أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتب: وليد عارف الحجّار

مسافر بلا حقائب

سيرة الكاتب

لقراءة الرواية

 

الرواية

 

القسم الثالث

القسم الثاني

 القسم الأول

 

 

 

 

 

 

مسـافر بـلا حقـائب

القـسم الأول الفصل الأول

 

مقاطع مختارة من الرواية

 

(ص9-16)

{البحرالأبيض المتوسط، 1950

وداعاً.. حبيبتي !

وداعاً !! وداع، فاض به صدري، أرمي عالمك به، كمن يرميه بلعنة!

أتعجبين؟! أتعجبين هدباء، من هذه الكلمات، أصدّر بها أولى رسائلي إليك؟! ألوف مثلها تتسابق إلى شفتي، تتناطح، كل كلمة تود لو تكون الأولى، تصفّق لهذا الوداع، تفسره، تدعمه، تود لو تستنطق من حروفه ألوف المعاني والصور!

لا.. ليس هذا وداع آسفٍ على ما ترك!

أرى الدموع تتجمع بين جفنيك! لا تجزعي! فلكم أحببت عينيك، لكم أحبهما! ويفطر قلبي ما يشهق به الآن صدرك من أسى! ورغم ذلك.. أنظر إلى عينيك الواجفتين، فأتشفّى.. وتهدأ نقمتي، في قرارتي، إذ أعلم أني أبكيهما! وأن في استطاعتي-أنا البعيد- أن أخفف من غلواء ثقتهما العمياء، المقيتة!

آه حبي.. ليت في وسع الدموع أن تغسل بعض ما اتسخ!

أكنت أعلم، وأنا أجتاز ذلك الشارع الضيق، الطويل، الذي يفصل بين دارينا، أني سأسخط يوماً عليك، كما أفعل الآن؟.. أو أن وداعي، هذا، سيتلو وداعنا، ذلك الطويل، الوديع، على الهاتف؟!

هذا ما كان بالأمس.. أكنت سعيداً لنبرات الحزن في صوتي؟.. أستبق، وأنا ممزق حزين، ما أشعر به من نشوة، الآن؟..

هل كنت أودّع فيك طفولتي؟ لماذا ألصقت شفاهي بالسماعة التي في يدي؟ هل كنت في تلك اللحظة، أودع فيك أمي، ووطني، أودّع حباً عقيماً، لم يجتز يوماً مرحلة القبلات على الهاتف؟!

لكم أكره القدر الذي وضعك في طريقي! أكره أنني أحبك!!

أهو حبك الذي أقتلعه من نفسي الآن؟.. ما لي أنتشي وأنا أرى الدم يقطر من يدي؟!!

وما ذنبك هدباء.. ما ذنبي أنا؟.. ما ذنبنا، سوى أن ما يفصل بين دارينا، دقائق، كنت أسبق الريح، مرات كل يوم، لأجلس، وأخيك، في حديقة داركما الدمشقية القديمة.. نتنقّل بين الليوان، والقاعة، والمربع.. نستعرض ما قرأناه عن الحب، والفلسفة، فتظهرين، بخصلات شعرك السود، المتهدلة.. تتركين القهوة، على حافة البحرة، بدلال.. تودين مشاركتنا المطالعة، ثم تغيبين.. وتعودين، لتطلّي من شرف غرفة النوم العليا.. عيناك النجلاوان، في بريق.. وابتسامتك الحلوة المرة تداعب شفتيك، تجسّدين للحظات خاطفة، جميع ما يعتمل في نفسي من عطش، وموسيقى!!

وتسائلينني بدلال.. "أهكذا يسهل عليك السفر؟.. كيف تترك مدينتنا الحبيبة؟.. وعطر الياسمين؟!"..

كيف لا أحبك؟ كيف لا أحب أصداء نفسي، كانت ترجّعها إلى عيني صفحات وجهك الرائع المتعالي؟ كيف لا أعبد إباءك وأنفتك؟ ثم كيف لا أمقت حباً منعني عن فتاة سواك! وكبّل جسدي الفتيّ بقيود كبتك الجائرة، وبقيم مجتمعك الكاذبة؟!

ولن أسألك عما كنت تشعرين به نحوي.. أو عما اعتمل في نفسك يوم أتيت لزيارتي، لتوديعي، قبل سفري بأيام! لعلك حين أقدمت على تلك الزيارة، كنت ترين فيها "مثلاً" في تحدي القيود الاجتماعية! تحدٍّ، لم يسبقك إليه أحد! "قدوة".. سيسجلها التاريخ لأمثالك من العفيفات! أو، من يدري.. لعلك كنت ترين فيها منّاً تكرمت به علي.. "هبة" يتوجّب علي أن أحتفظ بذكراها إلى الأبد!!

 لا.. لا أود الخوض فيما يمكن لفتاة محافظة مثلك أن تشعر به من تناقضات وهي تجد نفسها وحيدة، للمرة الأولى، مع شاب تحب، في غرفة  من داره خالية من الناس! حسبي ما مرّ بي! ويكفيني أن أذكر الذهول الذي اعتراني وأنا أراك ترتعدين من وطأة ما اعتمل بك من كبت!

هل كنت أنت هدباء التي أحببت، منذ أن تفتحت في نفسي العاطفة؟! بالله! ماذا أخافك مني، حتى بدوت على ما بدوت؟! ما الذي قلّص عضلات وجهك، وزمّ شفتيك؟ لمَ جفّ لعابك، حتى بح صوتك! وغاب لونك!

هل تدرين حبي، أنك أنسيتني في تلك اللحظة أنني حقاً "فراس"، ذاك الذي كنت تعرفين؟! أتذكرين كيف جلسنا، بعد برهة، ينظر كل منا إلى الآخر، في صمت ودهشة، وكأنه يراه للمرة الأولى!؟ لا أذكر الآن شيئاً مما كنت تقولين! وظني أنك أنت الأخرى، ما كنت آنذاك تدرين شيئاً عما دار في ذهنك! جل ما أذكره الآن، ولو أن في سرد ذلك جرحاً لكبريائك، هو أن ما أئرتِ بي من إحساس، كان أقرب لما يمكن لحيوان أن يشعر به، نحو حيوان آخر!

أشعرتني بدوافع جنسية، مشوبة بقشعريرة تماثل تلك التي يشعر بها الإنسان إذا ما واجه حيواناً كاسراً! لا أظن إلا أنني كنت قادراً في تلك اللحظة على تصرّف أخجل من تصوره الآن!

لقد زججت ما أعرف عن ذاتي في غربة كريهة إلى نفسي، فرحتُ أداعب قسوة، ما كنت أعرف أني قادر على الإحساس بها!

من الذي لا يعرف أن للنفس مجاهل تختبئ وراء ما دفعتني إلى اكتشافه عن نفسي من متاهات؟! لا بدّ أني بدوت أمامك في تلك الساعة عارياً من الحجب! ولاح لك ما كنت أحاول فرضه على نفسي من هدوء وتصرف متزن!

ألهذا زال اضطرابك؟! وإلا فما الذي أطربك فجأة من حيرتي، وأنزل الهدوء على نفسك، حتى استويتِ، وجمعت ساقيك ساقاً إلى ساق، وانتحيت جانباً، في جلسة أردتها تلقائية، وقوراً، ثم مددت ذراعك نحوي، تداعبين خصلة شعر انحدرت على جبيني الذي تفصّد عرقاً!

أي دور هادئ غريب انسقت في تمثيله؟! كنت، منذ لحظات، ترتعدين، وتتلوين، كالجسد المشنوق، بينما كنت أحاول، بما أمكنني من لطف، أن أتمدد إلى جانبك! أي جرم كنت قد حاولت ارتكابه، حتى انتابك ذلك المس؟! هل حاولَت يدي الوجلة أن تمتد إلى صدرك؟ أهذا هو الجرم؟ هل لمست شفتاي خدك، أو أذنك؟!

نعم.. ولم أعد أدري كيف انقضت تلك الدقائق الطوال قبل أن أصاحبك إلى الباب!

غريب! غريب، كيف أطلتِ الوقوف على الباب، وأمعنت في الحديث الهادئ، وصدرك، طفل ضائع لم يعد يعرف غير صدري ملجأً ومقراً!

ولم يكتمل رفضي لك حتى تلاصقت شفاهنا، في تلك اللحظة، للمرة الأولى!

قلتِ- وأردتها نبرة ساذجة حيرى-..

- إن كان لا بد في هذا الوداع من قبلة.. فلا بأس.. إنما هي المرة الأولى التي أقبل فيها شفتي إنسان.. لا تلمني.. فأنا لا أجيد فن القبل..

وصدقتني القول! آه.. حبي.. كيف أفسّر أنك بدوت لي في تلك اللحظة كمن عرفت عشرات الرجال!!

أين السذاجة في قبلة أولى تناقش فن القبل؟!

أين البراءة، في جسد كان منذ لحظات يتشنج.. ويكاد يركل أول لقاء له مع جسد أحب؟ أهي العفة في نظرك؟ أهذا هو الطهر في ظنك؟! ويحك هدباء! تحت أي حمل ترزحين؟! ولست الملومة في ذلك! إنها مفاهيم قومك، يحملونها منذ أجيال، ويبرعون في إعادة غرسها فيك، وفي غيرك من "الطاهرات".. إلى الأبد!

الأخلاق، والتربية الحسنة، في عرفهم، هي في أن تصومي عن الجنس، حتى يكاد يجف جسدك من الجوع! تتمشين في الطرقات، لا تنظرين إلى شيء، ولا بأس في أن تتلفتي، كالملسوعة، إذا ما طالعتك رائحة الحياة! تخفين ما تحسين به من كبرياء كاذبة، وراء قناع بارد كالموت! حتى إذا صعدت سلم دارك، وعاد عبق ما تشتهين، يطالعك من وراء أبواب ونوافذ مفتوحة على غرف النوم، تعودين إلى التضوّر، تتصورين الرجال كشياطين، مرغوبة، جميلةّ، لكنك تكرهين شهوتك! فتلجئين إلى سريرك، يتلوى حرمانك في أحشائك، كأنه أفعى!

أين العجب في أن تضمر نفسك، بعد كل هذا؟ أين العجب في أن يصبح الإحساس الطبيعي وحشاً كاسراً، ترتعدين إذا ما لاح في أفق حياتك أنك ستجلسين إليه! وحين تتزوجين، إن تزوجت، فهل ستمحو بحبوحة سني الزواج الطوال ذكرى سياط العوز الذي عانيته في شبابك؟! وما الذي سيمحو الندوب التي ستخلفها تلك السياط على جسدك الفتيّ؟..

لماذا قدر لي أن أحب فتاة في مثل عفتك؟! وهل أنا المذنب؟ ألست ابن البيئة نفسها؟.. لا أقوى على حبِ إلا من كان في مثل عفتك؟  أتعجبين، بعد هذا، أن أقول "وداعاً" حزينة، متشفية؟!

أعجب من نفسي! أحبك هدباء، وليس في الكون ما يفعم نفسي أكثر من أنني في هذه اللحظة، أشق البحر في مركب يبعدني عنك وعن شبح هذا الموت الذي قسرني حبك على العيش في كنفه!

عدت لا أدري، أسعيت إلى باريس نزوعاً إليها، أم هرباً منك ومن بلدي!

ماذا أعرف عن باريس، سوى ما سمعته أو ما قرأته عنها في الكتب؟! ومع هذا، فلئن صح القول بأن لا لذة في حرية سوى بمقدار ما كان يعانيه الإنسان قبلها من أسر.. فإن جوعي لباريس كبير، كبير! وحريتي فيها ستكون أكبر مما بوسعي أن أصفه لك!

أرى ثغرك الحبيب يبتسم بمكر! وأسمعك تقولين: "ألست تناقض نفسك؟!"، "أراك واثقاً من أنك ستستسيغ الطعام، بعد جوع!".. "فلماذا تنكر عليّ الحرمان والكبت، إن كان لي في ذلك استساغة أكبر للجنس، فيما بعد؟!".. أسمعك تقولين.. "ما المانع من أسري الجنسي؟ إذا كان لي في ذلك تذوّقٌ أكبر لممارسته بحرية فيما بعد؟!"..*

لا، وألف لا!!

أنا أحارب أسري! وأنت.. إنك مطمئنة إليه! تنعمين به! أو أنك تنتظرين أن تُفكَّ عن معصميك الأغلال! أنا لم أنتظر أن يُفتح باب سجني، لأكتشف أن ساقيّ قد ضمرتا، حتى لم يعد باستطاعتهما المسير! لقد حطمت قفصي، قبل أن ينسى جناحاي كيف يصفقان، ويطيران! أما أنت، فلئن تململت، فلضيق سجنك، وحسب! لا لأنك في أسر!

*    *    *

هل أبدو كمن يجلجل نشيد نصر يود لو يطبق به الآفاق؟! لا بأس! ينتابني في هذه اللحظة ما لا أستطيع وصفه من تيه!

تركت أوراقي هذه برهة، ورحت أتجول! فيها على ظهر السفينة، متقدماً، حتى تجاوزت المرساة، ووقفت على السدة، لا يفصلني عما يضرب رأسها الحاد من موج، سوى حاجز قليل الارتفاع، أمسكت به، ألاقي الرذاذ والهواء العاتي في صدري.. حتى شعرت كأنني أنا الذي أحض هيكلها الكبير على المضيّ! كأني أنا الذي أرفعه بساعدي فوق لجج الأمواج! يشقها، ونمخر معاً غياهب الليل البهيم!!

*    *    *

ها أنا ذا أعود إليك، يطفح صدري بنصر عليك، لا أفهمه! أليس من الغريب ألا أود أن أشارك في هذا النصر أحداً سواك؟!

إنها الواحدة بعد منتصف الليل! أين أنت الآن حبي؟ وفي أي سبات هانئ تغطين؟

تكاد أصابعي لا تقوى على الإمساك بالقلم، لشدة بردها! ألهذا أذكر الدفء الذي ترفلين فيه في فراشك الآن؟ إخوتك.. أخواتك.. جميعهم حولك، يحيطون بك، في غرفهم المجاورة.. وينعمون بنوم هادئ، عميق..

عبق آخر السهرة ممزوج بدفء الموقد، ينساب طليقاً، في أروقة الدار، وبين غرفها، بعد أن ماتت النار.

سيرقد بلدك قريباً.. سينام جميع من فيه.. وستتصاعد أنفاس النيام، غمامة كسلى، شرقية، تغلف تلك الواحة الكبيرة، وتعود بأحلام من فيها إلى الوراء.. مئات السنين! سيبعث الزير في أحلام الشباب.. وعنتر.. وقيس.. وصلاح الدين! ستبرق السيوف، والخناجر! وتتطاير الرماح فوق نواصي الجياد الأصيلة البيض! وستعلو المآذن، وتعلو! لا تضاهيها في التيه سوى عبقرية الشعراء! يقهرون الأعداء.. ويربحون المعارك، بأوزان، ولا أفخم! فيعودون، وقد أنهكهم الكلام، إلى ليلى، تطوف بين مضاربهم، كالغنم الرائع.. تحوم فوق خيامهم، كآهة من ناي حنون! ويمضي الليل.. ويتورد الأفق، قبيل الغسق.. فتتورد وجنتاك، وتفركين عينيك في صحو ناعم بطيء..

هذا بلدي! ما أجمله، وما أتعسه!

هل أسمعك تقولين إن هذه ليست أحلامك؟ لا بأس! فهذا عالمها.. ومنها تأخذين الأحجار التي تبنين بها القصور، وتظنين أنك تبتكرتينه من أحلام!

هل جال في خاطرك يوماً أن تسأليني عن أبعاد عوالمي الداخلية؟ هل لاح لك يوماً أن هنالك في الشرق من لا يستسيغ القوافي، ولا الآهات الشرقية التي تعرفين؟! ولئن سألتني رأيي فيها، لأجبتك بانها سمٌ يتعاطاه شرقنا منذ أجيال، كقات اليمن!!!

ستندثر مدينتنا هذه عما قريب، ولن يبقى فيها غير صور خيالك عنها! مدينتنا التي عرفها آباؤنا.. ستبيد! وآثارها التي غذّت طفولتنا، ستمحى إلى غير رجعة! لكم أحببت بلدي! أحببته طفلاً، وعشقته حدثاً، حين كنت أظن أن له أبعاد نفسي وشمولها! ماذا يمكن لأولى سني المراهقة أن تعرف عن عالم المال والسياسة؟.. كنت، وأخاك، نجوب شوارع مدينتنا، نسير في دروبها القديمة، الضيقة، وبين جدران قلعتها، كأن ليس فيها سوانا، كأنها قصر لنا، ومن فيها من الناس، نفوس تطوف، أو تطير، مثلنا، لا بطونٌ، ستصرخ يوماً من الجوع، فيستقطب عويلها نحيب عشرات الألوف من الجائعين! فيهرعون، زرافات، ليقتلعوا الأخضر منها واليابس.. في إيقاع جاهل، تاريخي، محتوم!!

بلدي هذا الذي تركت البارحة مساءً، أودعه، فيك، وداعاً لا أسف فيه!

تعلمين أن ليس معي من المال سوى ما يكفي لإيصالي إلى باريس! وأن ليس ما ينتظرني هناك سوى قدر مجهول، قاتم الوجه، إذا تبسم لي، لم يمنحني أكثر من فرصة للعمل تقيم أودي، وتكفيني العوز! ورغم ذلك، أراني سعيداً.. بالابتعاد عن عالمٍ ضقت فيه بعاصمة ليس في مكتباتها سوى ما يسمح به رقيب جاهل! ولا قراءة فيها سوى بما يسمح به، آخرون، يخافون على وظائفهم! ضقت بالسرقة، والنفعية، والفوضى، في عالم يتّهم فيه، بالعمالة، كل من نادى بالنظافة! وبالرجعية، كل من تكلم في هدوء!! ضقت بدعاة الحرية، ينقلبون إلى سجانين، أو حراس لسجون أسيادهم! ويصيبني الغثيان، إذ أرى من كانوا ينادون بالمساواة الاجتماعية، يصبحون رؤساء لعصابات أشد من المافيا، حتى باتت ثروات أقلهم شأناً تعدّ بالملايين.}

*    *    *

(ص21-25)

{أحسست أن كلمة الشرق والعروبة، مظلة هائلة يودّ لو يقرر أبعادها، بنفسه، كل إنسان من مائة وثلاثين مليوناً من المتخلفين! تنوء حضارة أرقاهم تحت رزح أربعمائة سنة من الجهل والاستعمار التركي! مظلة، تظلل الملايين من الناس، بعضهم مترفٌ أو جائع، سيّان عنده وجود هذه المظلة وعدمها، وبعضهم الآخر، ساهمٌ، ضائعٌ، يرى فيها خاتم سليمان، ولا يرى إذا نظر إلى السماء غيرها! أدركت أني لن أقبل بعد اليوم بهذه المظلة، أوغيرها، هوية لكياني! كياني قائمٌ كالصخر، بغير ما حاجة إلى هوية! والهوية، أية هوية، إطار وحسب، إنها مظلة، مهما تكبر، وينبسط ظلها، فهي لن تعدو كونها مظلة! أداة.. قد تنتقل من يد إلى يد، قد تضيق يوماً بمن يقبل ويعتاد ظلّها، فتدفع الغالبية المتزاحمة، بالأقلية من أمثالي، نحو العراء!!

تدركين حبِّي، بعد كل هذا، أنني أودّع فيك أكثر من حبي، والوطن! الشرق الذي أرفضه ليس مفهوماً مطلقاً أتعامى عنه، أو واقعاً تاريخياً أجبن عن المساعدة في حمل عبئه! لئن كانت القومية واقعاً.. فإن ما أرفضه هو تحديد صفات هذه القومية على أيدي أناس متخلفين! أنا لا أرفض الشرق.. أنا لا أرفض العروبة! بل المفهوم الذي صاغه عنها أساتذة متخلفون! والهوية التي تتبعهم في استحسانها جحافل المتخلفين! أنا ابن هذه الأرض، وابن القرن العشرين بكل ما فيه من تناقضات، وما فيه من علم، وفلسفة، ومن موسيقى! فما شأني بالخيمة والكوفية والخنجر؟! إنها ذكرى من ذكريات بدو حكمهم أجدادي!!

 أأنا الغريب العجيب إذا ما تطلعت إلى ما وراء الحدود، أم أنت التي تسترشدين لواقعك اليوم بهدي أحكام ومفاهيم كُتبت أو لفّقت على ألسنة أناس ماتوا منذ ما ينوف على ألفي عام؟!

هدباء.. أودع فيك بعض نفسي.. أبترها عني.. فأتمزّق في ذلك بين قسوة.. وحنين.. لا يرحمان! ولا بأس عندي أن تري في رفضي لشرقيتي ما قد ترين! فأنا في هذه الردهة.. طائر وجل.. ينفّض ما نبت عليه من زغب، عرفه، وأحبه.. طائر بات يخاف العراء.. فيتحسس نفسه متوجساً متفائلاً، جاهلاً لما سينمو على جناحيه من قوادم!!

*    *    *

أتريث قليلاً لأعيد قراءة ما كتبته لك، فأسخر من نفسي، ومن قدري! كيف تجذبني رومانسية القرن التاسع عشر، وأقبلها، ثم أنهض، وأرتمي في واقعية القرن العشرين...

ألم أكن منذ لحظات أخبّ في ضباب القرن التاسع عشر؟! أسمع الأمواج تئن على أصداء "شوبان"، وتدوّي بألحان "فاجنر"؟ وإذا وقفت على سدة المركب.. ألم أكن "الهولندي الطائر"؟ أحضّ الأشرعة على مقارعة الأعاصير؟

ثم أنظر إلى نفسي من منظار آخر.. مَنْ أنا في هذه اللحظة؟! كيف تتراءى لي تجربتي معك؟ أليس من دواعي السخرية أن تبدو لي كتجربة ابن القرية المثقّف؟! فلاح.. توسّم في نفسه طموحاً، فعاف فلاحة محافظة أحبها! ضاق ببدائية من حوله من الناس، فحزم متاعه، أو رمى به بعيداً.. وهجر قريته، قاصداً العاصمة!!

علوت عما أنا فيه الآن.. فلم أبق فراساً، وأنت لم تبقي هدباء.. بتّ أي "محمود" أو "علي"!! وأنتِ، أية "عائشة" أو "مريم" أو "ريا".. قصة تتكرر كل يوم.. وعلى جميع المستويات!!

بالرغم من هذه النظرة المتعالية على تجربتي أقول، لا! فكما أني حصيلة قرنين متباعدين في الزمان.. كذلك هي تجربتنا، ممتدة.. متكاملة.. متناقضة، أعجز عن أو تبسيطها أو تحديدها ضمن قالب فكري أوعاطفي معروف!

آه حبي! لو كنت حقاً "عائشة"، وقبلتك في ذلك الوداع المقيت، على باب داري، لوقفت حيرى، أو صفعتني، غضبى، على وجهي، أو.. لأقبلت تقبلينني دون فهمٍ أو محاكمة لما كنت تفعلين!!

لو كان سكان مدينتنا على براءة أهل القرية، وجاء مَنْ يحدثهم عن الحضارة والثقافة التي لا يعرفون.. لمجّوا ما يفرض عليهم، أو، حاولوا تفهّمه، أو، لسدّوا آذانهم عنه.. لكن، هيهات أن يقف من أبناء أية قرية، قوم أدعياء، صلفاء، ينصّبون أنفسهم أساتذة جهابذة في علم ما لا يعلمون، ويصيحون، صوتاً واحداً: "لدينا من التراث مايكفي! ما لنا ولما هو أجنبي! إن لفي عاداتنا، وتقاليدنا، معالم لحضارة تضاهي أكبر الحضارات! حسبنا إحياء التراث..!!"

أليس هذا ما في مدينتنا اليوم؟

لئن قيل موسيقى، تبارى للدفاع عن "الموسيقى الشرقية" أناس لا يعرفون حتى كتابتها! ألأنهم ولدوا في الشرق، جاز لهم أن يلقبوا ما يدمدمونه من تفاهة، باﻟ "الموسيقى الشرقية"؟! وإذا اختلفوا.. فإلى مَن مِن الناس يحتكمون؟ أليس إلى رجال السياسة؟ وليس لمعظم هؤلاء من حسٍ موسيقي؟! ماذا يعرف أي عربي متوسط الثقافة "عن" الموسيقى، أو "مِن" الموسيقى، سوى ما يسمعه من محطات إذاعاته؟ ولم ينشأ هذا الجمهور، ولم يترعرع، إلا على سماع هذه الإذاعات نفسها! إنتاج تافه، لقومٍٍ أميّين تافهين! حلقة مفرغة من التخلف! تطربون ﻟ "زمرد" و "فيروز" و "ياقوت" وتقفون صفّاً واحداً للدفاع عما يطربكم! ناسين لأن حسّ الطرب ليس حدساً من بنات عبقريتكم، بل ملكة، يشكلها ويغذيها عندكم واقع وأناس متخلفون! فتقتنعون بما تجترون، مُقصين مَن يحاول رفع مستوى هذا الفن في بلادنا، تنعتونه إمّا بالعمالة، وإما بفقدان ما تلقبونه باﻟ "أصالة الشرقية"!!

من منكم قرأ ابن رشد؟!

من منكم قرأ الفارابي؟!

أسفي عليكم يا أبناء أمتي! أيكم الأصيل؟ وما هذه الأصالة؟ أهي القرب، أو التقرّب من عيار ذوقكم المتخلف؟!

والفنّ؟ ماذا أقول وأساتذة الفن في بلادنا لا يصلحون طلاباً في أولى سنيّ المعاهد العالية! في حين أن نقّادنا.. نقّاد الأدب، والفنّ في بلادنا.. محررون، مرتزقة.. سياسيون!!

والأدب؟ لست أدري أية معجزة فرضت على الشرقيين الاعتراف أن الأدب يستطيع تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية! لكن، ما نفع هذا الاعتراف، حين لا يعرف الشرقيّ عن الأدب العالمي سوى القليل، القليل، مما تُرجِم، أو سُمح بترجمته من الآثار الأدبية العالمية؟!

إنها مدينتنا.. طبقة كبيرة من عالمنا.. أخذت المسميات من الغرب، وأفرغت فيها ما يطفو فوق نفوسها من قذى وتخلف! كيف لا أشعر بالغربة في وطن وجد المحتالون فيه ستاراً لتخلّفهم في كلمة "شعب"، فأسموا نكاتهم القميئة "نكاتا شعبية"! حكمهم المتدنية العثمانية "حكماً شعبية"! ومسرحهم الضحل المخزي، "مسرحاً شعبياً"! يقلدون القردة والحيوانات، على المسرح، ويعلّمون الصغار أن في هذا ما يسلّي ويضحك ! تصل دررهم الشعبية هذه، عبر وسائل الإعلام، إلى جميع البيوت، رغماً عن أنوف أصحابها! حتى بات من يعاف التدني في الذوق، لا يعرف أين يذهب، هرباً منه! ولا أين يتجه، للاعتراض عليه! وحيثما تلفّت أو اتجه، أنصار لقميص عثمان.. "قميص الشعب" ! أو أناس لا مبالون، يكسبون أرزاقهم في هذا السوق.. يتسلون ويدافعون عن وجوده..}

 

 

الفصل الثاني

(ص31-33)

{متى عرفت "مكسيم"؟ أمنذ سنتين؟ ثلاث سنوات؟ كان ذلك خلال منتصف الصيف، وكنت كعادتي في فترات بعد الظهر من شهر آب، أتمشى في شارع "السان جرمان"، أسعى إلى الجلوس في إحدى شرفات المقاهي العديدة التي فيه.

كنت قد تعودت، في الفصول الباردة من السنة، ألا أرتاد من المقاهي سوى "الفلور"، في إطارها الخاص القديم، أو "الدوماغو"، لما كان يتنادى إليهما من شخصيات الفن والمسرح! أتسلى بمشاهدة تلك النماذج الإنسانية الطريفة عن كثب، بمراقبة حركاتهم.. وأتعرف أحياناً إلى من كنت في شوق للتحدث إليهم، أو أكتفي بمراقبتهم من بعيد!

أما في الصيف، أثناء شهر آب بالذات، فلقد درجت باريس على أن تغلق معظم مرافقها، ومؤسساتها، في عطلة طال ترقبها! يهجر الباريسيون مدينتهم المحبوبة، فلا ترى في شوارعها سوى السواح.. يقصدون هذين المقهيين، أوغيرهما مما ذاعت شهرته الفنية، يتراصون داخل المقاهي.. وعلى شرفاتها.. منتظرين وصول أهل الفن، وهؤلاء لاهون عنها، يستجمون، ويمرحون على شواطئ فرنسا! فلا يشاهد السائحون، سوى غيرهم من السواح، يكاد حوار المتسامرين منهم يجري في جميع لغات أهل الأرض، ما عدا الفرنسية!

بُُعَيْدَ ظهيرة ذلك النهار، وصلت قبل غيري من المتسابقين إلى منضدة خالية على رصيف مقهى "الفلور"، شغرت لحظة بلغتها. فجلست، رافعاً وجهي، مغمضاً عيني، أتلقى أشعة الشمس، أستريح برهة، أتهيأ لقراءة صحيفتي اليومية..

لحظات، وإذا بصوت آلة اﻠ "أورغ دي باباري" ينبعث من مكان غير بعيد عني.. أسمعه عبر أصوات الناس، ومن خلال هدير محركات السيارات، فأنسى أنني في صيف عام 1951 ! أنسى أن باريس قد تحررت من الاحتلال النازي، وأن ست سنوات بكاملها قد انقضت على انتهاء الحرب!! تعيدني موسيقى تلك الآلة إلى سني الحرب، فأحس أن من يتكلمون الألمانية حولي، هم جنود احتلال نازيون، أكاد أنسى أنهم سائحون، تناسوا ما خلفه أبناء أمتهم من كره وحقد في نفوسنا! عادوا مع زوجاتهم وأولادهم اليوم، يحتسون الجعة على شرفات مقاهينا! لاهين عما لا يزال يغلي في نفوس معظمنا من ضغينة، وحقد عليهم!

كان صوت اﻠ "أورغ دي باباري" يأتيني كناي سحري، يردد أغنية باريسية قديمة: "تحت جسور باريس".. فأعود مع كلمات تلك الأغنية إلى أيام طفولتي.. أيام الاحتلال المريرة.. حين باتت أمثال تلك الأغاني رمزاً، كنشيد "المارسيّيز"، يثير سماعها في نفوس الفرنسيين شوقاً إلى باريس الحرة النضرة، التي لا تعرف للحياة من قانونٍ، سوى الحب والمرح!

كنت قد لمحت عازف تلك الآلة مراراً، في الحي اللاتيني، وكنت أعرف أنه وسيم الطلعة، طويل القامة، فرحت أتصوّره وأنا مغلق العينين.. لكم راودتني فكرة التعرف إليه! هممت بذلك مرات! أتراجع دوماً، في اللحظة الأخيرة، أخجل من تلك المبادرة، أنتحل لنفسي الأعذار، فأثنيها عن محاولة الاقتراب منه!

كان في ودّي أن أكلمه، ولم أكن أدري متى، أو كيف أبدأ! أحين يدنو مني غير عابئ بأحد؟ متقلداً ابتسامته الساخرة، الحزينة، مادّاً قبعته البحرية، لأضع له فيها قطعة النقود الصغيرة، كسائر الجالسين من حولي؟ كان الكثيرون يتبسّمون له في مودّة ظاهرة دونما حرج.. يجزلون له العطاء، يطرحون الأسئلة عليه تباعاً، فيجيبهم، في لهجة عابثة، عابرة! أمّا أنا، فكانت رغبتي في التعرّف إليه تحدّ من حرية تصرفي إزاءه! أرى في زيّه البحري، وفي تلك اللفافة أمامي!! كيف أكلمه؟ وأنا لا أجرؤ حتى على النظر إليه صراحة! كيف أتغاضى عن نظرات مَنْ حولي من الناس؟ هل ألحق به حين يبتعد عن المقهى؟ لا بدّ أنني أكبره بأعوام! كيف سيبدو مظهرنا للمارة؟ هو، في لباسه البحري، وبطابعه البوهيمي.. وأنا، في ثيابي المدروسة الأنيقة؟! لا تكاد هذه التساؤلات تدور في خاطري، حتى أتراجع عن أية مبادرة من هذا القبيل! أحسد جرأته في الظهور، في شارع عام، وتحت أنظار الجميع، في ذلك الإطار الذي كنت أتمنى، في سرّي، لو أظهر ضمنه!

وتضخّمت أفكاري عنه في رأسي! يا له من فنان افرنسي حق! إنسان بوهيمي، لا تهمه المظاهر! ولا يشكو من عقد نقص اجتماعية، أو من قيود السلوك مثلي! يمدّ يده، دونما مواربة أو استحياء، يطلب أجره على ما أسمعنا إياه من موسيقى! ولم لا؟ إنما، هي موسيقاه، قبل أن تسمعها باريس، ومن بعدها، عواصم العالم! لا بدّ أنه من "مينيلموتنان"، قلب باريس الدافئ، وهذه ألحانه، ألحانها، إذا تجمّع الفنانون، في "الفلور" فللتحدث عن هذه الموسيقى، للكتابة عن أمثال هذا البوهيمي من الأصيلين.. لنقل وقائع حياتهم اليومية إلى خشبة المسرح، للتمثّّل به.. فالناس يدرسون الفن سنوات ليحاكوا، بالتمثيل، ما يعيشه أمثاله في تلقائية، وعفوية!

فتحت عيني، وقد اقتربت ألحانه مني.. معجباً به، ناقماً عليه، لما وضعه هو، أو العرف الاجتماعي، من فوارق بيننا! حواجز، تحول دون أن أطلب منه الجلوس إلى مائدتي! دون أن نتمشى معاً في دروب باريس القديمة المنسية، يطلعني على ما يعرفه من ماضيها، يدلّني على أجواء لها، لا يمكن لمثلي، ممن يرتدون ربطات العنق الأنيقة، أن يتعرفوا يوماً إليها!

