رحلة النيلوفر أو
آخر الأمويين
مقاطع مختارة من الرواية
مقدمة:
ماذا يفعل المرء إذا ما قادته الظروف لاكتشاف الجريمة الكاملة؟!
بماذا يجيب، إذا ما تصّدى له أحدهم بقوله: "وكيف تكون هذه الجريمة كاملة،
وأنت، بحسب ادعائك، قد كشفت سرّها؟!"
لكنها لكذلك!! جريمة فكرية مروّعة!! تفوق غرابة أحداثها الوصف!! تسربت
سمومها خفية عبر أذهاننا، وتمركزت في مصادر النقي في حياتنا الفكرية جزءاً
منها حتى استحال البتر، وأصبح الرجاء الوحيد يقع في معجزة بات المرضى
أنفسهم ألدّ أعدائها!!
فراس.. هجر الشرق في رواية "مسافر بلا حقائب".. بحثاً عن الحضارة المثلى
وخاب ظنه فيما وجده في الغرب من أسس آلية لحضارة استهلاكية براقة، جوفاء،
ينذر كبار فلاسفتها بانهيارها! ثم عاش أحداث وفضائح مجتمعات المال والحكم،
في الشرق الحديث، في رواية "السقوط إلى أعلى".. في عالم مركزه بيروت. تنبأ
لصورتها آنذاك بالانهيار منذ أواخر الستينات!
ها هو فراس، يعود إلى دمشق في "رحلة النيلوفر.." في محاولة لمدّ جذوره في
ترابٍ جُبل جسده منه، يعود إلى أزقة المدينة القديمة، لا سائحاً، مستظرفاً
قدمها.. بل "آخرالأمويين" باكياً على ما كان لها من بهاءٍ، شاهد مثله في
أزقة ودروب مدن الأندلس الشاميّة.. ينعم بها الأسبان، حتى اليوم، في قرطبة،
وإشبيلية، وغرناطة!!
المؤلّف
مقاطع مختارة من الرواية
القسم الأول
(ص32-34)
{- لكنك تعلم، ولا بد، أن عدد المناهضين للنظرية العرقية، بين المثقفين،
على الأقل، أكبر بكثير من عدد أنصارها!
هز فراس رأسه، نزقاً.. ورد على الفور
-
إنك تخطئ مرة أخرى، فأنا لا تهمني صحة النظرية العرقية، أو عدمها، فهي لشدة
سخفها، لا تستحق البحث.. إني إنما أتكلم عن طريقة ولادة هذه النظرية..!
وتحولها، في أذهان العامة، ولدى الجزء الأكبر من الخاصة! وذلك، عن طريق
كلمة، أطلقت جزافا، تسمية لشيء، ولها في الوقت ذاته جذور تمتد في مجال
آخر.!
فإذا بالناس يتيهون عن الهدف الأصل، وينتقلون، عبر المعنى الثاني لهذه الكلمة،
إلى مجالٍ آخر، يسقطونه على المسمى.. فتُنقل التسمية، عبر هذه الجسور، من
اسم، لعدد من اللغات.. إلى تعريف لعرق إنسانيّ!!
هز "شارل غوستاف" رأسه، كمن لم يستوعب تماماً معنى ما سمع.. وفي الوقت
نفسه، بدا كأنه لا يود أن يستزيد صديقه مما يسمع.. لكنه لم يلبث أن سأل..
متردداً..
-
وهل لما تقول من نتائج.. غير الذي ذكرت؟..
-
أذكّرك على سبيل المثال.. بعشرات التسميات التي يحلو لعلماء الآثار أن
يطلقوها على ما يكتشفونه في الشرق من حفريات..!"آرامي"، "كلداني"، "حتي"،
"فينيقي"، "آشوري"، "بابلي"، "سومري"، "آكادي"، "فرعوني"، الخ.. كل هذه
التسميات، لبضع مئات الوف البشر.. من أصل واحد.. كانت تنتقل على دفعات، بين
حدود جغرافية تكاد تكون محدودة! وهي، بدءاً من الجنوب، في شبه الجزيرة
العربية، إلى جبال طوروس.. سعياً وراء منابع المياه، والكلأ.. ثم جنوباً،
على طريق الساحل والأنهار، حتى مياه النيل..! وهل غريب أن يكون لهجرات
وتنقلات هذه الأمة الواحدة، لهجات متفاوتة، إذا تناءت؟.. وأن تبني لقراها،
ومدنها، حصوناً، لتحميها من غزو القريب، والغريب؟! ألم تكن، هذه، حال
أوربا، حتى القرن الثامن عشر؟! ما معنى أن يلقّب اليوم من عاش من الناس،
منذ ألفي عام من عرب، بالشعوب البابلية، أو الأكادية، أو السومرية.. ومن
عاش منهم في سوريا، وعلى سواحلها، بالكنعانيين، وبالفينيقيين.. وكل هذه
تسميات لم تشتق في الأصل إلا من اسم لهجة، أو لكنة، أو اسم قرية، أو ملك..
ما معنى أن نؤكد الاختلافات في طريقة معيشة هؤلاء.. فنقول: إنه كان لكل
منهم لغة، وحضارة، تختلف عن الأخرى؟ حتى إذا رجعنا إلى مرجع آخر.. وجدنا
علماء التاريخ يقولون إن هؤلاء "الفينيقيين" مثلاً، إنما انتقلوا إلى تلك
السواحل، بعد هجرات متعددة، من اليمن، والبحرين، وأن سكان اليمن، والبحرين،
كانوا، وما زالوا، عرباً، حتى اليوم؟! قل لي بربك.. لماذا تختفي تسمية
"عرب" عن هذه الشعوب، متى تجاوزوا، في هجراتهم، بادية الشام؟!
صمت فراس هنيهة ثم ضحك ساخراً وتابع..
-
لا شك أن للغرب عيناً ساهرة تخاف وحدة العرب، والإسلام! بعثت بمستشرقيها
أمثال "دوساسي" و"رينان".. ولجأت إلى أسلوب الغرب المفضل، في إطلاق
التسميات المتعددة الأهداف! فإذا لكل بقايا جدران قرية ما.. "جيش"..
و"ملك"!! و لكل مدينة.. "مدنيّة" و"حضارات"!! ولكل اختلاف بسيط في اللهجة،
أو في أسلوب الكتابة، اسم جديد للغة جديدة!! مخالف تماماً، لاسم اللغة،
التي تتكلمها الشعوب نفسها، والتي تفرق بعضها عن بعض مئات من الكيلومترات!!
سأل "شارل"، متعجباً..
-
أتود القول: إن كل هذه التسميات التي ذكرت، إنما تشمل أمة واحدة؟! وحضارة
واحدة؟!
قال فراس، كمن يضبط صوته، كي لا يصيح في وجه صديقه..
-
حضارة واحدة.. على قدر ما تقول اليوم إن للغرب حضارة واحدة في أوربا!.. هل
تقولون اليوم، في أوربا: "حضارة الغرب"، أم.. "حضارة إيطاليا".. و"حضارة
انكلترا".. أو "بلجيكا".. أو حضارة "فرنسا".. الخ؟.. إن اللغة اللاتينية قد
تفرعت إلى لهجات تطورت، وصار عنها كل من اللغات الإيطالية، والفرنسية،
والإسبانية، و البرتغالية! ورغم ذلك، فإنكم، حتى اليوم، تلقبون هذه اللغات،
باللغات اللاتينية!.. وحضارتها، بالحضارة الغربية! لو أن الحياة توقفت،
فجأة، في أوربا، اليوم.. وجاء علماء الآثار، بعد ألفي عام، ينقبون بين
آثارها، فهل ترى أنه يحق لهم تسمية ما كتب من "الهجات" الإيطالية، "لغات"؟!
وإذا وجدوا أن "ميلانو" كانت تتكلم الإيطالية، وباريس، الفرنسية.. فهل يحق
لهم، الكلام عن حضارة "ميلانية".. وأخرى "باريسية"؟! وهل ترى اليوم أن
بينهما اختلافاً حضارياً يذكر؟!
-
لئن كان الأمر على هذه البساطة المنطقية.. فلابدّ أن الكثيرين غيرك يعرفون
هذه الحقائق.. فعلام تثور؟!
-
ليس المهم أن يعرفها بعض المثقفين.. إنهم لا يجرؤون على المجاهرة بها،
خوفاً من أن يتهموا بالخروج على قواعد سنها، ودرج عليها علماؤكم، من
المستشرقين، طوال قرنين من الزمان!!
-
أنتم إذاً أمة واحدة؟.. ولكم حضارة واحدة، منذ آلاف السنين! فلماذا هذا
التناحر والاقتتال إذاً.. لماذا لا تتوحدون؟ ..ها؟!
-
وأنتم.. أبناء الديانة الواحدة، والحضارة الواحدة، في أوربا.. أين تناحرنا
نحن.. من حروبكم؟! وأين حروبنا .. من مجازركم؟!
صمت الصديقان برهة ثم ضحك "شارل غوستاف" وقال..
-
صحيح.. أن ضحايا الحرب العالمية الثانية وحدها بلغت الخمسين مليوناً من
البشر.. ولا أظن أن ضحايا حروبكم على مدى التاريخ، بلغت مثل هذا الرقم
المريع!!.. قم، تعال!.. لقد سئمت الجلوس.. لنتمشّ نحو الساحة الإسبانية..
إن لي بعض الحاجات أود شراءها من شارع " الفراتينا"..}
* * *
(ص76-77)
{
خيم صمت طويل على الصديقين.. طار خلاله خيال فراس إلى الماضي.. إلى
الجزائر.. إلى يوم جرى فيه حديث بينهما في القصبة..
كان عثمان الوسيم إذ ذاك قد تربع أمامه على بساط مقهى عربي أليف.. تتوقد
عيناه الخضراوان بعشق الوطن.. لا يرى من سبيل لإنقاذه إلا بندقية المجاهد..
وكشف أسرار العدو العسكرية!.. وهاهو ذا عثمان الآن.. وقد زاده الزمان خبرة،
ومراناً.. لقد أدرك أن الذين أنقذوا الوطن مرّة لا يحسنون إدارته، ولا
يستطيعون إنقاذه مرّتين لقد تبين له أن الذين طردوا المستعمر، يكادون
يصبحون من حيث لا يدرون أعداء الوطن الجدد!.. لكنّ سبيل عثمان ما زال على
ما كان!.. إنه اليوم يسعى وراء السلاح المتطوّر.. والعقول المخططة!!
ماذا يقول له؟! ودّ لو يقول.."لا ياعثمان.. لاأيها المجاهد!! إن العقول
المخططة لا تقبل بأن تحرّكها أنت، ومن وراءك، من المخلصين!.. إن للعقول
المتطورة الواعية خططها وأهدافها، هي.. ولن تقبل أن تقودك إلى حيث تشاء!!"
".. لسوف تحصل على هذا السلاح، لكنّ هذه العقول لن تسير معك بهذا السلاح،
إلا بمقدار.. لقد مضت سنوات على حريّة بلادك.. لقد كان عليك أن تزرع فيها
هذه العقول.. لتحصدها الآن!.. ماذا فعلت بثروات بلادك، كيف هدرتها؟.. لقد
ابتعت بها سلاحاً يتحول إلى نفايات، خلال سنوات قلائل!.. كان عليك أن تحرث
الأرض، لتزرع فيها من باستطاعته فهم وإنتاج هذا السلاح! أليس هذا ما فعلته
اليابان إثر صحوتها؟! وشعبك على ما هو.. أميّ ما زال يجهل كيف يستعمل
السلاح! إن أمتنا لا تخلو من هذه العقول، لكنها منفيّة، مشردة في بلاد الله
الواسعة.. طردْتَها أنت، ورفاقك، في يوم من الأيام!.. حين كنت في غمرة
حماستك.. ونقمتك على الذين ترفعوا على آبائك وأجدادك من المظلومين!.. إنك
لا تلتفت لضمّ هؤلاء إلى صفّك.. إنك لا تلتفت إلى استرجاع هذه العقول إلى
وطنها!.. إنك ما زلت تكرهها، وتخافها!.. فأنت تظن أن الوطنية وقف على أصحاب
الأكفّ الغليظة، والأصوات العميقة الرنانة!.. إنك لا تثق بأحد!.. لا تثق
إلا بطائفتك، أو عشيرتك!! وبالرغم من كلّ ذلك.. فإني سأقول لك اليوم ما
قلته لك بالأمس.. سأنفذّ ما تطلبه مني بحذافيره، ولو تعرّضت حياتي للخطر..
لاشكّ أنها لعنة التاريخ، أو أنه التاريخ، فحسب؟!.. أمثالك، من حفاة الماضي
وأبطاله، صادقون! صاروا حكّام اليوم.. لكنهم ما يزالون لا يعرفون
"غرناطة".. ولا فلاسفتها!!.. يظنون أنّ غرناطة هي القصور والمال، والعيش
الرغيد!.. وأمثالي يا عثمان، تعيسون، ما زالوا لا يعرفون سوى الكلام،
والقلم.. لا يحسنون استعمال السلاح المتطوّر.. وليس من يسعى إلى اقتنائه في
أمتنا، إلا أنت!"}
* * *
(ص103)
{أمضى فراس ليلة مع تلك الكتب، لن ينساها زمناً طويلاً!.. أخذ يخرجها من
وكرها، كتاباً، كتاباً.. ينفض الغبار عنها.. يتصفحها، في تمعنٍ.. يتسّلى
بمطالعة بضع صفحات من كل ما يجده منها، مما طبع أو نسخ بالانكليزية،
أوالفرنسية، أوالإيطالية أوالإسبانية.. وكان منها ما بدا له ثميناً.. يرجع
تاريخ طباعته إلى زمن بعيد.. ومنها ما نسخ باليد، بحروفٍ قوطيّة تتضمن
زينة، ونمنمات جميلة..
ما كاد يصل إلى قعر الصندوق حتى فوجئ بعلبة خشبيةٍ صغيرة تربض على أرضه..
كشف غطاءها، وإذا هو أمام غلافاتٍ جلديةٍ.. فتحها، فبهت إذ طالعته مخطوطات
عربية قديمة.. راح يتفحصها بلهفة من وجد أثراً فنيّاً غطّاه التراب منذ
غابر الأزمان!
راودته فكرة الاتصال بصاحب المسكن، على الفور، ليسمح له بترتيب تلك الكتب
خارج صندوقها المتآكل.. فتنبه إلى أن الليل قد ولّى.. وأن الوقت شارف أولى
ساعات الصباح! فأزمع إرجاء ما اعتزم، إلى اليومَ التالي، وهم أن يعيد
المخطوطات العربية إلى مكانها، داخل مخبئها الصغير.. وإذا ببضع صفحات
مبعثرة، داخل الصندوق، أثار انتباهه منها، ما بان من كتابات عليها.. رفعها،
وإذا هي عنوانات لمخطوطات، محفوظة، في غير هذا المكان!.. أدرك أنه أمام
فهرس، أو بضع صفحات بالية من ذلك الفهرس، فنقل ناظريه بين محتوياته، حتى
توقفا فوق اسم "عبد الرحمن بن خلدون".. وإذا هو يقرأ بين العناوين
المتفرقة..
"خلاصة النظر في فلسفة العبر"
ماذا؟! مؤلف.. على مثل هذا العنوان الفلسفي لابن خلدون؟! هل يعقل ذلك؟! كان
يعلم بوجود مخطوطات لابن خلدون.. مؤلفات، لها جميع ما قرأه من عناوين.. عدا
"خلاصة النظر في فلسفة العبر" !! كيف لم يسمع به؟.. أو يقرأ عنه؟! وهو
المعجب بابن خلدون، القارئ لجميع ما كتبه هذا المفكر الفذ! ثم ما حقيقة هذا
الفهرس؟! أو هذه الصفحات المتبقية منه؟!.. وأين بقيته؟! حينئذٍ عدل عن رأيه
الأول، وأعاد جميع ما أخرجه من مخطوطات، وكتبٍ، إلى مكانها.. محتفظاً بتلك
الصفحات الصفراء اللون.. مزمعاً اتّباع أسلوبٍ آخر في الوصول إلى حقيقتها!}
* * *
(ص116-126)
{كان فراس يتحرّق لاستزادته من الكلام.. لكنه كتم لهفته.. وقال..
-
وهل لديك مكتبة.. فيها مثل هذه المخطوطات؟
-
فُتات مائدة.. عزيزي.. فُتات مائدة.. عدد لايذكر!
-
.. لماذا.. ألم تحصل في سفراتك على صيدٍ وفيرٍ؟!
ضحك "يان" متعجباً..
-
صيدٌ.. وفيرٌ؟! أنا لم أكن أعود من صيدي، كما تسميه، إلاّ وشباكي تطفح به،
وتفيض!! لكن جميع ما أجمعه.. كان يذهب إلى الكاردينال.. ومن ثمّ، إلى
المكتبة..
-
أية مكتبة هذه؟!
-
مكتبة الفاتيكان، بالطبع! وما غيرها؟ كان الكاردينال فيما مضى، قيّما على
تلك المكتبة.. آهٍ لو تراها.. لو تتجوّل في دهاليزها..يا "دون
ماكسيمليانو"!.. هل تصدق أن فيها ملايين الكتب والمخطوطات!! إن مكتبتكم..
مكتبة "الاسكوريال" الشهيرة.. لاتشكّل نقطة في بحرها!! إن باب المخطوطات
الشرقية، وحده، يضم مئات ألوف من المجلّدات!!
-
المخطوطات الشرقية؟! وهل هذا الباب يجمع كثيراً من اللغات؟
-
.. جميع اللغات الشرقية.. لكن معظمها، باللغة العربية..
تمهّل هنيهة، ثم تابع..
-
إن أمر هؤلاء العرب، لغريب حقاً!.. كأنهم اليوم، لا علاقة لهم البتّة بما
كانوا عليه، في الماضي! ترى.. ماالسبب.. في ظنّك؟
لم يحر فراس جواباً.. ولم يكن محدثه ينتظر الجواب.. فأجداد "دون
ماكسيميليانو".. أو جدّه الأول.. "فيرناندو الفاريزدي توليدو" أول دوق من
سلالة "ألبا"، طرد آخر المسلمين من إسبانيا! مَحََقَ آخر معالم حضارتهم..
وساعد في امتداد حكم ملوك إسبانيا في أوربا، حتى وصل المانيا.. وهولندا!
كان "يان فرانتيشيك" قد شرد بعيداً.. يحاول الربط بين أفكار متقطعة في
خياله.. قال بعد لأي..
-
لاشك أنهم جُرّدوا من تاريخهم.. فأنا لم أكن إلاّ واحداً من هؤلاء
الوسطاء.. ولقد كان للكاردينال، على مدى أربعين عاماً، مئات الوسطاء، منهم
من سُيّروا إلى دمشق.. وآخرون، إلى القاهرة.. وغيرهم، إلى القيروان! ماذا
أعدّد لك؟! لقد كان له المئات منهم.. يذهبون بالمال، وكتب التوصية، إلى
السفارات.. ويعودون، من الصين، والهند، والباكستان اليوم، وجميع أنحاء
الشرق.. بالصناديق، تلو الصناديق، وقد طفحت بهذه المخطوطات القيّمة!!
معظمها باللغة العربية! لغة الحكم طوال عشرة قرون!!
تصاعد ما كان يكتمه فراس في نفسه من غيظ!! نهض مقترباً من محدّثه، وراح
يقلّب معه الكتب القديمة.. متظاهراً بعدم الاكتراث لها.. إلى أن وصل إلى
الصندوق الصغير.. فأخذ يقلّب صفحات بعض مخطوطاته العربية، كأنه لا يفهم ما
فيها.. ثم قال..
-
ما هذه.. أكتب عربية؟!
ردّ "يان" على الفور..
-
بالضبط.. وإن لديّ في داري عدداً قيماً منها.. لشعراء، لا يعرفهم
العرب!.. فهل يهمّك هذا الأمر؟.. لئن كان الأمر يهمّك.. فإن مكتبتي رهن
إشارتك؟!
-
وهل كنتم تجمعون كتب الشعر؟!
-
كنّا نجمع كل شيء.. وكنّا في سباقٍ مع جميع مكتبات أوربا!.. "دون
ماكسيميليانو" لا أظن أن لديك فكرة واضحة تماماً عمّا كان يدور في هذا
الصدد!.. لئن كان "الفاتيكان"، والعديد من أديرة أوربا، قد فطنت في الماضي
إلى أن أسرار العلوم، والفلسفة، ومفاتيحهما، موجودة لدى العرب.. وإن على
الكنيسة الحصول على هذا السرّ، لتخنقه، في مكتباتها قبل أن يتسرّب عبر
الترجمة والنسخ، ثم، عبر الطباعة، إلى يد الشعب.. خشية أن يفلت زمام قيادته
الروحية، من أيديهم! أقول لك.. لئن كان الفاتيكان قد فطن إلى هذا الأمر،
منذ عشرة قرون.. أي قبل أن تفتحوا غرناطة، بخمسة قرون! فلقد بدأت مكتبات
العالم أجمع هذا السباق.. بدفع من حكوماتها.. منذ قرنين، على أقل تقدير! إن
حملة نابليون، وحدها، إلى مصر، لم تترك في ذلك البلد المسكين إلا قصص ألف
ليلة وليلة، وكتب الشعر، والتاريخ الهزيل!!
تعجب فراس لسعة اطّلاع محدثه.. وقال..
-
وعمّ كنتم تبحثون إذن؟! ما دام هذا السباق قد بدأ منذ قرون؟!
-
إن شباك الصياد تجمع كل ما يتحرّك.. ومن ثمّ يأتي التصنيف! وهنا بيت
القصيد!
-
وهل كان للكاردينال قصد معيّن؟! بعد مضيّ هذا الزمان الطويل على بدء سباق
الصيد!؟
-
بالطبع!! لقد كان دائم البحث عن المخطوطات الفلسفية! وسبب ذلك، ما وصله من
هولندا من فهرسٍ قديمٍ، طار لبّه له! لن أنسى ما حييت، لهفته، واضطرابه،
وهو يحدّثني عما يريد!! ولاشك أن الأمر كان بالغ الأهمية.. ولكن الكاردينال
كان يخفي طبيعة عاطفية، خلف قناع الوقار الديني، وذكاءً مفرطاً، تحت قبعة
الكاردينالية، الحمراء!!
-
أي فهرس، تتكلم عنه؟! ماذا يعني وصول "فهرس"، بالنسبة إليه؟!
أدار "يان فرانتيشيك" ناظريه نحو فراس، يحدق في وجهه، رغم ضعف نظره
الشديد.. يحاول استطلاع ما يمكن أن يرتسم على وجهه الإسباني النبيل، من
انطباع! كان على وشك أن يقرن اسم محدثه بأسماء أحد أجداده! لكن تذّكر حنقه،
حين ذكر قضية الألقاب، أمام المندوب الفرنسي.. فآثر متابعة تجاهله للقبه..
قال وهو يبتسم..
-
إنه فهرس من مكتبة يقال إنها كانت ﻠ "الدوق فيرناندوالفاريزدي توليدو"...
أعظم قوّاد إسبانيا العسكريين.. ومؤسس دوقية سلالة "ألبا" العظيمة!! إنك
تفهم ما أقول!! يقال.. وأنا، إنما أقول.."يقال".. جمّعها عنوة، من حيث
توارت في بيوت الأندلس العربية.. وسافر بها إلى هولندا!! خطفها.. أو
سباها.. إلى هولندا!!
سأل فراس في تجاهلٍ تام لأهمية ما كان يسمع..
-
ولماذا لم يحرقها، كغيرها من المخطوطات العربية؟!
-
"دون ماكسيميليانو".. أرجوك!!.. إن "دون فرديناندو" لم يكن إنساناً كغيره
من الناس!.. لقد أحرق ما أحرق، من مخطوطات، مدفوعاً بهدفٍ مبيت!! أراد من
جهة، إزالة تاريخ العرب، والمسلمين، من تراب الأندلس! لكنه احتفظ بعدد غير
قليل من المخطوطات التي تشمل خلاصة الفلسفة، والفلك، والعلوم، والموسيقا..
للاستفادة منها وسافر بها إلى هولندا!!
-
.. ولماذا هولندا بالذات؟!
-
"دون ماكسيميليانو".. إن جميع ما أرويه لك الآن قد أتاني مباشرة من
الكاردينال "بانيفيلي" نفسه، نقلا عن مصادر، في كلٍّ من حاضرة روما، ومدينة
أمستردام!! وإنك.. إنك..لو لم تكن "دون ماكسيميليانو" بالذات.. لما تفوّهت
أمامك بحرف واحد مما تسمع!!
هزّ فراس رأسه، وتمتم..
-
حسنٌ.. وماذا بعد؟
-
لقد كان هدف مَنْ خطّط لهذا الموضوع.. هو ترجمة هذه المخطوطات والتصرف
بها.. بما يتماشى مع أهداف الحقّ، والكنيسة!!
امتقع وجه فراس !! حملق في محدّثه، ثم أدار وجهه عنه، محاولاً جهده ألاّ
يبدي من انفعاله ما يصل إلى محدثه العجوز.. وسأله..
-
التصرف بها؟! ماذا يعني هذا .. بالضبط؟
-
.. في كل بساطة.. نشر، ما يراد نشره، باللغة اللاتينية، بعد حذف ما ينافي
الدين منه، وما يتطلب الواجب الديني حذفه.. ثم، زيادة ما يُراد، هنا.. أو
حذفه، هناك!! لكن لماذا تتعجّب؟ إن المكتبة الفلسفية المسيحية كانت في أشدّ
الحاجة إلى مثل هذه المخطوطات.. ليس لخدمة الدين الإسلامي الذي كتبت من
وحيه، بالطبع.. بل لخدمتنا، نحن!! فما الغريب في ذلك؟! ثم، أليس الله،
واحداً؟! أوهكذا يجب أن يكون.. لدى الجميع؟! إن الهدف كان.."استعارة"
النصوص والمخطوطات.. تقديمها للفكر الأوربي، في لغة أوربية، وقالب أوربيّ،
ليس غير!! ولو أنها نُشرت تحت أسماء مؤلفيها العرب، لغاب القصد من ورائها،
ولأصبحت قراءتها ترفع من شأن الدين، والعقل الإسلامي.. بينما المقصود، كان،
خدمة العقل الأوربي، وعقيدته.. اللّذين ظلاّ عاطلين عن العمل، طوال ألف
عام!!
توقف "يان" عن الكلام برهة، يستجمع أفكاره.. ثم تابع..
- تسألني لماذا "هولندا".. نعم.. لكنك تعلم ولاشك أن "دون
فيرديناند
والفاريز".. "كبيرإسبانبا".. حكم هولندا مدة لابأس بها..
باسم التاج الإسباني بالطبع..
كان العجوز يحاول أن يتأمل وجه "دون ماكسيميليلنو".. ينظر إليه من تحت إطار
نظارتيه، يحاول رصد الأثر الذي يتركه كلامه على الحفيد الأصغر! ﻠ "دون
فيرديناندوألفاريزدي ألبا" الذي يتحدث عن أخباره!!
ثم ضحك من خاطر مرّ في ذهنه.. فأردف على الفور..
-
.. ولا تستغرب بُعد هولندا، عن الأندلس!.. إذ.. ماذا تفعل الهرة، حين تمسك
بفريستها؟.. ألا تراها تهرب بها بعيداً، بعيداً إلى مكان آخر؟.. بعيداً عن
الأنظار؟.. في مأمن من المراقبة؟
حرّك فراس رأسه.. موافقاً.. متعجباً.. لايدري ماذا يقول.. فتنهد "يان
فرانتيشيك".. وقال، مبتسماً في مكرٍ مبطّن..
-
يا لغرابة الأقدار.. ها أنا ذا أخبر الدون "ماكسيميليانو" عن سرٍ كتمه
الدون "فيرناندوالفاريزدي توليدو".. منذ خمسة قرون!
تبسم فراس، يجاري تعجب محدثه، وسأل..
-
وهل يعرفه الكثيرون غيرنا.. يا "سينيور"فرانتيشيك"؟
سرّ "يان" أن يسمع اسمه على شفتي حفيد "دون فيرديناندو" فقال..
-لا أحد عدا الكاردينال "بانيفيلي".. ونحن! والسبب، في ذلك، يعود إلى
أخبارهذه الواقعة، حين أتت من أمستردام، قبل الحرب.. وصلت إلى الكاردينال
"بانيفلي" مباشرة.. وكان، هو القيّم على المكتبة والمسؤول عن جميع الشؤون
الثقافية في الفاتيكان، آنذاك... أمّا عن المصدر.. أي "أمستردام".. فإن
الكاردينال الذي كان فيها
آنذاك، كان قد توفّي.. وتعاقب على كرسيه كاردينالان..
نهض فراس من حيث كان جلس على مقعد خشبي كبير، قبالة "يان فرانتيشيك".. تقدم
ثانية نحو صندوق الكتب والمخطوطات العربية.. وسأل، مستفسراً..
-
إن هذه قصة.. أو رواية طريفة.. بل مثيرة، ولاشك! لكن أين يوجد هذا الفهرس
الذي تتحدث عنه؟.. وماذا حلّ به؟!
قطّب "يان" جبينيه، وهو يتلمّس قعر الصندوق الصغير بأصابعه، لا يتوقع
العثور فيه على شيء.. وقال متعجباً..
-
.. لك كامل الحق ألا تصدق رواياتي!.. فأنا أتكلم عن جريمة، شاهدتها، وما من
جثة هنالك، تدعم ما أقول!!.. "دون ماكسيميليانو".. ما رأيك إذا قلت لك إني
كنت أملك نسخة مخطوطة وإنها سرقت مني!!
عاد بنظره إلى قعر الصندوق وتمتم لنفسه..
-
.. أظن أنه كان قد بقي منها بضعة وريقات.. لا أجدها الآن.. لابدّ أنها
تبعثرت.. أو بليت.. من يدري..
ثم عاد بناظريه، يرفعهما في اتجاه وجه فراس، ويكرر..
-
.. إني لم أفهم هذه الحادثة قط.. لم أجد لها أي تفسير!.. لماذا اختفى
الفهرس من صندوقي؟!.. وبالمناسبة، فلقد كان في هذا الصندوق، العديد من
المخطوطات العربية الثمينة.. زمن اختفاء الفهرس..
-
إنك تناقض نفسك.. سنيور"فرانتيشتك"!
تعجب هذا، وسأل..
-
أنا.. كيف؟..
-
تقول إنه ليس غيرنا، و"الكاردينال" على علم بقضية الفهرس، اليوم.. فكيف
يكون ذلك صحيحاً إذا كان الفهرس قد سرق منك؟!.. إن الذي سرقه لابدّ أن يكون
على علم بهذه القضية!
تبسّم "يان" في خبث.. وأجاب..
-
إلا إذا كان الكاردينال، نفسه، هو الذي حرّض أحدهم على سرقته مني!!..
لمَحقِه من الوجود!!
-
وكيف يصل إلى ذلك.. أليس هنالك سجلّ مفتوح بمحتويات المكتبة؟!.. ألا تدرج
جميع محتوياتها في فهارس مكشوفة؟!
قهقه "يان فرانتيشيك" لما سمع، وقال..
-
لكم أنت متفائل!.. شريف النوايا، يا"دون ماكسيميليانو"!.. وهل تظن أن فهارس
"الاسكوريال" تكشف للناس جميع ما تحتويه مكتبتها؟!.. إن من الصعب عليك أن
تتحرى الأمر بنفسك، هنا، في "الفاتيكان".. فلا شك عندي أنك قادر عليه في
إسبانيا!.. وأن لك من العلاقات من يفتح لك الأبواب إلى ما يُخفى عن الناس،
في المكتبات، من آثار!.. آثار لها فهارس لا يطّلع عليها إلاّ رؤساء
الأديرة!
تنهد طويلاً، وحرك يديه كمن يتلمس طريقه في الظلام، وقال..
-
..لقد عملت إلى جانب الكاردينال، في تلك المكتبة، ردحاً من الزمن.. كان
يستعين بي لتصنيف، وتسجيل، ما كنت أعود به من كتب.. تصوّر.. إنه لم يكن يثق
حتى بالعاملين بها، من الكهنة!!.. ولعله لم يكن يثق بي، أصلاً.. إلا
لمعرفته بأنني.. سواء شاء، أم أبى، فأنا لا يمكن أن أجهل وجود المخطوطات
التي حصلت عليها بنفسي!!.. آه.. لو كنت ترى أروقة تلك المكتبة، وسراديبها
الرطبة، الحالكة الظلمة.. والمخفية، في بعض الأحيان!!.. ليتك تراها يوماً!!
تنبه من شروده، وتابع قائلاً..
-
كنت أحدثك عن الفهارس.. فيا عزيزي "دون ماكسيميليانو"، إعلم أن الفهارس
بالنسبة لتلك المكتبة، مثل دفاتر الحسابات، بالنسبة للتاجر!.. فكما أن
للتاجر منها عدداً، لا يُظهر منه إلاّ ما يناسب المدقّق.. كذلك، لمكتبة
الفاتيكان!!
-
والفهرس الحقيقي؟!.. هل هو في حوزة القيّم وحده؟!
تبسّم "يان فرانتيشتيك" في سخرية، وتعجب..
-.. لا شك أن هنالك فهرساً يظن كل قيّم، بدوره، أنه الفهرس الحقيقي!!.. لكن
الحقيقة هي أن ليس للمكتبة من فهرس حقيقي جامع!.. فلقد تعاقبت على
الفاتيكان عصور كادت أن تصل النوائب والكوارث، أثناء بعضها، إلى عتبة
بابه!!.. وفي كل مرة، كانت السراديب تفتح، عن سراديب أخرى، تحتها، وخلفها..
ويجري إخفاء تحفه، ومخطوطاته!.. وفي كل مرة، كانت الفهارس تختفي، ثم
تعود!.. لاأحد يعرف ما ينقص منها، أو ما يضاف إليها!!
-
ولماذا لا تُجرد محتوياته؟ ويصار إلى برمجتها، على حاسبات "الكترونية"، في
ظنّك؟.. أو لعلهم قاموا بذلك الآن..؟
-
إنها خير طريقة لقتل الهدف!.. إن كان الهدف من هذا الجرد، هو حماية
المخطوطات.. فإن خير طريق للقضاء عليها.. هو أن يكُشف عن أسمائها!!..
خصوصاً على لوائح الكترونية، في متناول الجميع!! لا يا عزيزي لا!.. إن
"الفاتيكان" ليس على هذه العفوية والسذاجة في التعامل مع الجميع!
تعجب فراس لقوله.. وسأل..
-
.. وماذا تعني بكلمة "الجميع".. وهل هنالك من "غرباء".. داخل أسوار
الفاتيكان؟!.. وهل هنالك غير الكهنة.. بل، نخبة هؤلاء، ممن يعملون فيه؟!
رفع "يان فرانتيشيك" رأسه، نحو وجه محدثه، ونظر إليه يستغرب جهل، وعزلة
الاستقراطية، التي سمحت للغرباء بغزو عقر دار مقرّها الروحي.. والعبث بأقدس
مقدّساتها!!
قال، في أناة..
-
وهل هناك من "يزرع" هؤلاء الكهنة.. ويعرف كيف تُختار البذور؟!.. أليس
الكهنة في الأصل، أناساً عاديين؟.. من عامة الشعب؟.. يلتحقون بالكنيسة،
والشاطر منهم، من يعرف اسم جدّه؟!.. لا.. لا شك أن الكنيسة تدقق، حسب
قدرتها في أصل، ونشأة، ودوافع، من يلتحقون بها.. لكن.. وهنا يقع السؤال
الأهم.. كيف لها أن تعرف ما إذا كان المنتسب إليها هو من أصل يهودي.. يتعمد
إخفاء عقيدته؟!.. وهل للدين، لون، يظهر على الوجوه؟!.. إنه أسلوب معروف..
إنها عادة أجهزة التجسس القديمة.. تدفع بعناصر لها، تنزلق في صفوف
أعدائها.. والعكس، بالعكس!.. وقد تصل هذه العناصر المتخفية، إلى أعلى
المناصب، في الجهاز المعادي!!
سأل فراس، يتعمد عدم خبرته في هذا المجال..
-
ولماذا اليهود بالذات؟
-
لأن الكنيسة الحقيقية، هي عدوّهم الأكبر!.. والأناجيل، لَعَنَتْهم، وحكمت
عليهم بالتشرّد إلى الأبد، جزاء ما فعلوا بالسيد المسيح!!
صمت فراس برهة.. ثم سأل.. وهو يعرف الجواب..
-
ألم يقرر المجمع الكنائسي، مؤخراً.. إزالة لعنة التشرد، هذه، عنهم؟!
-
.. ومن تظنهم كانوا وراء هذا القرار.. من رؤساء الأساقفة؟!.. قرار ينقض
مباشرة، نصوصاً صريحة، وردت في الأناجيل الأربعة!!
تدافعت في رأس فراس خواطر لا حصر لها.. راح يحارب في نفسه ميل الإنسان
الغريزي للسعي وراء أقرب الحلول، وأسهل الأجوبة!.. يقاوم فكرة حصر جميع ما
مرّ به من أحداث متفرّقة، في بوتقة واحدة، سعياً وراء إجابة سهلة، صريحة!
أثار حديث "يان فرانتيشتيك" في نفسه، هواجس دقيقة.. تعجب من نفسه، كيف كان
على وشك التخلص منه.. وإذا به، يفتح أمامه عوالم أقل ما يقال فيها.. إنها
عادت به إلى أيام طفولته الأولى!.. أيام أحاديث جدّته.. وزرعها في نفسه حبّ
البحث والتنقيب، لا عن هوى، أو تسلية.. أو حتى، عن حبٍ للبحث العلميّ،
المجرد.. بل بدافعٍ من حسٍّ غريب.. هو دينيّ، ولا علاقة له بالدين!..
قوميّ، ولا علاقة له بقومه!
لطالما قاوم في نفسه ميلاً طبيعياً إلى قصص البطولة،
والتضحية!.. كان يقرأ في طفولته سِيَرالأبطال.. تغص حنجرته، بما يعتمل في
صدره، وهو يعيش، مع أبطالها، قصصVan
Howe وSir
Galahad
وKing
Richard
لا يميّز الخير، من الشرّ فيها!.. إلى أن لفتت جدّته تارخ خولة، وخالد
وصلاح الدين، ثم(قيس، وعنترة، وابن زيدون).. فتعلّم كيف يميّز الصالح من
الطالح، والقبيح، من الجميل، والعدو، من الصديق!
