذا الماس على عنق أحد!؟..
زاد تصفيق زميلاتها.. كمن يحاولن إخفاء جواب أتاها..
_.. على عنق والدتي!.. يوم هجرها زوجها!..
ضحك الجميع، وأثنت الراقصات على إجابتها بقرع من أقدامهن.. أحكمت حدة
التصفيق، وضوعفت سرعة إيقاع ما كان يعزف على القيثارات الخمس!..
عادت الأولى إلى السؤال..
_ترى.. أهذه المجوهرات حقيقية؟..
_.. حمقاء!..
_من يدري؟!.. لعلهن ممثلات جميلات.. يتصنعن الثراء!..
_.. بلهاء، بنت بلهاء!.. ألم تري صورهن في الجرائد؟..
أجابها صوت آخر..
_.. إنها لا تعرف القراءة!.. فكيف تفهم الصور؟..
ضجّ الراقصون بالضحك، والهرج..
لم يقتصر التعليق على الراقصات فقط..
كانت قطر الندى وزوجة فراس تتبادلان الآراء حول محاسن الراقصين الذين كانوا
يجلسون أمامهم، تتقاسمان من أعجبهما منهم، وتشركان ميساء، من حين إلى آخر،
فيما تكتشفانه من مظاهر رجولتهم!..
لم يخف همس الأميرات على الراقصات، ولا مقصدهن!..
صاحت إحدى الغجريات إلى زميل لها..
_لقد أعجبن ﺒ " بيدرو " !.. إنهن يتهامسن عليه !..
التفت " بيدرو " وكان أوسم الراقصين، وأقساهم ملامحا..
صاح بالغجرية، مقطباً..
_اخرسي!.. كفّي عن هذا التعليق السمح!..
ضحكت الراقصة منه..
_لماذا؟.. لماذا أكفّ يا " بيدرو "؟!..
وأشارت إلى زميلة.. بدت ساكنة.. تراقب ما يجري دون حراك..
_.. ألأنك تخاف منها، أيها الشجاع؟!.. ألأنك بت تخاف ؟!..
أجابها " بيدرو" بحنق..
_أنا أخاف؟.. ومن امرأة ؟!..
وكأن عازفي القيثارة كانوا على علم بما اعتمل في نفسه.. فبدأ أحدهم بأصابعه
الخمسة هديراً متدفقاً على أوتاره، ما لبث أن اشترك به بقية العازفين، حتى
علا كالموج الصاخب فوق الحاضرين..
وإذا ﺒ " بيدرو " يصيح فوق الهدير..
_أنا أخاف؟!.. أنا؟!.. " بيدرو " ؟!..
وكأن العازفين كانوا بانتظار هذه الكلمات ليضربوا بعنف، وليقرعوا على خشب
آلاتهم بضربات ثلاث مدويات.. فوجئ الحاضرون لها!..
قفز " بيدرو " إلى وسط الحلبة، ضارباً كعبيه على أرضها، بقرع، أسكت جميع
الحاضرين!..
تسمر واقفاً.. صدره إلى الأمام، وذراعاه فوق راسه، مشنجاً أصابعه، كمن يود
اقتلاع أحشاء أحد!..
كانت هذه هي اللحظة التي ترقبها الجميع!..
انبرى خمس شبان بثيابهم السود المشدودة على خصورهم النحيلة، يتصبب الغضب من
نظراتهم، وقفوا خلفه، وأحكموا مع الإيقاع تصفيقاً حاداً، بينما قطب أحد
المغنين.. أحنى رأسه إلى الأمام ينظر إلى كفيه اللتين مدهما كمن يتوسل إلى
أحد وصعّد من أعماقه آهة متضرعة اقشعرت لها أبدان جميع من كان في الملهى!..
لم يعد فراس يدري ما إذا كان الشاب يرقص لحزن المغنّي، أم إذا كان الغناء
صدى لعذاب يتهدّر من الشاب!..
أخذ رقص هذا، وأنين ذاك، ينفران كالدم من عروقهما.. وراح صمت إسبانيا يحدق
بهما بعيون رفاقهما، يحضان على المضي في العزف، يصفق لحزنهما.. يصفق
لألمهما.. يصفق لنزيفهما.. يصفق لموتهما!..
كان الشاب يقف في وسط الحلبة وجنبه للمتفرجين.. وإذا به يدور على نفسه
عدداً من المرات، ثم يندفع إلى الأمام.. ليسقط راكعاً أمام قدمي قطر الندى،
فاتحاً ساقيه لها بوضع مثير.. شرع يقف منه رويداً رويداً، بينما راح يحدجها
بنظرة مخيفة، وذراعاه تتشنجان أمامه.. بضراعة وحشية.. وغضب!..
غاصت أحشاء قطر الندى!!..
شهقت بعمق!!..
ورغم أن الابتسامة لم تفارق شفتيها، إلا أن صدرها العارم أخذ يرتفع وينخفض
بتنقس عصبي.. وما لبثت شفتاها أن افترقتا، وتهدل جفناها.. فلم تعد عيناها
تفارقان ذلك الجسد المسعور أمامها.. وكأنما ارتبطتا بأعضائه إلى الأبد!..
وقع جميع من في الصالة تحت سحر ما مرّ أمامهم!..