كانت ترافقه، على الدوام، فتاة بوهيمية، طويلة القامة، سوداء العينين وجدائل الشعر، يلف جسدها الفتيّ زيّ أسود يحاكي طريقته البوهيمية في اللباس! وقفت إلى جانبه تبيع رسوماً مائية، استحسنت صنعها، فما إن علمت أنها من رسم ذلك العازف، حتى أُعجبت لموهبته، وما كنت أظنه رساماً، فابتعت عدداً وفيراً منها..}

 

 

الفصل الثالث

(ص47-50)

{بحر المانش 1951

هدبـاء..

هدبـاء.. هدبـاء.. أردد اسمك الجميل، لهفاً.. وكأني معك، في عناق، بعد أعوام طويلة!

أتدرين أن اسمك هو أول كلمة عربية أنطق بها.. منذ طويت رسالتي الأخيرة إليك؟.. أليس طريفاً ألا أخاطبك سوى من البحر؟! رسالتي الأولى، كانت من البحر المتوسط.. وهذه، من بحر المانش! وشتّان، هدباء، ما بين هذا البحر، وذلك! هياج هذا، وهدوء ذاك!

ما أشدّ البرد!! أنظر عبر الكوّة إلى الأمواج المتكسرة.. فأحسّ ببرد داخلي، رغم ما أرتديه من صوف، تحت سترتي البحرية..

المركب محكم الإغلاق.. والردهة هنا دافئة.. لكن البحر في هياج مخيف! يكفي أن يحاول أحد المسافرين فتح كوة أو باب، ليستنشق هواء نقياً يغالب به دوار البحر، حتى يشقّ القاعة صفير العاصفة! فتأخذنا الرعشة، رهبة من الأمواج التي تعلو، فتقذفنا! تحطّ، فتضربنا! تتكسر، فتغطي المركب، بكامله أحياناً! نشهق، في كل مرة، كأن اليمّ يودّ لو يبتلعنا إلى الأبد!!

 ليتك ترينني! أكاد لا أقوى على التماسك فوق مقعدي لشدة تأرجح السفينة! ولقد نال الدوار من معظم المسافرين.. نحن بالمناسبة، في طريقنا إلى " نيوهافن" على شاطئ انكلترا.. لقد انتهزت فرصة هدوء الركاب، لأكتب لك.. رغم العاصفة وتأرجح المركب!

أتتساءلين كيف أقوى على الكتابة في مثل هذه الظروف؟ ألا تعجبين كيف لم يصبني دوار البحر، أنا الآخر؟! لا تضحكي! لقد تعودته! لقد أصبحت بحاراً متمرساً! أقولها جاداً إنها اليوم مهنتي ! وأنا أمارس هذه المهنة منذ سبعة شهور!

أمور كثيرة، كثيرة، مرت منذ وصلت باريس!

أبتسم طويلاً، وأنا أستعرضها في مخيلتي.. هل أسوق إليك بضها الآن؟ لم لا! أمامي ساعتان قبل أن نصل الشاطئ.. وما أظن أحداً، من هؤلاء الركاب المساكين، سيقلق خلوتي معك قبل ذلك الحين..

ما أبعد العام الماضي !

بأي شيء أبدأ؟! أبالقطار السريع الذي توقف في باريس، في محطة بدت لي هائلة السعة، مرعبة؟! هل أحدثك عن الرعشة التي انتابتني، وأنا أطأ أرض الرصيف؟! أسير، حاملاً حقيبتي الوحيدة، أنظر، وأتلفت حولي، غير مصدقٍ، أردد لنفسي.. "أنا في باريس"! "أنا في باريس"! لا كأنه حلم تحقق، بل كأنني تركت الحقيقة والواقع لغيري من الناس.. كأنما نَمَت لعالم أحلامي جذور واقعية، غريبة!

أنت.. حين تقولين "باريس"، يتبادر إلى ذهنك تصور مجمل عن المدينة، وهو محصلة خيالك عنها.. كذلك هو حالي اليوم، وأنا على ظهر هذا المركب، فأنا، حين أفكر بها، بعد أن عرفتها، أرى في مخيلتي أماكن معينة منها.. أحياء بكاملها أو مناطق متفرقة، أو لربما صورة كاملة عنها! أما في ذلك اليوم، أول يوم وطأت فيه قدماي أرضها القاسية، فلقد كنت إنساناً وحيداً، يسير على أرصفة لم يألفها، سيان عنده، أن يتجه ذات اليمين، أو ذات اليسار! إنسان غريب.. لا يعرف وسط المدينة، من ضواحيها! لا يبحث عن أحد فيها! ينظر حوله، فلا يرى سوى نوافذ، وجدران، وواجهات محلات تجارية متشابهة.. عشراتها! مئاتها! بل ألوفها، لو تابع السير!!

كانت لباريس في ذهني، صورة، هي محصلة جميع ما كنت قد قرأته عن أخبارها في الأدب، مضافاً إلى ذلك، ما رأيته عنها على شاشات السينما! صور، وتخيلات، لا حصر لها! ومن هذه التخيلات، كانت باريس "بلزاك"، أقربها إلى نفسي.. أتمنى أن تكون معالمها قد قاومت فعل الحضارة، والزمان!

أين تلك الصورة، مما رأيته ذلك اليوم!؟ طارت من مخيلتي، في ثوان، جميع تصوراتي المسبقة! ورحت أستوعب، في بطءٍ عنيدٍ، ودون فهم، ما شرح لي، فيما بعد، عما بدله نابليون الثالث، من معالم المدينة، على يديّ "البارون هوسمان". فهذه الشوارع العريضة، الأنيقة، النظيفة، المتشابهة! هذه الصفوف اللامتناهية، من الأبنية المتراصة، المتشابهة، المتتابعة، بطبقاتها الخمس الراتبة! وقرميدها الرمادي، الداكن! أهذه هي باريس؟! ألهذا المصير الحديث، آلت قبلة أحلامي؟!

وحتى هذه! لم تكن الصورة الواقعية لها تماماً! فهي الصورة الشمولية للناظر إلى شوارعها برمتها! صورة الناظر إلى جميع أبنيتها، مرة واحدة بدءاً من أدوارها الأولى، وما فوق! والواقع، مخالف لذلك! فالسائر في شوارع باريس، لا يرى بمخيلته.. بل بعينيه! ينظر أمامه.. وليس إلى فوق! يندر أن يعلو بناظريه، فوق مستوى الإسفلت والجدران، ورؤوس البشر!

لم أر في ذلك اليوم سوى وجوهٍ تمرّ بي، دون أن تراني! ألوف المخلوقات، كأنها في سباق! تسير في اتجاهات متعاكسة! سيل لا ينقطع من المخلوقات، دائماً على عجلة من أمرها! سيل يدخل جوف الأرض، عبر نفق "المترو" يبتلعه، من جهة، ليلفظه بعد مئات الأمتار من جهة أخرى! سيل يدخل الأرض! سيل يخرج منها! وسيول تتماوج في اتجاهات فرعيه متعاكسة، فوق الأرصفة! كل هذا، على طرفي شارع، بدت تميد تحت خضم لا ينقطع من سيل آخر للسيارات!! مدّ، يتهدّر فوق الطرقات العريضة، يتوقف، كل بضع مئات من الأمتار، فيسمح لسيل البشر أن يخترقه، ثم يندفع في هديره المكبوت من جديد!!

سرت مع السيل حتى أدركني التعب..

لم أدر إلا والظلام قد حطّ، لتتلألأ مصابيح الشوارع، وتشع أنوار واجهات المحلات.. فجلست في أحد المقاهي المتناثرة على الأرصفة، أنظر طويلاً، ذات اليمين وذات اليسار.. أحتسي قهوة، مائعة المذاق، ذكرتني بأنني جائع، لم أذق طعاماً منذ الصباح.. وأن عليّ أن أتدبر أمر مبيتي، قبل حلول الليل!

تحسست نقودي، فوجدتها مكانها..

ترى أين الحي اللاتيني؟

هل كنت قريباً منه، أم بعيداً؟ خواطر عديدة توالت على ذهني، حتى قررت في النهاية أن أستقل أول عربة أجرة، إلى ذلك الحي، علّني أتدبّر أموري من هناك..

لم أكن أعلم عن الحي اللاتيني شيئاً سوى أنه مركز تجمع الطلاب، وأن جامعة "السوربون" تقع فيه، أو بقربه..

أوقفت عربة أجرة، ورحت فيها مع سيل السيارات، أقطع المسافات، نحو "السوربون"، أتابع تلفتي، ألتهم بناظري جميع ما أراه.. أعجب لما أرى، وأردد لنفسي دهشة، وأسفاً.. "أهذه هي باريس"؟} 

(ص57-62)

{تتسابق الكلمات على شفتي.. فلا أدري أأحدثك عن ضربات قلبي، وأنا أقترب من "المعهد الموسيقي" لأول مرة؟! أم عن الرهبة، والسرور الجامحين اللذين اعترياني وأنا أسير في أروقة "معهد الفنون الجميلة"، وبين تماثيله!؟

لن أنسى، ما حييت.. ضربات قلبي تلك، وأنا أقترب من باب المعهد، لن أنسى كيف غصّت حنجرتي، تأثراً.. وأنا أحقق قَََسَمي فأرفع ذراعيّ، وألامس براحتيّ، كلتيهما، بابه الخشبي الضخم!

كنت في رفقة زميليّ.."غونثر، و"جون".. وكانا قد استغربا سبب توجهي نحو المعهد، مؤكدين، مصريّن على أنه مغلق في تلك الساعة المتأخرة من الليل!

وقفا ينظران إلي في صمت.. مشدوهين! وكنت قد مكثت برهة، لاصقاً بذلك الباب، ورأسي إلى الأرض، بين ذراعيّ! إلى أن أصاب كتفيّ خدر، فتركته، وقفلنا راجعين..

قال لي "غونثر" في هدوء..

- أظنك ستقصد باب "معهد الفنون الجميلة" الآن؟

تبسمت في صمت.. وما كان انفعالي قد فارقني بعد، فتابع.. يبتسم لي هو الآخر..

- يا لكم من عاطفيين.. يا معشر الروس!

*    *    *

أتعجبين هدباء، أن أكون قد حافظت على هويتي الجديدة، في باريس؟! لا، أنا لا أناقض نفسي! إنه أقرب ما وجدت من حلّ إلى ما أنشده اليوم من اللاهوية! وإن سألت، فسأزيدك عجباً.. فأنا اليوم أدعى "مكسيم"! وغداً.. من يدري؟ سأصبح.."إيفان" أو "أسفالد" أو "غونثر"! إنها بدعة، تروقني! ففي الغرب، "مكسيم" اسم عارٍ، على نحوٍ ما، من الصفات المسبقة..لا خلفية له، ولا تبعية! أب روسي، وأم فرنسية!! خليط خاص به، ولا عيوب، على المرء أن يجبر على الخجل منها، أينما ذهب!

*    *    *

كان قد فاتني المثول لامتحانات القبول، في كل من معهد "الفنون الجميلة"، و"المعهد الوطني للموسيقى"..فما إن أتاح لي عملي الجديد، فرصة مراجعة المسؤولين عن شؤون الطلاب الأجانب، في المعهدين، كليهما، حتى أدركت أنني  في الواقع لم أخسر شيئاً، بسبب لك التأخير..فامتحانات القبول قاسية، تفوق ما كنت قد هيأت نفسي له من صعوبة! لذلك، لجأت إلى أستاذ مختص، في كل من المعهدين، ليمكنني مما فاتني من تحضير.. وأنا، إلى هذا اليوم، أي رغم عملي على هذا المركب في بحر"المانش"، أتابع الدراسة الخاصة معهما! آملاً، في شهر تشرين المقبل، ألا يكون أمامي من عائق يحول دون قبولي في المعهدين، كليهما!

*    *    *

ما أغلى تكاليف المعيشة، في باريس.. وما أصعب على من كان مثلي من الطلاب أن يكون، في الوقت ذاته، أباً لنفسه، يكسب الرزق، وأمّاً، تهتم لشؤونه اليومية وترعاه! ثم، إن الدراسة الخاصة للموسيقى، باهظة التكاليف، وللرسم أدوات، ومتطلبات، لا تنتهي! وأجري من المطبعة كان متواضعاً.. سرعان ما وجدت أنني مجبر، على البحث إما عن مورد إضافي، وإما على مسخ دراستي، والإقلال من عدد وجبات الطعام!

كان ذلك منذ سبعة شهور.. وكنت في أوج ضائقتي.. أشرح ﻠ "غونثر" ما أعانيه، وإذا هو يسألني..

- هل تحب البحر؟

كنا في طريقنا إلى اﻟ "الكوخ الكبير" للتمرين.. فظننت أنه لا يسمع ما كنت أشرح له عن وضعي، وإنما سألني عن البحر، فيما يختص الرسم منه، فأجبت..

- رسمت البحر مرتين.. لا أظن أنني سأختص يوماً في رسمه..

ضحك لجوابي..

- أسألك عن حياة البحر! أتحب أن تعمل في البحر؟ بحّاراً؟

تعجّبت..

- وكيف يمكنني ذلك؟! لولا دراستي.. من يدري؟ لعل تلك الحياة تروقني! لكن.. أين البحر من باريس؟ ومما نحن فيه؟

- بل إنه في مستطاعك.. ألست تبحث عن مورد إضافي؟ لم لا تعمل يومين، أو ثلاثة، في بحر "المانش"، أيام العطل الأسبوعية مثلاً.. ثم تعود إلى قراءتك، في المطبعة، ودراستك، بقية أيام الأسبوع؟

- ليت ذلك ممكن! وهل الأجر كبير؟

- إن أجر الساعة الواحدة في البحر يساوي أربعة أضعاف ما تتقاضاه من ساعة العمل في المطبعة! لئن وافقت.. فإن لي صديقاً يعمل على سفينة ركاب.. إني واثق أن في إمكانه أن يرشدك إلى كل ما تشاء!

*    *    *

هدبـاء...

قلت لك إن ذلك كان منذ سبعة شهور.. ولم تمض أيام، على ذلك الحديث، حتى كنت في مدينة "دييب"، في شمال فرنسا، أبحر عنها، مرتين في الأسبوع، أو ثلاثاً، إلى "نيو هافن".. بذلك، أعمل يومين أو ثلاثة، في الأسبوع، أنام في فرنسا، أو في انكلترا، حسب ما تسمح به الأنواء.. أستقل القطار، في السادسة صباحاً، من مطلع كل أسبوع.. أكمل نومي، في القطار، على وقع عجلات الحديد، لأكون في الثامنة والنصف، في باريس!!

أيّ دفع هذا الذي يسيرني، هدباء؟! أحس كأن محرّكاً قد أفلتت قيادته في نفسي! أعدو، وأعدو، كأني لا أعرف غير الركض واللهاث! أحب تعبي! وأطرب لشقائي! أين حريّتي التي جئت أنشدها في باريس؟! أين تمرّدي، بين قيودٍ وأصفاد، أراني كبّلت بها نفسي.. تعوّدتها، حتى باتت لكأنها ولدت معي!؟

هدبـاء..

أصبحت اليوم عبداً للدراسة.. عبداً لأصولها! لا يفارقني الكتاب، أينما كنت، ألتهم السطور، حيثما توقفت! أعيش نهماً غريباً، أحاول إشباعه، فلا يزداد إلا تأججاً وتسعراً! أتلذذ بأحاجي العلوم، والفلسفة، ولا ينشيني غير فك مبهماتها!!

تعلمين تفاعل الأدب، بالفلسفة.. آه حبي.. ليتني أستطيع شرح لقاء الفلسفة والأدب، بالفنون والموسيقى! إنها عوالم لم أحلم بها يوماً، تتكشف اليوم أمامي، برؤى مذهلة الوضوح! ثم هل جال في ذهنك يوماً، ماذا يمكن لعلم النفس أن يكشف إن هو خاض في أي من هذه الموضوعات؟!

ما أجمل دراستي هدباء! وما أقسى ظروفها!

دوامة، سقطت في عينها! إعصار يلفّني.. أطير فيه، بين الموسيقى والرسم.. أهرع، لاهثاً، عائداً إلى عملي، فأغوص في قراءات لا آخر لها!! هل أبدو كمن يشكو؟!

معاذ الله أن أتذمّر! وهذا بالذات ما كنت أتوق إليه.. وأصبو إلى تحقيقه!

جلّ ما كنت أخافه، هو ألا أتمكن من الجمع بين دراستيّ الموسيقى، والرسم! وإن توفر لي ذلك.. كنت أهاب أن أُقصى كلياً عن ميدان المطالعة الفلسفية، والأدبية! أما أن أجد نفسي، في باريس.. وقد تيسرت لي دراسة الرسم، والموسيقى، وفي أعرق معهدين لهذين المجالين في العالم.. ثم أجدني، أكسب معيشتي، عن طريق المطالعة، التي أحب!فذلك هو حلمي الأكبر!

ثقي هدباء، أني أرى نفسي تائهاً في حلم أخاف انقطاعه!

لماذا أشقى إذن؟ ليتني أستطيع شرح ذلك! يضنيني ما أبذله من جهد لا متناه للجمع بين ما أقوم به.. ويشقيني، وأنا أحقق هذا الحلم، أنني بت على طريق، وأن تخبّطتُ سنين طوالاً كي أهتدي إلى مشارفها، إلا أنها طريق.. ولا بد لكل طريق من نهاية!

صحيح أني لمّا أكد أخطو فيها.. وأن الرحلة لم تزل طويلة شاقة.. إلا أنه زمن.. لن يلبث أن ينقضي.. فتنتهي الطريق.. ويتبدد الحلم!

أنا لم أشعر في يوم من الأيام أن الدراسة "مرحلة" علي أن أتخطاها، لأقفز إلى عالم العمل! "وسيلة"، في سبيل ما هو أهم! يسألني بعض الزملاء عن مشاريعي، لما بعد الدراسة.. فأتردد، وأتلعثم! يسألونني عن فرص العمل التي في بلادي، لا يعلمون أين بلادي، فأهزأ من نفسي، وأحار فيما أجيب! ترى أين هي بلادي؟ آه لو أعلم!

لم أسأل نفسي يوماً ما "نفع" دراسة الرسم، أوالتأليف الموسيقي! أوإذا كان وراء مزاولتهما من غاية! أنا لا أذكر من أحلام طفولتي سوى تلك الساعات التي كنت أرى فيها أمي تعزف على "البيانو".. فأحدّق طويلاً في أصابع يديها.. وأحلم في اليوم الذي سأمكن أصابعي أنا من أن تطير، عصافير مسحورة، على تلك الآلة.. فتنطق أوتارها بمشاعر كانت نفسي تتفجّر بها!

ها أنا ذا أحقق ذلك الحلم! ها أنا ذا غارق، ثمل فيه! هل هذه حقاً سنو دراسة.. لا بد وأن تنقضي؟! ليتها تستمرّ.. إلى الأبد!!

*    *    *

ها هي ذي شواطئ انكلترا تبدو من بعيد.. صخورها البيضاء ترتفع كالحائط الشاهق كلما اقتربنا منها.. سرعان ما سينهض المسافرون، يتهيؤون لمغادرة المركب.. وسيبدأ عملي من جديد..

سأتركك الآن... إلى لقاء قريب، حبّي.. سأعود إليك، في هذه الرسالة، ونحن في طريق العودة إلى فرنسا.. إلى اللقاء...

فراس}

 

 

الفصل الرابع

(ص76-79)

{يندر ألا يتعود الطلاب، في باريس، التردد على مقاهي الحي اللاتيني، يتنقلون في مطلع كل عام، كل منهم، ما يلائم ذوقه وميوله الفنية، أو الفكرية، أو الاجتماعية، أو حتى الجنسية! فلا يحل برد الشتاء القارس، حيث يستحيل التمشي والتسكع في الطرقات، وعلى ضفاف نهر "السين"، إلا وتتبنى كل زمرة، أو عدة جماعات، مقهاها الخاص.. تكاد لا ترتاد سواه! تختصّ زوايا معينة منه، أو مناضد متخيرة منها.. فلا تركن إلا إليها، ويأتي المبكرون منهم، فيحتجزون مقاعد، تبقى بقية معظمها شاغرة، لا يحاول التجرؤ عليها أحد من الغرباء، رغم اكتظاظ هذه المقاهي بالرواد، حتى تصل سائر أفراد كل ثلة، في أوقاتها المختلفة، فيحتل كل مكانه المألوف، في تعارف، ضمني، لا يلبث أن يصبح تقليداً يدوم حتى حلول العطل السنوية الكبرى!

لعل موقع مقهى "الفلور" الخاص، في شارع "السان جيرمان"، وبُعد هذا الشارع النسبي، عن مركز تحشدات الطلاب، في شارع "السان ميشيل" و"السوربون"، أعطت مقهى "الفلور"، وشارع "السان جيرمان"، طابعهما الخاص المميز.. أضف إلى ذلك، مسحة القرن السادس عشر، عبر تلك الكنيسة القديمة الوقور،المطلة على مقهى "الدوماغو"، المحاذي ﻠﻟ "الفلور"، كل هذه، عوامل، جعلت من حي "السان جيرمان" ومقاهيه، خلايا.. يجتمع فيها معظم ثوريي الفكر في باريس ما بعد الحرب، فأصبحت مراكز، لرواد الفلسفة الوجودية ومخابر كان المتطفلون من أنحاء العالم يأتونها لمشاهدة مدى تأثير هذه التيارات الفكرية الجديدة في حياة من يعتنقونها ويعيشونها، من فنانين أو مغامرين أو مرتزقة!

وفي شارع "السان جيرمان" نفسه، يتفرد كل مقهى من هذه المقاهي بطابعه المميز، ومستواه الخاص..

فالحرب أسقطت كثيرأً من تيجان مقاهي العشرينات الشهيرة.. فاشرأب "الفلور"، و"الدوماغو"، مثلاً، لاحتواء شخصيات الأدب والفكر اللامعين، من مقهى "السيليكت"، في منطقة "المونبارناس"، حيث كان يتردد أمثال "أراغون" و"مالرو" و" الدادائيين" ثم "السورياليين".. من الفرنسيين، ومن الأجانب، "هيمنغواي" و"جويس" و"فولكنر" و"ريلكة"، فنبشت "الفلور" في أمجاد تاريخها القديم.. ذكريات روادها، من أمثال "رامبو"، و"فيرلين"، مستقطبة بذلك "كوكتو"، ومن دار في فلكه من سينمائيين وفنانين.. ثم كثيرين ممن أصبحوا فيما بعد، نجوم المسرح والباليه، والسينما.. أما مقهى "البيرغولا" بما كان له من أصول إسبانية، فبدل أن يجمع مريدي "بيكاسو" و"دالي" و"ميرو"، كما كان متوقعاً أن يفعل.. تلقف كتّاباً مثل "جان جينيه" و"سارتر".. وغيرهم، إلى جانب عدد وفير من صغار المسرحيين والشعراء، يأتونه آخر الليل، لإشباع ميولهم الجنسية! أما الفنانون، من رسامين، ونحاتين، فبعد أن تركوا قمة "مونمارتر" و "مونبارناس" للسياح، لجؤوا إلى زوايا ومقاهي اﻟ "رو دي سين" الصغيرة والمنعزلة.. إذا ما خرجوا إلى السان جيرمان" لا يستطيعون الجلوس سوى في "المابيون" القديم، حيث كانت ثلتنا قد اعتادت أن تلتقي منذ ساعات المساء الأولى في كل يوم!

*    *    *

أحار في وصف ما كان يجري بيننا أثناء هذه اللقاءات!

أكنا نجتمع لنسمر ونتلهّى؟ أم كان "المابيون" حلبة نزال لنا، لا نلتقي فيه سوى لنخرج ويدمي بعضنا بعضاً؟ أكنّا نأتي طواعية؟ تجذبنا حاجة طبيعية لتبادل الدفء الإنساني؟ أم كنا نترقب ما بين السادسة والسابعة من كل مساء.. يتمنى كل منا لو أن لديه من الاختيارات ما هو أفضل وأجدى من هذا الصراع اليومي، نتقدم منه وجلين..نقترب من مقاعدنا، متحفزين.. يخفق قلب كل منا لأنه سيجلس إزاء هذه، من الفتيات، أو ذاك من الأصدقاء.. يتمنى لو أن هذا، أو تلك، لن تأتي.. يتمنى لو أنه ينفرد لحظة بمن يميل إليها.. فيخلو له المجال، لتبادل نظرة أو لمسة ذات معنى خاص، علّها تفصح بعض الشيء عما كان كل منا يخفيه من عواطف لا يجرؤ على الإفصاح عنها.. والزمن، كان زمن عقل، وإرادة، وفلسفة.. والعاطفة، كانت مخلفات رومانسية قرن مضى، يلقّب من يضعف منا، وتظهر من عينيه ومضة شوق، باﻟ "الوردة الزرقاء".. فيصبح، خلال لحظات، محطّ تندّر وسخرية الآخرين!! يكيل له السخرية، حتى ذلك الطرف الآخر.. ذلك المقصود بالعاطفة.. يهزأ منه، بينما يودّ في سرّه لو يبادله نظرة الحب، بنظرات!

أكان ذلك قانون كل الصداقات الجماعية؟ أم قانون ثلتنا نحن، ومجموع أعمارنا الوسطي لم يزد عن العشرين؟!

لم يكن بيننا من يجرؤ على اختصاص آخر بالحب أو المودة الخاصة! حتى "جينيت"، ورغم اعترافها العابر لي، في داري خلال لقائنا الأول، كانت تتحاشى أن تظهر الحب ﻠ "مكسيم" في الحي اللاتيني!

كنت غريباً عن عالم الحي، في أول لقاء لنا، لذلك سهل عليها الإقرار بحبها ﻟ "مكسيم" أمامي.. فما أن أصبحت واحداً من ثلتهم، فيما بعد، حتى عادت تنكر حبها في غضب أمام كل من يسائلها عن ذلك، وتعيد السائل إلى حدوده في قسوة ناهرة، محذرة إياه، التدخل بما لا يعنيه!

لم يكن هناك ما يجبر أياً منا على هذا التصرف أو ذاك! كنا أحراراً، ليس ما يمنعنا، لو شئنا، من التدلّه في حب من نريد.. وما من دوافع لدينا على لقاءاتنا الليلية تلك، سوى الرغبة الشخصية لكل منا! لم يكن هنالك ما يحول ، بين أي زوجين منا، دون قضاء الليل في سرير واحد، لو طاب لهما ذلك، بل كانت هذه هي القاعدة السائدة، شريطة ألا ينعكس وفاقهما الجنسي المؤقت، على تصرفاتهما اليومية! كأنّ كلاً منا قد وقّع عقداً جماعياً، خفياً، لا يشترط فيه على نفسه أن يبتر العواطف، أو يقتلعها من نفسه، ففي ذلك "بيوريتانيه" جامدة، و"أنغلوساكسونية"، لا تليق بحيّنا "اللاتيني" الجذور! بل يشترط في ذلك العقد، التعامي عن هذه العواطف.. تصعيدها..تجاه نفسه، ونكرانها! حتى أمام المحبوب نفسه! ثم الهزء من تلك العاطفة، إذا لزم الأمر، أمام الآخرين!

وفي كل ذلك.. لم يكن لنا، من سلاح في مقارعاتنا ومنازلاتنا هذه، سوى المطالعة والثقافة!

وفي هذا الصراع تفقد الفلسفة قيمتها الذاتية، وتغدو نظرياتها معتركاً لنا نلتحم فيه التحاماً، تذكي العواطف أواره، وتُشهَر فيه الأسلحة الماضية من أسماء الفلاسفة وأقوالهم.. وغاية الغايات في هذه الخصومة الجدلية، أن يجيد الخصم استخدام السلاح، لا أن يظهر على قرينه بالحجة المقنعة!}

 

 

الفصل الخامس

(ص93-99)

{ملهى "التابو"، نفق ذو سقف على شكل قوس مكسورة، بني تحت أحد مباني الحي اللاتيني القديمة، وظلّ مدة عشرات السنين، مستودعاً، لا تصلح برودته لغير حفظ النبيذ، حتى تقرراستثماره، بعد الحرب، كملهى ليلي للوجوديين، ولم تكن فكرة استغلال مثل هذه الأمكنة القديمة قد طرأت على بال أحد!

لو كنت أكتب عن "التابو"، أثناء سنيّ مجده، لرأيت فيه كعبة الوجودية، ولرأيت في الوجودية، تلك.. محط أنظار الشباب، ومحراب ثورتهم الفكرية، ثم أمل الفنلنين، والشعراء الجدد، في الخروج من دائرة الرتابة والتقليدية، التي كانت "باريس" تسعى للخلاص منها بعد الحرب! أما اليوم، وقد شاعت فكرة استغلال مثل هذا الكهف، للتسلية الليلية.. حتى اكتظت بأمثاله باريس، ومن بعدها، معظم عواصم العالم، فلم يعد لوصف "التابو"، أول هذه الكهوف، من معنى!

يحار المهندسون اليوم كيف يزينون مثل هذه الكهوف، لاعطائها اللمسة العتيقة الأصيلة.. تراهم يقومون بنفس الاكتشافات، يكررونها حتى صار الإنسان إذا دخل أحدها، ظنّ نفسه، في أحد أقبية القلاع القديمة.. أو في أحد "الصالونات" الحديثة الفخمة!

لعل سرّ "التابو"، الذي لم يعرف كيف يقلده أحد، كان في انعدام الزينة منه كلياً، لا في البساطة الساذجة.. ولا في الإكثار من الزينة المتكلفة! ففي أيام "التابو" الأولى، تُركتْ جدرانه الحجرية على ماعمّرها البناء، وعلى طول طرفي تلك الجدران، مدّ صفان من المقاعد الخشبية البسيطة، يقودان النظر إلى نهاية الكهف الضيقة، حيث رفعت منصة متهالكة صغيرة، كان يتناوب الوقوف عليها فنانون، يقومون بأداء ما عندهم، لا غرف خاصة لهم، يتهيؤون فيها قبل الخروج إلى الجمهور، كما هي العادة اليوم، بل، يخرجون من بين صفوف المتفرجين.. يتركون رفاقهم، برهة تأدية أدوارهم، ليعودوا إلى الجلوس معهم، بقية السهرة، يشاهدون من يليهم من فنانين!

دخلنا "التابو"، تلك الليلة، نبحث في عتمته عن "جينيت"، و"باتريس"، وإذا بهما مع بقية أفراد الثلة، يومئون لنا أن نسرع إلى حيث جلسوا! كانوا قد بدؤوا شرب النبيذ، يضحكون، ويتسامرون، إلا "باتريس"، فقد جلس واجماً.. يبتسم.. بين الفينة والأخرى.. يتفحّص من حوله، في صمت، ثم يعود إلى وجومه..

همست "جينيت" في أذن "مكسيم"..

-.. إنه على هذه الحال منذ الصباح، منذ أن ذهبت "آني" مع "بيبيتا"! ولقد بحث "جون" عنهما.. فلم يجد لهما من أثر؟

-.. وهل علق على ما شاهده من وضعنا في غرفتك؟

-.. لا! لكن وجومه زاد حين وصلنا هنا.. ولم يجد "آني"! لا أحد، حتى هنا، يعرف أين اختفت "بيبيتا"!

أُضيء النور الكاشف.. وخرج أحد الشبان إلى المنصة..

أنزل قبعة "البيريه" عن شعره الأشعث، بكلتا يديه، فتساقطت خصلات على جبينه المقطّب.. رفعها عن عينيه، وقال..

- سألقي عليكم.. شعراً.. عن الحب..

وتكلم عن الموت، والحرب، والنار، والدم!

كان الجمهور ينظر إليه متعاطفاً، مشفقاً على ارتباكه، وما ندّ عن جبينه من عرق.. فما أنهى "قصيدته" حتى علا التصفيق..

هزّ الشاب رأيه، متأسفاً لحماسة الجمهور، وقال..

-.. كنت على وشك أن ألقي عليكم قصيدة أخرى! أما الآن، فلا! لو أنكم فهمتم.. قصيدتي الأولى.. لبكيتم، ولما صفقتم!

ونزل عن المنصة.. وعاد  إلى مائدته متأثراً، حزيناً.. فعلا تصفيق الجمهور، أكثر من المرة الأولى!!

وتتالى العرض.. يتخلله غناء، وإيماء، وهزل، ومأساة.. ولا من "بيبيتا"، التي جئنا نسمع غناءها!

رحت أبحث عنها بين الحاضرين، بعيني، آملاً أن تكون قد وصلت.. فلم أجدها.. عُدنا إلى العرض، ثم إلى البحث من جديد! يفتش كل منا بدوره عنها، يودّ ألا ينتبه الآخرون إلى ما يساوره من قلق.. دون جدوى.. حتى جاء صاحب "التابو" نفسه.. يبدي قلقه لغيابها، ويسائل "جينيت" عنها..

أجابت هذه، دون اكتراث..

-.. "بيبيتا"؟ لم أرها منذ الظهيرة!

- لكن دورها قد اقترب! إن عليها أن تغني قبل "جولييت" كما تعلمون! وإلا بدا للجمهور أنها تتقدم عليها في المكانة!

وأردف في خبث، طغى على قلقه..

-.. وهذا ما لا تقبله صديقتكم، "ملكة النحل" الشهيرة!!

ونظر إلى حيث كانت تجلس "جولييت كريكو"، في زيها الأسود الشهير، شعرها يتهدل على جبينها وكتفيها! يحيط بها عدد من الشبان، في مثل سنها.. يحاولون الظهور على مثل مستواها الفني، لا سلاح لهم في ذلك سوى مظهرهم الغريب، ونظراتهم وحركاتهم المبتكرة!

وتتابع العرض..

غنى عدد من الفتيات، بمصاحبة ثلاثة عازفين، كانوا يجلسون قرب المنصة، أغاني من القرون الوسطى، أثار صفاء كلماتها وألحانها، في نفوسنا، حنيناً حزيناً، إلى حب لا نعرفه اليوم!

