السـقوط إلـى أعلـى
مقتطفات من رواية
مقدمة:
ليس الراوي في هذه القصة ستاراً
يختبئ وراءه المؤلف، بل شخصيةً مستقلةً بذاتها.. كاتب إفرنسيٌ يبحث عن حلول
لأسئلة خاصة به.. دخل الشرق عبر صديق له، أحد أبطال هذه الرواية، وضاع في
تلافيف طبقةٍ متفسخةٍ حاول عبثاً فهم مقوماتها!
إنها صفحةٌ من حكاية طبقةٍ يسمع عنها
الناس.. سلاطين وملوك.. أميرتان تتنازعان فتاةً طموحاً، تلهو وتعبث
بعاطفتيهما. مالٌ وبذخٌ ومؤامراتُ لا آخر لها..! أغريبٌ أن تتخبط
طبيعة "الراوي" الكارتيزية في تناقضاتٍ، قد لا يرى الشرقيَ في ظاهرها سوى
أحداث مسلية؟!..
"فراس"..
شابٌ يطفو بين مرحلتين، وهو، كما يبدو لنا في "السقوط إلى أعلى"، صورة
إنسان كما يراه كاتبٌ غربيٌ، لعله متحيَز!..
لئن أراد القارئ
مزيداً من ملامح ذلك الإنسان.. فما عليه سوى أن يبدأ المرحلة معه في "مسافر
بلا حقائب"
لينهيها في "رحلة
النيلوفر"
المؤلّف
* * *
في العالم ألوف الملايين من البشر..
لكل من هؤلاء قصة.. وقصة فراس واحدة من ملايين القصص، لماذا أرويها؟..
لماذا يروي أي إنسان قصة؟..
سيقال " إنها قصة أفراد.." ... "
أفراد من طبقة تحتضر".
الكون كلٌ، وعوالم، وذرات.. وعالمنا
مجتمعات، وطبقات، وأفراد.. أثمة وجود دون تناقض؟.. وهل من تناقض دون طرفين،
وجود كل منهما شرط لوجود الآخر؟..
فللذين يرون المجتمع طبقات، أقول..
إن وجود طبقة تحتضر، شرط لوجود طبقة تحيا.. ومعرفة طرف معادلة، شرط لفهم
طرفها الآخر..
متى تبتدئ قصتي هذه؟.. متى تبتدئ أية
قصة؟..
أحين يسترعي انتباهي حدث ما، فأنطلق
منه لألاحق ما تعاقب عليه من نتائج؟.. ما هي الأسباب التي تجمعت ليتم هذا
الحدث؟ وما هي العوامل التي تراكمت لتوفر شروطه؟..
هل هنالك بدء لأي حدث؟.. هل الأحداث
سوى تاريخ تحول انتباهنا نحوها؟.. من الذي يستطيع أن يختار نقطة من الزمان،
ليقف إزاءها، ويقول.. هنا تبتدئ قصتي، أو أية قصة كانت؟..
ومع هذا، أراني مرغماً على اختيار
مثل هذه النقطة..
متى أبتدئ؟.. أحين وصلتني رسالة من
فراس استعجلتني لزيارته؟.. وقوله.. "..ألا تود أن ترى صديقك قبل أن يغوص في
أعماق المجهول؟.. تعال إذن.. أسرع!.."
أحين أسرعت إليه، وإلى دمشق؟..
* * *
القســـم الأول الفصـل الأول
ص9-14
دخلت عبر دمشق عالماً كنت أظنه
أسطورة..
لكل باب وجهان.. وجه للمارة، ووجه
لمن دخل عبر الباب، ثم استدار ليرى وجهه الآخر.. أما أنا، فدخلت دمشق
مستنيراً بمشعل يحمله غيري، يحمله إنسان لا ينتظر المتلكئين! بتّ أخاف إذا
التفت لأرى وجهه الخلفي، أن يسبقني المشعل، فأفقد النور، وأضلّ الطريق.
فراس كان دليلي، وفي الدليل يفترض
التجرد.. لكن هذه القصة كانت عالم فراس وكان هو بالذات مرشدي إلى خباياه،
فأين تنتهي الحقيقة، ويبتدئ الخيال؟..
كنا في الماضي كأوثق ما يكون عليه
صديقان من ارتباط.. لكن واحدنا لم يسع بأكثر مما تسمح ظروفه للقاء الآخر..
أما وقد قضيت شهوراً في دمشق، رافقت فيها أولى مراحل قصة فراس، باتت هذه
الزيارة فاتحة اتصال دائم بيننا، تابعت فيها أحداثها التي أروي بأخلص ما
استطعت.
لم أجد جهداً كبيراً في جمع حوادث ما
أكتبه.. كان فراس يطلعني باستمرار على ما يجري له برسائل، رحت أنسقها،
وأستخلص الأحداث من خلالها. وعندما كان يستعصي علي فهم بعض الملابسات، كنت
أسعى للقائه لأستطلع ما خفي عني من دقائقها. لكن اهتمامي بهذا العالم
الجديد سرعان ما ازداد، حتى وجدت نفسي أنساق في أروقته كالمسحور. أحبه
وأعجب به تارة، وأكرهه تارة أخرى.
واقع لزج، أشعرني مراراً أني على وشك
الاختناق.
أنا لا أقصد بهذا القول عالم
الأسطورة والوقائع المثيرة.. بل غرابة في بنيان هذا الشرق لم أفهمها، أكاد
أقول.. ازدواج في شخصيته. لعلني أستبق الأحداث حين أذكر حواراً دار بيني
وبين فراس، لكنه حوار قصير، وقصتي طويلة فلا بأس أن أذكره الآن..
قال لي..
_"إن
شئت أسميتها علّة.. وإن شئت أسميتها واقعاً؟.. دعني أشرح لك.. لئن صح قول
"لايبنتز" بأن اللغة خير مرآة للنفس الإنسانية، فالعلة تكمن في أن لدى
الشرق اليوم نفسين.. تحاكي الواحدة منهما لغته الفصحى، بكل ما في هذه اللغة
من عظمة وبطولة.. وتجاري نفسه الأخرى لغته العامية بما في هذه العامية من
هزالة وضحالة وفكر محدود!.. ولئن صح قول فلاسفة قرننا بأن فكر الإنسان
ولغته مرتبطان إلى حد أنهما يشكلان وحدة تامة لا تتجزأ، بحيث يستحيل على
المرء أن يفكر بغير ما تسمح له لغته.. لئن صح هذا القول، ولا شك عندي أنه
صحيح، فهل هناك أغرب من الشرقي، لا يفكر سوى بلغته الفصحى، لغة السيف، في
عصر الذرة والاقتصاد؟.. وما أتفه الشرقي الذي لا يعرف ولا يفكر سوى بلغته
العامية!!"..
_إذن..
الشرقي الذي لا يتكلم سوى لغته العربية، ضائع بين أحلامه الفصحى، واقعه
العامي؟!..
_بالضبط..
_أليس
هنالك حل وسط؟..
_الحل
ليس في يدي الأفراد!.. سيأتي الحل حين يجد العرب وسيلة للتعبير، ومن
خلالها، منطلقاً في التفكير، لا يحمل في طياته أصداء معتقدات ومفاهيم
أخلاقية، وذكريات أمجاد لا تمت لواقعهم الحقيقي بأية صلة!.. لكن هذا حديث
يطول.. مالك ولمشاكلنا المعقدة؟!.."
كنت في طريقي إلى مطار" أورلي "،
مرحاً لأن نداء فراس هيأ لي العذر لمغادرة بلدي باريس، سعيداً بالتطلع إلى
قضاء عطلتي الصيفية معه.
لم أكن أدري يومها أنني كنت أبحث عن
شيء بذاته في صديقي.. وأن مرجع قلقي تجاهه كان عدم وضوح ما أسعى إليه..
كان الشرق أحجية تشغل من نفسي حيزاً
كبيراً، من الطبيعي أن يتجسد القسم الأكبر منه بفراس وغيره ممن عرفتهم فيه.
تجول في رأسي تساؤلات عدّة، ماذا وراءهم؟.. كيف يعيشون؟.. ماذا يحركهم..
وإلى أين؟.. رحت أنظر إلى من عرفت من الشرقيين باحثاً عن الأجوبة، أسئلة،
ظننت أنني كنت أطرحها بوضوح وموضوعية متجردة.
جلست في الطائرة أعيد قراءة رسالته..
" قبل أن أغوص في أعماق المجهول ".. أي مجهول تراه يعني؟.. ألا نهاية
للمفاجآت في حياته؟.. لكن شوقا إليه استبد بي، فرحت أضحك في سري، وأستعيد
ذكريات الطفل فيه.
ثم تهت في أفكاري..
نظرت من نافذتي الصغيرة.. خواطر لا
قيد لها.. الأرض تزحف ببطء ممل..
غريب هذا الهدوء!.. ألم أترك تحتي
طرقاً واسعة تتسابق على أسفلتها ألوف البشر نحو مدن تعج بملايين الناس،
يقتتلون في سبيل الشهرة أو الرزق أو الاحتكار؟.. أليست هذه الخطوط الواهية
التي لا أكاد أميزها هي تلك الطرق التي يقتتل عليها الناس؟..
أليست هذه البقع الداكنة، البعيدة،
الصامتة، مدناً تتناطح فيها ملايين الأهواء والآمال؟..
وهذه البقع القاتمة الساكنة، التي
تنقشع عنها بُسُط السحب البيض.. أليست غابات، لو اقتربت منها، لوجدتها تطفح
بالحياة والتآكل والموت؟..
أين أنا من كل هذا الآن؟.. أين حشرجة
عجلات الطائرة على مدرج كاد يلتهمها قبل أن تقلع؟.. ودبيب المخلوقات؟..
وأنفاسها؟.. أين الطرق والمدن، والغابات، والجبال، والوديان؟..
كيف تساوت كلها إذ علوت؟.. ثم بهتت
حين ابتعدت، ثم ضاعت!.. ضاعت؟.. هل ضاعت؟..
أسدلت ستار نافذتي الصغيرة متعجباً،
وأغمضت عيني مستسلماً لهدهدة المحركات.. عالمي الآن فقاعة معدنية تنساب في
أحشاء الأثير!.. فقاعة معدنية!..
والعالم الآخر؟.. أين هو؟.. ذكرى؟..
معرفة؟..
وما هي معرفتي هذه؟.. ذاكرة؟.. أثر
شحنة كهربائية على إحدى ألوف ملايين الخلايا التي في دماغي؟..
ألهذا يؤول وجود الأرض؟.. إلى شحنة
كهربائية؟.. إلى وجود في وجودي؟.. ابتسمت في سري، هزئت متعجباً، أهكذا كان
يفكر "بركلي" ؟..
لاحت في مخيلتي صورة فراس، ليته كان
معي لأحدثه بما يجول في ذهني، كنت في طريقي إليه، هل غير الزمان من
طباعه؟.. لا أظن ذلك.. الناس في تطور، وفراس يشعر أنه قد وصل..
وصل؟.. إلى أين؟.. إلى ماذا؟..
من أي معدن هو خيط " أريان " الذي
يهتدي به؟.. وبضوء أي منطق تراه يستنير؟.. هل يتيه في عالم الخواطر مثلي؟..
يطرح أسئلة لا يجد أجوبة لها؟..
لابد أن هنالك حلولاً كثيرة تستعصي
عليه، فالتناقضات حيث سرنا، ومعرفة أسرار الوجود لم تُعطَََ لأحد.. لكن
فراساً لا يقف موقفي من هذه الأمور، ولا يطرح على نفسه الأسئلة!..
الناس إما عارفون بالشيء، أو جاهلون
به.. أما هو.. فلكم أوقعني في حيرة بما أفهم منه..
ماذا أقول.. أيعرف فراس ما يجهل؟..
أيجهل واعياً ما يعرفه. إنه يرفض أصلاً هذا المنطق أو مثل هذا التصنيف..
ألم يقل لي مراراً: " سيأتي ذلك اليوم الذي فيه ستسقط منطق أرسطو من زادك.."
نقلت المكبرات صوت قائد الطائرة.. "
نحن نحلق الآن فوق قبرص.. سنهبط في دمشق بعد نصف ساعة ".. دمشق!.. أتيت
دمشق لأول مرة منذ عامين، حللت إذ ذاك ضيفاً على صديقي، وقضيت في صحبته
أشهراً عدة..
ما أحزن الذكريات التي تركتها تلك
الزيارة في نفسي..
قيل لي إن في دمشق دمشقيين تعكس
حياتهم وتصرفاتهم خضرة بساتينهم، ودماثة الجداول التي تمر في بيوتهم.. فتشت
عنهم فلم أجدهم، بحثت عن بقاياهم حتى ملني البحث.. أين هم؟.. ترى ماذا حلَ
بهم؟..
كرهت الشرق لفرط شغفي به!.. لا ريب
أنها مرحلة يجتازها.. أو سأجتازها أنا.. تخلف سيتخطاه.. أو نقمة،
سأنساها!.. لكن الفرق شاسع بين كاتب غربي مثلي، يدوّن الأحكام على أوراقه،
وبين إنسان يعيش هذا الواقع عن كثب، ويتعذب من تناقضاته!..
ما أسهل على نفس الإنسان ألا تعرف
سوى عالمها فتعيش قانعة به، غير مدركة لنقصه وعيوبه. وما أكثر هؤلاء
القانعين في تلك المدينة..
حتمية تاريخية يمر بها الشرق.. ولابد
وأن لها من آخر..
قد يحزن الإنسان على جمهور متأخر
يطبل ويزمر لفنانين وأدباء باهتين.. جمهور ينصب على نفسه حكاماً من
طينته.. حلقة تكاد تكون مفرغة، يؤذي المتأخرون فيها بعضهم.. يأسف لها
الإنسان، لكنه لا يبكي!.. إنها دراما، ولست بتراجيديا!..
إن ما يبكي في الأمر، أن المأساة
بأوسع معانيها، هي مكان الفنان الحق، وموقفه من هذه الجماعة، ثم مصيره على
أيديها..
ماذا أقول.. لو أن العالم بأجمعه كان
على نسبة واحدة من التخلف، لسهل الحل أمام الفنان الواعي، ولكان صمته، أو
موته في بعض الأحيان، حلاً لأسبقيته!.. لكن، والعالم كما هو عليه من اختلاف
في درجات الحضارة، فما أقسى أن يولد لجماعة متخلفة إنسان سباق حق، ليجد أن
لا مكان له على أرض يحبها!.. فنان تتنازعه نداءات حضارات أخرى، فيسد أذنيه،
يمزقه الإغراء أمام غناء حوريات البحر، بينما قومه، خلافاً لقوم " أوليس "
يجرحونه، ويدفعونه إلى بتر جذوره واللجوء إلى غير قومه، وغير أرضه..
جال في ذهني قول آخر لصديقي..
_يقول
" هولدرين " : " يمكن للإنسان أن يسقط إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل "..
فما أقسى على الفنان أن يرى جهل قومه يدفعه لأن يسقط إلى فوق!!..
لم أكن أتصور قط بأن زيارتي تلك
ستنتهي بزواج صديقي.
أذكر يوماً جلسنا فيه في إحدى مقاهي
باريس، وإذ كنت أحرضه عى الزواج من فتاة إفرنسية أحبَها، قال لي متهكماً
بلهجة المعلم، وكأنه يقرأ في كتاب : " الزواج مؤسسة أوجدها المجتمع للحفاظ
على الملكية الفردية.. إن أول إنسان قال " هذه أرضي " وأراد أن يرث أبناؤه
عنه ما ملكه، كان عليه بالطبع أن يضمن صحة ما ينسب إليه من بنين.. فامتلك
في بادئ الأمر المرأة، فإذا ما تطور المجتمع، وتطورت بالتالي ملكيته
للمرأة، تحولت إلى ما نسميه اليوم " زواجا ً"، ثم أوجدت كل بيئة نظاماً، أو
عقداً لهذه المؤسسة يتوافق مع ظروفها الخاصة.."
ما الذي حدا به إلى الزواج إذن؟..
يرفض الزواج من فتاة أحبها وأحبته، ثم يعقد لنفسه على فتاة شرقية لا يكاد
يعرفها..
ألأنها شرقية؟.. أين الشرق وأين ما
تحمله هذه الكلمة من حضارة وصور، مما هو عليه الشرق اليوم؟..
صحيح أن فراساً هو الآخر ولد في
الشرق.. لكن ظروفه شاءت ألا يتشرب منه سوى عبير صنوبره ودفء تربته
الحمراء.. تلقف من الغرب ثقافته، فغدا نبتة برية صلبة الساق، قوية، تفوح
للشرق منها حضارة الغرب، بمنطقه وتنسيقه، وإن تحركت في الغرب، تبوح بشذى
شرقي، وثقة بأصالة تاريخ يعود إلى آلاف السنين.
القسم الأول الفصـل الثـاني
ص19-23
_أما
زلت تذكر كيف كان لقاؤنا الأول؟..
كان فراس يقود سيارته في نزهة هادئة
في ضواحي دمشق الوارقة، ضحك، وقال دون أن ينظر إلي..
_أذكر
كيف كنت تتفحصني في بهو الأوبرا الزجاجي!.. وأضاف مازحاً.. هل يمكن للمرء
أن ينسى تلك النظرات؟..
أجبته على الفور..
_تستغرب
نظراتي ؟!.. كيف لا أتفحصك، حين أراك في لباسك الأسود الأنيق بالأوبرا، ثم
أذكر أني شاهدتك في اليوم ذاته بزيّ بحّار، تعلو أذنك لفافة دخان، بينما
تعزف ألحان باريس القديمة على أرغن يدوي أمام مقاهي الحي اللاتيني؟!..
بحقك كيف تود ألا أتفحصك؟!!..
فقهقه في مرح..
_وهل
تذكر الفتاة التي كانت معي؟..
_لا..
لم تلفت الفتاة انتباهي في بادئ الأمر، ولكنني حين عدت إلى المقهى، في
اليوم التالي، لأتحقق من أمرك، رأيتكما تقتربان، حتى إذا ابتدأت بالعزف،
تحينت فرصة اقترابها مني، وسألتها عن هوية الرسام الذي كانت تعرض رسومه
للبيع..
_رسوم
بالحبر الصيني؟..
_نعم،
رسوم جيدة، موضوعها شاب يشبهك، في زي بحّار، له لحية، ولفافة على أذنه،
متكئ على شجرة، يعزف على أرغن "بارباري"!.. صورتك بالذات!..
_وبماذا
أجابتك الفتاة؟..
_أذكر
أنها قالت بلهجة مسرحية طريفة.. " إن الرسام يا سيدي، هو هذا الموضوع الذي
تراه على الرسم.." ثم نظرت إليك:.." هو هذا الأباشي الذي تراه متكئاً على
الشجرة " ، ومدت ذراعها بحركة مسرحية نحوك، ثم قالت.. " هو مكسيم!..
مكسيمنا الشهير" !.. وأنت، ماذا فعلت أنذاك؟.. هل تذكر؟..
_لا..
ماذا فعلت؟..
_كنت
تنظر إلينا.. وإذ أشارت الفتاة إليك بذراعها، حركت قبعة البحّار التي على
رأسك إلى الأمام، حتى كادت تغطي عينيك، وقمت بانحناءة مسرحية فيها الكثير
من التهكم والمزاح!..
عاد فراس إلى القهقهة.. ثم أعقب بشيء
من الشرود.
_بودي
لو أعرف ماذا حلّ بهذه الفتاة.. كانت جميلة طموح، من أصل إسباني، واسمها "
بيبيتا " أو هكذا كانت تقول!.. ولها صديقة جميلة كانت تغني في " التابو " ،
دارت الأيام، فإذا بصديقتها تصبح " جولييت جريكو " الشهيرة!.. أما هي فقد
غابت أخبارها عن الحي، لا أحد يدري إلى ماذا آلت!..
سكت فراس.. طارت ذكرياتي إلى حي "
السان جرمان "، وكيف ابتعتُ عدداً من تلك الرسوم التي كانت تحملها الفتاة،
طالباً منها أن تعرفني إلى " مكسيم ".. إلى فراس..
مكسيم.. اسم اتخذه فراس لنفسه في
باريس.. أتراها نزوة من نزواته؟.. أم هرباً لاشعورياً من كل رباط بحاضر أو
بماض أو بمستقبل؟..