هاهو ذا يقف أمام عالم، لم يخطر له على بال!.. عالم فيه، بالنسبة إلى الإنسانية
جمعاء، من التصوّر والخيال أكثر مما فيه من واقعٍ
ملموس!!.. ورغم ذلك، فهاهو أمام فنان كهل.. يكاد يتعثّر إذا ما سار وحيداً
في الظلام.. يحدثه عنه، حديث العالم، الدّاري!.. لا قصد مباشر له من وراء
حديثه، سوى إحياء رفات قلعته الدارسة!}
* * *
(ص137-139)
{أعجب فراس منذ البدء، بمرونة، ودقة أصابع "بالوما" المتمرسة في العزف
والأداء.. لعله كان يتوقع ما تعّود سماعه من عزف "الصالونات"، المتوسّط
الجودة!.. فما إن تخطّى ذهنه ذلك الانطباع الأول.. حتى انزلق إلى الموسيقى
نفسها، فبدت، كأنها تنبع من لوحات، وجدران "الفيلا لودوفيزي"، نفسها ترجّع
صدى، فيمور فوق رؤوس الحاضرين في وئام، كأن تلك الموسيقى كُتبت لعصرهم، في
زمن مضى..
ما كان في حاجة لسماع جوقاتٍ بكاملها، تعزف ألحان "فيفالدي" أو "باخ" لينفذ
من خلال أصوات العديد من آلاتها المجتمعة، إلى سرّ روح الغلرب، متمثلة في
ما تخلقه من الجوقات من بحارٍ زاخرةٍ بجميع أنواع الحركة والحياة.. يسيطر
تمازجها على إحساس السامع، تبعث في عاطفته أمواجاً متتالية.. تتمكن من وعيه
الجدلي.. فلا يستطيع، إذا تكلّم، إلا اللّهج بالثناء.. ولا، إذا صمت، إلا
الغرق في لجج العاطفة..
لقد درس الموسيقى، وكان يعزفها ويكتبها.. يعرف مدى ما يستطيعه العلم أن
يزيد على اللحن البسيط من انواع الزخرف، والمرافقة.. حتى ليضيع اللحن،
ويصبح أسلوب العرض والتنميق هو الهاجس الأول، والأخير..
تذكر قولاً ﻠ "سغوفيا" عن وحشية صوت البيانو.. وصراخ، وزعيق الكمان.. وأن
ليس سوى القيثار،في نظره، من آلة لا تعرف المبالغة.. وعاد في ذهنه إلى وطن
القيثار.. إلى الأندلس، وتحسّر على زمنٍ كاد القيثار فيه أن ينطق
بالعربية.. لغة آبائه، وأجداده..
* * *
كانت "بالوما" قد أنهت عزف مقطوعتها الثانية.. ولعلها أوشكت أن تستريح..
حين سألها فراس، في لهجةٍ بدت للحاضرين كأن فيها شيئاً من التحدّي..
-
وهل تجيدين "الفلامينكو".. كذلك أيتها الآنسة..
أدارت "بالوما" وجهها نحوه، وهي لا تزال على شرودها الأول.. لم يفارقها،
منذ أن أمسكت بقيثارها.. لم ترد على سؤاله.. لكنها أطرقت
تنظر إلى أوتار قيثارها، ثم ضربت بيدها اليمنى فجأة على خشبه، ثلاث
طَرقاتٍ.. ماتعاتٍ.. مصممة.. أطلقت بعدها لجميع أصابع يدها العنان.. في سيل
من العزف الصاخب، ذهل الحاضرون لعنف مقدّمته! ولما أدخله على رتابة جوّهم
الأنيق، من حرارة مفاجئة، ودفق عاطفةٍ لا تعرف التريّث أو الكلل!
اختلط الإعجاب بالتأثر على وجوه الحاضرين! لكن أكثر الذين تبدّت عاطفتهم
على ملامحهم كانت الكونتيسة "دل بيلار".. امتزج تأثرها بمسحة من القلق،
بانت في نظراتٍ راحت تنقلها على وجوه غيرها من المدعوّين.. تحاول استطلاع
حقيقة انطباعهم.. تتيهّبه.. تتساءل عن كيفيّة تقبّل ذاك الجمع، لموسيقى
الأندلس، البعيدة كل البعد عن الأناقة المدروسة للمكان ومن فيه من الحاضرين
من ذوي الألقاب الكلاسيكية!.. تردّدت في فهم دوافع "دون ماكسيميليانو" في
طلب ذاك النوع من الموسيقى، من أختها.. هل كان يشير إليها، هي، من طرفٍ
خفيّ.. وإلى أصلها الأندلسي المزعوم!.. لو أن عينيه ما كانتا تبرقان
إعجاباً بما سمع، لأوشكت تظنّ أنه يحاول أن يلصق بها تهمةً باطلةً.. ثم
التشهير بها.. على الطريقة الساديّة المترفّعة لأهل الشمال!}
* * *
(ص143-145)
قال فراس، هازئاً..
-
إن "فرساي"، قصة طويلة!! إنها التطبيق العمليّ، للمدينة الفاضلة.. على يد
الأرستقراطية الفرنسية!.. جميع النبلاء.. الطبقة الحاكمة، بأسرها.. تعيش،
في مئات الغرف، من قصرٍ هائلٍ، في ظلّ حكم أكبر ملوكها.. "ملك فرنسا"، لويس
الرابع عشر!
ردّ "شارل غوستاف".. في شبه دفاعٍ.. كأنه يستبق الهجوم!
-
لعله حلّ "طوباوي".. لكن.. ليس هنالك من ينكر جماله!.. جمال "فرساي"..
وحدائقها.. رغم مساوئ تلك الطبقة.. وعلاّتها..
تابع فراس في سخريةٍ، مبطّنة، لاذعة..
-
جمال "فرساي".. الذي لا مراحيض فيه؟! ولا دورات مياه؟! أُذكّرك بقول
"ميشلسة" الكبير "ألف عام لأوربا.. دون حمّام"!!
بهتت "بالوما".. وسألت..
-
دون حمّام؟.. ماذا تعني بذلك؟!.. ألف عام؟!
-
إن الكنيسة تكره الحمّام.. ولقد ظلّت تكرهه.. حتى القرن التاسع عشر! لقد
كرهته.. هكذا.. وبكل بساطة.. وأوصت ضدّه! ذكّرها بحمّامات روما العريقة..
ثم بحمّامات العرب.. والمسلمين!.. وليس الذنب ذنب الكنيسة وحدها .. فأوربا،
بلاد باردة.. كرهت النظافة، على مرّ العصور! تكرها حتى اليوم.. تصّوري.. إن
هنالك من كان يجاهر بأن الدهن، والقذارة، يشكّلان طبقة يجب تركها على بشرة
الإنسان.. لحمايته من البرد، أو العوامل الطبيعية!! ولقد قيل هذا القول..
في زمن "فولتير".. و"ديكارت".. وكبار مفكّري أوربا!! يا لقذارتهم!
بادر "شارل غوستاف" مفسراً..
-
لا.. لا.. إن للأمر علاقة بالنظرة الدينيّة للكون.. فالكنيسة تكره الجسد..
الذي هو، بالنسبة إليها، سجن الروح.. فكيف تريدين لها أن تكترث لنظافة هذا
السجن؟!
أجابت "بالوما" متعجبة، ساخرة..
-
أفلا يقوم السجناء بتنظيف سجونهم؟!
-
ثم.. هنالك مسألة الجنس.. فالكنيسة تكره الجنس كذلك.. فترى في التعري،
والاعتناء بالجسد.. نداء للبواعث الجنسية!.. وفخاً، يسقط الإنسان فيه.. في
المعصية الكبرى!!
ضحكت
الماركيزا "كولونا" التي كانت تفخر بجسدها، وتغتسل كل يوم.. وقالت..
-
.. لقد كانت "ماري أنطوانيت" تأتي بالمغطس الصغير.. إلى غرفتها.. وتنزل
فيه، دون خلع ثيابها الداخلية! تصوروا!
علّقت "الكونتيسة دل بيلار".. موافقة..
-
ثلاث مرات.. أو أربعاً في السنة! على أكثر تقدير!!
كان "باتريس" على وشك قول شيءٍ ما.. ربّما، دفاعاً عن ملوك أسلافه.. فأشارت
"الماركيزا" إليه بيدها.. قائلة..
-
لا.. يا عزيزي.. فأنا من أصلٍ فرنسي.. وأعرف خفايا حياة القصور!.. فإن كان
في إمكاننا السكوت عن معظم مساوئها.. أو المرور عليها، لتسويغها، بشرح
أسبابها التاريخية.. فإن هنالك أموراً حضارية لا يمكن السكوت عليها، أو
تسويغها!.. لا من بعيدٍ.. ولا من قريب!
نظر "باتريس" إليها قلقاً.. مستفسراً.. فأجابت، ضاحكة..
-
حقاً إني لا أفهم ذلك! كيف كان الملك يدير مؤخرته العارية.. لأحد النبلاء..
بعد انتهائه من التغوّط.. كي يمسحها النبيل بقطعة من القطن!! ثم يهديه
الملك تلك القطعة، القذرة.. كذكرى عزيزة، لما نابه من شرفٍ رفيع!!
علا صوت "بالوما" بصرخة مكتومة..
-
لابدّ أنكم تمزحون!! وهل يعقل ذلك؟! إنني لم أقرأ هذا في أيّ من كتب
التاريخ التي درسناها!! "ملك الشمس"، موحّد فرنسا!!
هزء
فراس منها..
-
وهل التاريخ يدرس في المدارس؟!
عادت إلى تساؤلها، في عصبية ظاهرة.. تكرر ما سمعته، كأنما لا تحسن استيعابه..
-
وهل كان ملك فرنسا، فعلاً، يقوم بذلك؟! أمام النبلاء؟! كل صباح؟! ويهدي
القطنة لمن يقوم بمسح مؤخرته؟! يالها من حضارة!! خيرٌ لعلماء
"الانثروبولوجيا" دراسة مثل هذه الظواهر.. البدائية.. في مجتمعاتنا نحن..
بدل من دراستها في جزر "هاييتي"، أو غابات " الأمازون"!!
علقت الكونتيسة "دل بيلار" قائلة..
-
إن ما يحيرني هو.. هل كان النبلاء يعتقدون، فعلاً، أن تلك القطنة، بما
عليها من غائط ملكيّ، هديّة ملكية رفيعة.. ذكرى، تجب المحافظة عليها؟! هل
كانوا يقومون بذلك عن قناعة أم، مجاراة لنزوة الملك؟!
هزّ فراس رأسه في شيء من النزق، وقال..
-
سيدتي.. ليس الأمر نزوة عابرة، ولم يقتصر على ملوك فرنسا وحدها.. إن أوربا
ظلّت تتناسى عيوب ماضيها .. حتى نسيتها! وهل تظنين ان ملكاً، يدير مؤخرته
أمام بلاطه، إذا لم يكن ذلك البلاط يرحّب ويبتهج بما يرى؟! أم هل تظنين أن
مثل هذه الفعلة "الحضارية"، يمكن أن تكون من ابتكار جيلٍ واحدٍ!! ولا يبدّل
في الأمر شيئاً، أن يفسّر أحدهم ذلك‘ فيرّجعه إلى أحد الطقوس التي لها
علاقة بالتوتم "الفرويدي"!}
* * *
(ص150)
{- لقد قرأت في إحدى روايات الدوقا "دي لامبادوزا"، وصفاً مثيراً لسهرة
أرستقراطية، في بداية هذا القرن.. كان النبلاء يبولون ويتغوّطون، أثناءها،
في إحدى حجرات القصر.. في أوعية، وآنية خزفية، أو معدنية.. بلغ عددها
المئات!!.. هل ذلك صحيح؟
قهقه "الدوقا داوستي" على مهل.. وأجاب..
-
صغيرتي.. كانت تلك الحال، في بيوت الجميع، وخلال كل الحفلات.. حتى الحرب
العالمية الأولى! لكن ما أهمل "لامبادوزا" توصيله للقارئ.. هو تلك الرائحة
الزكية.. التي كانت تتدفق على الحاضرين.. من تلك الغرف المليئة بمئات آنية
البول.. والغائط!! وقد يطفح بعضها.. أو تندلق محتوياته على الأرض! إن تلك
الرائحة النتنة المروعة .. لم تكن تملأ على الأوربيين بيوتهم، وشوارعهم
فحسب، بل إنها كانت تخيم على المدن، تطفو فوقها!.. حتى إن رائحة الغائط..
كانت تستقبل المسافرين وهم على بعد أميال من مدنٍ شهيرةٍ مثل باريز، ولندن،
وغيرها!! فما قولك؟!}
* * *
(ص160-162)
{كانت عادة إيطالية قديمة، تقضي أن تقصّ الخمائل في الحدائق، في شكل
أقواسٍ، وقببٍ، ومغائر.. كأنها أعشاش لمخلوقات كبيرة..
سمع أصواتاً خفيفة، أشبه بالهمس، تنبعث من وسط الجدار النباتي العريض،
فتعجب، إذ لم ير خلفه، مباشرة، من فراغ، يتسع لغير سور الحديقة الحجري!..
مشى إزاءه برهة في الظلام، يلامس بيده المفتوحة سطحه المورق.. يتعجب لما سمع، إلى
أن وجد نفسه أمام فتحة بدت له، كأنها مدخلٌ لنفق كان قد شُذّب وسط ذلك
الحائط النباتي..
ولج داخل عتمة الخميلة، يعبر النفق، يعلل نفسه بأنه إنما يحتمي من زخّة
مطرٍ خفيفةٍ كانت قد بدت بالهطول!.. لكنه، تسلل على رؤوس أصابعه، في هدوءٍ
وحذرٍ، وقد شحذ أذنيه، يتسقّط مصدر ما سمعه من همس.. يسعى نحوه.. يودّ
مفاجأة غيره، لا أن يباغت بهم!!
توقف على بعد خطواتٍ من حركة بانت قبالته.. تسمّر في مكانه، برهة طويلة،
سمع بعدها همساً مكتوماً، لم يفهم دلالته!!
سمع صوت احتكاك عود ثقابٍ، سطع بعده نوره البرتقالي، بغتة، لبرهة جزيئاتٍ
من الثانية.. ثم عاد المكان، إلى ما كان عليه، من ظلامٍ دامسٍ!
طُبِع في ذهنه خيالاتٍ مما رأى.. ماذا رأى؟!.. شخصين، أم ثلاثة؟.. ثلاثة..
بالتأكيد!.. ثلاثةٌ، واقفون.. هل كان غيرهم.. على الأرض؟!.. لم يعد يذكر!..
والواقفون؟.. من هم؟!.. جميعهم عراة.. أو أنصاف عراة!! الثلاثة متلاصقون..
لم يتبيّن لون شعر الفتاة.. كانت وسط الشابين.. مستسلمة لهما.. لا تبدي
حراكاً!
أحس بالدم يعلو إلى وجهه، وسمع ضربات قلبه في صدغيه!!.. من تكون الفتاة؟!..
لا.. لايمكن أن تكون هي.. لا.. هذا لا يمكن!!..
من تكون إذن؟!.. إنه لم ير شعراً أشقر.. لعلها إحدى المدعوات.. أو فتاة من
شغّالات القصر!.. والشابان؟!.. هل كانا من النُدُل؟!.. لا شك في ذلك!
تذكر وهج نور عود الكبريت على أجسادهم الشابة.. المتوترة!!.. ماذا يفعل؟!..
ماذا يفعل؟!
أحس فجأة بلمسٍ خفيفٍ على جسده!!.. يدٌ تتجول على ساقيه.. كأنها آتية من
جسمٍ متسلقٍ، أو متربعٍ على الأرض!!.. ثم أحس باليد الأخرى تفتح أزرار
بنطاله!!
لم يفاجئه ما رأى منذ لحظات، قدر ما باغته، أنه قد وجد نفسه، بغتة، وإثر
ملامسة ذلك الشخص المجهول، جزءاً مما يحدث، دون أن يبادر، للمشاركة في
ذلك!!
هل شاء أن يتحرك؟!.. هل شاء أن يتملّص؟.. ولم يقو على قطع ما انتابه من
إحساسٍ بالخدر، لدى ملامسة الشفاه المجهولة ما تعرّى من جسده؟!.. هل شاء أن
يتقدم، ليشارك، فيما بقي في ذهنه، من صورة الأشخاص الثلاثة الذين ما زالوا
على خطوات منه؟!
فطن إلى أنه كان مع رابعهم!!.. حرك يديه، أمام ساقيه، يبغي ملامسة الرأس
الذي انهمك في إثارة جسده!.. لامس بشرة ناعمة.. ثم شعراً طويلاً أملس..
تتبع امتداده.. وطوله، وإذا به ينساب على ظهرٍ، أملس، عارٍ!!
لم
يشأ أن يتعرف، أكثر من ذلك!.. لم يشأ أن يزيد من مقدار تأكده، ولا أن يقلل
منه!!
غمره إحساسُ عجيبٌ بأنه في حلمٍ، وأنه تحت تأثير مخدر فعّال!!.. كان مع من
يشتهيها، دون أن يكون!.. يلامس رأسها.. جبينها، وخديها، وعنقها.. في
الواقع، كأنه يفعل ذلك في الخفاء!.. يقوم بما يشتهي.. كيفما شاء، دون أن
يكون لما يقوم به من رديفٍ واقعي.. أو لذلك الرأس، من وجودٍ إنسانيّ
حقيقي!!.. يستقلّ بالمتعة، مع إنسانة، معروفةٍ، مجهولة.. وفي الوقت ذاته،
يرى، في ذهنه، ما يقوم به الأشخاص الثلاثة، ويحس بوجودهم، كأنه يشعّ بحرارة
أجسادٍ ذات وجوه، لا معالم لها!!
ما
أمتع لذة الشفاه المجهولة!!.. وما أقوى سحر يدٍ خفية، تلامس جسده في
الظلام!!
ما إن بلغ نشوته، حتى تبدّل جميع ما حوله.. وخبا سحره,, في نفس الصمت،
والإبهام، الذين كان قد ابتدأ بهما تلك الرحلة إلى الظلام والمجهول!
عاد أدراجه، عبر النفق المظلم، وخرج منه، ليتلقف وابلاً من زخّات المطر،
احتمى منها ، تحت شجرةٍ كثيفةٍ.. تمهّل برهةً، يستجمع كامل حضور ذهنه،
وقواه، ثم أسرع راكضاً نحو القصر الذي لم يكن ليبدو منه، في الظلام، سوى
فتحات نوافذه.. ينبعث منها نورٌ برتقالي خافت..}
* * *
(ص166)
{عاد إلى خاطره ما جرى له، تلك الليلة، في حديقة "الفيللا لودوفيزي"..
وتلاشى من ذهنه كل معنى جنسيّ لتلك التجربة!.. ماذا؟.. ألم يكن يشارك
أشخاصاً مجهولين، في طقوسٍ غريبةٍ لا يعرف اسماً لها؟!.. يعود تاريخها إلى
آلاف السنين؟!.. ألم تكن، تلك الامتداد المباشر للطقوس الوثنية التي عُرفت
بها أوربا.. والتي انقلبت عليها الكنيسة فاشتطت في محاربتها، حتى كادت
تحرّم الجنس نفسه على الإنسان الأوربي؟!..
لقد كان إنساناً، في تلك اللحظة، لحظة مارس تلك الطقوس.. ذلك أمر لا شكّ فيه..
لكنه كان إنساناً غربيّاً، يتجاوب مع ضبابها.. يجري لقاحاً غامضاً في رهبة
الليل.. فوق أرضٍ تسطع بلغز نور قمرها الفضي المهيب!
ما الذي دفع الإنسان الغربيّ للثورة على واقعه الغريزي، فانقلب على الجنس، في
محاولة يائسة للتخلص من جذوره الطبيعية؟!.. وماذا عن الشرق؟.. أليس الإنسان
فيه جزء من أرضه كذلك؟!.. بلى.. لكنه جزءٌ من أرضٍ سما عنها.. أرضٌ، لا
ديمومة فوقها للنباتات، بطحالبها.. والأشباح، بأشكالها البشرية الإلهية..}
* * *
(ص190-191)
{غابت أصوات السيارات، وخرج من القوس الثانية إلى ممر جديد، أقل عتمة من
الممر الأول، يحيط بفناء الملعب الشاسع، البيضوي الشكل.. وينفتح عليه، عبر
أقواس جديدة، ضيقة، تطل فتحاتها على المدرّج، وينفتح عليه، عبر أقواس
جديدة، ضيقة، تطل فتحاتها على المدرج، وأرض الفناء الذي سُرقت أحجاره،
ورخامه، فبان ما تحته من جميع دروب الأقبية المتعرجة، كانت تقاد الحيوانات
الكاسرة عبرها، لتباغت الجمهور، فتظهر فجأة أمامه، وتتقاتل تحت أنظار سبعين
ألفاً من المتفرجين!
لم يكن فراس قد دخل "الكولوسيو" من قبل، في تلك الساعة المتأخرة.. لعله
أُخذ، لبرهة وجيزةٍ، برهبة المكان، فراح يتأمل ما حوله، كأنما نسي ما جاء
من أجله!
تنبه إلى ظلالٍ تسبح على أرض الممر.. سرعان ما فطن إلى أنها ظلال أناس
متخفّين.. يتنقلون في حذرٍ وصمت، بين خبايا المكان.. يتوقفون، من حين إلى
آخر، فيغيبون في ظلمة عشرات الأعمدة، والصخور الكبيرة، وزوايا، وخبايا ذلك
التيه الكبير!
كيف يجد "بالوما" بين هؤلاء؟!.. ولماذا تيقّن أنها لا بد واحدة من تلك
الأشباح المتنقلة في الظلام؟!
كان قلبه يطرق بشدّة.. أحس أن أطرافه قد انتابها الصقيع!
تذكّر حديقة "الفيللا لوفيزي".. ووحشة النفق الذي دخله، في جدارها
النباتي!.. فأحسّ أنه، بالمقارنة مع ذلك المكان، كان، في تلك الحديقة، كأنه
في أمان بيته!.. وبدا له ذلك النفق النباتي، المعتم، مريحاً، هادئاً، وكأنه
تحت غطاء فراشه الدافئ!
كيف يتعرّفها؟!.. وهو لا يستطيع حتى أن يناديها، كي لا يلفت إليه
الانتباه!.. وكيف يأمن شرّ أشخاصٍ، يتنقلون في ذاك الحذر.. ويهرعون، من
ظلمةٍ ساترةٍ، إلى أخرى!
تنبه إلى صخرة كبيرة كثرت حولها الحركة.. وتجمعت قربها ظلال كثيرة، تحلقت
حول أشخاص صدر عنهم ما يشبه حفحفة العراك!
تقدم في وجلٍ من هؤلاء.. يتلفت حوله، كلما قام بخطوة.. ينظر خلفه، كي لا
يفاجأ بما لا يسرّ!
ما إن أصبح على قرب كافٍ، حتى تيقّن مما توقعه، من عددٍ من الأشخاص، يجامع
بعضهم بعضاً، عراة، أو أشباه عراة.. وحولهم، تحلّقت تجمعات أخرى، صغيرة
العدد، ثلاثة، أو أربعة أشخاص، هنا وهناك.. يتلقّون الوحي و الإثارة من
الحلقة الأم!.. يمارسون، في فلكها، ما تفتّق عنه خيالهم، أو هواجسهم
الدافعة، الباطنة، وما من رقيبٍ، غريبٍ، يردعهم عمّا يشتهون!.. يحرسهم
الظلام، من غيرهم من العيون المتفحصة، ومن أنفسهم، تخيفهم رهبة المكان،
والخطرالمحدق بكلٍّ منهم، فيتفتّقٌ خيالهم عن حركاتٍ، أشبه بما قد يبدرعن
الإنسان وهو في النزع الأخير!!
لم يجد "بالوما" بين ذلك الجمع.. تريّث برهةً، ثم قرر أن يعود أدراجه إلى سيارة
صديقه.. تعامى في البدء عن مضايقة عدد من الأشخاص، كانوا قد حاولوا إشراكه
في تلك الطقوس.. تراجع، مبتعداً عنهم، في بطءٍ، وحذر!.. فما كاد يعبر الممر
المظلم في سلام، حتى خرج من بين أقواس الجدار، وركض، مسرعاً، نحو سيارة
صديقه!}
* * *
(ص250-255)
{سمع صوت غناءٍ بعيدٍ، يصله من نافذة غرفته.. فتقدّم منها، وفتح مصراعيها..
يتأمل الوادي السحيق الذي تطلّ عليه تلك الدار، وسفوح الجبال التي غطتها
غابات السنديان بلونها الأخضر الداكن.. تتخللها أشجار السرو، كالرماح
المشرّعة، وأشجار الحور.. بدت كأن أوراقها الخضراء، الفاتحة اللون، هي التي
تداعب النسيم، فتهتزّ، وتتمايل، لتظهر ما خلفها من لونٍ قطنيّ البياض!..
جميع تلك الأشجار، كست سفوحاً، متشعبةً، متداخلة.. تحدّرت، كلاً على ميلٍ،
أو انبساط خاصٍ به.. وتجمّعت حول بحيرة، في قعر الوادي.. سطعت بانعكاس نور
الشفق، فبدت كصفيحة نحاسية حمراء.. كرقعة نارية على وشك إضرام النار فيما
حولها من غاباتٍ.. أرضٌ عذراء.. قد لا تكون أقدام البشر وطئت بعض أجزائها،
منذ آلاف السنين!
رأى مصدر الغناء عن بعدٍ.. أربع، أو خمس فتيات، تسير الواحدة منهن، وراء
الأخرى، على دربٍ شديدة الضيق، تبدو كأنها مسار جدولٍ يلتف ويتعرج على سفح
الجبل الذي تقع عليه الدار، تمر من أمام سورها، على مسقط نظره، تلتف
حوله، ثم تغيب بين أشجار السفوح الأخرى..
كانت حديقة الدار ممتلئة بالأزهار البيضاء والأوراد الحمراء.. والغاب من
حولها، من وراء السور، كأنه امتداد لها.. تغطت أرضه بأكماتٍ تجلّت بشقائق
النعمان، والنرجس والأقحوان!
التفت فراس إلى "كارميليتا" فجأة.. وقال في لهفةٍ، وعجلة..
-
أتعرفين هاتيك الفتيات؟
-
وكيف لا يتعارف أهل القرية الواحدة!
-
هل في وسعك أن تطلبي إليهن القيام بعمل صغير.. لحسابي؟!
تعجّبت الفتاة، وأجابت.. في مرحٍ..
-
بالطبع.. وما العمل يا سيدي؟!
-
هل في الدار.. من سلال.. أو ما شابه؟!
-
ولمّا هزت رأسها بالإيجاب.. تابع قوله
-
إذن، فاطلبي منهن القدوم، إلى الدار، لأخذ السلال منها.. ثم العودة إلى تلك
البقع المزهرة، في الغاب.. هناك عند أكمات النرجس.. واطلبي منهن أن يملأن
السلال منها.. ويفرغنها في مدخل الدار.. في أرض الحديقة والفناء الداخلي!
كان صوت الفتيات يقترب من الدار.. و"كارميليتا" تنظر إليه في دهشة بالغة..
لاتصدق ما تسمع.. فقال لها.. ينبهها من جمودها..
-
أسرعي "كارميليتا"!.. أشيري إليهن بالتوقف!.. أريد أن تملأ الأزاهير أرض
الردهة الداخلية.. من الدور الأسفل!.. أريد أن تكسوها، كالبساط.. وأن تُنثر
على السلّم الذي يقود إلى هذه الغرفة.. ويجلّل بها السرير!!
كانت "كارميليتا" قد بدأت تعي هدف "دون ماكسيميليانو".. وقد تجاوز، في
نظرها، خلال لحظة واحدة.. جميع ما كانت قد سمعته عن غرابة تصرفات الأمراء
والفرسان .. و انسياقهم، في الحياة، وراء أحلامهم الجميلة!
صاحت من النافذة إلى الفتيات.. في حماسة.. أن يتوقفن برهةً.. ثم التفتت
إليه وسألت متعجبةً..
-
وكيف تنام، هذه الليلة.. يا سيدي؟.. وكيف نتمشى نحن، في الدار.. إذا ما
امتلأت أرضها بالأوراد؟.. وكيف نحضّر العشاء؟!.. أو نخرج إلى المطبخ؟!
ضحك فراس مبتهجاً لسرورها بمشاركته فيما يقوم به.. وقال..
-
لا عليك.. اطلبي منهن إيداع، جميع الأوراد.. في إحدى غرف الدور الأسفل،
الباردة.. حتى الصباح!.. سأنام هذه الليلة.. في الغرفة المجاورة لهذه..
أريدك، منذ بزوغ الفجر.. أن تجللي هذا السرير بالنرجس.. حتى يتشرب الغطاء
عطره!.. ثم انثري فوقه النسرين.. وبعد ذلك.. مدّي بساطاً من النرجس.. منذ
باب الحديقة، والممر الذي فيها.. حتى السلم الصاعد إلى هذه الغرفة!..
وأكثري منه حول أقدام السرير!!.. لا أريد أن تطأ قدما "بالوما" شيئاً.. غير
النرجس، حين تصل الدار.. وتصعد إلى هذه الغرفة لتستريح..
-
وهل هذا هو اسم السيدة.. هل هو "بالوما" يا سيدي؟ ياله من اسم جميل.. ما
أجمل حبك لها يا سيدي.. يا له من حبٍّ جميل.. آه!
قالت "كارميليتا" ذلك وقد توردت وجنتاها السمراوان من الخجل، ثم انفلتت
راكضة إلى الدور الأسفل.. وإلى رفيقاتها.. تحمل لهن السلال، والمال الذي
نقدها إياه "ماكسيميليانو" مكافأة لهن، على ما سيقمن به من عمل ٍ طريفٍ،
غريبٍ!.. روايةٌ، لن يمضي الليل حتى يكون معظم سكان القرية قد اطّلعوا على
تفاصيلها!
في الليل، تمنّى لو أنه يحمل حبوباً منوّمةً.. تعينه على الخلاص من الأرق
الذي لازمه!.. راح يتقلب في فراشه.. يحاول إقصاء صورة جسد "بالوما" عن
ذهنه.. فلم يستطع!
ما ظنّ أن يوماً مثل هذا، سوف يطالعه.. تأتي فيه "بالوما" على كامل
إرادته.. تنمو رغبته لفتاةٍ، وتشتدّ.. حتى تزيح من وعيه جميع ما قد
يحاربها!.. تسيطر، في النهاية، على ذاته.. فتصبح الذات.. مجسدة.. شهوةً،
تتكلم، وتحيا.. لا تعرف الهدوء أو الراحة!
لجأ في النهاية إلى تشويق نفسه.. ما سيلاقيه غداً من لقاء الحبيبة.. يقنع
ذاته بأنه في حاجة إلى النوم، كي يحسن التمتع بنهار الغد!.. دون فائدة!
أشعل عود ثقاب، أضاء به مصباحاً قديماً، إلى جانب فراشه.. ثم نهض من
فراشه.. يلفّ جسده برداء صوفي، يتمشى في الغرفة، جيئة وذهابا.. لعلّ التعب
يدبّ في جسده، فيعجل ذلك بمجيئ النعاس!
تقدم من النافذة، وفتحها على مصراعيها.. فطالعه نور القمر، وقد أحال
البحيرة إلى صفيحة فضيّة، صقيلة، لامعة.. وبدّل الغابات التي حولها، إلى
دثارٍ قاتمٍ.. تلفحت به الجبال.. زينه ما بان على رؤوس الأشجار من تيجانها
الخضراء!
سمع عواءً بعيداً كأنه أنينٌ طويلٌ.. فانتابته قشعريرة طفيفة، أنكرها على
نفسه، ردها إلى البرد المفاجئ، وتبادر إلى ذهنه، في الحال، احتمال نكوص
"بالوما" عن وعدها، وتراجعها عما عاهدته عليه من لقائهما في عزلة تلك الجنة
الرهيبة!
أدرك على الفور أن أفكاره على وشك اتخاذ مسارٍ وعرٍ سيزيد من شقائه، ويمنع
النوم منعاً باتاً عن جفونه!.. فعاد إلى فراشه، مسرعاً، وقد أيقظ البرد فيه
حاجة ملحة، إلى الدفء والراحة، ما هي إلا دقائق.. وإذا بالكرى يثقل جفنيه
المتعبين!
أحسّ ببلل على خديه، وبلمس شفاهٍ دافئة تداعب شفتيه، وأنفه، وعينيه!.. ثم
سمع صوت حبّه، يهمس في أذنه .. بين قبلةٍ وأخرى..
-
يا أميري.. يا حبيبي.. يا فارسي..
فتح عينيه.. رافعاً ذراعيه ليضمّ وجه "بالوما" إلى وجهه.. ليعانق جسدها..
قلبه يكاد يتوقف عن الضرب تارة، وتارة أخرى، تتسارع ضرباته، حتى ليكاد
يتفجّر في صدره!!
-
متى وصلت؟.. حبيبتي.. متى..
-
منذ لحظات!.. وسرت على الأوراد التي رصفتها لي.. ماذا أقول.. لقد طرت
عليها.. إليك أنت.. وليس إلى سريري.. حيث تقود الأزهار.. إليك أنت، أنت..
"مكسيم" يا أميري.. كيف كنت ضائعةً عنك؟.. كيف؟.. كيف؟
شدّها إلى داخل الفراش.. ودفء جسده.. لكنها تملّصت، في وداعةٍ وحنان، لم
يعرفهما فيها، من قبل..
قالت، تكاد تغمض جفنيها المرتجفتين..
-
..لا.. أغتسل أولاً.. ثم أهرع إليك..
والتفتت
تبحث عن غرفة الاستحمام!
لم ينبس
فراس بكلمة!
سارع إلى غسل أسنانه، ووجهه، في طشتٍ كانت "كارميليتا" قد ملأته بماء فاترٍ
منذ الصباح.. وعاد، مسرعاً إلى دفء فراشه.. ينصت إلى خرير الماء الذي يسيل
فوق الجسد الحبيب.. يترقب عناقه!
توقف صوت الماء فجأة.. ثم سمع حفيفاً ناعماً، تلاه صوت كحّةٍ، عذبة أليفة..
أجرت الخدر في جسده.. ثم بانت "بالوما"، من فتحة الباب، بشعرها الرطب..
معقوصاً إلى الخلف، وثوبها الأحمر القاني..
سارت تتقدم منه في بطء، على أنامل قدميها العاريتين.. ثم فتحت لعينيه،
ثوبها.. عن الجسد الحبيب.. والنهدين الأبيضين.. المتوردّين..}
* * *
(ص268)
{نهض فراس، تتبعه "بالوما"، وتقدما من النافذة، في حيرة وصمت! لم ير
فراس حيث أشار "جيوفاني" إلا بريق القمر على صخور الشاطئ، وانعكاس نوره على
سطح ماء البحيرة الساكن!
تبسمت "بالوما"، وقالت، في شرود..
-
من يدري؟.. لعلّ روحه تأتي فعلاً إلى المكان الذي فارقت فيه الجسد.. إن
علاقة الأرواح، بالأرض، لأمر غريب..
نظر فراس إليها في وجوم، مكتوم.. كأنه يراها عبر غلالة شفافة، لم يكن قد
تنبه إلى وجودها، بينهما، من قبل!
لم يدرك من معنى لذلك الشعور المفاجئ، ولا سبباً مباشراً لما بعثه في نفسه،
من غربة وانقباض!
أحس بوطأة حملٍ خفيٍ يجثم على نفسه، سببه ومضٌ سريعٌ من إدراكٍ جديدٍ لما
تكشف أمامه، عما يختفي وراء تلك الطبيعة، والأشياء، من روابط أزلية،
بين الإنسان، والأسطورة.. بين البشر، والخرافة!..
كان ينظر
إلى ما يغطي الجبال من غابات مدهشة الجمال، وفجأة، تراءى له أن ما تملّكه
من شعور، إنما هو إحساس إنسان كان مفتوناً بتموجات وانسياب خصلات شعرٍ
معطرٍ، رائع الجمال.. وإذا به، يدرك فجأة، أن الأزيز الذي كان يدوّي في
سمعه، إنما يصدر عن ذلك الشعر!.. وإن لفي طيّاته، اختبأت وعششت خلية
حشراتٍ، ولدت، وستظلَ أبداً متمركزة في ذلك الرأس الجميل!!}
* * *
(ص274-278)
{- وهل رأيت بأم عينيك تلك المعجزات؟!.. حتى تقبلين بصحّتها؟!
-
ستراها، غداً يا عزيزي.. بل سنراها معاً، إذا ذهبنا لزيارة الدير، وكنيسة
العذراء.. في "أفيزو"!
نظر إليها في دهشة واستغراب، لا يدري ماذا يقول.. فأردفت..
-
" مكسيم".. لماذا تنفر من هذه الأمور؟!.. إنما أحسّ.. أحياناً أنك من عالمٍ
آخر!.. ما بك تستبعد حدوث ما لا يقبله العقل؟.. أليس الإيمان، بذاته، أمراً
لا يقبله العقل؟.. هل فقدت إيمانك؟!
نهض فراس من الفراش على عجل، يتجنب النقاش مع حبيبته!
دخل غرفة الحمام، يغتسل، ثم عاد يرتدي ثيابه في صمت.. كأنه أزمع الخروج..
دون "بالوما"!
عجبت هذه، فسألت، هادئة..
-
"ماكسيميليانو" ماذا بك؟!.. هل تنوي اللحاق بالمسيرة؟!.. لقد كدت تهرب
مني.. مساء أمس.. وأدركتك!.. فلا تهرب مني ثانية، اليوم!.. إن اللحاق بك،
لصعبٌ، في وضح النهار!!
عاد إليها، وتبسم في رفق.. ضمّها إلى صدره، ثم قال..