ثم قام من أدّى مقاطع من مسرحية "هملت".. ألقى فيها دور "أوليفيا".. في طريقة مذهلة.. وإذا بحبيبة "هملت"، التقليدية، العفيفة، التي يعرفها الجميع، تختفي، لتظهر مكانها "أوليفيا" أخرى، شبقة، يحرّقها صدود "هملت" عن سريرها، حتى أودى ذلك بها إلى الجنون والانتحار.. كل ذلك، دون أن يحيد الممثل قيد حرف واحد عن النص الأصلي!

قام زميل "لمارسيل مارسو" بدور إيحائي، يرسم فيه على الهواء، لوحات، أدهشنا أننا كنا نتتبع مهارة رسمه لها! نكتشف أصحابها من الفنانين، بأنفسنا.. فنصيح إعجاباً، تارة، ﻟ "ليوناردو" وتارة، ﻟ "غوغان"، "فان غوخ".."كندنسكي".. أو"بيكاسو".. حتى جاء دور "بيبيتا"، فلم يبد لها ولا ﻟ "آني" من أثر، فتوقف العرض بانتظار معجزة تعود بها فجأة!

جاءت الثانية عشرة والنصف.. والواحدة.. والواحدة والنصف، وما من إنسان يعرف أين اختفت نجمة السهرة الثانية.. أو يرشد عنها!

وقف صاحب الكهف، يعلن أسفه لتغيبها.. يكاد يقدّم "نجمة الحي اللاتيني الأولى.. "جولييت كريكو" فانتصب "باتريس" واقفاً! وصاح أمام الجميع!

- لا.. لا.. أرجوكم!

بدا ثملاً.. لكنه تقدّم من المنصة في ثبات، شاقاً طريقه عبر المقاعد المتراصّة.. ليقف أمام صاحب الكهف، تحت الأضواء، ويقول، وهو يرتعد ارتباكاً، في لهجة، يحاول أن تبدو مسرحية، هادئة..

- سيداتي، سادتي..

ثم انحنى إلى الأمام، ذراعاه إلى الوراء، يمثّل دور من يرفع قبعة وهمية، ويلفها في الهواء، كما كان يفعل أهل القرون الخالية.

قال.. ينشد ابتسامة على وجهه، وجبينه يتفصد عرقاً..

-.. لماذا لا تحل الضحية هذه الليلة.. محلّ الجلاد؟!

أدرك، من في الكهف، أن أمراً غريباً يجري عل المنصة! فشدّ انتباههم.. أطبق الصمت على الجميع!

وقف صاحب الكهف، متعجباً.. ثم فتح فاه ليقول شيئاً.. وإذا ﺒ "مكسيم".. يسبقه، فيصيح..

- برافو! "باتريس"! نود مشاهدة دور الضحية!

وصفق بكفّيه مدوياً، مومئاً إلى "جولييت كريكو".. بأن تحذو حذوه.. فتُسكت اعتراض صاحب الكهف..

صفقت هذه.. وصاحت..

- لم لا؟ لقد سئمنا الأدوار المدروسة.. أعطنا ما في قلبك! "باتريس"! ابتكر!

وإذا بجميع من في القاعة يشتركون في التصفيق، متحمسين لهذا التحدي المفاجئ.. ملؤهم العجب، وكأنهم قد انتهوا من مشاهدة عرض ناجح، لا كأنهم مقبلون عليه!

أمسكت قلبي بيدي!

كان "باتريس" قد طلب من الموسيقيين عزف مقطوعة إسبانية معروفة.. فأغرقني الخوف عليه من الارتباك في حرج، واضطربت وتوثبت، وسمعت ضربات قلبي تدوّي في رأسي، فيعلو صداها على صوت الموسيقى.. إلى أن هدأت المقدمة الموسيقية.. وإذا ﺒ "باتريس" الحييّ، "باتريس" الحائر، المتردد، يتمتم الكلمات الأولى لقصيدة "لوركا" الشهيرة.. رثاء "اغناسيو سانشيز" التي كتبها، إثر موت صديقه المصارع في حلبة الثيران..

-.. "في الخامسة من بعد الظهر"..

وسرعان ما علت نبرته.. وانتظم صوته..

وراح يصف في تلك القصيدة مقتل الصديق الحبيب، مصارع الثيران، يلقيها بصوت عميق متين.. يعيد المقاطع مرة، بعد مرة، يتهدّج صوته، إذا ما وصف دم الحبيب، تشربه الرمال.. وتحرقه شمس مدريد المحرقة!

ظننت أن في الأمر حيلة! توهمت أن "باتريس" قد تمرّن على أداء تلك القصيدة، لا أنه يرتجلها الآن! كدت أشك في عفوية كل ما جرى أمامي! حتى وصل صديقي، في أدائه إلى حيث كتب "لوركا"، في نهاية المقطع، صيحة "آي".. مديدة، وكان قارؤو الشعر يلقونها في لهجة متناغمة طويلة.. يحارون كيف يقلّدون اﻠ "آي" الموسيقية المأساوية التي تتردد في الغناء الإسباني، الملقب باﻠ "فلامنكو"..

فما إن وصل صديقي إلى تلك اﻠ "آي".. حتى أطلقها صرخة أليمة، مروعة! ممسكاً رأسه بيديه، يهزّه في عنف! يترنّح جسده.. حتى كاد يسقط على الأرض!!

أوقف الموسيقيون عزفهم دهشة لما سمعوا ورأوا!

لحظات.. وتمالك "باتريس" نفسه، بعدها، بصمت، ثم أومأ إليهم بأن يتابعوا العزف.. وبدأ المقطع الثاني، ثم الثالث.. وفي نهاية كل مقطع من هذه المقاطع، كان يعيد صرخة اﻠ "آي".. وكأنها تتدفق دماً من فمه! حتى أكمل المقطع الأخير.. فما كاد يصرخ اﻠ "آي" حتى تهدّج صوته بأسى حقيقي.. وسالت الدموع غزيرة من عينيه!!}

 

 

الفـصل السادس

(ص101-108)

{حبيبتي هدباء..

أبثك ما بي، وأنا لا أدري ما إذا كنت أودّ فعلاً أن تقرئيني!

ما إن أجلس إليك، حتى تنتابني أحاسيس أود لو أتركها طليقة، غير مكبّلة بقيود الكلام! أحاسيس إذا تداعت، تطورت ونفرت، فكيف ألحق بها وأعتقلها، وكيف أتصيدها من آفاق النفس، وأسجنها في سراديب اللغة!

كيف أحدثك عما يجتاح نفسي من "أعاصير".. وهل الحديث إلا كلمات؟ وما الكلمات إلا أطر واهية، هيهات أن تقوى على الإحاطة بالنسمات منها!! ثم، هل تنسين أنها أطر عربية، ابتدعتها الشمس، وصاغها سعير الرمال؟!

ماذا تعرف الصحراء عن سحر الضباب الذي يلفني اليوم في باريس؟ وكيف أُحدّث نور الشرق الساطع عن خفايا درجات الظلال الرماديّ’؟! أو أقلّب معك اليقين.. والمطلق، عندي، غاب في نفسي، بات تابعاً لدرجات وضوح الرؤى؟!

إن تقرئي كلماتي هذه يوماً، فًتَحْتَ زرقة سماء بلادنا الصافية، أو مختبئة من رذاذ سحابة تائهة! كيف أحدّثك عن هواجس عالم قد يعيش شهوراً لا يرى الشمس فيها! أو أسابيع، متواصلة، تحت رذاذٍ دائم!!

هدبـاء..

النور هنا، زرقة رمادية، باهتة.. ويقين الشرق، وشمسها، ليسا سوى إحدى وجهات اليقين؟!

هدباء.. هدباء!

أكاد أشدّك معي في رحلة مجهدة.. أكاد أغوص بك في أغوار لا شأن لك بها.. لكنّي بتّ موقناً أنك لن تقرئي هذه الرسالة.. فلا بأس عندي في أن أسامر طيفك، وهو كل ما تبقى لي من ربيع عاطفة لم أعد أدري كيف تبددت، وغدوت عاجزاً عن التشبث برمالها!

من الذي يسطّر لك هذه الرسالة، في هذه اللحظة؟ ولو قدّر لك أن تقرئيها، في يوم من الأيام.. فماذا ستفهمين منها؟! رسالتي هذه ورقة بيضاء أمامك.. عليها خطوط سوداء، متشابكة، ملتوية.. "كلمات".. ورموز واهنة.. ترمي إلى حصر ما لا حصر له من هواجس وآمال! رموز لانفعالات تسابق آفاقاً، لا سبيل إلى حصرها، تجمع الكون، وما فيه، في رعشة!

هذا في كفة.. وفي الكفة الثانية سؤال، أبعد من ذلك، وأدهى!

من الذي يسطّر لك هذه الرسالة؟ من الذي يصوغ الرموز وينحت الكلمات؟ أنا؟ من هو هذا "الأنا"؟ في أي "مرحلة" أقع، في هذه اللحظة، من "مدى" نفسي؟

وهذا "الأنا" الذي يكلمك في هذه اللحظة.. أهو ما "أبحث" عنه في نفسي؟ أهو مصدر الينبوع؟ أولى قطرات مائه الشفافة؟ أهو "أصل" ما يمكن أن ألقبه بالأنا الأولى، بلا زيف؟ أم هو سيل الأنا، بما يجرّه كل سيلٍ، من رواسب وحصى؟!

لا ريب في أنها مشكلة كل من يتكلم، ومعضلة كل من حاول الإيضاح عن مشاعره بالكلمات!

لكن ما تجهلينه، حبي، هو أن لصيغة الكلام، من التأثير على ماهيّة الشعور، ما للشعور، من قدرة على خلق الكلام! ولغتنا، هدباء، لا تسمح لنا بالتعبير عمّا "فوق الأنا"! لا تعرف سوى الصور العليا التي لنا عن أنفسنا!

إن علم تركيب اللغة عندنا يشمل عالماً فسيحاً من الأطر الفوقية، أطر لا تقبل، بل لا تصلح لأن تحيط بغير صور فوقية.. لا تقبل، غيرها، من مدى لذاتها!

لماذا أحدّثك عن هذه الأمور؟ ألكي أثقل رأسك بحديث قد يبدو لبعض الناس  بعيداًً عن الحياة اليومية؟

ما إن بدأت أسطر لك هذه الرسالة، وقد مضى وقت طويل على مزاولتي للعربية، حتى شعرت بثقلٍ مُرْزحٍ، ما كنت أتصور أنه جاثم على كتفي منذ أن تعلمت الكلام والكتابة!

تسألين، أي رزحٍ؟

إنه رزح عجزي عن التحدث إليك، في البساطة، والطلاقة، التي أحدّث بها رفاقي، ومن حولي من أناس في باريس؟ أقول، التحدث، ولست أعني، الكتابة!

إن التحدث أمر، والكتابة أمر آخر!

ألست أكلمك بالعامية، حين ألقاك؟ وأكتب لك الآن بالفصحى؟ إني أعيش، في باريس، جنة لن تعرفيها في يوم من الأيام! ولن يعرفها عالمنا العربي، قبل مئات السنين! أنها نعمة من يستطيع أن يكلّم جاره، باللغة نفسها التي يسمع بها محاضرة فلسفية، في "السوربون"! إنها "أعجوبة"، أن يطلب الجالس في المطعم، طعامه، من النُدُل، بنفس اللغة التي يسمع بها رئيس جمهورية بلاده، يلقي خطاباً على المذياع! إنها معجزة.. أن يحدّث الفتى فتاته، باللغة التي يبادلها بها الحب، فيستعمل، في السرير، دون تكلّف، المفردات التي يتداولها الأدباء والشعراء، في أرقى أعمالهم!

ها أنا ذا أكتب إليك، بلغةٍ ما تحدثنا بها قط! إنه "فوق الأنا"، عندي، يحدث "فوق الأنا" عندك! أجمع للوصول إليك، أطراً غريبة عن حياتي اليومية! هي أفكاري نفسها، لا تتبدى، في العربية، إلا من خلال هذه الأطر ذاتها!

أتدرين أني أضحك أحياناً عليها، وهي تتوضح في ذهني؟! كأنها ألبسة "كرنفال".. لحفلة تنكرية.. أمتعة "دون كيشوت"! وليس لي غيرها من وسيلة للكتابة! فيصبح لزاماً عليّ، كلما أردت الظهور أمامك ، ألا أبدو متدثّراً غيرها!! يا لي من "دون كيشوت" بائس!

هدباء،

ما إن أشرع في الكتابة إليك، حتى أراني، في قطار، يبتعد مسرعاً عنك! أعجز عن الكلام باللغة التي تفكرين بها.. فيزداد البون بيننا بعداً.. كأن قدراً ساخراً محتوماً قضى علينا بالتنافر! وإلا، فلماذا أجدني أقرب في التعبير والفهم، إلى أناس غرباء عني؟ إفرنسيين، لا أعرفهم.. فإذا احتدم النقاش، حتى ولو اختلفنا، أجدهم أسرع إلى فهمي منك.. أنت التي أحببت، ولا زلت أحبّ!

ها قد ألفت هنا الكتابة بالبساطة التي أحدث بها من حولي من إفرنسيين.. فما إن أعود إلى العربية، حتى أراني أبحث ذات اليمين، وذات اليسار، عن مفردات، فإذا ظفرت بها، نفضت غبار عشرات السنين عن بعضها!

قد أعثر، في بحثي هذا، على تحف يهون التعب للوصول إليها! وبعد استخدامها، ماذا يحلّ بها؟ تغوص في عالم النسيان.. تنتظر أن أمسك بالقلم مرة أخرى، علّني أحتاج إليها!

عالم التعبير، عندنا، مرتبط بمتحف الفصحى.. صرح أثريّ كبير، لا حاجة يومية لنا به.. متحف، نتلكأ أما أبوابه، خاشعين، وكأن من دون التمتع بأرجائه، بطاقة باهظة الثمن! فيتعثر المعنى في نفوسنا، وقد يختنق، أو يهرم ويفنى، قبل أن تفتح له الأبواب.. قبل أن تسنح له فرصة تنشّق الهواء.. وكيف له أن يظهر وينطق، في غير رسالة، أو مقال، أو كتاب؟!

أما هنا.. فالكلام والفكر وحدة رقراقة، في متناول الجميع! ليس عند الإفرنسي ما نعرفه نحن من انفصام بين ما يكتبه، وما يقال.. فهو يكتب ما يتكلم.. مفردات، جلاها التداول، فغدت مشرقة ساطعة، واضحة..

أنا لا أقول إن الجميع هنا على مستوى واحد من البلاغة، أو المقدرة على التعبير! فهنا، كما في العالم أجمع، لغة صالونات، ولغة رعاع.. لغة للعمال، ولغة للبورجوازيين! لغة للسياسيين.. وأخرى للبوهيميين! لكن بين هذه العوالم تفاوت في الغنى والصياغة، وليس في النوع! فوارق في مدى تمكن الفرد من لغته، وليس في مدى رحابة الحيّز اللغوي ذاته، ومقدرته على سدّ حاجاته اليومية والذهنية..

لن أشرح لك أكثر من ذلك.. ليتك تدخلين معي ذات ليلة مقهى اﻟ "مابيون" الذي ألفت ارتياده.. تجلسين إلى جانبي في إحدى زواياه.. ألفّك بذراعي، كما لم أفعل يوماً في دمشق.. فتسندين رأسك إلى كتفي ونغيب في صمت واع، ننظر إلى من حولنا، ونترقب وصول الأصدقاء!

عليك بالإصغاء لما يدور حولك، كي تدركي في لحظة معنى ما ذكرت.

أليس جميلاً أن يُسمع أي حوار، بين أي متسامرين بسيطين، بلغة "سارتر"؟ أتنصتين إلى هذا البوهيمي الأشعث الشعر؟ أليس حديثه صفحات من "كامو"؟! وغزله، مقاطع من "بودلير"؟

هل أتعبك حديثي؟ لا بأس! عذرك هدباء، إن كررت أو أطلت! لعلي أُجري في هذه الرسالة حواراً داخلياً، يُظهر مني تناقضات أحاول أن أمحو آثارها من نفسي!

إن "الحب"، في فرنسا، أمر يمارس في الفراش.. فلئن دعا الفتى، فتاته إلى "ممارسة الحب".. فهو يدعوها إلى ممارسة الجنس، أمر يحبه ويفخر بالقيام به، "يمارس الحب"، أي الجنس، وفي الوقت ذاته، يقول "أحبك" ويعني بذلك العاطفة.. إن الأمرين عنده متداخلان.. وهما في نفسه على مرتبة أخلاقية واحدة!

لكم يحزنني أن أرى البعد يزداد بيننا، كلما طال الحوار!

لماذا حرمتني قبلة، كم كنت تواقاً إليها قبل سفري!

لماذا يجلس أي فتى، إلى فتاته، في باريس.. يقبّلها، ولا يحمرّ وجهها خجلاً مما تفعل.. ولا يعيرهم أحد أي التفات؟ أما آن الوقت كي نضيف إلى حساباتنا، علاوة على ما نعلمه عن جذور القيود في مجتمعنا، أن القبلة هنا تظل "قبلة"، إذا ما طبّقت في الشارع، وفي بلادنا، تصبح "القبلة" المحترمة "بوسة" في الشارع، أي تسمية لأمرٍ سوقيّ مبتذل!! فتخجل الفتاة من "اقترافه" أمام الناس!

ثم هناك "قبلة طاهرة"، هذا أمر مسلَم به، لأنها في عالم الفصحى طبعاً! أما في عالم العامية، أي عالم التطبيق، فهل من "بوسة" "طاهرة"؟!

هل من إنسان في بلادنا، لا يزاول الجنس؟ فلماذا نَتَسَتر عليه بهذا الشكل الجبان؟ لماذا نخجل من حاسة طبيعية، كأنها برص، لا نجرؤ على التحدث عنه؟ مَن الذي وضع على رقابنا هذا النير؟ ولماذا نتابع النوء به؟! أليس تراثنا خلواً من هذه القيود؟!

لكم قلتِ لي فيما مضى، "إنما هو مجتمعنا.. إنها بيئتنا.. وتربيتنا".. الخ. كأن كلمة "مجتمع" و"بيئة" آلهة، تخافين، إن عصيتها، أن تطبق عليك فتوردك الموت!

أما عندنا.. فالويل لنا مما عندنا!!

نحن نعرّف الحب على أنه ميدان العواطف.. أما "ممارسة الحب".. فهو تعبير مترجم، قد يعني ممارسة الجنس، في عالم الفصحى.. ولو جئنا إلى الواقع.. لو عدنا إلى عالم التعابير العامية، الذي نعيش في كنفه، فهل من جملة صريحة، عامية، أستطيع أن أدعوك بها إلى ممارسة الجنس، دون أن تتمنّي لو تصفعينني على وجهي، لدى سماع مفرداتها؟! هل من صيغة عامية أستطيع أن أتفوه بها، وأنا أدعوك إلى ممارسة الجنس، دون أن تشعري أني أنتقص من احترامك؟

أفليس في كل هذا ما يدعو إلى العجب؟

أما آن بعد وقت التغيير؟ إذا تحدثنا عن العلم أو الثقافة، سارعتِ إلى القول، في بساطة.. "إننا أبناء مجتمع متخلف"، "علينا التصبر عليه، ومحاولة النهوض به".. وكأنك بهذا القول، تتميزين، تترفعين، على هذا التخلف! كيف لا تدركين أن التخلف ليس مرضاً يصيب عضواً واحداً من أعضاء المجتمع، يصيب "أحد فعالياته"، ويعفو عن الأخرى!

إن التخلف وضع شامل عام.. "سن حضارية"، لا يمكن للمجتمع فيها أن يجمع عدة أعمار! كيف تفهمين التخلف، وتتسامين عنه؟ أليس بواسطة فهمك وفكرك المتخلفين؟!

تعترفين أنك من بيئة متخلفة، إذا ما احتدم النقاش بيننا حول أي موضوع.. أما آن لك أن تدركي أن "أخلاق".. "تربية".. "بيئة"..كلمات جوفاء عندنا، تتستر على واقع أخلاقي وتربوي متخلف؟

أما آن لك، أيتها المتحررة، أن تضربي بكل هذا ف"عرض الحائط؟!

لا، ليس هدفي أن أذكرك بأنك جزء من مجتمعك المتخلف، وأن ليس في وسعك أن تثوري عليه، إلا بقدر ما يسمح لك تخلفك نفسه!

هدباء،

لم تكوني قادرة على هجر المستنقع الذي عشت فيه.. فآثرت أن تبقي طافية فوقه.. وحصّنت نفسك بمفاهيم ومعتقدات، تظنين أنك قد اخترت الأفضل منها!!

كأني بك في فلك بناه نوح شرقي.. حمّل فيه من معتقدات تاريخنا، ومن مبادئنا المتوارثة، أزواجاً! أزواجا!

أما أنا.. فكأني، في هذه الرسالة، "يام" بن نوح، المنسي! ابنه الذي رفض ارتقاء الفلك.. رفض النجاة، على فلك أبيه.. ورفض أن يحمل من الماضي "أزواجاً.. يتزود منها"، للمستقبل!

ثم ها أنا ذا أعدو بعيداً، بعيداً، هرباً من الطوفان! هرباً من فلك أبي! أعدو على غير هدى! وأحدثك عما يمزق قدمي العاريتين، وأنا أطأ هذه الصخور!!

أتراني أبحث عن غير فلك أبي، فلك الشرق، سبيلاً للنجاة؟!

أتراني ما قصدت الغرب، إلا سعياً وراء فلك غربي؟!

لئن كان هذا هو هدفي.. فويل لي!! ماذا لو أدركني اليم والطوفان، قبل لأن أهتدي لما أبحث عنه؟!

لئن أقبل الطوفان.. فهل ينقذني، ما أقف عليه الآن، من رفض، وصخور؟!

وداعاً.. هدباء.. هل سأكتب لك بعد اليوم؟

فراس}

 

 

الفصل التاسع

"المأدبة اللاتينية"

(ص143-159)

{دخلت "بيبتا"، ترتدي ثوباً أسود هفهافاً، يلف كتفيها بوشاح عريض من الحرير.. نبيذي اللون.. موشح بخيوط الذهب..

لم أكن قد التقيتها، منذ اختفت مع "آني"، ولم أكن قد شاهدتها في مثل هذا الزي من قبل.. فبهتُ لما أصابها من تبدل..

لم تعد تشبه فتاة "الحيّ اللاتينيّ" التي كنّا نعرف، في شيء! فنجمة "التابو".. كانت لا تعرف من الألوان سوى الأسود، شعرها المتهدل على كتفيها، يغطي جبينها، دوماً، ويحيط وجهها بدائرة سوداء، لا ترى في وسطها سوى محجري عينيها، محاطين بجفنين مدبجين بالسواد!

شعر "بيبيتا"، في تلك الليلة، كان معقوصاً إلى الأعلى، يرفعه مشط إسباني، من العاج، تتوسطه وردة حمراء، قانية تحاكي في لونها،  لون شفتيها الممتلئتين.. بينما، بياض جبينها المكشوف، يتوج سواد عينيها اللتين بدتا، وقد أعفتهما من الكحل، كماستين غريبتين، لا شبيه لهما! تنيرهما سعادة داخلية!

كانت "آني" كعادتها، ترتدي بنطالاً يشد وركيها، ويلف ساقيها، فيزيد من رشاقة جسمها الممشوق.. فما إن تبادل الجميع، قبلات الودّ، حتى اتجهت نحو "باتريس" وارتمت على المقعد إلى جانبه، مسندة رأسها إلى كتفه..

أعاد تشابههما، صحبتهما السابقة إلى الأذهان.. فلفها "باتريس" بذراعه، في حنان وألفة قديمين، وراح يداعب وجهها بيده الطليقة، فتعض "آني" على أصابعه، ضاحكة متسلية، فيبعدها، ويضرب خدّيها في دعابة، ورفق..

قمت أوزّع الشراب، فسألتُ آني" و"باتريس"، عما يفضلان منه.. وكانت ألفتهما قد استحوذت على انتباهي..

فقال "باتريس"، جذلاً..

- نفضل النبيذ الأحمر، يا صديقي! هذه ليلة الحقيقة ولا يصح فيها سوى شراب الآلهة!

لم تك "بيبيتا" قد استوت على مقعد.

وقفت في وسط الغرفة تنظر إلى حيث كان يجلس "باتريس"و"آني"، تحاول أن تخفي ما تحسه من تساؤل، وامتعاض! ثم اتجهت نحو "جينيت"، في خطى ثابتة، وجلست قربها، تكشف إزارها النبيذي عن صدرها العارم الأبيض.. تعلق على قول "باتريس" وهي تبدي اهتمامها "جينيت"، وترفع خصلة شعر تهدلت على جبين صديقتها..

- .. حقيقة الآلهة؟ أم حقيقة البشر؟!

ضحكت "جينيت" عالياً.. وقالت..

- صحّحي يا عزيزتي! صحّحي! "حقائق" الآلهة، أم "حقائق" البشر! إن للأمور أكثر من وجه واحد.. أو حقيقة واحدة!

سخرت "آني"، مبتهجة، وسألت..

-.. أنتما لا تتكلمان إلا عن الآلهة أو البشر.. والشيطان؟ أليس من مكانٍ صغيرٍ دافئ له، في هذه السهرة العارمة؟

قلت، مغتبطاً لما رُفعت عنه ستارة تلك الليلة، من حوار..

- بل أماكن ! أماكن عدة! فلكل آلهة، شيطانها! أما آن الأوان لنصحح ما سها عن ذكره الأقدمون؟!

أجاب "مكسيم"

-.. "شارل غوستاف"! لقد أحسنت، يا عزيزي! فآلهة الإغريق.. كانت تحتوي شياطينها، في تصرفاتها ذاتها، لذلك لم يكن من حاجة للتفريق بين هاتين النزعتين، عند تلك الآلهة! الخير، والشر، كما نفهمهما اليوم.. فكرتان، شرقيتان.. جاءتا من الشرق البعيدن عن طريق الفرس..  

أردف "باتريس قائلاً..

- ليت هذه المفاهيم بقيت هناك.. فسلمت منها أوربا! وهل أجمل، وأنبل من آلهة الإغريق، تعيش جميع نزعاتها! تحيا، وتتصرف، كأنها بشر؟! وشعوب البحر المتوسط، تحيا وتتصرف، كأنها آلهة؟! إن مفهوميّ الخير، والشر، في شكليهما المطلق، وباء، أصاب أوربا! إن فكرة الخير، المطلق، شدت صورة الآلهة نحوها، فأصبحت الآلهة، إلهاً واحداً، كله خير، ثمّ وجب أن يتجمّع الشر في حيّز واحد فتجمعت الشياطين، في شيطان واحد، كله شرّ.. وها نحن في أوربا، بما لنا من جذور إغريقية، تشعرنا أننا ممثلو الآلهة على الأرض، ها نحن ننوء تحت حمل هذا الانقسام السماوي، نعيش هذا الانقسام الإلهي، فنتمزّق بين ما فينا من الآلهة، من خير، وشرّ!!

ضحك "مكسيم"، وقال..

- وهل الوباء يفتك بغير من أصابه الوهن؟ إن جميع الحضارات سعت إلى السعادة والرقىّ.. فجسدت هذه المفاهيم في نظم مسلكية أخلاقية.. لست أعرف سوى أوربا، تعمقت في دراسة الشرّ حتى أوهمت سكانها أن الأرض ليست سوى موطن له وجعلت فيها، منفى للإنسان.. مملكة، يرتع فيها الشيطان، كما يشاء، تكاد ملائكة إله الخير لا تقوى على رفع صوتها في حضرته!!

سألته مستوضحاً رأيه..

- أنت تعني الدين، في أوربا، بالطبع.. ولكن جميع الديانات، على ما أعلم، تعالج الأمر بنفس المنظار.. فالخير، والشر، يتصارعان على هذه الأرض، حلبتهما، هي الإنسان! فالموسوية، والمسيحية، والإسلام، من أصل توحيدي واحد.."لا تقتل، لا تكذب، لا تزن" الخ.. أليس الخير، والشرّ، عندها واحداً؟ وكذلك البوذية، والتاوية.. فلماذا تستثني أوربا؟

هزّ "مكسيم" رأسه، مبتسماً..

- الأمر يا عزيزي من الاختلاف بنسبة ما للناظر من مقدرة على التعمق! فلو أنك جمعت اليوم أربعة مثقفين.. بوذياً، ومسيحياً، ويهودياً، ومسلماً، ولنقل، أربعتهم، على مستوى دراسة جامعية واحد.. لوجدت، أن ما يجمعهم من النظرة الواحدة إلى مفهوم الدين، وما يرتبط بالدين من مفاهيم الخير والشر أعظم مما يفرّقهم! لكن ما أعنيه، من اختلاف، هو فيما يتعلقّ بأصل الدين، وجذور الأسطورة! ترى هذه الاختلافات كامنة في رواسب لا تصل إليها العين المجردة.. ولا يحسن التمعن فيها، سوى المتعمّقُ في علم النفس، ومدارسه المختلفة! صحيح أن الأرض حلبة يتصارع عليها الخير، والشر، في نظر الديانات التوحيدية الثلاث.. لكن هذا الصراع لا يتخذ شكلاً ماساوياً مزمناً، إلا في أوربا!! فآدم، في الديانات الثلاث، واحد، والتفاحة واحدة، لكن معنى عقاب الإنسان الأول، هو من الفداحة، حسب المفهوم الأوربي، بحيث لا يمكن لعقل متفتحٍ، في القرن العشرين، أن يقبل شموله، أو تدرّجه المنطقي!

قالت "جينيت" متعجبة..

- صحيح! فأنا متديّنة في إحساسي، حتى الأعماق! فما إن أسأل نفسي.. ما معنى الخطيئة الأولى.. وأتساءل، لماذا يقال لي إنني ولدت على هذه الأرض وأنا في حالة خطيئة، حتى أشعر بأنني مظلومة، مهانة! أودّ لو أنتقم من أحد! كيف تلصق بي تهمة لا يد لي ، فيها؟!

علّقت "آني"، موافقة..

- وكيف يغضب الله من آدم، إذا أكل التفاحة، وهو الذي خلقه أصلاً من تراب.. فوضع فيه ما شاءت إرادته الإلهية، من قوة، وضعف؟! خلق له حواء، وخلق له جهله، والتفاحة! بل خلق له الشيطان، وما له من مقدرة ضعيفة، في الأصل، على مقاومة الإغراء والشرّ! حقاً! كيف يفاجأ الإله بما قام به آدم، أو الشيطان، وهو العالم، سلفاً بكل ما سيكون؟! كيف يعاقب الإنسان على فعلة، قدر له أن يقوم بها؟!

قلت على عجل..

- لقد أعطى الله، آدم، القدرة على الاختيار!

سخر "مكسيم" من قولي..

- هذا كلام يسهل قوله.. ولا يمكن فهمه! أليس الاختيار مشروطاً بالفهم والإدراك؟ فكيف يملك الإنسان مقدرة ما، دون أن يملك شروطها؟ هل يملك الإنسان شروط فهمه، وإدراكه؟ وفي حالة آدم.. هل كان لهذا، يد في تقرير نسبة ما خلقه له الله، من مقدرة على الفهم؟ أو ما خلق الله فيه، من سعة إدراك؟ وهل سعة الإدراك، هذه، واحدة عند الجميع؟!

ضحك "باتريس" وأضاف..

- أنتم تنسون الشيطان، دوماً، في أحاديثكم الرفيعة! أليس ينطبق ما تقولونه على الشيطان؟ فما ذنبه، إذا عصى الله، والله كان عالماً بمعصيته قبل خلقه! وبالرغم من ذلك، خلق فيه تلك المقدرة على العصيان!! فما ذنبه، إذا خلق على هذا القدر من "الشيطنة"؟!

قال هذا، وأكبّ على "آني" أصابعه، على رأسه، بشكل قرنين، يقبّلها، ويلعق عنقها، مازحاً، يقلد الشيطان!!

تابع "مكسيم"، على مهل..

- إنها أسطورة رمزية، لم تخلق سوى ذيول فلسفية، في الشرق! جعلت من الأرض محطة، يعيش عليها الإنسان، فترة مؤقتة، قبل الرجوع إلى ملكوت ربه! أما في أوربا، فالأمر مختلف تماماً! كيف يقبل العقل أن أكل التفاحة، ذنب، أوقع الإنسانية في "حالة خطيئة أبدية".. يقتضي نزول الإله، على الأرض، بصورة إنسان، فيصلب نفسه، ليكفر عنه؟ أليس في هذا تفاوت لا يعقل، بين درجة الخطيئة وفداحة العقاب؟ فالدين، في أوربا، يرى الأرض منفى للإنسان، ومقراً للرذيلة والفساد! ويرى في وجود الإنسان، على الأرض، أمراً خاطئاً منذ البداية!! عليه، وعلى ذريته، أن يكفر عنه، إلى الأبد! يخلق الله، إنساناً ضعيفاً، مُعرضاً للخطأ.. يعلم الله، سلفاً، أنه مخلوق ضعيف، سيخطئ، فيتركه، عامداً، في تلك الطريق! حتى إذا ما أخطأ الإنسان، عاقبه خالقه، على خطيئة، كان قد قضى عليه، هو، أن يقترفها! يرميه بلعنة الخطيئة الأولى، التي لا ذنب له فيها! ثم ينزل الخالق إلى الأرض، في صورة إنسان، فيصلب نفسه، ليكفر عن خطأ، كان هو في الأصل، في قد قدّر على الإنسان أن يرتكبه!! لعمري إنها خطيئة الإله! لا خطيئة الإنسان!! ولئن نزل، ليكفر، عن خطأ ما.. فلا بد أنه فعل ذلك، ليكفر عن خطئه هو!