تجسد جميع الرجال في ذلك الشاب، وتمنت جميع النساء لو أنهن في جسد قطر
الندى.. لتتقبلن نظراته.. ولمس أصابعه المسعورة!..
إلا فتاة كانت تجلس بين الراقصات!.. أطلقت صيحة مروعة، وقفزت كاللبوة
المجروحة، مشمرة ثوبها عن ساقيها المتوترتين، تلوي عنقها كالفرس، وتنفض
رأسها.. حتى طار مشطها العريض الذي كان يجمع شعرها الأسود الطويل بوردة
حمراء قانية، سقطت على الأرض، فراحت تدوس عليها، تمزقها، وتمعن سحقها
بكعبيها حتى بدت وكأنها ترقص فوق بقعة من الدم!..
لم يفهم أحد سبب غضب " كونشيتا ".. حتى علا صراخ الراقصات..
_لتعش والدتك يا " كونشيتا "!!..
_لتحيَ من علمتك الرقص!!..
_.. قامت إليه!!.. انظروا كيف قامت تحاسبه!!..
_قامت تلقنه درساً لن ينساه!..
_.. إيه يا بيدرو!!.. أتظن فتاتك كانت نائمة!؟..
قُلنَ هذا .. وقمن وراء كونشيتا!..
قُُمنَ إلى نجدتها.. يقرعن الأرض بأقدامهن صفاً واحداً، يتحدين الشباب،
يصفقن وأذرعهن عالية في الهواء فوق رؤوسهن، يضربن الأرض بأقدامهن بإصرار
وجنون، فاستدار الشاب نحوها، وبدأ معها مقارعة طويلة عنيفة أجهدته، أذعن في
نهايتها لغضبها، فراح يرقص، ويصفق هو الآخر لفتاته التي كانت خصلاتها السود
المبللة بالعرق قد غطت وجهها، والتي أخذت تضيق عليه الخناق برقص لا مثيل
لدقته!.. فركع أمامها، بينما أخذت تنتفض وتدور حوله، حتى بدت وكأنها تستطيع
أن تطبق عليه في أية لحظة، وترديه، إن شاءت، جثة هامدة تحت قدميها
المجنونتين!..
ساعات محمومة ارتقت خلالها قطر الندى أدراج عالم كان غريباً عليها!..
لم تكن حتى تلك الليلة قد أصغت إلى نداءات الإعجاب العابرة التي تعودت أن
تتلقاها من الغرباء!..
لئن بدت حوادث تلك الليلة للبعض على أنها مشهد أسدل الستار عليه باسترجاع
الفتاة لرجلها، إلا أن مبادرة بيدرو حركت مفتاح باب جديد في نفس قطر
الندى.. باب المغامرة العابرة، وما يمكن لنظرات إنسان مجهول أن تبعثه في
نفسها من إحساسات غريبة!..
لماذا على المرأة ألا تعرف من الرجال سوى الذين صيغوا بقالب العرف؟..
لماذا عليها، إن شذت عن العرف، أن تفعل ذلك ضمن قواعد لها أحكامها
المسبقة؟!..
ما قيمة هذه القواعد؟..
ماذا أعطاها زوجها من أحاسيس.. غير الملل والألم؟!..
ومحاولات جعفر البدائية!.. أيمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار؟!..
أيمكن أن تحاسب على علاقتها برجل.. لا تكاد تشعر برجولته؟!..
لقد أصابها وقد عيني هذا الراقص في مكمن لم تكن تعلم بوجوده في نفسها!..
ما قيمة جسدها إن لم يطلق المجال لهذه الأحاسيس؟!..
انتهى الرقص..
عادت إلى الفندق وعيناها شاردتان.. تبحثان عن شيء أفلت منها!..
ليتها لم تأت إلى مدريد!.. ليتها لم ترتد ثوبها الأسود الذي يكشف صدرها
الوارف!!..
تمددت في فراشها..
ليت صدرها لم يكن ذلك الصدر الحقود!..
ضمت ذراعها على نهديها، وتمنت لو كان لها نهدان ضامران مسطحان.. لا يعرفان
الأحاسيس!..
بئس حياة المرأة!..
بئس جبن الرجال الذين لا يقتحمون مخادع النساء.. فيدخلونها عنوة، ويوسعونهن
ضرباً، وشتماً، ثم ينهالون عليهن بأجسادهم المديدة القوية ويغرقونهن في
اللذة حتى الموت!..
تشابكت في رأسها صور جميع من عرفتهم من الرجال..
لم تستسلم للنوم حتى أوصدت أبواب خيالها دون نظرات هلال الحاقدة..
داست على جسد جعفر.. ثم ركلته..
مزقت ابتسامات فراس الساخرة..
ولما لم يبق في ذهنها سوى خصلات شعر " بيدرو " السوداء، ونظراته الغاضبة..
لفّت خصره النحيل إلى خصرها.. وضمت وجهه إلى وجهها..
أخذت تقبل حاجبيه المقطبين بنهم..
وتبلل شفتيها بعرق وجهه وعنقه المشدود، حتى أسكرها خيالها!..
وما كادت تطلق آخر آهات اللذة.. حتى غطّت في نوم عميق!..
إلى (السـقوط
إلـى أعلـى3)
لقراءة رواية هيلانة
أو رحلة النيلوفر أو آخر الأمويين
أو رواية مسافر بلا
حقائب
|