-
"بالوما".. حبيبتي.. إن ما أودّ أن أعرفه منك، هو مدى ارتباطك، أو
مدى..آه.. لم أعد أدري ماذا أود معرفته بالضبط!.. كل ما هنالك، هو أني لا
أفهم ما يربطك بهذه الأساطير!.. أخشى أن يكون لها صلة بأمور أخرى.. في
نفسك.. لا أفهمها!
صمتت "بالوما" طويلاً، ثم قامت تغتسل، هي الأخرى، وترتدي ثيابها.. فما إن
أتمت ذلك، وكان فراس، في جميع ما كانت تقوم به، يراقب حركاتها، ينتظر منها
التفوه بشيئ يجيبه على ما سأل، حتى جلست على مقعدٍ، قرب النافذة، وقالت..
وهي ترجّل خصلات شعرها بحركاتٍ شديدةٍ، تجذب رأسها إلى الوراء..
-
"مكسيم".. إنك لا بد تظن أني أعيش في عالمٍ وهميّ، أراك تترفّع عنه!.. دعني
أنبئك أنك، أنت، هو الذي يعيش في الوهم، وليس أنا!.. لقد كنتَ تظن، بالأمس،
أن هذه الغابات خالية من الناس، لمجرد أنك لم تشاهد أحداً فيها، وأنت تمرّ
بها، في السيارة!,, ثم اكتشفتَ البارحة أن فيها بشراً، وبشراً من نوع خاص،
لم تشاهد مثله من قبل!.. دعني أقول لك، إنك تقترف نفس الخطأ، مرتين.. تكتفي
برؤية الناس من الخارج.. كأنما الإنسان بشرة وتقاطيع فحسب، إنما الناس
عقول، ونفوس! وأنت تتحاشى الاقتراب مما تتركّب منه هذه النفوس.. ترفض أن
تمعن النظر إلى ما بداخلها!!
-
ما لي.. ولأهل الجبال.. وما تتركب منه نفوس سكان "الأوبروتزي"؟!..إن في
الكون أمماً شتى، وهؤلاء، منهم.. إنما أريد معرفة ما بداخلك أنت!.. ومدى
علاقتك أنت، بهؤلاء!! أنت، "بالوما"، هي الفتاة التي أحب.. وأجهل!.. وليس
"كارميليتا"!..
-
هزّت "بالوما" رأسها، في شبه يأسٍ.. وقالت..
-
كيف تقول ذلك، وأنت ابن الكاثوليكية المدلّل؟.. وهل تظنّ أن جوهر إيمان
إنسان، على مثل رفعتك، يختلف كثيراً عن إيمان إنسانة عادية مثل
"كارميليتا"؟.. إن المعجزة جزء من الإيمان.. إيمان جميع الشعوب.. ومعجزات
شعبٍ، قد لا تشكل إلاّ خرافات شعبٍ آخر!.. هل تظن أن " روما" تختلف كثيراً
عن "باريّا"؟.. وهل الصلاة على الأرواح، في كنائس "روما"، أكثر لياقة من
الصلاة عليها في كنيسة عذراء "أفيزو"!.. "مكسيم"!.. إنك إنسان واهمٌ،
خياليّ.. قد أعمتك أرستقراطيتك عما يجول حولك!.. هل الفارق كبير، حقاً بين
رعشة التوجس التي تصيب "الماركيزا كولونا"، وبين خوف هؤلاء المساكين، من
الغيلان؟!.. إن هؤلاء التعساء لا يعرفون آداب اللياقة، فيصرخون، حين
يخافون! أو يتأوهون.. ومثل "الماركيزا كولونا" او مثلي، تعرف تماماً كيف
تضبط الرعشات البدائية، فتخفيها وراء سعلةٍ مهذبةٍ، وترسم على شفتيها
ابتسامتها الجوفاء!
* * *
خرجا من غرفة نومهما التي تطل على الوادي.. يعبران الممر، إلى الطرف
المقابل من الدار، إلى غرفة أخرى، تطل نافذتها على الحديقة الخارجية،
والطريق العام..
كانت حشود المؤمنين قد حاذت سور الحديقة.. تسير بخطى سريعةٍ، في تناقضٍ
تامٍ مع بطء ما تردده من إيقاع التراتيل، والأهازيج!.. مما أعطى لذلك
المشهد صفةً خياليةً.. طابعاً أسطورياً، كأن تلك الحشود تسير، حسب إيقاع
حياتها القصيرة المدى، بينما الطبيعة تردد أنغاماً، لها إيقاع نموّها
البطيء.. أنغاماً، تمور فوقها.. تتوارثها الشعوب الأوربية، والديانات،
فيها، منذ آلاف السنين!
شاهدا، من حيث وقفا، خلف النافذة، طقوساً وثنيةً لا تزال تُمثّل وتؤدى، على
الطريقة الرومانية!.. تقاليد، اختلطت بطقوس الإيمان الإلهي.. حتى باتت
مزيجاً عجيباً من التاريخ، يشابه نفوس تلك البشر!
سارت صفوف الدواب، محملة بسلال تطفح بالهدايا.. من قمحٍ وحنطةٍ، وشعيرٍ..
وإلى جانبها، صفوفٌ من الصبايا، على رؤوسهن سلالٌ أخرى صغيرة.. معبأة
بالقمح.. أعدت لتضحية الغد.. بينما مشت أمامهنّ، حمارة مزينة، على ظهرها
سلة أخرى، كبيرة، فيها بقية ما أعدّ من حبوب..
كان الرجال والأطفال يسيرون خلف النساء، على رؤوسهم أكاليل مضفورة من
النباتات والورود.. يحيطون بطفلٍ، يقود بقرة سمينة، بيضاء.. جُلل ظهرها
بغطاء قرمزيّ عريض.. بقرة، كأنها من العصورالأولى.. عُلفت على مدى العام
بنصيبها من الموسم الخصب، تتقدم الجموع بين البيارق المزخرفة، والشموع
المشرّعة.. ما إن تتروّث على الأرض، بين الفينة والأخرى، حتى يهرع من
حولها إلى ما تتساقط منها.. يقتطع كلٌ، جزءاً من الروث، والبخار يتصاعد
منه، يُحتفظ به، كبركةٍ خصبٍ للموسم المقبل!
تذكّر فراس طقوس التغوّط في بلاط "لويس" الرابع عشر، لكنه أحجم عن الكلام!
قالت "بالوما" مأخوذة بما ترى..
-
"مكسيم".. ليتك ترى العذارى عند بزوغ الفجر، يغسلن أيديهن، ووجوههن،
وأقدامهن بالندى، تيمناً.. يتمنًين في السرّ، تحقيق أمنيات دفينة! ليتك
تشاهد كيف تستقبل هذه الجموع، شمس أول الربيع، من كل عام.. وكيف يهزجون..
ويرقصون.. ويصيحون لها، وسط الجلبة والضوضاء التي يحدثونها، وهم يقرقعون
بأدوات معدنية! يبحثون عن أول ما يتحرك من الأفاعي، لدى خروجها من أوكارها،
بعد نوم الشتاء الطويل.. يلفونها، حيةً، حول أرسغهم، ورقابهم.. ويتقدمون
بها للصلاة.. كل، يتعبّد أمام قدّيسه المفضل! علّه يحميه طول العام المقبل،
من سمها الزعاف!
تذكر فراس تعدد الآلهة، وتماثيلها، عند الرومان.. وتعدد التضحيات لها..
لكنه أحجم عن الكلام!
كانت حشود المسيرة قد بدأت تبتعد عن الدار، وصوتها يخفت ويتلاحم.. يختلط مع
الصدى الذي يحدثه، فيصبح صوت الذكور، كأنه نداء حنجرةٍ عريضةٍ واحدةٍ..
رجلٌ واحدٌ، تنمو ذكورته مع الأشجار.. وصوت النساء، لمرأة واحدةً.. أنثى
واحدة، تنتظر الربيع، لتخصب بما تتلقفه من لقاحٍ، تهيّئه، وتحتفظ به، منذ
تلك اللحظة.. الوثنية..
التفتت "بالوما" إلى حبيبها، تحدّق في عينيه الشاردتين.. تبتسم لما يجول في
نفسه من إحساسٍ غريبٍ..
قالت، وكأنها تتكلم بلسان تلك الأنثى الأزلية..
-
إنها علاقة مترابطة متشابكة، متضافرة، بين الإنسان، والأرض، لا ترى لها
مثيلاً، إلا بين شعوب هذه القارة! قارتنا نحن، التي لا تمر فيها مناسبة
احتفالٍ، أو لعبٍ، أو عمل، أو ولادة.. سواء في الحبّ، أو في الزواج.. في
الولادة، كما في الدفن، إلا وتسمع صوت الإنسان يصدح بغناء معينٍ، تمتدّ
جذوره إلى الغناء "الجورجي*" الذي يمجّد خصب الأرض، ويجعل من كل محصول،
ولادة!! لذلك، ترى كل ما يحيط بالإنسان من أشياء، تبدو لنا كأنها مخلوقاتٍ،
أتت إلى الوجود، نتيجةً للقاح أزليّ، بين الأرض، الأم، وما حول الطبيعة، من
عناصر مذكّرة تلقحها، وتلفّها.. تارة بالخير.. وتارة بالشرّ.. فأصبح اللغز
جزءاً من كل مخلوقٍ، أو حركة.. يتعشّق ويتغلغل في وجود جميع المخلوقات، حتى
سيطر، في النهاية، على الحياة البسيطة والعادية، وخلق فيها أشباحاً، لا حصر
لها، ولا عدد.. خيالاتٌ، لا سبيل إلى تحطيمها! تغلغلت في الحقول.. وبين
الجبال.. حتى عكرت صفو المياه، وسكنت جميع البيوت، فباتت تلازم الإنسان في
مسكنه، يعايشها، دون أن يراها، إلى أن ارتبطت في الوعي، أو في الخفاء،
بمعظم أسباب أفراحه، وأتراحه! [*غناء كنائسي، قديم، وحيد
اللحن، ذو إيقاع لا وزن له.] }
* * *
(ص284-299)
{لم يجل في ذهن أي من الزائرين، أنهما سيقفان يوماً، وجهاً لوجهٍ، أمام
مشهد مثل ذاك، فاقت فظاعته، ورهبته، جميع ما يمكن للخيال استقطابه من
كوابيس، مفزعة، مرعبة!
تجمعت أمامهما جميع بشاعات البشر.. بشهواتها المخجلة، ومخاوفها، بتشنجات
أجسادها، وتشويهها!.. واختلطت أمامهما دموع الندم، بضحكات السخرية..
الغريبة.. الوقحة!
تمازجت أمامهما أراض الجنون، بمظاهر الخفّة.. والفزع، بالبلاهة! مرّ بهما
المحتال والمعتوه.. وتعاقبت نظرات الحسرة على العيون الجامدة.. تراقب،
ساخرةً، عذاب اليأس، في جسد المنحلّ!
سمعا الولولة، والزعيق، وأصوات الأبواق.. تضاهي أصوات الهزيج والبكاء!
اختلط نهيق الحمير، بصهيل الخيل، وأصوات الماشية.. وتحركت جميع الحيوانات،
بين البشر.. هذا يعرض للبيع ما لديه من الفواكه، والطعام.. ذاك يعرض
الأيقونات، أوالحليّ، أوالصلبان.. اختلط الحجيج بالمتكسبين، والمتسكعين..
هؤلاء يرقصون، في فحشٍ، ومجونٍ.. وأولئك يتعبدون في خوفٍ، أمام مشاهد
تشنجات الصَرَع!
بدا الأمر كأن سيلاً ممن تقيّأته القرى المجاورة، من لصوصٍ، ومحتالين،
ومرتزقةٍ، قد تحدّر على ذلك السهل الذي توافدت إليه حشود البسطاء.. أتوا
يبغون بركةً أو شفاعةً، أو شفاءً من مرضٍ عضال..
جميع هؤلاء، تجمعوا، واختلطوا، حول "بيت العذراء"، وأحاطوا بجدران "البيت
المقدس".. بسط الباعة منهم، بضاعتهم على الأرض.. يشيرون إلى الوافدين
بالتقدم منهم، لشرائها.. يكلّمون، كلاً، بلغته.. يزعقون، لمن يصيح!..
يرقصون لمن يرقص!.. يضاحكون، من يضحك!.. يقلّدون حركات الصرع،
للمرضى، أو العاجزين!!
جلست امرأة، بالغة البدانة، فارجةً ساقيها المفرطتي التورّم، كاشفة صدرها
المفتوح، تلعق شفتيها بلسانها الضخم المتشقق.. مشيرة إلى ما وراء ستارة
حمراء، خلفها.. تَعِد المارة بغرائب الدنيا، إذا ما هم دفعوا نقوداً،
ودخلوا، ليتفرجوا على ما تخفيه!.. وقفت امرأة أخرى، بجانبها.. مهرّجة عجوز،
كأنها وحشٌ لفظته الحياة، إثر لقاح قزمٍ، بقردة! راحت تطعم سعداناً من
فمها، مباشرة!! وقد وقف إلى جانبها، مهرجٌ آخر، في ثياب ملونة، يقفز في
جنون.. يقرع أجراسأً يحملها بكلتي يديه!!
وأمام هؤلاء، مرّت قافلة طويلة من الحجيج، يتقدمها حامل
الصليب، ومن ورائه عشرات النسوة تمسك الواحدة منهن الأخرى من ذيل ثوبها..
سرن، محدبات الظهور، حفاة.. يحملن نعالهن على أكتافهن.. مغمضات العيون،
فاغرات الأفواه.. يسيل اللعاب على ذقونهن، ومن فوق طيّات الورم، على رقابهن
المريضة.. كان النقرس قد أتى على أطراف معظمهن، حتى بدت كجذوع نباتاتٍ
بريةٍ.. ومن تحت الورم المخيف، بانت خواتم الذهب!.. وإلى جانب هذا وذاك،
ارتفعت أصوات الدعاء والضراعة، وصاحت....
AVE MARIA* [* تقبلي يا مريم]
كانت قوافل الحجيج تتناوب المرور حول الكنيسة.. وأطلال الدير.. منها من
حملت جميع مرضاها، على محفّاتٍ بعضها صنعت من القش، وبعضها الآخر، من
ألواح الخشب.. جلس المرضى عليها، القرفصاء، يسيل البول من أعضائهم العقيمة،
بينما أستلقى فوقها آخرون، وقد تراخت سيقانهم، وتدلّت أذرعهم في الهواء،
تهتزّ، وتتأرجح وفق خطوات من يحملهم!.. منهم من سال لعابه!.. ومنهم، من راح
يمضغ أشياء لا يستطيع بلعها!.. وفوق أجسادهم، جميعاً، تجمّع الذباب الأزرق،
والحشرات الطائرة، كما تتجمع فوق الجثث!!
وإلى جانب هذا، كله، ارتفعت أصوات الدعاء، والضراعة،
وصاحت..
AVE.. MARIA AVE.. MARIA
كانت تلك القوافل تلف وتدور، حول الكنيسة لتي اكتظت بالمصلين، حتى لم
يعد في وسع أي مخلوق الدخول إليها.. جميع ما يمكن المرء تصوره، من لصوص،
ومحتالينن ومتحذلقين، ومخادعين، ممن احترفوا جميع مهن الحياة!.. جميع
هؤلاء، راحوا يدورون، ويطوفون، حول تلك القوافل.. يرافقون حركتها.. يمشون
معها، يتوقفون معها.. يحاولون، أبداً لفت انتباه أفرادها إلى سلعةٍ، أو إلى
حيلةٍ، أو تعويذة، أوطلسمٍ ما!.. همهم الأول والأخير، اقتناص ما حمل هؤلاء
الحجيج من متاعٍ أو نقودٍ، أو حليّ، جاؤوا ليضّحوا بها داخل الكنيسة!..
أسرابٌ من الذئاب الكاسرة.. تدور حول فريستها المنهكة القوى.. تنتظر الفرصة
المواتية لتنقض عليها!
وإلى جانب هذا.. ارتفع صوت الضراعة والدعاء..
AVE.. MARIA AVE.. MARIA
كانت حشود
القوافل تزداد كثافة، مع مرور الوقت، كأن سيلاً لا ينقطع، من البشر قد راح
يتدفق على ذلك السهل .. مما زاد في صوت الهزيج، حتى اجتمعت أصوات الألوف
على إيقاع واحدٍ.. يصيحون، كلٌ، كما يحلو له، وفي النغم الذي يختار.. ولا
يجتمعون إلا على شيءٍ واحدٍ، وهو الإيقاع
…AVE.. MARIA
AVE.. MARIA.. AVE.. MARIA..
فما إن مرت دقائق على الدوي الجديد، حتى نفذ أثره إلى أعماق فراس و
"بالوما".. وبان أن الوهن، والضياع، قد نالا منهما كليهما.. زاد من شدة
كربهما، ما تصاعد من الروائح النتنة لتلك الحشود.. فتحول اشمئزازهما إلى
غثيان.. حتى باتا على قيد ثوانٍ من الجري، هرباً، من ذلك الخضمّ المخيف!
وإذا ﺒ "بالوما" تصيح، فجأة.. وكأن قوة لا إرادية قد تمكنت منها..
-
لنقترب من الكنيسة!.. لنقترب منها!
ردّ فراس، لا يفهم ما يحركها..
-
ألم تتعبي؟!.. بل لنذهب من هنا.. لنغادر المكان!
-
لا..لا!.. لم أتعب!.. لازلت متماسكة!.. أستطيع المقاومة!.. لنقترب من
الكنيسة.. لنقترب منها.. ألا ترى غيرنا؟!.. جميعهم على مثل حالنا.. ألا
تسمع.. هذا الصراخ؟!
بان العذاب مجسداً على وجهها.. أصاب شفتيها بعض التشنج، وتقلصت عضلات
وجهها، فراحت يدها تشدّ وترتخي في عصبية مرضيّة على ذراع فراس.. وهي
تردّد..
-
ألا تسمع.. هذا الصراخ؟!
ثم تراخى جسدها، فجأة..
كان الصراخ قد بلغ ذروةً، بدا لهما فيها، كأنه يصدر عن مذبحةٍ بشريةٍ.. كأن
رجالاً، ونساءً، يقتتلون.. يذبح بعضهم بعضاً، ليشربوا من دماء ضحاياهم!!
قال "جيوفاني"..
-
إنهم يطلبون الشفاعة!
وكان يجاهد، طوال الوقت، لإبعاد المتطفلين عن سيديه.. يدفع هذا، ويركل ذاك!.. إلى
أن قال، في إلحاح وتصميم..
-
إما ان نتقدم وإما أن نعود!.. لا جدوى من الوقوف هنا!!
ردّت "بالوما".. في وهنٍ..
-.. لا أقوى على الحركة.. أكاد أقع..
-.. إلى الكنيسة، إذن!!
وراح يدفع المحتشدين أمامه بعنفٍ، شاقاً ممراً لفراس.. قاد "بالوما" كأنها إحدى
المريضات اللواتي أتين يطلبن الشفاء!.. فإذا بمتسولة تتبعهما، تتطلب حسنة
منهما.. تجري وراءهما، مادّة ذراعها، خلف ظهر فراس.. أمسكت بذراع "بالوما"،
وشدّت عليها!
كانت جميع
القوافل تتابع مسيرتها الدائرية، حول الكنيسة، تطوف وتدور.. يقود كل قافلة
منها، أحدهم.. يحمل رمزاً دينياً ما.. صليباً، أو تمثالاً، أو أيقونة أو
غير ذلك.. يتبعه المؤمنون، يجرّون أقدامهم جرّأً، وقد أنهكت قواهم، حتى كاد
بعضهم يسقط على الأرض لفرط الإعياء، والتعب! يلوحون في الهواء بأذرعهم..
يصيحون.. ويزعقون.. ويولولون، لدى مرورهم بباب الكنيسة، ولدى سماعهم ما
ازدادت حدّته من جُؤار أولئك الذين وقفوا داخلها، قرب الصخرة المقدسة،
فحظوا بنعمة الانبطاح عليها، وطلب الشفاعة والبركة!!
…AVE.. MARIA
AVE.. MARIA.. AVE.. MARIA..
راحوا يضربون صدورهم!! يمزقون ثيابهم!! يلطمون وجوههم! يجرّ البعض أقدامهم
جراً، وقد شخصت عيونهم في الفضاء، كأنها لم تعد ترى ما أمامها!!
سقط فريقٌ منهم على ركبهم.. فهرع إليهم أناسٌ، من قادة القوافل، لجأوا إلى
لعنهم، وشتمهم، لما تسبب به سقوطهم ذاك، من تأخيرٍ في سير القافلة!.. فتنهض
الأجساد المتهالكة.. وتعود إلى الزحف، مرغمةً يزداد زعيقها، وصراخها، وهي
تعود إلى سابق حالها في اللف، والدوران.. تدور، وتدور.. يزداد التصاق
الناس، وتداخل القوافل بعضها ببعض.. فتزداد كثافة الحشود التي تحلّقت
حولهم.. حشودٌ، راحت تدور معهم، حتى أصبحت ألوف الأجساد التي حول الكنيسة،
مدّاً واحداً.. جسداً واحداً، يدور ويدور.. يعذب نفسه.. يمزق أعضاء
جسده.. يمارس على نفسه جميع ما يمكن تصوره من قسوة وحشيةٍ.. حتى غابت جميع
المعالم الإنسانية عن تلك الحشود!! لم تعد، بشراً يمشي.. بل كتلة متماسكة،
صمّاء عمياء.. صنفاً غريباً من أحد أجناس الحياة.. يدور.. ويدور.. يدبّ حول
صرحٍ مقدسٍ.. تقوده قوة مخفية، مجهولة!!.. يصرخ.. ويصيح.. في نفسٍ واحدٍ،
صريح..
…AVE.. MARIA
AVE.. MARIA.. AVE.. MARIA..
كان
الإعياء والشحوب قد بلغا مبلغاً على وجه "بالوما" حدا ﺒِ "جيوفاني" إلى
التدخل.. فقال في حزم..
-
إن الوقوف هنا لن يزيد الأمور إلا سوءاً.. يجب التحرك.. الآن!
نظر إلى الأجساد التي اكتظت، وتدافعت على باب الكنيسة، ومن فوقها، بانت في
الداخل، أوشحة الأبخرة الزرقاء، التي تبرق من خلالها أضواء مئات الشموع،
فقال في تصميم..
-
لن نستطيع الدخول إلى الكنيسة.. من هذا الباب!.. إني أعرف مدخلاً آخر..
وأشار إلى
فراس بالتمسك جيداً بالفتاة، واللحاق به.. ثم راح يدفع من كانوا أمامه،
بكفيه.. تاركاً مكانه، على باب الكنيسة، لغيره، متجهاً نحو جدرانها
الخلفية!.. فتبعه الزائران المنهكان.. يستجمعان من أعصابهما، بقايا قوةٍ،
تعدهما بالخلاص!.. يسيران لا رغبة في الوصول إلى هدف ما، بل خوفاً من
السقوط على الأرض.. نهبة لنعال وأقدام تلك الكتلة البشرية، المتحركة،
العمياء!!
فتح "جيوفاني" باباً قديماً صغيراً، رصف الجدار المحيط به بمئات، ومئات قطع
الرخام التذكارية.. كلُ منها تحمل اسم وتاريخ البركة التي تلقّاها أحدهم..
تبعه الزائران، على الفور، دلفا إلى شبه غرفةٍ، أو ممرٍ
حجريٍ عريض.. معقود السقف.. تبين لهم، في آخره، منفذٌ إلى أوشحة الأبخرة
الزرقاء، وما
راح يبرق عبرها من نور الشموع البرتقالي.. داخل الكنيسة..
كان سقف الممر مرصوفاً، هو الآخر، بنماذج واقعية، لما تلقّى البركة، أو
الشفاء، من أعضاء جسد الإنسان!.. علقت عليه.. أو تدلت منه.. نماذج عن
الأيدي والأذرع، والأرجل، والأقدام.. نماذج عن الأفخاذ، والركب.. والوجوه
والأثداء.. معظمها من الشمع، والباقي من الخشب أو الحجر، رسم عليها جميعها
في دقة مدهشة، نوع العلة التي كانت تقاسي منها.. فبانت عليها الندوب،
والجروح، واضحة، إلى جانب التعفنات والقروح!! بانت الأورام والالتهابات
بأنواعها الحقيقية.. فبدا ذلك السقف المخيف، كأنه أرض مشرحة، في مشفى..
صُفّت عليه قطع الجثث التي أصيبت بجميع أنواع الأمراض، وجميع أسماء العلل!!
أما على أرض ذلك الممر، فلقد تمددت، وتهالكت، عشرات الأجساد، جميعها من
الشيوخ، أجسام أولئك العجزة الذين سقطوا أمام محراب الكنيسة مغشياً عليهم..
أزيحوا عن المذبح، ليُفسح المجال لغيرهم.
جيء بهم إلى ذلك الملاذ، فصفّت أجسادهم، جنباً إلى جنب، كما تصفّ الجثث
أثناء وباء الطاعون!.. لا ترى منها إلا أكتافها المتهالكة، ورؤوسها
الشائبة.. أو الصلعاء.. يسيل اللعاب والزبد من أفواهها، وقد ارتخت أشداقها،
وتهدلت شفاهها!!
كان أحدهم قد وصل.. متهالكاً، ينوء بحمله رجلان.. يسيل الدم من أنفه، ومن
جروحٍ على وجهه!.. تدلّى رأسه، فراح يترنح أمامه، مع إيقاع خطوات الرجلين..
يتأرجح، تارة إلى اليمين، وتارة إلى اليسار، تتساقط قطرات دمه على ثيابه،
وشفتيه، وذقنه!!
لم يكن ذلك الكهل قد نال البركة.. فتعالت الصيحات من خلفه!
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
وكان صراخاً مريعاً، مخيفاً.. أشد ضراوة من صراخ إنسان يحرق على النار!!
جؤارٌ أشد رهبة من عويل إنسانٍ يلاقي حتفه خنقاً، في بحرٍ من الظلمات!!
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
امتدت ألوف الأذرع في ضراعة، نحو المذبح.. في تشنج وحشيّ!! .. ركعت النسوة
على ركب يسيل منها الدم.. تبكي وتنتحب.. تشدّ شعرها.. تضرب أوراكها.. تلطم
بجباهها الأرض، وهي تتلوى في تشنجاتٍ شيطانية!!
كان عدد منهن قد انبطحن، ووجوههن إلى الأرض، بلغ بهنّ التشنج أن ارتفعن
بأجسادهن المتصلبة، لا يرتكزن إلا على أكواعهن ورؤوس أصابع أقدامهن!! رحن
يتقدمن من المذبح، خطوة، خطوة، يقمن أثناء ذلك بحركات أفعى جريحة.. تزحف في
انتفاضاتٍ متتالية! وكانت أيديهن، خلال ذلك، ترتجف أمام رؤوسهن، دون أن تمس
أفواههن المفتوحة عن ألسنٍ مشققة، تدّلت، وهي تقطر دماً.. ينزلن بها على
الأرض المرة بعد المرة.. ليرسمن بها الصليب، على ترابه، بلعابهن الدامي!
بينما وقف رجل أمامهن، وفي يده عصا، راح يدّق بها على الأرض، يشير لهن من
حيث لاينفع السمع.. يصحح اتجاههن، كي لا يحدن عن وجهة المحراب!!
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
كان قد ركع إلى جنبي هؤلاء النسوة المتضرعات، عدد آخر من النساء، رحن
يراقبن العذاب، ودموعهن تسيل على وجوههن، تشددن من أزر الزاحفات.. يحثّهن
على المضيّ في درب العذاب! ما إن تبدي إحداهن علائم التراخي أو الإغماء،
حتى تسعف، فرفع من إبطيها، أو يمسح جبينها بخرقة مبللة..
وكان بكاء هؤلاء يزداد لعذاب الأطفال، والشباب، والشيوخ، ممن ينتظرون دورهم
للتقدم من المذبح.. لا يصبحون جديرين بالنظر إلى اللوحة التي صوّرت معجزة
الشيخ والعذراء.. إلا إذا مرّوا بدورهم فوق الأطلال التي رسمتها خيوط
اللعاب ذاتها!.. يلطمون جباههم على الأرض الصخرية التي تناثرت فوقها أشلاء
صغيرة ممزقة من اللحم البشري!!
جميع هؤلاء، أخذوا يشحّطون على الأرض.. يقومون بتلك الطقوس، طلباً للبركة،
أو وفاءً لندرٍ، أو أملاً بشفاءٍ من مرضٍ عضال!! يصيحون، ويزعقون..
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
* * *
تجمعت حول المذبح أمهات، جفّ من صدورهن الحليب، كشفن عن أثدائهن للعذراء،
يطلبن منها العون!.. وإلى جنبهن، أزواجٌ، رفعوا على أذرعتهم أطفالاً،
رضعاً، جفت أجسادهم من نقص الغذاء، يندّ عنهم عويل مروع مشابه لعويل ذلك
الطفل الذي امتصت روحه الغيلان!! وإزاء هؤلاء، وقفت نساءٌ عاقراتٌ.. ينظرن
إلى أجساد الأطفال الضامرة، في هلعٍ.. يضربن على بطونهن.. يقدّمن، كتضحية،
ثياب الزفاف، وما لديهن من ذهب..
-
أيتها العذراء المقدّسة، باركيني، باسم هذا الطفل الذي بين يديك!!
كنّ في البدء، يخاطبن العذراء، في صوت خفيضٍ، كأن له القدرة على تجاوز
الزعيق، والعويل، للوصول إلى لوحتها.. وإجراء اتصال خفيّ مع قدراتها.. لكن
سرعان ما كنّ يرفعن أصواتهن، بالتدريج.. بعدما يجدن أن التوسل، بواسطة
الإقناع، لا طائل من ورائه!.. فيبدأن صياحاً ملحّاً، يزداد حدّة، حتى يبلغ
زعيقهن درجة الجنون!.. كأن شدة الصوت، في ذاتها، قادرة على النفاذ إلى قلب
العذراء، التي تنظر إليهن من اللوحة في سكون!!
-
باركيني!!.. باركيني!!
ثم يتوقفن، فجأة، وقد انتفخت أوداجهن، وكادت عروق أعناقهن أن تنفجر!!..
ينظرن، في تمعّنٍ، إلى تقاطيع وجه العذراء، في اللوحة، علّهن يلحظن على
معالمها تغيراً، يشير إلى أنها تقبّلت الدعاء!!
كانت جموع الوافدين تمرّ أمام شباكٍ حديديةٍ، تفصل المذبح عن المصلّين..
ومن وراء تلك الشباك، وقف الكهنة صفاً واحداً، يتلقون الهدايا والهبات، من
نقودٍ ومجوهراتٍٍ، تنهال عليهم، فيسارعون لتسلمها من أصحابها، مستخدمين في
ذلك أيديهم وأذرعهم، فتهتز أجسادهم بموجب الحركة السريعة للأخذ والتسليم،
فيبدون، كمهرّجين، يقومون بدورٍ هزلي، داخل أقفاص "سيرك" غريب!
راحوا يدفعون بتلك الهبات إلى من وراءهم، فكان يسمع لتراكمها على الأطباق
الكبيرة، وقع معدنيّ، تنصت له آذان صفٍّ آخر من الكهنة، الكتبة، جلسوا إلى
مائدة مستطيلة، كانت الأطباق توضع عليها، فتجرد الهبات، وتُفحص، ثم تُدوّن
أسماؤها، وقيمتها، على السجلات التي أمامهم!
وينهض أحد الكهنة بين الفينة والأخرى، فيسمع قرع الأجراس الصغيرة، وتهتز
المباخر العارمة، فتختلط رائحة القذارة، والمرضى، والصديد، برائحة العطر
المقدس..
_*
Ora Pro nobis sancta Dei Genitrix Ut
digini efficiamur promissionibus Christi..
وبين الفينة والأخرى.. يحلّ صمتٌ مخيفٌ، كأنه هدوء ثوانٍ، وسط إعصارٍ هائلٍ
مجنون.. كان يسمع فيه، باللاتينية.. وبحروف واضحةٍ..
_**
Concede nos famulos tous!
[*صلي
لأجلنا يا أم الله القديسة لكي نستحق وعود المسيح..]
[**مُنّ
علينا بهباتك..]
* * *
تباعد من كانوا يسدّون المدخل الرئيسي، تحت القوس الكبيرة، وبان على
العتبة، زوجان شابان، يرافقهما رهطٌ كبيرٌ.. جميع أفراد أسرتيهما.. تقدموا،
وسط طنين الذهب، وحفحفة الحرير..
كان للزوجة مظهر ملكةٍ بربريةٍ، عريضة الحاجبين، معقودتهما، قوية البنية،
مشرقة الوجه.. جمعت شعرها الأسود اللامع، في ضفيرة عريضة، ارتكزت على
كتفيها.. زمّت في البدء فمها الدموي، ثم كشفت أسناناً توضّعت في غير
انتظام، تعلوها شفة غليظة، بان عليها وبر الرجولة! سارت في وقارٍ، مأخوذة
بما هي فيه، غير آبهة بما حولها، تجلّى حول عنقها عقدٌ من حبّات الذهب، لفّ
جيدها، ثلاث مرات.. ومن أذنيها، تدلّى قرطان كبيران من التبر المحلّى
باللؤلؤ.. وحول أصابع يدها التي أحاطت بكتف زوجها، برقت أنواع الخواتم،
جميعها مرصّعة بالحجارة الثمينة!
سار زوجها إلى جنبها.. وكان يافعاً، أمرد، رقيق البنية، شاحب الوجه.. تكسو
ملامحه كآبة ظاهرة.. يسير إزاء زوجته، كأنه يشترك معها في حمل سرٍ رهيبٍ،
بدائيّ الجذور!
تباعد المحتشدون فجأة، يفسحون الطريق لهما.. يسير رهط من الأقارب من
ورائهما، يواكبهما، في شكل حلقة كبيرة، متماسكة.. ما إن اقتربت من الشباك
المعدنية التي تفصلهم عن المذبح، حتى وقفوا قبالتها، جميعاً، في صمتٍ
كئيبٍ، ورفع الزوجان أنظارهما إلى العذراء، يطلبان إعادة الرجولة
المسلوبة.. إعادة ما سرقه السحر، من الشاب، من مقدرته على إزالة بكارة
زوجته! طالبا بذلك، في دعاءٍ حييّّ صامتٍ.. توجها به إلى العذراء.. لكن
والدتيهما اللتين توسطتا حلقة رهط الأقارب الذي أحاط بهما، تقدمتا خطوتين
منهما، ووقفتا خلفهما، تلوحان بأذرعٍ مشدودةٍ قاسيةٍ، تعبت ليلة الزفاف، في
رشّ القمح المُخصِب على الزوجين، دون جدوى!
صاحتا بصوتين حادّين، تعيسين..
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
وفي صمت
كئيب، راحت الزوجة الشابة تخلع خواتمها، خاتماً، خاتماً! ثم فكّت عقدها
العائلي، والمتوارث منذ مئات السنين!.. تخلّصت من جميع ما تحلّت به.. جمعته
في كفّيها، وقدمته، صامتة، شاخصة، إلى المذبح!!
-
خذي، أيتها العذراء المقدسة!!
وصاحت الوالدتان في صوتٍ بُحّ من شدة الصراخ!!
-
خذي أيتها العذراء المقدسة!!.. خذي!!
كانت كل منهما، تلحظ الأخرى.. تراقب ما إذا كانت تضاهيها في شدة التوسل،
وقوة الدعاء..
-
خذي!.. خذي!!
وراحتا تنظران في لهف واجفٍ، إلى ما يتساقط من ذهب الأسرة في أيدي
الكهنة!.. ترقبان، في لوعة ظاهرة، ما جمع ثمنه عبر أجيالٍ طويلةٍ من الكدّ
والعناء!!.. من شقاء فلاحة الأرض، وجمع بذورها، وثمارها!!.. حليّ، حفظت في
ظلمة الخزائن الحديدية، سنين طويلة، لا ترى النور إلا في مناسبات الزواج..
جيلاً بعد جيل!
شاهدتا تلك الحليّ البرّاقة تتساقط.. وتتساقط.. تبتعد عنهما فجأة، لتختفي
من حياتهما إلى الأبد!! وفجأة، أحستا بوقع الصدمة الفادحة، على نفسيهما،
وأصابهما يأس شديدٌ تغلب على شكليّات الطقوس، فاستسلمتا للعويل، و النحيب!!
كانت عدوى المفاجأة قد سرت بين الحشود التي كانت تشاركهما لوعتهما لفقدان
الذهب!.. فاشتركوا، جميعاً، مع أفراد الأسرة، في نحيبٍ مدوٍ.. يصيحون فيه..
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
ما عدا الشاب الحزين!.. فقد ظلّ صامتاً، ينظر إلى صورة العذراء، في حزنٍ، ويسيل
على خدّيه جدولٌ من الدموع!
* * *
وقف فراس كما في الحلم، ينظر إلى ما يدور حوله.. يراه حيناً، ويضيع عن
تمييز تفاصيل وقائعه، أحياناً.. تدفع به وﺒ "بالوما"، جموع الحشود.. فيفيق
إلى وعيه.. ينظر حوله، من جديد.. يراقب أدقّ التفاصيل، لما يجري حوله!..
يدقق في تقاطيع الوجوه، ورائحة الأجساد!.. فيرى أناساً، لا أسماء لها.. من
عالم، لا إسم له!.. تقوم بطقوس غريبة.. عن روح جميع الفلسفات والأديان!..
كأن الجنون قد تملّك إنسانية غريبة..لا علاقة له بها البتة!.. إنسانية
تشكّلت من موادّ عضوية غير التي صنع هو منها!..تقوم بحركات، وإشاراتٍ،
وصيحاتٍ، ما عرف حتى تلك اللحظة، أن العواطف البشرية، كما كان يفهمها،
قادرة على تحريكها، في تلك الأجساد والنفوس!!
كانت وفودٌ جديدةٌ قد حلّت محلّ تلك التي تركت المذبح!
ازداد الزحام في الكنيسة حتى تجاوز، بعضهم، وغطى، فسحة مسرح التضحيات
الصغير!.. فتقدمت امرأة، تشبه حيّة رقطاء، أزالت أمراضها الجلدية معالم
وجهها.. رفعها ذووها عن الأرض، فأمسكت بالشباك الحديدية، وراحت تهزّها،
هزّاً عنيفاً!! تصيح صيحات مخاضٍ، ومؤلمٍ، لا يفهم معناه!.. فتتجاوب الحشود
مع صراخها!.. وتصيح الجموع بصوت واحد!