ولو اقتصر الأمر على ذلك، لما تعدّى، كون هذه القصة، حلّة أخرى، لأسطورة بابلية قديمة، "أسطورة الإله "تموز"-وهذه كلمة تعني "الابن الحقيقي"، في اللغة السومرية، والملقّب "الرب"- الذي قدّم قرباناً للبشر، ثم أحيَتْه أمه "عشتار"، وأعادته إلى السماء! أسطورة، لها ما يماثلها عند قدماء المصريين، في قصة الإله "إزيس"، و"أوسيريس"، أو الأسطورة الفينيقية، عن بعث "عشتارته" ﻠ "أدونيس"! كل هذه أساطير، عن ألهة، فيها ما يودّ الإنسان أن يجده من رموز! أما الدين هنا اليوم، فإنه لا يعطي للإنسان من سبب، لوجوده على هذه الأرض، إلا أنه خُلق ليكفّر عن خطاياه! فاللّذات محرّمة علينا! والمتعة الدنيوية، أية متعة، هي طريقنا إلى جهنم والعذاب! حتى الجنس! لا يحق لنا أن نتعاطاه، إلا في سبيل متابعة الخليقة، إذا ما تعاطاه أحدنا، وهدفه في ذلك اللذة الجسدية، اقترف خطيئة، فتوجّب عليه الاعتراف بها، والقيام بالكفارة عنها!

قالت "بيبيتا"، ساخرة..

- على هذا.. فليس على هذه الأرض من متديّن حقّ، واحد!

أجاب "مكسيم" على الفور..

- بل مئات الملايين منهم! والكل، في قرارته، يعرف أنه بعيد عن الدين، مخالف لتعاليم كنيسة، هي في الأصل، في حيازتها على الثراء الماديّ، مخالفة لتعاليم المسيح!

- ومن يدريك أن الموسويين، أو المحمديين، هم أقرب إلى دينهم منّأ؟!

- قد يستوون في الشعور بأنهم بعيدون عن تطبيق تعاليم دينهم، إذا ما تقاعسوا في تطبيق هذه التعاليم، لكن ذلك لا يبعث في نفوسهم ما نشعر به نحن، من قلق جذريّ! نمضي حياتنا في مصارعته! والسبب في ذلك بسيط.. فليس في الموسوية، أو المحمدية، من شروط المسلكية، ما يصعب على المؤمن تطبيقه.. وليس فيهما من الفرضيات الدينية، ما يناقض الشروط الحياتية اليومية.. الطبيعية..

نظرت "آني"، إلى "مكسيم"، في شيء من التحدّي، وقالت..

- "مكسيم".. أراك تخوض في تفاصيل، لا أظنك تعرفها، حق المعرفة! أتعلم أني يهودية؟ وأؤكد لكن أن في التلمود، من التعاليم، والشروط، أضعاف ما في التعاليم الكنسية! وقلائل منا، من في مقدورهم تطبيق هذه التعاليم، بالحرف، ثم الشعور بالرضى عما يفعلون!

- إنما هي شروط كمية، يا "آني"، لا كيفية! لئن قصر الإنسان في تطبيقها ظلّ في قرارته، على قناعة، أن ما ينقصه هو مزيد من الجهد، كي يصل إلى الهدف المنشود! ليس ما يمنع المحمديّ، من أن يحيا حياة جنسية متكاملة، وهو في كنف تعاليم دينه! أين هذا، من تعاليم الكنيسة؟ التي تفرض على الشاب المتدينّ، أن ينسى أن له عضواً ذكراً!! ألا يمسه! ألا ينظر إليه، كي لا يفكر به، فتغزوه الأفكار الجنسية، الشطانية!! سلي "باتريس"، إن كنت لا تصدقين ما أقول!!

ضحكت الفتيات مليّاً، لما سمعن! نظرت "آني"، إلى "باتريس"، في دهشة.. تسأله..

-.. هل حقاً ما يقوله "مكسيم"؟ ومن فرض عليك هذه التعاليم؟! وأين؟

- في الدير! لقد قضيت سنتين، من طفولتي، أتهيأ لحياة دينية! سرعان ما تركتها، هارباً!! كنت أؤمن حقاً أنني في تناولي للقربان، آكل من جسد المسيح، كل صباح.. وأشرب من دمه! ولا أفهم سبب ذلك!! كان القصد، بالطبع، من هذه الطقوس، هو أن نشعر أننا في التحام عضوي، دائم، مع القوى الإلهية.. ولعل هذا ما يحسه الكاهن، أو الراهب، أو أي رجل بالغ متديّن، يعرف مسبقاً ما المقصود "الإله" و "القوى الإلهية"! أما أنا.. حينما كنت طفلاً في العاشرة من عمري! فتلك، كانت كلمات جوفاء، بالنسبة إليّ! في حين أن عملية الأكل من جسد المسيح، كانت حقيقة ملموسة، كنت أقوم بها، كل صباح، وأنا أرتعد من خوفٍ مبهمٍ داخليّ، فأشرب من دمه، لأبتلع لحمه، الحلو المذاق، فأشعر، أن ما أقوم به، أقرب إلى السحر، والجريمة، منه إلى الصلاة والعبادة!!

قلت مفسّراً..

- لا بدّ أنها طقوس مستوحاة من طرق قديمة في العبادة.. فيها ما يفتن الإنسان، ويهزّ جذوراً بدائية، في حيّز اللاوعي، عنده!

- لعل هذا كان صحيحاً، منذ ألفي سنة! لئن كانت الطقوس، نافعة من ألفي عام، فما حاجة الإنسان إليها اليوم؟! أين الحضارة في مثل هذه الطقوس؟! وما المعنى من ربط مثل هذه الطقوس البدائية بإحساسات الإنسان السامية؟! لا يا عزيزي! عليك بقراءة رسائل "جيد" إلى "كلوديل".. فلو أنك أمعنت البحث، والتفكير.. لوجدت أن الديانة، في أوربا اليوم، لم تبق قضية إيمان بالله، إيمان بقوة عظمى خلقت هذا الكون.. بل أصبحت، في معظمها، قضية تأدية طقوس!!

قلت على عجل، وقد أمضّني ما أوحى إلي كلامه من شعور..

- هذه طقوس، ليس إلا! أنت تعرف بالطبع أن الرسالة المسيحية، براء في الأصل من مثل هذه الطقوس!

هزّ "باتريس" رأسه في حزن بعيد، وقال..

- ألم يُقل لنا، إن المسيح قال "أن لم تأكلوا جسد ابن البشر، وتشربوا من دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم"! وحتى لو اعتبرنا أنه ما أراد، من كلامه، سوى الدلالة الرمزية، وأن ما أتى بعده، من تطبيقٍ لكلامه، لم يكن سوى طقوسٍ لا علاقة للمسيح بها.. فلو حذفنا هذه الطقوس.. لو قبلنا جدلاً بأن جميع الطقوس مستحدثة على رسالة المسيح.. فماذا يبقى من المسيحية ؟ ماذا يبقى من الرسالة العظيمة؟

- تبقى الوصايا! ورسالة المحبة الإنسانية!

- الوصايا؟ وهل هذه في عرفك أمور دينية سماوية؟ "لا تقتل" "لا تسرق" "لا تكذب".. هذه أمور أخلاقية! قوانين أرضية بحتة.. أصبحت اليوم جزءاً من كتب القانون! يعاقب من يخالفها، كالسائق، إذا خالف إشارة السير!

-.. تبقى رسالة المحبة!! وهل أعظم وأسمى منها؟!

قال "باتريس".. يكاد يكلّم نفسه..

- ألهذا نزل الإله إلى الأرض؟ أليقول للناس أحبوا بعضكم بعضاً؟ أتظن أن الإنسانية كانت بانتظار الأديان كي تعرف هذا الشعور؟ أتظن حقاً أنها لم تعرف الحب، أو المحبة، قبل ذلك التاريخ؟! وأن الناس تحابوا بعد نزول هذه الرسالة أكثر من ذي قبل؟! كم من مئات ألوف الأرواح، زهقت،باسم رسالة المحبة هذه؟! كم سببت من حروب؟ كم من المعابد، والهياكل بنيت، تعددت أزياء كهنتها.. وتباينت طقوسها، وتبدلت، لتفرض تفاسيرها المختلفة لجميع رسالات المحبة!! كم من الأحقاد، والكراهية، غلت وفارت، في نفوس دعاتها وأتباعها! دعاة المحبة!! ألف وتسعمائة وثلاث وخمسون سنة من الحقد، والكراهية، والقتل، والتدمير، اجتاحت عالمنا الغربي، باسم رسالة المحبة والغفران!! بتّ إذا سمعتُ من يقول "أحبوا بعضكم بعضا"، أسمع صدى التاريخ يردّد "اقتلوا بعضكم بعضا"!!

- والمحمدية؟! هل انتشرت بالإقناع؟ أم بالفتوحات، وحدّ السيف؟!

- صحيح! لكن "الفتح"، و"الجهاد" في مفهوم المحمدية ليسا على نقيض مع التعاليم المسلكية لذاك الدين! وهي القائلة "العين بالعين" و"السن، بالسن"!!

وتدخّل "مكسيم" قائلاً..

- هذا ما كنت أعنيه بالضبط! فالمحمدية لم تخترع مُثلاً، وطرقاً في السلوك، تنافي طبيعة الإنسان! تشعره أنه على تناقض مع ذاته! تشعره أنه ملوث بإحساساته الطبيعية، وشهواته! موصوم بها!!

صاحت "جينيت" نزقة..

- كفى أرجوكم، أنا لست على مثلكم من الطلاقة الفكرية أو التحرر من الرواسب! كلما جاء ذكر الدين، أحسست بغمامة تطبق على نفسي عند سماعي مثل هذا النقاش! ألا يكفي للإنسان أن يعتقد بالله، وتنتهي المشكلة عند هذا الحد؟! هنالك خليقة، وهنالك إنسان لم يخلقها.. إذن هنالك خالق! ما حاجتي إلى الدين، إلى أيّ دين، ما دام إدراكي بخالقي، أمراً مباشراً؟ ما حاجتي إلى الوساطة، ما دامت، علاقتي به، مباشرة؟!

تدخّلت "بيبتا"، تشد أزر صديقتها..

- فما حاجة الإنسان إلى أكثر من هذا؟ هل يزيد من قدر الإله، أو ينقصه، أن آكل من جسد المسيح، كل صباح، أو أن أعاف الأكل؟! وهل يزيد جلال الملكوت الإلهي، لو  سجدت له، خمس مرات في اليوم؟! ما حاجة الإنسان إلى الوسطاء، والأوصياء، يقفون بينه وبين خالقه، يفسرون له، كلٌ، بحسب علمه أو جهله!! فينقصون من صورة الإله، بمقدار نقص إدراكهم لسرّه ولملكوته الفسيح!

ضحكت "آني"، وقالت..

- وكيف يعيش رجال الدين، إذا تخلوا عن وساطتهم بين الإنسان والإله؟ إنهم اليوم، ملايين في العالم، نصّبوا أنفسهم وسطاء بين الإنسان والإله! مؤسساتهم، تضاهي في ثرائها، وتنظيمها، وتكتلها، كثيراً من المؤسسات العسكرية.. وألبستهم، تضاهي في غرابتها، ألبسة الممثلين!!

 

قال "مكسيم"..

- صحيح! وإن هذه المؤسسات، لفي تقلّص مستمر.. في العالم اليوم، حوالي ثلاثة مليارات من البشر.. ثلثاها، غير مكترث للدين، يعيش في ظلّ معتقدات وأنظمة سياية تنفي فلسفتها أصلاً، وجود الإله! لكن المشكلة أبعد من هذا.. فالدين، في تاريخ الإنسانية، سابق لوجود الكهنة من رجاله.. والحاجة المبهمة إلى تأدية الطقوس، هي التي أوجدت صورة هذه الطقوس، على اختلاف أنواعها! وطوّرتها، حتى أصبحت على ما لها من تعقيد، في ديانات اليوم! الدين، كما نفهمه اليوم، ليس سوى جواب، متطوّر، لحاجة الإنسان البدائي، لفهم المبهم من قوانين الطبيعة، والمخيف من ظواهرها! إنه جزء من جهله! جواب، يرجع تاريخه السحيق، إلى الشعوذات، والسحر، عند الإنسان البدائي.. والطوطمية، عند إنسان ما قبل التاريخ! كان ساحر القبيلة يعرف كيف يهدئ مخاوف الآخرين.. فيفسر كل أسرار الطبيعة، بألغاز، أعقد من تلك الأسرار! يدمج تفسيراته، بطقوس، يوهم الجهلة أنه يفهمها، وها هو ذا الكاهن، اليوم، يقوم بالتفسيرات نفسها ويحيطها بالألغاز نفسها! كان للساحر دوماً، زيّ غريب، يضفي عليه هالة يتفرّد بها عن بقية أفراد القبيلة.. وها هم الكهنة اليوم، وجميع رجال الدين، لايمكن أن يتخلوا عن تلك الهالة.. لا يمكن إلا أن يتفردوا، هم الآخرون، بألبسة تخالف ما يرتديه بقية أفراد المجتمع.. كأن اللباس المختلف، إشارة إلى تفردهم بمعرفة الغيب، وأسراره!

أضاف "باتريس"، قائلاً..

- وهذا يفسر ما كنا نتعلمه، من طقوس الدين والصلاة.. فكما أن التقرب من القوى المجهولة، المحركة لعوامل الطبيعة، كان يستلزم التضحية بما هو غال.. والقيام بحركات، وطقوس معقدة، غريبة، كذلك الصلوات في دور العبادة اليوم.. تنوب الصدقة فيها، عن القرابين.. وتنوب ذبائح الخراف، خارج المعابد، عن الذبائح داخلها.. ويقوم جميع المصلين، على اختلاف أديانهم، بحركات غريبة، وبترديد أقوال، يظن أنها تقرب الإنسان من اللإله، المحرك الأول، لما لا نزال نجهله من قوى الطبيعة.. فنسميها "قوى ما فوق الطبيعة"..

عادت "جينيت" إلى القول، بنزق..

- أما وقد غصتم، في الطبيعة، وما فوق الطبيعة، وما تحتها! فأنا ما زلت طبيعية جداً! وأودّ مزيداً من النبيذ! أليس من فارس ينجدني؟!

قمت أملأ كأسها، فإذا "بيبتا" تنبري واقفة.. فتأخذ الزجاجة من يدي، وتقول لها..

- جميع فارسات " الأمزون" في خدمتك! فما حاجتك إلى الفرسان؟ وملأت كأساً، تناولته "جينيت" قائلة..

- هاتي!  عزيزتي.. هاتي! هذه أول كلمة، حقيقية، تقال في سهرة الحقائق هذه!

تعجبتُ لقولها، فأردفََتْ على الفور..

-.. وإلا، فما هذا اللف والدوران؟! تودّون نفي الآله! أو لعن الدين.. فافعلوا ذلك صراحة! أو ناقشوا في ذلك، رجال الدين!

قالت "آني" موافقة..

- بالضبط، فأنا لا أهاجم أحداً! أو أنفي وجوده! على العكس.. إني بحاجة إلى وجود الله، أطمئن، إذ أعلم أن هناك حياة ما، بعد الموت!! ألا يرهبكم أن تشعروا أن لا شيء بعد الموت؟ سوى العدم؟!

قال "مكسيم"..

- ليس أصحّ مما تقولين! ألا ترين ما يستتر من دوافع وراء كلامك؟ والحاجة أم الاختراع! إنها حاجتك لقوة تدرأ عنك المجهول، إن خوفك.. هو الذي يدفعك للتشبث بوجود لا يقبل به عقلك! ولئن كان هذا هو حال إنسانة مثقفة مثلك، من القرن العشرين.. فكم تتصورين كان عظم خوف الإنسان البدائي، وحاجته النفسية-العضوية، الماسة إلى خلق هذه القوى في ذهنه؟! يحتمي وراءها، ويختبئ مما يخيفه من مجهول!

قلت متعجباً..

- إذن.. ليس بعد الموت سوى العدم! على حدّ زعمك!

- "العدم"؟ هذه كلمة كبيرة! لا معنى لها..

سألته متعجباً..

- "كلمة"؟ إنها تصور لحالة انتهاء الوجود.. أتسمّي هذا كلمة؟

- "حالة انتفاء الوجود"، تعريف، يناقض نفسه! يعود ليؤكد وجوداً آخر، من نوع آخر! يؤكد وجود "حالة" واقعية، ينتفي فيها الوجود! حيّز سلبيّ، أو سمّه ما شئت.. يمكن أن ينتفي فيه الزمان، والمكان، فكيف نشترط مثل هذه الحالة لوجود العدم؟ ثم نقبل تصور العدم، المطلق؟

- لم أفهم ما تقول!

- إن "وجود العدم" يا عزيزي، يعني "وجود"، "اللاموجود"! فكيف يمكن ذلك؟ إن مئات صفحات الشرح ﻠﻠ "العدم" عند "سارتر" لم تنجح إلا في وصف العدم، على أنه " شعور" بانتفاء الوجود! شعور! لا "واقع"، موجود! أما أن نتكلم عن "العدم"، على أنه "واقع".. فليس لذلك من معنى، سوى أنه وجودٌ، من شكل آخر! كيف نسمي "وجوداً" ما نتحدث عنه، "العدم"؟!

- إذن، فالوجود، ومفهوم العدم، صنوان..

قال "باتريس" ضاحكاً..

- بالضبط.. فبدل أن تقول، إذا "زال الوجود"، "بقي العدم".. نقول، إذا زال الوجود.. زال العدم..

-.. لأن العدم "لا يمكن أن يبقى".. وإلا أصبح وجوداً في حدّ ذاته!!

أضاف "مكسيم"، مبتسماً..

- لذلك، فبما أن العدم، مستحيل.. فالوجود، إذن، أزلي! لأنه لا يمكن تصور حالة "خلقة"! ﻔ "الخلق" يتضمن معنى وجود حالة "عدم"، سابقة لوجوده، أي "وجود العدم"، و"العدم" كلمة، لامعنى لها! إن القول "وجود العدم" إنما هو تعريف يناقض نفسه! ﻔ "الخلق"، بكل بساطة، أمر مستحيل!

صاحت "جينيت" نزقة..

- كيف خُلق الكون إذن؟ من الذي أوجده؟ ألم يخلقه أحد؟!

أجبتها مستنداً إلى حوار "مكسيم"..

- لو أنك فهمت قول "مكسيم" لأدركت أن الكون أزلي! الكون لم يخلق.. لأنه موجود منذ الأزل.. وسيبقى إلى الأبد!

قالت هازئة..

- أليست هذه صفات الإله، التي استكترتموها عليه؟

أجابها "باتريس"،

- إنها صفات استنبطها الإنسان لما إبدعه من آلهة، عندما وقع في إشكال "من خلق الله"! وكان قد قََبِِلَ، خطأً، بديهة أن "ليس هنالك من سبب، دون مسبّب، إذن، فإن للكون مسبّباً، أي خالقاً، هو الله، أو قوة ما، نسميها الله! فلما تساءل، بعد ذلك عن المسبب الأول لهذه القوة ذاتها، طال به البحث، حتى خلص إلى نتيجة، غريبة.. استثناء، يناقض نفسه! قال، "إن الخالق، هو نفسه، سبب وجود ذاته".. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فالإنسان لم يطرح مشكلة وجود الله، بشكل منطقي، إلا منذ أن تساءل عن المسبب الأول للوجود، والحياة، والكون! وهذا، منطق، يغاير تماماً ما كنا نحن بصدده..

- قالت "جينيت" ساخرة..

- بما أنني، في هذا الجمع الرفيع، لا أمثّل سوى الإنسان البسيط، بل الإنسان البدائي، في عرفكم! فلا ضير أن أعترف أنني لم أفهم وجهة الاختلاف!

أجاب "مكسيم" متأنياً..

- أنا لم أطرح مشكلة الألوهية، أو الإلحاد! بل لم آت على ذكر الإله إطلاقاً.. إن ما كنا نعالجه، هو مشكلة "الوجود".. و"العدم"، فإذا استحال "وجود" العدم.. ثبتت "أزلية" الوجود! هل هذا، مفهوم؟ وفي هذه الحال، أي إذا كان الكون موجوداً، منذ الأزل.. تصبح عملية الخلق، مستحيلة!! معنى، وفعلاً..

ضحكت "بيبتا".. وقالت..

- فإذا لم يكن هنالك "خَلْق" فكيف يكون هنالك، خالق؟!

عقبت "جينيت"، ساخرة..

- هكذا! وبكل بساطة! أما أنا.. أيها الأعزاء! فسواء كان مبعث الأمر عندي، عن حاجة، أو غير ذلك.. فأنا أؤمن بأن هنالك شيئاً ما وراء قوى هذا الكون! شيئاً أكبر من عقولكم المليئة بالادّعاء!!

قطعت "بيبيتا" قولها..

- لا.. لا! مسألة "الإيمان"، هذه.. أمر آخر!! أنت، "تؤمنين" بما لا تفهمينه، وغيرك، يؤمن "زيد"، وآخر يؤمن "عمرو"! تطرحين قيماً، تودين إثباتها، لمجرد أنك تؤمنين بها! هذه بساطة في التفكير، قد تصل ببعض الناس إلى الإيمان بالجنّ، أو بالعفاريت! بل بمخلوقات من محض تصوراتهم.. خطوة أخرى، وتؤمنين بالهلوسة يا عزيزتي!!

 وافقت "آني" قائلة..

- أليس معنى كلمة "إيمان" هو، التصديق، أو الاعتقاد، بأمر ما، عن غير طريق المحاكمة، والعقل؟

سألتها متعجباً..

- وهل تقبلين بسلوك مثل هذه الطريق؟

- أنا؟ مهما قصرت محاكمتي، وضاقت سعة إدراكي.. فلا يمكن لي أن أطمئن إلى رأي، ما لم أهضمه عن طريق العقل! ما لي أرى "مكسيم" يتبسّم؟ هل فيما قلتُه من خطأ؟

أجاب "مكسيم" على الفور..

- وبما أن هذه ليلة الحقائق! فيجب ألا نتوقف عند أي منها، مهما صعب تقبل نتائخه! إن كلامك عن العقل، يا عزيزتي، هو الصواب، عينه! لكن الإنسان لا يملك سوى عقله، أداة لفهم الطبيعة.. والعقل، في الوقت نفسه، جزء من هذه الطبيعة.. يتغذّى بوسائل الإحساس التي لدى الإنسان.. وهي أدوات ناقصة! إذن، فالعقل ناقص! وكل محاكمة تنتج عنه، إنما هي ، بالضرورة، ناقصة! هذه هي الطامة الكبرى! فالإدراك، محدود بالجسد، كالنبات المحدود بوعائه!

صاحت "بيبيتا"

يا إلهي! ماهذه المتاهات؟ لا نملك سوى أداة، ناقصة، لفهم الحقائق! فنصل إلى نتيجة منطقية محتومة.. وهي، أن جميع محاكماتنا ناقصة! إذن، كل ما نكتشفه ناقص! فإذا كان الأمر كذلك.. فكيف أصدق مثل هذا الاستنتاج الأخير؟! إذا كان كل ما يقال مشكوكاً في صدقه.. فكيف أصدق هذا الحكم، نفسه؟ كيف في وسعي ألا أشك في حكمي هذا الأخير! كيف لا أشك في شكي؟!

ضحك "مكسيم" من ضياعها وقال..

- بل تشكّين، في شكك.. وكفى!

- أعرف أنها عقدة فلسفية قديمة.. كيف أتخلص منها؟!

- وماذا تعطيني مقابل ذلك؟ ماذا تعطيني إذا خلّصتك منها؟

لمعت عينا "بيبيتا"، وقالت..

- في هذه اللحظة؟ أي شيء تطلبه!

- تكفّين عن مغازلة "جينيت"، وتعيدينها إليّ!

بان ومض خيبة على عينيها، لما سمعت.. صمتت برهة، ثم قالت.. كأنها تتذكر أمراً فاتها..

- وإن قَبِلْتُ، فهل يكفّ "باتريس "، عن مغازلة "آني"؟! وهل يعيدها إليّ؟!

توقف "باتريس" عن مداعبة "آني".. وهمّ بالكلام، لكن "آني" بادرت إلى إجابة "بيبتا"..

- أنا، التي أغازله.. يا عزيزتي، وليس هو! أنا التي أُبادر أيّاً كان، بالغزل! ولا أقبل أن يبادرني به أحد! ورغم ذلك.. فإنني..

تدخلت "جينيت"، هازئة..

- تظنين أن "باتريس" على غزل معك؟ تتوهمين! ألا ترين كيف يتبادل، و"مكسيم"، الأفكار.. كأنهما يتبادلان القبل؟}

*    *    *

(ص176-179)

{علا الغضب بغتة وجه "بيبتا".. وتابعت، وقد احتقن وجهها..

-.. ثم.. قل لي! أرجوك! لماذا لا يهتم أحد بما أفعل، لو قبّلت الحائط؟! وما علاقة الجنس، بالأخلاق؟ نعم! أود أن أطرحه سؤالاً صريحاً دون مواربة.. ما علاقة الجنس، بالأخلاق؟ هذه الحاسّة، التي نلقبها "الجنس".. هذا الإحساس "النفسي-الفيزيولوجي".. ما علاقة حاجة إروائه، بالأخلاق؟! هنالك من يحرّم أكل الخنزير، ونحن نأكله.. هنالك من يأكل الثعابين! وهذا يثير اشمئزازنا! وفي "نيويورك"، يأكلون النمل، "الشوكولا"، وهؤلاء، أنفسهم، تشمئز نفوسهم، من الصينيين، الذين يستسيغون أكل أدمغة السعادين، وهي لا تزال حية!! بل يأكلون الكلاب!! إن لكل مجتمع عرفه الخاص، فيما يتعلق بالأطعمة.. جميعها، تتفق على رفض بعض أنواع الطعام، أو تقبُل غيرها! لكني لم أسمع، يوماً، أن مجتمعاً زجر بعض أفراده، أو وضعهم في السجون، لأنهم أكلوا طعاماً، لا يتقبل العرف أكله! فما ذنب الجنس؟! أي ضرر أُلحق، بغيري، إذا مارست حاجتي الجنسية بالطريقة التي أشتهي؟! شريطة ألا أجبر أحدا على ما يشتهيه، طبعاً! وما علاقة الأخلاق، بما أتبادله من حب، مع إنسانة واعية مثلي، دون الإساءة إلى أنظار، أو مصلحة أحد؟!

- ألا تجدين أن ذلك مخالف لقوانين الطبيعة؟

- ها! ها! ها!! وهل أنا مخلوقة من المريخ؟!ًومن الذي توّجك، ملكاً على هذه الطبيعة، كي تسن قوانينها!! ثم تدافع عنها؟! نحن نعيش "قوانين حضارات" هي على بعد مئات ألوف السنين مما نسميه"قوانين الطبيعة"!! لقد وُلدنا عراة، والحيولن عار، ونحن نرتدي جلود الحيوانات، نقتلها في سبيل ذلك، لندرأ برد الطبيعة، فهل نخالف قوانين الطبيعة في ذلك؟! الحيوان يموت، متى جاء أجله، ونح نبعد الموت، بالعقاقير والجراحة! فهل نخالف القوانين في ذلك؟! الطبيعة تجذبنا، نحو مركز الأرض.. ونحن نخلق ما يشلّ جاذبية الطبيعة، وننطلق بالصواريخ نحو أجرام السماء! جميع ما نقوم به، من علم واختراعات، إن هو إلا وسائل، للتغلب على قوانين الطبيعة! وحين يأتي ذكر الجنس.. تشهر في وجهي قوانين الطبيعة!! أيّة قوانين، هذه التي تتحدث عنها؟

- أنا اتحدث عن طبيعة الجنس في الطبيعة! أليست غاية الجنس، هي متابعة الخليقة؟!

- بالطبع! كذلك الأكل.. غايته المحافظة على الحياة! والتنفس.. غايته تزويد الجسم بالأكسجين! لكن ألا يهدف الإنسان من أكله، كلما أكل، إلى هدف غير الحفاظ على حياته؟ إن حاجة الإنسان إلى الغذاء، أمر.. وطلبه لنوع خاص من الطعام، امر آخر!! أمن أجل الغذاء، والحياة، يتفنن الإنسان في أكل الحلوى، وفي تعداد أنواع الطعام؟! هل يستعمل الإنسان، العطر، ليزيد من مقدار الأكسجين في رئتيه، أم للتمتع برائحته؟ يا إلهي! أنا لا أفهم كيف يحتمي الإنسان وراء هذا الحائط الهائل من النفاق، كلما جاء ذكر العرف والأخلاق والعادات المتبعة!

- نفاق؟ أي نفاق هذا؟ عجيب! ها أنا ذا أصبحت، فجأة، في قفص الاتّهام؟

- طبعاً! وإلا فقل بربك.. لو أننا قدّرنا حصراً، عدد المرات التي يمارس فيها الإنسان هذه الحاسة في حياته، ولنقل أنها تتراوح في حياة الفرد بين ثلاثة آلاف واربعة آلاف من المرات، فكم مرة من هذه المرات يقوم فيها بهذه العملية، وهدفه إنجاب الأطفال وإعادة الخلق؟! كم مرة؟ ها؟ ثلاث مرات او اربع فقط، خلال سني عمره كلها؟! فكيف يكون الهدف الوحيد للجنس، هو إعادة الخلق؟ وما ع\معنى الجنس، بعد أن يكون الإنسان قد أنجب كفايته من الأولاد؟ ها؟ وما هدف الجنس، عند المرأة، بعد أن يدركها، ما تسمونه، بسن اليأس؟ ولماذا لا تتعطل عندها اللذة الجنسية، بعد أن تكون قد أدت وظيفتها، في إعادة الخلق؟!

قلت، حائراً فيما أجيب..

- حسناً.. وما تفسير ذلك في نظرك؟

- الأمر بسيط.. لكنه يحتاج إلى نظرة لا تفترض الجواب عن نفسها.. قبل طرح السؤال!

- حسناً.. وما هي؟

- إن أكثر الحاجات ترسخاً في بناء الإنسان النفسي، هي حاجة الجنس! وهي الحاجة الوحيدة التي تفرض وجود إنسانين.. فالإنسان، ما كثر وتوالد، إلا لأن عملية الخلق قُرنت عنده بهذه الحاسة الملحاح! هذا معناه.. أن الإنسان لا يسعى وراء الجنس لأن هدفه التوالد.. بل إنه يتوالد، بعملية لاحقة للذته الجنسية! وهذه ليست حال الإنسان فقط، بل حال جميع المخلوقات التي ليس الإنسان سوى واحد منها ! والتي تعود جميعها في الأصل، إلى "آميب"، حقير، في مستوى المخلوقات، كانت عملية التكاثر، عنده تجري عن طريق الانقسام الذاتي!

- كل هذا صحيح! لكن هنالك واقعاً لا مفرّ منه.. وهو أن الجنس، والتكاثر، عمليتان متلازمتان عند الإنسان..

- طبعاً.. طبعاً! أو يجحد ذلك إلا المجنون؟! لكنهما ثنائي، غريب، في تفاوت نسب حاجة واحدهما إلى الآخر!! ﻔ "التكاثر" عملية تكاد لا تتم اليوم إلا عن طريق الجنس، ولعلها، في المستقبل، ستتم في المختبرات، لانتقاء الفصائل الأفضل.. فحاجة عملية "التكاثر" إلى عملية "الجنس"، اليوم، لا تناقش.. أما حاجة الجنس.. فما حاجته إلى عملية التكاثر؟ ما حاجة "اللذة الجنسية" إلى "عملية التكاثر"؟ أنا لا أقلل إطلاقاً من أهمية هدف التكاثر! كل ما أودّ منك ان تفهمه، هو أن الإنسان، في أكثريته الساحقة، في نظري، لا يسعى وراء الجنس إلا رغبة في تحقيق هذه اللذة المباشرة، التي لا بديل له عنها!! لذة يلجأ إلى يده، لتحقيقها، حين لا يجد الشريك المناسب لممارستها معه، فإن أية مقولة، أو فرضية، عن "وظيفةٍ أخلاقيةٍ للجنس"، تحاول أن تبعده عن غايته الواعية، وهي اللذة الجسدية، هي فرية سخيقة! هذا الزعم شبيه بدعوى من يحاول أن يجد وظائف لجميع الإحساسات، والمخلوقات، كأن يقول، مثلاً، خُلق الكلب للدفاع عن الإنسان.. والحصان، كي يمطتيه الفرسان، ثم يحار كيف يفسّر وظيفة الجراثيم! أو يقول كما كان الناس يقولون في العصور الوسطى، لقد خُلقت الشمس كي تنير الأرض، وتدور حولها، كي تدفئ البشر! ثم يحار كيف يفهم، أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.. وأن الشمس، في الصحراء، تحرق الزرع والبشر، ولا تدفئهم!}

*    *    *

(ص186-195)

{تدخل "مكسيم"، مهدئاً..

- مهلك.. مهلك.. يا عزيزتي! فلا أحد يسعى وراء الفوضى.. ولا عاقل ينشد الخراب.. الأمر، بما فيه، هو أن الحضارة الغربية، قائمة على "العلم".. قائمة على العلوم ومنجزاتها.. واشتدت الصلة بينهما، حتى بات من العسير، الفصل، في أذهان الناس، بين مفهوم الحضارة، ومفهوم العلم! أنا بالطبع لا أخفف من أهمية العلوم وفائدتها لرفاهية البشر.. لكني أعجز عن فهم علاقة العلم ومنجزاته، بمفهوم الحضارة، بالمعنى الأوربي الإغريقي الذي نفهمه!! فللعلم ومنجزاته، شقان.. الأول، هو الرياضيات والاكتشافات العلمية.. والثاني، هو المخترعات الآلية.. فإذا قبلنا أن الاختراعات الآلية تزيد من رفاهية الإنسان العلمية، دون أن توسّع، بما يذكر، قدرة الإنسان على الإدراك.. بقيت، الرياضيات، وسيلة الإنسان الوحيدة لتوسيع مداركه، وبقيت اكتشافات العلم، باباً فسيحاً، يدخل عبره الإنسان، طريقاً، يدله على ما خفي عنه من قوانين الطبيعة.. يرشده، إلى فهم ظروفه.. إلى دحض الشعوذات، والتفسيرات الخرافية، التي حمّله إياها تراث ماضيه الجاهل! طريق، لا نزال في أوله، ألا إنه درب قويم، سنعبر قريباً فضاء الكون الخارجي، بواسطته.. وسيقودنا، دون شك، إلى فك الكثير، الكثير، من الأحاجي التي ما تزال أمامنا.. والسؤال المطروح، هنا، هو التالي.. ما نهاية هذا الطريق؟ ما غاية هذه الحضارة؟

-.. وما معنى هذا السؤال؟ أليس بالعلم، نزداد علماً؟! ألا يكفي هذا جواباً عن سؤالنا المطروح؟

-.. بل وجب عليك القول.. "بالعلم، ينقص جهلنا".. ولسنا نزداد علماً!!