أذكر أني سألت يوماً صديقاً له عن
رأيه فيه فأجاب: فراس إما مجنون، أو إنسان على درجة عالية من الذكاء، يلهو
ويهزأ من الجميع..
نظرت إليه، وإذا به يمعن النظر إلي..
_هل
عدت إلى البحث والتدقيق؟..
ابتسمت، لعل مظهري كان قد اتخذ طابع
الجدية المضحكة!.. أشعلت لفافة وسألته مغيّراً مجرى الحديث..
_ماذا
تنوي أن تفعل الآن؟.. ألا تحدثني عن المجهول الذي أنذرتني أنك ستغوص في
أعماقه؟.. ألا تفكر أبداً بالرجوع إلى باريس؟..
_سأذهب
إلى الشرق..
_ألست
في الشرق؟..
_مزيداً
من الشرق!..
_أي
شرق تعني؟..
_إلى
الصحراء والرمال.. إلى الخيام والخيل والبدوالرحّل!!..
ومدّ يده كمن يشير إلى أفق بعيد..
_أجادٌ
أنت؟..
_طبعاً!..
_وماذا
ستفعل هنالك؟..
_هيئ
نفسك لهذه المفاجأة!.. سأقوم بإدارة مشفى أو شركة إسمنت!..
لم أستطع أن أخفي عجبي وحيرتي..
_وماذا
تعرف عن إدارة المشافي أو شركات الإسمنت؟.. ما علا قتك بهذه الأمور؟..
ضحك طويلاً.. أوقف سيارته في مكان
هادئ، ثم قال وهو يشعل لفافة شرع يدخنها بهدوء..
_أتذكر
الأمير هلال؟.. سفير بلاده في باريس؟..
_أذكر
أنك حدثتني عنه في الماضي.. وعن مرحكما حتى الصباح حين كنت تريه مجاهل
باريس!..
_بالضبط!..
وتابع وهو لا يزال يبتسم..
_إن
لزوجة هذا الأمير أختاً تدعى ميساء هي صديقة زوجتي، والسبب في قراري هذا..
تنبه فجأة إلى أمر، فاستدار نحوي
بحماسة طفولية ظاهرة..
_يجب
أن أحدثك عن لقائي الأول بها.. ألديك مانع؟..
_طبعاً
لا!..
صمت فجأة ثم قال..
_لم
أكن أدري بصداقتها لزوجتي إلا منذ حين.. كنت قد مللت التعرف إلى صديقات
زوجتي.. مللت زينتهن الموحدة.. وعقولهن الفارغة.. وتعليقاتهن المتشابهة. "
كم أنت محظوظ بزواجك يا فراس ".. " قلما اجتمعت العفة والتحرر في امرأة
مثلما اجتمعت في زوجتك ".. " سيدة صالون من الدرجة الأولى ".. وما أن كانت
تسنح لبعضهن فرصة التحدث على انفراد، حتى كن يشرن إلى قبحها بأقوال مثل.. "
لقد أحسنت الاختيار يا فراس.. فالجمال ليس كل شيء!.. " " إن زوجتك ست بيت..
وفي هذا ما يعوضها عن جميع ما قد ينقصها من الأمور الأخرى.. " فلما أصرت
زوجتي على أن أتعرف بميساء.. " صديقتها ميساء ".. " أخت زوجة الأمير هلال "
هيأت نفسي لأسوأ الاحتمالات.. وأيقنت أن هذه الصديقة ستفوق جميع من سبقنها
في فن إطراء زوجتي والمبالغة في وصف مزاياها!..
سكت قليلاً ثم تابع..
_دهشت
لما رأيتها.. أقبلت أصافحها بصمت وأنا أنظر إلى شعرها الذهبي المتهدل على
كتفيها.. وأعجب بنظراتها الذكية المتفحصة!..
مازالت تعلو شفتيها ابتسامة رسمت
لحظة دخلتْْ، وإذا بها تقول بعد تردد..
_..
وأنا كذلك!..
أجبتها دهشاً..
_ماذا
" كذلك " ؟..
_أنا
الأخرى لم أكن أتوقع أن تكون على هذا الشكل!..
فاجأني تعليقها، فقلت..
_يالك
من مفاجأة سارة!..
لكنها أردفت وكأنها لم تسمع ما قلت..
_ربما..
ومن طينة واحدة كذلك!..
_ربما!..
وإزاء الصمت الذي تلا حديثه وجدتني
أسأله..
_ولكن
ما علاقة هذا بأمر عملك الذي حدثتني عنه؟..
_كل
العلاقة.. إذ نشأت منذ ذلك اليوم صداقة بيننا لا علاقة لزوجتي بها.. حاولت
ميساء من خلالها على حد قولها أن تخرجني من قوقعتي.. أو " أن تدخل إلى
عالمي نفحة إنسانية ".. لابد أنها كانت تراني جاف الطباع!..
حدثته ميساء عن أشياء كثيرة كان
يجهلها عن الشرق.. حدثته عن عالم أختها قطر الندى، زوجة الأمير هلال.. عن
الخيل، والصحراء، وأمراء الرمال، وأميراته، حتى أحيت في نفسه شوقاً إلى تلك
البقاع.
لم يكن فراس قد التقى بأختها قطر
الندى زوجة الأمير هلال بعد، ولم يكن قد مضى زمن طويل على معرفته ميساء،
لذلك لم يطلع زوجته ولا ميساء على معرفته السابقة بالأمير.. لعله أرادها
دعابة في بادئ الأمر.. أما وقد أنس في نفسه ميلاً جاداً للذهاب إلى الشرق..
حدث ميساء وقرر إزاء اقتراحها أن تسأل صهرها الأمير هلال، عن فرص العمل في
بلاده، أن يكتم أمر معرفته السابقة بهلال، تاركاً للأمير الخيار في الكشف
عن هذه المعرفة..
وتابع فراس..
_تحيّنت
ميساء فرصة مرور الأمير في بلدها وحدثته عن الأمر، فأبدى اهتماماً دون أن
يشعرها هو الآخر أنه على معرفة بي.. حتى ظننت في البدء أنه سها عن معرفتي،
لكن سرعان ما أيقنت عكس ذلك، لا أخال إلا وأن له هدفاً بعيداً ستكشفه
الأيام!..
_أهو
الذي مكنك من هذا العمل؟..
_إنه
يملك كلا من شركة الإسمنت والمشفى!.. سيان عنده أن أكون على رأس هذه أو ذاك!..
القسم الأول الفصـل الـرابع
في القصر.. أو هكذا كان يسميه من
يؤمه.. استقبلت قطر الندى ، زوجة الأمير هلال، فراساً وزوجته..
القصر فوق رابية تطل على العاصمة..
وفي قصة فراس عواصم كثر.. الجميل منها والقبيح، الشرقي منها والغربي، أما
هذه العاصمة بالذات، فغريب أمرها، هي العاصمة والدولة في الوقت ذاته، ولنقل
شبه عاصمة لشبه دولة!.. وما كانت لتصبح هكذا لو لم يكن أفرادها أشباه
رعايا، أشباه مثقفين، أشباه جهلة، أشباه متفككين!.. قوم يجهلون واقعهم،
ويبحثون عن وجه لهم بين أنقاض تاريخ طويل، ويرون في الأطر التي يختارونها
لوجوههم أوسمة يفاخرون بها، وهويات يتبنونها!..
والأميرة قطر الندى شبه أميرة في شبه
قصر!..
أما قطر الندى المرأة.. فصوت أبح
أخاذ.. عينان يقظتان في جسد ممتلئ فارع، وأعصاب ثائرة تحدّ عبثاً من هدير
أنوثتها الجارف..
لم تكن قطر الندى أجمل أخواتها أو
أذكاهن..
فالكبرى كانت تفوقها علماً وحضور
بديهة، اختارت الثقافة رحالة أسرجت بها طموحها وانطلقت لا تلوى على شيء!..
سعى أحد الأمراء إلى الزواج بها، فازدرته، وآثرت عليه رجلاً من بيئتها.. لم
تكن تصبو إلى المال أو ما يشترى بالمال من سؤدد، لطالما تمنى والدها أن
يكون بكره ذكراً ليرث السلطة من بعده.. لعلها في أعماقها كانت تود لو تكون
ذك الذكر لتصل إلى ما يصل إليه الذكور من أمرة.
وكما لا يمكن لملكين أن يعتليا عرشاً
واحداً، ورغم ما لميساء من بأس في مضمار الثقافة، لذلك لم تنازع أختها
الكبرى ما اختارته لنفسها من حدود، فاختارت السحر ميداناً لها، واعتمدت
الدلال سلاحاً، جهزت له في ذلك عينيها الزرقاوين، وخصلات شعرها الأشقر!..
وبين أختين تكبرانها، اعتلت كل منهما
قمة أقسمت ألا تزيح عنها قيد أنملة، وجدت قطر الندى نفسها تكاد أن تكون
خاوية الوفاض مما يمكن لها أن تعتز به!.. فلا هي، رغم جمالها، من الجمال
بما يتيح لها أن تفاخر ميساء، ولا هي رغم ثقافتها، من الاطلاع وقوة الحجة
بما يسمح لها أن تناهض أختها الكبرى.
طفولة غير سعيدة بين أب عملاق ظالم،
وأم جاهلة، وأختين متشامختين! فلماذا لا تقبل بهلال كمنقذ لها من سأمها؟!..
وهل يمكن لغير أمير شاب ثري أن يرفع من شأنها ويوصلها إلى ما تشتهيه من عزة
وبأس؟!..
هلال إنسان مذنب لا يعرف ذنبه.. هو
ابن سلطان، وأخ سلطان في عالم كان والده فيه أول سلاطينه!..
ولد بين جدران قلعة كبيرة من طين..
وشب على الرمال بين قوم سعيد منهم من لبس حذاء.. حتى إذا أغدقت الطبيعة من
ثروتها على والده الشيء الهائل، ناب أمه، وهي المحظية الأولى لدى السلطان،
من الثراء الشيء الوفير..
ما ذنب هلال سوى أن ثراءه أتاح له أن
ينتقل من القرون الوسطى إلى القرن العشرين بطائرة خاصة؟!..
بيعت قطر الندى إلى الأمير هلال لقاء
حلي، وقصر، ووعد منه بدعم أهداف عائلتها السياسية بما له من نفوذ مالي واسع..
أجمع القوم على أنها " زيجة " ولا
أروع.. وكي لا تُتّهم عائلتها بتضحيتها من أجل المال، راح جميع أفرادها
يسعون إلى المجالس ويتحينون الفرص كي يؤكدوا بأن هلالاً، خلافاً لإخوته
الثمانين، رجل مثقف، يتكلم الانجليزية، ويقضي معظم أيامه في أوروبا!.. أما
عن حياته الخاصة، فقد حاروا كيف يؤكدون للناس بأنه لا يقتني من الجواري سوى
عدداً يسيراً، وأنه سيعتقهن حالما يتم زواجه بقطر الندى!.. أما ابنه الذي
تجاوز عمره الخمس سنوات، فأكدوا للجميع بأنه ليس من " زوجة شرعية " سابقة،
بل من جارية نكرة لا يذكر أحد اسمها!..
زفت قطر الندى إلى هلال في حفل يزخر
بالبذخ والمال والبلادة!..
قُلدت العروس بالماس والذهب، وحصل
جميع من كان حاضراً زفافها على الهدايا المتوقعة!.. وما أن سأل قاضي الشرع
عن قيمة المتأخر، حتى استل هلال من جيبه دفتر شيكاته، ووقع على ورقة منه
أعطاها إلى قطر الندى، طالباً منها أن تملأها بالمبلغ الذي ترتئيه!..
كانت هذه مفاجأة فغرت لها أفواه
الجميع!.. أهذا تحدّ؟ حب جنوني؟!.. أم هي طريقة الأمراء في احتقار المال؟!..
أعطت قطر الندى الشيك إلى عميد
العائلة، وبعد تشاور بسيط، نهض هذا وأعاد الشيك للأمير قائلاً إن العائلة
لم " تبع " قطر الندى لهلال، بل قدمتها " هدية " له!..
لم يهزأ أحد من هذه الحادثة!.. ولم
ير الحاضرون فيها سوى النبل في العائلتين!..
قالوا.. " حقاً.. لا تولد العظمة إلا
من ارتباط العظماء "!..
لم تمض أيام على هذا الحدث الكبير،
حتى حصل عميد العائلة المذكور على ستين ألف دولار من أحد المصارف، كفله
بدفعها هلال!.. ولم تمض عدة أيام حتى دُفع هذا المبلغ نقداً إلى أحد
الزعماء السياسيين كي يدرج اسم العميد في قائمته الانتخابية الرابحة!..
بعد زيارة قصيرة لبلاد هلال، تعرفت
قطر الندى أثناءها إلى والدة زوجها، وإلى حشد لا آخر له، من الأمراء
والأميرات، اختارت الغرب لتمضية شهر العسل.. ففي الغرب أبهى الملابس، وأثمن
المجوهرات وأروعها.. وللغرب اسم آخر للقبها الجديد، اسم له وقع أطرب في
نفسها، ومعنى أجلّ..
ألم تقض الليال الطويلة وهي تردد في
خلدها أنها ستصبح أميرة، " أميرة".. " أميرة "، ومن يدري، لئن أحكمت دورها
في الغرب فلسوف يوجه إليها الكلام مسبوقاً ﺒ .. " يا صاحبة السمو الملكي
"..VOTRE ALTESSE ROYALE
أجل.. وستجري عملية جراحة لأنفها ككل
ذوات الشأن!.. إذ من منهن تضاهيها جمالاً؟.. لئن كان عند بعضهن مسحة من
جمال، فمن منهن تصل إلى مستوى إصبع قدمها الصغيرة بالثقافة والمدنية وإتقان
العادات الغربية؟.. وعلاوة على هذا.. فمن منهن لها مجد أبيها الراحل؟!..
وخطر في الغرب زوجان سعيدان.. هلال
فخور بعروسه الجميلة، أكبر مجوهراته، " جوهرته المتحركة " ، وقطر الندى
كالدمية ترفل بعزة زوجها وسؤدده، وتمني النفس بتحقيق آمال طفولتها العظام!..
وكان لها ما أرادت!..
غدت فجأة.. " صاحبة السمو الملكي "..
أميرة، بالإفرنسية، والإنكليزية، والإيطالية، وأينما تنقلت، وحيثما حلت،
ينحني أمامها الجميع، وتلثم يدها الرجالات والسفراء!!..
نزلت أسواق العواصم الكبرى تنهش من
مفتخراتها ما لذ لنهمها وطاب، حتى غدا متاعها الشخصي يزيد على الخمسين
حقيبة، تنقلها معها حيثما ذهبت!..
كان للمال والبذخ أثر آخر على نفسها،
إذ سرعان ما تعودت الأمر والنهي، وبات كلامها العادي مليئاّ بالتعالي وعدم
المبالاة!..
تحولت أحلام العظمة إلى دم يرف في
عروقها، وتضخمت حبابة التيه التي بدأت بها رحلتها، فأصبحت فقاعة كبرى علت
إلى رأسها وطفت، حتى بات ذلك الرأس الجميل، وكأنه مجبر على العوم فوق
كتفيها الأبيضين، غير عابئ بما قد يقف في طريقه، كأنما بات من المستحيل
عليه أن يطأطئ لأحد!..
مرت شهور، وضاق هلال ذرعاً بهذا
التحول الذي طرأ عليها.
أشعرها بضيقه مراراَ، فلم تكترث..
لمّح إلى إسرافها، فأصمت أذنيها!.. ألم تتزوجه لأنه أمير ثري ؟..
ما
قيمة ما تبتاعه بالنسبة لثروته الطائلة؟.. ألا يملك مئات الملايين؟!.. وهل
للفتاة أكثر من شهر عسل واحد في حياتها؟.. فإن لم تشبع رغبتها بالشراء
الآن، فمتى تشبعها؟!.. أحين تشيخ، والزينة حينئذٍ لن تليق بها؟!..
خيل إليها أنها أحبته حين كان يحب
نزواتها!..
كانت تعود إلى الفندق مسرعة، تنتظر
السعاة بلهفة لتريه ما ابتاعته. كان حبها يزداد له بازدياد عدد الطرود،
وبازدياد ما تسمعه من استحسان كلما فتحت طرداً جديداً أمامه، وكلما سمعته
يردد.. " جميل ".. " جميل
"!..
مالها اليوم تغص من نظراته!..
ما لحبها ينقص كلما تابعت فتح الطرود
وأحست بامتعاضه وازدرائه لما تبتاعه من ثياب؟!..
كان هلال في حرج من أن يفاتحها صراحة
بأمر إسرافها، وكأنما أدركت حرجه هذا، فاستغلته، لتتابع ما سارت عليه!..
ولما جاء يوم عيل فيه صبره، وبخها،
فلم تذعن، بل أحست أنها تخوض معركتها الأولى معه، وأن لابد لها من أن
تنتصر، أو على الأقل، أن تفهمه منذ البدء أنها ليست ممن يستسلمن بسهولة!..
ناهضته حتى جف حلقها، وما تعود هلال
أن يناقش بل يطاع، فلما أعيته الحيلة في ترويضها، أطلق غضبه، وزجرها بشدة،
فما كان منها إلا أن أجابته بمثل ما زجرها به!..
شحب وجهه..
_اخرسي
أيتها القذرة!.. سأقتلك إن أعدت الكرة
!!!
أدركت أنها تجاوزت حداً لم تعد تدري
كيف تتراجع عنه..
قالت مترددة، جاهدة أن تبدو كمن لم
تفققد ثقتها بنفسها..
_حسناً!..
لاتعد إلى مثل هذا الكلام..
انفجرت من صدر هلال صيحة مروعة..
_أحذرك!..
أحذرك أن تنسي بعد اليوم أنك لست أكثر من امرأة!.. أحذرك أن تنسي من أنت أو
تنسي أنك تخاطبين أميراً.. وابن ملك!..
مادت الأرض تحت قدميها..
أدركت فجأة، كصفعة تتلقاها على
وجهها، أن بإمكانها، أن تترفع عن جميع أهل الأرض من دونه!..
لئن أصبحت أميرة فذلك بفضل
زواجها منه، وإن نعمت بالثراء، فليس ما تنعم به سوى فتات من بقايا مائدته!..
أحست فجأة بأنها تتمنى لو يزاح هذا
الإنسان من الوجود.. تمنت لو يموت، إذ بإدراكها لمكانته، أدركت أن كلمة
واحدة منه تستطيع أن تحطم ما ابتنته لنفسها من عظمة، وأنه الإنسان الوحيد
الذي يستطيع أن يقوم بذلك.. إشارة منه.. وتعود إلى العدم!..
طغى بعد تلك الحادثة على نفس كل من
الزوجين شعور بالكراهية نحو الآخر.. حل بينهما جفاء ظنّا أنه سيلازمهما إلى
الأبد,..
تحاشى كل منهما الآخر، لكنهما لم
يوفقا إلى ذلك وهما يؤمان الفنادق في الغرب.. أسابيع.. سرعان ما اتضح لهما
بعدها أن الجرح الذي تركه ذلك الخلاف لم يكن من العمق كما تراءى لهما في
بادئ الأمر!.. لعلهما كانا في طريقهما إلى تنامي تلك المشاحنة، لو لم
يتدخل القدر ليحفر بينهما هوة لم تكن في حسبان أحد!..
لم يكن زواج قطر الندى لوحة بذخ
فحسب، بل عرف الزوجان حسد الحاسدين ودسائسهم، وتدخّل لدى الطرفين من الوشاة
من أنذر كل منهما بمساوئ الآخر، وأطلعه على خفايا حياته الخاصة قبل الزواج.
وكان من بين هؤلاء من أكّد لهلال أن
قطر الندى ليست بالبراءة التي تدعيها، بل أن لها ماضياً حافلاً بالمعجبين،
وأنها واظبت على لقاء آخر هؤلاء حتى يوم زفافها!..
أهمل هلال ما استطاع هذه الأقاويل،
أنسته ساعات السعادة الأولى غيرته وظنونه، لكنّ برود قطر الندى نحوه جاء
يحرك الظنون في رأسه!..
تحركت في خاطره صور كان يرى فيها قطر
الندى تقبًل رجلاً لا يعرفه، يراه مطبقاً على شفاهها بينما هي مستسلمة له،
فيصمت لفترات طويلة، ويعتريه شعور بارد كالموت.. يكاد لفرط امتعاضه، يود لو
تموت على الفور!..
وكأن ذلك الشجار جاء ليحرك النار تحت
الرماد، إذ عاودته تلك الخيالات، وتلظى بسعيرها من جديد، حتى أيقن أن برود
زوجته نزوع عنه، وحنين منها إلى ذلك الماضي..
وكأن القدر أراد أن يشفي غليله من
غرور قطر الندى، إذ لم تمض أسابيع على ذلك الشجار حتى وصلت إلى هلال رسالة
تكشف أن لزوجته رسائل غرامية في حوزة أحدهم، وأنه على استعداد للتنازل عنها
لقاء مبلغ كبير من المال!.. وكي لا يشك الأمير بأن هنالك حيلة في الأمر،
ضمّن الكاتب مغلفه عينة من تلك الرسائل!..
وعلى متن يخته الكبير الذي ابتاعه
بمناسبة شهر العسل، جلس هلال وقطر الندى يرشفان القهوة، وينظران إلى شواطئ
فرنسا بوجوم.
الشمس تميل إلى الغروب.. والقوارب
السريعة تمخر البحر، تحاذي اليخت، ثم تلف حوله ناثرة رذاذ الموج عالياً،
بينما أصحابها يمرحون ويهتفون إلى أهل اليخت مداعبين.. فترفع قطر الندى
يدها بتعب، وترد التحية ملوحة لهم ببطء، بينما تنظر خلسة نحو هلال بقلب
واجف يحس أن جميع هموم الأرض لا توازي ذرة من ثقل التوجس الذي تعانيه..
هلال ينظر إلى الرسالة، ثم إلى الأفق
ثم يعود إلى قطر الندى..
يشرد وهو ينظر إلى الفتية اللاهين،
يود لو أن هذه الرسالة لم تصله!.. لو أن الأمر ليس إلا حلماً مزعجاً!..
يحس بملمس الرسالة بين أصابعه، فيعود
إلى الواقع، يحدق في زوجته، يحار بما يشعر نحوها.. يحار في كيفية مقتها!..
أراد أن يسألها.. لماذا لم تطلعه على
هذه العلاقة!,, لماذا؟.. أحس بعقم سؤاله، هبْ أنها أطلعته، فما الذي كان
سيتغير في الأمر؟!.. أليس في سؤاله هذا رغبة منه في أن يصفح عنها؟!..
أحسّ أن لاجدوى من هذا السؤال. ورغم
ذلك، سألها، كان لابد له من أن يسألها..
¬_لماذا
لم تخبريني بأمره من قبل؟..
أراح سؤاله هذا شيئاً مما في نفسها..
كأن قبضة مشدودة على عنقها بدأت تتراخى. لم تجبه.. أحست ببارقة نور في مكان
ما من هذا الظلام.. شيء ما في نفسها أكد لها بأنها على وشك الخروج من هذا
التيه.. لزمت الصمت..
_أجيبي!!..
ما لك تصمتين؟..
قالت بتعال مصطنع..
_أخبرك
بأمر من؟..
وكأن تجاهلها جاء يتوج الحقد
بالإثارة!.. إذ امتقع وجه هلال فجأة.. تريث قليلاً، ثم انفجر صائحاً..
_بأمر
ذلك الكلب الذي أحببته..!.
أطلق ثورة مكبوتة أحست من خلالها
أنها أساءت تقدير الأمور، فأطبق توجسها عليها من جديد، وزاد عليه سخط شديد
على نفسها..
حاولت تدارك الأمر، فتمالكت نفسها..
_لم
أحب أحداً قبل الزواج !!..
قال بتهكم ظاهر وهو يكاد يهمس..
_..
تودين إقناعي بأنك تحبينني؟..
ضاقت من سخريته، فأجابته..
_لك
أن تظن ما تشاء!..
ثم أكملت بحذر..
_ألا
تعتقد أني أحبك يا هلال؟..
_كنت
غبياً حين ظننت ذلك!.. أما الآن، فلم أعد أدري هل أنت أحببت الأمير، أم
صاحب الملايين؟..
أثارها قوله، فأجابته بنزق..
_وهل
تزوجتني معدمة، من قارعة الطريق لأحب فيك دراهمك؟..
ضحك بمرارة.
_أحببت
الأمير إذن!!.. ولا تحاولي إقناعي بأنك لست مغرورة بلقبك الجديد!!..
لسعها صدق ملاحظته، فانتفضت في
مقعدها!..
_غروري
بلقبي الجديد؟.. لقد كنت أكثر من أميرة في بلادي قبل زواجي منك!!..
امتقع وجه هلال.. أحس بأن الكيل قد
طفح، فأفرغ مرارته من غيرة عمياء، وسأم لما ضج بما سمعه منها من مدح
لوالدها، ومغالاة في وصف ظرف قومها وبلادها..
صاح بملء صوته..
_أكثر
من أميرة ؟!.. وفي بلادك أنت؟!. أتعتزين بتسمية رقعة المواخير هذه " بلادك
"؟!.. أتعتزين بوالد ينعته نصف قومك بالكذب والنفاق، ويعلم النصف الآخر أنه
ما بنى قصره إلا مما سرقه من أموال الناس؟!..
هبط الدم من وجهها، نظرت إليه والسم
يقطر من عينيها..
_لك
أن تقول ما شئت عن قومي!.. لك أن تنعتنا بما تشاء!.. ولكننا رغم ذلك نأكل
بالشوكة والسكين.. ولا تمسح رجالنا لحاها بالدهن الذي يقطر من أيديها!..
ومن خلال غيظها وثورتها على
الإهانة!.. أحست برعب بارد يتسرب إلى نفسها من نظراته!.. أتاها صوته هادئاً
مصمماً..
_حسناً!!..
يحسن ألا تعودي معي إلى بلادي بعد اليوم!.. الأفضل أن تبقي بين قومك الذين
يأكلون بالشوكة والسكين!!..
صمتت.. غاب صوتها.. أين اختفى
كبرياؤها أمام هذا التهديد؟..
لماذا لا تستطيع أن تقتلع من أحشائها
كرهاً تقذف به في وجهه الذي بدا لها وكأنه أقبح ما خلق الله من وجوه!..
ما الذي كبل لسانها بحيث لم تستطع أن
تصيح بملء قواها ما كانت تشعر به..
نعم إنها لا تريد العودة معه، ولم
تود أصلاً هذا الزواج.. إن نزهة في سيارة ذاك الذي أحبته، ورأسها على كتفه،
كانت خيراً من كل ما حصلت عليه!!...
ما الذي يمنعها من الكلام؟.. ما الذي
أخرسها؟.. أخوفها على فقدان ما حصلت عليه من مجوهرات ومال، وما حققته من
أحلام وجاه؟.. هل حب البذخ جرثوم تسرب إلى دمها؟.. أم كان هذا الجرثوم
كامناً في نفسها أصلاً؟!.. ويحها.. أسرطان خبيث هو المال والجاه؟!..
لاذت بالصمت بينما أخذ العرق يتصبب
من جبينها..
نهض هلال وألقى بأوامره إلى القبطان
بالعودة إلى المرفأ..
ومن " نيس "، عاد الزوجان إلى
المشرق. ومن بلاد قطر الندى، عاد هلال إلى وطنه، تاركاً قطر الندى في قصرها
حاملاً في شهرها الرابع، وفي الشهر التاسع، أنجبت ولداً أسمته فراساً..
* * *
قطر الندى التي أطلت على فراس وزوجته
من باب قصرها الكبير، امرأة، تخفي في طيات ابتسامتها النضرة أنوثة أذلها
زوجها الغائب!.. إنسانة، يزيد من مذلتها أن زوجها أوكل إلى حاجب من بلاده
جميع أمور قصرها المالية، تاركاً إياها فارغة اليدين في قصر يقوم على خدمته
ستة عشر خادماً، وفي مرآبه ست سيارات لا تملك من المال ما يكفي لملء خزانات
وقودها!..
ضاقت بوحدتها، فاستدعت أختها ميساء
لتقيم معها، ولم تكن هذه بأسعد حالاً منها.. ميساء هي الأخرى كانت تعيش في
قصر والدها الذي مات قبل أن يتم بناءه.. قصر فارغ كالغار الهائل، يصفر
الهواء برخامه وبغرفه الثلاثين الخاوية من أي أثاث، لا تشغل مع أمها
الشحيحة فيه سوى أربعاً من غرف إحدى ملحقاته، جهزتها بما كان لديها من أثاث
قديم!..
وقفت قطر الندى، بصحبة ميساء، تستقبل
زائريها.. وما أن دخلوا القصر واستقروا في أحد مجالسه المطل على البحر
البعيد حتى سألها فراس عن زوجها..
أجابته، ضاحكة مستغربة..
_هلال؟..
لست أدري!.. لعله في بلاده.. أو في أوربا!..
فما كان منه إلا أن سألها متعجباً..
_وأنت؟..
أراغبة بهذا الأمر؟..
دهشت لسؤاله، وبانت حيرة بريئة على
وجهها..
_لا
أظن.. أو لربما!.. لكن، ماذا بوسعي أن أفعل؟..
أجابها ببساطة أذهلتها..
_أشياء
كثيرة يا سيدتي.. أشياء كثيرة..
ضحكت، تورد وجهها، ثم وجهت الكلام
إلى زوجته..
_زوجك
خطر يا سيدتي.. خطر جداً !..
ما كان من هذه إلا أن أجابتها بدلال
مصطنع..
_لذا
تزوجت به يا عزيزتي !..
كان الجميع يتكلمون بالفرنسية..
وللغة الفرنسية وقع لا يمكن إلا أن يضفي على المتكلمين بها، وعلى سمرهم،
جوّاً من الرقة، غريباً عن أجواء المتكلمين باللغة العربية..
لم يقف أحد من الحاضرين ليتساءل،
أكانت تلك جلسة تعارف عابرة، أم لقاء بعيد المدى، هيأه القدر.. وما لامس
حدس أحدهم ما قد تؤول إليه مصائرهم، نتيجة لما دار بينهم من أخذ وردّ في
تلك الليلة !..
مرّت الساعات الطويلة في حوار
وأحاديث غريبة !..
وقف الشرق الضائع، في قطر الندى
وميساء، يعاتب الغرب، في نفس فراس وعقله
!..
انهالت الفتاتان عليه بأسئلة حول
واقعهما، فجرها ملل ينبع من ذاتيهما، سببه عجزهما عن الثورة على ذلك
الواقع، فراح فراس يصيغ لأسئلتهما الأجوبة، بمنطق غربي، تهاوت إزاءه الحجب
وزال التحفظ !..
خلقت أجوبته تساؤلات، وأثارت حلوله
أشلاء خفر في نفس الأختين ما لبثت أن تبعثرت دون ندم
!..
تضاربت وجهات منطق، ثم استقرت بهدوء
على بساط من ذكاء.. وكم تبودلت نظرات تحدّ، سرعان ما استحالت إلى ابتسامات
تفاهم ووفاق !..
نُسفت قواعد الأخلاق التقليدية،
الشرقية منها والغربية، وما أوهى ما كان قد تراكم منها في نفوس الحاضرات.
فتُهن، عاريات، في مساحات مجهولة حالكة الظلمة، كرهن فيها النور الكاشف،
وخفن التعثر في منزلقاتها إن آثرن سُتر الظلام..
مرت فترات صمت طويلة أمسك فراس بعدها
قيثارة كانت في ذلك البهو الكبير، واستل من أوتارها ذكريات عذبة حالمة من
ماضيه..
غاص كل من الحاضرين في قوقعة أناه،
إلا من لحظات كان ينظر فيها الواحد منهم نحو الآخر، فيراه حيناً، ثم يهرع
عائداً إلى تلك العوالم الجديدة التي خلقها ما دار بينهم من حوار، فينسى
الآخرين، ويغيب وراء حجب أحلامه الجريئة..
القسـم الثانـي
الفصـل الأول
ص47-51
وفجأة انقطعت أخبار فراس!..
وبعد أشهر طويلة أقلقني صمته فيها،
عادت رسائله تصلني متقطعة متباعدة قصيرة.. رسائل مشحونة بعاطفة غريبة..
عاطفة محمومة..
هل كره ذلك العالم؟.. هل أحبه؟..
أحسست وكأن معجزة عادت به إلى الوراء
مئات السنين.. عادت به إلى عالم لا علاقة لقرننا به.. فأحس فعلاً وكأنه جزء
منه.. فراح يعيشه، متأثراً به، متألماً لما يراه، يدوّن مشاهداته في رسائل
بدت لي وكأنها كتابات يوجهها لأناس لا يعرفهم، ولا أمل له في لقائهم
..
"..
في وسط الصحراء.. في وسط ألوف السنين من
صمت عميق يؤنسه خرير جدول آمن، في واحة وديعة وارفة، تمخّض الجهل عن شيطان
نبش في الأرض ثروة فأقام الدنيا وأقعدها.. لطّخها من عرقه قذارة، ومن دمه
عاراً، ومن زبده فسقاً وكذباً ومجوناً!!.."..
"..
في وسط الصحراء، وعلى مرمى خرير ذلك
الجدول الآمن، يقبض على إنسان جاع فسرق، ولا يقبض على غيره من سارقي
الملايين، فتربط ذراعه بوتر دقيق، ويسلخ الجلد عن المعصم، حتى إذا بان
العظم الباهت الزرقة، تلوى اليد، وتفصل عن المعصم، ثم تغمس الذراع المبتورة
بالزيت الحامي حتى ينقطع الدم، ويلقى باليد المقطوعة لمن يود اللعب بها من
الأولاد، وقد يكون ثمن الزيت أكثر مما سرقه ذلك الإنسان من المال!..
"
"..
في وسط الصحراء، وعلى مسمع " ويلاه..
ويلاه " من صوت أمه الثكلى، يلكز بطرف السيف من حُكم عليه بالقتل، حتى إذا
استمطت رقبته، يهال عليها بالسيف، مرة، أو مرات، فإذا تدحرج الرأس على
الأرض، رفعه الجلاد من شعره، وتركه بين كتفي الجثة المعلقة على خشبة!.."
"..
في وسط الصحراء.. وعلى مرمى خرير نفس
الجدول الآمن.. وعلى مسمع نحيب امرأة أحبت أن ترى النور مرة قبل أن تموت،
يربط العاشق في كيس ويقذف به من مئذنة، وقد لا تكون المئذنة من العلو بما
يكفي لقتله فيعاد قذفه، ويعاد قذفه، حتى تتكسر عظامه، ويسلم الروح.."..
لابد أن فراساً عاش في تلك الصحراء
لحظات لا يستطيع المرء أن يكتب عنها!.. ماذا وجد؟.. بم أحس؟.. لم يعوّدني
الكتابة بهذه اللهجة الملتزمة، وحتى حين كان يحاول التجرد، كانت رسائله
تبدو لي وكأنها مقتطفة من كتاب أسطوري..
"..
مات السلطان وترك وسط الصحراء قطعة من
خيال فنان عاش منذ آلاف السنين.. قلعة من طين ولد فيها حكام أمة بأسرها..
أبناء أربع زوجات ومئة وثمانين أمة.."
"
مات السلطان!.. وكما أفلت في البدء من
علبة " باندورا " كذلك أفلت أولاد السلطان وبناته من هذه القلعة يعيثون في
الأرض فسادا.."
"
واليوم، وعلى بضعة أميال من هذه القلعة
الخرساء يقف مسكن آخر.. فيه إنسان لا يضاجع إلا الأبكار!.. فلما ضاق ذرعاً
بكثرة البنين، إذ لكل امرأة تضع منه ولداً دار وميزانية وحاجب وسيارة تليق
بمقام الأمير الصغير، استدعى إلى القصر طبيباً لم يوكل إليه سوى مهمة إجهاض
نساء حريمه!.. "
"
وكما يحيط الذباب بالجثة المتفسخة، تحيط
بهذا القصر قصور أصغر منه شأناً وأقل مالاً ونساءً وعبيداً.. لكن الدم
الفاسق نفسه يجري في عروق الجميع"..
كم تمنيت زيارته في تلك الصحارى لأرى
بعيني ما رآه!..
كنت أعرف تفسير منطقه للظلم.. لذلك،
وددت لو أرى وجهه وهو يشاهد اليد التي تُبتر، وأن أحس بضربات قلبه وهو يرى
الرأس التي تتدحرج على الأرض!!.. لكن شهوراً طويلة مضت قبل أن أراه..
شهوراً لابد أنها هدأت ثورته بعدها، وعاد إليه اتزان محاكمته..
سألته عن رسائله هذه، فأحسست منذ أن
تطرقت إلى الموضوع أنني لن أستطيع أن أستعيد في نفسه ما أحس به في تلك
اللحظات، وأيقنت أن قصتي ستظل خالية مما اعتمل في نفسه أثناء تلك الفترة من
شعور..
كنا في شرفة داري في جنيف ننتظر وصول
شلة الأصدقاء..
سألته حائراً..
_كيف
استطعت العيش في بيئة تحيا هذه المفاهيم؟..
أجابني ضاحكاً..
_كنت
كالسائح في بلاد العجائب!..
_وانفعالاتك
تجاه ذلك الجحيم، كيف كانت؟.. هل تعودته؟..
_وكيف
أتعوده؟.. لا.. رحت أرى عن كثب كيف كانت حال تلك البلاد بين القرن العاشر
أوالثالث عشر.. وكيف تمر القرون، وهي على حالها من التأخر!!..
_ألم
تحاول يوماً أن تزرع بذور التساؤل في نفوس من احتككت بهم؟..
_لا
يساورني الشك في أنني لو احتككت بالشعب لوجدت في نفسه الأرض الطيبة الخصبة
للشك والتساؤل.. لكن ظروفي أجبرتني على مخالطة طبقة معينة!..
_وأنا
أسألك عن هذه الطبقة بالذات!..
ابتسم..
_هذه
الطبقة؟.. حسناً، سأعطيك أمثلة عن مفاهيمها!.. أنت تعلم ماذا يعني أن يكون
إنسان ما " سفيراً " لدولته.. إن أية دولة تحترم نفسها لا تختار سفراءها
إلا من خيرة أبنائها معدناً، وقالباً، وثقافة، ليقوم بتمثيلها خير قيام،
فهي بالتالي تجلّهم، وتمنحهم من الاحترام ما هو حق لهم.. هل تعلم كيف ينظر
سلاطين تلك البلاد إلى سفرائهم؟..
_كيف؟..
_نظرتهم
إلى الخدم!.. فالسفير خادم، يتكلم لغة أجنبية، ويقبض راتباً لينوب عن
أسياده بقول كلمة " نعم " أو كلمة " لا "، وليكون واقفاً في المطارات في
استقبال أبنائهم وإخوتهم حين يمل هؤلاء من حرّ بلادهم!.. والطبيب يا
صديقي.. هل هناك اليوم من لا يحترم الطبيب ويجل فيه علمه؟..الطبيب في نظر
السلاطين وأبنائهم إنسان أوصله فقره، أو حبه للمال، إلى درك يجعله يقتل من
عمره السنين الطوال كي يقال له بالنهاية
_"
تعال يا هذا ".. " افقأ هذه الدملة في
مقعدي، وخذ أجرك كذا " أو.. " اشف هذا التفسخ بين أصابع قدمي، وخذ أجرك كذا
"..
صحت به..
_كفى
يا فراس، كفى!.. أليس بين هذه الطبقة من يدرك أن في الطب أكثر من حب
المال؟.. أفلم تحدثهم عما يفعل الطب لإنقاذ البشرية من ويلاتها، وما يقوم
به الأطباء من اكتشافات في هذا السبيل؟..
أجابني على الفور..
_بلى..
حدثتهم عن هذا وأكثر!.. أتعلم ما كان جواب أحدهم؟.. فكّر بجوابه قليلاً إذا
سمحت!.. قال.. أنت تتحدث عن الطب يا فراس، ولا تتحدث عن الأطباء!.. شأنك
بذلك شأن من يتحدث عن العلم، وينسى ما أنتجه العلماء من قنابل ذرية
ودمار!.. كم تعتقد مخلصاً يا فراس أن من بين من يدرس الطب من يضع أمام
عينيه، كهدف أول، إنقاذ الإنسانية.. ها؟! .. وكم تعتقد أن هناك من بين
عشرات ألوف الأطباء اليوم من لم يقدم على هذا العلم إلا لأنه مهنة رابحة؟..
ومن لا يسعى في الدرجة الأولى إلى رفع أجره، ولزيادة ثروته؟.. ها!.. وهل
تعتقد أن الأطباء الذين يقطعون ألوف الأميال ليأتوا إلى بلادنا، رغم حرها
وصعوبة العيش فيها، يأتون محبة بنا وبالإنسانية؟.. أم حباً بمالنا
وثرواتنا؟!.. إن حب المال يا فراس هو أول ما نشعر به فيمن يتقربون إلينا..
أكانوا بذلك أطباء أم سفراء أم صحفيين أم سياسيين!!.. لماذا لا ترى الشر
إلا فينا نحن حين نشتري الضمائر؟.. ولا ترى الخسة فيمن يعرضون ضمائرهم في
سوق النخاسة؟!..
أطرقت طويلاً.. ثم سألت فراساً..
_وبماذا
أجبته؟..
_أجبته
بمثل الصمت الطويل الذي أجبتني به أنت!.. أجبته بأن استمعت إليه ينهي
حديثه فيقول..
" ...
إن عالمكم يا فراس قائم على المال مثل
عالمنا بالضبط.. فلم تقشعر أبدانكم إذ تروننا نستغل المال إلى آخر
الحدود؟.. وما الفرق في أن تقتل الضحية برصاصة واحدة أو بست رصاصات!؟.. نعم
إن للغربيين حنكة تنقصنا، ودراية تعوزنا في فن البيع والشراء!.. .. نحن
نبتاع، بأساليبنا البدائية دور الصحافة، فتثورون علينا لأننا لا نعرف كيف
نتستر بذلك!.. ما لكم تسكتون عن الغرب حين يبتاع حكام دول، بل دولاً بأسرها
باسم المبادئ؟.. يبتاع الثقافة، ويبتاع الدين، يسخرهما ليضمن أسواقاً
لمنتجاته؟.. نحن نبتاع عبدين أو ثلاثة فتضج بنا الدنيا!.. والغرب؟!,, ألم
تزر يوماً مناجم الفحم في أوربا؟.. ألم تر كيف يولد الطفل، ويشب، ويموت، في
المنجم؟!.. ألا يبتاع أصحاب المعامل مئات الألوف من العمال، ليستنزفوا من
عرقهم ربحاً، ومن دمائهم سيطرة وجاهاً؟ ولن أحاول أن أبرر لك مشكلة النساء
عندنا.. ولكن، هل تظن يا فراس أن حال الغرب في هذا المضمار أصلح بكثير؟..
نحن لدينا المال، والجرأة.. ولا نخاف القول بأننا نبتاع جسد الأمة لسنين
طويلة!.. ماذا يفعل الغربي؟.. وما هي الدعارة عنده؟.. أليست الدعارة
استعباداً مؤقتاً؟.. أليست هي مشكلة المال لديه، حين تراه لا يستطيع شراء
الجسد، فيستأجر بالدعارة من النساء ما يتيح له ماله، لساعات قلائل؟"!!..
القسم الثاني
الفصـل الثـاني
ص54-55
جلست أم هلال في قصرها تنتظر قدوم
ابنها صبيحة وصوله من رحلة شهر العسل..
كانت محظية السلطان الأولى وأقربهن
إليه..
مات هذا تاركاً لها ثروة هائلة..
وعهد إليها خلَفه بأمور قصر أبيه الراحل.. فأتمرها على القلعة، وقصر
والده القديم، وعلى جميع ما خلّفه والده من محظيات..
عالم من النساء!..
مئتان وستون امرأة، يقوم على خدمتهن
ما لا يقل عن ست مئة وخمسين جارية، ولا يسمح من الرجال بالدخول إلا
لأبنائهن من الأمراء، وللمخصيين من العبيد وحجّاب القصر!..
اتكأت أم هلال على أريكتها تنتظر
وصول ابنها، وتنظر بعين الرضا إلى ما آل إليه مصيرها..
صحيح أنها فقدت من سلطتها الشيء
الكثير بعد موت من لم تكن تدانيها بالحظوة لديه أية امرأة على وجه الأرض،
لكن تلك كانت حظوة انتزعتها عنوة من غيرها من المحظيات.. ومن يدري.. لعل
القدر كان يمهد الطريق لغيرها من النساء لتحل مكانها.. لاشك أنها اليوم
أحسن حالاً مما كانت عليه بالأمس.. فمكانتها اليوم، وإن ضمرت، فهي على
الأقل ثابتة!..
وصل هلال القصر، وتسارعت الجواري
تتسابقن إلى والدته، تزفّن خبر قدومه.. فهلال ليس البكر لسيدة القصر وحسب،
ولم يكن أحبّ الأمراء إلى قلب أبيه الراحل فقط، بل هو شاب طويل القامة،
عريض المنكبين، بهي الطلعة..
نهضت أم هلال تجمع أطراف ثوبها
الطويل، ورفلت به نحو ابنها ضاحكة مرحبة.. وبعد أن تبادلا القبل على
الجبين، ثم عبارات الترحيب، جلسا إلى ما هو أهم..
أحس هلال بما يجيش في خاطر أمه،
فوجم، ولزم الصمت، حتى سمعها تقول..
_ما
كنت آمل يا بنيّ أن يؤول زواجك إلى هذا المصير!..
وإزاء صمت ابنها، تابعت متأسفة..
_..
وتشمت بنا الناس .. ويسخر منّا من
أنذرنا بمثل هذه النهاية..
ولمّا لم يجبها هلال، ألحّت..
_قل
يا بنيّ.. ماذا حدث بينكما؟.. أخبرني!..
_لاشيء
يا أمي.. ركبََت رأسها.. فضقت من غرورها
!..
سارعت أمه بالإجابة..
_ألم
تحثّها أنت على الترفع.. وتحرضها على الأنفة؟!.. ألا تذكر كيف كنت قبل
الزواج تعلمها كيف تتعالى على أترابها.. وتقول لها.. " أنت لست الآن أميرة
فحسب.. بل أنت أكثر من ذلك.. أنت زوجة الأمير هلال
"..
ابتسم بامتعاض..
_صحيح
يا أمي.. أردتها خَيْلاء على الآخرين.. لا علي أنا
!..
وبعد برهة صمت، عقبت الأم قائلة..
_وتتركها
وحيدة في بلادها؟..
_أردت
ذلك قصاصاً لها!..
قاطعته متأففة..
_أي
قصاص هذا؟.. تركتها بين أهلها وصحبها!.. في قصر أجمل من قصرك هنا، ولها من
الخدم أكثر مما لك هنا.. والسيارات؟.. ألم تتركها لها؟.. خمس أو ست
سيارات!.. وتدعو هذا قصاصاً؟.. رحم الله أباك الذي كان إن رفعنا الصوت
أذاقنا لسع السوط، أو زج بنا في المخدع خمسة عشر يوماً دون أن يسمح لنا
بالكلام مع أحد!..
_لكني
لم أترك في جيبها قرشاً واحداً يا أمي!.. أوكلت إلى عبدي " سرور" الصرف على
الطعام، ودفع رواتب الخدم!!..
صمتت الأم فترة من الزمن.. ثم قالت
بشيء من الأسى..
_لقد
أهنتها يا بني.. ولن تنس لك ذلك!..
القسم الثاني
الفصـل الثـالث
ص61-62
}وجاء
يوم خروج السلطان إلى " البرّ " مع إخوته وأولاده والمقربات من محظيات
هؤلاء.. " والخروج إلى البر " رحلة إلى البادية لا يقرر مدتها سوى السلطان
وانشراحه. رحلة فيها الصيد والمتعة وزوال الكلفة، والرجوع إلى ما كانت عليه
الحياة في تلك البلاد منذ مئات السنين...
لست أدري كيف كان يُعدُ في الماضي
لمثل هذه الرحلات، بل لا أظن أصلاً أن أحداً كان يقوم بمثلها، إذ لم تكن
هنالك قصور في تلك الأزمان ليجنح ساكنوها عنها طلباً للهواء الطلق، وهرباً
من الكلفة.. لعلها لم تكن في الأصل سوى رحلات للصيد، طوّرها السلطان
الراحل، فآلت إلى ما هي عليه اليوم من مجال للتباري والتبجح بما يعدّ لها
الأمراء من وسائل اللهو والراحة...
خلاصة القول، جاء موعد الرحيل،
فتحركت سيارة السلطان، يتبعها سيل من سيارات الأمراء، بينها ما طليت
أجزاؤها بالذهب، وتتبع هذه ناقلات أعدت بالهواء المكيف، ومن ورائها، شاحنات
تحمل المؤونة، وأخرى تحمل المتاع والخيل!..
ما إن وصل الركب إلى الواحة
المقصودة، حتى ضربت مئات الخيام الرائعة ونثرت بينها، على الرمال، المئات
من بديع الطنافس الفارسية، والصينية، طبقات فوق طبقات، ثم أسرجت أجمل ما
يمكن أن تقع عليه العين من خيل عربية أصيلة، فانطلق من الفرسان عليها الذين
أرادوا صيد الغزال، متنكبين بنادق منقوشة بالذهب.. واعتلى صهواتها من خرجوا
لصيد الدرّج، حاملين صقورهم المدربة على أذرعتهم المكسوة بالجلد، تتدلى من
خواصرهم سيوفهم المرصعة بالأحجار الكريمة...
لست أدري من أية طينة جبل رجال ذلك
العالم ونساؤه!.. ولا أدري ما يحركهم أو كيف يشعر هؤلاء الذين يعيشون تلك
الأجواء بواقعهم، إنما أعلم أمراً أكيداً، وهو أن مضرب هلال لم يكن بعيداً
عن مضرب أخيه السلطان، وإن هلالاً، رغم عشرات العيون المحدقات به، تباطأ
بعد خروج أخيه للصيد، حتى رأى محظيته " أم جوهر " تطل من مضربها مكشوفة
الوجه!..
كانت هذه أول مرة يلتقيان بها، وجهاً
لوجه!..
أعلم علم اليقين أن هلالاً حدجها
بنظرة سائلة، ردتها إليه، بغفلة عن رهطها، بمثل ما أتته تلك النظرة من لهفة
وإصرار!..
وأعلم أن هلالاً كرر رشق النظرات،
وأن أم جوهر كررت ردها بدلال وتحد، حتى اعتلى هلال فرسه، وانطلق نحوها!..
أخبّ فرسه نحو مضرب أخيه، وإذ باتت
على بعد أمتار منه، جمحت، فتطاير رهط أم جوهر عنها!.. إلا هي!.. وقفت ثابتة
في وجهه، تكاد تتلقى حوافر الفرس على صدرها!..
مال هلال نحوها، كمن يود إصلاح سرجه،
ثم همس لها وهو يطير بفرسه من أمامها.. " هذه الليلة.. وراء الكثيب..."
!!..
وفي ذلك الليل، ورغم السيوف والبنادق
المتأهبة، ورغم احتمال الموت بالرجم، خرجت أم جوهر متسترة مع وصيفتها
الحارسة، وعلى مشهد منها، ذاب الإثنان دون أن ينبس أحدهما بكلمة، كعاشقين
ملوّعين، وطوى ذلك الليل ما تبادلاه من نار ووجد{.
* * *
ص63-66
عادت قطرالندى من البر وهي تعلم في
قرارتها أن أمراً أفقدها هلالاً !..أحست بأن لها غريمة لا تعرفها، فباتت لا
تستعرض في حديثها مع فراس سوى الدلائل التي تزيد في إدانة هلال، والقرائن
التي غدا لاهم لها سوى جمعها لاكتشاف هوية غريمتها
!..
ويصدف أن تجتمع المرأتان في دار
فراس، فلا تلبث قطر الندى أن تذهب، حتى توافيه سعاد، لهفة بآخر التطورات،
أو يسبق مجيء سعاد قدوم قطرالندى، فيخفي فراس حزنه وحرجه على صديقته، ويحار
في كيفية نصحها وإزالة شكوكها... إلى أن كان يوم أطلعته فيه سعاد، وهي تكاد
ترتجف من شدة الانفعال، أن هلالاً بات يدخل حريم أخيه متخفياً، وأنها قامت
بنفسها بحراسة الباب على خلوتهما!..
صعق فراس لما سمعه!.. لقد تعود سماع
الأشياء الكثيرة، من مغامرات الأمراء، وملاحقة الأميرات للوسماء من شباب
العاصمة، لكن، أن يغزو هلال أخاه السلطان.. في عقر داره!.. وأن لا ينشد من
مئات نساء حريم أخيه غير محظيته الأولى!.. فهذا تجرؤ يقارب الجنون!!..
سأل سعاد..
_هل
جنّت أم جوهر يا سعاد؟.. ألا تهاب السلطان؟.. ألا تخاف أن يفتضح
أمرها؟..ألا يكفيها ما حولها من عبيد؟.. ماذا تجد في هلال حتى تركب جميع
هذه المخاطر لمضاجعته؟..
مالت سعاد برأسها إلى الوراء مقهقهةً..
_أم
جوهر إفريقية الأصل يا عزيزي... تحب كل ما هو ضخم وأبيض!.. هلال ذو قامة
فارعة!.. وعينان سوداوان كبيرتان!.. وفم كبير!.. ويدان كبيرتان!..
ثم تابعت وهي تمسح دموع الضحك من
عينيها...
_...
وكل ما فيه كبير!!..
هدأ ضحكها وقالت..
_ثم
إن السلطان لاهٍ عنها بأمور أخرى!..
سخر فراس في نفسه من قولها، فقال..
_ألا
تخاف إذن أن تعلم قطر الندى بالأمر فتخبر السلطان بذلك!..
ابتسمت سعاد بهزء وتحدّ!..
_أم
جوهر تخاف قطر الندى؟!.. ثق أن قطر الندى لو علمت بالأمر فإنها لن تجرؤ على
تحريك ساكن!.. ألم تخبرك، وهي التي لاتخفي شيئاً عنك، أنها هي الأخرى لم
تضع وقتها سدى في البر؟.. ألم تطلعك على الذي بينها وبين " هداف " شقيق
هلال من أمه وأبيه؟..
لا، لم تخبره قطر الندى بذلك.. وتقلص
في أحشائه إحساس غريب!..
أيمكن أن يكون ذلك صحيحاً؟..
لو كانت قضية مزاح لأطلعته عليها!..
لماذا لم تخبره إذن؟.. أيمكن أن تكون جادة بذلك؟..
كره اضطرابه، وأزعجه أن مشاكل قطر
الندى قد بدأت تستثير أوتاراً حساسة في نفسه.. لماذا يهتم بالأمر؟.. وما
علاقته هو بها؟.. ما علاقته بهؤلاء الأشخاص جميعاً؟..
جاءه صوت سعاد ملحاً..
_هه..
فراس!.. هل تدري أن السلطان كاد يلتقي به وجهاً لوجه في أحد أروقة القصر؟..
_بمن؟..
_بهلال!!..
فغر فاه فراس، واتسعت عيناه من
الدهشة. طمأنته سعاد..
_لاتضطرب
يا عزيزي، فالسلطان أولاً ضعيف النظر.. لا يصل بصره لأبعد من متر واحد!..
ثم.. مالك تنسى؟.. ألم أذكر لك أنه مشغول بقضية أخرى تقضّ مضجعه؟.. لقد ضبط
شاباً كان يدخل إلى الحريم، وبعد الضرب والاستجواب، أقر بأنه على علاقة
باثنتين من نسائه!..
_وكيف
يدخل الشاب القصر، ويتخطى حراسه وحراس الحريم، رغم بنادقهم وسيوفهم؟..
_كان
يدخل بسيارة إحداهن في وضح النهار، متخفياً بزي امرأة، فيقضي الليل في
مخدعها، ثم يخرج في صباح اليوم التالي بنفس الزي، في سيارة الأخرى!..
_وماذا
كانت ردة فعل السلطان؟.. هل قتلهم؟..
عادت سعاد إلى الضحك..
_السلطان
رؤوف يافراس، ولم يعرف عنه يوماً أنه أمر بقطع رأس أحد!!.. لا، لقد اكتفى
بجلد المرأتين، بعد جز شعرهما، ثم ألقى بهما في سجن القصر...
_
والشاب؟..
_نقل
بعد اعترافه على الفور إلى سيارة، أوغلت به مئات الأميال في قلب البادية،
ثم عادت، تاركة إياه تحت لظى شمسها المحرقة، دون قوت أو ماء، ليلقى هناك
العقاب الذي تختاره له السماء!!..
بهت فراس!.. لم يستطع إلا أن يسأل
نفسه عن واقع ذلك الشاب، وما دفع به إلى مثل هذا الجنون!..
تذكر أم جوهر، فعاد يسأل سعاداً..
_لاريب
أن أم جوهر علمت بهذا الأمر!.. ألم تنذرها تلك الحادثة بما قد ينوبها من
جراء ما تفعل؟..
_جميع
من في القصر على علم بما جرى
!..
تنهدت.. ثم تابعت..
_أم
جوهر ساهية.. تقضّ مضجعها غيرة تنهش كبدها
!..
دارت رأس فراس لما سمع..
_غيرة؟..
وممن تغار؟.. ألم تقولي إنها غارقة في حب هلال؟..
_غيرتها
من إحدى جواريه!!.. جارية قديمة أعتقها وأهداها ﻟ " مبروك " عبده ومربيه..
فهام مبروك حباً بها.. فتزوجها! يظهر أن هلالاً استعاد ذكرى ساعات حلوة
قضاها معها، فطلب استعادتها من مبروك !.. لكن هذا رفض أن يعيدها إلى سيده
!.. وإزاء هذا الرفض، أبعده هلال في مهمة، عاد منها مبكراً، وإذ دخل داره
على غير انتظار، وجد زوجته عارية بين ذراعي أميره وربيبه
!!..
_وبعد..؟!
_أصابت
مبروك نوبة من الصياح والعويل أزعجت هلالاً، فلما عجز عن تهدئته، لم يجد
طريقة غير مسدسه لإسكاته به.. فقتله
!!..
_لابد
أن غيظاً كبيراً قد اجتاحه ليطلق الرصاص على من رباه
!!..
_بل
لم ينتبْه الغضب قط .. هلال لا يمكن له أن يغضب من أحد عبيده !.. قلت لك..
إنه أراد " إسكاته " فقط !.. وكان المسدس قربه.. فاستعمله
!!..
القسم الثاني
الفـصل الـرابع
ص74-78
ازداد الحديث عن ميساء، حتى سرى شعور
بأن لقدومها معنى، ولوصولها في ذلك الموعد هدف..
جاء من يسأل فراساً يوماً عن صحة ما
يقال بأن ميساء على صلة بأمير من غير هذه البلاد!.. فعجب لذلك، لعلمه أن
المطلعين على هذه الصلة قلائل، وأن ميساء، رغم صداقتهما، لم تطلعه عليها
إلا بعد مقدمات طويلة ورجاء حار بأن لا ينوه عنها لأحد!..
ترى من الذي أذاع الخبر؟..
أيمكن أن تكون ميساء هي التي طيرته
ليسبقها إلى العاصمة؟..
لئن كان ذلك صحيحاً.. فماذا تهدف من
وراء ذلك؟..
سرعان ما أتى اليوم الموعود، وتحرك
المستقبلون نحو المطار.
ما إن حطت الطائرة حتى تقدمت
السيارات نحوها تتلقف ميساء التي بدت على السلم، وشعرها الذهبي الطويل
يتطاير مع الهواء، كأسطورة نسجها خيال الغرب من أغصان أدغاله، فتاهت، وحطت
على هذه الرمال المحرقة، لتحدثها عن سحر الشمال!..
عاد الركب أدراجه.. وقبل أن تتفرق
جموع المستقبلين، نظر فراس للمرة الأخيرة، عبر مرآة السيارة، إلى " درة "
التي كانت تطوق ميساء بذراعها، وصفعه ما جمع بين بياض بشرة هذه وسمرة تلك،
بين بريق شعرهذه وفحمة سواد تلك، وما قرّب بين جسد ميساء الصغير الغض،
ومنكبي درة العريضين وقامتها الممشوقة القاسية!..
تمنى في سره لو أن درة تزيح ذراعها
تلك الطويلة التي طوقت بها كتفي صديقتها!.. وبدت له تلك الذراع كأداة لقدر
لن يترفق بأحد!..
استأثرت درة بالأختين..
مضت أيام دون أن يراهما، فخيم على
حياته سكون غريب.. ازداد يقينه بأن هنالك ما يدبر في الخفاء، ثم ما لبث أن
تيقن أنه كان محقاً في توجسه، إذ، جاءت إليه ميساء وقطر الندى يوماً، وهما
على عجلة من أمرهما، تدعوانه إلى مرافقتهما في رحلة إلى المدينة الثانية في
تلك البلاد، قالتا إن الأميرة درة دعتهما إليها..
كانت درة في سيارتها تصيح لهما
بالإسراع.. فراحتا تستحثانه على القبول. عجب لهذه الدعوة المفاجأة.. وامتعض
لوقوفهما أمام الباب..
_ما
لكما لا تدخلان الدار؟!..
_ألا
ترى كيف تصيح وتؤشر لنا بالإسراع؟!..
تمالك فراس نفسه، وأجاب..
_وماذا
نفعل في المدينة؟..
_نلهو..
وتنفسح!..
_وما
شأني أنا معكم في بلد لا أعرف فيه أحداً؟.. لابد وأنكن ستستقلن إحدى طائرات
السلطان الخاصة.. كيف سأبدو في ركب من الأميرات وصحبهن، في طائرة ليس
فيها أحد من الرجال غيري؟..
_لاعليك
يا فراس.. بل إن هذه الرحلة لا يمكن أن تتم دونك!.. فهلال لم يسمح لنا
بالسفر وحيدات.. إنه يأتمنك ويثق بك.. فما أن قلنا له إننا سنطلب منك ومن
زوجتك الذهاب معنا حتى وافق!..
تردد طويلاً.. وفي النهاية لم يجد
حلاً إزاء إلحاحهما غير القبول..
_ومتى
سيكون السفر؟..
_بعد
غد..
أتى بعد الغد، وجلس فراس في الطائرة
ينظر إلى هرج ومرج لم يتوقعه.. سمع درة، وقد تناولت كأسين أو ثلاثاً من
المسكرات، تبعثر النكات الجنسية يميناً ويساراً!.. تُفرغ زجاجات العطر على
رؤوس من حولها، ثم تهدد من تتذمر منهن بخنجر استلته من حزامها، فتقهقه
ضاحكة لنظرات الرعب على وجوههن، حتى تكاد تقع على الأرض!!..
لم يفهم نظراتها الحمر الوخازة!..
تملكه عجب شديد.. ولولا يقينه بأنها
ليست مولعة بالرجال، لظن أن بعض هذه النكات المليئة بالمعاني كان موجهاً
إليه!..
وتلا ذلك تنقل في المدينة بين البيوت
لم يكن فراس يدري عن أصحابها شيئاً.. اضطر إلى مرافقة صديقتيه ودرة لبعض
المقابلات بجو من الكتمان لم يفهم له معنى!..
أخافه هذا التكتم والغموض!.. ولما
استفحل الأمر، حين وصل إلى مسامعه أن هنالك من يراقب جميع حركاتهم
وسكناتهم، خاف أن يجري السيل من تحت أقدامه، أو أن تصل أخبارهم إلى مسامع
هلال أو السلطان، فتبرم من ذلك الوضع، وأصرّ على أن يحاط علماً بما يدور
حوله، أو أن يسمح له بالعودة إلى العاصمة في أقرب وقت!..
ترددت ميساء، لكن قطر الندى آثرت أن
توضح له ما خفي عليه، فما أن خرجت ميساء إلى نزهة مع درة حتى كاشفته بأن
درة تسعى إلى زواج ميساء من الأمير " البدر " أحب إخوتها إليها، وأقربهم
إلى أبيهم السلطان!..
ذهل في البدء لما سمع..
_وأميرها
الآخر؟.. علاقة سنين!..
ضحكت قطر، وقالت..
_وما
شأني أنا.. لعلها نسيته!..
استرجع هدوءه وسألها..
_لو
كان هذا هو كل ما في الأمر... فعلام التكتم والتستر..؟
_لأن
هلالاً وبعضاً من إخوته على خلاف مع أخيهم السلطان!.. يقال إن هنالك بوادر
حركة تمرد ضده في العائلة الحاكمة، وأن السلطان يتهم أخاه هلالاً علناً
بتدبيرها، لذلك، لا يمكن أن يوافق هلال على زواج ميساء من ابن أخيه البدر،
وهو على حال الخصام هذا مع اخيه السلطان!..
_وماذا
سيفعل لو علم بما يجري هنا، ودري بما تقومين به مع درة من تهيئة الأمور
لهذا الزواج؟..
ضحكت دون أن تخفي وجلاً تراءى في
عينيها..
_لو
علم بذلك لكانت الطامة الكبرى، ولصب جام غضبه على رأسي!!..
_ويحك
يا قطر!.. مالك ومثل هذه المحاذير ترمين نفسك وقدرك فيها..؟ أتعجبين بعد
هذا من هلال إن استشاط غضباً منك؟.. مالك تسعين وراء أمور لا ناقة لك فيها
ولا جمل؟.. أمور تعلمين أنها تسيء إلى زوجك؟..
بدت على وجهها دهشة مصطنعة..
_إنها
أختي يا فراس!!.. وهل من أخت لا تريد لأختها زوجاً يحميها ويرعاها؟.. أفلا
ترى كيف تسعى درة، بدافع الصداقة، وراء سعادة ميساء؟.. فكيف تطلب مني، أنا
أختها، ألا أحرك ساكناً في هذا السبيل؟!!.
نظر إليها بتمعن..
_هل
أنت حقاً عارفة بما تسعى إليه درة من وراء هذا الزواج؟!.. ألا تدرين أن درة
إنما تسعى لإبقاء ميساء في هذا البلد!!.. ألا تدرين أنها لا تحلم إلا
بسعادة نفسها؟!..
تباطأت قطر الندى..
_
ربما كان هذا صحيحاً!.. لكن هذا شأنها،
وما ضير ميساء من ذلك؟.. ليس هناك أيسر عليها من وضع الحدود، بينها وبين
درة بعد الزواج!.. أنت تعلم أن ميساء أكثر من قادرة على ذلك!!..
_لنفترض
أنها قادرة على ذلك، وأنها لاتأبه بأذى قد يحيقه بها آنئذٍ غضب درة، وخيبة
أملها.. فمالك يا قطر تسعين وراء قدر لميساء، لطالما تململت أنت منه؟.. هل
أنت على هذه السعادة الكبرى مع هلال في هذه البيئة كي تشجعي ميساء على زواج
مماثل لزواجك؟..
كان فراس يناقش قطر الندى ظاناً أن
الأمور لازالت في بدايتها!.. كيف كان له أن يدري بأن ميساء إنما جاءت لتتم
هذه الخطوة، لا لكي تبدأها!..
وكيف له أن يعلم، وهو على صداقته
المبكرة معها، بمقدرتها الهائلة على التخطيط للأحداث بجلد ومثابرة وتصميم
على بلوغ أهدافها، غير عابئة بما قد يقف دون أربها، إنساناً كان ما يعيقها
أو مبدأ؟..
كيف يمكن لأي إنسان ينظر إلى عينيها
الوادعتين، وابتسامتها الحلوة المشرقة، أن يتنسم رائحة ذلك الذكاء اللامع
المشوب بالمكر، وراء هذا القناع الغض الجميل؟!..
القســم الثـانـي الفصل الخامس
نظرت ميساء إلى مرآتها منذ سنوات،
وكانت في حيرة من أمر زواجها، فرأت وجهاً جميلاً تتقد فيه عيناها اللتان لم
يسبر غورهما إنسان بعد، واللتان تفتحتا منذ حداثتها على آفاق وأحلام، لئن
كان بُعدها عن الواقع يخيفها أحياناً، فإن هذه الأحلام كانت أنيسة وحدتها
ورفيقة وسادتها حتى يومها هذا!..
أن تصبح يوماً أميرة، كان أمراً
أدرجته على فهرس آمالها، وتوسمت فيه غاية المجد في الماضي!.. لكن، هاهي
أختها تزف إلى أمير، ورغم أن أحداً لم يدر آنذاك ما سيصير إليه هذا الزواج
من خلل، فميساء أدركت، منذ اللحظة الأولى، أن الإمارة التي كانت تنشدها
لايمكن أن يحققها لها أمثال هلال!.. فجدائلها الذهبية، لم تنمُ لتذبل تحت
وطأة شمس الصحراء المحرقة!.. وثقافتها، لم تجهد أيامها في إتمامها، لترميها
فوق الرمال المحرقة!..
وخبا لمعان اللقب في ذهنها فجأة،
ليفسح لبريق لقب آخر، أسطع منه وأعظم!..
لماذا لا تصبح ميساء ملكة؟!..
أمجنونة هي؟.. لا!.. ما أتفه الناس!..
"ألا
تبدأ الرحلة إلى الصين بخطوة"؟..
"ألا
تبدأ كل الرحلات، طويلة كانت أم قصيرة، بخطوة"؟..
"لماذا
يخاف الناس التعب سلفاً، فلا يضعون نصب أعينهم سوى القريب من الأهداف"؟..
"ومن
يبلغ المجد سوى الذي يجرؤ على سلوك طريقه"؟..
نظرت إلى مرآتها ملياً..
وسألتها كما في الأسطورة.. "من أجمل
مني من فتيات الشرق، ومن منهن أهيف"؟..
أجابتها عيناها الزرقاوان المطلتان
من المرآة.. "لا أحد"!..
سألت مرآتها.. "ومن لها أنسب من
عائلتي مقاماً، وأكرم عزة"؟..
فأجابتها العينان المبتسمتان.. "لا
أحد"!..
أخذت المرآة بيدها الأخرى، ورنت
إليها.. "ومن أحق مني، من دون فتيات الشرق بالملك، وأجدر"؟..
ومرة أخرى أجابت المرآة "لا أحد"!..
ومن دول الشرق جميعاً، أعدّت ميساء
لائحة للدول التي يحكمها ملك.. ومن هؤلاء الملوك، انتقت من لهم أولياء عهد
فقط!..
ومن أولياء عهد الشرق جميعاً، انتقت
من لم يتزوج منهم بعد!..
ومن بين اثنين من هؤلاء، قارنت بين
شهرة هذا وذاك، وبين ما يعرف عن ثقافة هذا وذاك، وقع اختيارها على أحدهما،
واسمه "حسان"، علمت أن كبرى شقيقاته تتم دراستها في باريس، فأزمعت السفر
إليها بأقرب وقت!..
لم يكن تنفيذ هذا القرار بالأمر
الهين، إذ كان عليها لذلك أن تحصل على موافقة والدة بليدة يرشح البخل من
أذيالها!..
حشدت لمساعدتها على إقناع والدتها
جميع الأهل والأصدقاء.. ولما لم يُجدﹺهذا، توعدت وهددت بارتكاب أبشع
المعاصي وأشنعها، ثم بدأت بتنفيذ وعيدها فعلاً، فما أن شعرت والدتها بذلك،
وأحست أن الفضيحة باتت على الأبواب، حتى لان عنادها وقبلت بتخصيص ما يلزم
لها من مال للدراسة!..
ولم تمض أسابيع قليلة، حتى كانت
ميساء في باريس، ملتحقة بأحد معاهد الفنون، تسكن نفس دار الطالبات التي
تؤمها نائلة، أخت الأمير حسان!.. ولم يكن صعباً عليها أن تثير اهتمام
نائلة، تلك الفتاة التي كانت رغم قوة شكيمتها وتحررها تعاني من وحدة قاتلة،
سببها نقص في أنوثتها، وفيض من تصرفات تحاكي تصرفات الرجال!..
سرعان ما نشأت بين الفتاتين علاقة
تسارعت الأميرة في الانزلاق إليها!..
لعل نائلة أدركت خطورة ما هي مقبلة
عليه، لذلك أحجمت عن كل ما يمكن أن يكشف لميساء عن كنه شعورها نحوها!..
لعلها أحست بأن ميساء، رغم تسامحها
الظاهري، لم تكن تميل في قرارتها إلى مثل هذه العلاقات، فزاد ذلك من حذرها!..
لكن، سرعان ما غلبتها الدهشة حين
بدأت تستشم من ميساء تصرفات تشجعها على المزيد من الاندفاع إلى مثل هذه
المغامرة!.. تصرفات، بدت كمن تقول لنائلة.. "لك أن تشعري نحوي بما تشائين..
لكن هذا لا يلزمني نحوك بأي التزام"!..
تألمت نائلة بصمت، أحست أن هذه
الشقراء اللعوب تريد العبث بقلبها!.. لماذا؟.. أي هدف تنشده؟!..
ما كان على نائلة أن تذكّر نفسها
بأنها ابنة أعرق حكام أمتها قاطبة!.. فكل ما فيها يصرخ بالأنفة وعراقة
المنبت!.. فلا غرابة إن جاء حزنها كالصخر، وإن سالت دموعها على وسادتها،
بين ليلة وأخرى، باردة كالثلج..
وكان يوم ثار الشرق فيه لإهانة صدرت
عن دولة مستعمرة لحقت بوالد نائلة.. فكانت هذه، لميساء فرصة عرفت كيف
تستغلها خير استغلال!..
حرضت على الفور جميع الطلبة الشرقيين
على الخروج بتظاهرة سياسية احتجاجاً على هذه الإهانة، ومناصرة للباي الوطني!..
وقبيل الموعد المقرر، أعلمت عدداً من
الصحفيين الفرنسيين عن موعد خروجها.. فهرعوا ليلتقطوا صوراً ﻟ " ابنة
الزعيم الشرقي " تترأس جمهرة الشباب، حاملة على صدرها صورة الباي الوطني!..
كان لتلك المظاهرة الوقع المطلوب في
النفوس، ونشرت صحف باريس هذه الصور على صفحاتها الأولى!!..
وفي المساء، أقبلت نائلة نحوها
والسرور يفعم قلبها..
_لقد
تأثر والدي جداً حين علم بخبر التظاهرة ياميساء!.. أخبرني بذلك على الهاتف
اليوم!.. كان بوده لو يشكر لك بنفسه مشقة ما قمت به!.. و.. أتعلمين أنه كان
يعرف والدك المرحوم؟..
ترقبت ميساء أن تكمل نائلة حديثها،
لكن هذه جلست تطالع إحدى المجلات..
حنقت ميساء!.. أحست أن على الناس أن
يهرعوا حشوداً إليها، لتهنئتها على ما قامت به!.. أرادت من نائلة، ولو كلمة
واحدة، عن هذا الذي أتت باريس من أجله، وقامت بهذه التظاهرة ليسمع
باسمها!.. فما لأخته هذه لا تنبس عنه ببنت شفة؟!.. وترقبت أشياء وأشياء من
نائلة، مالها في كل مرة تراوغها لتفلت منها، أو تسبقها، فتقطع عليها الطريق
بحيلة ما!..
ترى هل أدركت نائلة حقيقة ما تسعى
إليه؟..
هل شعرت بحدسها وحنكتها بما يجول في
خاطرها؟..
لكن، كيف يمكن ذلك وهي لم تتلفظ
يوماً باسم حسان أمامها؟..
لعل صمتها بالذات، وتجاهلها لحسان،
هما اللذان جعلا نائلة تفطن إلى أن هنالك سراً في الأمر!..
أحست بأن عليها أن تقوم بشيء ما!..
كان عليها أن تحاول قطف ثمار صداقتها
في هذه اللحظة بالذات..
جمعت شجاعتها، وسألت نائلة بكل ما
أوتيت من عدم مبالاة..
_ألا
يأتي أحد من إخوتك لزيارتك؟..
أجابتها نائلة، دون أن ترفع ناظريها
عما تقرؤه..
_بل
سيأتي أخواي معاً.. غداً في الساعة العاشرة صباحاً..
_... !..
لن يعلم أحد كيف مرّ الليل على ميساء!..
لن يعلم أحد ما دار في مخيلتها، وما
هيأته للغد من ألوف الردود والأوضاع والنظرات!..
غداً سيأتي!.. غداً ستراه بلحمه
ودمه، وستعلم غداً بحدسها ما إذا كانت ستتربع يوماُ على عرش أم لا!!..
لم تستيقظ ميساء كأية فتاة أخرى في
هذه الحال منذ أولى ساعات الفجر، لتذرع الغرفة جيئة وذهاباً!..
نامت ملء جفنيها، ثم قامت قبيل
الموعد، بعد أن أراحت بشرة وجهها، فأتمت زينتها، وجلست تنتظر تتابع الأحداث..
لم تكن نائلة قد أوضحت لها ما إذا
كانت ستقوم بتعريفها على أخويها أم لا.. لابأس، هناك مئات الطرق لرؤيتهما..
سيضطران للمرور أمام غرفتها، كي يصلا إلى غرفة نائلة.. أو سينتظران نائلة
في البهو..
لابأس، على الحالين متسع طويل من
الوقت لتتدبر أمورها..
ماذا؟.. لئن أحوجها الأمر فبإمكانها
أن تصرخ مستنجدة، مدعية حلول بلاء ما عليها!..
لاعليها!.. لاعليها!..
نظرت إلى ساعتها.. لم يفت على
موعدهما سوى القليل!.. سوى عشر دقائق!.. الوقت يمر!.. سوى ساعة.. لا .. لن
تقوم بالخطوة الأولى بعد!.. لن تتعجل الأمور!.. هنالك متسع من الوقت..
وفجأة قرع بابها!..
وقفت.. لم تهرع إلى الباب، بل أصلحت
ثوبها.. تمهلت قليلاً.. نظرت إلى وجهها في المرآة.. لامست خصلات شعرها..
بللت شفتيها بلسانها، وزمتهما إلى الأمام، ثم اتجهت نحو الباب ففتحته..
نظرت خلف نائلة، فرأت شابين.. أحدهما
يحمل بيديه باقة هائلة من الورود الحمر!.. لابد أنه ولي العهد! ومن خلفه،
وقف شاب طويل.. أخوه الأصغر..
بدا ولي العهد أقصر مما تصورته
وأقبح!.. لكن عينيه!.. أدركت من اللحظة الأولى أن في عينيه بريق ذكاء غير
اعتيادي!.. أما أخوه.. فطويل ممشوق، أسمر! يالله.. ليته ولي العهد!..
_أخي
حسان، ولي العهد.. وهذا أخي الأصغر مراد..
قاطعها ولي العهد..
_جئنا
نشكرك يا آنسة.. أرجو ألا نكون قد أعقناك عن عمل ما؟..
أجابته على الفور..
_على
العكس!.. على العكس!.. ما أجمل هذه الورود!!.. كنت على وشك الخروج إلى نزهة
في الحديقة المقابلة..
ضحك ولي العهد مازحاً..
_في
"اللوكسمبورغ" ؟.. إذن لابد أنك على موعد مع رفيق لك!..
نفت ميساء بدلال..
_رفيق
لي؟.. ليس عندي رفيق!.. أخرج دوماً إلى النزهة وحدي..
تبسم الأمير..
_فتاة
لها مثل مالك من الجمال.. تخرج وحدها في باريس؟.. بئس الشبان!!..
ضحكت ميساء..
_بل
بئس نفسي التي لم تجد بعد شاباً يثير اهتمامها!.. بئس الشرق وما علّمنا من
تحفظ!..
_لامانع
لديك إذن أن نخرج سوية للنزهة؟..
_بل
ليس أحب على نفسي من أن أكون برفقة شابين مثلكما.. من ملتي وبلادي!..
قاطعها ولي العهد مبتسماً..
_هل
وصلت حدود قوميتك المتدفقة إلى بلادنا؟..
_بلادكم؟..
ألم تكن في غابر الأيام بلادي!.. نحن عائلة واحدة.. متشعبة الأطراف..! أليس
جميلاً أن تلملم العائلة أطرافها؟!..
_يتوقف
ذلك على من سيكون رب العائلة!..
ضحك الجميع وهم يخرجون من بهو البناء
ويتجهون نحو السيارات الملكية..
وجه ولي العهد أمره إلى السائق..
_أوصلني
إلى الفندق أولاً، ثم إلى حيث يأمرك الأمير مراد!..
ماذا؟!.. سيذهب حسان عنها؟!..
أحست ميساء بأحشائها تهبط إلى قاع
جسدها، تمالكت نفسها، وسألته بشيء من الحيرة لم تستطع إخفاءها..
_ظننت
أننا سنكون معاً!..
_ليس
ما يسعدني أكثر من ذلك.. لكن.. لدي ارتباط سابق..
وبادرت نائلة للهمس في أذنها..
_إنه
حب قديم.. فتاة لا يزال على حبها منذ خمس سنوات!.. حب لاأقوى.. ولاأمتن!..
أحست ميساء بالوهن يجري في عروقها!..
تقول ميساء.. أو هكذا قالت لفراس على
الأقل، إنها بدأت تسترعي انتباه الأمير مراد منذ أن نظر إليها ملياً، وهي
ملقية برأسها على مقعد السيارة مغمضة العينين، وجدائلها الذهبية تتلوى فوق
مخمله النبيذي!..
واليوم، وبعد أن اكتشف من دهائها ما
اكتشف، بات فراس لايدري هل كان ذلك الرأس الجميل، في تلك النزهة، يتقبل
حقاً اهتماماً عفوياً من مراد، أم إنه كان يجهز خطة جديدة للإيقاع به!..
خطة حاكها وهو في غمرة أنينه من فشله في الحصول على التاج!!..
وسيان لدى القدر أكان الأمر هذا أم
ذاك!..
فميساء لم تترك مراداً في ذلك اليوم
إلا وهي على موعد معه في لقاء آخر!.. موعد.. تلته مواعيد!..
ومواعيد تلتها رسائل، وثقت عرى علاقة
مبهمة بين أمير عابث، من سلالة مالكة يرجع تاريخ أول حكم منها إلى مئات
السنين، وفتاة دفنت أعز آمالها حين فقدت عرش أخيه.. فتعلقت بأذياله هو،
كغريق يتعلق بآخر قارب نجاة!..
* * *
أنهت ميساء دراستها، ولم يتقدم مراد
طالبا يدها للزواج!.. عادت إلى وطنها دون أن تظفر حتى بوعد بالخطوبة!.. لقد
اختارت أن تسلك مع مراد طريق الحب الأعمى عن كل نتيجة مسبقة!.. فمراد من
النوع الذي لا يؤخذ بغيرطريق قلبه.. فأعطته قلبها، أو هكذا ادعت
أمامه، ودون أن تطالبه بشيء مقابل ذلك!.. فأخذت بلعبتها... ووجدت نفسها
بعيدة عنه في وطنها، مربوطة به، غير قادرة على أن تستحثه للزواج منها.
أكثرت من رسائلها ثم قللت، ولم يغير
ذلك شيئاً حتى في مواعيد رسائله إليها!..
كانت كتبه تصلها مرة كل ثلاثة
أسابيع، سواء أأغرقته برسائلها أم توقفت عن الكتابة!..
حارت من أمرها وتعثرت..
ماذا ينوي بشأنها؟!.. ماذا يعني
موقفه هذا؟!.. لو أنه لايهتم بها لما راسلها على الإطلاق..!..
لعله لا يريد الزواج بها إلا حين
يروق له ذلك!.. ولايمكن أن يعني هذا سوى الانتظار سنوات أخرى ريثما يمل
اللهو، أو حين يجبره والده على الركون إلى الحياة العائلية!..
ماذا يمكنها أن تفعل؟..
أتنتظره، وقد بلغت التاسعة والعشرين
من عمرها؟..
لقد أخفت عن مراد أنها تكبره بثلاث
سنوات!.. فهل يمكنها الانتظار سنين أخرى!؟..
لئن أقسرت نفسها على ذلك، فهل تصمد
بشرتها أمام هذا الانتظار؟!..
لا.. وألف لا!!..
عليها أن تفتح جبهة أخرى.. عليها أن
تسعى لتهيئة زوج آخر!.. من الذي يضمن لها أن مراداً سيظل على عهده بعد سنين!..
أسرّت لقطر الندى عن مخاوفها، وكانت
هذه تستعد للسفر إلى بلاد هلال قبل أن تبتدئ رحلة شهر العسل..
سرت قطر الندى لفكرة ومضت في رأسها..
_تعالي
معنا!.. سنمكث في العاصمة أسبوعاً على أكثر تقدير!.. وسيتاح لك التعرف إلى
جميع أفراد العائلة المالكة هناك.. ما رأيك؟!..
لمعت عينا ميساء.. يالها من مناسبة!..
ستظهر ميساء أمام هؤلاء الأمراء لا
كطالبة زواج، بل كقريبة لهم، كسائحة أتت من الغرب لتتفقد أمورهم من
عليائها!!.. نسيبة لأقوى إخوتهم!..
وفي الحفل الذي ضم معظم الأسرة
المالكة..
ومن بين جموع المعجبين الذين توافدوا
للإحاطة بها..
لم يسترع انتباه ميساء سوى عينين
سوداوين جائعتين..
عينا درة.. ابنة السلطان، وأشرس
بناته!..
ستفتح لها هاتان العينان الأبواب..
ستجدان لها الطُعم الذي تنشده كي
تستدرج مراداً.. وإن ثابر هذا على إهمالها، فلن ترحمهما، حتى توصلاها إلى
أمنع أفراد أسرتها.. إلى البدر.. أقوى أبناء السلطان وأحبهم إلى نفسه!..
ألم تتناقل الشائعات بأن السلطان
يسعى إلى توليته الملك من بعده؟.
القسـم الثـالث الفصـل الأول
ص100-103
{مرة من مئات المرات، استقل فراس
سيارته متجهاً نحو قصر قطر الندى..
مرّ في طريقه إليه بقصر آخر، قصر
والد الأختين المهجور.. مثل آخر لما يخطط له الإنسان من آمال وأحلام كبيرة،
فيقصم القدر ظهور أصحابها، وتبقى شاهداً صلباً مخيفاً لما كان يعتلج في
نفوسهم من تبجح وغرور!..
وعلى الرابية الخضراء المشرفة على
المدينة التائهة.. وفي فناء قصر قطر الندى الذي لم يتعود أن يرى فيه غير
الحارس المسن.. رأى فراس قوماً سمر الوجوه، قصار القامة، لايعرفهم!..
تعجب إذ رآهم يعجلون الخطا، خارجين
من القصر، ليستقلوا سياراتهم العديدة التي كانت في انتظارهم..
كانت ميساء شاحبة اللون..
وقطر الندى مرتبكة المظهر..
كانتا تلقيان بأوامرهما، بصدد أمور
تافهة، بعصبية ظاهرة..
ألقت ميساء إليه بنظرة تائهة، وقالت،
بصوت متعب..
_لقد
جئت في الوقت المناسب يا فراس.. تعال.. أدخل!..
انتاب فراس شعور بخطر مقبل..
_لماذا؟..
هل من جديد؟..
علت على فم ميساء ابتسامة امرأة وضعت
طفلاً بعد إجهاد أيام مديدة..
_ألا
تهنئني، وبذلك تكون أول المهنئين؟!..
_أهنئك؟..
بماذا ياميساء؟!..
وبصوت لاهث، تابعت..
_لقد
أتممت عقد زواجي على مراد.. وقعت العقد منذ دقائق!..
فغر فراس فمه دهشة!!.. سألها وهو
لايصدق ما سمعه..
_الأمير
مراد؟.. شقيق حسان، ولي العهد؟!..
_نعم!!..
وسقطت ميساء في مقعدها ملقية رأسها
إلى الوراء كعادتها حين تود أن تغيب عن العالم المحيط بها.. وتلقف المقعد
ذراعيها اللتين أسندتهما عليه بارتخاء..
غرق الجميع في صمت، كان لصوت رقاص
الساعة فيه، ونقر أصابع ميساء المتوتر، وقع قنبلة مؤقتة توشك على الانفجار!..
نظر فراس إلى أصابعها المرتجفة فلاحظ
خاتماً ذا حجر ماسي كبير..
رفع رأسه إلى السقف متلهياً.. وقال
بصوت جهد في إخفاء نبرة امتعاضه..
_هل
أخبرت البدر وصحبه بفسخ الخطوبة؟..
أدركت ميساء ما يجول في خاطره..
_لا..
لم أقم بذلك بعد.. علي أن أتدبر طريقة لإعادة الهدايا التي قدمها لي البدر..
قالت ذلك، ونظرت إلى الحجر الماسي
الذي كان ينظر إليه فراس..
_ألا
يجدر أن تفعلي ذلك في أقرب وقت ممكن؟.. وتتحاشي ما لا يحسن عقباه؟!..
وكأن ما قامت به في ذلك اليوم كان قد
استنزف كل قواها.. فحاولت أن تبعد عنها شبح فسخ خطوبتها على البدر..
أجابته في شيء من العصبية..
_ما
لا تحسن عقبى أي شيء يا فراس؟!.. ما بالك تهول الأمور؟!..
كان فراس ينظر إلى الأفق البعيد من
النافذة الواسعة التي أمامه، فأجابها بهدوء، دون أن ينظر إليها..
_الأمور
من الهول بما يكفي، دون أن أزيد من هولها أنا!.. ألا تجدين غرابة في أنك في
هذه اللحظة مخطوبة رسمياً للأمير البدر، وزوجة الأمير مراد الشرعية؟.. لعل
ما قمت به هو مجرد توقيع عقد.. لكنك أصبحت، بهذا العقد، الزوجة الشرعية
لأمير عقد زواجه عليك بالوكالة، وما زال على آلاف الأميال منك!.. في حين
أنك على مقربة من أمير آخر، رجل متيم بك، تركك البارحة مساء خطيبة رسمية
له، محملة بهداياه، يتوقع أن تشاركيه حياته بعد ثلاثة أيام!..
_حسناً!..
حسنا!.. سوف أقوم بإعلام البدرالآن..
قالت ميساء ذلك دون ان تفتح عينيها
وكأنها تخضع لقدر غريب سيطر عليها.. لقد تم زواجها منذ لحظات.. زواج كانت
تحلم به، وتخطط له منذ سنوات!.. وها هو قد تم على شكل لم يخطر لها ببال!!..
تم عقد زواجها.. دون وجود زوج!..
أشخاص لاتعرفهم ولايعرفونها، أبرموا
عقداً معها، وكأنهم ممثلو إحدى الشركات الأجنبية، قاموا ببيعها بناء ما، أو
قاموا بشرائه منها!..
ومع هذا، فقد كان لوجودهم أثناء
إبرام العقد وقع غير سيء على نفسها، فهم على الأقل يمثلون مراداً، أميرها
ذا الثقافة الغربية!..
أليس في إتمام العقدد بواسطة السفراء
صيغة أكثر تمدناً من إبرامه بالطريقة المعتادة، بواسطة قاضي الشرع؟!.. أما
كان الجميع يتكلمون بالإفرنسية؟!..
لكنهم ذهبوا الآن!.. ذهبوا جميعاً!..
دفعة واحدة.. وهي الآن وحدها!!..
لقد تم زواجها بأن أدرج اسمها بحذاء
" اسم " إنسان،.. رغم أنها مازالت حيث هي، بين أختها وفراس!!..
غريب هذا التطور الذي لم تكن
تتوقعه.. والذي لم تحسب له أي حساب!.. لقد جاء السفير يعلمها بأن الأمير
مراد أرسل يأمره أن يحول دون زواجها بالبدر بأي ثمن!.. وكلفه، إذا اقتضى
الأمر، أن يعقد زواجه عليها بالوكالة!.. فمن أين لها أن تترك هذه الفرصة
تمر دون أن تنتهزها؟..
ألم تحرق في هذه الخطوة مرحلتين في
الوقت ذاته؟..
ألم تكن تخاف أن يقدم مراد على "
خطبته " فقط، ويترك زمناً طويلاً يمر قبل أن يطلب منها أن تزف إليه؟..
إن أية خطبة عرضة للفسخ!.. فمن يضمن
لها أن خطبتها لمراد كانت ستسفر عن زواج؟..
إنها الآن " زوجة " مراد، في نظر
الشريعة، والقانون!..
أما مراد.. فأين هو الآن؟..
لاعليها!.. ستعرف كيف تأتي به
إليها.. ستعرف كيف تتدبر الأمر!..
لقد حققت أكبر انتصار لها في
حياتها!.. خلقت قصة البدر من أجل هدف واحد!.. خلقتها لتحريض مراد على
الزواج منها!.. وهاهي خطتها تكلل بالنجاح!!..
صحيح أنها كادت أن تصبح زوجة البدر
لو تأخر مراد.. لكن.. لا!..
تناست أنها ستقبل راضية بمصيرها مع
البدر!.. وكررت على نفسها القول، وهي في غمرة موجة غامرة من الثقة بالنفس،
بأنها كانت، منذ البدء، واثقة من أن مراداً سوف يتحرك لطلبها في آخر لحظة،
وأنه ما كان ليتركها تتزوج من أحد غيره{!..
القسم الثالث
الفصـل الثـاني
ص104-106
كان لإعلان نبأ زواج ميساء على
الأمير مراد وقع الصاعقة على نفس السلطان وعائلته، ووقع الفضيحة على قوم
ميساء..
"
الأميرة الجديدة
" !..
لملم البدر شتات كرامته المهدورة،
وهداياه، وعاد مع صحبه إلى بلاده، ليتلو على مسامع أخته تفاصيل الواقعة..
فثارت درة وجن جنونها!!..
وقفت في بادئ الأمر ترتجف من الغيظ،
ووجهها يقطر سماً !!..
ثم ما لبثت أن انتابتها حالة مروعة
من الجنون المفاجئ، اتجهت فيها نحو ما تستطيع أن ترفعه بيديها، فأقبلت عليه
تقلبه أو تحطمه!..
أسقط في يد البدر!.. وقف عاجزاً،
فاغراً فاه، لايجد لما انتاب أخته تدبيراً.. انقلب بطش جنونها على نفسها،
إذ سرعان ما بدأت تضرب وجهها، وتمزق شعرها بكل ما أوتيت من قوة، ثم انقلب
صراخها إلى عويل خرج من قاع أحشائها!..
أخذت تزعق " ويلك ياميساء!.." .. "
ويلك ياميساء "!..
وردت جدران دارها الفسيح زعيقها.. "
ويلك ياميساء "!..
"
ويلك ياميساء
"!!.
حاول البدر مع أهل الدار أن يهدئوا
من روعها.. فلم يفلحوا!..
أفلتت منهم كالذئبة الضارية، تتطاير
أذيال ثوبها الممزقة من ورائها، واتجهت نحو الجناح الذي كانت قد أعدته
لميساء، فأغلقته على نفسها!.. ولساعات طوال، لم يعد يسمع في القصر سوى
نحيبها المبحوح.. وأناتها الطويلة.. وبين الفينة والفينة، كلام مبهم،
لايفهم منه سوى.." ميساء ".. " ميساء ".. يتلوه الشهيق، والبكاء، ثم العويل!!..
لم يكن البدر ملماً بجميع ملابسات ما
قامت به ميساء.. لذلك لم ينقل إلى درة، حين أخبرها بالأمر سوى أن ميساء
عدلت عن الزواج به، مؤثرة مراداً عليه.. ولما لم تجبه درة بغير النحيب، ضاق
صدره بما رآه من جنونها، فانصرف..
أمضت درة يومين في سجنها البنفسجي،
خرجت منه بعدهما هزيلة شاحبة!..
كان أول ما طلبته، موافاتها بجميع ما
نشرته الصحف من أخبار هذه القضية!.. فما أن قرأت في بعضها نبأ " خطوبة "
ميساء، وفي بعضها الآخر أنباء عن " زواجها المقبل "، واستنتجت من ذلك أن
مراداً لم يزف إلى ميساء بعد، ثم أضافت إلى ذلك إجماع هذه الصحف على أن
مراداً ما زال في بلاده، وأن الظروف لم تجمعه بميساء منذ سنتين، حتى دار في
رأسها أن بارقة الأمل لم تنطفئ بعد!.. وأنها لم تخسر المعركة!!..
انقضّّت على الهاتف طالبة ميساء!..
وإذ تقاعست هذه عن محادثتها، مدعية المرض الشديد، انهالت على قطر الندى
بالأسئلة والاستجوابات عن أختها.. وتعالى صوت هذه على الهاتف، منتحلة الأسى
والحزن الشديد..
_ماذا
كان بإمكاننا أن نفعل يا درّة؟.. لقد ضحّت ميساء بحبها للبدر، وبسعادتها،
إذعاناً لمشيئة هلال!..
وتصيح درة متحدية..
_كيف
تذعن لمشيئة هلال؟.. وهلال.. أهو أبوها أو أخوها لتتأثر بما يقول؟!,,
وتتقطع الكلمات.. وتنفر العروق من عنق قطر الندى وهي تحاول أن تحفظ لصوتها
طابع الصدق عبر آلاف الأميال..
_لقد
هددها يا درة!!.. وتصيح مؤكدة " نعم هددها " !!.. هددها دون علم مني بأنه
سيطلقني إن لم ترفض الزواج بالبدر..
فتقطع درة المكالمة، ويتساءل الجميع
عمّا سيكون جواب هلال لها حين ستواجهه بما علمته؟..
وتعود درة في اليوم التالي لتتابع
الحديث..
_لقد
أقسم لي هلال أنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل يا قطر!..
وتجيبها هذه..
_وهل
يعقل أن يعترف لك هلال بالأمر؟..
_المهم
إذاً أن خطته انكشفت يا قطر!.. قولي لميساء أن تعدل عن خطوبتها لمراد.. إذ
أن هلالاً لن يجرؤ على طلاقك بعد اليوم!..
وتعيد قطر الندى محاولة الإفلات من
شبكة درة..
_إن
ميساء تقول بأن هلالاً كاذب.. وأنه يلعب على الحبلين!..
وتعود درة لقطع المكالمة، ويعود
صوتها بعد أيام قاطعاً بالقول..
_لاحبلان
ولا ثلاثة حبال بعد اليوم يا قطر!.. لقد أقسم هلال أمام السلطان بأنه لم
يوقع أبداً بمثل هذا التهديد على ميساء!.. قولي لها أن تأتي إلينا، لتمثل
بين يدي السلطان، فليس غير كلمتها من دليل على كذب هلال!.. وضمان لمستقبلك
يا قطر!.. هلال اليوم يصطنع الغضب لما قامت به ميساء، ويتوعد بأنه سينتقم
للسلطان.. إنه لن يتوانى عن طلاقك الآن مدعياً أنها غضبة منه لإهانة
عائلتنا!!.. قولي لميساء إن تحضر حالاً، وتكشف بذلك للجميع عن كذب هلال!!..
وتحار قطر الندى كيف تفلت من حصار
درة؟!..
وكأن قطر الندى أحست بالشك يتسرب إلى
كلمات درة حين أجابتها هذه قائلة..
_وكيف
يثبت كذب هلال إن لم تجئ؟..
فإذا بها تجد نفسها مضطرة لأن تختلق
مهرباً فتقول..
_لدينا
البرهان القاطع على تهديده لها يا درة.. سوف أخبرك عنه مساء الغد!..
أعادت قطر الندى السماعة إلى مكانها،
وتمتمت لميساء ولفراس اللذين كانا يساعدانها في الرد على درة..
_ليس
هناك أمكر منها امرأة على وجه البسيطة..
ضحكت ميساء..
_إلا
نحن..
* * *
ص109-111
درة التي جلست تنتظر هلالاً في بهو
قصرها، متسلحة بالدليل القاطع على خيانته، غير تلك التي بكت منذ أيام، وسرت
مع الريح أخبار فاجعتها إلى جميع أنحاء بلادها!!..
درة التي جمعت أشلاء قلب مزقته أظافر
بنفسجية اللون، جلست تبلع دموعها في صمت أشم، كاللبوة الجريحة، تنتظر وصول
الإنسان الذي أوقع الدهر على كاهله وحده وزر ما عبثت به أيدي فتاتين
لامباليتين على بعد ألوف الأميال!!..
وصل هلال يخطر بقامته المديدة، وبما
ولد فيه من نبل المظهر، وما فطم عليه من اعتزاز وثقة بالنفس.. وصل!.. أو قل
حط!!.. كنسر شامخ، ضاق ذرعاً بعبث أطفال يرشقونه بالحصى.. فقرر أن يصل في
هذا اللقاء إلى نهاية المهزلة، ونهاية لما يكال إليه من اتهامات!!..
وقفت درة إذ رأته مقبلاً من بعيد..
فكانت على مثل قامته طولاً وانتصاباً!!..
مشت نحوه، فكان لخطاها الثابتة نفس
شدة الوقع، ورنين الصدى!!..
وبين جدران سمعت منذ أيام عويل
المرأة الثكلى.. قامت معركة بين مخلوقين من فصيلة واحدة.. لم يعد فيها ذكر
ولا أنثى!!..
معركة دامت ساعات طوال.. خرج الاثنان
منها كأنهما مثخنان بالجراح، مضرجين بالدم!!..
ما أن برح هلال قصرها، حتى أقفلت درة
المسجلة التي كانت قد أعدتها، قبل وصول غريمها، وأخفت رأسها اللاقط للصوت
في باقة من الزهور!!..
لعلها كانت تعلم في قرارة نفسها أن
ميساء خرجت مختارة، لا مجبرة من حياتها، وأنها خرجت إلى غير رجعة!.. لكن
إحساساً لا شعورياً كان يحرضها للوصول إلى نتيجة تُثبت أن يداً ظالمة
اختطفت ميساء منها، وأن حبها كان سيثمر لولا يد أثيمة لعبت ضدها في
الخفاء!.. أرادت مجرماً، غير ميساء، تنسب إليه فجيعتها، فكان لها في هلال
ذلك الغريم!..
ومن ذلك الشريط الذي احتوى على ما
لاحصر له من فضائح، ونيل، وشتم، ووعيد، وتجريح بكل من كانت له صلة بهذا
القضية، أعادت درة تسجيل ما اختص قطر الندى وحدها، وحمّلته إليها مع
مبعوثتها الخاصة، مظهرة لها بذلك ما ورد في هذا التسجيل من برهان قاطع على
أن هلالاً ينوي طلاقها لا محالة!.. آملة بذلك أن تعمل قطر الندى بدورها على
النيل منه والانتقام!!..
أما ما بقي من الشريط، فاحتفظت به،
لتشهره أمام السلطان متى أرادت!.. وتجهز على هلال في الوقت المناسب!..
* * *
في قصرها.. وعلى أرض غرفة نومها
الفسيحة المكسوة بالطنافس الوردية اللون.. جلست قطر الندى، مسندة رأسها
براحتي يديها، تستمع إلى صوت زوجها على شريط التسجيل الذي بعثت به درة
إليها..
كم عدد المرات التي أعادت على مسمعها
قوله فيه " نعم أحببتها في الماضي!.. لكن هذا شيء انتهى!.. نويت أن أطلقها
منذ كنا في أوروبا!.. لكني تمهلت عندما أخبرتني أنها حامل
"..
"
نعم أحببتها ".. " نعم أحببتها ".. "
نعم أحببتها "..
لقد أحبها في يوم من الأيام!.. أحبها
كرجل!!..
طاف في ذهنها خاطر أذهلها!!.. هلال
إذن رجل!.. هلال ليس سوى رجل!!.. هو ليس ذلك المتعنت القاسي!.. ولا ذلك
الأمير المتعجرف الذي كانت تراه!!.. لقد أحبها كامرأة!.. أحبها كما يحب أي
رجل أي امرأة أخرى!!..
لئن ولد هلال أميراً، فالإمارة كانت
صفة من صفاته، لا ذنباً عليه أن يكفّر عنه!!.. ولئن كانت الإمارة صفة تخيف
بعض الناس، أو تثيرإعجاب بعضهم الآخر، فهي لم تكن بالنسبة له سوى شيء ولد
معه، كما تولد مع الطفل أطرافه، فتعوّد استخدامها، كما يتعود الطفل استخدام
جميع ما ولد معه من أعضاء وأطراف!..
ترى هل أحبته؟.. هل أحبته في يوم من
الأيام كرجل؟!.. من أين لها أن تدري، وهي حتى قبل أن تراه، لم تسمع باسمه
إلا مقروناً بلقبه!!..
لطالما ساءلت نفسها هذا السؤال إلى
ما بعد الزواج، حين كانت تراه في ثياب النوم.. ثم في ظلام الليل.. وهو
يحضنها!..
كيف كان لها أن تزيح الوعي عن
إحساسات جسدها، لتدرك في تلك اللحظات معنى أن يذوب جسدها في جسد آخر؟..
كان ينعتها بالبرود والجفاف..
ألم تحاول جاهدة أن تشعر بالدفء معه،
دون جدوى؟..
لماذا كانت تطفح بذلك الدفء مع ذاك
الذي أحبته في طفولتها؟.. ثم تخونها أنوثتها، حين تود أن تكون كأبسط
النساء، لزوج، إن لم تكن متدلهة في حبه، فهي على الأقل لم تضمر له الكراهية
قط، بل على العكس، كانت كثيراً ما تجده وسيماً!..
قضي الأمر، وفاتها قطار هلال إلى
الأبد!..
لئن بهر عينيها الثراء ولقب الإمارة،
وأعجزها في البداية أن ترى في طالب يدها صفة الرجل، فهي اليوم ترى فيه، بعد
أن قرر الرحيل عنها، جميع صفاته الحقيقة!..
أبدلت قطر الندى ذلك الشريط بشريط
آخر..
ومع الناي الحزين، أحست وكأن حباً
جديداً حزيناً تفطر في صدرها، فراح قلبها ينبض مع أنغام أغنية شرقية والهة،
يكرر فيها الصوت، بعد الآهات الطوال.. " أنت الذي بدأ الملامة والظنون
"!..
وفاجأها في تلك اللحظة دخول فراس
وميساء عليها..
تعجبت ميساء..
_لقد
تركناك وأنت تستمعين إلى شريط درة.. ماهذا التغيير المفاجئ؟..
لم تحر قطر جواباً.. ظلت على
إطراقها، حتى إذا اقتربا منها، رفعت رأسها إليهما، فشاهدا بقايا دموع
انهمرت على خديها..
وجلت ميساء، وسألها فراس بهدوء..
_ماذا
دهاك يا قطر؟.. ألم تتعودي فكرة بعدك عن هلال بعد؟.. لم يخيل لي يوماً بأنك
قد أحببته!..
ورفعت إليه قطر الندى عينين مخضبتين،
أحس لأول مرة بمدى ما يمكن أن يكون لهما عليه من تأثير..
_أريد
منك مساعدتي في أمر يا فراس!..
_وهل
يساورك شك في أنني قد أبخل عليك في أي شيء تطلبينه؟..
_إذن
فاسمع!.. أريد منك مساعدتي على قتل هلال!!..
القسم الثالث الفصـل الثـالث
مرت أسابيع طويلة، طار فراس بعدها
إلى الغرب.. طار متعللاً بسبب بسيط، هارباً من جو ضاق بشدة تعقيده، مبتعداً
عن زوجة، بدأ اهتمامه الزائد بصديقتيها يثير في نفسها قلقاً جديداً أقض
مضجعها، وأثار في حياته الغبار والهموم!..
عاد فراس إلى باريس عودة المهاجر إلى
وطنه..
عاد يتفقد باعة اعتاد رؤيتهم، وألف
وجوههم، يبحث عن أصدقاء طال غيابه عنهم. مشى في أزقة أحبها وأحبته.. عرفها
وعرفته.. وراح يحاول استعادة طمأنينة داخلية، أقلقه أنه بدأ يفتقدها..
وبعيد ظهيرة أحد أيام شتاء باريس
القاسية، جلسنا في أحد مقاهي الحي اللاتيني المكتظة بالناس، نرتشف النبيذ
الأحمر الساخن، ونستعيد ذكرى صداقات مضت، وأيام خلت..
سألت متردداً، كمن يطرق باب دارٍ لا
يريد أن يوقظ أهلها..
_هل
حاولت أن تتصل بصديقتك " لويز "؟..
_لا..
_لا
أخالك أحجمت عن ذلك إخلاصاً لزوجتك!..
ابتسم.. ثم تجهم بعض الشيء..
_إني
في الواقع حائر في أمر زوجتي وزواجي!.. لقد كرهت الحياة إلى جانبها، كرهت
اندلاع غيرتها أمام كل من تشاء الظروف أن يكون له احتكاك بي!.. كرهت قذارة
لسانها!.. لقد مررنا بأزمات كنت أشعر في قرارة نفسي أن الطلاق خير منفرج
لها!..
_
لماذا لم تقم بذلك؟..
أجاب، والمرارة في صوته..
_لاأتذكر
يا صديقي ما قاله " نيتشة " عن المرأة ودموعها؟.. لعلك لا تذكر ذلك.. أما
أنا فلقد أدركت معنى أن تلقي المرأة بجسدها العاري على عتبة الدار!!..
سألته متردداً، حزيناً..
_وهل
لا تزال مشاكلكما قائمة؟..
_إنها
اليوم تعذب نفسها لسبب جديد!.. غيرة تقتلها من صداقتنا المشتركة بقطر الندى
وميساء!.. لا تنام من الليل إلا ساعات قلائل، تنتحب وتشهق، لاعنة الأقدار
التي خلقتها قبيحة، ذات أنف مدبب، بينما أعطت لقطر الندى وميساء ما أعطتهما
من جمال!..
_وهل
حاولت قطع هذه الصداقة، أو تعكيرها؟..
_لا..
بل على العكس!.. لقد حرت حقاً في فهمها.. فهي، رغم غيرتها، إما أنها تثق
ثقة عمياء ببراءة صداقتنا، أو أنها تحاول، بدافع لا شعوري من كبريائها، ألا
تشك فعلاً بهذه الصداقة، كي لا تنهار ثقتها بنفسها كلياً!..
كان دخان اللفائف قد تلبد في جو
المقهى..
خرجنا نبحث عن الهواء الطلق، مبتعدين
عن ضجيج أثاره فتية وفتيات، أداروا الحاكي، وبدؤوا الرقص والتلوي على إيقاع
تأوهات ملحة انبعثت منه..
سرعان ما لفحنا البرد..
دخلنا نطلب الدفء في مقهى صغير على
طريق جانبية هادئة، وما إن هدأنا إلى إحدى زواياه، حتى فوجئت بفراس يقول لي..
_أتدري
بأن قطر الندى طلبت مني مساعدتها في قتل زوجها؟..
نظرت إليه حائراً.. لابد أن وجهي
أنبأه أنني لم أدرك معنى ما سمعت..
أعاد ما قاله مرة أخرى، فسألته..
_وهل
هي جادة؟..
_لست
أدري!.. كانت تبدو لي تارة كأن لا هم لها سوى تنفيذ هذا الأمر، وتارة أخرى،
تحدثني عنه، وهي تتفحصني، وكأنها تود أن تستشف من أعماقي حقيقة موقفي منه..
أو من أمر آخر لا أفهمه تماماً..
شعرت وكأنه يتحاشى ترديد كلمة "
القتل ".. فسألته مقاطعاً، لأضع النقاط على الحروف..
_موقفك
من أي أمر؟.. أمن القتل؟..
_نعم،
من القتل!.. كان ينتابني شعور غامض، وهي تحدثني عنه، بأنها إنما كانت تسعى
في حديثها هذا إلى كشف خفايا شعور أحدنا نحو الآخر.. كان القتل يتردد على
لسانها ببساطة مذهلة!.. بساطة إنسان تعوده، حتى غدا عنده موضوعاً غير ذي
بال.. أو بساطة إنسان لا يعي معنى ما يقول، ولا يمكن له أن يفكر جدياً
بالقيام بأمر كهذا..
_وبالطبع..
ليست قطر تلك القاتلة المحترفة!..
_ولا
تلك الساذجة التي لا تعي ما تقول!.. كانت تتحدث عن القتل وكأنها تعرفه.. ثم
تُطور الحديث بشكل تفقد الجريمة فيه، بعد هنيهة، صفة الهدف، وتصبح وسيلة
للقاء غير طبيعي بين إنسانين غريبي الأطوار!..
أثارتني غرابة ما تطرق إليه، فسألته..
_وهل
تعني شيئاً آخر غير لقاء هذين الشخصين، بعد قتل الإنسان الذي يفصل بينهما؟..
_تماماً..
كان يعتريني شعور بأن قصدها من الحديث عن الجريمة كان شيئاً آخر، غير هدف
الانتقام، أو إزاحة عائق من طريقها بقتله.. كنت أشعر أنها تسعى إلى هدف لا
يمكنها أن تصل إليه إلا بالتحدث عن قتل إنسان آخر!.. هدف يمكنها أن تصل
إليه بمجرد الحديث عن القتل!!..
وبعد شرود، تابع بصوت بعيد..
_يخيل
إلي أنها كانت تجد في الحديث عن القتل صلاة إلى قوى خفية كامنة في نفسها،
وكأنها كانت تسعى، واعية لذلك أو لا، وراء من يشاركها تلك الصلاة.. وكأن في
هذه المشاركة رباطاً سحرياً أسود، يجمعهما عنوة بهذا الإنسان..
تاه فراس برهة أخرى.. ثم تابع هامساً..
_كان
الحديث عن القتل سرير أرادت أن نركن إليه كلانا!..
كان في لهجته ما أشعرني بأنه لن
يزيدني إيضاحاً لو أصررت على فهمه.. فسألته، موجهاً الحديث نحو مدار آخر..
_هل
كانت ميساء على علم بما يجري بينكما؟..
كانت تستمع إلينا، وتشترك أحياناً،
نصف مازحة، في تدبير التفاصيل اللازمة لتنفيذ القتل، فتقترح أساليب، قرأت
عنها، أو شاهدتها بأفلام السينما..
صمت فراس قليلاً، ثم تابع..
_كنت
أظن قطر الندى وميساء متفقتان، من حيث الجوهر على الأقل، حول جميع ما
تقومان به أو تسعيان وراءه من آمال.. كانت وحدة الهدف تطغى على الصورة التي
لهما في مخيلتي، فتضمهما في إطار واحد، لتلقي الأحداث عليهما كمية واحدة من
الظل والنور، حتى غلب علي الظن بأن هذه اللوحة قد تفقد تماسكها لو مسحت
عنها صورة إحدى هاتين الشخصيتين، فبتّ أرى فيهما، وجهين مختلفين لإنسان
واحد..
_ألم
يكن الأمر كذلك؟..
_قلما
كانت الظروف تسنح لي بأن أرى الاختلاف الشاسع بين طبيعتيهما.. ذلك أنّ وحدة
الهدف هذه قد بدأت فعلاً في محو الفوارق الباطنية بينهما.. حتى جاء يوم..
أذكر أن ميساء عادت فيه من نزهة في سيارتها، دخلت البهو الذي كنا فيه مرحة،
طربة لأمر جرى لها في المدينة، وإذ طالعتها أختها، وكانت قابعة في ثياب
النوم، تستمع إلى أغنية، وتكرر سماع مقطع منها يقول " لن أعود إليك "..
قالت لها، وكأنها تود مباغتتها " ومن الذي يطلب منك العودة العودة إليه يا
قطر؟.. "
"..
بهتنا من قولها هذا!.. .. وكأن مسحة
السخرية التي أفلتت من ميساء، مع هذا القول فاجأت، أول ما فاجأت، ميساء
نفسها!.."
"
أدركت ميساء، من الألم الذي ارتسم على
وجه أختها، مدى قسوة قولها.. فحاولت تدارك الموقف، لكن دافعاً خفياً آخر
أرغمها على المتابعة.. " تدعين محاولة هجر إنسان.. وتدعين أنك تحبينه.. ثم
تدعين في الوقت ذاته أنك تودين التخلص منه بقتله!.. جميعها ادعاءات.. ما
هدف هذه الأدوار التي تمثلينها؟!.."
!! "
"
لعلها لم تعن ما قالته، بدت وكأن
الكلمات أفلتت منها لسبب لا تعرفه، فأدارت ظهرها مرتبكة، وشرعت تنظر من
النافذة إلى الأفق البعيد.."!!
سألت فراس بتلهف..
_وماذا
كان من أمر أختها؟..
لم يعط لإنسان أن يصف مدى الحزن،
والعجب، والقسوة، التي ارتسمت على وجهها وهي تنظر إلى ميساء التي أدارت لها
ظهرها!.. فما كان مني إلا أن قلت وأنا أكاد أضمها إلى صدري.. " إن ميساء يا
قطر وجلة عليك.. تراك تغرقين نفسك في أسف على ماض لا طائل وراءه.. لعلها
قست عليك بالكلام، لكنها لا تضمر لك سوى الخير، وأنت تعرفين ذلك!.." فأتاني
صوت قطر عميقاً متهدجاً " أعلم ذلك يا فراس.. آمل ألا تؤول الأيام بميساء
إلى ما انتهيت إليه اليوم ".. حاولت أن أشدّ من عزمها، واصفاً لها الجانب
المشرق من حياتها، وإذا بميساء تقاطعني بصوت علا عليه صوت الموسيقى، فلم
تسمعه قطر الندى.. قالت بحزم وبرود " أنا لست قطر الندى،
يا فراس، كي أنتهي إلى مثل هذا المصير!.."
!!
وكأن القدر أراد أن يقلم أظافر غلواء
ميساء، فجابهها بمشكلة لم تكن في حسبانها! لم يأت مراد في طلبها!..
ظلت رسائله تأتيها بانتظام دون أن
تذكر شيئاً عن موعد قدومه، وعادت ميساء بعد أشهر من الرسائل المفعمة بالحب
إلى لهجة التململ والتساؤل عن مصيرها!..
أحست برعدة إذ جال في ذهنها أن القدر
ربما يخبئ لها ضربة أكبر من التي أصابت أختها!.. فهذه زفت إلى زوجها كما
تزف أية عروس، وحملت منه، فإن كانت الآن على وشك الطلاق، فكل هذه أمور تدور
بفلك الزواج الطبيعي!.. أما هي.. فكيف تفسر ما حدث لها؟..
عُقد صك زواجها على رجل لم تره منذ
سنين!..
أمير، لكثرة تجواله، قلما تعرف أين
تكتب له.. وهاهي الآن أسيرة هذا العقد!..
زوجة لرجل مضى على زواجها منه
بالوكالة ثلاثة أشهر دون أن يأتي لزيارتها.. فلا هي حرة لتبحث عن غيره..
ولا تملك إمكانية اللحاق به!.. وإنها إن تمكنت من ذلك، فإن كرامتها لا تسمح
لها بأن تجري وراءه بهذا الشكل المهين..
لماذا عقد قرانه عليها وأهملها بهذا
الشكل؟..
أكان ذلك انتقاماً منه لتلك المزاودة
التي طرحت نفسها على بساطها حين استدرجت البدر لخطبتها؟.. أهو انتقامه
منها، حين نالت منه، ولاكت موقفه في الصحف، فاتهمته بالتخاذل والجمود؟!..
لهوت عن فراس بالجو الذي نقلني إليه..
كنت أنظر إليه، جالساً أمامي، وأراه
في مخيلتي، حائراً بين ثلاث نساء، لو أمعن النظر إليهن لما وجد فيهن سوى
وجوه مختلفة للمرأة في بلاده!..
ميساء، يحركها طموحها، وتستخدم
للوصول إلى أهدافها كل ما أوتيت مما أعطته الطبيعة للمرأة من صبر وحنكة في
استغلال أنوثتها!..
وقطر الندى، تجري وراء قدر يخططه لها
جمالها وأنوثتها الطاغية، لاتذكر أن لها عقلاً، فتلجأ إليه، إلا بعد
استفحال المصيبة وفوات الأوان على استدراكها!..
أما زوجته، فامرأة عادية باهتة،
دونما جمال تفخر به، أو عقل تلجأ إليه، تتوهم أنه لا ينقصها سوى ثياب قطر
الندى وحليها كي تصبح على جمالها.. وتتقفى آثار ميساء بالكلام والتصرفات،
ظانة بذلك أنها ستبلغ هي الأخرى، ما بلغته ميساء من علو في الشأن، والسيطرة
على من يدور في فلكها!!..
نظرت إلى صديقي مليا، وعجبت في خاطري
مما تشكله النسوة في أذهانهن من صورة له!.. تراه كل في منظارها الخاص،
مختلفاً عما تراه الأخرى، بمقدار الخير الذي يشغله من عالمها.
فإن كانت ميساء لا ترى فيه سوى
الذكاء، وفي صداقته المطية السائغة لتحقيق مآربها.. فإن قطر الندى كانت ترى
منه هذه الأشياء نفسها، مضافاً إليها أن فراساً رجل، وأنوثتها لا تستطيع أن
تمر على ذلك مر الكرام!..
أما زوجته، فجهلها أخافها من ذكائه،
وزادت عقدها وكبتها الجنسي من تعقيد نظرتها له، فباتت لا تراه إلا من خلال
هذا المنظار.. إنساناً معقداً شبقاً.. يود لو يضاجع جميع من يحتك بهن!..
جال في خاطري وأنا أنظر إلى صديقي،
وأحاول فهمه وتفسير تصرفاته، أني أنا الآخر أستعمل منظاري الخاص ومفاهيمي
الخاصة.. من هو فراس؟!..
قد يزيد إدراكي أو ينقص، قد تزداد
نظرتي شمولاً لخفايا الإنسان أو تنقص، لكنها دائماً وأبداً ستظل نظرتي
الخاصة!.. أليس في كونها نظرتي الخاصة نقص لكمال مدلولها؟..
لم أشأ أن أزج فراساً في نقاش أحسست
أنه بعيد عن جوه، وأنني لو فعلت، ألن يجيبني بأن الخطأ لا يقع في تعدد
وجهات النظر بل يكمن في بحثي أنا عن كمال المعرفة؟!..
ألن يضحك مني ويقول: الكمال " مفهوم
" لا واقع له؟!..
هل من المستحيل إذن على الإنسان أن
يفهم حقيقة إنسان آخر؟..
لئن كان سبب الإبهام هو استعمال كلمة
" حقيقة " أو " موضوعية "، وحذفنا هاتين الكلمتين، فماذا يبقى؟..
هل من المستحيل إذن على الإنسان أن
يفهم حقيقة إنسان آخر؟!..
في تلك الليلة.. رأيت فراساً مقبلاً
نحوي، وكنت أنتظر وصوله أمام مدخل دار الأوبرا الفسيح، وإذ أشرت إليه
ملوحاً بيدي، أسرع، مرتقياً مدرجه العريض، فتطايرت جوانب ثوب أسود عريض،
ملقى على اكتافه، اتسعت أرجاؤه، فبدا بثيابه هذه مقبلاً علي من قرن مضى..
أسرعنا إلى مقصورتنا في الطابق
الأول، فمررنا بقاعات وأعمدة المرمر الوردية والخضراء، بتماثيل البرونز،
وبثريات الكريستال التي لا حصر لها، ركنّا إلى مقاعدنا المخملية الحمراء،
وسط ألوف انعكاسات الأضواء على التماثيل، والحفر، والنقوش الذهبية التي
تزين جدران وسقف قاعة هي من أجمل وأعرق قاعات الدنيا!..
إذ ضاقت أعين النور، وخبا أجيج
الجمال، بدا نيف وثمانون عازفاً تحت عتبة المسرح يحضرون آلاتهم، فتنبعث
منها نغمات حائرة خافتة تصدر لا على التعيين، تسبق كل حفل، فتهدأ لها
الروح، وتتهيأ لصلاة تجوب فيها النفس أرجاء عوالم الخيال والحس النقي..
أخذ فراس كعادته في مثل هذا الحفل،
يبحث بمنظاره الصغير بين الحاضرين عن شيء.. كانت الموسيقى ستنقله إلى عالم
الشعور والحب، فكيف له أن يتيه في طياته وحيداً؟..
..
وإذ وجد ضالته في عينين تائهتين تعكسان
عطش روح بدت له لهفة، تبحث هي الأخرى عن غدير ماء صاف لتعب منه..
..
وإذ وجد شفتين تتفتحان مع شفتيه كلما
علا الموج بعاطفة Peleasse
، وأنّ له صوت
Melisande
قائلة.. " أنت قربي في الظلام ليت يدي
تمس يدك "..
وإذ وجد هذه الروح التي تبحث هي
الأخرى عن كتف تستقر عليه كلما صاح الطفل
Iqnolde "
ما أثقل هذه الصخرة!.. إنها أثقل من
العالم أجمع!.. وذراعي الصغير لا تستطيع أن تزيحها
"..
..
صاح لهما، صاح لهاتين العينين اللتين
تبحثان عن عينيه هو!.... حتى إذا علا مد الموسيقى الهادئ ليغمر الكون.. غاص
في المقعد.. وانساب في عالم لا يعرفه أحد سواه..
القسم الثالث
الفصـل الرابـع
كان فراس قد سئم الحياة في الصحراء،
وملّ الدسائس، والمؤامرات، والمغامرات المعقدة!..
ولكي يبتعد عن ضوضاء العاصمة اتخذ
لنفسه داراً صغيرة مستقلة، ذات حديقة وارفة، لا يفصلها عن قصر قطر الندى،
سوى طريق ضيقة ملتوية، يرتادها سيراً على الأقدام ليزور صديقتيه، فيقضي
الجميع ساعات الليل المبكرة في مرح وسمر، متحدثين بين الفينة والأخرى عن
غرابة الهدوء الذي بات يخيم على حياتهم، هدوء لم يكن مبعثه استقرار نفوسهم،
بل توقف الأحداث!..
وطال ترقبهم لمخرج من هذا الركود!..
ولما لم يأتهم الحل، عكفوا على حياتهم اليومية يبحثون فيها عن أحداث
يشتركون في تضخيمها وصبغ الأحلام والآمال عليها..
تقول قطر الندى..
_مررت
بوكالة سيارات " الكاديلك " اليوم.. فنزلت أتجول في الصالة، وكـأني أريد
تبديل سيارتي.. وإذ بالوكيل يهرع إلي!.. أتدرون أنه شاب وسيم جداً؟.. لم
أعره أية التفاتة.. لكني شعرت أنه كان يحملق فيّ طوال الوقت!..
تضحك ميساء، وتعلق..
_ليته
يبعث لنا بسيارتين سوداوين كهدية!.. أليس جميلاً أن نقصد القصر وننزل
المدينة بسيارتين " كادلك " من آخر طراز؟..
أو تقول قطر الندى..
_مررت
برئيس الوزراء السابق، وأنا أتجول بسيارتي في السوق اليوم، فابتسم بإصرار،
وحنى رأسه من بعيد!..
قاطعتها ميساء..
_لقد
حاول المستحيل ليتزوجني.. مسكين.. أنا لا أحاول أن أبخسه حقه.. لكن، شتان
ما بينه وبين الأمير مراد!..
ويصمتون إذ يأتي ذكر مراد!.. ومراد
على بعد ألوف الأميال منها!..
أما هلال.. فلقد انقطعت أخباره عنهم
هو الآخر أو تكاد..
ويلهو فراس عنهن بالقراءة أحياناً،
أو بالعزف على القيثارة..
يضحك في سره، أو يعجب لقطر الندى
وميساء إذ تحلقان بعيداً بعيداً على أجنحة الخيال.. ويدهش آسفاً إذ يرى
زوجته تشاركهما هذه الأحلام فتتحسرهي الأخرى على بعد الأمير مراد، وكأنه لو
عاد، فسيعود إليها لا إلى ميساء.. وتظن أنها هي الأخرى مهيأة لأن يحملق بها
وكيل السيارات الوسيم.. وأنه يحق لها، هي الأخرى، أن يبتسم لها رئيس
الوزراء السابق.. ويلح في طلبها للزواج..
سألته قطر الندى يوماً متعجبة..
_وأنت
يا فراس.. ألا تمر بك أبداً حوادث غريبة في عملك الجديد؟..
فكر قليلاٍ، ثم قال..
_بلى..
كنت اليوم في طريقي إلى مقابلة أحد الشيوخ بصدد بضائع ابتعتها لحسابه، وفي
المصعد الذي أقلني إلى شقته، شاهدت رجلاً، قيل لي فيما بعد إنه نائب ذلك
الشيخ، لعله من أغرب ما رأيت من الرجال في هذه المدينة!..
وحدثهم فراس عن ذلك الرجل الذي كان
يحمل عقده الرابع بخفة وطرب من لايزال في سن المراهقة.. ووصف لهم وقفة ذلك
الرجل أمام مرآة المصعد.. يصفف حاجبيه بإصبعه الصغرى المحملة بخاتمه الماسي
الكبير، ويزيح طرف " حطاطة " رأسه قيد أنملة، تارة على اليمين، وتارة على
اليسار، مقطباً عينيه، متفرساً في مدى تأثير انحرافها على جمال وجهه، غير
عابئ بمن كانوا حوله في المصعد يحدقون به!..
ضحك الجميع.. وسألته قطر الندى
مستفسرة..
_هل
كان، على الأقل وسيماً؟..
_وسيم
جداً!.. طويل القامة.. بدا مشدود العود في قفطانه الحريري الأبيض وعينان
خضراوان، من أجمل مارأيت على بشرة سمراء!..
صاحت ميساء..
_إنه
جعفر.. أليس كذلك يا فراس؟..
ولما لم يجبها فراس على الفور، تلهفت
قطر الندى..
_ألم
يذكر أحد لك اسمه؟..
تابع فراس، وقد طغت على صوته
دهشة من تلهف صديقتيه..
_بلى..
قيل لي إن اسمه جعفر.. وكان يحمل في يده وردة يتنشق بين الفينة والأخرى
عبيرها.. التفت إلي فجأة، قبل أن يخرج من المصعد، ومدها إلي دون أن يكلمني!..
والتفت فراس إلى ميساء..
_..
لكن.. كيف عرفت أن اسمه جعفر؟..
ضحكت ميساء مسرورة لصحة اكتشافها..
وتابعت مازحة..
_متى
ستعرف يا فراس بأنني موسوعة متنقلة؟!.. إن نساء الخليج يا عزيزي يتناقلن
اسم جعفر، ويتحدثن عن أخباره كما كن منذ قرون مضت يتناقلن أخبار ابن
ربيعة!!.. أهو حقاً على مثل ما يقال من الجمال؟..
_وسيم
جداً، ليس في ذلك شك!.. أما وأنت تسألينني عن جماله بهذا الإلحاح، فبت أراه
أقرب إلى الوسط منه إلى أي شيء آخر!..
كان ما أثار انتباه فراس، وما أراد
أن يتحدث عنه، هو عفوية هذا الإنسان حين أعطاه الوردة في المصعد دون معرفة
سابقة بينهما..
راوده أن جعفراً ربما كان يود التخلص
منها قبل خروجه من المصعد، فأعطاها له بدل أن يلقي بها إلى الأرض.. أو لعله
كان سيعطيها لأي إنسان آخر أوقفته الصدفة أمامه في ذلك المصعد.. ورغم ذلك،
جاء وقع هذه الحادثة محبباً، غريباً على نفس فراس.
أراد أن يحدثهم عما تطبع به من عادات
الغرب، فالغربي لا يكلم من الناس إلا إنساناً يعرفه، وفي الغرب يعيش الجار
دون أن يبادل جاره كلمة واحدة.. وإذا لامست يد الغربي يد إنسان لا يعرفه،
سحبها بعصبية، طالباً منه المغفرة!.. ما أطرف الشرق، وما أعمق جذور
إنسانيته!..
رجل لا تربطه معرفة برجل آخر، ولا
ينوي التعرف إليه..إنسانان جمعهما المصعد لدقائق معدودة، أمضى أحدهما
معظمها في التحديق بنفسه في المرآة.. ومع هذا، ولمدى لحظات خاطفة، أوجدت
عفوية هذا الإنسان احتكاكاً إنسانياً، هو في الوقت ذاته عميق، ولا معنى له..
وتكرر اجتماع فراس بجعفر..
كانا يتبادلان إيماءة من الرأس أو
كلاماً عابراً.. إلى أن تمهل جعفر أمام فراس يوما متردداً، ثم قال له..
_هنالك
أمر أود أن أحدثك به يا فراس.. متى تود ذلك؟..
دهش فراس لهذه المفاجأة!.. كيف عرف
اسمه؟.. وما " رفع الكلفة " هذا؟..
تمالك نفسه..
_ليس
ما يمنعني من التحدث الآن..
أمسك جعفر بيد فراس كأنهما صديقان
قديمان، واتجها خارج مكتب الشركة نحو مدخل بنائها الكبير، حيث استقرا على
أحد المقاعد العريضة المعدة للمنتظرين..
بادره قائلاً..
_أنت
صديق حميم للأميرة قطر الندى، زوجة هلال، على ما سمعت.. أليس كذلك؟..
كان فراس ساهماً يبحث في مخيلته عما
يمكن أن يربط جعفر به من عوامل مشتركة يمكن التحدث عنها.. مرّ في مخيلته،
أثناء سيرهما نحو المكان الذي استقرا به، ألف خاطر.. وألف جواب..
دهش حين سمع اسم قطر الندى.. وأحس
كومض البرق قائلاً يقول له " إذن هذا هو الموضوع الذي يهمك أيها الطاووس!.."
جابه بحذر ظاهر..
_صديق
حميم؟!.. أنا متزوج.. والأميرة صديقة زوجتي.. صديقة العائلة!..
_دعك
من هذا يا شيخ!.. أنا لا أنوه بشيء عن صداقتكما، بل إن هذا الأمر يسرني
جداً، إذ أن لقطر الندى مكانة كبيرة في قلبي.. ويسعدني أن أحدث شخصاً تربطه
صداقة أكيدة بها!..
لم يجبه فراس.. آثر اللجوء إلى الصمت
والإصغاء لما يقوله محدثه الذي بدا له، منذ أن وقعت عليه عيناه في المصعد،
مثلاً للإنسان الذي لا يعي أن في الكون إنساناً يمكن أن يثير اهتمام
الآخرين سواه، كأن لا وظيفة للآخرين في هذه الحياة سوى انتظار اهتمامه بهم!..
وتابع جعفر كلامه..
_كنت
قد طلبت يد قطر الندى في الماضي للزواج!.. لكن سوء طالعي، وطالعها، شاءا أن
تزف إلى هلال!.. إذ أنه كان قد طلب يدها قبلي بأيام!..
ضحك فراس في سره، وتخيل وقع هذا
الحديث على مسامع قطر الندى في المساء..
_هلال
في أوربا.. أليس كذلك؟..
أجابه فراس بنعم مقتضبة.. وتساءل عما
يعرفه جعفر من حياته ومن حياة صديقتيه الخاصة.. لكن جعفراً تابع حديثه،
قاطعاً أفكار فراس..
_مسكينه
هذه الفتاة.. أعندها سيارات في قصرها؟..
_نعم..
_كم
سيارة؟..
_سيارتان
لها.. وثلاث لزوجها..
_وهل
أبدلت العام سيارتيها بسيارتين جديدتين؟..
_
ولماذا تبدلهما؟.. إنهما على حال جيدة!..
وبحركة من يده تدل على شيء من
العصبية والتبرم، أجاب جعفر..
_لأن
الناس كلهم يفعلون ذلك.. مالك يا شيخ؟.. إن فتاة كقطر الندى بحاجة إلى دلال
كثير.. وأشياء جديدة تلهيها عن همها!.. فتاة في مثل حالها اليوم بحاجة إلى
للسفر إلى الغرب لتروح عن نفسها.. وتنسى أحزانها!..
نهض الرجلان من مقعدهما.. بدا
الارتياح على وجه جعفر كمن أزاح بهذا الحديث حملاً كان يرهق كتفيه..
شد على يد فراس قائلاً..
_إنك
شاب ممتاز الصفات، ويسرني أن نصبح في المستقبل صديقين حميمين!..
ضحك فراس في سره، أهكذا تولد الصداقة
الحميمة؟.. لكنه أجاب..
شكراً.. يسرني ذلك أيضاً..
وقبل أن يفترقا أمام مدخل البناء،
حيث هم جعفر بدخول سيارته الفخمة الغربية الصنع، قال..
_إن
دارك تقع على الطريق المؤدي إلى الجبل على ما أظن.. سوف أمرّ لزيارتك في
الأيام المقبلة.. وداعاً يا فراس.. ولا تنسى أن تهدي سلامي إلى صديقتينا!..
كان فراس يعتقد ان عصر المفاجآت بينه
وبين ميساء وقطر الندى قد أقفل وانتهى.. ولكن ما دار بينه وبينهما في تلك
الليلة أزاح عن عينيه وشاحاً آخر، عن أفق آخر، من تلك الآفاق المجهولة التي
كان يمتد إليها تفكير هاتين الفتاتين..
ضحكا ملء قلبيهما لسماع ما دار بينه
وبين جعفر، وإذ رأت قطر الندى الدهشة بادية على وجهه، علقت قائلة..
_إن
ما رواه جعفرعن طلبه ليدي صحيح كل الصحة يا فراس!.. وما زلت أحتفظ إلى
اليوم بعقد وسوار من العقيق أهدانيهما عن طريق عائلتي منذ ست سنوات.. أي
قبل أن يطلبني هلال للزواج بثلاث سنين!..
وعادت إلى الضحك، ثم تابعت..
_أليس
من المضحك أن يدّعي أنه لو سبق هلال إلى طلب يدي لقبلت به!.. إنني واثقة
لأنه لم ينس أبداً أني رفضت طلبه لا لإعجابي بمنافس ما، بل لمجرد أنه إنسان
تافه.. شيخ من مئات الشيوخ!.. وكنت في ذلك الحين لا أرضى بالزواج، وأن
جاءني من أمير!..
_لماذا؟..
ألأنك كنت مغرمة بصديق دراستك؟..
_طبعاً..
ولأني كنت في ذلك الحين أعيش في الأحلام!.. لم أكن قد أدركت بعد قيمة
المادة وفاائدة الثراء في هذه الحياة..
كانت ميساء ما زالت تضحك لقصة جعفر..
توقفت قليلاً ثم قالت..
_ليس
فيما ترويه أي جديد بالنسبة لنا يا فراس.. لقد كنت أنتظر أن يقوم جعفر
بخطوة من هذا القبيل.. لكني كنت في حيرة من أمر الباب الذي سوف يطرقه!..
وعادت إلى الضحك، شأنها في ذلك شأن
أختها، ثم تابعت..
_لقد
اختار أسلم الطرق، وأكثرها شرعية.. إنك الذكر الوحيد بيننا.. واختار أن
يطرق بابك أولاً.. أتعلم أنه تتبعني بسيارته منذ أيام وأنا عائدة إلى
القصر؟..
_لحق
بك أنت يا ميساء؟.. وماذا فعلت؟..
_نعم
أنا.. تعمدت عدم الاهتمام به، ثم أوقفت سيارتي إلى جانب الطريق، فأوقف
سيارته إزاء سيارتي ونزل منها ليحدثني..
_ودار
بينكما حديث؟..
_لم
أدر ما قاله لي في بادئ الأمر، تكلم بلهجته الغريبة بعض الشيء، وحين لم
أجبه، أزاح شعرة تائهة على كتفي.. وسألني بلطف زائد لماذا لا أجيب..
فأفهمته بأن طريقته هذه في تتبعي بسيارته ليست خير الطرق لإثارة إعجابي به
!..
_وبماذا
أجابك؟..
_فوجئ
كثيراً في بادئ الأمر!.. خجل، ثم قال.. " حسناً.. سأجد طريقة أخرى!..
"
وقال فراس، وكأنما أسقط في يده..
_وكنت
أنا طريقه المناسبة!.. لكن.. هنالك شيء لا أفهمه!.. أيسعى جعفر وراءك أنت
أم وراء قطر الندى؟..
ضحكت الأختان.. وأجابت ميساء وكأنها
تجيب عن أختها في الوقت ذاته..
_لا
أهمية لأيةٍ منا يسعى جعفر وراءها !.. المهم يا صديقي.. هو أنه يسعى!!..
وأضافت قطر الندى بشيء من المرارة
والحزن..
_المهم..
هو أن هنالك رجلاً يسعى..!!
إلى (السـقوط
إلـى أعلـى2)
لقراءة
رواية هيلانة
أو رحلة النيلوفر أو آخر الأمويين
أو رواية مسافر بلا حقائب
|