-
يا عذراء!!.. يا عذراء!!.. يا عذراء!!
* * *
نظر فراس خلفه، يبحث عن "جيوفاني"، فتنبه إلى أن الرجل كان قد أحاطه، مع
فتاته بذراعيه، دون وعيٍ من أيٍ منهما، وأنه كان يشدّهما إليه بقوة،
فيقيهما ذلك من السقوط.. ولعل "جيوفاني" أدرك أنه بات عليه، هو، اتخاذ
القرار، فبادر إلى سحبهما بشدّة.. يدفع الناس من ورائه، بكفيه وظهره.. يركل
من حوله بقدميه، ويتراجع، خطوة، خطوة، وقد طوّق بذراعيه كلاًّ من فراس
و"بالوما" التي طفقت تجرّ قدميها، وقد استسلمت إلى شبه غيبوبة صاحية..
كانت جميع الأصوات قد تجمّعت واتحدت، كأن ذلك العويل الذي يشقّ الصدور، صار
عويلَ إنسانٍ معذّبٍ واحد!! وبات ذلك الدم المهروق، ينزف من جراح جسدٍ
واحدٍ.. وأرواح ألوف تلك المخلوقات، أضحت روح مخلوقٍ واحدٍ!! إنسان، شقيّ،
متعبٌ، مريضٌ، يُطلِق صرخةً واحدةً!! يرتعش، بانتفاضة واحدة!! ويتأجّج،
بغضبة واحدة!!
تجمعت، جميع العلل والأمراض، في علّة واحدة!! وتركزت، جميع المطالب، في
أملٍ واحدٍ!! أملٍ، كان على العذراء المسكينة أن تلبيه!!
-
امنحينا البركة.. يا عذراء!.. ياعذراء!!
* * *
كان الخروج من ذلك الجحيم مؤلماً، مروعاً، محرّقاً، على مثل ما كان الدخول
إليه.. وبان على "جيوفاني" أنه نال قسطه من العراك، والتعب، ولولا الأمل
بالخلاص السريع من بؤرة الآلام تلك، لما وجد فراس من نفسه بقية عزيمة دفعته
لمشاركة "جيوفاني" في شقّ الطريق ﻟ "بالوما"، المنهكة، الخائرة القوى،
ولمساعدته على حملها، من حين إلى آخر!
كان اللصوص والمحتالون، والمراوغون، وجميع من لفّ حولهم، ممن قدموا إلى
السهل بغية الربح، ينتظرون خروج أولئك الذين طلبوا البركة من المذبح،
يعلمون، سلفاً، ما ستكون عليه حالتهم من الإعياء واليأس.. فيلاحقونهم، رغم
علمهم بأن هؤلاء المساكين قد تركوا وراءهم معظم ما معهم.. يتبعونهم، بغية
تجريدهم من القليل، مما تبقى لديهم من طعامٍ أو ثياب!! وكان مظهر "بالوما"
يوحي بأنها، هي الأخرى، قد حاولت نيل البركة، ولم يبدُ عليها ما يشير إلى
أنها ضحّت بجميع ما تملك من حليّ!
كانت درباً شاقةً، كاد "جيوفاني" خلالها يلجأ إلى المِدية الطويلة التي
استلها، تحسباً للطوارئ!.. ولولا بريق شفرتها الحادة، في يد رجلٍ على مثل
تقاطيع وجهه، المتجعدة الصارمة، ولولا ما يرتديه من ثيابٍ أهل المنطقة، مما
دلّ على أنه ليس من عداد أولئك الذين أتوا إلى كنيسة العذراء، طلباً
للبركة.. لكانت اللصوص تمكنت منه، ومن صحبه.. ولكان لا بد التقى، بين أولئك
اللصوص، بمن يعرف كيف يحتال على مِديةٍ، في يد فلاّحٍٍ بسيط!
توقفوا برهة، يستريحون، وكانوا قد اجتازوا معظم المسافة التي تفصلهم عن
العربة.. نظروا من حيث ارتفعوا فوق جزءٍ من السهل.. فإذا الكنيسة، وأطلال
الدير، تبدو لهما من بعيد، كبقايا صروح ينداح حولها إعصارٌ أسودٌ ينبع سطحه
من بطن الأرض.. يدور حولها، في بطء.. يوشك أن يتسارع ويرتفع، ليبتلع
الجميع!
أدار فراس وجهه، بغتة، بعيداً عن المشهد.. وكانت "بالوما" غارقة في النظر
إلى الجهة الأخرى.. فقال..
-
..لن أستطيع النظر إلى مثل هذه المشاهد.. بعد اليوم!! لن أمرنّ بعد اليوم
بمثل هذه التجربة! أو بأية تجربة مشابهة!!
ردّت "بالوما" في وهنٍ شديد..
-
أنا، "مكسيم" أنا.. أخذت قسطي من حاجة عيني إلى النظر!.. "مكسيم" إني أحسّ
الآن كأن عيناي ترفضان النظر إلى أي إنسان.. كائناً من كان!!.. كأنهما
أصيبتا بإشباعٍ غريبٍ!!
هزّ رأسه، يرفض الانصياع لفكرة أن الذنب كان ذنبها، وأنها هي التي أرادت
المضيّ في تلك التجربة..
أدركت ما يجول في خاطره.. فهمست.. تختصر العتاب..
-
لا تلق بجميع اللوم على كاهلي وحدي!.. لقد أدركت، منذ البدء، نوع السحر
الذي كان يجذبني إلى هذه العوالم التي كانت مجهولة لديّ!
ورفعت يدها إلى رأسها، في إعياء.. كأن الكلام قد استنفذ منها آخر قطرات
الحياة.. شحب وجهها فجأة.. فشدّ فراس على خصرها، يمنعها من السقوط، وتلفّت
يبحث عن "جيوفاني" الذي كان يشير إليهما من بعيد، وقد عاد بالعربة، من حيث
تركها، في رعاية الحرّاس..}
* * *
(ص302-305)
{- بل أنت لا تزالين على ما كنت.. "بالوما"!.. وإذا كان لابد لك من معرفة
ما أحسه.. فلا بأس في أن أقول لك، الآتي.. إنك ما زلت ذلك الجسد الجميل،
والوجه الساحر، والنفس التي تخفي كنوزاً من الطيبة والعذوبة!.. لكني..
لعلّي كنت أحاول، في الماضي، أن أكتشف فيك غير كل هذا!.. كنت أبحث فيك عن
أمورٍ أجهل كنهها!.. جذورٍ، أتشوق لمعرفتها، والآن، وقد أدركت وحدي ما يمكن
أن يواجهه المرء من عوالم غريبة، إذا ما هو حاول المضيّ قدماً في اكتشاف
الجذور، فإني أتراجع عن هذه المهمة، وأنا راضٍ!!
ردّت "بالوما"، على الفور..
-
ولماذا لم تقل منذ البدء؟!.. إنك باختصار شديد، تحمّلني شيئاً مما كرهتَ
اليوم!.. إنك باختصار شديد.. تنسب ما بنفسي، إلى تلك الجذور التي شاهدت أحد
اشكالها المخيفة اليوم!
مدّ فراس يده فوق المائدة، يمسك بيدها المرتجفة، قال، وابتسامة صادقة حنون
على شفتيه..
-
"بالوما" ثقي إني لا أحملك، أنت شخصياً، أي لوم، بخصوص أية تجربةٍ، خضناها
معاً، هنا.. وإنك رغم ما قلته البارحة، من فهمك لما يحرّك هذه الأرض، وما
تعرفينه عنها، وتشاركين بالإحساس به من حرارتها، أقول، إنني رغم هذا، لا
أنسب جميع جذورك إليها.. جذورك، الواعية منها على الأقل!.. كل ما في الأمر،
هو أني أدركت بعدي، أنا عن جميع ما يمور وينمو، فوق هذه الأرض، من شجرٍ،
وعشبٍ، وهواء! لم أقل: إني أدركت ما يبعدني عن أهلها.. وأهل غيرها، من سكان
هذه القارة!.. فهذا أمرٌ كنت قد أدركته من قبل!!.. أقول لك الآن، ما هو
أهمّ، وأدهى.. لقد أدركت أني بعيدُ، غريبٌ، في أعماقي، حتى عن طبيعتها..
طبيعتها التي كنت لا أرى فيها، من قبل، إلا روعة جمالها وسحرها،
الخارجيين!!
-
يا إلهي!.. "مكسيم"، ماذا تقول؟!.. ما هذه المبالغة؟!.. هل تعني ما تقول؟..
هل صرت تكره حتى الأشجار، والقمر؟!
وقامت إلى النافذة، تفتحها على مصراعيها، وتشدّ فراساً إليها، ليشاهد
المنظر الخلاب الذي تشرف عليه.. وسألت في عصبيةٍ، حائرة..
-
هل تكره هذا!.. هل بتّ تكره نور القمر؟!.. نوره الفضيّ على سطح هذه البحيرة
الساطعة؟!
لم يلتفت إلى الوادي.. نظر فراس إلى وجهها الجميل، وردّ في هدوء..
-
كنت أرى في هذا المنظر، سطحه الخارجيّ، الخلاّب!
وأمسك بوجهها بين يديه، يطبع قبلة على شفتيها، غير آبه لدهشتها لكل يفعل،
ثم تركها، وأردف..
-
كما كنت أرى في وجهك الجميل، بشرته الرائعة.. ثغرك الشهيّ..
-
والآن؟.. والآن؟.. هيّا قلها!
-
والآن صرت أنظر إلى ما وراء الوجوه، إلى ما وراء البشرة الشابة، أو
المتجعدة!.. أليس هذا ما دفعني للبحث عنه، بالأمس؟!.. صرت نظر إلى ما تبرق
به العيون، وليس إلى لونها، وشكلها فقط!.. صرت أنظر إلى ما تودّ التفوه به
الشفاه، وليس إلى ارتجافة الشهوة فقط!!.. بل أقول لك أكثر من ذلك.. أنا لم
أعد أكتفي بما تتفوه به الشفاه، بل صرت أنظر إلى ما يحضّ هذه الشقاه على
الكلام!.. وإلى ما يختفي وراء القدرة على الكلام ذاتها.. من قدراتٍ أخرى،
وهكذا دواليك!.. هل تفهمين ما أعني، هل يكفيك ما سمعت؟.. أو أزيد؟!
كانت "بالوما" تنظر إليه، وقد ضاع ذهنها عن معظم ما قال.. أدرك فراس ذلك،
لكنه لم يكترث لشرودها.. أدارها نحو النافذة، في رفقٍ، وتابع قوله..
-
"بالوما" إن الدين لشيء، والطقوس لشيء آخر!.. إن أوربا لم تخترع المسيحية،
بل اكتشفتها.. والتعاليم المسيحية التي أتت إلى أوربا من الشرق، عبر عبيد
روما، وغيرهم.. إن هي في الأصل إلا تعاليم شرقية‘ رائعة.. موجودة في أناجيل
طاهرة.. لا مجال للاختلاف عليها.. ولم تدع للقيام بأي طقس من مثل هذه
الطقوس اليونانية، والرومانية، الجذور!..
إن نور فلسفة المحبة الشرقية لم ينتشر، في أوربا، إلا بعد انعكاسه على مرآة
رومانية وثنية.. وأخرى يونانية بحتة.. لذلك نراه اليوم قد تلون بطقوس آلهة
روما الإغريق.. لدرجة أن الشرق ذاته، قد نسي النبع، وبات اليوم لا يتوجه في
صلواته إلا إلى تفاسير هاتين القبلتين الغربيتين!.. إن تعاليم الروح
والمحبة كانت ضد المعابد، والمتاجرة فيها.. والمعابد في أوربا اليوم أصبح
لها بنوك وشركات استثمار.. بل لقد كانت لها جيوشٌ، حتى عهد قريب!.. إن الذي
شاهدناه اليوم، مما قام به الحجيج، إنما كان طقوس هذه البلاد.. بلاد
الغابات والجبال، والأشباح والأرواح المتخفية وراء كل شجرة، وكل صخرة!..
بلاد الخوف من القدرات الطبيعية المجهولة.. يعطيها الإنسان ما يملك، في
خوفٍ، وهلعٍ.. كأنه يستسلم إلى قاطع طريق!
إن الإنسان، في أوربا، إن هو في الأساس إلا مخلوقٌ ذو تركيبٍ نفسيٍ ضعيف..
إنسانٌ غبيٌ، يميل إلى الشعوذة.. ولعل ذلك مردّه إلى ما اضطرته القرون
الطويلة لمواجهته، باستمرار، من ظروفٍ حياتيةٍ طبيعيةٍ من أقسى وأشد ما وجد
على هذه الأرض!.. "بالوما" إن قوة الإنسان الأوربي، جسدية وظاهرية، بناها
وفق ما اضطرته ظروفه القاسية لبنائه من وسائل دفاع.. فلئن كانت الشدة
والتقلب، تقيدان في بناء جسد أقوى.. إلا أن مواجهة المجهول، وبشكل مستمر،
متقلب، يضعف التماسك والبناء النفسي.. خصوصاً، حين يضطر الإنسان، كما هي
الحال في أوربا، إلى إيجاد أجوبة مؤقتة، تتماشى مع سعة علمه المؤقتة..
أجوبة، لا يلبث أن يضطر إلى تحطيمها، جيلاً بعد جيل.. يضطره المجهول لخلق
آلهة على شكله وشاكلته، تتوافق مع إدراكه ومقتضيات حياته اليومية.. آلهة
تحمل نقصه، وشهوته، وتناقضاته.. ثم لا يلبث أن يحطمها، ليتبع آلهة أخرى،
أنسب له من الأولى تتوافق مع ظروفه الجديدة!.. إن الإنسان الأوربي،
اليوم، لا يزال في أعماقه إنسان غابات!.. غاباتٍ باردة، مظلمة.. رغم آلاته
وحضارته الآلية.. فهو ما يزال يرتعد من المجهول الذي قد ينقض عليه، والذي
يخافه، منذ الأزل!.. وفي كل لحظة!.. فكيف يتخلى عن وسائل دفاعه اليوم، من
مال، وجاه، ولباس، ومظاهر قدرة؟!.. لذلك تجدين أنه حتى المؤسسات الدينية
هنا، لا تقبل بالتخلي عن مثل هذه الوسائل الدفاعية الخارجية!.. ألا ترين
المعنى الحقيقي لأزياء رجال الدين؟! لذلك لم تقبل أوربا، منذ البدء، تعاليم
البساطة والتقشف التي هي أسمى التعاليم، وألبستها هياكل الطقوس الوثنية
التي لا يمكنها التخلي عنها!! وجميع ما قلت، إنما أسبابه كامنة في الوجه
المخيف للغابات، التي تكسو هذه الجبال!.. خلقت أناساً لا يرهبون الغيلان
فقط، في "أبروتزي" إيطاليا، بل جعلوا منها مخلوقات مخيفة، لا يخشون
"النيبيلونغ" في الغابة السوداء، في ألمانيا، بل أسكنوها مياه نهر
"الراين"!.. فتّشي جيداً.. وستجدين أن لكل غابةٍ، في أوربا، شياطينها،
وعفاريتها الخفية!!..
بدت "بالوما" مأخوذة بما تسمع، وإذا بها تنظر إليه في تمعن، وتقول ساخرة..
متحدية..
-
"دون ماكسيميليانو"!.. هل لي بمعرفة كيف تترفع أنت، عن هذه النظرية
الأوربية الغيبية للكون؟!.. لئن كانت جذوري، أنا تمتد إلى هذه الأرض
القاسية، التي أنتجت هذه العفاريت، وتلك الطقوس الغريبة.. فهل لي بعرفة أية
أرض ينتسب إليها "دون ماكسيميليانو"؟!
تشاغل فراس عن الإجابة برهة، أشعل لفافة، وهو يتيح ﻟ "بالوما" الوقت الكافي
ليهدأ بالها، لعلها تفهم ما سيقول لها..
-
"بالوما"، إن في أوربا بقعة، كأنها من أرض الشرق الذي نبتت فيه جميع
التعاليم المقدسة!.. فكيف تسألين مثل هذا السؤال، وأنت ابنة إسبانيا،
والأندلس؟!}
القسم الثاني
(ص330-333)
{نظر إلى السماء، ثم التفت حوله مفتوناً.. لا يصدق، للمرة الثانية، ما رأت عيناه!
بدت.. قبة السماء العالية، زرقاء داكنة.. يوشح أطرافها، التي تهدلت على آفاق
دمشق، شريط من ذهب الشفق .. غطّى بعضه سفح قاسيون الذي تلألأ بأنوار خفيفة،
تحدرت، حتى تمازجت مع عتمة وسط المدينة.. ثم غابت في متاهات رسمٍ، منبسطٍ..
حيك من ألوف الأسطحة الدمشقية المستوية! أشكالٌ هندسيةٌ، متشابكة.. معشّقة
بنور الشفق، مكحّلة، بما يفصلها، بعضها عن بعض، من فسحٍ ضيقةٍ مظلمة.. وفي
وسط ذلك البساط المزركش، المديد الذي يعجّ بهمس الحياة، ودبيبها الأزلي..
شمخت مآذن الجامع الأموي الكبير! ثلاثة صروحٍ جليلةٍ، مهيبة فارعات
الطول!,, مشرقات الوجوه! مجلّلات بإضاءة نحاسية، عذبة.. بدت، من حيث وقف
فراس، على أقدامها.. شاهقات الارتفاع! تجاور قبة السماء!.. تهيمن على
قاسيون، وجميع ما تحلق حولها من حياة المدينة! صروحٌ ثلاثة.. شواهد
ثلاثةٌ.. تلهج للإسلام بالعزّة.. ولأمية بالفخار.. تذكّره بما نبض به قلب
المدينة يوماً.. فترددت أصداؤه من الصين، حتى بلاد الأندلس!!
لم يدر، كم أمضى من الزمان، وهومسحور بما رأى..
تعود في الماضي، رؤية قلب مدينته، عن بعدٍ.. من سفح قاسيون.. أو فوق أسطحة
العمارات.. يدرك أنها التاريخ، لكنه يراها، كما التاريخ.. نائيةً عن
عالمه.. منفصلة عنه!.. لا يستطيع الاقتراب منها، إلا بما تسمح به الطرقات
والدروب الضيقة، وزحمة المساكن.. فلا يرى قلب المدينة إلا مقترناً
بالإهمال، وضوضاء البشر!
في تلك الليلة.. جلس حيث كان، وقد انتابه الخشوع، أمام ما تراءى له من عوالم كانت
خافية عليه!
كان تاريخ بلده، حتى تلك اللحظة مبعثراً في ذهنه.. وأحداثه، محطّات، متباعدة، على
طريق طويل.. يبدؤه الإنسان متى ازداد وعيه، ويتناساه مع مرور الزمن.. لا هو
قادر على إيقافه، لدراسته، جملة واحدة.. ولا سبيل للتوقف أمامه، فيستوعب
منه لحظة واحدة، كما يحبّ.. دون احتمال النسبية، أو الخطأ!
وإذا به، في ذلك المكان المرتفع، المعلّق، فوق أسطحة دمشق، كأنه في كرة كونية
للزمان.. ينساب معها، وهو يتربع على مركزها! جلس، كأنه على بساط الريح..
يحوّم بين مآذن الجامع الأموي، يرى التاريخ رأي العين.. يتحلّق ويتزاحم
حولها!!
كم من النوائب أصابت تلك المدينة.. كم من ملايين البشر، تعاقبت على أرضها.. ماتت
فيها.. وتبددت أجسادها في كل ذرة من ذرات ترابها!
ليس تذكّر المرء لموقعة تاريخية ما، مثل وقوفه على بقعة الأرض التي دارت عليها
تلك الموقعة.. يسترجع التاريخ في ذهنه.. حتى ليكاد يسمع صوت السلاح، ويرى
جثث الموتى بأم عينه!
تاريخ دمشق تجسد أمامه في تلك البيوت القديمة المتشابكة.. تلك الصروح المتجددة،
التي ما انفك يهدمها الغزاة، وما تفتأ تعود إلى الحياة.. تهبّ من جسد
الأرض، تمتد، وترتفع في الهواء.. أغصانٌ، تنبت من الجذوع المقصوصة ..من
السوق المبتورة.. مما تبقى من جذور الشجرة الأم المختفية تحت التراب!!
تعود.. مرّة بعد مرّة! موقعة بعد موقعة! كارثة.. عقب كارثة! مذبحة.. تلو
مذبحة! ألف مرة.. بعد ألف مرة!!
كم من ملايين الغزاة حاصروا تلك الأسوار.. وكم من مئات المرات دكّوا قواعدها..
بعثروا حجارتها.. ومزّقوا أجساد حُماتها!!.. تقتحم جحافلهم بيوتها.. تسبي
نساءها، تقتلع أشجارها.. وتردم آبارها.. ثم تتركها.. خراباً، يباباً.. ليس
فيها حجراً فوق حجرٍ.. وما من أثرٍ من كل ما بنى الآباء، وعمّر الجدود!
وكم من مئات المرات.. عاد أهل دمشق إلى البناء من جديد!.. ينكبون على تشييد
الجنائن، والقصور.. يعودون إلى حفر الآبار.. وزرع الأشجار.. يخافون الإسراف
في زينة قصورهم، في البدء، فما إن يهنأون إلى الحياة، ويعيدون تجميل
مساكنهم ببدائع الفن، من رخامٍ وفسيفساء، ورقشٍ وحفر، حتى يذيع صيت
مدينتهم.. فيعود الغزاة إليها من جديد.. يدكّون حصونها.. ويهدمون بيوتها!..
يقتلعون جميع ما تقع أعينهم عليه!.. يسرقون الكنوز، والرخام.. ثم يتركون
المدينة.. هباباً يباباً.. تسرح الأطفال على ركام بيوتها.. يبكون ويصرخون..
ولا مجيب!
وتعود الحياة، من حيث التجأت في الضواحي.. فتقترب من المدينة والخرائب.. في بطءٍ،
ووجل.. يرجع من احتمى من سكان دمشق، في قراها المجاورة، إلى مدينتهم..
يعودون للبناء.. مستخدمين الحجارة، كأسلافهم، حتى نفذت الحجارة.. الكبيرة
منها، ثم الصغيرة!.. يبحثون عن آثار بيوتهم، بين الركام، حتى ضاعت.. أو
يعثر البعض على قواعد الجدران الحجرية، فيهتدون بها.. ويرفعون الأبنية
عليها، باللبن والطين.. على أسلوب الآباء والأجداد.. ويبذلون ما تبقّى
معهم.. الغالي منه، والرخيص.. للحفاظ على روح المدينة، لإعادتها إلى
الحياة، على سابق ما كان لها من رونقٍ وبهاء!
نظرةٌ خاطفة إلى ما حوله، كانت كافية لتُظهر لفراس فلسفةً خاصةً في العمران
المتجدد، المتكرر، عبر الأجيال، في ذلك الجسد المتماسك!.. فما من دارٍ
تستطيع إزاحة غيرها من مكانها.. وما من مالكٍ يستطيع إزاحة جدارٍ من مكانه،
دون هدم الدار المجاورة لها، على أصحابها.. وهكذا دواليك!.. كأن عشرات
الألوف من تلك الدور، بدأت ترتفع عن الأرض، في يومٍ واحد، وحسب إرادة
واحدة، وتقسيمٍ متكافئٍ، واحد!
وكانت الطرق الضيقة تجري بين تلك البيوت المتماسكة، كالعروق والشرايين، بين مختلف
أعضاء الجسد الواحد! .. قد لا يعرف العضو الواحد إلا ذاته.. وقد لا
يعرف صاحب الدار، إلا سماء داره.. لكن ساكن الدار الدمشقية، لا يعيش في
العزلة الممضة التي يعرفها غيره من البشر.. لا يقاسي من ظنٍّ واهمٍ بأنه
ولد، ذا حريةٍ متناهيةٍ، في كونٍ، لا حدود له!,, فهو يعرف أن "حدود حريته،
تنتهي، بابتداء حرية جاره!". لقد علّمته تلك الحكمة، فلسفة طراز البناء
الذي يعيش فيه.. وهو بذلك لم ينتظر فلسفة أوربا، في القرن العشرين، كي يحسن
معاملة الجار.. أو يدرك، كحال الإنسان الغربي اليوم.. أهمية غيره من البشر،
عن طريق حكمةٍ أو فلسفةٍ يذكرهم بها مفكروهم.. في حين يرفضها نظام معيشتهم!
إنسان دمشق القديمة، إنسانٌ متكامل النفس.. متوازنٌ في إنسانيته وعقيدته.. بصرف
النظر عن مستوى علمه أو ثقافته!.. ينشأ مع واقعٍ حياتيٍ صارم، يفرض على
الفرد غدراك حدوده.. بفرض عليه، ويُنمّي فيه، إحساسه بأنه جزء من كلٍّ
متماسك البنيان، وأن خراب جدار الجار، خرابٌ لجداره! وأن قلّة مناعة دار
جاره ضدّ اللصوص أو الغزاة، أو عوامل الطبيعة، ستجلب الكوارث والضرر، على
داره، وذويه!}
* * *
(ص350-351)
{عاد إلى القاعة بعد قليل، وكان قد صرف أحدهم، فلم يجد للمرأة من أثر.. فتلفّت،
برهة، يبحث عنها.. ثم أهمل الأمر.. وتوجه ليتفحّص بقية معالم الدار..
كانت القاعة الشتوية، أصغر من الأولى، وسقفها أقل ارتفاعاً.. لكن زينتها كانت على
مثل روعة زينة القاعة الصيفية.. يزيد من دفئها، ألوانها الداكنة.. واعتماد
الفنان على الأشكال الهندسية المتشابكة، الوقور، في الحفر، بدل صَخَب
الأزهار، الزاهية الألوان، التي طغت على زينة القاعة الأولى..
لم يكن ذلك اليوم قد تنبه إلى المعنى التحليلي النفسي الذي تتضمنه خطوط هيكلية
الفن العربي الإسلامي.. مال إلى الوراء، مسنداً رأسه إلى الحائط.. وأطلق
لنظره وفكره العنان.. يتأمل تفاصيل ما طالعه من زينة السقف، الرائعة..
تبدّى لذهنه أمرٌ لم يكن قد أدركه من قبل.. تجلّت لحواسه معانٍ خفيةٍ، تمور وراء
الرسوم... ينظر إليها الكثيرون ولا يصغي إلى همسها أحد!.. إن تلك التشكيلات
الدائرية، والهندسية المتشابكة.. والزينة المتعددة الأطراف، و الجوانب..
تلك الكتابات المنمقة، ضمن ما لاحصر له من أفكارٍ جمالية.. هذا الفن السامي
الرفيع الذي عجز "إلي فور"* عن التطاول على كماله.. في حين أن أهله
وأصحابه، تعودوه، وألفوه، حتى باتوا لا يرون فيه اليوم إلا خطوطاً هندسيةً
صمّاء!.. هذا الفن الحضاري المجرّد.. إنما ينبعث عن خيال مُبهم مرهف.. يجمع
في بنائه الهيكلي النشوة والشك، والبهاء، والحزن.. يُظهر هذه الإحساسات، من
خلال الانحناءات، والاستقامات، والالتواءات و المتعرّجات، والأفقيات..
وجميع ما تقوى الخطوط على انتهاجه من مسالك تعكس ذهنيةً جماليةً تتوافق مع
ما يتجمع ويتراكم في النفس الإنسانية من عواطف غامضة، معقدة!.. عواطف
تتّخِذ عبر الشكل المرئي، صور المربعات، والدوائر المتواصلة.. المتدافعة..
أشكال متعشقة.. تنساب خطوطها عبر بعضها بعضاً، دون جهد مرئي.. كانسياب
الروح بين النشوة، والبؤس.. بين الحلم، والمنطق.. بين قوة الزوايا، ودلال
الأقواس.. بين نزوات حرية الخطوط الملتفّة المنحنية.. والصرامة المطلقة
التي هي من خواص الشكل الهندسي..
[*كاتب وناقد فرنسي، اشتهر بأسلوبه الأدبي في النقد] }
* * *
(ص372-373)
{-..ألا يكفي ما نحن عليه من تنكّر.. ألا يكفينا ما نراه من أزياء؟! أمّا عن
اللغة.. فأنا موافق.. سنتكلم جميع لغات الأرض، ما عدا العربية! بل يجب أن
يُحّرم النطق بالعربية، على كل من هم ليسوا عرباً.. فخورين بعروبتهم!
خرج فراس من دار ماري روز.. يأسف.. للمرة الألف، على ما يصدمه في بلده، من مثل
تلك المطالعات المحزنة! .. ولم يكن مبعث ذلك الإحساس كرهه للنقد، أو غيرةً
عمياء على انتماءاته ومعتقداته! لقد تعوّد ممارسة، وتقّبّل، أقسى وأمرّ
أنواع النقد، في حداثته.. في باريس.. بل تعوّد تجاوز التجريح الشخصي، الذي
ألف سماعه من أناسٍ ضعفاء النفوس، لا حجج لديهم!
إنه ليفخر أن تلك الصدامات الفكرية الأولى، لم تفتح ذهنه، لكل جديدٍ، فحسب.. بل
كسرت القالب الانطوائي الذي يحمله الكثيرون، والذي يمتلئ، إن عاجلاً أو
آجلاً، بمفاهيم معينة، تتلاءم مع بيئة وظروف الشخص.. فإذا به يشعر بالكفاية
والامتلاء الذهني، فينغلق القالب على ذاته، معطياً لما فيه، شكله النهائي،
وللذاتية الذهنية، طابعها الخاص .. الملقّب بالشخصية..
ذلك القالب الأول.. وتلك الهيكلية النفسية التي يبنيها المجتمع فوق متحولاتٍ
وراثية، معقدة.. تأئرت أيما تأثر، عند فراس، عبر صداماته العديدة، ومعاناته
الفكرية الأولى، منذ حداثته، وعبر عراكاته الفكرية المستديمة، المتجددة، في
باريس.. في خضمّ وسط وجوديّ، لا يعرف الراحة، ولا الاستقرار! لا كرهاً
بهما، بل لأنهما يناقضان ذاتهما، بالتعريف.. فالفكر، حركةٌ.. والاستقرار
على أمرٍ، سكون! لذلك، ألف الشك، تعود النقد.. و"نقد النقد"، ونقدَ، "نقد
النقد"! يمر فوق تلك الحالات، تباعاً، دون تبني إحداها.. بل يتعمد الإمعان
في هذا السبيل.. حتى يعييه التفكير!!
لكن تلك، لم تكن سفسطائية جوفاء، لا آخر، ولا هدف لها! ولا سلسلة تفكير، معقودة
الذيل، لا هدف لها، سوى تحقيق ذاتها! بل كانت، سعياً ممضاً، مجهداً، قد لا
يكون له من آخر، إلا مع نهاية الإنسان.. وتوقف فكره عن الحركة.. سعيٌ،
هدفه، هو سعادة الإنسان، أو على الأقل، محاولة إسعاده! سعيٌ، غايته، حركة
ايجابية، إضافة إيجابية، ما، إلى وضع الإنسان العبثيّ، في هذا الوجود!..
لذلك، لم يكن هنالك من موضوع لا يقبل مناقشته في حماسة، مهما كان، إلا
موضوعاً واحداً! موضوعٌ إنسانيٌ وعر.. لم يستطع التغلب على مقته له.. هو
موضوع السلبية الفكرية عند الفرد، أو الجماعة.. تلك السلبية التي يسببها
ضعف البنية النفسية! ضعفٌ، من نوع خاص.. تهالكٌ، لا يشابه ذلك الضعف الذي
تقع على نقيضه القوة.. بمعنى أنه يكفي المرء المصاب به أن يُحقَن بما
يقويه، كي ينهض جالساً.. تعود إليه ثقته بنفسه.. فيحس بالقوة، من جديد!..
بل ضعفٌ، مرضيّ.. فتّاك.. يقع على نقيض جنون العظمة.. فلا الضعيف، إذا ما
أصيب به، قادر على التخلص منه.. ولا المصاب بجنون العظمة قادرٌ على إدراك
حالة شبه الانفصام، الذي يعيش فيها!.. أنها سلبيةٌ، بغيضةٌ، مريضة، سوداء..
تتجلّى، مثلاً، عند المصاب بعلّة دائمة، أو المشرف على الموت.. تطالع
الإنسان لدى الجماعات، متجليةً عند الأقليات التي تعيش في "غيتّو*" نفسيّ،
منذ طفولتها.. لا أمل لها في شيء.. تدرك حدود إمكاناتها الحياتيّة.. تقبل
بها كارهة، مرغمة. فينقلب ذلك التناحر في نفسها إلى كرهٍ للذات، وحقدٍ أعمى
لما حولها!! كرهٍ، أسود، مقيت، لمن تعيش معهم في قارب واحدٍ كبير.. وقد
يكون في عاصفةٍ، فتساعد على إغراق القارب، ظناً منها أن عدوّ عدوّها، هو
صديقها! [*"غيتّو":منطقة في المدينة، تسكنها الأقليات منعزلة عن بقية
السكان، شأن مناطق اليهود، في الماضي، في معظم المدن الأوربية]}
* * *
(ص381-383)
{توقف فراس عند مفترق طرقٍ، يسائل نفسه، من حيث لا يدري، ما إذا كان ينوي متابعة
المسير برفقة محدّثه!.. فنظر إليه مالك، في وجوم، ثم قال، في مرارة ظاهرة..
- حسنٌ!.. لقد فهمت.. سوف أمضي في سبيلي! لكن لي قول أخير.. لا شك أنك سوف
تستغربه.. قد لا تكون آخر أصحاب النسب الشريف، كما تقول.. لكنك قطعاً في
نظري، آخر الأمويين.. نعم آخرهم.. بكل ما تحمله هذه الكلمة من هوسٍ عصبيّ،
أدى إلى عزّة الأمويين، ثم إلى فناء دولتهم!
* * *
لم تغب كلمة مالك عن سمع فراس، دون أن تترك في نفسه، أثراً! لعل نفسه ما كانت
لتجرؤ على التنفيس بالقليل مما يعذبها، لولا أنه كان يحدّث مالكاً بالذات..
إنسان، يعاني من أشد أنواع الهامشية والاغتراب.. إنسان، تهون عند مصيبته
الشجون.. ويتضاءل أمام بليته الألم!
كان فراس يكتم انفعالاته تلك، عن أقرب الناس إليه.. خوفاً من أن تختلط عصبيته،
عند فهم السامع، بالتعصّب الأعمى! كان يدرك، بوعي باطنيّ غريزيّ، أنه، كسمك
"السلمون".. قد تاه آلاف الأميال عن موقع نشأته.. وأنه يعود الآن إلى ذلك
الموقع.. يجابه الأخطار، يقتحم التيارات المضادة.. يترك البحار الواسعة،
المالحة.. سعياً وراء المصدر الضيّق للمياه الصافية.. مصدر النبع.. فيرتقي
الأنهار، والشلالات المرتفعة.. سابحاً، عكس اتجاه الماء.. لاشيء يدفعه، سوى
وعيه الغريزيّ.. ولا من هدفٍ يبغيه لدى بلوغه أصل النبع، سوى العودة إليه..
والفناء فيه!
لطالما اقشعرّ بدنه لمأساة السلمون، لعمى بصيرته؟! هل يزيد دأب سمك السلمون، وهو
في طريق العودة إلى موقع نشأته، من المعنى المأساوي لتلك العودة؟! وهل كان
لتلك السمكة التعيسة أن تعاني، ما تعانيه.. في العودة إلى مكانٍ ما،
بذاته.. لولا أنها فتحت عينيها على الحياة فيه فتصورت، أو طبع في جهاز
غريزتها، أن ذلك المكان هو المصدر الوحيد لكل حياة! وأنه البقعة الوحيدة،
الصالحة، لإعادة التلقيح.. وتكرار الحياة؟!
هل غريزة العودة تلك، دفينة في ثنايا السلاسل الغريزية لجميع المخلوقات؟! فترى،
حتى الإنسان الحضاريّ، الواعي، يتمسك بما ألفه أو تعلمه، خلال نشأته
الأولى.. كأنها أمور مُنزَلةٌ، لا محيد له عنها! بل يصل تعلّقه بتلك
الأصول، لدرجة، تصبح عندها في ذهنه حقائق بديهية، ليس للعلم وللمحاكمة،
والذكاء، من مهمة في الحياة، سوى إعادة اكتشافها.. وتجديد البرهنة عليها!
وتكرار التأكيد بأن لا حقائق في الكون جديرة بالحياة، سوى ما طبعت عليه
البصيرة، وهي في طور النشوء!!
ألهذا السبب تبقى جميع الأمم على أسس طبائعها الأولى؟! تستميت من أجل عقائدها
البيئية؟ تسجد أكبر العقول للدين الذي نشأت عليه، كأن لا دين سواه! وتبقى
أكثر الأذهان تفتحاً، مغلقة على ما ينافيه؟! لا هم لها سوى دراسة تعاليم
"العدو".. وتفنيد حججه "الشيطانية"!!
أليس غريباً أن تضرب عقول جهابذة، من أمثال سقراط، وفيثاغورث، وأرسطوطاليس،
وأفلاطون، في طول الكون الفكريّ وعرضه.. حينما تناقش العلوم، والفلسفة..
وتبقى، فيما يتعلق بالأمور الغيبية الإلهية، رهينة لمفاهيم بيئتها الأولى..