- أليس للعبارتين التاليتين دلالة واحدة؟ "نصف كأسي ممتلئ".. أو "نصف كأسي فارغ"؟!

-.. وهل ابتدأ الإنسان طريقه من "حالة علم" ليزيدها علماً، ونوراً؟! أم فتح عينيه، على ظلام الطبيعة الدامس، فاستنار بالعلم، ليحاول كشف أسرارها.. ويحدد موطئ قدمه، ثم طريق مستقبله فيها؟!

-...

- إذن.. إن الإنسان، بالعلم، ينقص من جهله.. وبمزيد من العلم.. يسدّ المزيد من ثغرات جهله..

قال "باتريس"..

-.. إنه كمن ورث الديون عن أبيه.. يتعب، ويشقى، سعياً وراء سدادها.. فإذا ما وصل إلى غايته، يوماً.. فماذا سيكون لذلك من معنى؟! إلام سيكون قد وصل؟! إلى حالة الصفر؟! سيصبح إنساناً لا ديون عليه! لا أكثر ولا أقل!! وفي هذا راحة لا شك فيها.. إنما أين تلك الحالة من حالة الغنى.. أين الغنى من حالة انتفاء الديون؟!

تدخل "مكسيم"..

– صحيح.. وأضيف إلى ذلك أن الأمر، لو اقتصر على ما ذكرتَ، لأصبح الغنى في حدّ ذاته، غاية جديدة، يسعى إليها الإنسان، بعد أن وصل إلى غايته الأولى.. وهي القضاء على فقره! إني أفهم أن الحضارة يجب أن تقوم على أسس المعرفة.. ولو كانت المعرفة تقاس بالمقادير والأرقام كما يقاس المال، لتابع الإنسان جمعها، حتى بعد سداد ديونه.. ولمضى يجمع المعرفة، كما يجمع المال، إلى الأبد! ولما كانت حضارة الغرب، لا تعرف سوى العلم من هدف تسعى إليه.. فالمعرفة عندها، اليوم، مرادفة، للكشف العلمي، وتفسير ما نجهله من أسرار الطبيعة.. وليس في الدنيا أسرار تهمّ الغرب، غير الأسرار العلمية!! ومعنى ذلك، أحد أمرين.. إما أننا في هذه الطبيعة الأبدية، لن ننتهي أبداً من الكشف عن هذه الأسرار.. أي إننا سنبقى إلى الأبد، على الرغم من محاولتنا الأبدية عاجزين عن سداد الديون!! وإما أن العلم سيصل بنا، يوماً إلى اكتشاف آخر هذه الأسرار، فتقف الإنسانية، عندئذٍ، مكتوفة اليدين، في حالة عقم!! تنظر إلى كونٍ، بلغ فيه العلم غايته، ووصلت فيه المعرفة إلى نهاية المطاف.. فإذا تناهى العلم إلى غايته، تداعت أسس الحضارة الغربية، وتداعت معاني المعرفة الإنسانية!

قالت "بيبتا".. حائرة، سادرة..

-.. ولماذا لا تكون تلك نقطة بداية جديدة.. للبحث عن معرفة اخرى؟!

تبسّم "مكسيم" منها، وقال..

- كأنك لست ابنة الغرب، فيما تقولين! إن العقل الغربي، يا عزيزتي، لا يقبل تعدد أشكال المعرفة!! ليس في الغرب من "معرفات".. وإلا فماذا تعني كلمة "معرفة"؟! إنها عكس الجهل.. "كل الجهل".. فإذا سدّت الحضارة الغربية، جميع ثغرات الجهل، التي تعيها، فماذا يمكن أن يبقى عليها لكي"تعرفه"؟! إن الجهل في الغرب معناه جهل "العلم".. والمعرفة معناها معرفة قوانين العلوم..

وجم "باتريس"، ثم قال..

- نظن اليوم أننا، بالعلم، سنصل إلى آخر طريق المعرفة.. في حين أننا، سنصل فيه إلى طريق مسدودة، لا نعرف فيها كيف نبحث عن طرق أخرى!! سنصل إلى لحظة لن نرى فيها سوى "مدىً"، يمتد أمامنا، لا هدف لنا للحركة فيه، ولا زاد في جعبتنا مما جمعنا على مرّ العصور، نتأمله ونتمتع به أو نتزود منه، ونحن في رحلة الإنسانية التي لا نهاية لها..

أطبق الصمت علينا، برهة طويلة، تواقتت فيها، مصادفة، "آريا"، "دعوني أموت" صدح فيها صوت "بنيامينو جيلي"! فأحسست كأنه نداء من الماضي.. يشير كالنذير، إلى ما سيأتي به المستقبل..

قالت "بيبتا"، مبتئسة..

-.. أنتم ترسمون للمستقبل صورة متشائمة، تدعو إلى اليأس والضياع! من قال إنكما صادقان في ذلك.. إني لأرفض هذه السلبية في التفكير! ثم.. من قال إن نبوآتكما هذه صحيحة؟!

أجاب "باتريس"، وهو ما يزال على وجومه..

-.. نحن، لا نرسم، ولا نخطط.. يكفيك أن تنظري جيداً لما حولك! إننا في منتصف القرن العشرين.. فماذا أنتجت أوربا، من فلسفة، خلال خمسين عاماً؟! ما الحركات الفلسفية التي أمدتنا بها لفهم المستقبل؟ أتقبلين بمحاولات "برغسون" "المهلهلة"؟! وهل في الدنيا عاقل لا يهزأ من بهلوانيات "تاليار دو شردان" بإضفاء النقوش العصرية على جبّة اللاهوت البالية؟! ماذا تبقّى للغرب، من جحافل مفكريه؟! من فرسانه اليوم؟ "هايدغر"؟! و"سارتر"؟! هل بزاد هؤلاء، القدامى، ننهي القرن العشرين؟! هل بسلبيتهم ندخل المستقبل؟!

قالت "آني" متعجبةً..

- وما شأنك أنت بزاد هؤلاء؟ أتقول هذا.. وأنت اﻠ "ماركسي"، المتطرف؟! أين فلسفتك الماديّة؟!

- صحيح.. إني مادي، "ماركسي".. وفي نفسي، حنين إلى غيرها! إن للماديين منطقاً، متماسكاً، أصلب من الصخر! لكنها لولا "الماركسية" لأصبحت فكراً، يقوّض، بالفكر، دعائم الفكر!! أليس في هذا اقتراب من "برغسون" الذي أرفض؟!

استوى "مكسيم" في جلسته.. وقال مبتسماً..

-.. إنها هذه الساعة المتأخرة من الليل، التي تجعلك تقول هذا.. إنه الضوء البرتقالي، الخافت! ونزعات "مونتيفيردي" الأخيرة!!

نظر "باتريس" في عيني "مكسيم"، يبحث عن أمل يتمسك به! فتابع هذا..

- دعائم الفكر، التي تقوّضها المادية.. هي دعائم بالية، في الأصل، نخرها سوس البرجوازية، واللاهوت.. "الفكر"، و"الفلسفات" المرفوضة، هما من نتاج الصالونات! والجلسات الهادئة! كحالنا، في هذه اللحظة! لقد تعوّدنا أن للفكر طقوساً..كما تعودْنا الوهم، وعبادة المجهول..

- هذا صحيح.. لكني ما نجحت من التخلص من رواسب طقوس العبادة، إلا استناداً إلى طقوس الفكر! والآن.. وأنا أرى طقوس الفكر تذوب عني.. أخاف أن أذوب أنا معها، كتمثال الشمع!

- هدئ من روعك "باتريس"! إن هذا "الأنا" الذي تخاف عليه أن يذوب، ليس سوى ما تبقى من مفاهيمك المرفوضة، والتعاليم والثقافات البالية! لا يكفي أن نقول، كما يقول"يونج"، إن "مشكلة الإنسان العصري" تكمن في أن ثقافته، وعقله، يحضانه على التخلي عن جميع ما ورثه عن الماضي، فلا يتمكن من التخلي عن الثقافات القديمة إلا إذا أزاحها، مستعيناً بمفاهيم جديدة.. وإن كل جديد، لا يمكن أن يبقى جديداً إلا لحظة تبنيه، ومتى تبناه جهاز العقل، صار قديماً! لا.. لم يعد يكفي هذا القول! فهو جزء من هموم الغرب! والمشكلة أعمّ، وأكبر.. فقول "يونج"، هذا، يتكلم عن "الثقافة"، ويهمل ذكر "الهياكل" الثقافية! فالفكر الغربي، مجهّز بقوالب "هيكلية"، محدودة، ماذا أقول.. إن الفكر الغربي لا ينمو إلا على هذه "التراكيب الهيكلية".. تتغير الفلسفات، وتتبدّل قواعد المنطق، لكن حاجته إلى "قواعد"، ما، تظلّ راسخة في لا شعوره! ليس في استطاعته أن يعي، ولو في خياله المجرّد، أنه قادر على الوجود دونها!!

- أراك تدمج "لفي شتراوس"، بعلم النفس!

- بالضبط..

قالت "بيبتا"، متعجبةً..

 لا أخالك تعني أن للغربيين، أدمغة، تختلف عن أدمغة بقية البشر؟

ضحك "مكسيم"..

-.. لا يا عزيزتي! فهذه درجة من العنصرية لم تتجرأ، حتى النازية على الوصول إليها! لا.. أنا أتكلم عن "الهيكلية" لاحقة لولادة الإنسان، تأتي من البيئة، والتقاليد المتوارثة، والثقافة! ومن يدري، لعل الإنسان يرث استعداداً لتنميتها، كما يرث استعداده لتنمية "السانتاكس" اللغوي! المهم.. هو أن هذه الهيكلية، تنمو، مع بناء الإنسان العقلي.. تأخذ أشكالاً لا علاقة لها بما تحتويه، أو ما ينمو عليها.. من ثقافات..

- ولماذا لا يستطيع الغربي، تبني أنماط أخرى من التفكير؟ هل يرجع ذلك إلى خلل في هذه "الهيكلية"، أو نقص فيها؟

- بل إلى تباين في الشكل، والمعطيات..

نهضت "بيبتا" واقفةً تبتسم، وتنظر إلى الجميع، كأنها تحثهم على مؤازرتها.. قالت تهزّ إصبعها متوعدةً..

- إسمع، "مكسيم"! إنها المرة الثانية، هذه الليلة، التي تطرح فيها علينا الأحاجي.. أوإنك تطرحها عليّ أنا، على الأقل.. دون أن تدلني على الجواب! ما معنى ما تقول؟ وما الهدف من هذا الحديث، إذا لم أفهم ماذا تعني من ورائه؟!

- هوني عليك، عزيزتي! فالأمر ليس على مثل هذه الدرجة من التعقيد.. على الأقل، في شرح رؤوس الأقلام، عن هذا الموضوع.. سأطرح عليك مثالاً بسيطاً عسى أن يكشف لك أول الطريق! لقد توصل "سارتر" إلى فكرةٍ، عن "الوجود"، لم يتمكن من التعبير عنها، بمنطقه الغربي، إلا بصورة تناقض نفسها! إنها فكرة الوجود، في عدم الوجود، موضوعٌ يشابه ما كنا نتحدث عنه منذ قليل، أي "الوجود في العدم".. فأحتاج إلى مئات الصفحات لشرح، إيجابية، هذه السلبية!! أو.. استحالة وجود غير هذه السلبية-الإيجابية..الخ!! وسيلزمني مثل عدد ما كتبه، من صفحات، لأشرح الفكرة نفسها، هذا لو اقتصرت في شرحي على هيكلية المنطق الغربي! ولو أراد حكيمٌ "بوذيٌ" أن يشرح تلك الفكرة مؤكداً واقعية الوجود، في لحظة يجتمع فيها الوجود والعدم، لقال لتلميذه.. "انظر إلى هذا النهر! فالنهر في كل لحظة، موجود، وغير موجود! والحياة فيه، وحوله، قائمة على حالة التناقض هذه.. حالة الأبدية في وجود العدم"!!

هل فهمتم مما أقوله شيئاً؟

صفق "باتريس" وقهقه عالياً!! بينما تعالى النقاش بيننا، كلٌ، يشد الحديث إلى وجهة نظره، يحاول أن يفسر ما رآه هو، في هذه الصورة!! إلى أن صاحت "بيبتا"..

-.. لنترك هذه القضية جانباً.. أرى كلاً منا يظن أنه يفهم ما يريد.. والآن، فسر لي، لو سمحت، أحجيتك السابقة..

- أية أحجية هذه؟ أتظنينني أتسلى بهذه الأمور؟ أطرح الأحاجي للتسلية؟

- لا..لا.. أنا أمزح! إنما، أرجوك أن تفسر لي، قولك.. "العقل ناقص".. فأي حكم، ينتج عن العقل، الناقص!! كيف أستندُ، إذن، على هذا الحكم؟ إذا كانت كلُ الأحكام ناقصة؟!

- وهل ستحبينني كثيراً.. كثيراً.. إذا ما فسرته لك؟

- نعم! نعم!

- وهل تعطينني قبلة، كبرى، لم تعطي أحداً مثلها، هذه الليلة؟

- نعم.. نعم! أوصلني إلى الجواب!؟

- وهل تقسمين "آني"!!

وقبْل أن، تجيب "بيبتا".. صاحت "آني"..

- ولماذا تقسم بي؟ دعها تقسم "هيلدغار".. وبعد الذي رأيته منها هذه الليلة! و "غونثر" كذلك!

صاحت "بيبتا"..

- أقسم لك بهم جميعاً! هات.. قل ما عندك!!

- حسناً.. الجواب بسيط، يحتاج منا إلى قفزة بسيطة، في الثقافة.. كما حدث في بداية قرننا.. نستند إلى نسبية "أنشتاين".. فنقول "إن مقدرة العقل، على المعرفة، نسبية.. إذن، فكل الأحكام الصادرة عنه، نسبية.."

صاحت "بيبتا"..

- وهذا الحكم الأخير! كيف يكون "مطلقاً"، إذا كانت جميع الأحكام، "نسبية"؟

- هذه مسألة "سيمانتيكية"! فكلمة "مطلق"، "كلمة" عفاها الزمن! إنها من تراث الماضي، دفنت ، في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي وقع في مثل هذه الأحاجي! نحن في القرن العشرين.. قرن "النسية".. فحُكمي الأخير، هذا يمكن أن تلقبيه "الثابت"، كما هي حال سرعة النور.. الثابتة..

قلت متعجباً..

ألم تستعض عن كلمة "مطلق" بكلمة "ثابت" ؟!

- لا..فالمطلق، "ثابت"، في جميع الظروف! و"الثابت"، إنما هو ثابت، نسبة إلى شروطه المحدودة، فحسب!! بمعنى آخر.. إن كل نسبة تفترض نقطة "ثابتة" ما، تنطلق منها قياسات هذه النسب.. صحيح؟

- صحيح!

- وهذه النقطة الثابتة، التي نقوم بقياساتنا، نسبة إليها.. ليست مطلقة.. لأنها يمكن أن تكون متحركة، "نسبة"، إلى نقطة أخرى! أي، إن نقطتنا الثابتة، إنما هي "ثابتة"، نسبة إلى ما نقيسه إليها! ومتحركة، هي، وما يقاس إليها، نسبة إلى نقطة أخرى! وهكذا، دواليك! بذلك ترى، أن الثابت، في النسبية، لا علاقة له إطلاقاً بمفهوم "المطلق"، الوهمي، في الفلسفة!!

قال هذا، وقام إلى "بيبيتا" ينشد القبلة التي وعدته بها! فشدّته "جينيت"، من ذراعه، قائلة..

- لا! كفانا قبلاً هذه الليلة!! ثم إن أمر القبل، يجب أن نبتّ فيه اليوم!! ليس غيري يعطيك إياها!! أو، لنفترق، نهائياً، هذه اللحظة!!

نظرت "بيبتا" إلى ساعتها، متجاهلة غيرة "جينيت" المفاجئة، وقالت..

-.. إنها الخامسة.. يا إلهي.. كم مضت مسرعة، هذه السهرة! إنه وقت أول "مترو" الصباح.. هل مَن يرافقني، إلى "السان جرمان"؟

ثم نظرت إلى "هيلدغار"، متسائلة.. فنظرت هذه، إلى "هيلينا"، وقالت..

- ما رأيك لو تناولنا القهوة في الحي؟ أليس الوقت مبكراً جداً للعودة إلى دار مضيفتنا؟

ونهض الجميع متثاقلين، يلملمون بقية ثيابهم، المبعثرة، هنا وهناك..

خرج "باتريس" أولاً، بصحبة "آني"، وكلاهما من سكان "المنطقة السادسة عشرة"، الفخمة.. وتأبط كل من "جون" و"غونثر" خصري "آني" و"هيلينا".. ثم "بيبتا" و"هيلدغار"، فما إن خرج الثلاثي الأول يتبعه الثلاثي الثاني... حتى صاحت "جينيت" "مكسيم"، نزقة، تستحثه على الإسراع في ارتداء ثيابه، وكان "مكسيم" لا يزال واقفاً، لم يقرر بعد، إلى أين يتجه..

قلتُ..

- ألا تود أن تتعرف إلى الأمير "يوسوبوف"؟

سألت "جينيت"، على عجل..

- ومن هذا الأمير.. أهو من أقربائك؟

ضحك "مكسيم"..

- من أقربائي، أنا؟! لا.. إنه من عالم "شارل غوستاف"، الذي تساءلت عنه البارحة.. في بداية هذه السهرة..

ثم سألني..

- حسناً.. ومتى ستراه؟

- نم هنا الليلة.. أو هذا الصباح! سوف يأتي لزيارتي، بعد ظهر اليوم، صديق لي يدعى "جاك كاتلان"، لا أظن أني حدثتك عنه.. على أية حال.. إن "جاك" هو الذي سيقودنا لزيارة الأمير..

ضاقت "جينيت" بتردد "مكسيم"، فأسرعت تلحق برفاقها.. وهي تقول..

- إلى الغد إذن.. "مكسيم"، اتصل بي لدى عودتك من زيارتك.. لا تنس!

وخرجت، توصد باب الشقة وراءها.. يتبعها وقع خطاها، وهي تجري نازلة على السلم..}

 

 

الفصـل العـاشر

(ص197-200)

{هدبـاء، حبيبتي..

أناديك، وأنا على بعد ألوف الأميال منك.. أناديك.. وأتعلق بأجنحة ما يردده اسمك الجميل، من صدى الماضي.. أعود، عبر ذكراك، إلى بلادي.. أعود إلى الشام! أطير فوق الهامة.. ودمّر.. والربوة! أشق الهواء، فوق مدخلها الفسيح.. لأصل السوق الطويل.. فلا أطير فوقه.. لئلا يفوتني سحر استراق الخطا بين حاراته الضيقة، الملتوية.. أسير الهوينا بينها، أتلمس حائطاً مهترئاً، هنا، وآسف لأن بعض الأوساخ ما زالت، هناك، لكني أعلم أن وراء هذه الجدران، بيوتاً، وحدائق، تقطن فيها نفوس، لو عرفت كيف تتحرر، وتعيش، لأصبحت، بما فيها من طيبة وصفاء، سيدة الدنيا!

لقد عرفتُ باريس الليل، وباريس النهار! باريس العمل، والفكر، وباريس البطالة، والتسكع! فما إن أخلد إلى نفسي، حتى تضمحلّ جميع هذه الصور في خيالي، وأجد نفسي، في باريس الشوارع.. أعزف ألحان آلتي الحزينة، لجدرانها الصمّأء! ألتقي مع بعض النفوس، في ابتسامة تلقائية، هنا، أو في هزة رأس هناك! أعيش فيها رواية طويلة، سريعة الإيقاع، لا معرفة ، ولا علاقة لي بمؤلفها! ولا يد لي، ولا لغيري، بتسيير أبطالها!! وينظر إليَّ من حولي، كأني العالم بجميع الأسرار، كأني الدّاري بتفسير جميع المبهمات!!

ظننت أن حداثة إقامتي في هذه المدينة، وضيق معرفتي بالناس فيها، هما السببان وراء جهلي لما يحركها، جهلي لما يختفي وراء جدرانها الخارجية الرمادية! ظننت، في البدء، أن هنالك من يمسك بأول الخيط المرشد في هذا التيه! أما اليوم، وقد عرفت ما عرفت.. فأكاد اظن أن ليس وراء هذه الجدران من أحد!!

جدران باريس لا تخفي سوى الأسرّة.. والصالونات، ومكاتب العمل!! وسكانها.. في تدفق، وجري، وتصادم أيدٍ ! تلاحم، تدور رحاه في مقاهيها، وسباقات، تجري خيولها، في شوارعها العريضة!!

أين باريس الشعر، والأدب، والفلسفة، والرسم، والموسيقى، من باريس التي وجدت!! أين "رامبو"، و"جيد"، و"سيزان"، و"فرانك"، من هؤلاء الأشباح الذين يودّون لو يسيطرون على الحركة الأدبية، والفكر فيها اليوم؟ باريس اليوم، ثوب رثٌّ قُلِب باطنه، خارجه، والفكر فيها، مادة استهلاكية، تُنشر على حبال الغسيل، وتُطلى بألوان جدران الشوارع!

أين أنا، الآن من دمشق الحدائق المستترة الغنّاء!! أين أنا، من دمشق العيون والنظرات!! هل من معجزة تبث الفكر يوماً في خمائل مدينتنا، فتحييها؟!

لست أدري لماذا أكتب لك هذه الرسالة.. والصبح قد لاح.. وأنا جالس في فراشي، تشغلني جميع الأفكار، ما عدا هموم الشرق! غريب، كيف استبدّ بي الشوق، فجأة، إلى عينيك!! طيفك، كان نائماً لصقي، أفاق وأنا أستعد للنهوض.. واختفى، برهة، ليعود بالقهوة التي تعودنا أن نشربها معاً في حديقة دارك الدمشقية.. طيفك الآن يجلس قربي، في ثياب النوم.. يبتسم لي، في استحياء.. وأنا أنظر إلى فمك، الممتلئ المفترّ.. وأتفرّس في تقاطيع وجهك، الشرقي الصبوح..

تراودني، حبي الآن فكرة الالتحاق بالفرقة الأجنبية..

ألهذا أودّعك ثانية؟ ألأني ما وجدت في باريس، حتى اليوم، نفساً تستحق الوداع؟ لقد أوشكت السنة الدراسية تنتهي.. فقلت في نفسي، بدل أن أقضي الصيف هنا، أركب مع كل من "جون" و"غونثر" ثلاث دراجات، عادية.. نوغل عليها نحو الجنوب، عبر إسبانيا.. في اتجاه الجزائر، حيث مقرّ هذه الفرقة..

إنها مجرد أفكار، وحلول، تطرح نفسها أمامي.. قد لا ألجأ إليها.. وقد أبادر إلى تنفيذها متى خفّت وطأة برد الربيع..

هدباء، حبي..

أظن أننا أوشكنا نصل إلى مفترق الطرق، في محاوراتنا.. "باريس" لم تعد ذلك الحلم الذي يلذ لي أن أحدثك عنه.. ولا تلك الرؤى التي كانت تبعثها في خيالي نقمتي على عيوب مجتمعنا! "باريس" اليوم، أصبحت واقعي الملموس.. وأنا أعيش فيها، تجربة حسية لن تُسرّ أذناك لسماع تفاصيلها!!

لماذا نعيش العمر في مدينتنا، لا نعُدّ، من الزمان فيه، سوى الشهور، والسنين؟.. إني هنا أعيش الأيام، والساعات، والثواني!! فكيف أحدثك وقد اختلفت نسب قياس الزمان بيننا؟ ثم، عمّ أحدثك؟ وأنت لا تهتمين، في الأصل، إلا للقضايا الجليلة الكبرى! ولا ترين الناس إلا من خلال هذه العناوين! وأنا في باريس، قد تعلّمت، راضياً أو مرغماً، أن أدرس كل شيء، حتى القضايا الكبرى، ابتداء من صغائر التفاصيل، وأحياناً، بدءا من همس الناس، وكلامهم.. وأتحسّب للمواقف، بما تقتضيه، أو تمليه، التفاتة عابرة، منهم؟

لكنّ لهذا شرحاً يطول! وحسبي أن أقول إني جئت إليك، أودعك، حبي، فأنت ما زلت حبي الأول، والوحيد.. ولا أود، بل إني لا أعرف، حتى لو شئت ذلك، كيف أحبّ غيرك!!

لقد طرتُ في خيالي إلى دارك.. وها أنا ذا أترك على خدّك، وجفنيك المغلقتين.. قبلة، لم أعط أحداً مثلها في باريس..

لقد بدأت مدينتنا تشغل حيز الحلم في خيالي، وبالأمس كان لها حيّز الوطن.. ها أنا ذا أطير فيها "عائداً" إلى باريس، لا "ذاهباً" إليها.. فوداعاً، حبي! وداعاً! حتى موعد قريب..

فراس}

 

 

الفصل الثاني عشر

(ص227-233)

{أطبق "جاك" عليّ، وعلى "مكسيم"، في الأيام التي تلت. يأتي لزيارتنا، صباحاً ومساءً، يحدثنا عن الأسماء اللامعة.. يخصّنا بالكشف عن أسرار حياتها الخاصة.. يعوض "مكسيم"، على حدّ زعمه، عمّا فاته، من معرفة المشاهير، من الكتّاب والفنانين الباريسيين، ممن لا علاقة لهم بالحي اللاتيني.. أو معرفة من يحركهم من أناس يمسكون برؤوس خيوط الحياة المالية، والسياسية.. يقودنا إلى مقابلة بعضهم، يرهقنا بالحديث عنهم، لا يفوته، أإن يعرفنا إلى نجوم المجتمع، ونحن بين زيارة فنان وآخر!!

لم يأت عيد الفصح، حتى كنا قد انسقنا مع التيار الذي دفعنا إليه "جاك"، لاهين عما كنا قد رتبناه لهذه الفرصة من مشروعات، منساقين مع ما جرفنا فيه "جاك" من حياة اجتماعية، كنت قد مللتها، وآثرت العزلة النسبية عليها، قبل أن أعرف "مكسيم"، وثلة الأصدقاء، من الحي اللاتيني..

لو قلت: إن "جاك" أدخل "مكسيم"، معظم صالونات باريس، خلال فترة، لا تزيد على أربعة أسابيع أو خمسة، لبدا قولي هذا رواية مبالغاً فيها!! لا سيّما أن شروط دخول مثل هذه الأجواء، في باريس، لا تقتصر على أن يجد الإنسان من يقوده إليها، ويفتح أبوابها المنيعة، وحسب، بل، تتطلب من الزائر الجديد، أن تكون له صفات فريدة، وجه من الغرابة، أو التميّز، يلفت إليه الانتباه، أو الإعجاب .. يفرض الوافد الجديد به احترامه على أصحاب هذه الصالونات.. فلا يُدمغ بصفات وسيطه إليها، ولا يُنظر إليه على أنه مرافق فلان.. بل تُقبل صفاته، هو، لتفردها، ويصبح تميّزه، هو العامل الأساسي في لفت الأنظار إليه، وتشوّق بقية أفراد هذا العالم المغلق، لمعرفته، وللمثابرة على طلب صحبته..

أربعة أسابيع، أو خمسة، زمن، لا يكفي الغريب، في عُرْف باريس، كي يتهيأ لدخول واحد من الصالونات، المتمرسة برفض الكثير من الغرباء المتطفلين، ناهيك عن دخول هذا الغريب معظمها، ثم اكتسابه صفة المرغوب فيه، المخيّر بين أكثر من حفل، في الليلة الواحدة! لكنها عوامل كثيرة تجمعت في شخص "مكسيم"، من جهة، وفي ظروف "كل باريس" تلك السنة، من جهة أخرى.. عوامل، تضافرت، لتلعب دورها، فسخرت شهرة الأمير "يوسوبوف"، ومكانة "جاك كاتلان" الاجتماعية، المرموقة، لتسليط الأضواء على صديقي! فلم تفتح له الأبواب وحسب، بل تركزت عليه الأنظار، فجعلت منه، محوراً لعلاقات نسائية، كانت بطلاتها، من سيدات المجتمع، هن أنفسهن، اللواتي يتفنّن في إذاعة وتضخيم أخبارها!

كانت تلك، حقبة من الزمن، لها من الذكريات في نفوس من عرفوها، ما لن ينسوه لزمن طويل!

كانت باريس في طور إزاحة ما تراكم على كاهلها من هموم الحرب، كأنما تتحسس نفسها، المرة، بعد المرة.. كيما تتأكد من أنها معافاة، نظيفة، جديدة! تسترجع القريب المثير من ذكرياتها، فتبرز حقبة ما قبل الحرب، في ألقها، وبهجتها، فيحضّها ذلك على التهيؤ، لوثبة بعيدة، لا تعرف مداها وعالم الصالونات لم يكن في زمن من الأزمان، معملاً، أو مخبراً للنبوغ ! لعله كان، في باريس، أحد أبراج المراقبة، يجلس فيه الموسورون، والقيّمون على عالم المال، يناقشون المتقاعدين من عالم الفن، والأدب، والفكر.. وينظر الجميع، إلى الشباب، في الحي اللاتيني، و"مونبارناس"، و"مونمارتر".. ويتساءلون، عما يعيق ظهور "الأنبياء الجدد".. ويتهامسون، عما يمكن أن يقوم به هؤلاء، من معجزات، في المستقبل!

وكانت باريس في شوق إلى أساطيرها السابقة، تتمنى، وتترقب، حدوث المعجزات! لا يهمها فحوى الحدث، بقدر ما يهمها، أن الحدث قد تمّ! فما إن تصل إلى ذلك العالم.. عالم "كل باريس" الشهير، أنباء مثيرة عن وافد جديد إلى بلاطها، حتى تشرئب الرؤوس.. وتصغي الآذان.. فيرتفع الوافد الجديد إلى السدّة، بدافع جماعي، لا إرادة فردية لأحد فيه، لا يمكث برهة، تحت أنوار تلك العيون الكاشفة، حتى يبهت لونه، ويزول سحره، فترتدّ الأنظار عنه، ويسقط في عالم النسيان، بالسرعة التي ظهر فيها!!

ولم يكن عالم الصالونات ينتظر معجزة أدبية، أو فلسفية.. بل، حدثاً، فريداً من طبيعة خاصة..

وسرعان ما تمّ ذلك ﻠ "مكسيم" في صالون "الكونتيس دي روكموريل"، خلال حدث، لا يزال القدامى يذكرونه، حتى اليوم، ويتناقلون تفصيلاته في حنين من يتكلم عن العشرينات، عصر الأساطير..

*    *    *

دخل "مكسيم" صالون "الكونتيس دي روكموريل" بعد أن كان قد تعرف إلى عشرات الصالونات، تسبقه إليه شائعات، عن تكريس الأمير "يوسوبوف" لأصله الأرستقراطي، العريق.. فما إن بدا للجالسين في تلك الليلة، بقامته الطويلة، ووجهه الشاحب، يزيح عن كتفيه ثوبه الفضفاض الأسود، ذا الياقة المخملية العريضة، حتى طفقت أخيلة القوم تضفي عليه، من صفات الإبهام والمغامرة، ما كانت نفوسهم تتوق وتفتقر إليه، فتتوسمه في نفوس أخرى، وتسبغه على قوم آخرين.

رحبت "الكونتيس دي روكموريل" بالقادم الجديد.. ثم التفتت إلى ضيوفها قائلة..

- قولوا ! بربكم ! أليس ضيفنا قادماً إلينا، هذه اللحظة، من بلاط القيصر؟

أجابت إحداهن، في صوت حالم..

- إنه قصيدة.. من قصائد "بوشكين" !

قهقهت سيدة رائعة الجمال، في الثلاثين من عمرها..

- لكن.. كل هذا تاريخ، جمّده الصقيع! إنه شاب.. دافئ.. هذا هو المهم!

علّقت "الكونتيس" على قولها، ساخرة، من كياستها اللاذعة، المعهودة..

-.. يخال من يسمعك، أن باريس، ينقصها الشباب؟

هزّت السيدة رأسها ممتعضةً..

- الشباب.. تسعى وراء الصبايا! لم يبق في باريس من يقدّر قيمة المرأة الناضجة!

تمتمت "الكونتيس" في صوت أجش، ولهجة هازئة.. تودّ، ولاتودّ، لمحدثتها، أن تسمع ردّها!

-.. إن نضج المرأة، اليوم، يقاس بما نضج لديها، من مال ! ومعامل النسيج عندكم يا عزيزتي، لا تتوقف عن الحركة ! فما بالك تشكين؟

ونظرت إلى شاب وسيم، رياضي الجسم، كان في رفقة تلك السيدة ! تململ الشاب، لسماع تعليق "الكونتيس"، ثم ابتسم، في سذاجة، وسأل رفيقته..

- هل أحضر لك كأساً من "البراندي"؟

فلما هزّت رأسها، بالإيجاب، وجد طريقه لتجنب سماع مزيد من التعليقات اللاذعة.. وأسرع يحضر الكأس..

همس "جاك" ﻠﻠ "كونتيس" مؤنباً، مازحاً..

- متى تكفين، سيدتي العزيزة ! عن نشر الحقيقة!! إن أقسى ما في الكون، هو حقائق الليل!!

- ولماذا أكفّ؟ وكل أنثى هنا قد شحذت نبالها على جسدي!!

وتقدمت منه تعانقه، وتقبله، في لهفة اجتماعية، مدروسة، مألوفة لدى تلك الطبقات، ألفة، ليس من معنى لها سوى أن المتعانقين يشتركان في فهم حقائق ذلك النمط من الحياة..

مالت برأسها إلى الوراء، وهي ما تزال تحيط عنق "جاك" بذراعيها، وكررت..

- ولماذا أكفّ أنا أكره اللف والدوران! هل ترى الخاتم الذهبي الجميل الذي في إصبع يدها؟ سوف ترى يا عزيزي "جاك".. لن تنقضي هذه السهرة حتى تنسكب كأس "البراندي"، على غير قصد، من يدها على ثياب صديقك.. الروسي.. فترتبك سيدتنا، وتقود "مكسيم" إلى غرفة الزائرين تلك، -وأومأت برأسها إلى غرفة منعزلة، بعيدة- كي تساعده على تنظيف ثيايه.. فلا يعودان منها.. من تلك الغرفة، إلا بعد نصف ساعة.. والخاتم الذهبي ذاك، في إصبع صديقك!!

ضحك "جاك" ملء قلبه، لما سمع!

سُر لما أثاره "مكسيم" من اهتمام السيدتين، لكنه طمأن "الكونتيس"، في كلمات سريعة، ثم استدار ليفلت منها، وكان ينظر حوله، يتفحّص الوجوه، ليتعرف بقية الموجودين، علّه ينصب شراكه لصيد جديد..

شدّت "الكونتيس" على ذراعه، وأدارت رأسه إليها، بطرف أصابعها، وقالت.. تقوده جانباً..

- قل لي "جاك"! بربك.. ماذا يحدث حولنا؟ ماذا يحل بنا؟

أراد أن يصغي إليها لكن السيدة، صاحبة الخاتم المتنقّل، أثارت انتباهه، فراح يلاحقها بنظراته، يتعجّب للإصرار الذي راحت تحدق به إلى "مكسيم".. ويستغرب ما طرأ على مظهرها من انشغال، منذ أن دخلا الصالة..

بدت حانقة على شيء.. تكلّم رفيقها، في نزق ظاهر.. تزيد من الشراب، فما إن توجّهت نحو باب الشرفة الجانبية، في عصبية ظاهرة، حتى ظنّ أنها تتهيأ لترك الحفل، بسبب خلاف نشب بينهما! وإذا بها.. تعود أدراجها فجأة.. فتنتحي أحد أركان القاعة، تبحث عن "مكسيم"، بعينيها التائهتين، ثم تنظر إلى "جاك"، في إصرار، فلا يفهم هذا من معنى لنظراتها!

تنبّه إلى صوت "الكونتيس"، تحدّثه، غير منتبهة لانصرافه عنها.. فاجأته نبرة الصدق في سؤالها.. فأصغى إليها تكمّل قولها..

- أودّ أن أفهم، ماذا يحلّ بنا، "جاك"! هل أنت معي؟ لماذا تتفسّخ طبقتنا، على هذا الشكل، وبهذه السرعة؟! أنا افهم أن يكون الجنس مطلب الشباب اليوم.. ومتنفّسهم الوحيد، بعد كابوس الحرب، وتزمّت قواعد الأخلاق عند جيلنا، نحن! جيل ما قبل الحرب! أفهم من تخطّين سنّ الخمسين، من النساء، إن هنّ خفن الموت، فارتمين في أحضان اللذة، يدفعن الغالي، والرخيص، لتمضية الليل المخيف، لصق شاب دافئ، قويّ، غضّ! يبعد سبح الشيخوخة والموت عن أحلامهن! إن من لا أفهمهنّ.. هنّ نساء أمثال "روز ماري" هذه! من كنّ على شاكلة هذه المرأة شباباً، وثراءً، وجمالاً، يجب ألا يكنّ على هذه الدرجة من التهالك! أنا لا أفهم، مثلاً.. كيف تصل هذه المرأة إلى أوج لذّتها.. خلال خمس دقائق! وفي أية ساعة من اليوم! بل في أية خلوة! سواء أكان ذلك في حديقة عامة! أم كان في عتمة دار السينما! غرفة حمام ما، أو وراء باب مدخل أي بناء مهجور!!

صفّر "جاك"، دهشة، ونظر إلى تلك السيدة، يتأملها من جديد! كانت جميلة فعلاً! غاية في الأناقة!!

تبدّلت نظراتها، فبدت هادئة، حزينة وقورا..

قال والدهشة تتملك تقاطيع وجهه..

-.. لكن، يا إلهي! هذه "روزماري" ابنة الجنرال "بيرل"، ألم تكن زوجة "البارون دو لريساك"؟

- إنها هي، ذاتها! وهل لك من معرفة سابقة بها؟ لقد أمضت في سويسرا عدة سنين، ريثما تتم مراسيم الطلاق بينهما.. ثم تزوجت "بارون" أخر، ثريّ، سويسريّ- ألماني كبير!- بعد أن حصلت على نصف أملاك "البارون" الأول، بالطبع..

هزّ "جاك" رأسه، متعجّباً، لغرابة المصادفات.. وتملّص من "الكونتيس"، متجهاً نحو السيدة الجميلة..

ما إن اقترب منها، حتى تبسمت، وقالت..

- ظننت أنك لن تتعرف إليّ! هل تبدّلت إلى حدّ، عدت لا تعرفني فيه؟! "جاك".. عزيزي!!

وضمّها إلى صدره، ثم نظر إلى وجهها مليّاً، ويده على كتفها.. وتابع..

-.. "روزي" الصغيرة! لكم تبدّلت! طبعاً، لقد تبدّلت! وتفتّح البرعم، عن زهرة "أوركيد" غضّة، تعانق أوراقها، نفسها، كألحان نغم خجول..

ضحكت "روزماري" لكلامه، وقالت..

- لازلت الشاعر الذّلق اللسان، الذي عرفته في طفولتي!! ولكن هذا ليس رأي المومياء فيّ! وأشارت، خفية إلى "الكونتيس" التي التفتت إلى غيرهما..

تابعت "روزماري" كلامها ناقمة، ضاحكة..

- هذه القهرمانة، التي تنتمي إلى فصيلة أكلة لحوم البشر!! تنتقدني؟ وعلى ماذا؟ أعلى الهدايا الصغيرة التي أعطيها لأصدقائي، في المناسبات؟! لابدّ أنها أوسعتني ذمّاً! وهي التي باتت تدفع خمسمائة فرنك، ثمن الليلة، ولا تجد من يقبل أن يلمس تجاعيدها!!}

 

 

الفصل الثالث عشر

(ص252-254)

{سمعنا عزفاً جيداً على البيانو ينبعث من داخل القصر، فسأل "مكسيم" عن العازف..

قالت " الكونتيس"..

- إنه أحد المدعوين.. محترف جيد، في أول طريق الشهرة.. لقد قدم عدّة حفلات في الموسم الماضي..

كان الضيف يعزف قطعة من "رابسوديات" "ليست"، على درجة كبيرة من الصعوبة.. فحاولنا الإصغاء إليه، لكنّ "الكونتيس" تابعت حديثها، لا تلتفت إلى عزف ضيفها! فما إن التفتت إلى مجموعة أخرى من ضيوفها، حتى قمنا نهمّ بدخول القاعة، حيث جلس العازف  لكن "الكونتيس"، سرعان ما عادت إلينا، تحدثنا من جديد، ثم تعود وتلتفت إلى غيرنا.. أو تنصرف عنّا لحظات، بين الفينة والأخرى.. يمنعنا ذلك من الإصغاء، أو دخول القصر، حيث العازف، والبيانو!

كان معظم المدعوين على الشرفة، يجلسون جماعات متفرقة، لا يعيرون ما يسمعونه من عزف، أي التفات، فيما عدا ملاحظة عابرة كانت تعلو على الحديث والنكات، كلما علا صوت البيانو.. واشتدت صعوبة العزف..

ما إن أنهى العازف قطعته.. حتى صفق، ثلاثة أو أربعة اشخاص، تصفيقاً خفيفاً.. فلما بان على "مكسيم" و"جاك" أنهما امتعضا لعدم اكتراث المدعوين بذلك العازف، اعتذرت "الكونتيس" بحركة من يدها.. قائلة..

- وما ذنبهم؟ جميعهم كلفون بالموسيقى الكلاسيكية! إنها غلطة العازف.. فالوقت ليس وقت الموسيقى..

قال "مكسيم" ﻠ "جاك" كأنه لم يسمع قولها..

- سمعت أنك حائز على "جائزة أولى" من المعهد الموسيقي.. ألا زلت تعزف؟

تبسّم "جاك" في مرارة مفاجئة، ونظر إلى عيني "مكسيم".. دون أن يجيب.. ثم نهض واقفاً، واتجه نحو مدخل القصر.. دقائق، وإذا بنا نسمع البيانو يصدح بمقطوعة ﻠ "شومان"، طالما تحدّثتُ عن صعوبة أدائها وروعة العاطفة فيها! فقمت، مع "مكسيم"، نسعى إلى حيث "جاك"، نودّ ألا نلفت انتباه "الكونتيسة" إلى غيابنا، لكنها ما إن سمعت صوت الموسيقى، ورأت العازف الأول، يعود إلى الشرفة.. حتى فطنت إلى الأمر.. فصاحت مبتهجة..

- إنه إما "مكسيم" أو"جاك"! إن أحدهما يعزف البيانو! تعالوا! هلموا! ودخلت إلى الردهة حيث البيانو و"جاك"، يتبعها جميع المدعوين!

دخلنا في صمت شديد، وتفرقنا على مقاعد الردهة، دون أن يُسمع لحركتنا من صوت.. فما إن أنهى "جاك" عزفه.. وكان جيداً، رغم انقطاعه الطويل، حتى علا التصفيق، وقام الجميع يهنئونه، ويشدّون على يده، أو يقبلونه في عطف وحرارة!

 كان العازف الضيف، بين الجمهور المهنّئ، ينظر إلى "جاك"، ويحار فيما يقول، أو يفعل!

أثار ذلك انتباه "مكسيم"، وكنا جالسين على مسافة من الضيوف.. فقال لي..

- إن لمنظره وهو يتقدّم لتهنئة "جاك".. بينما لم ينتبه أحدإلى عزفه الممتاز، ما يبعث غصّة حزن في حنجرتي!

كان العازف متردداً، لا يعرف ماذا يقول..

أقبل فجأة، يشدّ على يد "جاك"، ويكيل له فيضاً من المديح! فخجل "جاك"، وقال للضيف..

- أشكرك! أشكرك لإطرائك، لكن عزفك يفوق عزفي، بمراحل!

هزّ العازف رأسه، وقال في صوت خفيض..

- ليس في هذا مشكلة! المشكلة أنه لا يعرف هذه الحقيقة سوانا!}

 

 

القـسم الثاني

الفصــل الأول

(ص281-297)

{غلبت "مكسيم" حاجة مبهمة للبحث عن أمر لا يعرفه، منذ أن وطئت قدماه أرض إسبانيا!

خامره إحساس بأنه على ألفة من الوجوه التي أحاطت به.. يعرف هذه الجبال، والوديان، يعرف ملمس هوائها الدافئ، الجاف، على وجهه! وكلما أوغل في اتجاهه نحو الجنوب، زاد إحساسه هذا، فأبعد باريس وذكرياتها عن خاطره.. ليفسح مكاناً لمعاناة جديدة، كان يدرك أن لا طائل من ورائها.. ولا نفع في المثابرة على البحث عن أول خيوطها!

أكبّ، مع صديقيه، على دراسة اللغة الإسبانية، فكانوا يقضون السهرات وساعات الراحة، في حفظ المفردات والنهل من قواعد اللغة، يجد "مكسيم" لذّة في ممارسة قوة ملكة اللغات عنده.. فما إن تجاوزوا مدينة "سان سباستيان"، و"سان تاندير".. ثم "بورغوس"، وأصبحوا على مشارف "مدريد"، حتى أصبح في مقدوره فهم ما يسمعه، ومخاطبة الناس، ببعض لغتهم، رغم ما كان يعترضه، من صعوبة، في الرد على ما يسمعه، بالطلاقة المطلوبة، واللكنة الصحيحة!

*    *    *

كان خيال الشرق ما زال يتماوج أمام عينيه، في ما يرى.. وطيف تاريخ العرب البعيد يعترض جميع الوجوه.. فما إن دخل "مدريد"، واختلط بأهلها، حتى عصفت ريح الحاضر القوية بخيالاته، فبدّدت تلك الصور! فلا طراز البناء في تلك المدينة، على ما ظنّ أنه سيكون عليه! ولا طبائع الناس! هذا، عدا ميل للتصلّب في الرأي، وغيرة على النساء، وهما طبيعتان شرقيتان، تبيّن لهم أن معظم الإسبان يتصفون بهما..

عادت علائم الشرق، في تلك البلاد، إلى مكانها التاريخي، في ذهن "مكسيم"! تراجعت في الزمان، حتى أصبحت "تاريخاً" جامداً، يصبغ الواقع، ولا يتفاعل معه، فأراحه هذا الشعور.. ووفّر عليه عناء زجر حنين، كان قد بدأ يؤرقه، ويحضّه على طرح تساؤلات حول نهجٍ آخر، أو وجهة للخط الذي سار عليه التاريخ، أو تراجع، في بلاده! وحرّضه على احتمال تكوّن وجهٍ آخرٍ للشرق، غير الوجه الجامد، المتحجّر، الذي عرفه في بلاده!

لكن هذه راحة، لم تدم!

تفرّق الأصدقاء في "مدريد"، يحاول كل منهم أن يكتشف بنفسه وجه المدينة الذي ينشد! يخالطون الناس عن كثب.. يعودون إلى التلاقي، ليلاً، ويتسامرون فيما اعترضهم من نوادر.. يتبادلون الآراء في تلقائية وصراحة مألوفتين، إلا "مكسيم".. كان يحدّث صديقيه عما يعترضه من مفارقات، ويهمل ذكر ما يخص الشرق منها.. يزجه في حيّز الذكريات، كتلاً صماء، ما إن زادت، وتراكمت، حتى ثقُلتْ، فباتت تبعث في نفسه ضيقاً غريباً لا يفهم سببه!

ولم يكن قربهم من الأندلس، بعيداً عن سبب هذا الضيق..

راح "مكسيم" يماطل صديقيه، في متابعة السفر نحو "قرطبة" و"غرناطة" و"إشبيليا"، يتوق في سرّه إلى زيارة تلك المدن، ويتوجّس منها! وفي النهاية.. تركوا "مدريد" مروراً "توليدو"، فمكثوا فيها بضعة أيام، ثم يمموا وجههم شطر الأندلس..

*    *    *

السهول الجرداء، الصخور البيض المتناثرة.. الشمس والحرّ والضياء الساطع.. القرى الفقيرة البعيدة.. والطريق المستوي الطويل، الطويل!

الأفق الذي لا يقترب.. الهضاب المتتالية البعيدة.. التربة الحمراء.. النبات البريّ.. أكواخ الفقر التي تنمو في الأرض كالنتوءات الترابية.. ثم التين.. وبساتين الزيتون.. والقرميد الأحمر فوق البيوت الصغيرة المتناثرة..

الماعز النهم، الذي لا يترك الأخضر ولا اليابس.. الراعي الفتيّ الذي لوّحت وجهه الشمس.. يبتسم من بعيد، فإذا اقتربوا منه، يحملق في لحاهم الطويلة، ثم يشير إلى شفتيه، بأصابعه، يطلب منهم اللفائف!

مرت ساعات طويلة.. طويلة.. لاحت في آخرها، من بعيد، جدران بيض ناصعة.. وبساتين خضراء، يسطع نور الشمس على أوراقها..

لاحت لافتة عريضة كتب عليها "كوردوبا".. فتجاوزوها! دخل "غونثر" و"جون" "كوردوبا" بالفعل.. أما "مكسيم"، فدخل "قرطبة"!

*    *    *  

تسمّرت في نفسه، وعلى شفتيه، ابتسامة مريرة باهتة!

راح ينظر حوله في مزيج من الدهشة والألم لما يراه، ويتعرف على جذوره، يشوب إحساسه الحيرة والازدراء.. لقصر ذاكرة الزمان، والتاريخ!

هذه أرض كأنه عرفها، في زمن من الأزمان! عاش أجداده فيها ثماني مئة سنة! لا أحد يذكر شيئاً من هذا! ولا أثر لمن يعير ذلك الواقع، أي اهتمام!

هذه البيوت يعرفها!!

أبوابها.. شرفاتها.. .الطريق الضيقة التي تتخللها، أجمل من التي في مدينته وأنظف.. جدرانها، مشرقة البياض.. ورونق اخضرار النباتات المتدلية من نوافذها، يبهر من عرف الدرك الذي تردّت فيه أمثالها من الطرق، في مدينته القديمة! لكن.. أين هذه الغرف الصغيرة من الإيوان والمربّع، والقاعة، في بلاده؟ ما لصديقيه، يعجبان لهندستها؟! ولا سبيل لهما كي يريا ذلك الينبوع الذي تنافرت منه هذه القطرات! كيف تدب الحياة في هذه الصور الباهتة، والأصل الرائع في دمشق يتقاسم أو يمزق أشلاءه المعوزون! ولا من يهتمّ لذلك، في مدينته، وأهل القرى، في تخلفهم، باتوا هم القيّمون على مصير تلك القصور!!

لماذا يلوث التاريخ ويموت، وهو بين ظهراني أهله.. ويحيا، وهو في عصمة الأجانب؟

*    *    *

دخل "جون" و "غونثر" ال "الكزار" ! ودخل "مكسيم" "القصر"!!

تلك الابتسامة المريرة، التي كانت قد تسمرت على شفتيه.. بدأت تنال مما تحجر في نفسه، فراحت تحفر فيها، كما يحفر في الصخر!!

ضاق بما رآه من سمو الخيال، ومن روعة البناء، والزينة!

أحس بظلم، ما بعده ظلم!! هذه الآثار الدمشقية، هنا؟! هذه دمشق كما كانت عليه في يوم من الأيام.. وكما يجب أن تكون اليوم.. إنها ملك للأجانب المحتلين!! وهو يسير فيها، كواحد من السياح الأوروبيين!!

سأله "غونثر يعجب لشحوب وجهه..

- "مكسيم" مالك؟ هل أصابك وعك؟

لم يردّ على "غونثر".. أثار انتباهه ما سمع لاسمه، من وقع، على أذنيه!

لقد جاءه الجواب، في صيغة ذلك الاسم الذي ناداه به صديقه.. لقد كان سائحاً من بين هؤلاء السياح! ولم لا؟ أليس هو "مكسيم"؟ هل له من هوية أخرى؟!

هزّ لصديقيه برأسه، يشير إليهما ألا يهتما لأمره..

وتابعوا السير، بين الأزقة والردهات.. و"مكسيم" ذاهل عما يراه.. يودّ لو يترك ذلك "القصر" الرائع.. فما إن أنهوا زيارتهم وانتقلوا إلى الكنيسة التي كانت جامع قرطبة، في الماضي، فرأى جمال أعمدته، وروعة بنائه، حتى عاوده ذلك الضيق الشديد الذي انتابه في "القصر".. فاستدار على عجلة، تاركاً المكان وصديقيه، وراح يتمشّى في أزقة المدينة.. تائهاً، لا يلوي على شيء!!

*    *    *

دخل "غرناطة حزيناً.. كأن علّة أصابته، لا يعرف موضوعها!

لو أن صديقيه ارتأيا مغادرة "الأندلس"، نحو وجهتهم في "الجزائر"، لوافقهما، في الحال! غير آبه لزيارة "إشبيلية" ! ولا مهتماً لما سيفوته من فنّ في قصر الحمراء الشهير!!

رجا صديقيه أن يزورا معالم المدينة، من دونه.. فما كانت نفسه تطيق تبادل الآراء، ولا التباري مع صديق ألماني، والآخر أميركي، في فهم ما يكتشفانه، ويسيران في كنفه، من عظمة فن العرب!

بات في عزلة نفسية تامة.. يودّ لو يصلون "الجزائر" دون إبطاء، ودون أن يتفوه أحدهم بكلمة!!

*    *    *

خرج إلى الشوارع مبكراً وحيداً.. قال، يبحث عن أخي "بيبيتا"، وقد زوّدته، هذه، في باريس بعنوانه، وأوصته ألا يتحرك في "غرناطة" دون رفقته.. لكنه أجفل من ملاقاة شاب لا يعرفه، إنسان غريب، سيضطر إلى مبادلته المجاملة، وهو في وهن نفسي، لا يستمرئ معه تلك الشكليات.. فأهمل زيارة "بيدرو"، وبدلاً عن تلك الزيارة، سأل المارة يستهدي عن وجهة "الجينيراليفة"، أي، "جنة العريف" وقصر "الحمراء".. ثم سلك الطريق التي أشير عليه بها، وكانت تقود إلى خارج المدينة..

*    *    *

رأى الأشجار الباسقة، من بعيد.. ثم صروحاً شامخة لأبراج قلاع، ذُهل لأنه لا يعرف شيئاً عن تاريخها! ولا تعلّم في بلاده أن لها علاقة بتاريخ العرب الصحراوي!

سعى بين الأشجار، يتخللها منظر قرميد سطوح القصر.. فتعجب للطابع الأليف، الأنيق، لتلك الأبنية العالية، التي بدت من بعيد، كأنها مجموعة مساكن مأهولة، لأثرياء معاصرين، متعالين، لا كما تخيّل، مما سيكون عليه حال قصرٍ، عربيٍ، مهجور! فما إن اقترب منها، وولج باب السور الكبير، حتى أحسّ بضربات قلبه، تشتدّ، وتعلو، لما وجد نفسه، فجأة، وسطه، من حدائق غنّاء على أحسن ترتيب، خالية، في تلك الساعة المبكرة من النهار، حتى من حارس أو دليل، أو سائح!

مشى الهوينا في دروب الحدائق، يكاد يسكره ما يملأ صدره به من هواء الصباح النقي.. تأتيه بين الفترة والأخرى، نسمات منه، مفعمة بشذا ثمار السرو، أو عبق الزنبق، والزيزفون، والياسمين..

عاد يملأ صدره من ذلك العطر، حتى غشي بصره فعلاً، فتوقف قليلاً، تريّث، ريثما يغمض عينيه، فيستدرك صحوه، لفرط ما اجتاحه من إحساس أزليّ بانعدام الزمان..

أين كان؟ ما حقيقة ذلك المكان؟ لماذا تقوده قدماه فيه، وهو مغمض العينين، نحو مدخل القصر الفسيح.. هل كان عائداً إليه، أم خارجاً منه؟

عاد إليه وضوح بصره، أمام أول الردهات.. فاتكأ على أحد الأعمدة الرخامية، يحيطه بذراعيه، ثم أسند رأسه إليه.

كان شاخصاً نحو الأرض، دون أن يدري، رفع رأسه في بطء، فترامى نظره أمامه يتهادى في أناة، عبر أحواض، وأعمدة الردهات، تجوب عيناه المذهولتان الساحات الفسيحة، وتستقران على البحيرة، في ساحة الأسود..

ما سرّ ما اعتراه في تلك اللحظة، وهو يستوعب جميع ما في تلك الساحة، وما حولها، من أعمدة حمراء، وما على السقوف والجدران من نقش، وحفر، وزخرف، وحضارة؟! لم ير أحد نظره، يغشى من جديد، ودموعه تتساقط على خدّيه.. وما أحسّ، هو منها، سوى بحرارتها، ثم ببللها ينساب على صدره!!

تقدم حتى بلغ "قاعة السفراء".. فتحسس المصطبة الرخامية، إزاء النافذة العريضة.. كأن أحدهم أزاح الوسائد الملكية، التي كانت عليها منذ لحظات.. فجلس على الرخام البارد، جنبه إلى الحديقة، والطيور، وعبق الياسمين.. وجنبه الآخر، إلى القاعة، ورخام جدرانها الأبيض، وما نقش وحفر عليها، من آيات عربية وشعر، في خطوط وأشكال رائعة، تشدّ النظر إلى زمرٍ، من الأعمدة الهيفاء الرشيقة، فيغنّي، ويرقص، ويتهادى النظر، فوق نظامها، حتى يعود قريراً، هادئاً، إلى باحة الأسود، ويستقر على نافورة الماء الوديعة..

نظر ملياً إلى الجدران، يودّ قراءة ما عليها من حروف حبيبة إلى قلبه! فلم يقو على ذلك لما غشي عينيه من دموع!

لم ير سوى خيالات تبرق وتغيب.. لهف قلبه! لهف قلبه!! لهف قلبه!! أين أهل الدار؟! من كان، هو، في تلك اللحظة؟ أطيفُ أحدهم؟ أواحد منهم؟ أزائر، من غابر الأزمان، عاد يطل على ذا الجدار، وذا الجدار؟! إنسان مستقبلي؟ عاد يتقفّى آثار الجدود؟!

أحس بصقيع نفسي لم يعرف مثله من قبل.. اضطربت أنفاسه، وتهدّجت ، ثم أحس بألم خانق في حنجرته! فانطلق يجهش في بكاء طفولي، عنيف، لم يعرف له سابقة في حياته!!

ها هو ذا بين أهله.. وليس لأهله من أثر..

ها هي ذي معالم وطنه، تنبئ بها هذه الجدران.. وهذه الأعمدة الدقيقة، الفريدة، تهزّ رؤيتها دموعه، فيكاد يرى أهلها، وصحبهم، يختالون بينها!

"فراس"؟ "مكسيم"؟ اسمان لم يبق لهما من معنى، ولا أثر!! ها هي ذي جذوره أمامه.. تعلو عن الأرض، بدل أن تغوص فيها! ها هو ذا يجد نفسه، دونما حاجة إلى اسم، أو تعريف!!

عاد يجهش بالبكاء، يذوب مع الدمع، حقده لما فرض الماضي على هويته من تخلف، أحس بالدموع تصفي النقمة، والرفض في نفسه! فأطلق لهما العنان!!

ها هو ذا وجهه العربي الحضاري، يتبدّى له كشمس  الفجر المشرقة!!

ها هو ذا وجهه الإنساني.. ولا شأن عنده لما يمكن أن يطلق عليه من أسماء!!

هنا.. وبين هذه الجدران تكمن روح ما يمكن أن يتجاوب مع نفسه، من أدب، وفلسفة، وشعر، وفن، وعلم، وموسيقى!! إن الذين بنوا هذه الجدران، وتصوروا تشكيلها الهادئ الرائع، الأنيق، ثم عاشوا فيها.. هم أناس حضاريون مثقفون، لا يعرفون الكلام الطنان الأجوف!

إن من حسب نِسَبََ قياسات هذه الأعمدة المرهفة، المتناسقة، لا يعرف الكذب، في البطولات الفارغة، أو الرياء، في المزاودات الأنانية، الخسيسة!! ثم.. إن من شاء هذا الجمال، ليكون.. وكان فيه.. لا يمكن أن يتنفس سوى الرقيّ، والنظافة، والأناقة، والدماثة، والكياسة!! لا حين يكون راضي النفس، هانئاً، فحسب، بل حتى حين يجتاحه الغضب!!

لا ! لا علاقة لأهل بلده اليوم بهذا العالم، ولا بهذا القصر!!

لو أعيدت ملكيته إليهم وجاءت خيرتهم لتسكنه، لربطت حبال الغسيل، بين الأعمدة!! لشوّهت هذا الحفر الأبيض الرائع برسوم وألوانٍ تماشي ذوقها المتدني.. لنمقّها بالأحمر، والأزرق والأخضر! ولانطلقت الأطفال في هذه الحدائق، تقتل الطيور، كالعفاريت الخبيثة، تشتم بعضها! تضرب بعضها!! تدوس النبات، وتقطع الأزهار، وتفرغ أكوام القمامة من الشرفات الشامخة!!

*    *    *

أحس أنه في وحدة مع الكون..

تاه في إحساسه، عن المكان الذي كان فيه.. لم يعد في نقمة أو ضياع، لأنه يعيش في هذا العالم، دونما جذور...لقد وجد هذه الجذور.. وارتاح لها..

ثم خطر له خاطر!

هذه جذور هويته.. لكنها كجذور زهرة "النيلوفر".. تنمو في تلك اللحظة من فوق، إلى تحت.. تنطلق من زهرة، تطفو على سطح الماء الراكد.. لتهبط في عمق الماء، بحثاً عن أرض تقتات منها.. إنها جذور فوقية! أين أرضها.. أين التراب؟! أين أرضه، هو؟!

*    *    *

تنبّه إلى جماعة من الناس، تعبر باحة الأسود، وتقترب من قاعة السفراء، حيث كان يجلس، غارقاًً في تأملاته.. كفكف دموعه، على عجلة، وهمّ بالنهوض، ففطن إلى أن جفنيه يحرقانه، وعينيه لا بد محتقنتان! فعاد إلى وضعه الأول، وأشاح بنظره نحو الحديقة، متجاهلاً قدوم ركب السياح..

وقف القادمون في منتصف القاعة، يتأملون جمالها الأخّاذ.. وراح الدليل يشرح لهم، بالانكليزية، تفاصيل، عن بنائها، وعن حياة من أقام بها من ملوك.. كذب الدليل، فيما ذكره من وقائع التاريخ، وزوّر لسامعيه وزاد.. ثم وصل في الشرح إلى النافذة، حيث جلس "مكسيم".. فتعجّب لاستغراقه، وقال لمن حوله، مازحاً، في أدب..

- إن السيد، جاء مبكراً.. رأيته من شرفة الحارس البعيدة..

وراح ينتظر جواب "مكسيم"..

حاول "مكسيم" أن يجيبه، دون أن يلتفت إليه، كي لا يرى عينيه أحد.. فلم يجد حيلة لذلك.. فنظر إليه على عجل، وهزّ رأسه موافقاً، مبتسماً..

ما إن رأى الدليل عينيه المحتقنتين، حتى أشاح بوجهه، عنه، في لطف مفتعل.. وراح يتابع ما ابتدأه من شرح لجماعته.. سرعان ما غاب "مكسيم" عمن كانوا في القاعة، وقد أدار ظهره لهم، وسرح مع ذاكرته، إلى بضعة أيام مضت.. حين زار دير اﻠ "اسكوريال" الكبير، حيث تدفن ملوك إسبانيا.. وزار مكتبته الضخمة، فوقع مصادفة، على ما فيها من مخطوطات عربية ثمينة، لا يعرف سوى قليل من الشرقيين، أنها على قيد الوجود..

مرة أخرى كاد يغلبه الأسى، آسفاً على الحبيب، كيف يترك ليموت بين مقابر الأعداء، يدفن، وهو حي، وجسده ينزف دماً..

تنبّه إلى صوت الدليل، وقد ترك جماعته، وأخذ يكلم أحدهم، بالإسبانية، هذه المرة.. فأصغى إلى الحوار، دون أن يلفت انتباه المتكلمين..

-.. لكن عينيه قطعتان من الدّم.. هلاّ سألته عن مصابه؟ لعله في حاجة إلى عون..

سمع الدليل يجيب في صوت خفيض..

-.. لا يا عزيزي! ليس في هذا من جديد علينا.. إن مثل هذا المشهد يتكرر بين الفترة والأخرى.. نحن نعرف هذه الظاهرة، منذ زمن بعيد..

-.. لم أفهم!

أجاب الدليل، موضحاً..

-.. لا بد أنه عربي! بل ليس من شكٍ في هذا! ومن الخير أن نتركه على حاله! إنها نوبات من الحنين، تصيب بعضهم من وقت إلى آخر! كحالة اليهود، على حائط المبكى!!

-.. عربيّ؟ وهل أنت متأكد من ذلك؟ لا يبدو لي أنه عربي.. ظننته إفرنسياً، أو إنكليزياً..

هزّ الدليل رأسه، متعجباً لقول زميله..

- أتظنهم جميعاً على مثل أولئك الذين راحوا يطلقون الصيحات العالية منذ شهور؟ يا إلهي، لقد كانوا أعضاء من وفدٍ رسميّ، راحوا يرددون أشعاراً لا يفهمها أحد، يؤذون الآخرين بتصرفاتهم، حتى نفر منهم معظم السياح! إنما هؤلاء همج، يا عزيزي، يظنون أنهم وطنيون! أمثالهم، هم الذين خسروا "الأندلس" وخلّفوها لنا فيما مضى!! لا.. لا يصحّ أن نضع جميع العرب، في كفة واحدة، من الميزان! لا تنس أن منهم من بنى هذا القصر، وغيره، مما عندنا من روائع!! لقد كان في مكتبة هذه المدينة، وحدها، نصف مليون مخطوط عربي.. معظمها عن الفلسفة، وعلوم الطب، والفلك، والكيمياء، والجبر، والهندسة ! أتدري، أننا أحرقناها جميعاً يوم طردناهم من هذه البلاد؟! إنها غلطة لم ينسها لنا التاريخ!!

نهض "مكسيم" واقفاً.. تظاهر أنه مغرق في تفحّص ما حوله من كتابات.. وأصاخ السمع إلى الدليل، وهو يتمشى، مبتعداً عنه.. فسمعه يتابع قوله..

- لو ترك الأمر لي.. لمنعت العرب من دخول هذا القصر! أو غيره، من آثارهم هنا! بل إن عندي ما هو أفضل! لو ترك الأمر لي لهدمت هذه الآثار، واقتلعتها من جذورها!! ماذا نجني من الاحتفاظ بها؟! فيما عدا العائدات السياحية؟ إنها الشاهد الوحيد على ما هدمناه من حضارة العرب، حين أعدنا فتح هذا القسم في بلادنا، منذ خمسمائة عام! لكم سمعت من السائحين، من يقول، وهو مأخوذ بروعتها.. "ليتني كنت عربياً" !! لكم سمعتُ أقوالاً مثل.." لئن كانت هذه حالهم، منذ خمسمائة عام، فإلامَ كانت ستحلّق نحوه حضارتهم لو لم يدمرها الإسبان"!! أقول، ماذا نجني من وراء الحفاظ على هذه الآثار، سوى إيغار الصدور، نقمة علينا؟! وتذكير أولئك العرب الذين يزورون بلادنا، بحقيقة تاريخهم.. وحقيقة ماضيهم!! لقد ارتحنا من الخطر العربي، منذ أجيال.. فلماذا نترك لهم هذا المزار؟! لو ترك الأمر لي، لما تركتُ لهم من تراث، سوى الخيام، والسيوف، والرمال، يحلمون بها!! تماماً كما يفعلون الآن في بلادهم!!

سخر منه زميله.. وسأله..