أسيرة، لطقوسٍ هزيلةٍ تثير الضحك، والسخرية في النفوس، اليوم؟! فإذا كان
سقراط قد ضحّى ﻠ "أبولّو".. فهل من الغريب على "غاندي" أن يضحّي ﻟ
"كريشنا"؟! وأين العجب في بقاء عقول الديانات السماوية الثلاث، اليوم، كلٌ
على "معجزاتها"، وطقوسها.. يتمسك كل عالِمٍ من علمائها، بحذافير أقاويل
دينه.. أو طائفته.. فلا يرى الصواب، والحقّ إلا في المعتقدات التي حُفرت في
بنائه النفسيّ، أثناء نشوء وتبلور ذلك البناء، زمن طفولته المبكرة الأولى!}
* * *
(ص393-396)
{- لابد أن في متعة، أو لذّة، كل إنسان، من الذاتيّة، والخصوصية، ما يميّزها عن
تلك التي لإنسان آخر.. لكن جملة اللّذات، والإحساسات الجمالية، التي
لجماعةٍ ما، في مكانٍ ما، تتحد بدورها.. رغم اختلافات جزئياتها.. فتشكل
وحدة جديدة، في دائرة أكبر.. وحدة، تتباين مع جملة الإحساسات، لأية دائرة
كبيرة مماثلة.. هي من خواص جماعة إنسانية أخرى.. وهكذا، دواليك.. لكل قومٍ
ما يجمعهم بأبناء ملّتهم.. ولكل قومٍ ما يفرّقهم عن بقية الأقوام.. وجميع
هؤلاء، أفراداً وجماعاتٍ، يزاولون العادات واللذات ذاتها.. لكن.. ترى هل
تستوي اللذات في كل زمان ومكان؟!هل تستوي لذّة لقاء الحبيب.. لدى السارق،
والشاعر؟! وهل تستوي لذّة الثأر.. لدى المؤمن، والكافر؟! بل هل تستوي لذّة
الجماع لدى المومس، والعذراء؟! لدى العفيف الطاهر.. والفاسق، الفاجر؟!
أطرق برهة.. قال بعدها..
- أنا من جهتي.. لا أظن ذلك.. إذ أن لكل إحساسٍ ظرفه، مكانه.. وبما أن العالم
متباين الأبعاد والظروف.. متأرجح العادات والتقاليد.. متقلّب القيم
والمفاهيم.. فلا بدّ فيه من مكان ما، يمكن للإنسان أن يقف فيه، ولو نسبياً،
فيضع، أو يراقب شعرة ميزانٍ وهميةٍ.. تشير إلى ما يمكن للأضداد أن تصل
إليه، إذا ما هي تفاعلت.. وتنبئه إلى ما في استطاعة المتناقضات أن تستوي
عليه، إذا ما هي اتّحدت!
هذه النقطة المتوسطة.. هذه الشعرة الدقيقة لميزان العالم المتقلّب الأهواء.. بين
روحانية آسيا، ومادية الغرب.. هي بلاد الشام!.. ولقد كانت كذلك.. منذ
الأزل! وكانت دمشق، بالذات، منذ حروب الفرس والإغريق، نقطة الوسط.. محصلة
الحلول بين البذخ المادي والروحي للهند وفارس.. وبين التقشف الفكريّ
والنفسيّ، الضنك، للإغريق، ومن عاش إلى غربهم وشمالهم في أوربا، من الشعوب
الهمجية التي لم تكن تعرف غير البرد والجوع!!
لذلك، اعتنقت بلاد الشام الإسلام، وتمسكت به.. لأنه الدين الوحيد الذي طبّق
التوافق، وشرّع للتسامح.. وأقول "شرّع" للتسامح.. وليس "أوصى" به، فقط..
إنه دين الحلول الإنسانية المتوازنة الحقة، لمشاكل الإنسان.. دين الحلول
السمحة الوسط!.. وأنا أقول ذلك، حتى على مستوى علم النفس الحديث.. فلا
حكماء، ولا "براهمانات" في الإسلام، يجلسون على الأرض، في حالاات ذهولٍ،
وتأمل، إلى أن تنمو وتتسلق على أجسادهم الحشرات والنباتات! ولا رهبان
يعذبون أنفسهم أو يخلدون إلى الصمت، طوال حياتهم، أو تعاليم تكره الإنسان
بجميع حواسه! تفسر له الحياة، على أنها كفّارة لخطيئة أولى، عليه متابعة
دفع ثمنها، إلى أبد الآبدين!! إن الإسلام يوفّق بين تناقضات الطبيعة
الإنسانية، سعياً وراء تكامل النفس وتوازنها.. ولا يشطر الإنسان إلى نصفين،
أحدهما شرٌ، والآخر خير! أحدهما نور، والآخر ظلام! أحدهما نارٌ، والآخر
أثيرٌ! لاشكّ أن كل دينٍ أو عقيدةٍ، بالنسبة إلى البيئة التي يعيش فيها، إن
هو إلا الدين الصحيح، في المكان الصحيح.. لكن العالم ليس وحدات اجتماعية
عقائدية متفككة..لاشيء يربط بعضها ببعض!! بل إنه مدٌّ وجزر.. شئنا أم
أبينا.. بين أقصى الشرق، في آسيا.. وأقصى الغرب، في أوربا! إنه تجاذب
أزليّ، أبديّ.. بين أقصى طرفي المعمورة! وأي مكان أنسب للتوازن الروحي،
والفلسفي، من بلاد الشام .. التي تقع على محور الدنيا؟! وأي مدينةٍ من مدن
الشام الحية، أقدم من دمشق.. التي تعي هذا التجاذب، وتعيش محصّلته
المتوازنة؟! انظر إلى خارطة الدنيا المأهولة منذ الأزل.. من الصين إلى
الأندلس.. وضَعْ إصبعك على منتصفها، شرقاً غرباً، شمالاً جنوباً.. تجد أنك
إنما تضعها على بلاد الشام! وماذا تبقّى للشام من عريقها، غير دمشق
القديمة؟!
كان فراس وجمال ينصتان إليه كأنه يتكلم بصوتٍ ٍيجسد ضميريهما ووجدانيهما!.. فنظر
الرجل حوله إلى زخرف القاعة، ثم أشار إلى مجمل الدار وحديقتها، وقال..
- إن هذا الطراز من البيوت، بما فيها من فلسفة البناء، تنازعته الهند، وفارس، في
الشرق.. ثم بلاد الإغريق و روما، في الغرب!.. فأين تبلور واستقرّ.. إن لم
يكن في دمشق؟! وأين تجد له من أثرٍ باقٍ حقيقيٍ، اليوم.. إن لم يكن في بلاد
الشام.. وفي دمشق بالذات؟!
صمت أبو غزوان، برهةً.. كان ينظر خلالها إلى فراس، ثم قال..
- يا آخر الأمويين إن اللحظة التي تتكلم عنها يا بنيّ، لهي حقيقة واقعة!.. هويّة
فريدة، لا خوف على خصوصيتها من الترادف والتكرار! ودمشق، ليست مجرد مورد
الماء الصافي، لأبنائها فقط.. أبنائها التائهين، في طول الأرض وعرضها.. إن
لفيها المعادلة الأصلية لتركيب الماء الصافي.. بذاته!.. بصرف النظرعما
يعكّرهذا النبع، عبرالأجيال، من غزاةٍ وظُلاّم!}
* * *
(ص401-402)
{ صمت جمال برهةً، قال بعدها مشيراً إلى حديثهما السابق.. في إصرار يائس..
- إنها مشكلةٌٌ "سيمانتيكية" عويصة.. أليس كذلك؟!
ضحك فراس طويلاً لعودة صديقه إلى ما يؤرقه.. وقال..
- تماماً.. إن الموضوع هو كما تقول، إذا تناولناه من جانبه البسيط، ولندع جانبه
المعقد، إلى حديث آخر..
- هل لي بسؤالٍ آخر، بسيط؟ ما تقول في قضية لغتنا، الفصحى منها.. والعامي؟! لقد
عالجت هذا الموضوع مرة، ولا شك عندي أن الأمة العربية قاطبة، تتجه نحو
الفصحى، في خطى حثيثة.. ألا تحبّذ ذلك؟!
- وكيف لا أحبذ ذلك.. والفصحى، في نظري، هي محصّلة حضارتنا.. شأنها شأن قصر
الحمراء في غرناطة؟! إذا تعثّرالفكرالعامي، اليوم، في استعمال الفصحى، فذلك
شأن الإنسان الأميّ البسيط.. وحاله، كحاله إذا ما تجوّل في أرجاء
قصرالحمراء، وقصّر عن فهم فنّه.. وغابت عنه، روعة أسلوب بنائه!! إن كل ما
تشكو منه أمتنا العربية اليوم، يرجع سببه إلى تلك العاميّة في أسلوب
المعالجة، والتفكير! إن شعباً يتكلم العامية، لابدّ أن يكون فكره على مستوى
لغته!! إن موسيقانا اليوم عاميّة، وفننا عاميّ، وجَدلُنا عاميّ، وآمالنا
عاميّة! بل إن حروبنا عامية، وأساليب ثأرنا مرتجلة، عاميّة، كذلك!
- وكيف تتوافق الحداثة، والفصحى؟ وجذور الفصحى ترجع إلى آلاف السنين؟!
ضحك فراس، في سخرية ظاهرة.. وقال..
- وهل تتوافق الحداثة مع العامية؟.. عجباً!! واستمع جيداً لما سأقول!.. كيف لم
يقل مثل هذا القول أعداؤنا من الصهاينة، ولغتهم على مثل قِدَم لغتنا
الفصحى، إن لم تكن أقدم؟!.. هل من ينكر على الصهيونية حداثتها.. وتقدمها
العلميّ؟!.. أفلم يدُرْ في خاطرك يوماً أن هؤلاء أقوامٌ، تركوا لغاتهم
الأوربية الحديثة، طائعين.. وعادوا إلى العبرية الجامدة.. التي لا تقارن،
بغنى اللغة العربية ومرونتها؟! وأن ذلك لم يقف حجر عثرة في وجه حداثتهم،
وتطورهم؟! ما لك يا جمال؟! أعداؤنا يتمسكون بلغة أجدادهم.. العبريّة.. التي
لم تحتك بالعلوم والفكر، منذ آلاف السنين! يلتفّون حولها كحجر الكعبة!.. لا
يجدون أنها تقف حاجزاً بينهم وبين التقدم! ونحن نجرّح لغتنا.. كمن ينتقص من
شأن قصر الحمراء، لمجرد لأننا لم نصله بالتيار الكهربائي!! ولم نعدّه بنظام
تدفئة مركزية؟! لا يا جمال!! إن الذين يرفضون الفصحى اليوم، إنما يفعلون
ذلك لأنهم يسعون إلى انتماءات محليّة، غير عربية! وأهدافهم هذه، باتت لا
تخفى على أحد!! ولن تجد من يؤازرهم، إلا إذا كان على عقيدتهم، وانتمائهم!!
لقد شدّنا القرآن إلى لغتنا.. وسوف تشدّنا لغتنا الرائعة، إن عاجلاً أو
آجلاً، إلى ما نبتغيه!}
* * *
(ص417-421)
{قرع جرساً قديماً، وقف أما باب البرج، ينتظر الجواب.. يتعجب لصوت عودٍ، وطربٍ،
وغناء، ينبعث من مكان ما في الجوار القريب!
سمع وقع خطواتٍ تقترب منه.. ثم فُتح الباب، وبدت خلفه صبيةٌ في مقتبل العمر..
ترتدي ثوباً طويلاً، مشدود الخصر.. وأشارت إليه بالدخول، على عجل، ثم أقفلت
الباب، وهرعت نحو السلّم المؤدي إلى مخدع أمّ ربيع..
كان صوت الموسيقى قد توقف.. فما إن أغلقت الفتاة الباب، حتى سمع همسأً يأتيه من
مدخل المخدع وصوت أوتار عودٍ يصدح من جديد.. ترافقه ضربات خفيفة على دفٍّ
غجريّ.. كأنها تُعلن وصول قافلة محملة، من بعيد!
صعدت الفتاة السلم في خفة وحبور.. ثم دلفت إلى مخدع صاحبته.. يسير فراس خلفها،
نحو المركز الذي تألّقت فيه مئات انعكاسات الضوء.. تساقطت على النجوم
الزجاجية التي عُشّقت بها زينة جدران الغرفة، وسقفها الخشبي!
توقف برهة، وسط سَقط النورالحميم.. ينظرعبرغلالةٍ شفافةٍ ترقرقت بين جفنيه.. فرأى
أم ربيع، من خلالها، في ثوبٍ من القطيفة الوردية والسوداء، وقد جلست على
منصة منخفضة الارتفاع.. يحيط بها، وإلى جانبيها، عدد من الصبايا،
والفتيان.. جميعهم في ثيابٍ عربيةٍ.. جلسوا على وسائد وأرائك فاخرة، كانت
مغطاة، يوم زار المخدع للمرة الأولى.. ينظرون غلى ركن المخدع البعيد، حيث
تربّع ضريران، أحدهما يضرب أوتار عوده، في حين شخص الآخر، في الفضاء، لا
يرى شيئاً مما حوله.. ينقر على الدف نقراً خفيفاً، كأنما ينتظر أن يبدأ
أحدهم الرقص أو الغناء!
وإذا بأم ربيع، تمسك فٍ آخر، كان إلى جانبها.. تداعب صدره باصابعها، ثم تصدح
بصوتٍ رخيمٍ، منمرسٍ قي الغناء.. يجيد التلفظ بمخارج الحروف.. يحسن النطق،
فلا يضيع معنى الكلام، على السامع.. وى مغزاه..
أنشدت موشحاً، في مقامٍ، حنونٍ شجيّ..
"إن الذي عذّبَتْ قلبي محبته......
حاكت حروف اسمه في الحسن صورته"
ﻓ"الفاء" مبسمه.. و"الراء" مُقلته..
و"اللآي" عارضــه...و"السين" طرّته "
بهت فراس لإشارتها الشعرية إلى أحرف اسمه.. وإذا أربعة من الفتيان يرددون وراءها،
في صوتٍ واحد..
" وقد زاد فيه انتحـــالي......
...... ولــيس يــدري بحـــالي"
ثم أبطأوا.. وتوقفوا عن الغناء، لترفع أم ربيع عقيرتها، مرة ثانية:
"مولّد.. بين حسن الترك، والعرب
قد فـاق أمثالــه في الظرف والأدب"
" و أتقن المزج بين الجد و اللعب
و قسـم الثغـر بين الخـمر والطرب"
فما أن تلاشى صوتها المتماوج، حتى أطلقت الفتيات أصواتهن وراءها قائلات..
"أحسنت فيه مقالي..............
......... فــردٌ، عديــم المثــال"
كان سحر المكان، والمفاجأة، قد نالا من فراس، وأخذا بلبّه، وبمجامع قلبه.. منذ
اللحظة الأولى!! فما إن بدأت أم ربيع الغناء، على انغام وإيقاع الضريرين،
وردد الأدوار بعدها، الفتية تارة، والفتيات تارة أخرى.. حتى غصت مآقيه
بالدمع، لفرط ما جاش في صدره من حبه لعالمٍ تاه عنه طويلاً.. خلاياه تسري
في دمه!!
ما كانت تلك المرة الولى التي جلس فيها إلى الغناء والطرب العربيين.. وما كان صوت
أم ربيع، أجمل صوت سمعه، أو تلك اللحظة، طغى على إحساسه.. وتمكن منه! إحساس
لا يعرف اسماً له.. يتوق إلى التبدّي، ومالتمكّن من أبعاد هويته! تدفّق في
عاطفته، وعيٌ، هو من عنصر وطبيعة ما نابه، وهو في ضيافة والد الشاب الذي
لقيه في الحمّام..
ذلك التوافق الكامل، بين جميع عباصر ما يجلاي حوله.. تلك العفوية، والأصالة، في
كل ما يتحرك أو ما يقال في ذلك المخدع، تلك الإيماءات والملاحظات التي
تداولها الجميع‘ وكأنها أسرار حضارة عريقة تنتقل من جيل إلى جيل في مظروف
مختوم.. وذاك اليقين، من أن تلك اللحظة، وإن كانت الصورة المرئية المتجسدة،
لتناسخٍ مستمرٍ، مستديم.. تمتد جذوره في غياهب الزمان.. إلا أن زمان اللحظة
تلك، كان حقيقياً، ومكانها كان هناك، حيث وقف من بيوت دمشق القديمة، في
إحدى مخادعها المزخرفة.. في إحدى محاربها، فتبدّى له جلياً واضحاً..
مدركاً، لا يقبل التقليد، أو التحوير!
نهضت أم ربيع عن أريكتها.. تدعو فراساً للجلوس مكانها، قائلة..
- إنه مكانك.. كان في الماضي، مكان صاحب الدار.. وإنما أنا أخليه، الآن، لمن
سيكون صاحبه، عما قريب!
لم يكن فراس قد رأى في الماضي من معالم مضيفته، إلا ثوبها الأسود، وملاءتها،
وبعضاً من ملامح وجههها.. فراح يدقق النظر في تقاطيعها، وزينتها وقد ادهشه
ما طرأ عليها من تبدّل، وما دبّ في جسدها من حيوية وشباب!
تقدم منها، وجلس حيث أشارت، على الأريكة المرتفعة.. ثم نظر إليها، وكانت ما تزال
تجمع أطراف ثوبها.. وساءلها، بالنظر، عمّن يكون من حولهما من فتيةٍ،
وصبايا..
قالت مبتهجةً، لنظرة الاعجاب على وجهه..
- إنهم أطفالي.. من الميتم الذي أعمل فيه.. أدعوهم من وقت لاخر.. فأحيي وإياهم
ذكرى الليالي التي كنا نقضيها مع أبي شفيق.. في طربٍ، ورقصٍ، وغناء، ثم
استدركت قائلة..
- لا.. ليس هؤلاء الذين كنت أدعوهم في الماضي.. إنما هؤلاء، هم أطفالي الجدد، أما
أولئك الذين عرفوا عزّ أبي شفيق، وكرمه، فلقد بلغوا سني الرشد، منذ أمدٍ
بعيد! بعضهم تزوج.. وبعضهم الآخر، تفرق في دروب الحياة، وغابت عني أخباره!
داعبت وجنة فتاةٍ إلى جانبها.. في حنانٍ، تكبت لوعة الذكريات، وقالت..
- هؤلاء.. أزهاري الجدد.. ولقد خمعتهم، زهرة ، زهرة!! هؤلاء الأشبال، سيكبرون،
ويصبحون رجالاً أشداء، عما قريب..نعيش ليالينا هذه، لا رقيب ولا حسيب!
وأقسم، بتراب المرحوم، أنك أول من دخل مخدعي، وأنا في هذه الزينة، وبين
هؤلاء الصحب، منذ وفاة المرحوم! والله، يابن الحلال.. ما من مخلوقٍ يعرف
عنا سوى من يظن، من أهل الحي، أنهم أقربائي، وأنسباء أحفادٍ لزوجي، ولولا
أنك ستصبح صاحب هذه الدار، عمّا قريب، لما دخلت مخدعي، إلا فوق جثتي!
ضحك فراس لما جهدت أم ربيع في تبرئة نفسها منه.. وقال..
- إن مفاجأتك هذه.. أشد جمالاً وروعة مما توقعت! والله، أنك لدرّة نادرة، يا أم
ربيع! ومن يدري.. قد تبقين في هذه الدار حتى بعد أن أقدم على شرائها! وإن
عندي لك مفاجأة لهذه الليلة لا تقل روعة عن ضيافتك هذه.. أما الآن.. فهل لي
بكأس من الشاي؟!
تنبهت إلى ما سهت عنه، من واجبات الضيافة المألوفة.. فسألت.. في لهفة صادقة..
- وهل تناولت عشاءك؟
تبسم فراس، وقال، متردداً..
- نصف عشاء.. ولقد تناولته على مضض!..}
* * *
(ص433-441)
{جلس في فراشه، يتصفح ذلك الفهرس من جديد، لا ينفكّ يقلّب صفحاته.. يعيد قراءة
العناوين المجهولة، لمعظم مشاهيرالكتّاب العرب والمسلمين.. يخمّن ما يمكن
أن يحتويه هذا، أو ذاك المخطوط، من معلومات قيمة أو تاريخية أمضى فترة على
تلك الحال، فإذا بتعدّد وسعة مواضيع تلك العناوين، يترسب في مخيلته..
فيزداد إحساسه بالجهل، لما قد غاب عنه من التراث، وهو المحبّ، الباحث، عن
كل كتاب علمٍ أو معرفة..
سرعان ما تلاشت بهجته الأولى بالعثور على ذلك الكتيّب، وحل محلّ السرور، إحساس
بالوحشة والانقباض، لما أدرك من جهله حتى بوجود تلك المئات من المخطوطات..
لم يكن قد درى عن أمرها شيئاً! ولا قرأعن أخبارها في أي مصدرٍ أدبيّ، أو
فلسفيّ!
هل كان ذلك المخطوط حقاً، نسخة عن الفهرس الذي سرق من مكتبة الفاتيكان؟ أم أنه
فهرس آخر لمحتويات خزانة ما.. خصوصاً وأن فيه أسماء بعض المؤلفات
المعروفة؟! وإذا صحّ وكان فهرساً لخزانة من خزائن الكتب.. فما صلة "يان
فرانتيشتيك" بتلك الخزانة؟! ولماذا يملك نسخةً لفهرسها تماثل هذه النسخة؟!
و لماذا توجد مثل هذه النسخة، في مكتبة أبي شفيق؟!
كان قد هيأ لنفسه أن هنالك رابطاً بين الوريقات التي في حوزته في روما.. وبين
فهرس الفاتيكان.. بل تجرأ وذكر أمام "أماديو، دوقا داوستي".. أنه يملك نسخة
عن الفهرس المسروق! وكانت تلك، مقامرة منه، هدفها تثبيت دعائم ثقة ذلك
الرجل، فيه! لكنه، آنذاك، كان يقامر بشيء لا يملكه، وكل ما يظن أنه يملك
منه، هو بضع صفحات.. لا علم له بقيمتها الحقيقية!! أما وإنه الآن أمام
فهرسٍ كاملٍ !! أما وإن الفهرس الذي بين يديه، هو التتمة للوريقات التي في
داره في روما!! أما وإنه فراس، في دمشق، وليس "دون ماكسيميليانو" في روما..
فإن الأمر اتخذ في نفسه أبعاداً بالغة الأهمية! وأحس أن عليه أن يبادر، على
الفور إلى التحقق من وجود مخطوطاتٍ تحمل تلك العناوين المجهولة، وتعقّب سرّ
اختفائها!
تبسم وهو يذكر قولاً قديماً حفرته جدته في ذاكرة طفولته، قولاً كان يطفو إلى
وعيه، كلما واجه مجهولاً يرتبط بالعروبة والإسلام:
" أنتم، أحفاد أهل البيت، لكم حق الشفاعة، يوم الدين.. لكن عليكم فرض، واجب.. لا
تكتمل آخرتكم دون تحقيقه.. هو إظهار ما اختفى من القول الحق.. رأب الصدع
بين المسلمين.. وإحياء ما استشهد في سبيله الصالحون!"
ضحك في سرّه من صوت النفير هذا.. يستصرخ حماسته كلّما اعترضه أمر يمسّ تاريخ
أمته.. وتعجّب لمدى قدرته على تحريك حماسته!
عادت إلى ذهنه علاقة سمك السلمون العمياء، بمورد المياه العذبة.. في موقع
ولادته.. يقارن بين الدافعين.. يكرر على نفسه، تفرّد وخصوصية ذلك الرباط
الذي يشده إلى جذوره! فحاله، في تلك اللحظة لم يكن كحال أي إنسانٍ يابانيّ،
ينقاد لتعاليم الساموراي، التي نقشت في ذهنه، حتى بات لا يميزها عن ردود
أفعاله الشخصية!
إذا كانت هنالك كتبٌ مفقودةٌ.. تحمل تلك الأسماء المجهولة.. فتلك قضية حية، وليست
وهماً في خاطره! والبحث عنها واجبٌ ثقافيٌ، حضاريّ! فما بالك إذا كان جميع
ما سمعه صحيحاً، من أن هنالك من يتلاعبون بالتراث.. يزورون المعرفة
والتاريخ.. وأنهم يقومون بذلك في جدّ، ودأب، منذ عدة قرون! ويواصلون جهدهم،
بوعيٍ جهنميٍّ، في سريّة تامة، حتى تلك الساعة!! في حين أن أصحاب التراث
ساهون، غافلون.. يجرّح بعضهم بعضاً، يحرّضهم على ذلك ما يدسّ لهم أولئك
الأغراب من سمٍّ في ثقافتهم الناقصة!
مال في فراشه، يجذب آلة الهاتف إليه، يبغي الشروع بمكالمة أشخاصٍ على علمٍ واسعٍ
في ذلك الخصوص.. وإذا بالمخطوط يسقط من يده، فيرتطم على الأرض، على حدّة..
مما كاد يمزّق الغلاف القديم، ويبعثر لوحاته التي جمعت بخيوطٍ باليةً..
أوشكت تتفتت..
رفعه في حرص شديدٍ.. يحاول شدّ الغلاف.. يعيده إلى ما كان عليه.. وإذا بطرف ورقةٍ
مخفيّةٍ، مطويةٍ.. يبدو من تحت حافة الغلاف.. كان الصمغ قد أخفاها عن
النظر! سحبها في بطء، خوفاً من تمزقها.. فإذا بها لفافة ورقٍ طويلة، أُخفيت
ضمن الغلاف.. فتحها، في حذرٍ شديدٍ، ليقرأ عليها النص التالي:
"
إعلم يا أخي، أني عبدٌ مأمور.. لا حول له ولا قوة، وإني ماعُدتُ إلى
طليطلة، من فاس، إلا بأمرٍ من الملك "فيليب".. نحمل إليه كتباً من خزانة
السلطان.. إن القادر الذي لا يعجزه شيء، قد شاء أن ينكشف أمر صاحبي وخليلي،
فأذاقه "فيليب" من السم الفاتك الذي أتيناه به من فاس حسب طلبه! وإني، لا
محال، هالك بالسمّ نفسه.. إن عاجلاً أو آجلاً! ولن أُترك حراً طليقاً،
لأذيع خبر النُسّاخ المائة والخمسين، الذين أنا منهم، نعمل، ليلاً،
نهاراً.. في إعادة كتابة ما لدينا من مخطوطات عربيّة! ولعل السلطان.. أدام
الله عزّه، هوالذي أمر بالقضاء علينا، بعد أن علمنا من أمر ما أجراه
النُسّاخ من تعديلٍ على مخطوطات كتاب "العِبَر"، الذي حملناه معنا من
خزانته! والذي لا يحمل، في الأصل كلمة "بربر" في عنوانه! إعلم يا أخي، أن
هذه شهادتي قبل أن أموت.. وإني أقسم بالله العظيم، وبالقرآن الكريم، أني
رأيت النُسّاخ "الموريسكاس" يعيدون نسخ كتاب "العِبَر"، وغيره، فيبدّلون كل
ذكرٍ لكلمة "أعرابي" بكلمة "عربي"، في كتاب ابن خلدون، ويضيفون إليه فصولاً
بكاملها، في مدح البربر، حسب مشيئة السلطان، وبذمّ العرب، حسب ما بنفوس
أصحاب الدير.. يحذفون فصولاً بكاملها، في ذكر مآثر العرب.. مما كتبه ابن
خلدون! إعلم يا أخي، إن السمّ الذي أتينا به، من فاس، سيستر هذه الحقيقة
إلى الأبد، عن أهل الدنيا قاطبة! واعلم أن هذه الورقة، هي شهادتي أمام
ربّي، يوم الحشر.. وأن هذا الفهرس الذي أدفن شهادتي فيه، هو واحدٌ من أربعة
فهارس، تضم أسماء ما جرى التعديل والتبديل عليه، من كتب! وإن جميع ما يظن
المسلمون إنها أصول مخطوطة في خزائنهم، إنما هي نُسَخٌ زُوِّرت بخطٍ يماثل
خط وتواقيع أصحابها!.. وأنا ومن معي من "الموريسكاس" الإسبان، أنا الذي
أكتم إسلامي، وعروبتي.. قد ساعدت في هذا العمل الكريه، أسوة بمن حولي، من
مسلمين، غُلبوا على أمرهم! نعمل سوية، مع مولّدين ويهود، جميعاً في خدمة
"الأسكوريال" والملك "فيليب" المأفون، الذي قرّر طردنا جميعاً من الأندلس!
ربي اجعل من لدنك قوة تخرج هذا الفهرس من هذا الدير! سأقذف به من الفتحة
هذه، علّه يبقى سليماً حتى أصل إليه.. أو ينقذه أحدٌ من المؤمنين.. ربي هذه
شهادتي، يوم الدين.. والآن أشهد أن لاإله إلا الله.. وأنّ محمّداً عبده
ووليه ورسوله"
ضج رأس فراس بما قرأ!!
أعاد قراءة النص، مراتٍ حتى كاد يستظهره.. وفي كل مرة.. يضيف إلى الصورة التي
تشكلت في ذهنه، بعض التفاصيل التي فاتته.. حتى اكتملت في مخيّلته صورة لما
حدث!
إن الأمر يتعلق بمقدمة ابن خلدون.. هذا أحد السلاطين، أو أمراء البربر.. منذ
قرون.. ممن عاصروا "فيليب" الثالث، أو الرابع، من ملوك إسبانيا.. يستعرض ما
في خزانة المُلك من مخطوطات.. فيجيئ على قراءة "كتاب العِبَر" الذي ذاع
صيته يوماً، أفل مجده، ونسي التاريخ اسم صاحبه، وقد مضى على وفاته زمن
طويل.. دالت دولة العلوم، خلاله، في جميع أنحاء الأمة العربية والإسلامية،
حتى لم تعد تجد فيها من يحسن قراءة القرآن! ناهيك عمن يذكر "كتاب العِبَر"،
أو صاحبه.. وكانت إسبانيا، قد أضحت في ذلك الزمان، سيدة أوربا، وحاكمتها..
تتوافد رسلها على بلاد المسلمين، تغرف مما تبقى من خيراتهم وهي التي تذكر
ما تركوه في الأندلس.. يخافها الجميع.. لا يهبّ أحدٌ لنجدة ما يسرقون ..
وليس بين العامة أو الخاصة إلا القلائل، القلائل، ممن يقيمون شأناً للعلم،
أو المعرفة! فلماذا لا يزيد ذلك الحاكم البربري الأصل، فصلاً، أو فصولاً،
على "كتاب العِبَر".. في مدح قومه، من البربر؟! وهل أسهل من تقليد خط
وتوقيع إنسان، مات منذ قرون.. وما من شاهدٍ على ما كتب؟! لا! لن يطلب من
ناسخٍ عربيٍ القيام بتلك المهمة، كي لا يذيع خبرها، فيبطل أثرها! ماذا
يفعل؟! يبعث إلى ملك "قستالة" الإسباني، رسولاً بهذا الأمر.. فيرد الملك
عليه برسولين، من الإسبان "الموريسكاس".. يحسنون قراءة وكتابة العربية..
فيعودون إلى إسبانيا، لا بكتاب العبر فحسب، بل بصناديق مرصوصة من ثمين ما
تحتويه الخزانة الملكية المغربية، تُنقل إلى إسبانيا، بقصد الاستعارة، وما
من هدفٍ ظاهرٍ لذلك، سوى نسخ تلك المخطوطات، وإعادتها، سالمة إلى خزانتها،
وصاحبها!
لكن الذي عاد إلى أوطانه، من تلك الكنوز، ليس نفس الذي بارحها، منها! لقد بُدّل
العنوان!! "كتاب العِبَر" أصبح: "كتاب العِبَر، في أيام العرب والبربر"..
ثم إن مخطوط "كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر".. الذي عاد إلى فاس، ليس
مخطوط "كتاب العِبَر" نفسه الذي ذهب منها! إن ابن خلدون، الفخور بأصله
العربي، لم يكتب العبر لتمجيد العجم والبربر، أو للحطّ من أصله العربي، كما
تعلّم القبول بهذا التفسير، جميع فقهاء اللغة العربية اليوم.. في جمود
أذهانهم.. وبلاهتهم المعهودة!
هكذا تحول "كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر" بمسحة قلم.. وأصبح ما نعرفه
اليوم ﺒ "مقدمة ابن خلدون".. التي تحتوي صفحاتٍ في هجاء العرب!
لقد زُوِّرت أربع نسخ عن كتاب العبر! إحداها، عادت إلى مكتبة البلاط في فاس..
والثانية وجهت إلى جامع القرويين في تونس.. أما النسختان الأخيرتان، فلقد
دُسَتا في دار الكتب في القاهرة! أفلا يتساءل المرء لماذا لم
تُنشَر"المقدمة" في باريس، إلاّ عام 1841؟ وفي بيروت، عام 1879؟ وأخيراً في
مصر، عام 1868؟ أي بعد أن أتيحت لمستشرقي نابليون، خلال احتلاله لمصر فرصة
دس نسختين مزورتين عنها، في دار الكتب في القاهرة؟!
هل هنالك من يتساءل عن أصل نسخة جامع القرويين؟! إذن، فليعلم السائل أن واضع
الفهرس لمكتبة ذلك الجامع .. ليس عربياً، بل هو "ألفرد بل"، وأن من ساعده
وأيده في جرد محتويات تلك المكتبة لم يكن إلا رجلٌ يدعى "ليفي بروفونساك"..
وهو يهوديّ الأصل!
جاءت تلك الرسالة المختفية تؤكد ظنونه، وتدمغ بالدليل القاطع، كل ما سمعه بأذنيه
عن عمليات السرقة والتزوير هذه، من "يان فرانتيشتيك".. وما رآه بعينيه من
الكتب العربية المحفوظة في "الأسكوريال" يوم منع، كعربي، من الاقتراب منها!
عاد إلى الصفحات الأخيرة من الكُتَيّب الذي بين يديه، وقرأ، مرة ثانية، ما أثار
أولى شعلات فضوله.. يوم رأى وريقات الفهرس في صندوق داره في روما، وقرأ فيه
ذلك العنوان الذي ألهب خياله..
"خلاصة النظر، في فلسفة العبر"
أيكون لابن خلدون مثل هذا الكتاب، في الفلسفة، ولا يعرف إنسان عن أمره شيئاً؟!..
هل عرفه الخاصة يوماً، ثم نسي الأميّون خبره؟!..
أيكون قد كتبه ابن خلدون، وامتنع عن نشره بين الناس، لما كان بينه وبينهم من
تباعد في التفكير.. ولم لا يكون لابن خلدون كتابٌ في الفلسفة.. وهو الذي
لخّص كتب الفلسفة لابن رشد.. وأتقن دراسة المنطق؟!
أحس بقلبه يطرق بشدة على دقاّت صدره! هل يقدّر له يوماً أن يعيد مثل هذا المؤلف
إلى الوجود.. إذا صح ظنّه وكان موجوداً؟!.. ولماذا لا يكون هذا الكتاب
مخفيّاً في سراديب "الأسكوريال" وهي التي لديها النسخة الأصلية لكتاب ابن
خلدون "لُباب المحصّل" التي لا بد قد عبثت بها يد المزورين، والمحورين، ما
عبثت!
يا لعار من يدّعون العلم، ويكتبون التاريخ، في هذا القرن.. من مسلمين، وعرب!! لقد
مُسِخَت عقولهم بما نقلوه من دراساتٍ غربيةٍ حول تاريخ أمتهم.. حتى باتو
أطوع من الغربيين أنفسهم، في ترديد ما يبتكر في أوربا، وأمريكا، من مقولاتٍ
مشينة عن تاريخهم!.. ينقلون آراء أمثال "سيلفستر دوساي" و"ليفي بروفونساك"
عن الإسلام والعرب.. والأول أكبر حاقد على الإسلام، والثاني من أصل
يهوديّ!!.. لا يرفضون نظرية قالها مستشرق ما، عن الشرق، إلا بعد أن يرفضها
مستشرق غربي آخر!.. لا ترى دراسةً حول فيلسوف إسلامي، إلا مذيلة بعشرات
التوقيعات، والمصادر الأجنبية!!
انتظمت في رأسه الصورة الرهيبة لشبكة أقنية وشرايين السم الزعاف، التي يسير فيها
التاريخ المزور إلى أجهزة، وعقول الشرق، ومن ثم إلى طلبة العلم الأبرياء..
وعقول أساتذة المستقبل!! كيف لا، وقد نقل نخاع هذه الأمة الشوكيّ إلى
مكتبات ومتاحف وأديرة الغرب.. ولحقت بها زجاجات مصل الدم كذلك.. والكل جالس
هنا، على قفاه، لا يحرّك ساكناً.. سوى استعراض ما كتبه الآخرون عن هذا
الوطن!.. وضرب هذه المقولة بتلك.. مما تفنن في تزويره المحرضون!.. وهل
يستخرج الماء، من قعر الحصى، بعضه ببعض!!
* * *
نهض من فراشه يغلي الحقد والقهر في صدره!
رفع الكتيّب إلى مكان أمين، وأعاد إغلاق الرسالة التي فيه، يحار فيما يفعل، أو
يقول.. وآخر رجل مسؤول فاتحه بشأن مكتبة "الأسكوريال"، ضحك منه، وقال.. "
كيف تقول مثل هذا القول في مكتبة محترمة.. مثل هذه؟! إن جميع ما فيها من
مخطوطات، تحت تصرّف أي طالبٍ للعلم.. في صورة أفلام مصغرة.. يبيعونها لمن
يشاء!! فماذا تتوقع منهم من مساعدة، أكثر من ذلك"؟!
جميع ما فيها؟.. حقاً؟.. يا سيادة المسئول؟!
* * *
كلمة واحدة بقيت عالقة في ذهنه، إثر قراءته لتلك الرسالة، لم يفهم مغزاها.. ماذا
أراد كاتبها، بقوله.. "إن السم الذي أتينا به من فاس، سوف يستر الحقيقة،
إلى الأبد"؟.. قد يقضي السم على جميع من نسخوا تلك المخطوطات.. لكن، كيف
يقضي السم على الحقيقة ذاتها؟! حقيقة، ما زالت تنبض بالحياة، في صورة أصول
تلك المخطوطات التي لا بد قد دفنت في مكان ما، في أوربا!
أحس فجأة بعقم وجوده في دمشق!.. وماذا يفعل فيها، والكتب التي يجب العثور عليها
موجودة في أوربا.. بل ربما في روما!!
هل يعود إلى روما مباشرة؟.. أم يعرج على القاهرة، يرجع إلى وكر المتآمرين في صحبة
مبعوثتهم، "بالوما"، التي ذهبت إليها تنفيذاً لمهمّة أخرى!
ماذا يفعل؟.... من أين يبدأ؟... }
* * *
(ص474-479)
{سرعان ما توقفت السيارة الفخمة في ركنٍ هادئٍ منعزلٍ.. يكاد يكون مظلماً.. لولا
نور مصباحٍ كهربائي عتيق، تدلى من سلك تلاعب به الهواء، فراح يحرك أمواج
نوره البرتقالي الباهت، على جدران طينية متآكلة.. تحدّ طرقات ضيقة، ما كان
فراس ليجرؤ على السير فيها، لولا أنه في صحب إنسان لا يخافها، رغم ضعف
بنيته الظاهر.. يعرف بالضبط الوجهة التي يقصد!
لم تكن تلك، دروب دمشق القديمة.. كانت، إلى وقتٍ قريب، آهلة بخيرة سكانها.. لا
تزال تصارع الزمان، آملة أن يعود إليها من ينقذها من الإهمال والدمار! تلك
الحارات القاهرية، القديمة، باتت عظاماً متآكلة، لجسدٍ فارقته الحياة، منذ
أمدٍ طويل.. منذ قرر ملوك مصر الألبان وطبقاتها الحاكمة المتفرنسة.. التخلي
عن تراثها العريق.. واللحاق بالتطور، عن طريق الجري وراء كل ما هو أوربي!!
فتخلت، بذلك عن أروع القصور العربية، الإسلامية.. متاحف، بذاتها.. ينخلع
قلب الإنسان اسفاً، ولوعة، على ما كان فيها من بديع الزينة، والفن!! يشهد
على ذلك، حتى الآن، ما رسمه فنانون أوربيون، تجولوا في تلك المدينة، في
بداية القرن الماضي!!
ضحك غالي، رغم حالة الخدر التي كان هانئاً إليها.. وقال.. وهو يجدّ في السير، عبر
حارة، كاد الظلام يخيّم تماماً عليها..
- لست أدري ما الذي حدّثتْك عنه "بالوما".. بالضبط!.. هل أنذرَتْك برثاثة
المكان... مثلاً؟!
-لا.. أظن ذلك..
- إذن.. يجب عليّ إنذارك، وتحذيرك من هذه الأمور.. منذ الآن!.. فلا تفاجأ.. أو
تصرخ، هلعاً.. لقدم المكان، وتهالك أثاثه..
عاد إلى الضحك المكتوم.. ثم أردف قائلاً..
- أما عن القذارة، والإهمال.. فحدّث ولا حرج!
تعجّب فراس، وقال فجأة، مستنكراً مكر محدثه..
- فلماذا نذهب إليه.. إذن؟!
ردّ غالي ببرود..
- عزيزي.. أنا، لم أقترح هذه الزيارة على أحد! إنها "بالوما".. أم، هل نسيت؟!
ولقد أرادت أن تثبت لك أمراً.. فاتني سؤالكما عنه!
كانا قد قاربا ما قصدا إليه.. أنار مدخله نورٌ خافتٌ.. بدت لهما من بعيد.. فقال
غالي، كأنه وصل إلى تلك النتيجة بعد محاكمة طويلة..
- على أية حال.. لن تندم على هذه الزيارة.. قد تندم عليها، وأنت داخل الحمام!..
بل.. قد تعتريك حاجة ماسة للصراخ.. فلا تفعل!.. إذ ما من أذى يمكن أن يلحق
بأي إنسان، من هذا الشعب المسالم، اللطيف!.. جلّ ما عليك القيام به، هو
تجاهل القذارة.. والتنبه لعدم الجلوس، إذا كنت راغباً في مجانبة الحشرات
التي تعلق في ثيابك.. وأعضاء جسدك!!
تبسم فراس لما سمع، وأدرك أن غالي إنما يقوم بإثارته.. يتعمد ذلك.. يحركه دافع
خفيّ للتحدي.. كأنه يرمي إلى أن يظهر ﻟ "دون ماكسيمليانو" عجز الإنسان
الأوربي عن تحمل ما ألفته تجرته الخصبة الواسعة!
دلف الإثنان عبر بقايا بابٍ نخرٍ مفتوحٍ على انحدارٍ بسيط.. فكاد فراس يتعثر فوق
درجاتٍ نتأت حجارتها من طينتها المهترئة.. كأنها أسنان متآكلة، كشف عنها
مخلوق عجيب، مفتوح الشدقين على الدوام!
نزلا السلم إلى باحة مكشوفة.. تحيط بجوانبها غرف صغيرة من الخشب النخر.. وإلى
يسارها، باب حديدي صدئ.. علق بجدارٍ من طين.. يخرج منه بعض الناس، ويدخل
إليه من الوافدين، من خلع ثيابه، وتركها في عهدة أشخاصٍ أشدّاء، أقوياء
البنية، صارمي الوجوه.. يرتدون أثواباً طويلةً، عمائمهم على رؤوسهم..
يتجولون في أنحاء الباحة .. يرتّبون صرر الثياب الرثة، بعضها فوق بعض، في
صمتٍ، ووجوم!
ما إن رأى رئيسهم غالي وضيفه، على الباب.. حتى خفّ للقائهما.. يساعدهما على نزول
الدرجات الوعرة.. يكاد يحمل غالي، على ذراعيه، إلى إحدى الغرف الخشبية التي
يحتفظ بها لأمثاله من الزائرين، ذوي المقامات العالية!
أعاد ذلك غالي إلى الضحك، وهو يراقب دهشة "دون ماكسيمليانو"، وقال لصاحب الحمام..
بالعربية.. في لهجة متعالية، آمرة..
- معي ضيف.. يهمّني أن يخرج من هنا، بانطباع حسن!.. كم من الشباب لديكم، في
الداخل؟!
- خيرٌ.. وبركة.. يا سعادة الباشا.. لدينا العشرات منهم!! سيكفونكما حاجتكما..
ويؤدون واجبهم خير تأدية!
_ لا..لا.. إنما ضيفي هنا، زائر أجنبي.. قد أتى معي، للتفرج فقط!.. أخفض النور..
في المقاصير، منذ الآن! ولا تبقي إلا على مصباح القاعة الوسطى.. هكذا، تضيع
معالم "النظافة" التي قد تخيفه!
كان الإثنان قد أوشكا يفرغان من خلع ملابسهما.. فوقف فراس، يتلفت حائراً، لا يدري
أين يضع، أو يعلّق حوائجه .. وليس حوله غير القذارة، والجدران الترابية
المتآكلة.. المليئة بالفجوات والغبار..
مدّ الرجل لهما منشفة عريضة، قذرة، فألقيا عليها ثيابهما على مضض.. وما إن لفّ
غالي مئزراً رثّاً على كرشه.. وحذا فراس حذوه.. حتى أسرع خارجاً من
الغرفة.. يتبعه ضيفه.. فتجاوزا الباحة.. وناول غالي البخشيش لرجلٍ آخر، وقف
إزاء الباب الحديديّ، فتحه للضيفين.. ساحباً المئزرين، فجأة، عن وسطيهما..
قهقه غالي لمعالم الرعب التي بدت على وجه "دون ماكسيمليانو" وهو يسمع دويّ الباب
الحديدي، يغلق خلفه.. ويجد نفسه عارياً تماماً، في ممرٍ مظلمٍ.. يقود إلى
نورٍ خافتٍ، بعيد!!
تبيّن لفراس أن إحدى فردتي القبقاب الذي انتعله كانت أعلى من الأخرى، فكاد أن
يخلعه.. مؤثراً الاستغناء عنه.. يسأل رأي غالي في ذلك.. فعاد هذا إلى
الضحك.. وقال..
- حاول.. وتَرَ!
فما إن وضع فراس قدمه العارية على الأرض، حتى أحس بقشعريرة تسري في جسده لما
لامسته قدمه من مادة لزجة مخاطية، كانت قد كست أرض الممر.. كادت قدمه تنزلق
فوقها! فعاد، ينتعل قبقابه على الفور، يتبع غالي إلى الضوء الخافت، الذي
تدلّى من سقف قبّة القاعة الوسطى..
تفرع عن جدرانها عدد من الأقواس، تقود إلى مقصورات اختفت في العتمة التي خيمت
عليها، منذ أن أطفأ صاحب الحمام النور عن معظمها، استجابة لرغبة الزائر
الجليل!
كانت القاعة زاخرة بأناس عراة.. معظمهم، في سن المراهقة، والشباب.. يتمشون في
صمتً.. جيئة وذهاباً.. لا يكترثون لعريهم، أو لما بان للجميع من حالة
هياجهم.. يغيبون في المقصورات المظلمة، ثم يخرجون منها، مخلوقاتٍ عجيبةٍ
بريّةٍ، أسيرة.. تتحرك ساهمة بدافع غريزيّ بين جدران أقفاصها!
قال غالي، في إعجابٍ ظاهر..
- إن معظم الأجانب الذين يرون هذا المشهد.. يتعجبون للبساطة التي يتقبّل فيها
هؤلاء الشباب حالة العريّ الطبيعية، هذه!.. يظنون أن الجميع يمارسون الجنس
في مكان ما.. والواقع هو عكس ذلك تماماً!.. إنهم لا يمارسون شيئاً من هذا
القبيل، على الإطلاق.. بعد! وهذا، من حسن حظي!! كل ما في الأمر، هو أنك
الآن، في إفريقيا!.. ويتوجب عليك تفهّم ما سوف تشاهده على أنه ممارسات
طبيعية.. تعود أصولها في الزمان، إلى آلاف السنين!.. ومن يدري، لعلها كانت
طقوساً فرعونيةً قديمة!
كان فراس قد تسمّر في مكانه، وقد بردت أوصاله لما رأى.. رغم حرارة المكان.. لا
يجرؤ على التحرّك.. يشاهد حركة أسراب الشباب.. يمرّون عراة، أمامه.. كأنهم
لم يسمعوا أو يدروا بمعنى كلمة .. حياء!
أردف غالي، قائلاً، في إعجاب..
- ألا تلاحظ جمال أجسام جميع من ترى؟! أليست، هذه، في حدّ ذاتها، ظاهرة فريدة؟!
وهل تعرف سبب ذلك؟ّ إنه الفقر.. يا عزيزي!! العَوَزُ.. الذي يجبر جميع
هؤلاء على الأعمال اليومية المتعبة.. وعلى الاكتفاء بالقليل من الطعام!
عاد إلى الضحك، وهو يقول..
- إنك، لو تراهم في ثيابهم اليومية.. في خرَقَهم البالية التي يسترون بها
أجسادهم، أثناء النهار، لأفزعك مظهرهم! أما وهم كما خلقهم ربّهم.. أفلا ترى
كيف تزول الفوارق الاجتماعية، والمادية، بين الجميع!.. ويصبح الفقير،
المعذّب، أجمل شكلاً، وأرقى مظهراً، من المترف، المترهّل، الشبق.. مثلي
أنا!! أليس في هذا.. حكمة؟!
قال ذلك، وابتعد عنه.. يسير كمن يتمشى في حلم، يلفت بياض بشرة جسده، النظر..
ويبدو، بقامته، القصيرة، البدينة، الملساء، كإوزة بيضاء، مسمّنة، تنتقل
أثناء الليل، في غابة تعجّ بالعيون الخفية.. تنتظر منها حركة، كي تنقضّ
عليها، وتفترسها!!
* * *
طال غياب غالي في إحدى المقصورات المعتمة.. وكان بعضهم قد بدأ التحلق حول فراس،
مما اضطره لإبداء امتعاضه.. فسار يبحث عن مضيفه ليخبره بأنه يؤثر مغادرة
المكان، وقد نال كفايته من المشاهد الأثرية!
توقف أمام باب المقصورة المعتمة التي غيّبت غالي، وقد نابه الذهول لما تبدّى
أمامه من مشهد تفوق غرابته الوصف!
كان غالي مستلقياً على الأرض.. وجهه إليها.. لا يبدو منه إلا أطراف جسده.. وقد
تجمهر في الغرفة، عشرات الشباب.. تحلّقوا حوله.. يقفز بعضهم من خلف بعض..
يستعينون بأكتاف من أمامهم للقفز.. لمشاهدة ما يجري وسط المقصورة!!
كان فراس قد وقف مبهوتاً.. كأنه في حلمٍ مريع.. يراقب ما يجري لغالي.. داخل
مقصورةٍ معتمةٍ ينهمر ماء ساخن من أحد أركانها.. تسري أسراب الصراصير، على
جدرانها اللزجة!! فأحس فجأة بدوارٍ نبهه إلى حرارة، ورطوبة المكان!..
فتراجع خطوات في هدوءٍ وحذر.. ثم دار على عقبيه.. وأسرع، عبر القاعة،
والممر.. يقرع الباب الحديدي.. في إلحاحٍ، وعنفٍ.. يطلب ما يستر به جسده،
ليخرج من الحمام!!}
* * *
(ص486-491)
{تقدمت السيارة الفضية الفخمة، في إصرار، عبر طرقاتٍ غريبةٍ على مثيلاتها!..
دروبٌ وعرةٌ، ضيقةٌ.. مهجورة، كثيرة المنعطفات. تجبر السائق على القيام
بعدد من الحركات الصعبة لتجاوزها بسلام.. تهبط فجأة في حفرٍ كالفخاخ، يستر
الماء والطين حقيقة عمقها، فيتطاير الوحل في جميع الاتجاهات.. ويلتصق على
جدران متثاقلة كادت مراراً أن تمزّق جوانبها الصقيلة..
حملق السائق مراراً في عيني سيّده.. يستشفهما حقيقة ما في ذهنه.. لا يفهم سبباً
يبرر مخاطرته بسيارة لطالما أحسّ صاحبها أن في أناقتها، وانسياب خطوطها،
جميع ما ينقص أعضاءه من تكاملٍ.. وما تفتقر إليه حياته، من وزنٍ، أو أية
قيمة جمالية!! كاد يحجم عن التقدم، في بعض الأحيان.. يلتفت إلى سيده..
فيزيد هذا من تقطيب حاجبيه، ويحضه في صمتٍ، وإصرارٍ، على المتابعة في
التقدم.. ضارباً بقبضته المجعدة في الهواء.. يأمره بتجاوز ما على الطريق من
أحجارٍ، أو مهملاتٍ، كان لقرقعتها، أو صوت تحطّمها، أثر زاد من جوّ التوتر
الذي طغى على الحاضرين، دون أن يفقه أحدهم سبباً مقنعاً، شافياً لذلك!..
فتح غالي كفيه فجأة في الهواء.. آمراً سائقه بالتوقّف!! وترجّل على الفور، من
المقعد الأمامي.. ثم دلف في باب متآكل.. ينيره مصباح عتيق، خافت.. اختنق
نوره من وطأة ما تراكم عليه من غبارٍ وأقذار!
جلّ ما بان من غالي، وهو يخرج من سيارته، ويدلف في الحمّام العتيق، جنب وجهه
المغبرّ، وأكتافه المقوسة.. لكن، ما عاد منه، مبتسماً، متشفياً، مزموم
الشفاه، كان مفاجأة للجميع!!
نظروا جميعاً إليه.. متسائلين، في ترقّبٍ.. لا يفهمون سبباً للتحوّل الذي طرأ
عليه.. فقال، يكلّم "دون ماكسيمليانو" وينظر، في الوقت ذاته إلى الفتاتين
بطرف عينه.. يبتسم لهما، في دماثة، وبرود!!
- "دون ماكسيمليانو".. لقد فاتك قصدي، منذ حين.. في "سيدنا الحسين".. تعال إذن،
أُرِكَ منظراً لن تنساه.. في "الست زينب".. منظراً، من معالم القاهرة، التي
تحبّ.. بملايينها الشابة الثلاثة.. التي سوف تتحرك يوماً، على حدّ قولك،
مجتمعةً على هدفٍ واحد.. غير الجنس.. تعال!
وفتح باب السيارة الخلفي، بفسح الطريق ﻟ "دون ماكسيمليانو" بالترجّل.. يقول
للفتاتين، في أسفٍ ظاهرٍ..
- آه.. لو أن في استطاعتكما الدخول.. لمشاهدة ما سوف أقوم به!! على أية حال.. لا
عليكما.. فلن يطول بنا الغياب!
ثم أغلق الباب، وترك الفتاتين في حراسة السائق، على دربٍ مظلمةٍ مهجورة، من دروب
"الست زينب".. يصعب حتى على أبناء المنطقة، الوصول إليها!
دخل فراس في ممرّ ترابيّ، مظلم، منخفض السقف.. بان نورٌ شاحبٌ خافتٌ، في آخره..
وسار وراء غالي.. تقدمه، يدفع ببعض خيوط العنكبوت، عن وجهه.. يقول..
- إن الوقت قد تأخر.. ولقد لجأ معظم المستحمين إلى النوم..
- وهل ينامون.. هنا؟.. ظننت أنه حمام، فقط!
- .. إن ظنّك في محلّه.. لكن الفقراء عندنا.. يستحمون، وينامون.. في الحمّام!..
ماذا تريد.. إنه حلٌ عمليّ.. من اختراعات الحاجة! بضعة قروش.. يستحمّ
الفقير، مقابلها.. وينعم بمهجعٍ دافئٍ.. بقية برد الشتاء!
كان صاحب الحمّام قد خفّ للقائهما.. لا يصدق أن النعمة قد هبطت عليه.. من حيث لا
يدري.. في تلك الساعة المتأخرة!.. يأسف لنوم عمّاله، ونوم من يحسن استقبال
"الخواجات"، في آخر الليل!!
أدرك على الفور أن "دون ماكسيمليانو" أجنبيّ.. فتوجه إلى الخواجة المصري، في
تساؤل ولهفةٍ.. يستزيده بالإشارات من الأجرة المتفق عليها.. ثم قال،
مسوّغاً طلبه..
- ولم لا؟ ألا يريد هو الآخر.. عدداً منهم؟!
ردّ غالي على الفور، في تبرّم، وتعالٍ مسرحيين.. لا يجرؤ على استعمالهما، في
أسلوبه بالتمادي.. إلا مع الفقراء، والخدم..
- لا..لا.. قلت لك.. أنا، وحدي.. فقط!! أفٍ منك!!
ندم صاحب الحمّام على قوله الذي أقصى الزبون الأجنبي عن المشاركة.. ولو أنه أخلد
إلى الصمت، فلعلّ الأجنبي كان أقدم على مبادرةٍ ما، ناله منها الربح..
قال، متأسفاً على ما بدر منه..
- أنا لا أقصد شيئاً.. يا بيه!.. فالمكان مكانككما، تفعلان فيه ما تشاءان!
كانوا قد خرجوا من الممر الترابي، وولجوا قاعةً مستطيلة الشكل، مترامية الأطراف..
أرضها حجرية، يتصاعد البخار من ماءٍ يسيل على ميلٍ بسيط في مقدمتها.. يسيطر
عليها نورٌ شاحبٌ، خفيّ المصدر..
نظر فراس، وإذا بلون أرضها الترابيّ، الذي تلاعب برؤيته شحوب الإضاءة المصفرة،
المعشقة بالرطوبة، ووشاح البخار الشافّ.. يتبدّى عن مئات الأجساد العارية،
المتفاوتة السمرة.. استلقت جميعها على الأرض، في أوضاعٍ جامدةٍ، ساكنة..
جثثٌ ملقاةٌ في مشرحةٍ.. بعضها انكمش على جنبه.. في اتجاهٍ واحدٍ.. شيوخٌ،
تهدّلت طبقات جلدهم المتجعّد، فباتت أقفاصهم الصدرية، وعظام أطرافهم
كالعيدان الجافة.. تقاربت الأجساد بعضها من بعض.. تسعى في عريها إلى تبادل
الدفء، وقد فترت حرارة الأرض الحجرية تحتها، ومال الماء الذي يتخللها،
للبرود! وبعضها الآخر، أجسادٌ لفتيةٍ مفتولة العضلات، اتخذت، في سباتها،
جميع الأوضاع الممكنة، بدت، هي الأخرى، جثثاً هامدةً، قد فارقتها الحياة..
إلا أغربها، وهي التي تمددت على ظهورها، منفرجة الأفخاذ، والسوق.. وقد
تدلّت أعضاؤها.. بعضها، تنبض بحركة دفق الدم، وبعضها الآخر، ارتفعت في
الهواء، ليس سواها من دليل على أن صحابها ما زالوا، على قيد الحياة!
وقف فراس، مشدوهاً لغرابة المفاجأة! يظنّ أنه في أحد بيوت الموتى، في الصين.. أو
أنه يعيش لحظةً سحيقة البعد، من تاريخ مصر القديم، ينظر إلى الجثث معدّة
للدفن، أو التحنيط!
لعل وحشة وغرابة المكان، كانتا قد نالتا حتى من برود غالي، وتجربته الواسعة..
فوقف، هو الآخر، حائراً، مرتبكاً، في البدء.. يسعى إدراكه لاستيعاب ما
انبسط أمامه من مئات الأجساد الساكنة! ثم ما لبث أن أبدى بعض التبرّم، وقال
للرجل، في صوتٍ نزقٍ، خفيضٍ، يخفي بعض الوجل..
- لكنهم نيام! جميعهم!! ما هذا؟! ما كنّا قد اتفقنا على هذا!! أفٍ.. ماذا نفعل؟!
نظر الرجل إليه، يتعجب لما سمع.. وقال..
- إختر ما شئت منهم، يا "خواجة".. اختر العدد الذي تشاء! والباقي عليّ، أنا!!
برقت عينا غالي لما سمع.. والتفت يراقب وقع قول الرجل على مسامع "دون
ماكسيمليانو".. ثم تجاهله، فجأة.. وعاد يمعن النظر فيما اندثر أمامه من
ضحايا.. رافعاً ذراعه، ماداً سبابته، يهزّها.. مشيراً إلى بعض من راقت له
أجسادهم، وأعضاؤهم.. فقال..
- هذا.. وذاك!.. وهذا!.. وهؤلاء الثلاثة هناك!!
اندفع يشير إلى عدد كبير منهم.. ضاع ترتيبه، على صاحب الحمّام.. فما كان من هذا
إلا أن التفت إلى جانبه، وأخذ وعاءً كبيراً، غطسه في برميل ماءٍ قربه، حتى
امتلأ.. ثم رفعه، وبدفعة واحدةٍ، عريضة، قذف بما فيه، على النائمين..
سافحاً الماء البارد على أجسادهم!! ثم أعاد الكرّة، عدداً من المرات!! في
كلّ مرةٍ، يهيل الماء على أجسادٍ لا تزال تغطّ في سباتٍ عميق!! يصيح
للنائمين، بصوت غريب مرتفع.. ينهرهم، يحضهم على النهوض!! صوت القدر، يصرخ
على الأجساد.. يأمرها بالنهوض من قبورها.. لتواجه قدرها المحتوم!!
كان فريق منهم قد تناهضوا على أكواعهم، وعيونهم ما زالت مغمضة، لا يفهمون من معنى
لما حل عليهم فجأة من بلاء.. وفريقٌ لآخر، رفعوا أذرعتهم، يحتمون بها من
قذف الماء البارد.. وقد بدأوا تأوّهاً عميقاً، مصدوماً، ما لبث أن تجمّع،
وارتفعت نبرته المبحوحة، فتحول إلى جؤار أجشّ.. محموم!!
صاح بهم صاحب الحمام في شراسة، وتهديد.. يأمرهم بالصمت.. ثم أشار إلى بعض من
استفاقوا ممن كان الخواجة قد أشار إليهم.. وفي الوقت ذاته، استلّ عصى
طويلة، دقيقة، كانت غير بعيدة عنه، راح يلوّح بها في الهواء، منذراً من قد
تسوّل له نفسه عصيان أوامره..
- أنت.. تعال!.. وأنت، هناك!.. وأنت!.. وأنتم.. قوموا!.. تعالوا!.. جميعكم. هيّا!
فتناهض هؤلاء.. في كسلٍ وخضوعٍ.. بينما عاد الباقون، ممن أدركوا أن الأمر لم يعد
يعنيهم.. فاستلقوا على الأرض ثانية.. وغطّوا في النوم من جديد!
لم ينتظر فراس بقية الكابوس! استدار على عقبيه، واتجه فوراً يقصد الرواق
المظلم.. وباب الحمام!!
كاد يصطدم في طريقه، بشخصين، أخفت ظلمة الممر، وعتمة الباب وجودهما.. وإذا هو
أمام "بالوما" و"ليزا".. تسللتا إلى مدخل الحمام خفية!! كانتا قد وقفتا، في
آخر الرواق.. تسترقان النظر!!
قالت "بالوما" ويدها ترتعد، وهي تغلق باب السيارة..
- لو أني قرأت ما شاهدته الآن، في كتب الأساطير.. لظننته إسفافاً في المبالغة!..
يا إلهي!.. ياإلهي!.. "مكسيم" كيف يحصل هذا؟! كيف يصل الإنسان، إلى هذا
الدرك؟! في هذا العصر!
شدّ فراس على أسنانه، يكتم غيظه، في سكون.. وقال، يغالب حاجة ملحّة في البكاء..
- إن الدرك يقع في فعلة أولئك الذين يستغلون فقر، وعمى الآخرين.. لتحقيق نزواتهم!
- وتلك الأجساد الفتيّة؟.. كيف تسيّر بهذا الشكل؟ كيف تؤمر بهذا الصلف؟ كيف؟!..
ألا عقول لها.. أليس لها إرادة؟ "ماكسيمليانو" أين نحن؟! أي العصور هذه؟!
- بلى.. بلى.. إن لها إرادة.. لكن الفقر قد خدّرها أو سحقها!.. أين تتجه الإرادة،
في عقول لا تقرأ؟! عقول.. جردت من تاريخها؟! إن كرامة الشعوب، في
تاريخها!.. وهؤلاء، مساكين.. جردوا من تاريخهم الحقيقيّ!.."بالوما" إنما هي
مسألة وقت.. وستعرف هذه الأجساد يوماً، كيف تأكل لحم ظلاّمها.. وترمي
بعظامهم للكلاب!!}
القسم الثالث
(ص502-513)
{أدرك الكاردينال أن محدثه ليس على علم بتفاصيل ما يتحدث عنه.. فأطرق برهة.. ثم
عاد يمعن النظر في وجهه، كمن قرر في النهاية اطلاع أحد أحفاده على سرٍ طال
كتمانه له، يرى في ذلك الحفيد وريثاً جديراً بالثقة، وأن الوقت قد حان كي
يسلمه أسراراً عائلية متوارثة.. فقال..
- "ماكسيمليانو" هب أننا قد أخفينا كتاباً فلسفياً، عربياً، في زمن بعيد.. ونشرنا
محتوياته تحت إسم مؤلف فرنسي، أو إيطالي! فإن أول ما يجب عليّ خشيته الآن،
هو محاولة إنسان عربيّ اليوم، كشف أمر هذا المخطوط، ثم إعلانه على الملأ..
وفضح عمليّة "الاستعارة" هذه!.. صحيح؟!
- صحيح!
- لكنني لا أخشى هذا الأمر بتاتاً!.. صدّق ذلك، أولا تصدّق!.. فالعرب اليوم، هم
آخر من يبحث عن حقيقة تاريخهم .. وهذه حقيقة، باتت واقعاً علمياً بحتاً..
منذ أن أصبحوا لا يعترفون على علمٍ، أو تاريخٍ، أو فلسفةٍ، إلا إذا كان
مصدره ممهوراً بأختامنا الأوربية!.. أليس عجيباً أن نكون قد نجحنا تماماً
في غسل أدمغتهم؟! لدرجة أنهم إذا ما خيّل لهم أنهم أدركوا ذلك، عادوا إلينا
نحن، يطلبون، منا نحن، العلاج!! تصوّر! أليس هذا مذهلاً؟! إن أوسعهم علماً،
اليوم، إذا ما أدركوا أن هنالك من زوّر تاريخهم، أو بدّل فيه.. يعودون
إلينا نحن!! يطلبون منا نحن! ومن مصادرنا المزوّرة، إرشادهم إلى اكتشاف
الحقيقة!! نعم.. نعم.. لا شك أننا نجحنا في إخفاء تاريخ المسلمين الحقيقي
.. إلى غير رجعة.. لقد كانت مهمة شاقة.. طويلة.. لكننا قمنا بواجبنا خير
قيام..
ضحك فراس، ساخراً، موافقاً.. دون التعليق على ما سمع.. فتابع الكاردينال..
- لا..لا!.. إن ما أخشاه.. هو، الجهة الأخرى.. أخشى أن تكتشف حقيقة ما فعلناه، في
الماضي! تعثر على تلك المخطوطات، فتعيد تحويرها، لمصلحتها، ثم تكشفها على
الملأ!
- أية جهة تعني؟.. كيف؟! ومن الذي في استطاعته المطالبة بنصوص عربية، إسلامية..
غير أصحابها.. غير العرب.. والمسلمين؟!
- اليهود!! ليس كل اليهود بالطبع.. بل جماعة صهيون.. الدائبة، العاملة.. التي
تحاول إعادة كتابة التاريخ من جديد!! وجميع اليهود وراءها، كما تعلم! وهم
يملكون أشد الأسلحة مضاءً، وفتكاً.. وسائل الإعلام.. في العالم كله!!
أخلد الكاردينال إلى الصمت، وهو ما زال رافعاً حاجبيه.. فاتحاً شفيه.. في وضع من
يتابع الكلام.. كأن الزمان قد توقف، فجأة!.. وانقضت ثوان، وهو على ذلك
الوضع.. ثم عاد إلى الحركة، والكلام، كأن الحياة دبت في أوصاله، وتقاطيع
وجهه من جديد..
- أقول لك، إنني ما كنت لأهاب هذا الأمر، لو أن الخوف اقتصر على العرب، وحدهم!
فالفهرس، إذا أرشدهم إلى أن هنالك كتباً فلسفية عربية، يجهلون وجودها، فما
من قوة على الأرض تستطيع أن تقودهم إلى حيث أخفيت هذه المخطوطات! ناهيك عن
استحالة محاولة استخراجها، من حيث هي الآن! "ماكسيميليانو".. لولا أنك أحد
القلائل في العالم الذي لا أشك في عقيدته.. نظراً لثقتي المطلقة بعقيدة
أسرتك وإيمانها، لما أطلعتك على مخاوفي هذه!! إن جماعة صهيون.. قد تسربت
إلى قواعدنا نحن! وما عدنا ندري إلى أي حدّ، بالضبط، نما هذا السرطان
الخبيث في جسدنا، وانتشر!! إني بتّ أخاف أن يكون هذا الفهرس في حوزة أحد من
جماعة صهيون، الآن.. ممن هم اليوم، داخل جهازنا الكنسيّ!.. ولقد نجحوا في
الخطوة الأولى ، وهي إقصائي عن المكتبة.. وعن الفهرس!! أما الخطوة التالية،
فقد تكون، نسبة بعض تلك المخطوطات إلى ابن ميمون، مثلاً! بدل، ابن رشد.. أو
ابن خلدون! ثم تنشر نصوصها، على الملأ.. فاضحين بذلك ما قمنا به.. مفاخرين
بها، على أنها من تراثهم اليهودي!! إن مثل هذا الأمر، لو حدث، لكان كارثة
علينا، وعلى العالم الغربي، بأسره!! خصوصاً، وأن جميع وسائل الإعلام اليوم،
في أيديهم.. ولعلهم لا ينتظرون إلا مثل هذه القضية ليمسكوا بزمام القيادة
الثقافية، والروحية، للعالم الغربي، إلى الأبد!!
تساءل "ماكسيميليانو".. في حيرة.. وتمتم..
- ابن ميمون؟!
- بالطبع!.. فلقد كان يهودي الأصل، كما تعلم! .. ولقد أقاموا له التماثيل في
إسبانيا اليوم على هذا الأساس.. "ماكسيميليانو"! عزيزي! إن الدولة، في
بلادك، تساعدهم من حيث لا تدري!.. فهي لا تشدد، من مجمل تاريخ العرب، في
الأندلس، إلا على ذِكرما كان من أصلٍ يهودي! وسيأتي قريباً.. اليوم الذي
سينسبون فيه جميع حضارة العرب، في الأندلس، إلى تأثير عقيدتهم!.. تماماً
كما فعلوا بنا، حين دمجوا العهد القديم، اليهودي، بالأناجيل الطاهرة
المسيحية.. التي لا تكف عن لعنهم!! ألا ترى أن عقيدتنا لا تذكر اليوم، في
المحافل الفلسفية، إلا مقرونة بعقيدتهم؟! لا يتكلمون عن الحضارة الأوربية،
إلا ذكروا جذورها "اليهودية المسيحية"، فما بالك إذا كان ذلك الفهرس في
أيديهم الآن؟! وتحت إمرتهم، مئات المخطوطات الأصلية التي يجهل العالم
وجودها؟! إنما يروّعني الآن، هو أن جماعتهم هذه، قد تكون، بيننا، دون أن
ندري!! إنهم قد يكونون في مثل هذه اللحظة، بالذات، منهمكين في إعادة نسخ و
تحرير تلك المخطوطات.. التي ظننت أني قد أخفيتها إلى الأبد!! آه.. لو
دمرتها!! آه لو أحرقتها، أو لو أحرقها من كان قبلي، قيماً على المكتبة!! إن
جدك الأول، "ماكسيميليانو".. كان السبب!! جدك، كان رأس الهرم الذي ابتدع
فكرة التحوير، في سبيل العقيدة! لكن حب الخير والصدق، يبقى راسخاً في
الإنسان،.. مهما نزع إلى الكذب.. والشر.. لذلك أبقى جدك على الأصول.. ولم
يدمرها!!.. وتعاقب بعده عدد ممن هم على شاكلته.. أناس، آثروا في النهاية،
على الدوام، ألا يقوم بإفناء تلك المخطوطات!!
كان الكاردينال "بامفيلي" يتكلم، مأخوذاً بما يحرفّه، مفتوناً بما كان في وسع
أصابعه شده من خيوط معقدة، تسيطر على مقدرات الفكر في العالم.. فما إن أخلد
إلى الصمت، وراح يمعن النظر في "ماكسيميليانو"، من جديد، حتى تنبه إلى أن
وشاحاً من القنوط قد جلل وجه ضيفه.. فتبسم له، في رفق.. وقال..
- أعلمُ.. أعلمُ.. يا بنيّ، أن ما أحدثك عنه، ليس خيراً، كله!..
لكن على الإنسان أن يضحي، في كثير من الأحيان، في سبيل قضية عادلة! وقد
يُقترف الشر، في سبيل الخير..”Todos
Modos”..
أنه شعار اليسوعيين، كما تعلم.. "جميع الأساليب" ! ألا يحارب الإنسان، في
سبيل عقيدته؟! ألا يقترف القتل ، في الحرب، لإحلال السلام؟! إنها غنائم
الحرب يا بنيّ.. ليس إلاّ!.. لقد انتصرنا في الحرب على الإسلام، في
الأندلس.. فحق لنا جمع الغنائم! ولسنا أول من قام بهذه الفعلة، في التاريخ!
ضحك لفكرةٍ طرأت على ذهنه.. وقال..
- لعله حب المغامرة.. أو القرصنة، عندنا.. أم لعله حب الصيد، عند إنسان تعود
الحياة في الغابات.. على أية حال، فإن انتحال الثقافة ليس بالأمر الجديد
على الحضارة الأوربية، وليست عادة مقصورة على رجال الدين، والإيمان.. كما
تعلم!!
نظر إليه "ماكسيميليانو" يستوضحه، فأردف قائلاً..
- هل تدري من أول من قام بمثل هذه الفعلة في التاريخ؟ ناهيك عن أن، تلك، كانت
عميلة سطو رهيبة التدبير، والتنفيذ!! أين منها.. ما قمنا به نحن؟!
سأل فراس، في دهشة وعجب..
- ومن كان ذلك؟!
- إنه اسكندر المقدوني، بالطبع!.. وبالاتفاق مع أستاذه العظيم، أرسطو! إنها أول،
وأكبر عملية سطو منظم في التاريخ.. على العلوم والفلسفة! وليس من سبب يمنع
المؤرخين عن ذكر تفاصيلها، إلا لأننا نحن، اليوم، في الغرب، أساتذة
التاريخ! وليس في مصلحتنا تفويض دعائم حضارتنا القائمة على ما نسميه
بالحضارة والفلسفة، الإغريقية! التي هي في الأصل، حصيلة ما جمعه الاسكندر،
وبعث به، لأستاذه، أرسطو، من جميع ما عجّت به الخزائن الشرقية من كتب
وألواح الفلسفة، والعلوم القديمة، التي وجدت على طريقه، وهو ماضٍ لاحتلال
السند!
نظر إليه"ماكسيميليانو"، يستوضحه، فأردف قائلاً..
أطرق الكاردينال برهة، كأنه عاد بأفكاره كلية إلى ذلك الزمان، ثم قال..
- لكن الاسكندر اقترف خطأً، مريعاً! خطأ سمح لجماعة صهيون، فيما بعد، بالتسرب إلى
بنائنا الروحي، والثقافي!.. وليس ما نستطيع القيام به اليوم، للحؤول دون
إتمام سيطرتهم الكلية علينا.. الشيء الذي بات على الأبواب!!
- وكيف يقوم الاسكندر بذلك.. قبل ثلاثة قرون ونصف من الميلاد؟!
- لقد شاء الإسكندر توحيد الآلهة، تحت زعامة إغريقية موحدة، على غرار ما فعل بشأن
توحيد الثقافة!.. هدفه في ذلك بالطبع، تثبت سيطرة مقدونيا على العالم
الحضاري.. فهو لم يكتفي بأن نسب جميع الفلسفات القديمة، إلى أسماء إغريقية،
بل حطّم معابد جميع آلهة الشرف القديم.. المتغنية في تعاليمها بحب السلام..
ليرفع الصروح، آلهة الأغريق، الداعية إلى الحرب! وأعطى بقية الآلهة التي
رضي عنها، أسماء إغريقية!! هكذا.. نفى الإله "أيل" الكنعاني، من الوجود..
وهو أنذاك، أبو الآلهة، الذي اتصف بالمحبة والرحمة، وحبه لسلام!! وأحل محله
"زيوس" الإغريقي، الذي أصبح فيما بعد، "جوبيتر"، الروماني!.. وكلاهما ميّال
إلى البطش، والحرب، مثل "يهوه" تماماً.. الذي ما كان له من الأهمية في سلم
الألهة الكنعانية، إلا دور ثانوي، ظرأً لقسوته ولميوله الحربية ولحبه للبطش
والانتقام!.. ماذا قال المسيح وهو على الصليب؟ ومن نادى؟!.. لقد نادى
"أيل".. حين قال "إيلي.. إيلي.. لِمَ سبقتني؟" لقد نادى إله كنعان.. ولم
يناد "يهوه".. إله اليهود! لكن تدني الثقافة الأوربية في العصور الوسطى
ساعد على طمس هذه الحقيقة.. حتى نجح اليهود في إشاعة الظن بأن تعدد أسماء
الآلهة، في العهد القديم، أمر لا أهمية له، وأن جميع هذه، أسماء تشير إلى
الله. في حين أن الحقيقة التاريخية، مخالفة لذلك تماما.. وأن اليهود حين
ضلّوا، تبعوا "يهوه"، إله الحرب.. وأعرضوا عن "أيل".. أي الله.. وهو رب
ابراهيم.. إله الرحمة والحكمة والمحبة!
- وما علاقة هذا، بجماعة صهيون؟!
تبسم الكاردينا "بامفيلي".. وقال، في هدوء..
- إن جميع الكتابات اليهودية، عن تاريخهم قبل الميلاد، لم تكن، قبل القرن الخامس
عشر، إلا قطعاً وشذرات، منفصلة، بعضها عن بعض، لا علاقة لها بالتوراة
اليوم!.. لقد كان لهم في العالم، آلاف المخطوطات المتناقضة! جميعها، لها
أسماء دينية مقدسة، ومعظمها ينافي التعاليم المسيحية الحقيقية!.. إن النسخة
الموحدة الرسمية للتوراة، كتبها "يعقوب بن حاييم"، باللغة العبرية في عام
1525 .. ولقد وحدّها من أصل ثمانية آلاف مخطوطٍ دينيّ! جميعها متباين..
متناقض! معظمها، كتب باللغة الآرامية! بالآرامية..وليس بالعبرية.. تصور!
فهل تتصوّر مدى التحوير والتصرف الذي تضمنته مثل تلك المهمة؟! ولقد وُحِّدت
تلك النسخة في زمن سيادة، عقيدتنا، نحن، في أوربا! لذلك، جاءت بما يناسب
روح هذه السيادة، وكأنها القاعدة الأساسية التي نشأت عنها عقيدتنا!.. ولم
يتقربوا منا، حباً بنا.. أو رهبة من سطوتنا! بل فعلوا ذلك، وفي أذهانهم قصد
الالتصاق بعقيدتنا، وذلك، بهدف التسرب إليها، ثم محاولة القضاء عليها، من
الداخل، ولا شك عندي أن" مارتن لوثر" منهم.. وقد حقق أكبر نجاحاتهم! وهل
تريد برهاناً، أكبر من نجاحهم، مؤخراً، في محو اللعنة التي أحلتها الأناجيل
ذاتها على شعبهم؟!
أطرق صامتا، يهزّ رأسه أسفاً.. ثم عاد إلى الكلام، فقال...
- أن تلك النسخة من التوراة، لصقت بالأناجيل الأربعة، حتى أصبحت كمقدمة لها، بل
أصبحت جزءاً منها!.. وما إن انتشرت البروتستانتية، في أمريكا.. بفضل مؤازرة
هذه الجماعة.. حتى وجدت جماعة صهيون، أن خير حربٍ كاسحةٍ يشنونها علينا، هي
حرب مناصرة تلك المذاهب الأمريكية! جميعها لا تروج إلا للعهد القديم.. في
الكتاب المقدس.. الذي بات الجميع يتقبلونه على أنه تاريخ اليهودية الأصلي!
فصار لا يذكر اسم عقيدتنا، إلا مقروناً باسم عقيدتهم، كأنهم هم الأصل، ونحن
الفرع! وهكذا يا عزيزي "دون ماكسيميليانو" نكون قد تذوقنا السم الذي قد
حضرناه للآخرين وحلّت علينا ذات اللعنة التي سببناها للعرب.. والمسلمين!
- أي لعنة هذه، يا صاحب النيافة؟!
رد الكاردينال والمرارة بادية على معالم وجهه..
-.. كما أن العرب لم يعد في وسعهم، اليوم، البحث عن تاريخهم، إلا بالرجوع إلى
مصادرنا الغربية! كذلك، نحن، لم يعد في وسعنا البحث عن جذورنا الأوربية،
الحقيقية، إلا بالرجوع إلى مصادر جماعة صهيون!.. ومن المنتصر في كل هذا؟!..
إنهم يملكون جميع وسائل الإعلام، في العالم اليوم!! وإن أي إنسان يتصدى
لهم، بما يخيفهم، تراه يرزح في اليوم التالي، تحت وطأة فضيحة سياسية، أو
أخلاقية، لا أصل لها! تحطم سمعته، وتنسف من الأصل جميع ما قاله ضدهم!!
كان حب العلم والمعرفة لدى الكاردينال "بامفيلي" قد تغلب على حذره المعهود، حين
يكلم الغرباء.. لكن "فيليتشي بامفيلي"، الذي جلس يحدث "دون ماكسيمليانو"،
لم يكن في تلك اللحظة ذلك الكاردينال المتزمت، الذي تقيد عقيدته مقداراته
الذهنية الواسعة.. بل إنساناً عظيم الاطلاع.. عميق جذور المعرفة، سبر
التاريخ، فهو، وإن كان قد اتخذ موقفاً معيناً منه، إلا أن ذلك لم يمنعه من
فهم مقدرات خصمه.. ولم يعمه حبه وولاؤه لعقيدته، عما كان لغيرها، من
مزايا..
كان "دون ماكسيمليانو" ينظر إلى عيني الكاردينال، في حيرة، وعجب.. لا يدري ماذا
يقول.. ولعل الكاردينال أحب ذلك الانطباع الذي تركه كلامه على مسامع،
ومعالم، ضيفه النبيل، فتابع قائلاً..
- ولم تستغرب ذلك؟ لقد كانت خطوة حضارية، خطاها الاسكندر في زمنٍ كان الفاتحون
فيه، لا يكترثون بغير المال، والمتعة!.. فهو، بدل أن يكتفي بسلب ضحاياه،
مالها، وذهبها.. زاد في ذلك خطوة هامة.. علمه إياها أستاذه، أرسطو!.. وهي ،
أن في الشرق كنوزاً أثمن من الذهب والفضة.. وهي كنوز الفلسفة، والحكمة،
والعلوم! فطلب منه جمعها في طريقه، وإرسالها إليه، مع البريد المنتظم،
أولاً، بأول! فقام الاسكندر بتلك المهمة خير قيام، ولم يكتفي، بذلك، بل ،
دمر جميع المدن القديمة، التي تحمل ذكريات تلك الفلسفة، وبنى مدناً جديدة
مكانها تحمل اسمه.. كأنه يريد أن يجتث جميع الجذور التي تربط تلك الفلسفات،
بأصولها!! نعم.. نعم.. لقد بنت أوربا القديمة صروح ثقافتها، بعد معركتين
حاسمتين.. وعلى أنقاض ما حطمته واختزلته إثر هاتين المعركتين!.. الأولى،
حرب الاسكندر على الشرق وسرقته لتراثه.. مما أسس حضارة اليونان!.. والثانية
حروب روما على قرطاجة.. وسرقتها لحضارة صور.. مما كرّس موت الشرق القديم..
شرقه.. وغربه!!
تبسم فراس، وقال..
- أن جميع ما تقوله صحيح.. لكن ذلك لا ينفي أنه كان في اليونان، جميع ما نعرفه
اليوم من أسماء إغريقية، عريقة، لامعة.. من فلاسفة، وشعراء، ومؤرخين.. في
زمن، لا نذكر فيه، لبقية الأقوام، أسماء لها مثل ما لأعلام اليونان من ألقٍ
وشهرةٍ!!
ضحك الكاردينال، ملء صدره الكليل، وقال، يدحض رأي ضيفه النبيل، بطرحه لسؤال واحد!
قال، يسأل "دون ماكسيمليانو"..
- وهل تعرف، يا صاحب النيافة، ما هو"قانون الاسكندرية"؟!
هز "ماكسيمليانو" رأسه نافياً.. مقراً بجهله.. فأردف الكادينال على الفور..
- أنه، يا عزيزي، المَثل الذي حذونا حذوه نحن.. حين جمعنا الأناجيل! فألغينا ما
ألغينا منها، وأقررنا ما أحببناه! لقد كان في العالم، مئات الأناجيل، قبل
القرن الرابع.. فحظّرنا استعمالها، جميعها.. ما عدا أربعة، أي، الأناجيل
الأربعة المعترف بها، والتي يكاد العالم لا يعرف غيرها، اليوم!
- تقول إنكم حذوتم حذو "قانون الاسكندرية".. فما هذا القانون؟!
أجاب الكاردينال ضيفه على الفور، قائلاً..
- اسمع جيداً.. إذ أن ما سأقوله لك، يكاد لا يتحدث به، إلا قلائل في العالم
اليوم! رغم أهميته القصوى!!.. إن "قانون الاسكندرية" هو اللقب الذي أعطي
للقائمة الرسمية التي وضعت في "الاسكندرية" في القرن الثاني، قبل
الميلاد!.. من قبل"أريستارك"، و"أريستوفان البيزنطي"، لأسماء الشعراء
والفلاسفة!! والتي تحرى فيها، واضعاها السير في خطا الاسكندر، وأرسطو!!
فوحدا العلوم، والشعر، والتاريخ، والفلسفة.. جميعها.. وأقول جميعها.. تحت
أسماء.. يونانية.. بحتة!! هي جميع ما نعرفه اليوم، من أسماءٍ إغريقية
بارزة!! مهملين ذكر غيرها من الأسماء الشرقية الي أهملت، حتى اختفى ذكرها،
مع مرور الزمن.. تماماً، كما أهمل ذكر بقية الأناجيل التي لم تعترف الكنيسة
بها، في القرن الرابع للميلاد.. هل أكرر ما قلت؟! لقد وحد "أريستارك" و
"أريستوفان البيزنطي"، أسماء جميع الشعراء والفلاسفة الشرقيين.. تحت أسماء
"إغريقية".. حتى نُسب إليهم جميع الشعر والفلسفة القديمين! هكذا.. وبكل
بساطة!! والغريب في الأمر، هو أن التاريخ، ما يزال يذكر هذه الواقعة لهم!
رغم أنه نسي أسماء الفلاسفة، والمؤرخين، الذين حذفت أسماؤهم من الوجود!!
فما رأيك؟! هل ترى يا عزيزي كم هي سهلة عملية تزوير التاريخ؟! حين يقوم
القوي الحاكم، بذلك؟! إذا كان من السهل، اليوم، سرقة أثر أدبيّ، أو
فلسفيّ.. فهل جال في ذهنك كم كان الأمر سهلاً على سلطة مثل سلطة الاسكندر،
أن تقوم بما قامت به من نقل اللوائح الفلسفية القديمة، من الشرق، إلى
اليونان، وإلى المكتبة التي أنشأها باسمه، في مدينته "الاسكندرية"!.. ثم
نسب هذه الفلسفة إلى أسماء يونانة، قديمة؟!
قال فراس، وقد عظم فجأة على ذهنه وقع أمورٍ، كان يجهلها!! أمور، من صلب الثقافة..
لا حدود لأهميتها!
- كيف لم أطلع على هذه الأمور؟! كيف تغيب هذه الأمور عن معرفة الناس؟! إنها
لجريمة، ما بعدها جريمة!! ثم.. نحن، إذن، نعيش في جهلٍ، ما بعده جهل!!
تبسم الكاردينال لما تفهمه من ثورة ضيفه على جهله.. مواسياً..
- لكن جدك، يا "دون ماكسيميليانو"، لم يكن يجهل تلك الأمور!.. إن من يجهل هذه
الأمور هو "الشعب" المثقف! وليس"النخبة" من مثقفي العالم، اليوم!! الذين
يشدون خيوط الثقافة بحسب ما يريدون.. تماماً كما هي حال من يشدون خيوط
السياسة!! ولقد قام جدّك الأكبر بمثل هذه العملية، على نطاق كتب المعرفة
الإسلامية، في الأندلس.. نقلها إلى هولندا.. وهناك، حور بعضها، بما يقتضيه
الإيمان.. ونسب بعضها الآخر إلى مؤلفين غربيين! فهل ترى أروع من ذلك؟! ثم
كيف أنسى فضل "ليو أفريكانوس"، "ليو الإفريقي"، وهو الاسم الذي اتخذه الحسن
بن محمد الوزّان، بعد أن اعتنق عقيدتنا، في القرن الخامس عشر؟! لقد حمل
إلينا المخطوطات، بالمراكب! سفنٌ، محملةٌ بكاملها!! ولقد كانت آخر عملية
منظمة حصلت في هذا المجال.. ما قام به رجالنا أثناء حملة "نابليون".. فنحن،
لم نُغنِ متاحفنا بآثار مصر الحجرية فحسب! وانظر إلى ما في متحف "اللوفر"،
من آثارٍ مصرية!.. بل أغنينا جميع مكتبات أوربا بالمخطوطات التي حوتها
مكتبات مصر، وهي التي كانت مركزاً للعلم، في العالم الإسلامي في ذلك الحين!
ضحك "فيليتشي بامفيلي" هازئاً، مستغرباً فداحة ما حصل، وقال..
- أن رجالنا.. لم يكتفوا بإخلاء مكتبات العرب من كنوزها العلمية والتاريخية،
فحسب! بل، وهذا هو الطريف في الأمر! لقد أبدلوا معظمها، بنسخٍ كتبت هنا في
أوربا، نسخ.. لا فارق بينها وبين المخطوطات الأصلية، إلا في المحتوى..
والنصوص!! بل إني أستطيع أن أؤكد لك، أن ما من مخطوط عربي هام، في حوزة
العرب اليوم، إلا جرت عليه رقابة صارمة.. زادت هنا، أو حورت هناك.. بما
كانت تقتضيه مصلحة حضارتنا، وعقيدتنا! ولا تستغرب هذا القول.. أفلم نحكم
البلدان العربية.. جمعاء؟! وكانت جميع مكتباتها، تحت إمرتنا.. ورهن
تصرفنا؟! في زمن كان معظم زعمائها يكادون لا يحسنون قراءة لغتهم؟! المغرب!
القيروان، القاهرة، دمشق، بغداد.. طهران، الهند، السند! جميع مكتباتها،
وذخائرها، كانت تحت رحمة نَسَخِتِنا.. طوال عشرات السنين! لعل البلد الوحيد
الذي لم نُخْلِه من مخطوطاته بعد.. هو اليمن!!
قال "دون ماكسيميليانو"، في عجبٍ وذهول، صادقين..
- يا صاحب النيافة.. إنك لتذهلني حقاً بسعة معلوماتك!!
هزّ الكاردينال رأسه، يأسف لزمن المعرفة الموسوعية الذي بدّدته الحضارة الآلية
الغربية.. حضارة الاختصاص.. وقال..
- كيف لا أعرف ذلك.. وجدّي الأكبر، القديس "بامفيلي"، كان أول من حوّر في التاريخ
اليوناني، لمصلحة العقيدة، والدين! لقد كان قيّماً على مكتبة "أوريجين"
وحوكم، بسبب ما أصلحه من كتابات "هيكسابيليس" فقطع رأسه، في القرن الرابع!
نعم، يا عزيزي.. أنت وأنا.. ورثة هؤلاء.. إنما نسير في خطٍّ رسمه لنا
أجدادنا.. منذ القدم!.. إنها مهمتنا التاريخية.. لخدمة حضارتنا! فهل تستغرب
لقاءنا الحميم اليوم، بعد كل الذي سمعته مما يوحّد سبيلنا في الحياة؟! لم
ألقك.. إلا وأنا على وشك فراق هذه الحياة.. آه.. يا "دون ماكسيميليانو"..
ليتنا التقينا.. قبل اليوم! لكن.. ما لك تبتسم؟!
- يجول في خاطري ما يمكن أن تترك هذه المعلومات، من أثر على مثقف عربي، لاقدر
الله.. إذا ما وقع عليها.. ولا سبيل أمامه للتحقق من صحّتها!
قهقه الكاردينال، في مرحٍ، وقال..
- لا تقلق، يا عزيزي.. فالجواب بسيط.. لن يهتم بمثل هذه المعلومات إلا مثقف
حقيقي.. وإذا وجد، فإما أنه يموت من القهر، والكدر.. أو.. يعلنها على غيره
من أبناء أمته.. وفي تلك الحال.. فسوف يسخرون منه.. أو تقف في وجهه رقابة
حاقدة، جاهلة.. حتى يدفعه ذلك للجنون، أو يموت حسرة وحزناً على درجة
جهلهم!!
- ألا يمكن لمثل هذه القضية أن تلاقي من صدىً لديهم.. أو لدى بعضهم؟!
- وكيف يتم ذلك، وجميع مثقفيهم، لا يجرؤون على التحدث عن تاريخهم، وقضاياهم
الروحية، أو الثقافية، إلا بعد الرجوع إلينا مباشرة أو إلى هذه المخطوطات
المحورة نفسها؟! ثم، لقد أضفنا بحوثاً لا آخر لها، في صالح الأقليات .. حتى
بات المسلمون اليوم لا يجرؤون على مناقشتها، علناً، خوفاً من ثورة هؤلاء
عليهم!! نعم.. نعم.. إن من سوف يكتشف هذه الحقيقة من العرب، في يوم من
الأيام.. سوف يُقضى على اكتشافه.. وربما عليه.. على يد أبناء أمته
بالذات..}
* * *
(ص528-535)
{لا شك أن هنالك من خطط بدأبٍ وجهدٍ، لبلوغ ذلك الهدف!! جهةٌ ما يعرفها
الكاردينال.. ويخشى بأسها، جهةٌ، عاجزةٌ عن الحركة، ما دامت تجهل مكان
المخطوطات.. ولم تكتشف وجودها، إلا بعد اكتشافها للفهرس!!
ذهب فراس، يزور الكاردينال، مرة ثانية.. ينبئه بما اكتشفه في غرفته.. يستطلعه
رأيه فيما عليه التحسب له خلال رحلته، الآن، وقد ثبتت لهما شكوكهما حول
هويّة الجهة المتربصة لهما!
كان "فيليتشي بامفيلي" مضطجعاً في فراشه، ذي الأعمدة الخشبية الأربعة، في ثياب
نومه البيضاء.. وعلى رأسه قبعة تدلّت من طرفها طرّة ارتكزت على كتفه، زادت
من الطابع التاريخي للغرفة..
قال، وشفته السفلى ترتجف، حنقاً لما سمع..
- يا إلهي!! إنهم زادوا على فنّ الدسّ والمكيدة، وسائل العصر الحديثة.. ونحن ما
زلنا في عصر النسخ باليدّ!.. من يدري؟! لعل لهم مثل هذه العيون في معظم
دورنا، وأماكن تباحثنا بالأمور الهامة!.. لقد كانوا يلجؤون إلى نظام
الاعتراف.. لنقل أسرار الشعب، إلى رؤسائهم! أما الآن.. فما حاجتهم إليه..
وفي حوزتهم مثل هذه الآلات الرهيبة، التي لا يقف سرٌ دونها!!
سأل "ماكسيميليانو" مستغرباً..
- أي نظام اعتراف تعنون.. وما كنت أدري أنهم يقومون بالاعتراف مثلنا!
- لا..لا.. لست أعني نظامهم، هم.. بل نظامنا نحن!!
ثم أطلق ضحكة مرحة.. ساخرة، خفيفة، قال بعدها..
- كنّا نُُتّهم بأننا نستعمل نظام الاعتراف الصارم، عندنا، لمصالح العقيدة!..
يلقبون نظامنا هذا، بأنجح نظام للاستخبارات، في العالم! نعرف عبره جميع ما
يدور في نفوس الناس.. وما يقومون به، في الخفاء! بل.. ولم لا؟! لقد كنا أشد
باساً، عبر هذا النظام، من القانون نفسه! نعرف معظم أسماء مرتكبي جميع
أنواع الجرائم! خصوصاً، الأخلاقية والإجرامية، منها!.. في حين أن أجهزة
الأمن تعجز أحياناً.. حتى اليوم، عن اكتشاف سرقاتٍ بسيطة!!
تنفس "الكاردينال"، في عمقٍ، ثم أردف قائلاً..
-.. كل هذا كان يدور في فلك واحد.. ولمصلحة واحدة.. فلكنا نحن.. ومصلحتنا، نحن!
إلى أن اندست جماعة صهيون، بيننا.. وسبقتها الماسونية، من قبل، إلى ذلك!..
ولعلهما، في النهاية ليسا إلا جهازاً واحداً!.. فباتوا بذلك، لا يكتفون
بالشرب من رأس الينبوع، فقط.. بل أصبحوا يمنعون عنا الماء.. إذ يقفون في
وجهنا ليمنعوا وصول المعلومات إلينا!
عاد "فيليتشي بافيلي" إلى السكوت، برهة.. قال بعدها..
- إني بالطبع.. لا أتّهم الثقة التامة بكتمان العرّاف المطلق! وهو الذي أقسم أغلظ
الأيمان، أن يحافظ على صمته!.. لكن.. ماذا تريد؟!.. إن النفس أمّارة
بالخير.. كما هي أمّارة بالشرّ!.. فإذا ما تناهى إلى سمع عرّاف ما، سرٌّ..
قد يستفاد منه لتدعيم ركائز الإيمان.. أو لإعلاء صرح العقيدة.. أفلا يصبح
منعه، عنا، أمراً مخالفاً لروح الإيمان؟!.. ويصبح الاعتراف به، واجباً على
من يحمل السرّ؟!
- إذن، فهم يلبسون مسوح الدين.. بيننا، ولا سبيل لمعرفة ذلك! ذئابٌ.. تدثرت بمسوح
الرعاة!!
- بل يلبسون مسوح جميع الأديان.. جميعها!! يعتنقونها، في الظاهر.. وينخرون في
جذورها، كلها.. لا بهجومٍ، يشنونه من الخارج!.. بل بابتكار المذاهب،
والتفاسير.. لهذا أوذاك!.. لهذه الرؤى، أو تلك! فيفرقون جميع أصحاب
الأديان، إلى فرقٍ ومذاهب.. ظاهرها، بحثٌ جاد عن تفاسير جديدة، وباطنها،
سعيٌ ممضٌ، أكيد.. نحو هدم صروح جميع الأديان.. ما عدا دينهم!.. هذه هي
المعضلة الكبرى التي نواجهها اليوم، ولا نجد لها من حلٍ! فنحن، نضطر للضغط
على الرعيّة، نبسّط التفاسير، ونوحدها، لجمع الشمل، إزاء هذه الأخطار التي
تحض الناس على التفرقة!.. فيتصدّون لنا، من الداخل، والخارج معاً.. ويقفون
بيننا.. مؤمنين مثلنا.. يتهموننا بالتزمّت والسلفيّة.. يشهرون في وجوهنا
سيف إيقاف التطور!.. إنه لمما يضحك، بل لمما يبكي أصحاب العقيدة الجامعة،
الحقة.. أن نرى أعضاء جماعة صهيون، يتبارون في تطعيم العقائد.. جميع
العقائد.. بتفاسير، نحن أول من يرى مصادرها البوذية، أو التاوية، أو
المانوية!.. إلى ما هنالك من جميع مصادر الأديان التي عرفها الإنسان، على
مرّ التاريخ!.. بل نحن نملك الكتب والمستندات التي تبرهن على كل ذلك.. لكن
كيف نُفهم البسطاء من المؤمنين، هذا؟! كيف نفهم الإنسان "البسيط" إنه يواجه
مشكلة "روحية معقدة"؟! وذهنه البسيط، لا يدرك المعقّد؟! "دون
ماكسيميليانو".. ألا ترى معي التناقض الكامن في التعريف؟! كيف يدرك الإنسان
البسيط، أمراً معقداً؟! إن رفض التفاسير الجامعة المبسّطة للأديان، بابٌ
تدخل هذه الجماعات، عبره، إلى النفوس الساذجة.. فتفرقها.. يدّعون أنهم حماة
التطور.. والحركة!.. فكيف ندخل نحن؟ كيف نعود إلى تلك النفوس، لنفهمها ما
هو معقّد؟! ونقنعها بالتخلّي، طواعية، عن حريّةٍ واهمةٍ، ظاهريةٍ.. في سبيل
جمع الشمل، ووحدة الإيمان؟!
- ولماذا لا تقومون أنتم بالتطوير.. والتجديد!.. بدل ترك هذه المهمة لأعداء
العقيدة؟!
- "ماكسيميليانو".. يا عزيزي!.. إن الراعي يسوق أغنامه، ولا يقودها!! إن الراعي
الصالح يسير خلف القطيع، وليس أمامه! أما الثوري، فإنه يكلّم الجميع، لكنه
لا يشد خلفه إلا الأقوياء منهم!.. إن للمصلحين المجددين في الدين، ظاهرياً،
الدور المنفتح البنّاء.. لكنه في الواقع دورٌ فوضوي.. لا ينجح في النهاية،
إلا في تشتيت الشمل!.. يسعى إلى الخراب، سواء أدرك ذلك، أم لا! أما نحن
رجال الدين.. نحن الذين ورثنا دور جمع الأكثرية، على العقيدة الواحدة..
مهما اختلفت الأديان.. فلقد ترتّب علينا سياقة الرعية برفق، ومن الخلف.. ثم
التريّث معها، للسير مع أضعفها بنية، وأبسطها فهماً!.. ذلك لحمايتها من
الذئاب المتربصة لها!.. فإذا خسرنا القوي.. إذا طار ذلك القوي أمام الركب
البطيئ، أثناء ذلك، فلا بأس! أما الضعفاء.. فإذا تركناهم لأنفسهم، فقدوها..
وفقدناهم!.. وهذه نتيجة محتومة!!
- وماذا يفعل المخلصون من أصحاب الثقافة، والأذهان المنفتحة؟! كيف يقبلون جمود
الطقوس.. وسلفية التفاسير ؟! كيف يتفيؤون بمظلة الدين.. والدين لا يظلل إلا
البسطاء!
تبسّم "فيليتشي" في عطفٍ، وذكاء.. وقال
- وهل وضعت الطقوس والتفاسير.. لهؤلاء؟! أقولها.. لك.. وليس لغيرك!.. إن هؤلاء،
من الذين تجاوزت ثقافتهم حدود العلوم والطقوس الدينية المبسطة.. عليهم
متابعة المسيرة مع الركب.. مدركين أن الركب، أي ركبٍ كان، كالهرم.. قاعدته،
أوسع بكثير من قمته! وإن الركب، لا يكون ركباً، إلا إذا تقدم جميع من فيه،
في سرعة متجانسة.. إن التفاسير، في جميع الأديان، إنما وضعت لأولئك الذين
لا يحسنون التفسبر! أما أصحاب العقول، والنفوس النيرة.. فهم ليسوا في حاجة
للخوف من نار جهنم، كي يقلعوا عن فعل الشرّ! لذلك، فإن على المؤمن المثقّف،
تجاهل ما قد يبدو صارماً، سلفيّاً لطبيعته.. ولسعة اطلاعه.. والمضيّ قدماً
مع الركب، وإلا فقد الركب مقدمته، وطليعته!
تنبه "فيليتشي بافيلي" إلى شبح ابتسامة تراءت على شفتي "دون ماكسيميليانو"!
فتوقف، سائلاً.. مبتسماً بدوره..
-.. ماذا؟ هل تراني أعظ.. دون أن أدري؟! لا تلمني.. إن وعظ النخبة المثقفة أمرٌ
لا تتهيأ لي ظروفه دائماً! لذلك، أراني أنتهزها فرصة، معك، لسماع صدى
أفكاري!
ضحك "ماكسيميليانو"، وأجاب..
- لا..لا..إنها مجرّد فكرة.. أوانطباع عام! لست أدري.. فما إن يتخذ الحديث في
سمعي مجرى الكلام عن "القطيع" و"الرعاة"، وما شابه ذلك.. حتى تراني أميل
للهروب منه نفسياً.. إن لم أقل، النفور منه!.. واعذرني، يا صاحب النيافة..
فأنا أكلّم الصديق، الآن.. وليس الراعي!
- بل هذا ما رأيته فيك منذ البداية.. فلا عليك!.. أما عن نفورك من هذه التشابيه،
فإليك رأيي.. لماذا تهرب منها؟! هل لأنها تصوّر لك الشعب، على أنه أغنام
سهلة القياد؟! أم لأنها تعطي للراعي صفات فوقيّة، ترفضها نفسك.. لتتمسك
بمبدأ مساواة البشر؟!
تردد "ماكسيميليانو".. ثم قال..
- لست أدري بالضبط.. لقد سبقني سؤالك..
- لا عليك! لكنني أطرح عليك السؤال التالي.. إذا كان صاحب الدين ينتمي إلى
القطيع، أو جماعة الرعاة.. فإلام ينتمي من يخرج عليه.. من الثوريين
المجدّدين؟! ومن هو"نيتشه"، في ظنّك، إن لم يكن، راعياً آخر.. لطبقات
بأسرها؟! إن كل متكلمٍ في الشعب، راعٍ! وكل مستمعٍ لغيره، جزء من قطيعٍ
ما!! فلماذا الهروب من حتمية هذا الواقع؟!
نظر "دون ماكسيميليانو" طويلاً إلى محدثه، كأنما هو على وشك طرح سؤالٍ أخير،
يتردد في المجاهرة به.. ولعل الكاردينال أدرك ذلك.. فقال، في عطف..
- قل.. قل يا عزيزي!.. ولا تتوان.. إنما نحن أصدقاء الآن..
قال "ماكسيميليانو".. في تمهل..
- .. لست أدري.. نحن نكره ما تفعله جماعة صهيون، من الدسّ ومحاولة تفكيك عقيدتنا،
وذلك باشتقاق الفِرَق، و الأحزاب منها.. من الداخل.. وماذا نحن فاعلون بتلك
الكتب والمخطوطات التي آلت إلينا.. من تراث الآخرين؟!
تبسّم "فيليتشي".. وقال..
- آه.. إن الأمر معنا يختلف تماماً!.. نحن أصحاب حق!.. وعقيدتنا
هي الصحيحة!! وكل ما يساعد على تنميتها، أو تقويتها، لهو صحيح، بالضرورة!!
TODOS MODOS*...
هل نسيت؟! [*جميع الوسائل]
هزّ فراس رأسه، متسائلاً.. وقال..
- أليست هذه المقولة، قضية انتماء؟!.. وأي صاحب عقيدة، لا يظن أنه على حق!.. وأن
غيره على باطل؟!
- إنها قضية إيمان!
- إيمان؟.. أو ارتباط عضوي.. لا شعوري، بالمنشأ؟!
- لست أفهم بالضبط، ما تشير إليه..
تبسم فراس، وقال، سادراً.. ساهماً..
- إنها قضية سمك السلمون.. لا تنفكّ ترجع إلى ذهني، كلّما حاولت إقصاءها.. إنها
مشكلة عدمية قضايا الإيمان.. ووهنها.. في افتقارها إلى أي مستندٍ آخر، غير
العاطفة!
التفت الكاردينال إلى "دون ماكسيميليانو".. يُمعن النظر في عينيه.. يحاول استشفاف
ما قد يكون خفي عليه، من صرامة إيمانه.. ثم قال..
- ولِمَ لا.. لئن دفعت الطبيعة سمك السلمون للعودة إلى منابع حياته.. فلا بد أن
وراء ذلك سبباً يؤدي إلى تقوية النوع!.. أين العدمية، في ذلك؟!
- إنها تقع في أن الأنواع تسعى، جميعها، تقوية ذاتها!.. ويصطدم، بعضها ببعض.. وهي
على تلك الطريق.. فتأكل بعضها بعضاً!.. ولكل منها الحق، في نظرها، بالنهوض
على جثث غيرها!.. لأن كلاً منها يظن أنه يملك الكلمة الحق!
عاد الكاردينال للتفرّس في تقاطيع وجه محدثه.. ثم سأله، في هدوء.. وهو يزمّ جفنيه
في مكرٍ محبب!
- وهل لديك شك.. في أننا نملك الكلمة الحق؟! يا صاحب النيافة؟!
ضحك "دون ماكسيميليانو".. فجأة.. وقال، كمن يغامر بجميع ما يملك.. يلقي به.. مرة
واحدة.. في حلبة الرهان..
- وأنت.. يا صاحب النيافة؟! ألا تعترضكم مثل هذه الهواجس السوداء؟! من حين.. إلى
آخر؟! أم لديكم ذاك الإيمان الفريد، الحق.. الذي تزحزح ذرة منه.. جبالاً،
بكاملها؟!
تابع الكاردينال النظر إلى محدثه.. برهة، لا يبدي ما يشير إلى أنه سمع السؤال..
ثم رفع كفيه في الهواء فجأة، وأطلق ضحكةً، تنفس لها فراس الصعداء!
- "دون ماكسيميليانو" عزيزي!.. لم يخطئ من قال لي إنكم من أشد الأسر بأساً.. في
أوربا!! كل ما أرجوه منك.. بعد العودة من مهمتك.. هو الاحتفاظ بتلك
الآراء.. لنفسك! خلال مقابلتك للحبر الأعظم!
لم يفهم فراس، في البدء، قصد الكاردينال، من قوله هذا.. فلم يجبه بشيء.. ولعل
الكاردينال أدرك حيرته.. فتابع، مستفسراً.. حائراً..
-..إنك.. تنوي طلب مقابلة خاصة.. من الحبرالأعظم.. أليس كذلك؟! وهل يعقل ألا تفعل
ها؟! إنكم الأسرة الوحيدة في أوربا، التي تحق لها مقابلته.. على أساسٍ
عائليّ.. خصوصاً وإن آخر "دوقا دالبا" قام بزيارة روما، كان قبل الحرب
العالمية الأولى!
نهض "دون ماكسيميليانو" يتمشّى في صمت، قرب سرير الكاردينال.. ثم قال..
- لقد تركت مدريد، سرّاً!.. إثر ما علمته من اختفاء الفهرس!.. لننهي هذه القضية،
أولاً.. وبعد ذلك، أعود إلى مدريد .. لأخرج منها، على الملأ.. ثم أقوم
حينئذٍ بجميع واجباتي، بسرور!
تردد برهة، ثم تابع قوله، سائلاً..
- وهل الحبر الأعظم على علمٍ بوجودي؟.. هنا؟
- لا أستطيع الجزم بذلك.. لكن العادة جرت على إحاطته علماً بوجود من هم أقل رفعة،
بكثير، من نيافتكم!
تجاذب الرجلان أطراف حديثٍ طويلٍ شمل أموراً عديدة، حوّم فوق الدقيق منها.. إلى
أن حطّ في النهاية فوق قضايا الجنس، وكأنه ما من حديثٍ حميمٍ، جديرٍ يربط
أواصر الصداقة بين مخلوقين، إذا لم يطرح بينهما ذاك الموضوع! يخرجان منه،
في النهاية، إلى نتائج أنه لا طائل وراء إمعان التدقيق، في تلك الأمور!..
لكن "دون ماكسيميليانو"، لم يجد بداً من طرح سؤالٍ، طالما حرّقه.. يعرف
الأجوبة العلمية عنه.. ويجهل إجابة إنسان مثل الكاردينال "بامفيلي"!.. فما
إن فاجأه بسؤاله، ضاحكاً.. عن سبب كره الدين في أوربا للمتعة الجنسية.. حتى
بوغت بردّ "فيليتشي بامفيلي"..
-.. وكيف تريد لشعبٍ.. هانئٍ على الأرض.. أن يلتفت في جديّة إلى أمور السماء؟!
أليس هذا عذراً كافياً لشحذ كراهيتنا للجنس.. ولكل ما يبعث على السعادة..
في هذه الحياة الدنيا؟!}
* * *
(ص560-563)
{يتوسط قصر " فوسكاري"، عقدٌ كاملٌ مرصوصٌ من الصروح القديمة، الرائعة
الهندسة..يحد أبرز الجزر المشرفة على مدخل البندقية..يراه كل زائر مبحر إلى
داخل المدينة، عبر اﻟ" كانالي غراندي".. يطل على ممرها المائي العريض، فما
إن يتجاوز المركب، الرأس الملقب باﻟ "بونتاديللادوغانا" .. ويمخر الماء،
تحت جسر"الأكاديميا" .. حتى يستطلع الزائر، تاريخ البندقية البرّاق، عبر
القصور التي تحمل أسماء الأسرالتي بنت، وسكنت تلك البيوتات الشرقية،
العريقة! فيصل قصر"فوسكاري"، الذي يحيط به الماء، من جوانبه الثلاثة..
يتوقف "الجندول" على مدخله البحري.. ليخفّ من وقفوا على بابه، في لباسهم
الرسمي، لاستقبال مدعوّين..أتوّا تلك الليلة لزيارته، ليس تلبية لدعوةٍ
حكوميةٍ رسميةٍ، فاترة.. بل نزولاً عند رغبة صاحب القصر! الأمير"فوسكاري"..
ابن المدينة.. يحمل أحد أبرز أسماء أسرها النبيلة، يريد لمدعويه، في تلك
الليلة، إحياء أحلى لياليها!
كان صوت "المندولين" طائراً جذلاناً، يرفرف محوماً فوق ألحانٍ موسيقيةٍ تُسمع من
بعيد.. ما إن تقترب قوارب الجندول.. تحمل الزائرين من رصيف القصر، حتى يزيد
العازفون من ضرب الدفوف! يرون القادم من الشُرَف المطلّة على المدخل،
فيرافقون نزوله، الوجل، من القارب، بألحانٍ موسيقيةٍ مرتجفةٍ ! وما إن تحط
قدمه الثانية، على الرصيف، في ثبات، حتى ترتفع الخشخشة..ويعلو صوت النقرعلى
الدفوف.. مرحاً.. وابتهاجاً، فتجمع المدعوّات أطراف أثوابهن التنكريّة،
الفضفاضة، بين أذرعهن.. يرتكزن على سواعد مرافقيهن.. ويمضي جميع هؤلاء،
متخفين، وراء أقنعة عريضة، سوداء.. مجوفة العيون.. تدلّى من جوانبها ما
يحكم ستر بقية معالم الوجوه.
تدفق المدعوون على القصر.. أضيئت مشاعله الناريّة المحيطة بجدرانه الخارجية.
وصلوا في قوارب، عملوا، جميعهم، على تزيينها بقناديل زيتية، وأشرطة ملونة، تعلن
هدف الحفل التنكري! وليس مثل أهل البندقية يخفّون للمشاركة في إذكاء
القصد من وراء تلك المناسبات.. تذكّرهم بروح مدينتهم الفنية، المسرحية! فما
كانت تلك القوارب تقترب من هدفها.. حتى كنت ترى المارة، على أرصفة القنال،
يصفقون لها، في مرح وحماس.. يلوحون لأصحابها.. يطلقون وراءها الأهازيج،
وصيحات الإعجاب، المرحبة!
كان جميع المدعوين..أي، ما يزيد على المئتين منهم، قد حرصوا أشد الحرص، على إخفاء
أسمائهم، و شخصياتهم! فلا الشقراء، ولا السمراء، كشفت للناس عن حقيقة لون
بشرتها أوشعرها، بما ينبئ عنها! ولا خفيف الشعر، أو ذو الشاربين، أظهر من
معالم وجهه ما يشير إلى هويته!
كانوا جميعهم، قد بذلوا جهداً، فائقاً، في التخفي، والاعتناء بأزيائهم السلفيّة،
البرّاقة المترفة.. فبدت أروقة القصر..ممراتٌ خياليةٌ، يتمشى فيها التاريخ،
بما تقلّب عليه من عادات وتقاليد، وأشكال!! أمّا القاعة الكبرى.. فلقد احتك
فيها الحرير المُشَرَّق، بالقطيفة المبهْرمة .. تهدّل السَدوس، والسّاج،
والطيلسان .. على أكتاف تعرت عن بشراتٍ رائعات البياض!.. تمازجت ألوانها،
مع ما تدثّرت به النساء، من ثياب حمراء وبيضاء، وسوداء.. تجللت بغلالات
وأخمرة شافّة زرقاء، وخضراء وبنفسجية.. معظمها، موشحة بخيوط الفضة، والذهب!
تعلوها، جميعها، رؤوسٌ مقنعةٌ.. صفف شعر النساء منها، على نمط سلفيّ عريق..
جُمعت ضفائره، أو جدائله، الحقيقية منها، والمستعارة.. بأشكال تشابكت بحبال
اللؤلؤ.. وتهدلت فوق أعناق أحيطت بجميع أنواع القلائد، القديمة الصنع!
لوحةٌ، جامعةٌ، رائعة الألوان، والتشكيل! جميع من شارك فيها، من جُزيئاتها، هو
رسمٌ متكاملٌ، في حد ذاته! باهر الأناقة، والتصوير! عالم أسطوري.. دلف "دون
ماكسيميليانو" بين حشوده، لا يتعرف من الأزياء التنكرية، سوى زي "فولف فون
فيرتبورغ" الذي أصرّ على ارتداء ثياب مرافقٍ لأحد النبلاء، وسار إلى جنبه،
كأنه يهدف في ذلك إلى تأكيد رفعة مكانة الزيّ الذي اختاره "دون
ماكسيميليانو" لنفسه!.. لباسٌ فضفاضٌ.. بندقيٌ.. من القطيفة السوداء،
الموشحة بخيوط الذهب.. خطوطه حائرة، بين الشرق والغرب.. ثوب، كان قد انتقاه
من بين الأزياء العديدة التي تركها " باولو البرتو" في خزانته العارمة.
* * *
سرعان ما انخرط "دون ماكسيمليانو" في ثنايا ذلك العالم الغريب.. يشرب، على
غيرعادته، دون حساب!.. ينحني لفتاة تخفي ابتسامتها تحت مروحتها.. يداعب خصر
فتاة أخرى، تقفز، دائرة على إيقاع أنغام "التارانتيللا" المرحة.. يحاول
التقاط قبلةٍ طائرةٍ من شفاهٍ تخفيها غلالات "الدانتيل" السوداء! يهنأ إلى
أنه دخل فجأة معبداً أسطوريّا، لا أحد فيه يكترث إلاّ إلى اللحظة الخاطفة!!
عالم، لا جدوى لأحد فيه من محاولة الكلام أو الحوار! والكل، حتى إذا
تكلموا.. حريصون على تبديل نبرات أصواتهم.. وذلك، للاستمتاع بقضاء ساعات
نادرات، من العمر، لا يحمل أحدهم فيها ثقل اسمه، أوعبء مركزه الاجتماعي!
فيتحرر الجميع من كل التزام تفرضه عليهم التقاليد.. يمني، كل منهم، النفس،
باقتراف أشد المعصيات حرمة.. دون خوف من مراقبة ما.. ولا تحسب لتقريع، أو
توبيخ من أحد!!
راح "دون ماكسيمليانو" يمعن النظر في الوجوه المقنعة، والأجساد المزينة.. يجدّ في
البحث، يتسلى.. علّه يتعرف إلى أحد من أصدقائه.. أو معارفه! أطال
التحديق في بعض تلك الوجوه المقنعة.. يلاحق حركاتها، الغائبة التعبير..
وكان منها من غطّى جميع تقاطيع وجهه، بوجه اصطناعي، كامل الحجم، ذي تعبيرٍ
جامدٍ واحدٍ!.. فكاد يأخذه دوار مفاجئ للحركة الغريبة، الآلية، لتلك
الوجوه.. أحس من خلاله، كأنه انتقل إلى عالم "سوريالي" وهمي.. لا إرادة
مستقلة لسكانه!.. تتحرك الأشخاص فيه، لا بوحي من إرادتها المتخفية،
الجامدة!..بل بدفق من الموسيقى، التي لا شك، كان يوجهها صاحب الدعوة! تعلو
مرحةً، طربةً، حيناً.. فتتسارع الحركة، وترتفع أصوات الضحك، والمرح،
واللهو!.. وتخف أحياناً.. يمور فوقها لحن واحد، بعيد، حزين.. فتسكن النفوس،
وتمتد الأيادي الواجفة.. تبحث في الخفاء عن أيادي واجفة، مماثلة!.. تتشابك،
تحت ظلال الأنوار الخافتة!.. أويداعب بعضها أجساد بعض.. في مواضع تمنعها
التقاليد المحتشمة.. ويحظرها العرف الاجتماعي السائد..}
* * *
(ص568-570)
{هبط درجات عتيقة، عميقة الانحدار، والبعد.. لحظات.. وجد نفسه بعدها في ممر مظلم
طويل.. تنيره مشاعل متهالكة اللهب..علقت على جدرانه ..هنا وهناك.. فسار
بينها.. يتجنب، مرة أخرى، التصادم بغيره من الأشكال التي وقفت تشخص أقنعتها
الملونة، في الظلام..لا يبدو من وجوهها إلا فجوات عيونها الفارغة، السود!
كانت الفتاة تنتظره.. تقف أمام باب خشبي، متآكل قديم.. كسته رؤوس مئات المسامير
النحاسية المزخرفة،الداكنة العريضة.. همست في أذنه، في صوت أقل رقة وعذوبة،
من صوتها الأول.
هز"دون ماكسيمليانو" رأسه الذي أثقله الشراب، وما تنشقه من أبخرة المخدرات وهو في
طريقه الى ذلك المكان.. وانحنى، يتبع الفتاة.. دلفت، تحت قوس الباب المنخفض
الارتفاع.. وإذ به داخل ردهة حجرية واسعة.. معقودة السقف.. كأنها سرداب
قصر"فوسكاري".. أو أحد سراديب القصور المجاورة..لا أثاث فيها، سوى مصطباتها
الحجرية، لصق جدرانها.. وبعض الخِوانات، والمقاعد، مما ترك لرطوبة مياه
البحر،المحيقة بجدران جميع قصور البندقية..
لم يفهم في البدء من معنى لما طالعه من أشكال، تتحرك في إيقاع وأوضاع غريبة.. تحت
الظلال المرتجفة لبضعة مشاعل نارية.. علقت على أربعة أعمدة متينة، غليظة..
توسطت الردهة.. وحملت السقف.. رأى عالماً مقلوباً، رأساً على عقب!..كأن
أبيضه أسود اللون، والعكس بالعكس!
غابت وجوه جميع من فيه، وراء أقنعتها الكثيفة الشاخصة، وتعرت.. ودبّت الحياة، في
أعضاء عارية بيضاء.. متفرقة.. من باقي أنحاء الجسد! بدت تلك الأجساد
الساكنة، أو المتحركة، أو المستلقية، كأنها لمخلوقات عزلت رؤوسها عن
الحركة، وأُحلّت مكانها، في المقام الأول، ما اختارته من بقية أعضائها،
لينوب عن الرأس، بالأهمية، والحركة! فهذا جلس فارجاً فخذيه.. لا يظهر
منهما، ومن ثوبه الأسود إلا عضوه المهند، أو المتدلي.. وذلك مستلق على
ظهره.. لا وجه له.. غارق في السواد، كأن بين كعبها وأصابعها، حياة مستقلة،
أخرى، لا صلة لها بالساق التي تحملها، ولا بالجسد..! عالم من الجنون
المنظّم.. كونٌ من الرموز، تقوم بحركات عصابية، إيمائية.. كأنها نصوصٌ
"فرويديةٌ".. دبّت فيها الحياة!
كانت نساء قد كشفن عن نهد واحد، رفعنه بيد واحدة.. تؤشر إليه، باليد الأخرى!
وأخريات.. كشفت الواحدة منهن نهديها، كليهما.. رفعتهما بكلتا يديها.. وقفن،
فخورات بهما، أمام من اختار تأمل أشكالهما الدائرية البضة..!
كذلك الذكور.. منهم من كشف عما أمامه، في فخار!..ومنهم من كشف عن قفاه، يهز
ردفيه، أو يقوم برسم دوائر خيالية في الهواء!
انحنت امرأة إلى الأمام على أربع.. تهزّ نهديها المتدليين، هزاً خفيفاً.. بينما
كشفت ثوبها عن ردفيها العاريين، رفعته على ظهرها.. تحلق خلفها عدد من
الأشخاص، وقفوا يراقبونها في سكون..تشخص أقنعتهم المفرغة من العيون إلى
أستها!.. بينما وقفت أمامها، امرأة أخرى، رفعت ثوبها المخملي الطويل، عن
ساقين، وفخذين بيضاوين، مفتولين.. لتظهر ما انتصب بينهما.. ركع البعض
أمامه.. تتأمل أقنعتهم، حركته النابضة..
تلفت عطيل حوله، يبحث عن "ديزدامونا".. فلم يجد أثراً لها.. تنبه إلى صوت كحّةٍ
مألوفة لديه.. جدّ في البحث عن مصدرها.. فإذا بها تنبعث عن الشخص البدين ذي
العورة المكشوفة، والجسد المنحني نحو الأمام!.. صعق، إذ جال في ذهنه أن ذاك
قد يكون "أماديو".. "دوقا داوستي" ! وأنه قد يكون بين أصدقاء له..لا يعرف
واحدهم شيئاً عن وجود الآخرين!.. هل كان "شارل غوستاف" بينهم؟ هل كان
"باتريس".. أو "بالوما"..هناك كذلك؟
رأى امرأة.. تحمل سوطاً متشعب الأطراف.. تقترب ممن ظنّه "أماديو".. راحت تسحب
فروعه على بشرة عورته العارية، فيئنّ هذا لملمسها، فرحاً.. ولمّا يذق بعد،
طعم لذة الجلد المترقبة!.. بينما اقترب قناع، راكع من حيث وقف، هو، وانحنى
يرفع طرف ثوبه الطويل عن الأرض، يتأمل حذاءه في وله.. يمسح ما بان من خديه
وجبينه، على سطح الحذاء.. يتنشق رائحة الجلد..ويصدر، أثناء ذلك تأوهات، كما
لو أنه يقبل وجهاً حبيباً!
تنبه الى أن الباب كان موصداً من الداخل، لا يفتح إلا لقرع معين.. شق أحدهم
مصراعه، بعد برهة.. فدلف منه "فولف" في زيه المقنع.. تجد في أثره
"ديزدمونا"، ومن خلفها، سعت فتاة أخرى.. غطى رأسها وكتفيها وشاح أسود،
كثيف.. فلم يبد من جسدها إلا يداها.. راحتا تداعبان إحدى فخذي "فولف"،
الملفوفة ببنطال فخذه الواحدة، سوداء اللون.. بينما تركت الفخذ الأخرى
الملفوف ببنطال أبيض اللون، ﻟ "ديزدامونا".. جهدت في كشف فتحته، تحاول في
الوقت ذاته، التقاط قبلة من صاحبة الوشاح الأسود، التي نجحت في إدخال يديها
تحت درع "فولف"، تسعى لمداعبة بشرة صدره.
لم يدر فراس، إلا وصيحة مكتومة صدرت عن "فولف"! وقف، أثرها مكانه.. كأنه يصحو من
غفوة.. ثم لحق بالفتاة ذات الوشاح الأسود، انفلتت منه.. تقصد
الباب..لا تلوي على شيء!!}
* * *
(ص575-581)
{كان بعض الناس، قد تجمهروا على الرصيف.. وقفوا مع الحراس.. ينتظرون وصول قارب
السلطة، كي ينتشل الجثة..
تكوكب المحتفلون، في نوافذ القصر، يطلون بأقنعتهم الملونة، الجامدة التعبير،
يراقبون القوارب التي بدأت تغادر المكان..
نظرفراس إلى واجهة قصر "فوسكاري" يتمعن فيما تركه وراءه.. ست نوافذ.. في كل أربعة
أدوار.. تتوسط كل دور منها، شرفة طويلة، ذات أعمدة تسع.. صفت بعضها فوق
بعض.. نوافذ وشرفات.. نتأت منها تلك الرؤوس.. مئاتها.. برزت فوق أجساد
كأنها حمالات ثياب، علقت عليها جميع أنواع الأقمشة ذات الألوان الزاهية
المزركشة .. اتخذ أصحابها أوضاعاً ثابتة.. تراكمت، بعضها، فوق بعض.. شخصت
أقنعتها ذات الثقوب الفارغة السوداء، وفجوات الأفواه.. تجمدت فتحاتها، ترسم
تعابير، وضحكات، وابتسامات، غريبة.. متحجرة!!
لوحة عجائبية، مركبة.. ألّف موضوعها الخيالي "أنسور"..ورسمها اﻟ "تيتزيانو"
بريشته المتقنة، وألوانه المرتجفة الحارة..
راح "دون ماكسيمليانو" يراقب ذلك المشهد الفريد، وقد جلس في قارب "الجندول".. يشد
على خصر "بالوما" التي اضطجعت ورأسها على كتفه.. يقيها من البرد بدفء جسده،
وحماية الهودج، ذي السقف المنخفض.. يحس بقلق دفين لما سيواجهه من أخطار،
وقد صمم على التوجه إلى الدير، منذ الصباح الباكر.. يستبق المضايقات..
تحسباً لما قد يطرأ أمامهما من مضاعفات، إثر حادثة الليلة!
* * *
تصاعد لحن حالم، حزين، من أحد مقاهي رصيف الشاطئ الذي تهادى القارب إزاءه..
فامتزج الحزن في نفس "بالوما"، باللوعة العطشى.. وأجهشت، في بكاء صامت
مرير.. نال مما تصلب من نفس فراس، إثر ما مر معه في سراديب قصر" فوسكاري"..
قال، في لهجة ساهمة، صادقة، عطوف..
- .. لو كنا نعيش أحداثاً روائية، خيالية، مثيرة.. لاغتنمتُها الآن، فرصةً،
لاسترجاع ما فقدته، منك.. منذ أن عقدت ﻟ" ليزا" مع نفسك!.. أبهذه السهولة
تنتقلين.. من حبٍّ، إلى حبّ؟!.. أبهذه السهولة تتخلّين عما كان بيننا؟!
لم ترد على سؤاله.. بل لم تبد ما يشير إلى أنها سمعته!
مسحت "بالوما" دموعها، بكفٍّ مرتعدةٍ.. وتمتمت في صوت يُحرقة الألم..
- .. لقد ماتت!! ياإلهي!! إن جسدها الحبيب يتجمد الآن.. برداً!.. وغداً.. أو بعد
غدٍ.. سوف تلتهمه الديدان! .. سوف يتفسخ ذلك الجسد الدافئ الحبيب.. ولن
تبقى منه إلا العظام!
أغرقت وجهها في عنقه.. وتابعت، في صوت ملوّع، مخنوق.. تضرب صدره بكفها المغلقة،
ضرباً عصبياً، خفيفاً..
- ماذا يهمني من قيم الناس، وقواعد الكون!!.. لقد أحببتها!!ولقد أحسست في لثم
شفافها، ما لم أحس به مع مخلوق قط! أين تلك الشفاه العطرة؟ وماذا سيحل بها،
بعد أيام؟! يالله! سوف تأكلها الديدان..
ما معنى هذه الحياة؟! ما جدوى أن يعيش الإنسان.. وأن يحبّ؟! ونهاية كل ذلك ميتة،
مثل هذه!! أو الشيخوخة، والعجز، والتابوت.. والديدان؟!
لم يجد فراس ما يرد به عليها.. ضمها إلى صدره في رفق، بعث الدفء في جسده.. فتنبه
إلى أن زي "فولف" ، الرقيق، لا يكفي لحمايته من برد الليل القارس..
أشار إليه بالدخول إلى الهودج المبطن بالقطيفة القرمزية المعجنة، فتقدم هذا،
مسرعاً، واندس إلى جنب فراس و "بالوما"، اللذين كانا ينعمان بما اختزناه من
دفء، تحت معطف فراس المخملي الفضفاض..
* * *
صاح النوتي، من حيث وقف عالياً، يجدف إلى طرف الجندول الخلفي، وراء الهودج..
- ما رأي السيّد في نزهة نحو اﻟ "جيوديكا" أو "سان ميكيلي"؟.. أرى عدداً من قوارب
المحتفلين.. يبحر في نزهة مماثلة! نعبر الأقنية الضيقة، أولاً.. ثم نخرج
إلى البحر العريض..
مال فراس إلى الأمام، يكشف ستارة نافذة الهودج، التي إلى جانبه، فرأى سرباً من
قوارب "الجندول"، التي أقلت أصحابها إلى الحفل.. ينساب في صمت.. يزين الماء
بأنوار مصابيحه المتلألئة، يتهادى كعرائس البحر.. تسبح في الليل، تحت ضوء
القمر..
تناءى ذهنه عن أحداث الليلة، وسرت أفكاره فوق المويجات الرقيقة، نحو الأفق
البعيد.. تلمع نجومه فوق بساط من زرقة الماء الداكنة.. الموشحة بشرائط
الفضة..
ماذا عساه يفكر بعلاقته بمن حوله.. أو بما يربطه بكونٍ، يقال إنه جزء منه.. ولا
يجد سبيلاً للإنصهار فيه؟!
لا شك أنه نقطة متناهية في الصغر، وسط كون لا حدود له.. ما بعد المدى الذي يقوى
خياله على الترامي في أرجائه؟..أعشرات السنين؟.. مئاتها؟ ألوفها؟.. وما أثر
هذه المقاييس، أو تلك، في كون تصل إلى بصره منه، في تلك اللحظة، أضواء
نجوم، ماتت، وتبددت، منذ مئات ملايين السنين الضوئية؟!
كيف؟.. كيف ينصهر في تلك اللحظة مع الكون.. والموت والفناء يتربصان به.. بل لقد
كانا على مدى لحظات منه، تلك الليلة.. يذكر أنه بما تبقى أمامه من طريق
محدودة، قصيرة؟! ما قيمة وعيه أو إدراكه لأي موضوع، إذا كان ذلك الإدراك
مقيد بمعرفة، وثقافة، يرجع تاريخها الى بضع عشرات السنين.. أو بضع مئاتها..
أو حتى ألوفها؟! وما ألوف السنين، من المعرفة في مدى هذا الكون السحيق، إلا
ومض شرارة.. وسَقط أتون يستعر أواره منذ الأزل.. وإلى الأبد؟!
لماذا يَهِبُ الإنسان نفسه لعقيدة، أو معرفة، أو قضية ما، قد يموت في سبيلها، في
الغد.. حين يعلم أن الديدان سوف تأتي على شفتيه.. وتفقأ عينيه.. غير آبهة
بما تلفظتا به أمس من كلمات الحب.. ولا مكترثة لما تعبّدتا إليه، أثناء
الحياة من أسماء الآلهة؟! هل لأنه يطمع في الحياة الآخرة؟.. فما شأن الذين
لا يؤمنون بها؟! ما الذي يحض هؤلاء على هدر قدراتهم، والتضحية بحياتهم..
وهم يعلمون أن ليس لهم غيرها؟!
* * *
تناهى إلى سمعه، في تلك اللحظة، صوتٌ مهيبٌ، لغناء جماعي بعيد.. لم يدرك مصدره..
راحت أصداؤه ترتفع كرعشات قلب متوثب.. وتنخفض، كزفرات نفس تجهد في كتمان
نحيب دفين..
سرت في جسده رعشة وهو يزيد من ضم "بالوما" إلى صدره ويهمس..
- يا الله.. هذه ألحان دينية ﻟ "راخمانيوف".. ما أعجبها من مصادفة!.. ترى كيف تصل
سمعنا، ونحن في عرض البحر؟!
كان لصوت الغناء أثراً سحرياً، غامضاً، على الجميع..
استوى "فولف"، بعض الشيء.. يخاطب النوتي، من خلال فتحة الستارة.. يسأله عن مصدر
الغناء.. فسمع الجميع رده، وهو يقول..
-إننا نحاذي "جزيرة الموتى".. لعلهم يقيمون الصلاة على روح واحد من المشاهير..
أزاح فراس ستارة نافذة الهودج التي إلى جانبه، يستكشف البحر.. فطالعه انعكاس نور
القمر البارد على رخام أضرحةٍ صارمةٍ بعيدةٍ، كئيبة.. تتوسط جزيرة صخرية،
صغيرة، مهجورة.. عدا ما احتوته من أشجار السرو الباسقة، والقبور.. مكسوّة
بظلالٍ بدت كأشباح متطاولة، داكنة..رست إزاءها بعض القوارب.. أقلت أولئك
الذين جاؤوا، في هزيع الليل.. يحيون ذكرى موت أحد العظماء الذي توارت رفاته
في ذاك المكان..
تمازجت أصوات عشرات الذكور والإناث في نداء موسيقي، متناغم، عميق.. ينبع من تراب
أرضٍ روسيةٍ ليس مثلها من يعرف كيف يخلق أرواحاً تتفجّر بالحزن المأساوي
المهيب..
قال فراس، وقد نقله ذلك المشهد إلى عالم نفسي لا يمكن وصفه.. تحس فيه الروح أنها
معلقة بخيط واه.. تائهة، بين الحياة والموت.. بين المعرفة كلها، والجهل
كله.. بين العاطفة كلها.. والصمت كله..
- إنها ذكرى وفاة "سترافنسكي".. لا بد أنهم.
وكفّ عن الكلام، وقد سيطر على أعماق كيانه إحساس مأساوي، قاتم.. استوت في أبعاده
جميع المعاني والقيم..
تشبع إحساسه فجأة بوعي مما لفّ شعر "بول فاليري" من إعصارٍ فكريٍ صامتٍ مخيفٍ،
وهو يكتب قصيدة "المقبرة البحرية"!
هاهو ذا نفسه، يمرّ أمام مقبرة بحريةٍ، حقيقيةٍ.. اختلط ترابها برفاة "فاغنر"،
و"سترافنسكي"يحمله إليها قارب أسود، كالتابوت.. وإلى جنبيه كل من "بالوما"
و"فولف".. كأنهما اﻟ "بارك".. ملائكة الموت، والعالم الآخر.. يغزلان في
صمتٍ، خيط حياته وموته..هو..
طار في ذهنه إلى مقبرة "فاليري" وأزيز الطبيعة، تحت لفح شمس جزر اليونان.. في
ظهيرة نهار صيفي قائظ.. واستوى في إحساسه، نور الظهيرة، بما كان فيه من
ظلمة منتصف الليل.. وتماثل عنده لهيب لفحات الشمس، بصقيع نسمات القمر..
ألم تنقل رفات أولئك الموتى، إلى تلك الجزيرة، في مثل قارب الحب الذي كان مضجعاً
فيه؟!
ألم يكن في تلك اللحظة نفس الجسد المسجّى الذي سوف ينزلق على سطح ماء ما، أو أرض
ما، إلى وجهة مماثلة أخيرة؟!
لفّه إحساسه ذاك حتى غاب عما حوله، كأنه محاط بصقيع كفّنِه الأخير..
* * *
تاه عن الزمان حتى ابتعد عن خربة الموتى.. وغابت موسيقى "راخمانينوف".. وصل سمعه
من جديد، صوت غناء النوتي الشاب.. يعلو فوق دغدغة ألحان "الماندولين"
الناعسة.. عادت إلى مسامعه من حيث لا يدري.. تنادي الحب بكلمات رقيقة..
تنادي الحياة.. تلفّظها النوتي في لهجة البندقية الدافئة، كأنها نُظمت
لانسياب "الجندول" على إيقاع حركة المجذاف الناعمة..
أين وارت، واختفت، موسيقى "راخمانينوف"..وبريق صخور جزيرة الموتى؟!
أية لحظة تلك التي كان يعيشها في عالم مركب، من مدينة اختلط الخيال، بالواقع
فيها.. حتى باتت مآسيها، كأنها هموم خيالية.. تقوم بأدائها عمالقة أسطورية
وهمية، على مسرح إلهيّ مهجور..
كان مضطجعاً بين "بالوما"، و"فولف".. ثلاثتهم، في شبه استلقاءة ناعسة.. يغطيهم
معطفه الدافئ الفضفاض..
كيف التقت يد "فولف" بيد "بالوما".. وهو بينهما.. ومن، من الاثنتين، بدأت في
البحث عن الأخرى؟!
لعل يديهما، احتكتا مصادفة.. وكانت يد الفتاة، تطوق صدر فراس.. فإذا بها تشتبك
بيد "فولف"، في حرارة.. يحس "دون" ماكسيمليانو" بدعابتهما.. تتحاوران، ثم
تصمتان.. في حوار دافيء غريب..
أغلق "دون ماكسيمليانو" عينيه، وكأنه "الجندول"، يسري على ألحان غناء نوتي،
حالم.. ينساب، ويسعى للانفلات في مدى لا جذور له.. ولا قيود فيه.. قارب
الموت، يسري إلى عالم، يتبادل سكانه من الكلام ما لا يقال، يكتبون فيه ما
لا ينظم في عبارات، إذا قدر لها أن تقراً.. فلن يفهمها أحد..}
* * *
(ص620-625)
{ كان أول ما التفت إليه فراس، هو مخطوط ابن خلدون، الذي مرّ أمام ناظريه
بالأمس.. فإذا هو، مفتوحٌ، على أولى صفحاته.. فصلت عنه.. وبُدّل عنوانه،
واسم صاحبه الذي بدا واضحاً جلياً، بانت قطعة ورقٍ منفصلة، كُتب عليها اسمٌ
آخر.. اسم "ابن ميمون".. كأن الذي يخطّها، يقلّد الأصل، يهيئها لدمجها
بنسخة جديدة.. أوبالمخطوط ذاته.. فلا يتغيّر إلا اسم صاحب الكتاب!!
همس فراس في أذن "فولف".. وصوته يرتعد لما وجد..
- أستر الفانوس.. هيّا.. فلا يظهر انعكاس نوره على السقف!
وانحنى على المخطوط يحاول تصفّح أوراقه!
ما إن لمست أصابعه الصفحة الأولى.. حتى عاد ورفعها بسرعة خاطفة، وراح يبصق عليها
في هلعٍ.. ويمسح ما لصق عليها، بكل ما وجد أمامه من أوراق أو غلافات كتب!!
تنفس الصعداء.. ثم أخرج من جيبه منديلاً، لفّه حول أطراف أصابعه، واستعان
به على فتح الصفحة الأولى من المخطوط.. وكانت قد التصقت على غيرها من
الصفحات، كأنها، جميعها، قد غُطّست بمادة لزجة!!
ما إن قرأ السطور الأولى من المخطوط.. حتى أحس بوهن مفاجئ في أوصاله.. وراح جبينه
يندى بعرقٍ بارد..
قرأ فراس المقطع التالي:
"إعلم
أن العقل هو أعدل الأشياء توزعاً بين البشر، لأن كل فردٍ يعتقد أنه قد أوتي
منه الكفاية، حتى الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر، ليس من عادتهم أن يرغبوا
في أكثر مما أصابوا منه.. وليس براجحٍ أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن
يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي
القوة التي يُطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو المنطق، واحدة، بالفطرة
عند جميع الناس.. وهكذا، فإن اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من
بعض، وإنما ينشأ عن كوننا نوجّه أفكارنا في طرقٍ مختلفةٍ، ولا نطالع
الأشياء ذاتها .. إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيداً، وإنما المهم أن يطبّق
تطبيقاً حسناً.. إن أكبر النفوس مستعدةٌ لأكبر الرذائل، كما هي مستعدّة
لأعظم الفضائل"..
طغى على ذهنه وعيٌ بأنه قرأ هذا النص في كتاب ما.. أين؟!.. وفي أية لغة؟!
حاول استجماع ذاكرته، وهو يقلّب الصفحات من جديد.. إلى أن وقف عند النص التالي..
"واعلم
إني رأيت أنه، بدلاً من هذا العدد الكبير من الفوائد التي يتألف منها
المنطق، يمكنني الاكتفاء بالقواعد الأربع الآتية، شريطة أن أعتزم عزماً
صادقاً وثابتاً على أن لا أخلّ مرة واحدة بمراعاتها..
الأولى.. أن لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على أنه حقّ، ما لم أتبيّن بالبداهة أنه
كذلك،أي أن أعنى بتجنب التعجّل، والتشبث بالأحكام السابقة.. وأن لا أُدخل
في أحكامي إلاّ ما يتمثّل لعقلي، في وضوحٍ وتميّزٍ، لا يكون لدي معهما أي
مجالٍ لوضعه موضع الشك..
والثانية.. أن أُقسّم كل واحدة من المعضلات التي أبحثها إلى عددٍ من الأجزاء
الممكنة، واللازمة لحلّها، على أحسن وجه..
والثالثة.. أن أرتّب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور، وأيسرها معرفةً، وأتدرج في
الصعود شيئاً فشيئاً، حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيباً، بل أن أفرض
تركيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع..
والأخيرة.. أن أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة، ومراجعات عامة، تجعلني
على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً"..
كاد يصيح، وهو يذكر أن هذه قواعد التفكير الذي استند عليها "ديكارت".. في أشهر
مؤلفاته!!
فهل يكون "ديكارت" قد قرأ هذا المخطوط، قبل كتابة مؤلفه الشهير
"مقال الطريقة"Discour De la
Méthode
؟! هل اطّلع عليه، والمخطوط أسير في غياهب هولندا؟!
تابع تقليب الصفحات.. يتلّفت حوله، كمخلوقٍ شرس، يكاد يموت جوعاً! يمسك بغذائه،
بين يديه، يخاف عليه من هجوم مفاجئ!!
ما إن وصل إلى النص التالي، حتى باتت الجريمة واضحة أمامه، إذ قرأ..
"
ولما رأيت أن هذه الحقيقة، (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، هي من الرسوخ بحيث
لا تزعزعها فروض الريبيين، مهما يكن فيها من شططٍ، حكمتُ بأنني أستطيع
مطمئناً أن أتخذ مبدأً أول للفلسفة التي كنت أبحث عنها!"
مال فراس برأسه للوراء، يتنفس في عمق، وقد أطبق على نفسه ما تناوب على إحساسه من
فرحٍ وكمدٍ، وتوثبٍ، وغمٍّ، وخوف!!
ماذا؟.. هل هو حقاً أمام خميرة الفكر الفلسفي التي ارتكزت عليها أذهان معظم
فلاسفة أوربا، إن لم نقل جميعهم؟!
وهل هذا الكنز الفكريّ، الذي طالما فاخر به الفكر الغربيّ، والفرنسيّ خاصةً، ليس
إلا من نتاج فكر، ابن خلدون، العربي، المسلم.. سُرق منه، من جهة.. واستبدلت
صفحاتٌ من مخطوطاته من جهة أخرى.. بما أظهرها كأنها تهاجم العرب الذي يفخر
ابن خلدون في نسبه إليهم؟!
"أنا
أشكّ، إذن، أنا أفكّر.. وبما أني أفكّر، إذن فأنا موجود، والعالم كذلك، وهو
بالتالي فِكرٌ ومساحة"..
وأكمل فراس بقيّة التسلسل المنطقي ما يذكره من فلسفة "ديكارت"..
"..
بينما الإنسان، جسدٌ، وروح".. وبما أن الجسد يتحرّك دون مساعدة الروح، فقد فتح ذلك الباب
أمام علم الحركة، والميكانيك!
كيف لا يكون ابن خلدون كاتب هذا الاستنتاج المنطقي، وهو الذي لخّص دراسة ابن رشد،
عن المنطق، واستند في جميع ما ذكره، في مقدمته، عليه؟! ثم كيف لا يتردد
إنسانٌ حذرٌ مثل ابن خلدون، في إظهار هذا الكتاب أمام الملأ، ونزعة الحكم،
في العالم الإسلامي، آنذاك، دينيّة صرفة، قد تسبّب لابن خلدون باتهاماتٍ لا
طائل له من ورائها .. تبعده عن منصب القضاء، في مصر، وهو الذي حرص أشد
الحرص على التمسّك به!
كيف وقع ذلك المخطوط في يد الإسبان؟! ذلك سؤال أتفه من أن يطرح! وقد سقطت جميع
خزائن العرب والمسلمين، تحت رحمتهم، واستولو على جميع كنوزهم، يوم سقوط
غرناطة!! فأين الغرابة في أن يحتفظ "دون فرناندو دي توليدو" به، في
خزانته؟ ثم ينقله معه إلى هولندا، التي حكمها!! وهناك.. يُُبقي عليه في
عهدة رجال الدين، الذين وجدوا أن خير طريق للنهوض بالفكر الأوربي، هو في
نِسْبة مثل هذه الفلسفة إلى أحد مفكريهم..
"
أنا موجود، لكني لستُ كاملاً، وبما أني أدرك الكمال ولست كاملاً، فالكامل
هو مسبب وجودي، هو الله"..
وهي المقولة التي، وإن ارتكزت على المناقشة الفكرية، إلا أنها لا تبتعد كلياً عن
النتائج المثالية، التي كانت حلاً وسطاً أمام تيارات الفكر الملحد الذي
بانت بشائرها في الأفق!
ولماذا لا يقبل إنسان مثل "رينيه ديكارت" أن تُنسب مثل هذه التحفة الرائعة إلى
نتاجه، وهو الحائر في حياته الخاصة، بين الحياة العسكرية، والدنيويّة! ومن
الذي يجهل أن "ديكارت" كان قد أمضى عشرين عاماً في هولندا دون الالتفات إلى
الفلسفة، أو الفكر!! ومن الذي يتردّد من المفكرين، حتى في يومنا هذا، في
تبنّي مثل هذا المؤلَّف الرائع.. خصوصاً، حين يعلمون أنها الطريقة الوحيدة
لإخراجه من الظلام، وإظهار روعته على الملأ!!
رحمك الله، يا ابن خلدون يا سيّد الفلاسفة، وأنبل المفكرين العرب!! لقد كان ابن
خلدون إذن، هو الذي فتح الباب أمام فلسفة الغرب! فتح الباب أمام الفلسفة
الروحية، من جهة، والفلسفة الواقعية من جهة أخرى.. فتتلمذ على يديه، من
الروحيين، كل من "ديدرو" و"هيلفيتيوس"، و"ماركوس".. ونما على مذهبه
الواقعي، كل من "هوسّرل"، و"مالبرانش"
* * *
كان "دون ماكسيمليانو" قد تاه كلياً عمّا حوله، يسبح ذهنه في الأثر المدوّي الذي
سيحدثه نشر هذه الوثيقة التاريخية على العالم! يتصوّر الهزّة الكبرى التي
ستنتج عن دكّ عرش "ديكارت".. والفكر الفرنسي.. ليتبوّأ مكانها، ابن خلدون،
مجده المسروق، الضائع.. مستعيداً بذلك حقيقة مكانته الفلسفية!!
هزّ "فولف" كتفه منبهاً إلى كتابٍ آخر..
- "دون ماكسيمليانو"؟ أليست هذه، نسخة "السبتانت" التي طلبت من "داميانو"
مراجعتها وأنكر وجودها في المكتبة؟! إنهم يعيدون نسخها! ويبدّلون في
الوقائع التوراتية!!
تنبه فراس، إلى ما حوله.. وعاد إلى التدقيق فيما وجد أمامه من مخطوطات، ومحاولاتٍ
خفيةٍ لتزويرها.. ولم يكن من الصعب عليه التعرّف إلى هويّة الجهة التي سوف
تستفيد من نسبة مؤلف ابن خلدون، إلى ابن ميمون، اليهودي الأصل! ولا إلى تلك
التي تتلاعب دوماً بالجذور لبقية الشعوب!
إذن، لقد كان في تلك الحجرة، داخل خليّة جديدة للتزوير، حلقة، تعمل لحسابها
الخاص، ضمن معمل التزويرالكبير!! يحوّر، وتغيّر ما يحلو لها، وما تريده، في
تلك المخطوطات!.. تعيد كتابة صفحاتٍ بكاملها، من أولها، إلى آخرها.. ثم
تغلّفها من جديدٍ.. على الطريقة القديمة، بحيث لا يمكن، حتى للخبراء، كشف
ما قامت به تلك الأيدي العابثة، من تزوير التاريخ!
استدار يبغي محادثة "فولف".. حين تنبّه إلى حركة خلفه!! فما إن التفت إليها، حتى
روّعه ما رأى قبالته، من وجه "داميانو"، وكأنه الشيطان الرجيم، بذاته، وقد
فغر فاه، وطفق جفن عينه الفارغة يرتجف في عصبية مخيفة!! بينما شهر عليهما
مطواة حادة طويلة!
قال "داميانو" في صوتٍ أبحّ، مخيف..
- لقد دخلتما مقبرتكما!! ولن تخرجا منها حيََّيْن"}
لقراءة
رواية هيلانة
أو رواية مسافر بلا حقائب أو
رواية السقوط
إلى أعلى
|