-.. هوّن عليك! وما سبب هذا الحنق؟! هل تخاف أن تكون لهم رجعة إلى هذه البلاد؟

- إن أكثر ما يثيرني، هو ألا يُعجب السياح، في بلادنا، أكثر ما يعجبون، إلا بما تركه العرب فيها منذ أربعمائة وخمسين عاماً!! ويفضّلونه على جميع ما قمنا به نحن !! أتدري، إن الشاعر الإيطالي الكبير "بترارك" قال، فيما كان يقول.. "أيها الأوروبيون، متى تزول عنكم عقدة، ألاّ نبوغ إلا عند العرب؟" لقد قال هذا منذ 500 عام فقط.. ومعنى ذلك أن نبوغهم كان لا يزال يسيطر على أوربا، حتى ذلك الحين! أليس من دواعي العجب أن يكون العرب قد نسوا ذلك تماماً؟! لقد قمنا بغسل أدمغتهم، كما لم يحدث لأية أمة مقهورة، من الأمم!! فلماذا نذكّرهم بماضيهم الحضاري؟ إنهم لا يعرفون اليوم من ماضيهم سوى الطابع الآسيوي الصحراوي لحضارتهم؟ "عالم ألف ليلة وليلة".. وحروب الفتوحات.. هذا هو المهم، يجب ألا يُترك لهم سوى الحنين إلى الرمال، والسيوف، والخيام.. لقد نسوا أنهم كانوا قبلة العلْم! لا يُقبَل غير رأيهم فيما ستتجه إليه العلوم في المستقبل! نظن اليوم أنهم ذهبوا إلى غير رجعة.. ومن يدريك؟ ألم تر كيف عاد اليهود إلى فلسطين؟ فمن كان يظن ذلك ممكناً منذ مائة عام؟!

*    *    *

أقبل السياح، جماعات وفرادى.. فتمشى "مكسيم" الهوينا خارجاً من قاعة السفراء.. وإذا به "غونثر" و"جون"، واقفين، ساهمين، مشدوهين لما رأياه من زينة وجمال قاعة الملوك..

سرّا بلقاء "مكسيم"، فأغرقاه في الحديث عما كانا فيه من جمال.. "الحمراء".. وتاريخها.. إلى أن سأله "جون"..

- لكن.. ماذا بك؟! أراك محتقن الوجه، هل أنت مريض؟

تذّكر "مكسيم" قول الدليل.. فأجاب، مازحاً..

- هذه المرة الثانية التي أسمع فيها هذا السؤال، اليوم! لشدّ ما أود أن أعرف ماذا سيتلو سؤالك هذا من تعليق!

فتح "جون" عينيه، لا يفهم شيئاً مما سمع.. وضحك "مكسيم" عالياً وتابع..

- لا. لا! لاأهمية لما قلته.. لقد كان بي وعك، بسيط، وزال! أزاله سر هذا المكان!

ثم قهقه عالياً..

قال "غونثر" متعجباً، بدوره..

-.. أتدري؟ إن هذه أول مرة أسمعك تضحك فيها، كما كنت تفعل في السابق! لم أسمع منك هذا الضحك منذ شهور عديدة.. بل إن في عينيك، رغم احتقانهما، من صفاء، ما لم أره فيهما، قط! هيا نخرج إلى الحديقة..

- وهل أنهيتما زيارة القصر؟

- قضينا فيه من الوقت قرابة ساعتين! وسنعود إليه غداً.. وبعد غد! هيا..

 *    *    *

توجهوا، نحو غرناطة، عائدين إليها على الأقدام..

قال "غونثر"، وهو ينظر إلى القصر، من بعيد..

- لقد قرات الكثير عن تاريخ العرب، في الندلس.. ما قولك يا "مكسيم".. هل تظنّ انهم سيعودون يوماً غليها؟

ضحك "مكسيم" ملء قلبه، مرة ثانية.. وقال..

- لا عجب أن  يثور ذلك الدليل المسكين.. وهو لا يسمع من السياح سوى الإعجاب بتاريخ العرب هنا! والسؤال عن احتمال عودتهم في يوم من الأيام! أين العرب من هذا، يا عزيزي؟!

تعجّب "جون"، لقوله..

- وما الغرابة في ذلك؟ لم يكن في هذه البلاد ما يستحق الذكر حين احتلها العرب.. ولقد مكثوا فيها ما يزيد على سبعمائة عام.. إن هذا الزمن أطول من تاريخ الإسبان فيها، منذ أن طردوا العرب من هذه المدينة.. أي، منذ أربعمائة وخمسين عاماً فقط! انظر كيف عاد اليهود، إلى فلسطين.. رغم قصر مدة مكوثهم فيها.. ورغم طردهم منها منذ حوالي ألف وخمسمائة عام!

ردّ "مكسيم"، مستبعداً..

- العرب اليوم في طور تحرير بلادهم، المعترف فيها إنها لهم! فما طائل الحديث عن احتلال نصف إسبانيا؟ وهل هم في حاجة إلى مزيد من الأرض؟

قال "غونثر" متأسفاً..

- إنما أنا أعني إحياء هذه الحضارة التي تركوا هنا! غريب، كيف لا نسمع عن العرب، إلا ارتبطت صورتهم في أذهاننا اليوم بالكوفية، والخيام! بالصحراء التي لا بناء فيها، ولا زرع!! أين هذه الصورة عن العربي، من التي عرفتُها اليوم عنه! صورته، هنا في غرناطة! منكباً على دراسة العلوم، والفلسفة، والفنون!! متعمقاً فيها.. يعيش، منذ خمسمائة عام، حرية فكرية واجتماعية، لا يعرفها اليوم!! لا شك أن هناك من يلعب بالتاريخ! يحوّره، لهدف ما!!

أجاب "مكسيم" ساخراً..

- لو سمعتَ ما قاله الدليل، وأنا في قاعة السفراء، لفهمت السبب! فالغرب، لا يحارب العرب طمعاً في ثرواتهم، فحسب، بل خوفاً من استفاقتهم، بعد نوم طويل! أما وقد أفاقوا، فلم يبق أمامه من سلاح، سوى غسل أدمغة بعضهم، وتخدير بعضهم الآخر! وسلاحه في ذلك، التاريخ..

- ماذا تعني؟ أي تاريخ هذا؟!

-.. إن تارخ العرب اليوم، مكتوب بحوف لاتينية، يهودية! ومراجع العرب، للبحث عن تاريخهم، مراجع غربية! جميع شعوب الغرب، إذا نظرت إلى ذاتها اليوم، ترى جذور ماضيها الإغريقي، يشير إلى صورة مستقبلية، حضارية، عن نفسها.. فإذا أكدت مساوئ الماضي، أو انتقدته، ترى الغربيّ منّا، يضحك منك، ومما تقول! ويشير إلى المستقبل.. لا يهتم لسواه! أما العرب.. فإذا نظروا إلى أنفسهم، لم يروا سوى الماضي! وإذا اشتطوا في أحلامهم.. لم يغرفوا سوى صور من الماضي، يودّون، لو يستطيعون، إحياءها اليوم! ومن رسم لهم، هذه الصور؟ أو كتب لهم، هذا التاريخ.. سوى الغرب الواعي لأهدافه، والذاكر أحقاده؟!

- أليس عندهم من مكتبات، ومخطوطات، يرجعون إليها؟

ضحك "مكسيم" ساخراً..

- سوف ترى ماذا ترك لهم الغرب، متى وصلنا "مراكش" و"الجزائر"! لم يترك لهم المستعمر من مخطوطات، سوى التي تتعلّق بالشعْر، والسحر، والحروب، والدين، وحكايا الأسفار!! وهذا ما أعنيه بقولي، عن غسل الأدمغة! فماذا يمكن أن يصل إليه العربي، من علم مستقبلي، إذا لم يُسمح له بغير قراءة الشعر ودراسة السحر، والدين وتفاسيره، وحديث الفتوحات، والأسفار، على ظهور الخيول والجمال؟

- أليس لديهم اليوم من كتب مترجمة؟

.. تصوّر! إن الأمويين، أثناء دكمهم القيصر، ترجموا إلى العربية جميع ما وقع تحت أيديهم من كتب علمية وفلسفية.. إغريقية كانت، أم هندية.. أم فارسية! وكانوا مسلمين متدينين لا يخشون العلم! كذلك العباسيون.. كانت عندهم دار للترجمة، يدفعون فيها ثمن المخطوط المترجم، ما يوازي وزنه ذهباً!! أما اليوم.. فالفكر مربوط بالأهداف السياسية المؤقتة!! أما موضوع السياسة، أو الدين، فماذا أقول عنهما.. والرقابة تحظّر الكلام عنهما! وتقف، سيفاً مسلطاً، فوق أقلام الكتّاب؟!}

 

 

الفـصل الثـالث

(ص319-320)

{عاد "مكسيم" من موعده، في مجلس " القصبة"، ورأسه يدوّي بما تكشّف أمامه من أبعاد قد يقوده إليها هذا المنعطف المفاجئ الذي قاده إليه القدر!

تمشّى منحدراً في دروب القصبة الضيّقة، عائداً إلى المنزل، حيث ينتظر صديقاه، ورأسه يضجّ بما ذكره له "عثمان" من أسماء، وتفاصيل، وأرقام، حظّر عليه أن يدونها.. فراح يعيد تلاوتها، في ذهنه، يرسّخها في ذاكرته.. يتبسّم، لصبية صغار، كانوا يركضون وراءه، يخاطبونه بكلمات جمّعوها من مختلف اللغات.. تنتهي، جميعها،إلى طلب "سيجارة" أو "بخشيش"!

قد يجد السائح الأوروبي، متعة في مداعبة هؤلاء الصبية، أو لذّة في التمشّي عبر هذه الأزقة الضيّقة الملتوية، وبين هذه الجدران المتهالكة، المصنوعة من اللبن والطين! ثم هؤلاء النسوة، المتدثرات بعباءاتهن البرتقالية، المخططة بالسواد! من الذي لا يجد في بدائيتهن، طرافة! وكيف لا يتسلّى الغربي، وهو يشاهدهن ينتقلن بين تلك الدروب، كحيواناتٍ أليفةٍ، عجيبة! تمشين، مقوقعات الظهور، متخفّيات، كأن ما في نفوسهن من جذام قد امتدّ إلى وجوههن، فبات من الخير ألاّ يسقط عليها النور، أو تقع عليها أنظار غيرها من البشر!!

عاد خياله إلى مجلس "القصبة"، حيث تربّع قبالته "عثمان" الوسيم، تتوقّد عيناه السوداوان، الثاقبتان، حماسة لوطنه! ودّ لو يقول له: "لا يا عثمان"! لا، أيها المجاهد! ليس بالحماسة، والثأر، وحده يُطرد المستعمر.. أو يُنهض بهذه البلاد من حيث تردّت!! قد يملّ المستعمر القتال.. أو يعجز عن إفنائكم.. فتترك جنوده الأرض لكم.. فماذا بعدئذٍ؟! ستهللون للاستقلال، والحرية!! ستستقلّون بمصير هذه الأرض، عاجلاً أو آجلاً.. وستصبحون أحراراً تتنقّلون عليها، حيث تشاؤون.. وماذا بعدئذٍ؟! من الذي سيحرثها، ويزرعها، ليقف نتاجها ندّاً، لنتاج أوربا؟ أفلاّحكم الأميّ، وامرأته المتحجّبة؟! من الذي سيبني علمها ومصانعها، ويشيد فيها، قصورها، وحضارتها؟! أهؤلاء الصبية الحفاة؟! ستصبح يا عثمان، يوماً، عقبة في وجه نهضة بلادك!! لأنك ستملك زمام القيادة فيها.. وستظن، أن ما هو خير، لك.. هو خير لبلادك! من الذي سيقوى على نزع البندقية من يدك آنئذٍ، ليضع بين أصابعك القلم؟! وماذا تعرف، أيها الثائر، عن القلم، وعوالمه اللامتناهية.. وقد أضعت العمر في الشدّ على زناد السلاح؟! ستعود، يا عثمان، إلى المستعمر، صاغراً، تطلب منه الصدقة، والعون، لأنك لا تعرف كيف تستغلّ ثروات بلادك!! سيعود الأعداء إلى وطنك في صيغة جديدة.. خبراء، ومعلمين.. لأنك لم تلتفت، ولن تلتفت، إلى تنمية مثل هؤلاء، في بلادك!! وسيأتي من الغرب من يحدّثك عن الذرة، والفكر، والفن، فتنبذهم، وتشهر أشعار الأقدمين في وجوههم وتقول.." هذا هو التراث، لست أحتاج غيره"! وبالرغم من كلّ ذلك.. سأخدمك يا عثمان.. سأنفذ ماطلبته مني بحذافيره، ولو تعرضّت حياتي، في سبيل ذلك للخطر! إنها لعنة التاريخ يا عثمان.. أمثالك من الحفاة أبطال، صادقون! لكنهم لا يعرفون "غرناطة" ولا يأبهون لفلاسفتها!! وأمثالي يا عثمان، تعيسون، لا يعرفون سوى الكلام والقلم.. لا يحسنون حمل البندقية.. واليوم، يوم البندقية!!}

 

 

الفصل الخـامس

(ص344-348)

{مضت ساعات وهم على تلك الحال، يقصّون عليه حكايات الشجاعة عن حربهم ضد الفرنسيين، وما يكاد يحرك "مكسيم" كتفه، وهو ينصت إليهم، حتى يخفّوا إلى تركيز وضع الوسادة خلف ظهره، يقشرون له الفاكهة.. أن يقدمون له الشراب! يديرون له مذياعاً صغيراً كان قرب رأسه، على ما حلا لهم من أغاني بلدهم.. تذكّرهم ألحانه بفتيات، راحوا يقصّون على "مكسيم" قصص غزلهم معهن! ينصت الصغار، لتلك الحكايات، يعجبون بها، ثم ينظرون إلى "مكسيم"، يبحثون في نظراته عمّا يشير إلى إعجابه، هو الآخر، بجرأة وإقدام هؤلاء الشباب!!

عالم مستقل من البراءة، والجمال، والبدائية، الساذجة! عالمٌ رفض "فراس"!! ولو أن ليس في الكون غيره لتمنى "مكسيم"، على الزمان أن يتوقف، ليعيش في كنفه، إلى ما شاء الله من السنين! لكن العالم جسم كبير، جسد، فيه ألوف الخلايا! وهذه الخلية البريئة، ليست سوى إحداها، وهي، في غير مكانها من التاريخ، تظنّ أن حدود العالم تنتهي عند حدوده "القصبة"!!.. كيف يقدر لهذه البراءة أن تعيش، وعلى حدودها.. وراء البحر، تجثم أوربا، متربّصة بها، وفي أوربا فتية على عكس هؤلاء، يمعنون في العلم والفلسفة، يتلقفون فنون الحرب، النفسية والجسدية، ويتخصّصون في الدّوس على كل ما هو ساذج وبريء؟!!

*    *    *

خرج من تلك الدار، في"القصبة"، بعد أيام، يرتدي ثياباً وطنية، طريفة، يسير في رفقة اثنين من هؤلاء الشبان، بعد أن زوّدهم "عثمان" بما يلزمهم من مالٍ، ونصائح، وتعليمات.. للتسلل خارج مدينة الجزائر..

أمضوا أياماً سعيدة على طريقٍ طويلة، لم تعترضهم فيها عقبات.. فما إن تجاوزت سيارتهم القديمة "غيزان"، و"سيدي بالعباس"، ثم وصلوا مدينة "تلمسان"، حتى عاد شبح الأخطار يراود مخيلتهم، يضحك الشابان، مما يراود خيالهما من تصورات غريبة مخيفة، ويذكر "مكسيم" أشلاء صديقيه، على صخور ذاك الوادي، فيتساءل في سرّه ما إذا كانت نبوءة "بيدرو" ستشمله هو الآخر..

توجّس خيفةً لمّا سمع رفيقيه يتحدثان عن ممر جبليّ ضيق، يؤدي إلى "وجدة"، على الطرف الآخر من الحدود، يصل المغرب بالجزائر، عبر طريق جانبية، محفوفة بالمخاطر!

درب يطرقها الثوار، لاستحالة وصول وسائل نقل العدو، أو أسلحته الثقيلة إليها..

أفكار قاتمة عن النبوءات، راحت تراوده، على غير عادته، كان يطردها، هازئاً من بدائيتها!

ما إن وصل منتصف الطريق التي تفصل "تلمسان" عن الحدود، حتى عرّجوا نحو الجنوب، باتجاه سفوح جبال "الأطلس"، تاركين السائق، ليتابع طريقه دونهم، فيسبقهم، على أن ينتظرهم في مكان معيّن، بعد أن يتجاوز الحدود..

ترجّلوا، وتسلّقوا قسماً من تلك السفوح العالية اليابسة، حتى أنهكهم التعب.. فما إن وصلوا إلى ملتقى، كانوا قد تواعدوا على التلاقي فيه، ووجدوا فيه ثلاثة بغال كانت في انتظارهم، حتى امتطوها، فرحين بأن مشقتهم قد أوشكت تنتهي.. وتابعوا طريقهم، متفائلين، نحو الحدود..

*    *    *

جنحت الشمس نحو المغيب، ومالت السماء إلى الظلمة، وهم في صعود صامت، على ذلك الممر الضيق الملتوي..

كان "مكسيم" يقود مطيته، بين حارسيه، على بعد خطوات من الشاب الذي أمامه.. يسمع وقع الحوافر فوق الصخور، وتطاير الحصا من تحتها، تسقط الأحجار في الوادي، تجرّ غيرها وراءها.. فيتباعد صوت تدحرجها.. ويذوي، حتى لا يسمع له، آخر..

ما كاد يحلّ الظلام وهم لا يزالون على ذلك الممر، حتى أمسكوا عن متابعة الرحلة، فتوقفوا برهة يتداولون في أمرهم، وإذا صوت طلقة نارية، يُسمع من بعيد..

قال أحد الشباب، على عجل..

- ليس أمامنا سوى متابعة الركوب.. لنُسرع، ما استطعنا، لم يبق أمامنا سوى نصف ساعة، على أبعد تقدير!!

سأل "مكسيم"..

-.. وما هذه الطلقة؟ ومن أين أتت؟ هل من جنود على هذه الجبال؟

-.. ولم لا؟ قد تكون من بندقية فرنسية، او من أحد الثائرين، أو من مهرّب، أو من بندقية أحد حراس الحدود.. جميع الاحتمالات واردة.. وفي الظلام، جميعها خطر!

وإذا صوت طلقة أخرى، أقرب من الأولى، يُسمع له صفير طويل، ثم انفجار، ذو رنين موحش الصدى!

وكزوا الدواب، يحثونها على الإسراع، وإذا بمطية "مكسيم" تتعثر، فوق صخرة مرّت من تحت حافرها الأمامي، تكاد تكبو، فتنهض من جديد، تحاول أن تسبق المطية التي أمامها..

أخاف ذلك مطية الشاب الأمامي، فانطلقت تعدو هاربة من الصوت المفاجئ، الذي انبعث من ورائها! لحظات.. وإذا بالبغال الثلاثة، تستبق، تنفر من أصوات حوافرها، الموحشة، يخيفها الظلام.. فتتابع صعودها، غير آبهة لما على جنب الطريق من منزلقات، كأنها تهرب من خطر يلاحقها!

ما هي إلا دقائق، حتى كانوا قد بلغوا قمة الممر، وبدل أن تتوقف البغال عن عدوها، هوت نازلة، على الدرب المقابل، رغم ما كانوا يشدّون أعنّتها، متسابقة على غير هدى، فوق تلك الصخور المميتة!!

كأن قرقعة الحوافر المدوّية كانت إشارة لأحدهم أن يبدأ المعركة، فإذا بوابل من طلقات الرصاص، ينبعث في الظلام، من كل جنب، يتبعها صداها.. فتختلط الأصوات، بما راحت تطن به آذانهم، من ضربات قلوبهم!!

عاد "مكسيم" لا يرى ما أمامه.. أحس كأنه قد أغمض عينيه أو فقد بصره، لا يود أن يرى الهاوية، إذا ما سقط فيها!!

كان الهواء البارد يلطم وجهه، فتسيل دموعه، قارسة على خديه! رفع ذراعه، ليمسحها، وإذا مطيته تعرج إلى اليمين فجأة، فكاد يهوي، عنها لولا أن مال بجذعه نحو الأمام، لافّاً ذراعيه حول عنقها...يتمسك به!!

مرت دقائق طويلة، وهو على تلك الحال، أحس خلالها، كأنه معلق بين الحياة والموت!! تباعد خوفه رويداً رويداً، ليحل مكانه شعور مبهم بالقدرية واللامبالاة، كأنه ودع مرحلة الحياة.. مقبلاً على رحلة الموت.. يعبر برزخاً طويلاً بين المرحلتين!!

اختلط إحساس الحياة والموت، في نفسه، حتى عاد لا يميز ما بينهما من اختلاف أو معنى!! تضاعفت حاسة الشمّ، عنده، فاختلطت رائحة التراب في أنفه، برائحة عرف مطيته.. وكان وجهه يصطدم بعنقها، من حين إلى آخر.. فلا يأبه للكدمات القاسية التي راح يتلقاها.. كأن خوفه من الألم، قد ضاءل من إحساسه به!!

شد ساقيه على بطن مطيته...وأحكم لف ذراعيه حول عنقها، بما تبقى له من عزم.. يحاول تجنّب السقوط، لا يتمنى سوى أن يجنّب جسده الألم!

خفّ صوت الطلقات فجأة، وتباعد، حتى بات لا يسمع، مرة أخرى كأنه آت من بعيد!!

أقلعت مطيته عن الهُوِِِِِِِِِِِيِّ والتحدر، استوى الدرب، فتباطأت، بعض الشيء، حتى انتظم عدوها، فاستوى بدوره فوق سرجه، يحاول جاهداً أن يميز ما حوله من الأشكال! رأى مطية الشاب الذي أمامه، فتنبه إلى أنه لا يسمع سوى أصوات حوافر مطيته هو، فنظر خلفه، يبحث عن الشاب الذي كان وراءه..  فلم ير له من أثر..

صاح للشاب الذي أمامه أن يتوقف، فلم يرد هذا عليه، وتراءى ﻠ "مكسيم" أنه يلوح له بذراعه، يحضه على الإسراع، في اتجاهه.. فما إن لحق به، وأدركه، حتى سمعه يقول..

- لقد وصلنا! إن العربة على بعد مسافة قريبة! عليك بها! أسرع!!

- لكن رفيقك قد اختفى.. كيف تتركه؟

صاح الشاب، وهو يتابع عدوه..

-.. أعرف ذلك.. لا عليك! سأعود إليه في الصباح.. أو قد أعود الآن..

-.. لعله قد سقط عن مطيته! قد يموت إذا ما تركته حتى الصباح!!

-.. لا عليك.. إن الأعمار بيد الله! لن يصيبه إلا ما قدّر الله له! أسرع.. أسرع! ها هي السيارة.. عليك بها!!

قفز "مكسيم" عن مطيته.. وأسرع يعدو نحو نور العربة التي كانت في انتظاره، على أهبة المسير! لحظات، وكان في داخلها، يزيح الجبة الوطنية عما أخفته من ثيابه، ينظر عبر النافذة الخلفية، إلى خيال الشاب الذي لوّح له بيده مودّعاً، ثم غاب، مع المطيتين، في الظلام!}

 

 

القـسم الثالث

الفــصل الأول

(ص368-370)

{قاده ذلك العمل للتعرف إلى الأمير "نيقولا"، وعدد من الجنرالات البيض.. ثم إلى رهط كبير ممن تبقّى من أفراد الحاشية القديمة! أناس، كان الأمير "يوسوبوف" قد ملّ لقاءهم أو استقبالهم في داره، وسئم مدّ الولائم لهم.. فدعاهم جميعاً مرة واحدة، ليتعرف "مكسيم" إليهم.. ثم أخذ بعد ذلك يحدّثه عن أخبارهم الخاصة، يناقشه الرأي في مزايا هذا، وعلل ذاك.. ويخصّان بصداقتهما نفراً من القوم، ممن يقدرون على إنارة زوايا الماضي المعتمة بنور كاشف.

كثيراً ما كان يتشعب الحديث إلى حياة القيصر في أسرته وبين أولاده.. فيمرّ ذكر ابنته "اناستازيا" التي قيل إنها نجت من الموت الذي لحق بأبويها وأخيها، وأخواتها الثلاث!

قال الأمير "يوسوبوف" يوماً.. بعد أن رفع رأسه فجأة، وكان مستغرقاً في القراءة..

- ما رأيك يا "مكسيم فيودوروفيتش"، في زيارتها يوماً؟

سأل "مكسيم" مستوضحاً..

- زيارة من؟

ألقى الأمير الكتاب عن ركبتيه، ورفع يديه في وضع حائر..

-.. ابنة عمنا، ومن غيرها؟ الدوقة الكبيرة، "اناستازيا بتروفنا" رابعة بنات القيصر.. وريثة العرش القيصري.. والتي تأبى المحاكم أن تقرّ لها بنسنها، أو التعرف إليها! مسكينة "اناستازيا بتروفنا"! لقد ذكرني، ما كنت أقرؤه الآن بها! إنها تعيش في وحدة قاتلة! لا تترك المصحّ.. وترفض أن يزورها فيه أحد!

-.. وهل هي في باريس؟

-.. العالمون بذلك قلة.. يظن الكثيرون أنها تعيش في ألمانيا.. لقد أساء إليها الناس، والصحافة.. والمحاكم..

- وكيف أزورها وهي، كما تقول.. ترفض مقابلة أحد؟

_.. كنت في حديث معها على الهاتف، منذ أيام.. وطلبتْ مني أن أساعدها في إيجاد من يقرأ لها.. فهي تهوى المطالعة.. مسكينة "اناستازيا بتروفنا".. لم يبق لها، من لذات الحياة، سوى المطالعة، والموسيقى.. لكن التحديق في الكلمات المطبوعة.. يجهد نظرها.. وأنا أقترح عليك، إذا راقتك الفكرة، أن تنهض بالعمل، وأن تعدّه عملاً إضافياً..

 ضحك "مكسيم" متسلياً.. وقال..

-.. أما هذا، فلم يخطر لي على بال! لقد جربت حظي في جميع المهن.. أما القراءة لإنسان.. فهذه متعة، لا عمل!

تدخّل الأمير قائلاً..

- لا تستبق الأمور يا عزيزي.. فقد لا تروق بعضكما صحبة بعض، رغم أني واثق من العكس.. أما "متعة" القراءة، هذه.. فإني أؤكد لك، أن في ما تختاره "اناستازيا بتروفنا" من مطالعة، مفاجئة، لأصلب الناس عوداً! فهي ذات مزاج غريب، خاص.. لا تقرأ ما يقرؤه الناس! لا تبحث إلا عن الغريب الشاذ!

- لا يزيدني هذا إلا شوقاً إلى مقابلتها!

-.. حقاً؟!

وتوقدت عينا الأمير، كعادته، حين تروقه الأمور.. فهزّ رأسه في عجب.. وقال..

- عجيب! كيف لم أفطن إلى الجمع بينكما، من قبل! يا إلهي.. بل إنك يا "مكسيم فيودوروفيتش" قد تقدّم إلى تلك المسكينة، ما لم يقدمه إنسان غيرك، من قبل! إن لك موهبة النفاذ إلى أعماق الناس.. وهذه صفة نادرة! ولو قدّر ﻟ "اناستازيا بتروفنا" أن تقابل رجلاً يضارعك، لما تدهورت صحتها.. حتى بلغت بها شدّتها حدّاً، اضطرها إلى أن تسجن نفسها، بين جدران مصحّ نفسي يقصيها عن العالم!

بهت "مكسيم" لكلمة الأمير الأخيرة.. أدرك "يوسوبوف" ذلك.. فأردف، مطمئنأً..

-.. لا.. لا ليس بها مسّ، يا عزيزي! إنها مصحات، اخترعتها باريس لمن لا يعرفون أين ينفقون نقودهم من المرضى والمتمارضين! دورٌ يعيش فيها المترجحون بين الصحة والمرض! إنها دور للعلاج، والنقاهة.. تجمّعٌ من الناس، ومعظمهم فنانون، وكتّاب، من لا يشكون سوى إرهاق طفيف. وفيها من المرضى، الأثرياء، ومنهم الارستقراطيون، من لا أمل في رجوعهم إلى عالم العقلاء!

توافدت إلى ذهن "مكسيم" جملة من الأخبار، والأقاويل كان قد سمعها عن تلك السيدة.. فراقته زيارتها، وتعرّفها.. فقال..

-.. حسناً.. وكيف أذهب؟ هل أصل المصحّ وأسأل عن الدوقة "اناستازيا بتروفنا"؟

-.. لا.. لا! مهلك يا عزيزي! أولاً، إنها لا تُعرف بهذا الاسم، في ذلك المصحّ! بل باسم زوجها الثاني.. ثم، إنه يجب التحضير لمثل هذه الزيارة! طلب موافقة الطبيب.. ثم انتظار أن تكون "اناستازيا بتروفنا" في وضع نفسي ملائم، تستطيع  فيه مقابلة الغرباء! لقد أنبأتُك أنها شخصية فريدة! لكن، ما دمتَ قد وافقت على فكرة الزيارة، وما دمت متحمساً لها، فسأعمل على تحقيقها، في أول فرصة مناسبة. إن المصحّ الذي تعيش فيه، غير بعيد على شقتك.. في الطرف الآخر لغابة "فانسين".. والآن فلننس هذا الحديث، ولنعد إلى عملنا!}

 

 

الفـصل الثـاني

(ص371-381)

{سرّ "مكسيم" أن مصحّ الدوقة "اناستازيا" غير بعيد عن مكان سكنه. لطالما لمح السور المديد، الذي يحيط بحدائقه الفسيحة، دون أن ينتبه إلى أن بيوته الأنيقة كانت معدّة لسكن الموسرين من المرضى، لا الخاصة من الأصحاء!

بدا المصحّ كأنه جزء كبير من غابة "فانسين"، اقتطعه منه ذلك السور الحجري القديم.. وتناثرت بين أشجاره، الباسقة، الظليلة، دورٌ أنيقة متفرقة، ذات طابع قديم، عريق، تطلّ على بحيرة الغاب، من طرفه الشرقي، البعيد عن المدينة..

سار الهوينا، يقترب من السور، حتى حاذاه.. فتمشّى إلى جانبه، يحاول أن يلتقط سمع ما وراءه من أصوات! فلم يأته سوى الصمت، وحفيف الأشجار، تتموج أغصانها لنسمات الخريف العبقة.. فتتساقط أوراق الحور، والسنديان، في وداعة وهدوء.. فتكسو الأرض بغطاء فريد، متماوج.. على درجات متفاوتة من اللونين الأحمر، والنحاسي..

وصل فتحة السور العريضة، وإذا هو أمام ثلاثة أبواب حديدية، متداخلة، بين عامودين حجريين، على كل منهما، فسقية منحوتة قديمة، تتدلّى من جوانبها نباتات خضراء، تصل أوراقها المتشابكة إلى مستوى زرّ كهربائي، كاد يختفي وراءها..

ضغط الزرّ.. مرة .. ثم مرتين.. إلى أن سمع نباح كلب صغير، يقترب من الباب، ثم وقع أقدام، تسير بتثاقل، فوق أحجار ناعمة..

فُتحت كوة صغيرة، في أصغر الأبواب الثلاثة.. فبدا منها وجه حارس مسنّ.. تمعّن في وجه "مكسيم".. ينتظر أن ينبئه عمّن هو قادم لزيارته، من سكان المصحّ.

قال "مكسيم"..

-.. مدام "ستيوارت"، من فضلك..

هزّ الحارس رأسه موافقاً..

-.. وهل تنتظرك السيدة؟ لحظة لو سمحت..

وغاب يسأل الطبيبَ الإذن أولاً.. ثم يستوثق من موافقة السيدة.. لحظات.. وإذا الباب المتوسط  ينفرج، تلقائياً.. ليدخل منه "مكسيم"، يتخطّى عتبة عالية.. ويتقدم نحو سكنٍ، أومأ الحارس له، أن يتجه إليه، وهو يقول..

- هل يتفضّل السيد بالتمهل، عشر دقائق.. في الحديقة، قبل الدخول؟

أنبأه إحساس داخليّ..منذ أن تقدم من سور المصحّ القديم، أنه يقترب من عالم طال بحثه عنه في أوربا!

فما إن ولج عتبة الباب، وراح يتمعّن فيما وجد نفسه في وسطه فجأة، من معالم القرن التاسع عشر.. حتى تملكه يقين من أنه وصل، أخيراً، إلى ما جاء يبحث عنه! وأن جميع ما مرّ به خارج حدود ذلك السور، وقبل تلك اللحظة، من قياس الزمان، إنما كان مضيعة من الوقت! ملهاة، تسلّى بها.. وما ترك الشرق، وجاء أوربا كي يمرح ويتسلّى!!

كانت جدران المساكن المتناثرة في أرجاء ذلك الغاب، لا تزال على الرونق الذي عرفته أوربا في أول القرن العشرين، تحتفظ بلونها الأبيض، أو البرتقالي، أو الترابي.. يغطَي أسطحتها، قرميد، زاهي الحمرة.. ومن شرفاتها، تتدلّى النباتات، والأزهار، فتكحل الجدران! يرصّعها جميعاً ما تناسق فوقها، من عشب أخضر، كسا الأرض، وتناغم لونه مع رؤوس الأشجار الباسقة، المتراصّة، التي تجمّعت في غطاء متماسك، يحجب السماء.. وأوت، إلى سكونه، وأمانه، مئات البلابل والعصافير!

لم ينل جمال ذلك المكان من نفس "مكسيم"، قدر ما نال منها قِدَمُ تلك البقعة من العالم، وانقطاعها عمّا هو خارج سورها، ثم التفات من كانوا يتنقلون، ويعملون، في أرجائها، إلى عملهم، في إيقاع سلفّي، بالغ الهدوء، والاتزان.. إيقاع، نقله في الحال إلى ما كان لباريس في خياله، من صورة لا تمت إلى القرن العشرين بصلَة!

جلس على أحد المقاعد الخشبية العريضة، يتابع مداعبة كلب الحارس، ويراقب بعض المرضى الذين بدوا في ألبستهم ذات الطرز الغابرة كأنهم زائزون نزلوا تلك الحديقة، يتنزهون فيها، لا مرضى، مقيمون في ذلك المصحّ! إلى أن تقدمت منه، إحدى الممرضات، وأشارت إليه أن يتبعها..

سار وراءها نحو دارٍ بيضاء، ذات دورين، فوقفت الممرضة عند مدخلها، وقالت..

-.. مدام "ستيوارت" تقطن الدور العلوي.. تفضّل بالصعود إليها.. إن مرافقتها الخاصة، ستكون في استقبالك..

*    *    *

ارتقى "مكسيم" السلم، ينظر إلى أعلى، وإذا وجه فتاة جميل ضحوك، يطلّ عليه.. ما إن وصل إليها، حتى وقفت، عرض الباب، قبل أن تسمح له بالدخول، وقالت..

- أنا "أوديل" مرافقة المدام "ستيوارت"!! سترى أني أجمل منها بكثير!! عليك الانتباه إليّ! أنا الأخرى.. وإلا!!

ثم تنحت جانباً، وفتحت له باب غرفةٍ، بدت كأنها أعدّت للانتظار، دخلها، لا يدري كيف يفسّر تصرف المرافقة، الغريب، وإذا هو أمام باب غرفة أخرى، حيث كانت تنتظره الدوقة "اناستازيا"، جالسة أمام البيانو، تعزف لحناً هادئاً ﻟ "بيتهوفن"..

لن ينسى ما عاش، وقع تلك الزيارة على نفسه!

وقف برهة قرب الباب، ريثما أتمت الدوقة، ما كانت تعزفه.. ينظر مسحوراً إلى ذلك الوجه الغريب!

لم ير في البدء سوى عينيها! طغى ما توقدتا به، من نظرة، على شحوب وجهها ونحوله، فما إن تبدّدت آخر أصداء النغم، ونهضت السيدة لاستقباله.. حتى بُهتَ لطولها الفارع، لهُزالها الشديد، لجمال تينك العينين السوداوين، المتقدتين، تبدوان كدرتين عجيبتين، ساحرتين، تملكان وجهها النحيل، الناصع البياض.. وتزينان ضحكتها المؤهِلة الصبوح!

كانت ترتدي ثوباً أبيض فضفاضاً، لا تاريخ له.. يكشف عنقها، وكتفيها النحيلتين.. ينساب نحو الأرض، تجرّ ذيله خلفها!

تقدمت منه، تمدّ له أطراف أصابعها.. فلثمها، دون أن يزيح ناظريه عن عينيها.. واتخذ مقعداً حيث أشارت إليه بالجلوس، لا يلتفت إلى ما كان فيه، كأنه غارق في حلم غريب!!

تمددت الدوقة "اناستازيا" فوق غطاء سريرها، مسندة رأسها على ذراعها المنحنية.. فانساب ثوبها، يجلل جسدها النحيل، حتى بلغ قدميها الدقيقتين، اللتين لفهما شباك متضافر، ذهبي، بانت من خلاله أطرافها، متناسقة، رشيقة..

نظرت الدوقة "اناستازيا" إلى ضيفها برهة طويلة، تبتسم له في ودّ مؤهل، متفحّص، غريب.. دون أن تتكلم.. و"مكسيم" مأخوذ بما رآه حولها من هالة عريقة في النبل.. أخّاذة.. ينظر إليها، لاهياً عن صمتها.. مأخوذاً بها، ينتظر أن تبدأ الكلام!

سمع صوتها الهادئ المرهف يقول له..

-.. أن وصفك يطابق شكلك، تماماً.. لقد حدّثني الأمير "يوسوبوف" مطوّلاً عنك.. هل "مكسيم" هو حقاً اسمك؟

بوغت "مكسيم" لسؤالها!

ما كانت آداب اللياقة تسمح لمضيفة مثلها بأن تشكك من حقيقة اسمه.. منذ اللقاء الأول! لكن شيئاً في لهجتها أنبأه أن قصد الدوقة "اناستازيا" كان غير التحرّي عن هويته.. غير ما يبدو، لأول وهلة!

أحس أنها لا تكترث لأي واقع كما يتجلّى على ظواهره، أمامها.. كأن لكلّ واقع، في مقاييس عالمها، وجوهاً أخرى، لها الحق في أن تمدّ انتباهها إليها!

قالت باللهجة الهادئة المهذبة.. نفسها..

-.. لا تعجب، لسؤالي.. فأنا قلّما أنادى باسمي الحقيقي.. لقد كثرت أسمائي حتى بتّ لا أعرف من أكون! لذلك، أراني اليوم، أجد، أن الحقيقي منها، هو ما أختاره أنا، مما يناسب طباعي! وهذا يتبدّل مع أهوائي، والزمان!

تنازعت "مكسيم" عوامل متضاربة، وذكريات عديدة عن نفسه، وهو يستمع إليها.. وإذا هي تتابع قولها..

-.. فأنا مثلاً.. لا أجد أن اسم "مكسيمليان" يناسبك تماماً.. إنّ لفيه كثيراً مما يطابق شخصيتك.. الخارجية منها، بالطبع.. وأنا لا أحب ما "يراه" الناس! دعني أفكر.. دعني.. أفكر..

صمتت برهة.. وقالت في لهجة طفلة وجدت لعبتها..

-.. "ميشكا" أنت "ميشكا"! ليس في ذلك أدنى شك!!

فتح "مكسيم" عينيه حيرة، وعجباً لما سمعه! ثم تمالك نفسه.. وقال مبتسماً..

-.. صحيح؟ لم لا! مصغّر اسم "مكائيل".. وأنت؟ لا بد أنك رأيتِ دهشتي في عيني، منذ أن دخلت هذه الغرفة..

ثم قال يحاكي لهجتها الهادئة، المتفحصة..

-أنت؟ دعيني أفكر! دعيني.. أفكر..

ثم قال فجأة.. بلهجة صادقة، لم يتعمدها..

- أنت، "لورا"! ليس من اسم يناسبك مثل "لورا"!!

قفزت الدوقة "اناستازيا" من فراشها، مستوية! وانحنت تجاهه ممسكة بيديه.. تقول  مستعطفة.. متلهفة!

- هل تقسم لي، أن الأمير "يوسوبوف"، لم يطلعك على اسمي هذا؟ "ميشكا"؟ هل تقسم لي، بكل ما هو مقدس عندك؟ هل تقسم؟!!

فتح "مكسيم" عينيه حيرة، واستغراباً، لانفعالها المفاجئ! وطغى ملمس يديها على إحساسه، فقال واجفاً..

-.. صدقيني! أنا لم أسمع بهذا الاسم.. أو بغيره! مقروناً بك! فالأمير لم..

-.. يا إلهي.. كنت أعلم أنك صادق في قولك.. لقد قالت لي العرّافة، أنك آتٍ! لكني لم أصدقها! لا يمكن للأمور أن تحدث هكذا! وبهذه السرعة! كما تحدث في الحلم!!

وانزلقت على طرف سريرها، لكي تجلس على الأرض.. قبالة مقعد "مكسيم" الذي حار كيف يبعد قدميه عما تدفق من ثوبها، الأبيض الحريري.. أمامه..

نظرت في عينيه.. وغاصت فيهما.. فاضطرب لنظراتها.. ثم خفضت رأسها، تنظر إلى ركبتييه وساقه، ثم حذائه..

مدّت ذراعها، تلامس حذاءه بطرف أصبعها الدقيق.. ثم علت بيدها تمرّ، بظهر إصبعها، حيث مرّت عيناها، من قبل، على مسافة، ثم توقفت عند ركبتيه.. وقالت، تتابع النظر إليهما.. حزينة، حالمة..

-.. "مكسيميليان".. "مكسيم".. "ميشكا"! أو لتكن من تكون!! لا تسئ إليّ! كنت أعلم أنك آت.. وأتيت فعلاً! ثم.. إني واثقة أنك طالما بحثت عني.. وها أنا ! لا بدّ أني.. ربما.. خلافاً، لما كنت تتوقع! امرأة.. ولست بامرأة! بودّي، لو لقيتك.. منذ ثلاثين عاماً! حين كنت في ريعان الصبا.. كان ذلك قبل أن تولد! لكننا سنعود، للقاء آخر، في غير هذا العالم! ولن تكون بين سنيّنا، من فوارق.. ولن أكون أسيرة ظروفي.. وطريحة هذا الفراش! أما الآن.. فها أنا، كما ترى!!

وتساقطت من عينيها دموع لم تلتفت إليها..

صمتت برهة طويلة.. و"مكسيم" ينظر إليها.. لا يدري أهو يعيش حقيقة.. أم خيالاً!

عادت تنظر إلى عينيه، ثم تحدّق إليهما، وقد فارقها حزنها.. ثم عاودتها ابتسامتها الأخّاذة.. فقالت، وذهول واعٍ في عينيها..

-.. أليس غريباً.. كيف وجدت اسمي هكذا! دون تردد!! رغم أني أحتفظ به لنفسي، وفي سرّي؟! لا أطلع عليه أحداً! سوى المقرّبين من أصدقائي! إن"مدام ستيوارت"، إسمي من زواجي الثاني.. أضفت إليه اسم "ماري".."ماري ستيوارت".. نعم.. مثل ملكة "اسكوتلندا"! مسكينة، كيف قطعتْ أختها "اليزابيت"، رأسها! "ماري ستيوارت".. هو اسمي القانوني، اليوم.. وقبل ذلك كنت أدعى مدام "أندرسن"! "آنّا أندرسن"! من زواجي الأول! يا له من اسم قبيح! أما معموديّتي.. إسمي الذي لا يودّون إرجاعه لي.. "اناستازيا بتروفنا".. فهو لن يعود إليّ، مطلقاً! لأن، معه، ستضطر الحكومات إلى إرجاع ميراثي، لي! وجميع ما كان لأبي من ممتلكات وودائع في بنوك أوربا! ودائع من الذهب، زادت فوائدها مع الزمن، حتى بات بنك صاحب الجلالة في لندن، عاجزاً عن أدائها، ولو أجبر على التخلّي عنها!!

لمعت عيناها، في غضب متماسك.. وتابعت..

-.. يظنون أني أسعى وراء الميراث! حقيرون! وصاحبة الجلالة، لصّة!! لو أن هنالك من أمل في عودتي إلى عرش أبي، لتسابقوا إلى لثم حذائي! يظنون أني إنما أسعى وراء المال! لو طلبوا الميراث مني، لأهديتهم إيّاه! لكنهم لصوص! أنذال!! وماذا أفعل بكل هذه النقود، لو آلت إلي؟! وأنا في فراشي، في هذا المصح! "ميشكا".. لقد هزل جسمي حتى غدت أحشائي الضامرة عاجزة عن حمل نفسها! لذلك، تراني مجبرة على التمدد على فراشي! لا أقوى على الوقوف، إلا لفترات قصيرة.. ولبرهات عابرة! يظنّ بعض الناس أني أحبّ الاستلقاء في فراشي! آه لو أستطيع الخروج إلى الطبيعة! إلى الحياة!! ليت في وسعي أن أسبح في الهواء الطلق.. أتنشّق الهواء البارد! لو أستطيع أن أركب الخيل.. فأقفز الحواجز.. وأقود أسرع سيارة سباق، في العالم!! لكن قدري شاء عكس ما تهواه طبيعتي! هل تحبّ الجياد، "ميشكا"؟ هل تحب الحيوانات؟!

التفتت حولها، تنادي بصوت ناعم، طفولي..

-.. "مينوش".."مينوش".. أين أنت يا "مينوش"؟ تعالي إليّ.. تعالي خذي السكرة يا حبيبتي.."مينوش".."مينوش"..

وإذا كلبة سوداء، صغيرة الحجم، متقدمة في العمر، تخرج من تحت السرير، وتتقدم منها، مترددة..

-.. تكاد العزيزة "مينوش" تفقد بصرها! ما أقسى الحياة! إنها رفيقتي، منذ اثنتي عشر عاماً.. تعالي يا حبيبتي.. تعالي..

وأخذت تطعم كلبتها فتات قطع السكر الصغيرة..

كان سرير "الدوقة" حيث استلقت مع "مينوش".. وسط الغرفة، قبالة البيانو الأسود العريض.. إلى يمينها، خزانة، وصندوق، قديمان، يليها باب الغرفة.. وإلى يسارها مقعدان جلديان، جلس "مكسيم" على أحدهما، بينهما منضدة مجلّلة بغطاء مخمليّ، تحت نافذة عالية، وإلى جانب المقعدين، باب زجاجي، يقود إلى شرفة واسعة تطل على الغاب، والأشجار، وبقية مساكن المصحّ..

جال نظره فوق مجموعة من الصور صُفّت فوق المنضدة التي كانت إلى يساره، فاسترعى انتباهه جمال أطرها الفضيّة القديمة، الدقيقة الصنع، يزيد من ألقها ما تحتها من غطاء مخمليّ داكن الحمرة، مزيّن بأشكال "سلافية" أنيقة..

عشرات الأطر.. منها الصغير، والكبير والمربّع، والمستدير، والبيضوي! تجمع صوراً للأسرة المالكة القيصرية.. في مختلف الأوضاع، والقصور، والبلدان!

قالت، وهي تداعب كلبتها..

-.. لا! ليس هذا ما تبقّى عندي من ذكريات الأسرة، لقد فقدتُ ذاكرتي إثر محاولة قتلي! وهذه "المجموعة من الذكريات"، أهدتني إياها، جدّتي! بعد أن تعرّفتني في "كوبنهاغن"! وكان ذلك قبل الحرب.. "ميشكا"، إني إنسانة لا ذكريات طفولة عندها! لا! أنا لم أحمل معي من روسيا، سوى رصاصة في جنبي!! رصاصة لم تقتلني!! ليتها فعلت! وليتني أذكر حتى تلك الحادثة!! لقد تبخّر الماضي، من ذاكرتي.. فأنا لا أذكر شيئاً حتى رميي، مع أهلي بالرصاص!!

انتفضت فجأة.. واستوت فوق فراشها، تقول مبتسمة، تصطنع النزق..

-.. لنكفّ عن هذا الحديث! لنعرض عن الماضي، وعن ذكرياته التعسة! "ميشكا".. حدثني عنك! عن باريس.. إنك تدرس الموسيقى.. ما أسعد حظّك! من موسيقارك المفضّل اليوم؟

-.. "باخ".. "يوهان سيباستيان".. منذ شهر تقريباً.

-.. ولقد مررت بفترة الإعجاب ﺒ "فاغنر".. أليس كذلك؟

-.. بالطبع.. ولمدة عامين، أو ثلاثة..

-.. ومن كنت تحب قبل ذلك؟ دعني أرَ.. أي حين كنت في الثامنة عشر.. "شوبان"؟ أليس كذلك؟

-.. نعم.. "شوبان".. و"تشايكوفسكي".. ومعظم أغاني "الليدر" الألمانية..

لم تنتبه إلى ما قال! وجمت، منذ أن قدّرت سنّه في ذهنها.. فقالت..

-.. يا إلهي! ما أصغرك "ميشكا" كيف أنساني حضورك القوي، ذلك؟ إن لي من العمر ثلاثة وخمسين عاماً! قد يفوق ذلك عمر والدتك!! وأنت؟! كم بلغت من العمر؟ اثنين، أو ثلاثة وعشرين؟! ما أقسى الزمان! لماذا لا أحسّ بثقل سنيّ الطويلة؟ وأنت.. لماذا لا تُدلّ بشبابك؟!

قال "مكسيم"، في صوت واجف..

- "لورا".. ما شأن السنين بيننا؟!

-.. صحيح! إن ما بيننا، لا علاقة له بالزمان!

طغى عليه، مرة أخرى، شعور جارف بأنه يحلم! وإلا.. فماذا؟ أيعقل ،أن يتخطى إنسانان، ما بينهما من حواجز، وفوارق، وسنين في مثل تلك البرهة القصيرة؟! ولا يشعر أن في تصرّفات تلك الإنسانة، من مراءاة! ولا يحسّ أن فيما يقوله هو أدنى ممالأة أو مصانعة؟!

قالت حالمة..

- "ميشكا"! هاك الحاكي.. تحت غطاء المنضدة.. ومجموعة الاسطوانات، خلفه.. سأغمض عيني.. فضع من الموسيقى، ما تشاء.. وأسمعني عن طريقها، ما لا تعرف كيف تتفوه به شفتاك! أسمعني ما تجيش به نفسك في هذه اللحظة!

وأغمضت عينيها.. مسندة رأسها إلى الوسادة.. تنتظر الموسيقى..

رفع "مكسيم" غطاء الحاكي.. ثم توقف برهة، قبل أن يعيده إلى مكانه بهدوء!

أغلق الحاكي، ونهض واقفاً.. يمشي نحو البيانو، على رؤوس أصابعه.. جلس، ينظر إلى مفاتيحه الأليفة.. ثم بدأ مقطوعة حالمة ﻟ "شوبان".. راح يعزفها، بما لم يعرف، حتى تلك اللحظة، أنه قادر عليه، من أناة عاطفية، وعمق!

ما كاد يصل إلى آخر المقطوعة، حتى شعر بالدوقة "اناستازيا" تقترب منه.. تقف وراءه.. وأحس بذراعيها النحيلين تتكئان على كتفه، في رفق..

قالت في صوتٍ خافتٍ، حالم.. 

-.. يا لها من لحظة رائعة.. إنها أسعد لحظات حياتي!!}

 

 

الفـصل الثـالث

(ص399-403)

{كان للقاءات "لورا" و "ميشكا" طابعٌ فريدٌ دائم التجدد.. يتقابلان، دوماً، وكأنهما في أول لقاء! في شوق إلى تبادل الحديث، يحدّث كل منهما صاحبه، ويصغي إليه إذا حدثه، في عطش لمقارنة ما يرى كل منهما من أمور الحياة.. يناقشان دقائق اختلاف وجهات النظر، لا يبعد بينهما التباين.. بل يجمعهما.. يحرّض، كل، على الإعجاب بما يمتلك الآخر من مقدرة، تسمح له باكتشاف زاوية جديدة ينظر إلى الحياة من خلالها!

لم تكن هذه صفة عابرة من صفات علاقتهما.. بل ميّزة.. أدركا مآثرها ومخاطرها.. كأنما، كل منهما، كان قد تعب بوحدانية وجوده.. متفرّداً متميزاً عن بقية من حوله من الناس! كان كلٌ منهما.. قد ملّ تفرّده بأفكاره، رغم ثقته بصحتها، وبانسجامها مع عالمه.. فبات في شوق إلى ندّ يبسطه آراءه.. يأتيه بحصيلة كدّه الفكريّ المستقل.. كأنما يحمل له الثمار على كفيه.. هدية غالية، من بستانه العجيب القصيّ!

قالت "لورا" يوماً..

-.. "ميشكا".. من الذي لا يعرف أن للإدراك حدوداً.. وأن حدوده، هي حدود سعة دائرة النور الكاشف المسلّط على المجهول! إنما الإنسان عينٌ واحدة مسلطة على ظلمات الكون! مهما أوتي، من سعة التفكير.. فهو يظل عيناً واحدة.. خاصة به.. "ميشكا"! إن مجال رؤى العين الواحدة.. لا يشمل المنظور، العين الواحدة، ينقصها إدراك البعد الثالث.. تعال نصبح عينين متباينتين، لإدراكٍ واحدٍ! تعال، نجمع إدراكينا، في رأس واحد! وقد لا تتناغم جميع الصور في إدراكنا المشترك.. لكننا سنرى الأمور دوماً، من بعدين مختلفينّ قد نشعر بقلق دائم، لكن ذلك سيعطي قناعاتنا حركة مستديمة.. يفتح لها آفاقاً لا نهاية لها!!

وكانت قراءات "مكسيم"، حتى ذلك الحين، تكاد تكون مقصورة على الفلسفة، وعلم النفس، والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. حتّم عليه ذلك نهمه للمعرفة.. ثم ظروف عمله في دار الطباعة والنشر، المتخصصة في هذه الموضوعات! فما إن جاء ذكر القراءة مع "لورا".. حتى تمنّى أن تطلب الأدب.. وكان في شوق للإحاطة بما ينقصه من مطالعة في هذا المجال الواسع..

قالت "لورا".. منذ الأيام الأولى للقائهما..

-.. "ميشكا".. بم نبدأ القراءة؟

ضحك "مكسيم" في سرّه.. فبان شيء من ذلك في عينيه.. سألته مستغربة..

-.. وهل فيما أقوله ما يضحك؟

- لا..لا.. تذكرت أن الأمير "يوسوبوف" كان قد أنبأني أن لك مزاجاً خاصاً، فيما تحبّين أن يُقرأ عليك! فلم أفهم معنى أن تسأليني رأيي، في هذا الخصوص!

-.. "فيليكس".. "فيليكس".. إنه دوماً يشيع عني مثل هذه الأقاويل! حسنأً.. ألم نتفق على أننا سنكون عينين على العالم؟ فاختر، إذن، أنت ، ما شئت! سأترك لك الحرية التامة في كلّ ما تنتقيه.. فإذا ما أشبعت نهمك لما تشتهي قراءته.. أطلعتك، آنئذٍ، على ما أحب أنا!

*    *    *

اندفع "مكسيم"، أول ما اندفع.. في قراءة الأدب الأوروبي، عامة، كمن يتزود من الغذاء لرحلة شاقة طويلة!

حرص على انتقاء المهمّ، قبل الممتع.. والمتجانس، بين المدارس المتعددة، قبل المتسلسل منها..

بدأ بالقرن السابع عشر.. ثم الثامن عشر.. يقفز بين أعلام الأدب في فرنسا، وانكلترا، وروسيا.. وألمانيا.. يطعّم قراءاته بما أثّر في الغرب من ترجمات، أتته من الشرق! فما إن وصل، في المطالعة، إلى نتاج أوربا.. وتبدّت له لوحة الأدب متجانسة، واضحة.. فصار لعزلة الأدب الانكليزي وتعاليه، صلة بمستعمراتها.. كذلك، حزن روسيا، وإنسانيتها! وشموخ ألمانيا، وعسكريّتها! لم يبق ﻟ "دانتي أو "غوتة" أو "شكسبير" تلك المكانة المتفرّدة، في تاريخ النضج الإنساني.. وعاد لا يحسّ من حاجة للبحث عن مزايا "راسين".. أو "بوشكين"! أدرك البناء الهيكلي للفكر الأوروبي، ووضعه في مكانه التاريخي الحقيقي، بالنسبة إلى البناء الهيكلي، للفكر الإنساني عامة.. فهم "بارت.. و"لفي ستراوس".. قبل أن يقرأهما..

 *    *    *

ضحكت "لورا" يوماً.. وقالت..

- على هذا.. لا يصح أن يُقرأ أدب القرن العشرين، قبل قراءة موسّعة ﻠ "فرويد".. وإلا فما معنى قراءة "بودلير" أو "رامبو" أو "بروست"، إذا لم يعرف القارئ دوافع هؤلاء الشعراء والكتاب، الجنسية.. وعلاقتها بالعصر الذي كانوا يعيشون فيه؟!

تبسّم "مكسيم".. موافقاً..

-.. وهذه أبسط الخلفيات.. إذ يجب على القارئ معرفة نفسه، هو، قبل أية قراءة! عليه قراءة وتمحيص دوافعه، هو، وما يخفيه عن نفسه، من هواجس! قبل حكمه على نتاج الآخرين!!

نظرت إليه "لورا" في تمعّن.. وسألت..

-.. وهل فعلت هذا يا "ميشكا"؟ هل تُسائل نفسك، من حين لآخر، عن هواجسك هذه؟!

أجابها في لهجة من يقول الصدق.. ولا يود أن يغوص في التفاصيل..

-.. أظن أني أعيش هواجسي.. واعياً.. وبلا مواربة..

-.. جميعها؟!

نظر في عينيها الحادتين المتسائلتين.. ثم ضحك، وقال..

-.. طبعاً! وهل تظنين أنّي "ذو اللحية الزرقاء" ؟ أُخفي جثث النساء، في سراديب قصري؟!

شاركته بعض ضحكة.. ثم تابعت متبسمة..

-.. ألا ترى صديقك "باتريس".. هذه الأيام؟!

تنبّه إلى أنها لا تأتي على ذكر صديقه، إلا وبعض التساؤل في نبرتها.. فتعجّب لذلك!

-.. وما شأن "باتريس"؟ "لورا"! ما شأن صديقي بالهواجس التي نتكلم عنها؟!

قالت، تواصل ابتسامتها..

-.. لقد أجبت نفسك يا عزيزي! ثم.. "ميشكا"، إن لك تمام الحرية في هذه الأمور، وغيرها..

آثر ألا يردّ عليها!

كانا على الشرفة المطلّة على الغاب.. عرضة للأنظار.. لا بد لجميع من يتنزهون فيه أن يلحظوا التبدّل في مظهرها، لو أصابها انفعال مفاجئ، فتحاشى ما يثيرها..

همّ بمتابعة ما كان يقرأ عليها من شعر "ريلكة".. فمدّت ذراعها نحوه، واضعة أصابعها الدقيقة المرهفة فوق الصفحات، وقالت.. وكأنها لا تودّ طرح مثل هذا السؤال عليه.. وإنها تفعل ذلك، رُغماً عنها..

-.. "ميشكا"! هل أحببت حقاً "ماتيلد دو روكموريل".. هل أحببتها.. حقاً..؟!

بوغت "مكسيم" لسؤالها! ثم تملكه العجب والحيرة!}

 

 

الفـصل الـرابع

(ص427-428)

{ما إن خرج البروفسور "تيزون" من غرفة "لورا" حتى نظرت هذه إلى كتبها.. تبحث عن شيء.. وقالت..

- هل سمعت ﺒ "أوسبينسكي".. يا "ميشكا"؟

ولما هزّ رأسه بالنفي.. أردفت..

-.. ماذا؟ ألم تسمع به؟ صحيح.. إن معظم الشباب، لا يعرفون عنه شيئاً!

سألها "ميشكا"، مستغرباً..

-.. ومن يكون؟ أموسيقاراً.. أم فيلسوفاً؟!

ضحكت "لورا".. وقالت، تشير إلى كتاب على رفّ كتبها المفضّلة..

-.. لا.. لا.. إنه ليس بموسيقار، بالتأكيد! رغم درايته الكبيرة بهذا العلم.. هات هذا الكتاب النبيذيّ اللون.. إنه كتاب نادر، مفقود، طُبع منه، في العشرينات، عدد محدود، ووزعت نسخه باليد، على أفرادٍ مختارين! هذا الكتاب يدعى "مقتطفات من معرفةٍ فُقدت بين طيات الزمان"! وقد يفسّر لك ما لا يفهمه العلم، من أمر هذا الشاب، وغيره! بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى! هاته.. واقرأ منه عليّ! ولنسمع كلماته، معاً.. منذ الحروف الأولى!

   *    *    *

فتح "أوسبينسكي" ﻟ "ميشكا" و"لورا".. عالماً ليس لغرابة أجوائه من وصف! دخله "ميشكا"، متردداً، يحسّ من كلماته الأولى أن تأثيره سيكون بالغ المدى في حياته!

قرأ، للكون، بدايةً، لم يردْ ذكرها، أو ما يشابهها ، على لسان مؤرخٍ، أو فيلسوفٍ، أو مؤسس ديانة، أو ساحر!!

هاله، أن يقف إنسان، وحده، مهما أوتي من علم، وتجمّع لديه من سُبُل المعرفة، فيطرح للكون بأسره، أصولاً، لم يسمع بها أحد بعد، ولمسيرة الحياة، قواعد وقوانين.. لا علاقة لقوة إلهية، أوغير إلهية بها!!

لم يكن "أوسبينسكي" كاتب هذا النظام، بل الوسيط! ينقل إلى القارئ تعاليم أنسان، مات في الثلاثينات، يدعى "غورد جييف"، دار متاهات العالم، بحثاً عن المعرفة! اطّلع على دراسات متخصصة تثبت أن للأهرامات، مثلاً التي بنيت منذ آلاف السنين، سراً لا يعرفه أحد.. وأن بناءها استلزم، من الحسابات الرياضية، ما لا تستطيع الإحاطة به، سوى الآلات الحاسبة الإلكترونية، المتقدمة، الحديثة! إضافة، إلى عدد كبير من الظواهر التي، ما جمّعها حتى أدرك أن الزمان قد طوى معرفةً علميةً، لا يعرف التاريخ الحديث عنها شيئاً! آثارها، ظاهرة باية للعيان.. وما على المدرك، سوى أن يبحث عن أصولها.. في غياهب الأنقاض المنسيّة.. وفي كهوفٍ، للمعرفة، لا يجرؤ على دخولها إنسان!

فمن قبور الفراعنة، قبل أن تطأها أقدام المنقّبين عن الآثار.. إلى معابد "التيبت".. ومن مجاهل الهند، وآسيا.. إلى معابد "الإنكا".. جال "غورد جييف وضاع، عن العالم، سنين، يبحث، ويدقّق، حتى عاد إلى أوربا، يحمل خلاصة معرفة، ما إن حاول كشفها للعامة من الناس، حتى حورب، واتهم بالزندقة، والكفر! ثم بالتدجيل!! إلى أن مات في ظروفٍ غامضة.. وترك لبعض مريديه، ومن بينهم "أوسبينسكي".. محتويات كتاب "مقتطفات عن معرفة، فُقدت بين طيات الزمان"!

وتتالت على "ميشكا" قراءات نادرة لم تكن لتخطر له على بال!!

أحسّ بجذورٍ، لتعاليم "غورد جييف"، ترجع أصولها إلى البوذية.. فسارع، هو إليها، وخاض فيها، وفي "التاوية"، مرورأً بجميع مذاهبها حتى بلغ مرحلة "الزين".. فما إن قرأ عن تعاليم "كريشنا مورتي" بعد ذلك، حتى تعجّب لانسجام طبيعته هو، مع كتابات هذا النابغة.. وتساءل عما إذا كان قدره سينتهي به يوماً، إلى هذا المصير الغريب..}

 

 

الفـصل السادس

(ص450-452)

{ما إن تخطّى صحن مدخل القصر الحجري، وأوغل بين الأشجار، حتى أحاطت به النباتات، من كلّ ناحية، وبات فجأة في مملكتها!

سرعان ماغاب وقع أقدامه على أرضها الرخصة.. فلفّه حفيف ناعم سمع، من خلاله، صوت الحارس يأتيه خافتاً من بعيد.. يشير عليه ألا يضلّ، في سيره، عن الدروب المطروقة! لكنه وقع في سحر تلك الأشجار، منذ أن وجد نفسه بينها! فلم يلتفت إلى قوله.. وسار ، يقوده حدسه بين الجذوع العريضة الباسقة.. يكاد لا يميّز نوعها، لما لفها، من طحالب، وتسلق عليها، من زرع كثيف، تدلّت فروعه الطريّة، وتماوجت مع النسيم، في رفق، حتى بدت كأنها نباتات بحرية، وأحس كأنه يسير أو يسبح بينها، في قعر بحرٍ، قاتم الخضرة، بعيد العمق!  

*    *    *

تابع السير، حتى تنبه إلى أن النور بدأ يخفت حوله، والأشجار تحجب الضوء عن طريقه بما لم يتعوده، أو يظنه ممكناً في وضح النهار!

أدرك معنى أنه في الغابة السوداء.. يسير في أرجائها، يرى بأم عينه، مصدر الخوف والإلهام، لمئات الأساطير التي خلقها ذلك الجو السحريّ الغريب، في نفوس جميع من عرفها عن قرب!

أصبح لأصوات الطيور، وحيوانات الغاب، وقعٌ مميزٌ، يجرّ من يسمعه إلى عالمها! فمن صوت طيور خائفة.. إلى أخرى كأنها تهزأ منها.. يصمت السنجاب، فجأة، ويتسمّر عدد منها في مكانه، لوقع الأقدام الغريبة! ثم تفرّ هاربة.. وتختفي بين الأغصان الكثيفة البعيدة.. يرفع ابن عرس رأسه، وجلاً على صغاره، ثم يختفي تحت بساط النباتات، ويهرع مسرعاً، عائداً، إلى وكره! وتنفذ أشعة الشمس، عبر فتحات ضيّقة مما غطّى الغاب، من سقف متشابك.. فينزلق ضياؤها فوق ما يمور تحتها من أبخرة تسبح كالضباب الكثيف.. سيوفاً برّاقة، بيضاً، من النور الساطع.. أصابع آلهة "الفلهلاّ"، تخترق الأشجار المظلمة، فيغشى وهجها نظر من يمرّ عبرها، فيخرج منها، بعد لحظات، يتلمس طريقه، لما يعود إليه، من عتمة مباغتة!

رأى صغار الوعل تتبع أمها.. فأدرك أنه بات على بعدٍ من القصر لا يحسن أن يتمادى في تخطّيه!

تناقصت كثافة الأشجار، فزادت معالم الغاب وضوحاً، لما بات يتسرّب إلى أرضه من ضياءٍ، راح ينعكس فوق سطحٍ متماوجٍ من أبخرة النباتات والتربة.. تجمّعت وتكاثفت، على شكل بساطٍ أبيضٍ، كسا خضرة الأرض، فبدا الكون، كأن سطح الماء القاتم، قد هبط إلى الأرض، وأن الأشجار تنبع، وتنبثق من وسط الغيوم!!

وتتلاعب انعكاسات الشمس فوق غيوم هذه الأرض البيضاء، الخرافية، فيصعد ضياؤها، كأن الأرض تشعّ به.. يلامس الأشجار، في غير مواطئ النور الاعتيادية.. فتبدو كأنها شموس تحتية، أو جانبية، تعبث بعين الناظر.. فيدور رأسه بإحساساتٍ ووعيٍ، غريبين!}

 

لقراءة رواية هيلانة أو رحلة النيلوفر أو آخر الأمويين أو رواية السقوط إلى أعلى

 

أضيفت في 04/04/2006 / خاص القصة السورية / كافة الحقوق محفوظة للناسخ والمتابع لأعمال الكاتب السيدة: ميساء السمهوري - الإمارات

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية