السـقوط إلـى أعلـى3
مقتطفات من رواية
القسم السادس
الفصـل الأول
ص378-392
{تسربت هذه
الأنباء من دائرة جعفر إلى ما للأختين في بلادهما من دائرة كبيرة..
تسللت
رويداً رويداَ إلى معارفهما، ثم إلى المقربين من هؤلاء، إلى أن وصلت في
النهاية إلى أحد المقربين من العائلة.. صحفي، وصديق قديم لوالديهما، ثم
صديق لهلال.. كهل متصاب، طيب الطباع، ينتمي إلى جيل ليس في جعبته سوى الخمر
والنساء وطريقة عشائرية في حب الوطن..
أنيسة، زوجة
هذا الصديق، امرأة أمية، لا إسم لها تفخر به.. ولا مال..
اختيرت
شريكة لحياة زوجها، حين كان هذا لا يزال يعمل أجيراً عند أحد الحرفيين..
خاضت معه صعاب الحياة، وفشلت في ارتقاء سلم الشهرة وراءه، فأصبحت في
النهاية " زوجة الصحفي ".. امرأة باهتة.. لا معنى لوجودها، ولا طعم
!..
عرفت أنيسة
ميساء وقطر الندى منذ حداثتهما، حين كانت تتردد على والدتهما.. فما إن زفت
قطر الندى إلى هلال، وأصبحت بذلك " أميرة " حتى دأبت على التردد عليها..
تفرط في مدحها، وفي إطراء زوجها، وقصرها، ومجوهراتها، وثيابها، وكل ما يحيط
بها، حتى اعتبرت أنها بذلك أصبحت من المقربات إلى قطر، وأن ليس في تلك
المدينة من يدانيها في الحظوة لديها!..
زادت
معرفتها بميساء، منذ أن جاءت هذه لتقيم في قصر أختها..
أحبت أنيسة
خصلات ميساء الشقر، وعينيها الزوقاوين.. ذكرتها ثقافتها بمن عرفتهن في
الماضي من نساء إفرنسيات.. حين كانت، وزوجها الصحفي الناشئ، يجلسان ساعات
بينهن، لا يفهمان شيئاً من الأحاديث التي تدور حولهما بتلك اللغة الجميلة
الصعبة.. فيلعنان فرنسا والإفرنسيين في سرهما!..
كانت أنيسة
كما قلت، تتردد باستمرار على قصر قطر الندى.. ترى ميساء حائرة فيه..
فتراودها بشأنها خيالات غريبة..
أخذت تحرض
ابنها الشاب لدعوة ميساء، بين الفينة والأخرى، كي يظهر برفقتها في الأماكن
العامة.. فيغمرها الفخار حين تراهما معاً، وتتحسر على أنهما من مذهبين
مختلفين، وإلا لما تركت ميساء تفلت منها!..
فمن غير
ميساء تليق بابنها الشاب!؟.. وما ضرّ لو صاهر ابنها عائلة ميساء العريقة
وأصبح بذلك عديل الأمير هلال؟!.. و" عديل الأمير ".. " أمير " تقريباً!!..
أضغاث أحلام!..
أمانٍ..
كانت تعرف أن لا سبيل إلى تحقيقها.. لكنها أمنيات تركت أثرها على علاقتها
بالأختين.. طبعتها بطابع القربى، حتى باتت تشاركهما حياتهما اليومية كأنها
منهما، وتظن أن الأختين تكنان لها نفس الشعور!..
سكتت قطر
وميساء في البدء عن هذه الصداقة..
لئن ملأت
أنيسة فراغهما بالبلادة، فما ضرهما، إنه خير من لا شيء!..
وما المانع
في أن يحيطهما زوج أنيسة بعاطفته الأبوية؟.. معارفه كثر، وصحفه مقروءة،
وصداقته بهلال، وإن كانت قد بدأت عن طريق قطر الندى، إلا أنها قويت بازدياد
اهتمام هلال بالصحافة.. وتوثقت بازدياد ما بات يتقاضاه زوج أنيسة من مال عن
طريق هلال وعائلته.. فأصبحت هذه الصداقة، في النهاية، عنصراً أكيداً.. قد
يعود بالنفع على قطر الندى فيما لو لزم الأمر!..
لم ترض
أنيسة عن صداقة قطر بفراس وزوجته.. منذ البدء!..
ما إن عادت
قطر من بلاد زوجها، وأعلنت ميساء خطبتها على البدر، حتى خفّت لتهنئتهما،
واثقة أن زواج ميساء بابن السلطان سيفتح لزوجها وأولادها مجالاً جديداً
للصداقات المثمرة.. والنفع الأكيد!..
صدمها قرار
ميساء بترك الأمير البدر وعقد قرانها الصوري على الأمير مراد!..
كرهت مراد
قبل أن تعرفه.. كيف لا.. وهل من نفع من أمير لن تعرف وزوجها حتى الكلام
إليه بالإفرنسية؟!..
لم تكن تدري
أن صداقتها بالأختين وحيدة الطرف!..
ظنت أنها
مؤهلة لإبداء النصح لهما.. والانتقاد أيضاً.. فلما جاءها رد ميساء، بارداً،
لاذعاً، عادت إلى قواعدها، وآثرت أن تتحاشى الإهانة على أن تواجهها، كي لا
تضطر إلى مقاطعة الأختين.. وفقدان صداقتهما الثمينة
!..
تلا ذلك
فترة شغلت الأختان عنها بقضية جعفر..
لم تكن تدري
بالطبع بوجود جعفر.. فلم تجد تعليلاً آخر لتجنب الأختين لها سوى صداقتهما
الجديدة بفراس وزوجته.. وأكدت لنفسها أن فراساً يهيئ لهما من وسائل التسلية
ما لا تودان إطلاعها عليها..
كانت رحلة
الأختين الأولى إلى الغرب مفاجأة لم تستطع أنيسة تفسيرها!..
لم يترك
هلال لقطر من المال ما يسمح لها بالتجول بين عواصم الغرب، فكيف تدبرت
نفسها؟.. وميساء؟.. وفراس وزوجته؟.. من أين حصل هؤلاء على المال؟..
وإزاء
أسئلتها المبطنة.. أشارت قطر مرة أمامها إلى أنها اضطرت لبيع أحد قلائدها
الثمينة كي تحصل على تكاليف هذه الرحلة!.. فما كان من أنيسة إلا أن هزت
رأسها بصمت.. ثم سألت بعد فترة..
_حسناً..
وميساء؟.. ألم تكلفها هذه الرحلة الكثير؟..
أجابتها قطر
الندى بلا اكتراث..
_في
الواقع.. لست أدري!.. لقد حصلت ميساء من والدتي على النقود قبل السفر!..
هزئت أنيسة
مما سمعت.. ورددت في نفسها.. " أمن والدتها الشحيحة "؟!..
نظرت إلى
قطر الندى بإمعان.. ثم أشاحت بعينيها عنها، وبدلت موضوع الحديث!..
تلت ذلك
مناسبات عديدة آثرت أنيسة فيها الصمت على التعليق..
سكتت عما
لاحظته من عديد الحلي التي عادت بها قطر الندى من الغرب، بعد رحلتها الأولى!..
صمتت عن
الملابس الفاخرة، وعدم اكتراث قطر المفاجئ بالمال!..
عادت إلى
الإكثار من زيارة الأختين كسابق عهدها، علّها تسترجع علاقتها القديمة بهما..
لكنها أحست بشدة تبرمهما منها حتى في سكوتها، فكرهتهما في سرها، وغضبت، ولم
تعد تدري كيف تخفي غيرتها من الألفة الزائدة وعدم التكلف الظاهر على
علاقتهما بفراس، لاسيما وأنها لم تأت يوماً لزيارة قطر إلا ووجدته مع زوجته
في قصرها!..
صبرت شهوراً
طويلة.. تقاوم رغبتها في النيل من أحد..
أقض مضجعها
شوق للانتقام.. حتى باتت لا تدري ممن عليها أن تنتقم!..
صبرت، حتى
أتتها المناسبة التي كانت تسعى إليها في اليوم الذي تلا عودة الأختين من
مدريد..
أخذت سماعة
الهاتف لترحب بهما بعبارات اللياقة المألوفة، مضمرة أن تفاجئهما بجميع ما
كانت قد سمعته من إشاعات حولهما..
قالت بشيء
من التكلف..
_أود..
وزوجي، زيارتكما بمناسبة عودتكما.. فمتى تودان أن نجتمع؟..
تبرمت قطر
بشكل ملحوظ، وأجابت..
_في
الوقت الذي يناسبكما!.. إنما.. أفضل أن نجتمع على سهرة طويلة.. كعادتنا في
الماضي، فما رأيك بإرجاء ذلك إلى وقت آخر.. سأتصل بك عن قريب لنعين موعداً
لهذه السهرة!..
صمتت أنيسة
برهة، وكأنها صفعت على وجهها!..
تمالكت
نفسها.. وأجابت بتصميم..
_ليكن!..
نحن في انتظار إشارتكما..
لم تنقض
أيام حتى كانت الأختان قد اطلعتا، عن طريق من جئن للترحيب بهما، أن
الشائعات التي بدأت تدور حولهما، عقب رحلتهما الأولى، قد بلغت اليوم
ذروتها، وأنها باتت حديث المجتمعات الوحيد منذ سفرهما الأخير إلى مدريد!..
إلى أن جاءت
إحدى قريباتها تطلعهما على أن أنيسة كانت في زيارتها، وأن هذه ذكرت أمامها
أن هلالاً يتصل بزوجها الصحفي بين حين وآخر ليسأله عن أخبار قطر، وزوج
أنيسة حائر فيما يجيب هلالاً به، نظراً لما وصل إلى مسامعه من شائعات حول
قطر، علماً بأن هذه الشائعات ليست سوى جزءاً ضئيلاً مما يتناقله الناس!..
ما إن خلت
الأختان إلى بعضهما، حتى صاحت قطر الندى غاضبة..
_..
يا لها من
أفعى!.. إنها تهددني بما سيقوله زوجها لهلال!..
كانت ميساء
تقلم أظافرها، فضحكت من أختها هازئة..
_..
كان عليك أن
تسكتيها بهدية ما!.. إحدى ساعات جعفر الماسية التي توزعينها على جميع
الأقارب!..
صاحت بها
قطر متأففة..
_..
كفاك بالله !..
ماذا نفعل الآن؟.. هذه الشائعات.. وجميع ما يقال!.. لا بد أن جعفراً وراء
كل هذا!.. ماذا نفعل؟!..
_جعفر؟..
_..
طبعاً!.. يود
طلاقي كي أتزوجه!..
_ألم
يفكر بما ستلحقه هذه الشائعات بك من سوء؟!..
هزئت قطر..
_جعفر
لا يفكر بغير نفسه!!..
نظرت ميساء
إليها ملياُ، وسألت..
_..
ماذا تنوين
بالضبط يا قطر؟..
_أود
الخلاص من هذه الورطة.. أود الخلاص بأي ثمن!..
-أحقاً..
لن يهمك الثمن لو توفر لك سبيل الخلاص!؟..
بهتت قطر
الندى، وقالت متعجبة..
_..
ومتى رأيتني
ألتفت إلى الثمن.. مهما كان؟!..
نهضت ميساء
بحزم.. واتجهت بخطا ثابتة نحو الهاتف..
_حسناً!..
علينا أن نتلافى الشر.. اليوم.. الآن.. قبل استفحاله!..
هرعت قطر
الندى إلى الهاتف.. تمنع أختها من الكلام..
_من
الذي ستكلمين؟!.. أطلعيني!.. ماذا تنوين القيام به!؟..
رفعت ميساء
يد أختها عن الهاتف بهدوء، وقالت..
_..
لا عليك!.. سوف
ترين..
لحظات،
وكانت تكلم فراساً..
استحلفته أن
يأتيها على الفور لأمر هام.. وما إن وصل، بعد دقائق، حتى انزوت معه في غرفة
منعزلة، وبادرته، والأسى يملأ وجهها، أنها علمت من توها أن مراداً في
روما.. وأن له عشيقة هناك!..
طلبت إليه
أن يذهب من فوره إلى روما.. ليستجلي حقيقة ما قيل لها..
توسلت
إليه.. واستعطفته، حتى سالت دموعها..
لم يكن
باستطاعتها أن تعود إلى الغرب، ولم يمض على وصولها من مدريد سوى أيام!..
من الذي
يمكنها أن تسر إليه بفجيعتها.. سوى فراس؟!..
عادت إلى
الضراعة والتوسل، حتى لم يجد فراس مخرجاً إلا القبول!..
ما إن علمت
ميساء أن فراساً بات في الطائرة، في طريقه إلى روما، حتى عادت إلى الهاتف
تطلب أنيسة، وتدعوها مع زوجها إلى العشاء في تلك الليلة..
بدت الأختان
واجمتان شاردتان.. على غير ما عهدت منهما أنيسة وزوجها من مرح وحسن ضيافة..
فوجئ
الضيفان بمظهرهما!..
جاءا
متسلحين بما سمعا من شائعات، مزمعين على مواجهة الأختين بذلك مهما كانت
النتائج..
تحضرا
لمواجهة الأختين العنيدتين المتشامختين اللتين عرفا.. وإذا بخطة هجومهما
تتعثر أمام ما شاهداه فيهما من حزن وضياع!..
توقعا وجود
فراس وزوجته في القصر، فلما انقضى وقت دون أن يشار إلى قدومهما، اغتبطت
أنيسة في سرها، وسألت بتهكم شجعه سكون الأختين وابتساماتهما..
_..
ظننت أننا سنجد
الصديقين العزيزين!.. أين فراس وزوجته.. ألا تنتظرانهما؟..
زادت دهشة
أنيسة حين لم تلق رداً على تهكمها..
كررت
السؤال.. ولما لم تجبها ميساء سوى بإشارة من يدها، كأنها تطلب إليها أن
تغير موضوع الحديث.. تعجبت، وسألت جادة، مصرّة..
_..
ماذا؟.. أهنالك
أمر؟..
هزت ميساء
رأسها في ضياع وحيرة..
_أمور
كثيرة.. كثيرة يا أنيسة!.. لكن.. ليس في اليد حيلة!..
كان في
لهجتها ما أنبأ الزائرين على أنها وأختها في مأزق لا تجرآن على التحدث عنه..
تذكر زوج
أنيسة ما جاء من أجله.. لعله آثر أن يفتح الموضوع كمنقذ لهما من ورطتهما..
لا كمصلح لاعوجاجهما..
لم يدر أن
ميساء هيأت له الدرب كي يدخل إليهما من هذا الباب بالذات.. جلس في مقعده،
وقال مقطباً..
_حقاً..
إن هنالك أموراً كثيرة!.. اسمعي يا ميساء، وأنت يا قطر.. إني أمامكما تجاه
مسؤولية ليس بوسعي أن أتغاضى عنها!.. لن أذكر هلالاً وما تربطني به من
صداقة!.. بل لن أذكر حتى صداقتي الشخصية بكما أنتما!.. حسبي أن أذكر والدك
يا ميساء.. لأجد الدافع إلى مواجهتكما بصراحة!.. أمور كثيرة تحدث في
الخفاء.. أو يقال إنها تحدث.. أمور في غير مصلحتكما!.. أظن أن الوقت قد حان
لكي تحدثاني عنها بصراحة ووضوح!.. ما هذا الذي أسمعه؟.. وما هذا الذي تردده
جميع الألسن عن علاقتكما ﺒ .. ما اسمه؟..
وتوجه نحو
زوجته حائراً متبرماً، فأنجدته على الفور، هامسة..
_جعفر..
فتابع بصوت
صارم..
_نعم
جعفر!.. من هذا.. جعفر؟.. وما صحة هذه الشائعات؟!..
لم يبد على
ميساء أنها فوجئت بذاك السؤال..
عادت إلى هز
رأسها وقالت بصوت هادئ..
_ألم
أقل لكما إن هنالك أموراً كثيرة.. وصعبة..
قاطعها،
قائلاً..
_كان
ذلك حين كنت تتكلمين عن فراس!.. وأنا أسألك عن الشائعات، وجعفر!.. فما
علاقة فراس بها!؟..
_..
في الظاهر..
يبدو كمن لا علاقة له البتة بشيء!.. أما في السر.. آه.. آه لو كنت تعلم!..
نفضت
رأسها.. وتابعت بحزم..
_ومع
ذلك.. لا أظن أن ذلك صحيح!.. لا لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً!..
_ماذا
تعنين؟.. وما هذه الأسرار.. قولي بالله!..
أجابت كمن
تحدث نفسها..
_أيمكن
لفراس أن يكون على مثل هذا الدهاء.. ومثل هذه الخسة؟!..
ثم جلست في
مقعدها ببطء.. ونسجت لأنيسة وزوجها قصة صعقا لها؟!..
حدثتهما عن
دور مزدوج رهيب.. لم تعلم إلا أمس أن فراساً يقوم بتمثيله!..
فبينا يُظهر
لها ولقطر الندى أخلص الصداقة والتفاني في خدمتهما، لا تحدوه بذلك سوى
الشهامة والغيرية، إذ بها تعلم أن صداقته كاذبة مزيفة، يستغلها لابتزاز
المال من جعفر، دون أن يكون لهذا علم بمآربه.. فيضحي بسمعتهما، بل بزواج
ميساء الذي بات على الأبواب، كي يبتز المزيد من المال!..
حملقت أنيسة
بها فاغرة فاها، بينما اكفهر وجه زوجها ثم.. أربد..
_فراس
يقوم بذلك؟.. كيف يفعل؟!.. ما هذه القصة؟!..
_الأمر
بسيط جداً..
نظرت إلى
الأرض ثم تابعت..
_جعفر
شغوف بي!.. وفراس يعده أنه سيحول دون زواجي بمراد.. يبيعه الوعود!.. ويؤكد
له أنه يسعى أمامي كي أقبل بالزواج منه.. من جعفر!..
بدت أنيسة
كالمسحورة.. وزوجها، وكأنه ضاع عن فهم ما سمع..
_..
شغوف بك؟.. أنت
يا ميساء؟!..
ثم نظر إلى
زوجته متسائلاً، فلم تسعفه هذه سوى بالصمت!..
نظرت إليه
ميساء.. ووجهها يملؤه العجب..
_بي
أنا طبعاً!.. ومن غيري؟!.. لقد حاول مراراً ملاحقتي بسيارته!.. ولا أخفي
عنكما أنه أرسل في الماضي وسطاء كثراً يطلبون رأيي في الزواج به!.. نهرتهم
جميعاً بالطبع، حتى ظننت أنه يئس!.. لم ألتفت إلى الموضوع حتى علمت
البارحة.. البارحة فقط، بأن مرجع سكوته هو ما دأب فراس على تغذيته به من
آمال!.. مشاريع كانت تدور بينهما في الخفاء، يقبض فراس ثمنها من ضحيته
غالياً!..
وافقت قطر
قائلة..
_لكم
تساءلت في الماضي، حين طلب فراس منا مرافقتنا إلى الغرب.. لكم ساءلت نفسي..
كيف سيتمكن من تحمل مصاريف تلك الرحلة إن كان يود مرافقتنا.. كنت في حرج من
أن أقول له إننا لا ننزل إلا في الفنادق الفخمة.. أقسم لك يا أنيسة أنه كان
يبعثر الدراهم وكأنه هلال نفسه!.. من أين أتى بهذه الدراهم لو لم يكن جعفر
وراءه يمده بها!؟..
سألت أنيسة
ببلاهة، متوجهة نحو ميساء..
_ولماذا
يمد جعفر فراساً بالدراهم، وهو لم يجتمع بك؟!..
_الأمر
بسيط.. يقول لجعفر بأن عليه أن يسافر معنا لمراقبتنا.. كي يمنع مراداً
عني!.. يعطيه تأخير زواجي دليلاً قاطعاً على نجاح مساعيه!.. ويظن جعفر أنني
فعلاً تحت تأثير فراس!.. ثم هنالك أمر آخر.. آه، ماذا أقول؟!.. قضية لا
أدري ماذا أفعل إزاءها!..
أمسكت رأسها
بيديها.. وكأنها تود شد شعرها، ثم رفعته، وأنزلت قبضتيها تدق ساقيها بهما
دقاً!..
أتعلمان كيف
كشفت أمره؟!
نظروا
إليها.. حتى قطر، نظرت إليها مشدوهة، تتلهف لسماع ما سيتفتق خيال أختها عنه!..
_..
هاتف من
جعفر!.. من جعفر نفسه!.. أتعجبون إن أراد جعفر أن يستوثق من وعود فراس؟!..
طلبني على الهاتف ليسألني ما إذا كانت قد أعجبتني ساعات الماس!..
ﹺصحتُ
في وجهه ".. ساعات الماس؟.. أية ساعات تعني؟..
"
فاجأني
بتخاذل.. ".. الهدية التي طلبتها بواسطة فراس، يا ميساء!.. " ثم سألني.. "
ألم تطلبي من فراس أن أبعث لك به ا" ؟!..
صعقت قطر
الندى لما سمعته من أختها، وتابع الزوجان النظر إليها فاغري الفم..
أردفت ميساء
لاهثة..
_..
أتذكرين يا
قطر. حين طلبنا من فراس شراء بعض الحلي؟.. أتدرين ماذا فعل؟.. أخذ دراهمنا
وذهب إلى جعفر يقول له إني أطلب هذه الحلي هدية منه!.. وهذه الساعة.. هذه
الساعة التي تلبسين!.. هل يخطر ببالك أنها ساعة جعفر بالذات!؟.. ألم يذكر
فراس بأنه حين شاهدها في جنيف قال بأنها لا تليق إلا بك؟!.. وأنه يود منك
أن تبتاعي مثلها لنفسك؟.. ألم تعطه نقوداً لشرائها لحسابك؟.. وماذا فعل
بهذه النقود؟.. أخذها لنفسه.. وحصل على الساعة من جعفر، على أنها هدية لي..
لي أنا!!.. لا لك أنت!!..
سكتت ميساء..
جثم على الغرفة صمت لم يسمع فيه سوى لهاثها.. نفضت رأسها فجأة كالملسوعة،
وصاحت، وهي تكاد تبكي..
_..
إن جميع ما
طلبنا من فراس شراءه لحسابنا.. جميع ما ابتاعه لنا منذ عامين.. جميعه هدايا
من جعفر!!.. يظن جعفر أنه يغمرنا بهداياه، في حين أننا ندفع ثمنها
لفراس!!.. سيارة الفراري.. الحاجيات التي سخّرته بشرائها تهيئة لعرسي.. حتى
الهدايا التي كنت أرسلها لمراد، والتي كان يختارها فراس، بدلاً عني، جميعها
أشياء كنا ندفع ثمنها له، فيضعه في جيبه، ثم يطلبها من جعفر على أنها هدايا
لي!!..
نهض زوج
أنيسة وهو لا يدري كيف يكبح جماح غضبه، وسأل بصوت كأنه جاء من بئر عميق..
_وأين
فراس الآن؟.. أين هو؟!.. أين؟!!..
قالت ميساء
هازئة..
_عاد
البارحة إلى روما!.. لا بد وأن هنالك صفقة جديدة دبرها مع جعفر!.. هدايا
جديدة ادعى أننا طلبناها منه!..
لم ينطل كذب
ميساء على أنيسة!..
"
الفيراري "!..
المجوهرات!.. وألبسة " ديور ".. والرحلات!.. من الذي تكفل إذن بدفع هذه
الأموال الطائلة؟!!.. أهلال الذي لم يترك لقطر حتى إدارة شؤون قصرها
المالية؟!.. أم أمها التي تود لو تمنع عن نفسها الطعام لشحها؟!..
لكنها صمتت!..
أخفت في
نفسها إعجاباً بميساء لا حدود له!..
دار رأسها
أمام البهلوانية!..
سرها أن
تبتدع الأختان هذا المخرج!..
سرها أنهما
تطلبان موافقتها لاختيار ضحية!..
سرها أن قطر
وميساء باتتا بحاجة إليها!..
بدت وكأنها
متفرجة رومانية، في حلبة مصارعة، تنظر إلى من يمسك برمح مسلط فوق عنف خصم
مستسلم، مصارع ينتظر إشارة الجمهور.. فأشارت بإبهامها إلى الأسفل، ووافقت
نشوى على القتل!!..
اقترحت
أنيسة وسائل جذرية للانتقام أخافت حتى ميساء، فعارضتها، على أنها ستُخرج
هذه القضية إلى الملأ، وأن في ذلك ما يسيئ لزواجها..
لم يجد
الجميع في النهاية حلاً خيراً من إبعاد فراس عن البلاد!.. فهو دمشقي الأصل،
وما على السلطات سوى منعه من الدخول لدى عودته من أوروبا.. وبذلك يلقى
جزاءه، وتموت هذه القضية في المهد!..
لم يخرج
الزوجان من تلك السهرة إلا بعد أن أقسم الصحفي المتنفّذ أن يسعى أمام جميع
من يعرفهم من المسؤولين لتحقيق هذا الغرض!..
سارع
الضيفان إلى الرحيل لتنفيذ اتصالاتهما.. وتنفست الأختان الصعداء..
عادتا إلى
الشرفة المطلة على العاصمة، وجلستا ترتشفان القهوة بسرور..
ضحكت ميساء
بمرح وقالت لأختها متفاخرة..
_أتدرين
كم عصفوراً أصبت بحجر واحد؟..
_..
كم؟.. اثنين؟..
_بل
ثلاثة!.. الأول.. هو تبرئتنا كلياً من هذه القضية بإلقائها على عاتق فراس!..
والثاني..
بادعائي أن جعفراً يسعى ورائي أنا، لا وراءك، وأن فراساً يعده بالوصول إلي،
أكون قد أزحت الأضواء عنك أمام الجميع، فيما لو بقي هنالك من سيصر على
إشراكنا في هذه التهمة.. وفي هذا ضمان لتبرئتك أمام هلال، فيما لو وصله
الخبر!..
بدا السرور
واضحاً على وجه قطر، فسألت أختها، مدهوشة لذكائها..
_..
والثالث؟..
_والثالث
يا عزيزتي، وهو الأهم في نظري.. فبقولي إننا كنا ندفع ثمن الحلي نقداً
لفراس، أكون قد قتلت البرهان المادي الوحيد الذي قد يثبت علاقتنا بجعفر!..
فما الذي
يثبت علاقتنا سوى حيازتنا على هداياه؟.. إن لجميع الساعات التي أهدانا
إياها أرقام متسلسلة، يمكن إثبات أن جعفراً هو الذي ابتاعها من الشركة!..
حتى الساعة الماسية التي أهديتُها لمراد.. والسيارة الفراري التي في
حيازتك.. جميع هذه الأشياء قرائن ضدنا.. فما رأيك بهذا المخرج الذي
ابتكرت!؟..
_وفراس
يا ميساء.. ألا تظنين أننا قسونا عليه بهذه التهمة؟..
تبسمت ميساء،
وأجابت..
_من
الجائز.. إلا أن فراساً لن يأبه لها!.. بل أظن أنه سيمتنّ لنا هذه الفرصة
التي أتحناها له بالبعد عن زوجته التي يمقتها، وعن هذه البلاد!..
عاد فراس من
البحر يقطر بللاً.. ووقف أمامي يجفف صدره ثم رأسه، يهزه، ويقفز ذات اليمين
وذات اليسار ليخرج ما علق في أذنيه من ماء..
سألني
مبتسماً..
_..
ما لك تعجب
مني؟..
_..
أعجب من قدرك
الغريب!.. لكن.. لم تخبرني عما حدث لك حين عدت من روما.. وبعد مؤامرة ميساء..
_..
جرت الأمور
ببساطة مدهشة!.. أطلع عميد عائلة قطر على خطة الصحفي، وسعى الإثنان لدى
مصادر عليا.. فاستصدرا أمراً بعدم السماح لي بدخول البلاد!..
_وماذا
فعلت؟..
_ما
إن أخبرت عن ذلك في المطار، حتى عدت أدراجي إلى روما، فرحاً بتلك المناسبة
التي أتاحت لي الابتعاد نهائياً عن هذه الأجواء..
ضحك، وهز
رأسه آسفاً..
_لكن
هذا الحلم لم يدم!.. إذ تبرعت عائلة زوجتي، ولها هي الأخرى عميد يزاول
السياسة، فاستقصت خفايا هذه القضية من نفس جهات الأمن التي نفذت هذا
القرار!.. أتعلم ماذا قيل لنصيري؟.. قيل له.." فراس " ؟.. إن صهركم هذا
يسيئ إلى العلاقات الدولية للبلاد!.. يوقع بين شرقها وغربها.. وعلى مستويات
ولا أعلى!..
فما كان من
نصيري إلا أن اجتمع بعميد عائلة قطر، وهدده، إن هو لم يسع لإلغاء أمر
الإبعاد لدى نفس الجهات التي أصدرته، فإنه سيعقد مؤتمراً صحفياً يدلي فيه
بجميع تفاصيل هذه القصة، من بدايتها، بما في ذلك جميع ما يدور بين قطر
الندى وجعفر!..
_ومن
أين لنصيرك بهذه التفاصيل؟..
_من
زوجتي التي جن جنونها لما رأتني طليقاً في أوروبا!..
_وماذا
كان جواب عميد عائلة قطر؟..
_أذعن
على الفور!.. وألغى منع الدخول بأقل من أربع وعشرين ساعة!..
_..
وبعد؟..
_وبعد..
عدت!.. وها نحن في العاصمة.. نسبح على شواطئ بحرها!!..
أثارني
ببروده، وعدم اكتراثه بما كان يرويه لي..
ثرت لخيانة
صديقتيه له في مجال تجاوز حيز المغامرات العاطفية!..
صحت به
أستحث أبسط الانفعالات الطبيعية فيه..
_..
كيف لم تغضب
لما حدث!.. كيف لم تثر عليهما؟!..
_وماذا
يجدي أن أقوم بذلك؟..
نظرت إليه
متعجباً.. ثم هازئاً، وقلت..
_لاتقل،
أرجوك، إنك لم تجد غرابة في كل ما حدث؟!..
ضحك من
ثورتي وأجاب..
_بالضبط!..
بل كنت أتوقع!..
_...!
_لاتعجب!..
حدث أثناء رحلتنا الأولى أن تحدثنا طويلاً عن الخير والشر.. أذكر أنني هزئت
من هذه المفاهيم أمامهما، وفندتها حتى أقنعتهما بمحاكمتي!.. ثم تحدثنا عن
تدارك عواقب ما لحقهما من شائعات، إلى أن اقترحت بنفسي عليهما أن يوقعا علي
باللوم فيما لو افتضح أمرهما، واضطرتا إلى إيجاد من يحمل الشائعات عنهما!..
صحت به، وقد
زاد كلامه من انفعالي..
_..
وتجد من
الطبيعي لهما أن تعملا بهذه النصيحة؟.. أن تحاولا الإيقاع بك فعلاً،
متجاوزتين ما أظهرته لهما من محبة في عرضك التضحية بنفسك من أجلهما؟..
_إنهما
لا تفهمان سوى مصلحتهما الشخصية!..
كدت أصيح به
نزقاً.. لكنني تمالكت نفسي..
_حسناً!..
لكن ألا يهزك استهتارهما هذا؟!.. أفهم أنك لن تقوم بشيء حيال خيانتهما،
لكن.. ألم تشمئز لذلك؟!.. ألا ترى إلام أوصلهما استخفافهما بالأخلاق!..
ومعنى أن تقوما بتطبيق مفاهيمك؟!..
تبسم
طويلاً.. ثم قال ساهماً..
_أشمئز؟..لا..
أهزأ إذ أراهما تحلّقان نحو الحضيض!..
_وأنت؟..
ألمفاهيمك معنى آخر؟.. أتظن أنك أقوى من الخير والشر؟..
هز رأسه
نافياً.. ثم تابع والابتسامة نفسها على شفتيه..
_..لا
أخاف إلا من شيء واحد..
_أنت؟..
تخاف؟!..
هز رأسه
بالإيجاب..
_أخاف
يوماً.. أن أسقط إلى أعلى!..
انقضت برهة
قبل أن أسأله..
_وبرقيتك
التي حيرتني.. استدعاؤك لي..
_..
سأخبرك عن ذلك
في حينه.. تمهل يا صديقي، تمهل.. لا تزال أمامك مفاجآت كثيرة!..
}
القسم السادس
الفصـل الثانـي
ص396-402
لست في
قرارتي من الذين تستهويهم المغامرة، ولا طاقة لي على تحمل توترها سوى على
الورق!.. ومع ذلك وجدتني أنصاع لندائها شبه مرغم، أستقل الطائرة مع فراس،
يخفق قلبي، تارة خوفاً، وتارة تحفزاً لما سأشارك فيه من قدر مجهول..
لم أعد أذكر
كيف مرت ساعات تلك الرحلة الطويلة..
رحت، في
توثبي، أمطره بأسئلة لا طائل من ورائها، أحاول أن أحضّر نفسي لما قد ألقاه
في بلاد لا أعرف عنها سوى النزر اليسير، فأستزيده الإيضاح عن مراد وصحبه،
ثم عن نائلة، وما حل بها طيلة السنوات التي غابت عنها ميساء..
..
لم أحصل منه
سوى على إجابات مقتضبة، أوابتسامات مهذبة!..
أخذت أقلب
في رأسي كيف تقبّلت نائلة إهمال ميساء لها، منذ ظنت أنها قد حصلت على مراد،
وأنها لم تعد بحاجة لمساعدة أخته..
ترى هل حرضت
نائلة أخاها على إهمال ميساء.. حنقاً عليها، أم ضنّاً من أن تراها في
سريره؟..
أم كان ذلك
لقناعة منها بأن ميساء لا تصلح بالفعل لأن تكون زوجة له؟!..
كنت قد رأيت
نائلة مرة في جنيف، فاسترعى انتباهي شموخها، وطلتها الأبية!.. سحرتني
نظراتها الباحثة المنقبة، ثم أعجبت بطلاقة لسانها واتزان كلامها.. لا، ليس
عند نائلة حلول أميرات الشرق المرتجلة، ولا تهوى اندفاعهن وراء انفعالاتهن
المفاجئة ونزقهن!..
لماذا
استدعت فراساً بهذا الإلحاح؟.. ما الذي هيأته؟..
هل أخطأت في
مصاحبتي صديقي؟.. ألم يجدر بي أن أبقى خلف الستار، بعيداً عن الأخطار حتى
النهاية؟!..
لكن، لا..
كان علي أن أعيش عن كثب، ولو مرحلة قصيرة من هذه الأسطورة.. كان علي أن أرى
بنفسي، لكي أصدق!..
لم يطل
ترقبي!..
ما إن حطت
الطائرة، حتى تكشف الظلام عن سيارة سوداء أقبلت مسرعة نحو السلم لتتلقف
فراساً، ولم تكن قدماه بعد قد وطئتا أرض المطار!..
صعقت لما
حدث!..
وقفت وحيداً
كالمشدوه لا أدري ماذا افعل.. أو إلى أين أتجه!..
كيف اختفى
فراس؟.. لا بد أنها إحدى سيارات القصر!..
أين ذهبت
به؟.. ماذا سيحل بي أنا؟!..
تلكأ بعض
المسافرين يتعجبون لما شاهدوا!.. لحظات، وإذا بالسيارة تتوقف بعيداً،
وسائقها يخرج منها مشيراً إلي أن أتقدم بسرعة!..
كرر
إشارته.. وأصر على استعجالي حتى كدت أركض نحوه، وما إن اقتربت منه، حتى
دعاني إلى الصعود، والجلوس في المقعد الأمامي إلى جانبه.. ثم انطلق بنا
مسرعاً، خارج المطار!..
سلك درباً
جانبياً يحرسه رجلان انتصبا بالتحية الرسمية إذ مررنا إزاءهما، ثم استقل
طريقاً عريضة تكاد تكون مظلمة، بدت وكأنها تطوق المدينة..
جلست لا
أجرؤ على الحركة..
مرت دقائق..
عاد السائق بعدها إلى القيادة على مهل..
قلت في
نفسي.. " لو أن فراساً قصّ علي ذلك، لصحت به متعجباً.. كيف دخل سيارة لا
يعرف أصحابها.. كيف نسي متاعه.. وكيف خرج من المطار دون أن يطالب به "..
لكني صمتّ!!.. صمتّ رغم أصوات باهتة في داخلي راحت تصيح إن مثل هذه الأمور
لا يمكن أن تحدث لي أنا، وإن علي أن أرفضها!..
أحسست فجأة
بالسكون الذي يحيط بي.. ولم أجرؤ على الالتفات إلى الوراء.. تململت في
النهاية في مقعدي، وإذ بي أسمع فحيحاً يأتي من زجاج خلفي كنت قد أسندت رأسي
إليه..
استدرت أبحث
عن مصدر الصوت لأرى يداً سمراء نزقة نحيلة تخرج من الظلام، لتزيح زجاجاً
مانعاً للصوت يفصل المقاعد الأمامية عما يجري في الخلف..
أتاني صوت،
أدركت أنه صوت الأميرة نائلة..
_أرجو
المعذرة لهذه الهفوة.. لم نكن نعلم بأن فراساً جاء بصحبة صديق!..
أدرت رأسي
بعض الشيء لألمح طيفها في الظلام، وتمتمتُ بعبارات لا أذكر معناها..
هممت أن
أستدير كلية لأرى محدثتي، أو فراساً، وما يجري بينهما، وإذا بالفحيح يعود
على عجل.. وباليد السمراء تغلق الزجاج الفاصل بيننا من جديد..
عدت إلى
الصمت، إلى أن توقفت السيارة بعد فترة على مفترق طرق ناءٍ..
لم يكن
السائق قد أوقف المحرك، فلم أكد أترجل منها، تلبية لإشارته، حتى انطلق مرة
أخرى، بعيداً عني.. وتركني وحيداً في الظلام!..
نظرت حولي،
وإذ بفراس واقفاً أمامي..
كان قد ترجل
هو الآخر، وراح ينظر إلى سيارة أخرى تقف في انتظارنا، على مقربة منا، تحمل
متاعنا، وسائقها ينتظر منا الإشارة..
هممت
بالكلام.. فاستمهلني بحركة تنم عن شرود لا يود الخروج منه..
أقلتنا تلك
السيارة إلى فندق دخلته ساهماً، واجماً، أنا الآخر!..
جلست على
طرف سريري أنظر إلى صديقي الذي جلس يحدق بصمت إلى الهاتف الذي قربه..
قلت في
النهاية بنزق..
_ألن
تحدثني عما جرى بينكما؟..
_بلى..
بلى..
لكنه لم
يتكلم..
مضت فترة
طويلة وأنا أتابع التحديق إليه، وهو ساهم عني، يحدق بالهاتف!..
لم يعد
باستطاعتي الصبر على صمته، فعلا صوتي..
_أنا
معك في هذه القضية!.. هل نسيتني؟!.. ألا يحق لي..
أسكتني جرس
الهاتف الذي راح يدق بإلحاح لم ينقطع حتى رفع فراس السماعة إلى أذنه..
_ألو!..
نعم، نعم.. نعم.. نعم.. متى؟.. حسناً.. وهو كذلك.. إلى اللقاء..
ثم أعاد
السماعة إلى مكانها..
أحسست، وهو
ينظر إلي، كأن قوة قد أفرغت من عينيه الضوء والحياة!..
_مالك
يا فراس؟!.. أرجوك!.. حدثني!!..
أشعل لفافة..
_مراد
سيأتي.. في الواحدة صباحاً، ليقلني إلى قصره الصيفي!..
_مراد؟..
ماذا تقول!.. أليست هذه الليلة حفلة زفافه؟!.. ومن أين كلمك؟..
_من
القصر..
_والحفل؟..
قل !.. أليس زفافه اليوم؟!..
_بل
هذه الليلة بالذات!..
_إذن؟!..
وهل أرجئ الموعد؟!..
_..
على العكس..
الحفل قائم!..
التبس علي
الأمر !..
راودني شعور
ملح بالغربة كدت إزاءه أحمل حقيبتي وأخرج من الفندق إلى غير عودة، بعيداً
عن فراس، عما يجري حولي، عما يحيطني، ولاأفهم منه شيئاً
!..
وإذ بفراس
يتنهّد طويلاً..
_..
كيف كان لي أن
أتوقع ذلك؟..
كان في
لهجته من الاستسلام، والضياع، ما أعادني إليه..
سألته
بهدوء، ومحبة..
_أرجوك..
أطلعني..
_..
لم يكن مراد
على علم بقدومنا، ولا بما دبرته أخته!.. لقد هيأت نائلة للأمر بمفردها، ثم
تسللت من الحفل إلى المطار، كي تستوثق من وصولي، وتطلعني على خطتها!..
أطلعتني على كل شيء حين كنا في السيارة منذ فترة!.. ماذا كان بإمكاني أن
أجيبها؟..
سألتها ما
إذا كان مراد يحبذ حقاً ذلك.. فقالت " مراد؟.. إنه سيطير فرحاً حين أخبره
بما هيأته له ".. وها هو مراد يؤكد لي كلامها!.. سيأتي في الواحدة صباحاً
ليقلني معه إلى قصره الصيفي!..
كان ينظر
بعيداً.. ينفث الدخان باستسلام تحول شيئاً فشيئاً إلى توتر وتصميم!..
أخذ ينقر
لفافته على طرف المنفضة، وهو يقول..
_لابد
أنك تذكر.. دعاني في الماضي إلى ذلك القصر..
_أذكر!..
لكن وقتاً طويلاً قد مضى على تلك الدعوة!.. ثم.. إن هذه ليلة زفافه!..
_إنها
ليلة انتقام نائلة!..
_انتقام
نائلة؟!..
هز فراس
رأسه بالإيجاب، وقال..
_..
سيترك مراد
الحفلة دون أن يشعر به أحد.. ولن تجد ميساء من يأوي معها هذه الليلة..
ستأوي إلى فراش زفافها وحيدة!..
سكت برهة،
ثم تابع واجماً..
_..
بينما أكون مع
مراد.. بصحبة ثلاث فتيات.. غانيات، ينتظرننا في قصره الصيفي!..
كان فراس قد
استعاد هدوءه، واسترجعت أنا أنفاسي.. فرحنا نحدق ببعضنا بصمت، يشعر كل منا
أن الآخر يفهم جميع ما يدور في رأسه من هواجس!..
لست أدري
كيف يتقبل الشرق هذه الوقائع، ولن أقف، كما تعودت، لأناقشه فيها.. أو
لأحاول فهمه!.. أحسست في تلك اللحظة أنني، فيما خلا المحبة التي تربطني
بفراس، فلا رابط آخر يجمعني به، ولا من حب يمكن أن يقوم بيني وبين هذا
العالم الذي ينتمي صديقي إليه!..
لست أطلق
الأحكام على ما يجري في عالمه.. ولم أشأ، حتى ذلك الحين، أن أستحث فراساً
على القيام بذلك.. رأيت في عينيه الفارغتين، الشاردتين، أنه يعلم حق العلم
ما يجول في خاطري..
رأيت في
عينيه الغرب، يدرك معنى ما هو مقبل عليه.. والشرق، ينزلق مع ما يسوقه إليه
القدر، غير آبه بما سيحل به!..
نظرت إلى
ساعتي، وهممت أن أذكر فراساً بموعد وصول مراد الذي اقترب.. فإذا بجرس
الهاتف يعود إلى الرنين..
تحدث فراس
إلى مراد، ثم أعاد السماعة وقال على عجل..
_سيصل
مراد بين لحظة وأخرى!..
فوجئت بسرعة
قدومه.. فوجدتني أنسى حيرتي، وأقول مرغماً، مرتبكاً..
_..
كيف تذهب؟!..
والعرس قائم!.. وميساء، وجميع أفراد العائلة، والمدعوون؟.. ستكون فضيحة ما
بعدها فضيحة!..
هز رأسه..
_لقد
أطلعني مراد الآن أنه انسحب من توه أمام الجميع.. مع ميساء.. على أنهما
سيأويان إلى النوم.. فهلل المدعوون لذاك!.. أدخل زوجته غرفتها، على أن يعود
إليها بعد دقائق، وخرج خفية من القصر!.. إنه في طريقه إلينا!..
تنبهت أنني
سأبقى وحيداً بعد ذهابه، فهوّم علي إحساس مقيت..
صحت لاهثاً..
_ليس
لي من مشاغل هنا سوى انتظارك.. متى ستعود؟..
_غداُ..
_..
ومن يدريك ما
إذا كان مراد سيأذن لك بالعودة غداً؟!.. ستكون رهن إشارته في ذلك القصر
البعيد.. هل نسيت ذلك؟..
_لا
لم أنس!.. لذلك اشترطت على نائلة، قبل أن أقبل الذهاب، أن تضمن عودتي غداً
من ذلك القصر!.. إنها تعرف أخاها حق المعرفة، لذلك أمرت سائقها، واثنين من
أتباعها، أن يكونوا غداً في انتظاري.. خفية، خارج القصر.. فيما لو اضطررت
إلى تركه دون موافقة مراد!..
_أتظن
أن الأمور قد تصل إلى هذا الحد؟..
_..
من يدري!..
لم يكد ينهي
قوله حتى سمعنا بوق سيارة مراد..
أسرع فراس
نحو الباب، ثم توقف.. واستدار نحوي..
نظر إلي
بإمعان، وقال مبتسماً بحزن..
_..
لقد أخطأت في
حكمك علي!..
باغتني قوله..
_أخطأت؟..
فيم؟.. وهل قلت شيئاً لأخطئ؟..
_عيناك
قالتا الكثير!.. ليس فيما أقدم عليه مغامرة عابرة استهوتني طرافتها أو
غرابتها!.. لست مسؤولاً في هذا الكون سوى أمام نفسي!.. هنالك أموراً أبحث
عنها أنا الآخر!.. أموراً أود أن أعرفها عن نفسي!..
خفّ وقع
أقدامه وراء الباب الذي أغلقه خلفه.. ثم اختفى...
القسم السادس
الفصـل
الرابع
ص411-414
{عادت
قطرإلى بلادها تحس وكأنها تحمل جميع هموم الدنيا على صدرها..
ولأول مرة،
وقفت وحيدة، تجابه ثورة جعفر الذي جن لسماع نبأ اجتماعها بزوجها أثناء حفل
زواج ميساء!..
أين أختها
تستأنس بنصحها، وتستفيد من دهائها؟..
أين فراس،
تتذمر أمامه من تصرفات جعفر وطيشه، فتفرغ ما في صدرها من ضيق وغضب؟..
عادت وحيدة،
واجمة، إلى قصرها.. لتمضي فيه ليلاً طويلاً لا يطاق!.. ليلاً تقلّب فيه
مشكلتها، وتحار فيما يحسن صنعه إزاء ثورة جعفر وتمرده..
لم يجدها
شرحها له أن هلالاً قد قرر طلاقها، وأنه، إن لم ينفذ قراره بعد، فذلك تلبية
لتوسلات ميساء له بالتمهل إلى ما بعد حفل زفافها..
حارت كيف
تفهمه أن عليه ان يلجم لسانه، وأن يحتاط لما يعلنه أمام الناس عن علاقته
بها، وإلا فإن هلالاً لن يتوانى عن حرمانها من رؤية ولدها، بعد الطلاق،
فيما لو ثبت له أنها على علاقة به..
وكأن القدر
لم يشأ أن يطيل حيرتها.. لم تنقض أسابيع على تلك الحال، حتى أتاها ساعي
البريد يحمل لها الإشعار الشرعي بأن طلاقها قد تم.. وأنها أصبحت، ابتداء من
ذلك التاريخ، حرة في أمرها، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأبي وحيدها!..
ليس في
الكون مثل المرأة الشرقية تعرف مرارة ذلك الطعم الغريب من الذل والمهانة
حين تقرأ ذات صباح في بريدها.. أنها طالق!.. وأن ذلك الذي فتحت له يوماً
قلبها وجسدها، قد بصق عليها، وركلها، فهز كيانها، وصدع ثقتها بنفسها،
وأعادها إلى ما كانت عليه قبل الزواج بمراحل..
كان زواج
قطر، رغم تصدعه، الخيط الواهي الذي يشد كيانها إلى بعضه.. يعطيه الشكل الذي
تتناقله نساء مجتمعها من جيل إلى جيل، غير عابئات بتفاهة معنى هذا الزواج،
أو بضحالة بنيانه!..
انقطع الخيط
الواهي.. وانهار الكيان المتصدع!.. ورغم أن قطراً هي نفسها التي هرعت عائدة
إلى غرفتها لتجلس على فراشها وتعيد قراءة تلك الورقة المرة بعد المرة، ورغم
أنها استجمعت قواها، وراحت تذكر نفسها بأنها طالما ترقبت تلك النتيجة،
وأنها ستنعم الآن بحريتها.. وستتفنن في إنفاق ما جمعته من ثروة مفاجئة..
وبأن ألف من يتمنى الزواج بها.. وبأن.. وبأن.. حتى أغرقت نص تلك الورقة في
ذاكرتها، فكادت أن تنساه لتوها.. إلا أنها أدركت، رغم تعاميها، بأنها لم
تعد تلك المرأة التي تمشت نحو ساعي البريد منذ ساعة من الزمن لتتسلم ذلك
الإشعار.. وأن أثمن جزء من كيانها قد مات!.. دفنه ذلك الطلاق إلى الأبد!!..
هرعت نحو
الهاتف.. وعمدت إلى الاتصال بمكتب زوجها السابق.. لتستفسر عن مخصصات ولدها
وخدم قصرها.. فقيل لها ببرود إن تلك المخصصات ما زالت سارية..
لم تستهدف
المال وحده من وراء ذلك..
كان ما
أغدقه جعفر عليها، حتى ذلك الحين، يوازي أضعاف أضعاف ما نالته من هلال!..
أرادت أن
تعرف مصير ابنها، ومقدار سخط هلال عليها.. فهدأت حين سمعت جواب مدير
المكتب، وقررت على الفور إخفاء أمر طلاقها عن الناس..
تراءى لها
أول ما تراءى، ما سيقدم جعفر عليه فيما لو علم بالطلاق، تصورت جرأته،
وأمراً لن يتوانى عن طلبه منها من الوفاء بالوعد الذي قطعته له على نفسها!..
اقشعرت
لتصورها طلب جعفر الزواج منها على الفور!..
صعقت حين
دوى جرس الهاتف، وسمعت صوت جعفر يهنئها بالطلاق!..
كادت تصيح
غاضبة، لكنها استدركت نفسها، وسألته باللهجة المناسبة..
_..
وكيف عرفت
بالأمر؟..
أجابها
هازئاً.. منتصراً..
_وهل
يخفى عني شيء مما يتعلق بك؟..
أحست وكأن
انتصاره كان عليها هي، لا على هلال.. وأن هزأه كان من مراوغتها، وليس مما
تدعيه أمامه من ضعف..
جاءها صوته
سلطاً، متحفزاً..
_مالك
تصمتين؟.. ألن نحتفل بهذه المناسبة؟.. متى أراك؟..
_اليوم..
أو غداً، في المكان المعهود.. سأتصل بك مساء.. لنعين الساعة..
سمعت ضحكة
طويلة، وتراءى لها وجهه يغشى من الضحك..
_كنت
أعلم أنك ستقولين ذلك!.. لقد راهنت نفسي على أنك ستقولين ما قلت!!..
_وما
الغرابة فيما أقول؟..
_أبداً،
أبداً!.. " المكان المعهود "!.. " الساعة الفلانية
"!..
ثم جاءها
صوته خشناً، متوعداً..
_..
لم التخفي بعد
اليوم يا قطر؟!.. ألست الآن حرة ؟.. ماذا تخشين!؟.. سآتي لزيارتك في دارك..
بعد قليل!..
صرخت قطر
عالياً..
_..
في داري؟!.. هل
جننت؟!.. وحجّاب هلال؟!.. هل نسيت أنهم لا يزالون عندي؟!.. وعبده سرور؟..
هل نسيت أنه لا يزال يخدم ابنه؟!.. ماذا سيقولون؟.. سيؤكد ذلك للجميع كل ما
قيل عن علاقتنا!.. مالك لا يهمك أمري.. ولا تأبه لسمعتي؟!..
أخذ جعفر
نفساً طويلاً، سمعته على الهاتف.. ثم أجاب كمن يضبط نفسه ويتمالك غضبه..
_أما
آن لهذه الأغنية أن تنتهي؟!.. ممَ الحذر يا قطر؟.. وممن تخافين بعد
اليوم!؟.. أتظلين تحت رحمة هلال، حتى بعد الطلاق؟!.. وما قصة ابنك هذه؟..
أفي نيتك أن تبقي تحت رحمته.. إلى الأبد؟!..
كان صوته قد
بدأ يرتفع، حتى اضطرت إلى إبعاد سماعة الهاتف عن أذنها..
ماذا تفعل..
وكيف تمنع غضب جعفر من الانفجار؟..
نسيت الضربة
التي تلقتها حين أنبئت بأنها طالق..
أحست أن
عليها أن تفلت من براثن هذا الذي جاء يطالب بها كجزية استحقت على خصم مغلوب
على أمره!..
لم يعد جعفر
ذلك العاشق الذي يسعى إلى حظوة عندها، ترضيه الوعود، ويعيش، لا يحسب من
أيامه سوى التي تحييها خلوة معها!..
سيطالب بعقد
زواجه عليها، اليوم، لو أمكنه ذلك!..
أحست
بحبيبات العرق تتجمع على جبينها وعلى شفتها.." زوجة لجعفر"!!.. أتهوي إلى
هذا الدرك.. من " أميرة " إلى " زوجة حاجب لأحد الأمراء "؟!.. وأقوال
الناس؟.. وأصدقاؤها؟.. وعائلتها؟.. ألم تنكر أمام الجميع أنها على صلة
بجعفر!؟..
ألم تتهم،
وأختها فراساً بحياكة هذه العلاقة؟!.. ألم تدعيا لأنه كان يسعى وراء ميساء؟!..
كيف تتزوج به اليوم فتؤكد للجميع أنها على علاقة سابقة به، وتعرض نفسها
لنقمة هلال، وحرمانه لها من ولدها؟!..}
ص420-423
{كانت حال
درة قد ساءت بعد فشل خطتها في زواج أخيها من ميساء!..
هجرها أخوها
البدر وصحبه، ونقم والدها عليها، إلى أن باتت تخشى الظهور أمام أي جمع يضم
أفراداً من عائلتها، لما كان ذلك يثير بينهم من نقمة وحقد على ما ألحقه
فشلها عليهم من إهانة وعار..
لجأت إلى
السكْر، وعادت، كعادتها.. للعربدة، والمجون..
زادت من ذلك
حتى أسرفت.. ليلة علمت بزفاف ميساء!..
اضطروا تلك
الليلة لنقلها إلى المشفى لمعالجتها، لفرط ما تناولته من خمر، فما إن شفيت،
وجاءها عقاب والدها، بالحد من مخصصاتها الشهرية، حتى بيتت الانتقام منه،
ومن كل من لف حوله!..
سنحت لها
الفرصة المناسبة حين علمت من أختها الكبرى أن هنالك من أخبر السلطان عن
مؤامرة يدبرها له عدد من إخوته المتمردين على سلطته.. مؤامرة ينوون فيها
الإطاحة بعرشه، ونفيه من البلاد!..
علمت درة من
أختها أن السلطان قد نصب لأخوته هؤلاء كميناً ينوي إيقاعهم به، والانتقام
منهم شر انتقام!..
كانت أختها
هذه من المقربات إلى والدها، فدأبت درة عليها حتى علمت منها تفاصيل الكمين،
مؤكدة لها أنها ستعمل جاهدة لإيقاع المتآمرين فيه!.. كيف لا؟.. وهي أولاً
وآخراً ابنة السلطان. وأي ضرر قد يحيق بسلطته، سيلحق يجميع أبنائه، لا
محالة!..
ما كان
منها، في الليلة ذاتها، إلا أن تسللت نحو قصر عمها، رأس هؤلاء الإخوة
المتمردين، فأنبأته عن تفاصيل الكمين، مدعية أنها تخون والدها، لا كرهاُ
به، بل درءاً بسمعة العائلة من أن تصل الحضيض، وإجلالاً لأواصر القربى!..
ثم، خوفاً من أن يصل الجنون بوالدها إلى تنفيذ خطته بقتل إخوته، وذلك ليس
جرماً لا يغتفر فحسب، بل نهاية ملك العائلة برمّتها!..
سألت قطر
متعجبة..
_أدرة
إذن هي التي حرضت أعمامها على الانقلاب على والدها؟..
_بل
كانوا قد عزموا على ذلك من قبل.. إلا أنهم كانو قلة مترددين في بادئ الأمر،
فلما أتتهم بنبأ الكمين، وأكدت أن والدها ينوي قتل المتآمرين منهم، ثارت
ثائرة جميع الإخوة!.. فالتف المترددون حول أكبر إخوانهم، وأطاحوا بالسلطان
بأقل من ومضة عين!..
_ومن
أخبرك بهذه التفاصيل؟..
_قريبتي
سعاد.. وصيفة أم جوهر، هل نسيتها؟!.. كانت من بين اللواتي ركبن طائرة
السلطان، مع سيدتها، إلى منفاه!..
_ودرة؟..
أتنوي قضاء الصيف هنا؟.. أين؟
_
لقد ضاعف
السلطان الجديد من مخصصاتها، ثناء لها على ما قامت به!.. وما عليك سوى
النزول في فنادق المصايف الكبرى لتتلقفي فضائحها!.. تسمعين أخبار لياليها
الماجنة على ألسن الندال، يتناقلونها وكأنها قصص الزير!..
_يالها
من فاجرة!.. ألا تستحي؟!..
ضحكت زوجة
فراس، وقالت..
_لولا
نقمتها علينا لما فعلته ميساء بها.. لجال في خاطري أن ندعوها للانضمام إلى
شلتنا اللطيفة!..
قرع الباب،
فقامت زوجة فراس تستقبل القادمين شاردة، خلافاً لعادتها.. سألها عشيقها..
_ما
لكما على هذا الشرود؟..
تنبهت قطر
الندى.. قالت وهي تغمز بعينها إلى صديقتها..
_ولم
تأخرتما؟!.. ليس في صداقتكما هذه ما يسر أحداً!.. والله إن عدتما إلى
التأخر بعد اليوم، فلن تلوما سوى نفسيكما!..
هزأ عشيقها
منها، وقال مازحاً..
_وما
الذي تستطيعان فعله؟..
_نستبدلكما
بغيركما.. على الفور!..
علّق الآخر
ضاحكاً..
_ومن
أين لكما من كان على مثل رجولتنا!..
_ها..
الرجولة في هذه الأيام تشترى بالمال!.. ولا يخفاك أني لست فقيرة!..
في ليلة
أخرى، أمسكت قطر الندى بالهاتف تطلب صديقتها..
وبعد حوار
قصير، قالت..
_هل
الشقة شاغرة هذه الليلة؟..
_طبعاً..
إنما موعدنا بعد غد!..
_أعلم
ذلك.. أرجوك أن تخبري نجوى أني سأقصد الشقة هذه الليلة.. وأود أن أكون
بمفردي فيها!..
_برفقة
الحبيب طبعاً!..
لم تجبها
قطر، قهقهت زوجة فراس وهي تسأل..
_ألم
يعد يكتفي بلقائين في الأسبوع؟!.. يالك من محظوظة!.. لا بد أنه خاف أن
تستبدليه بغيره!..
صمتت قطر
الندى برهة، قالت..
_أتعلمين
أن ولدي لم يعد من زيارة هلال؟..
_كيف؟..
ألم يعدك هلال بأنه لن يستبقيه عنده أكثر من أسبوعين!؟..
_بلى!..
قال ذلك ليضمن أنني سأبعث به إليه!.. ها قد مضت ستة أسابيع على ذلك!..
ضحكت
بمرارة.. وتابعت..
_لاأظن
أنه سيسمح له بالعودة إلي بعد اليوم!.. كانت حيلة منه.. وانطلت علي!.. لن
أراه بعد اليوم..
وفي تلك
الليلة.. تركت قطر سيارتها الفخمة، لتستقل أقدم سياراتها، وأبخسها ثمناً!..
خلعت
مجوهراتها، وراحت تجوب شوارع المدينة النائية، متزودة بمفتاح الشقة
الخالية، وفي مخيلتها صورة واحدة.. " بيدرو".. وفي رأسها فكرة واحدة..
المغامرة العابرة!..}
القسم السادس
الفصـل الخامس
ص424-432
{_أتدري..
أني أكاد أنهي روايتي عنكم؟..
_تكاد؟..
ألم تنته بعد؟..
_لا..
ليس بعد.. أنتظر أمرين..
وإذ أخذت
أقلب رزمة الأوراق الكثيفة التي بين يدي، تابعت..
_الأول..
هوأن تطلعني على تفاصيل تلك الليلة في قصر مراد الصيفي.. أما الثاني.. آه
لو أدري ما هو بالضبط!.. لعله إبهام، يحيط بجميع الأشخاص الذين كتبت عنهم..
قلق، أودّ لو أخترقه فأمسك بالمفتاح المحرك.. باللغز الكامن وراءه!..
_إبهام؟..
وهل أخفيت شيئاً عنك؟..
_لا
لست أقصد هذا النوع من الإبهام بل نوعاً آخر.. أتذكر قول " ميتيرلينك " عن
خلاصة الغموض، ذلك الغموض الذي لا يتجلّى إلا ابتداء من سقوط آخر الأقنعة
عن الأشخاص؟!
_مالك
ولهذا التعقيد!.. ألا يكفيك ما ذكرته في قصتك من حوادث؟
_لا..
لا يكفيني ذلك!.. ظننت، وأنا أتعرف إلى أصدقائك، أنني لن ألبث أن أجد لكل
منهم إطاره الخاص.. مكانه التقليدي في مجتمعاتكم، أتبعه فيه، أتفحصه، أسبقه
أو يسبقني!.. وإذا بهم.. وإذا بجميع من كتبت عنهم.. يفلتون مني.. الواحد
تلو الآخر!.. فلا هم يعيشون في مجتمع واضح المعالم والخطوط، حتى أقيدهم
بمفاهيمه، ولا أكاد أمسك بمقودٍ ما من نفوسهم، كي أحاول فهم بيئتهم من
خلاله، حتى يفلت هذا المقود مني. وأعود إلى حيث بدأت!..
تبسم فراس
مني..
_..
أليست هذه
نتيجة بحد ذاتها؟!..
لم أنتبه
إلى معنى جوابه في البدء.. ثم لم ألبث أن أصغيت إلى صداه في نفسي فأخذت
بقوله!.. إنها النتيجة التي لم أكن أتوقع!..
..
لم يكن قد
راودني ذلك الخاطر من قبل..
أطرقت،
أستعيد تلك الفكرة، وأوسّعها في ذهني، فتزداد قناعتي كلما أمعنت التفكير
بها..
حقا ً!.. ما
الذي غشي بصيرتي؟.. لاريب أن عالم الأسطورة كان في الواقع عذراً سعيت من
خلاله للوصول إلى نتائج، كان رفضي لغيرها، إثباتاً لي أني لا شك أعرفها حق
المعرفة..
حلم.. أردته
واقعاً!.. سراب، أعرف استحالة بلوغه، ثم أتلذذ بتعذيب نفسي في ملاحقته!..
وجدتني أقول
لفراس..
_حقاً..
كنت أنظم التيه.. ثم أعلّق الآمال على الخروج منه!.. أنظم الأحاجي.. ثم
أطرحها على نفسي!..
ضحك صديقي
برفق..
_وهل
باستطاعتك الآن أن تنهي قصتك؟..
لم ألتفت
إلى سؤاله، بل عدت أقول، كمن يسوقني دفع من أفكاري السابقة..
_لكن
هنالك أمراً سيبقى، رغم كل شيء أحجية بالنسبة لي!.. تمهل أرجوك.. أود أن
أطلعك عليه، ولو أنني غير قادر على التعبير عنه بالوضوح الذي أريده..
عاد فراس
إلى الابتسام..
_تفضل!..
_..
إنه بنيان
هؤلاء الأشخاص.. بل بنيان جميع من احتككت بهم أثناء زيارتي لك، وتتبعي
لقصتك وأجوائها!.. إنه التباعد الهائل بين.. لا!.. لن اقول " تناقضات "..
فهل من مجتمع أو فرد لا يحمل تناقضات؟.. إنها الفوارق الحادة بين صفاتهم..
مزيج من الصلابة والميوعة.. كأن كلاً منهم قادر على القيام، في الوقت ذاته،
بأنبل الأفعال، وأنذلها!.. غريب ألاّ تكون الثقافة، والفوارق الاجتماعية
والطبيعية قد حددت بعد أقانيم للحياة والتفكير تمنع هذه الاختلاطات!..
لم أشأ
العودة إلى الكلام عن "الغرب " و"الشرق ".. إنما، في بلادي مثلاً، ترى
للعامل نهجاً في الحياة والتفكير مخالفاً لنهج الفنان أو السياسي، أو
الكاتب، أو رجل الدين، أو اللص المحترف!..
قد يتفق
هؤلاء جميعاً على هدف واحد، ومع ذلك، يبقى لكل منهم عالمه الخاص، يكفيك أن
يفتح أحدهم فمه أمامك كي تستدل من طريقة كلامه على ذلك!..
تابعت
كلامي.. على مهل..
_إن
ما لا أفهمه يا فراس عن عالمكم، هو هذا الحيز الموحّد، المترامي الأطراف،
الذي يكاد يعيش جميع أفراد مجتمعكم ضمنه!.. طينة واحدة.. حيز واحد للجميع..
يخرج منه الفنان، والأديب، والورع، والسياسي، والأمير، واللص!..
_..
هل تقصد بذلك
البيئة الاجتماعية؟..
_بل
الخلفية الموحدة لمعظم البيئات، وهي في حياة كل فرد " الحيز الحياتي ".. أي
جملة الأبعاد النفسية التي يعيش ضمنها كال هؤلاء.. العوالم، التي يكفي
للفرد أن يمد أطراف نفسه.. كي يحتويها!..
أطرقت
قليلاً ثم أردفت..
_أكلم
الأديب، أو الفنان، في الشرق، فأشعر بأن الأدب أو الفن ليس سوى رأس الهرم
في حياة كل منهم، وأن تحت تلك القمة يرقد التاجر، والتقي، واللص،
والمومس!.. كذلك جميع الذين ذكرت.. لا تكاد تنزع القشرة من نفس أحدهم، حتى
تفاجأ بأطباق فوق أطباق من جميع الاتجاهات.. وتصفع أنفك جميع الروائح !..
وفي كل ذلك، تنضح من الجميع رائحة واحدة.. عبق واحد.. كأنهم شربوا من بئر
واحدة، أو كأنهم يشكون من علة مشتركة!..
هز فراس
رأسه كمن يود أن يقول شيئاً، لكني سارعت إلى الكلام، فقلت..
_هل
أبدو كمن يتحرق للوعظ أو لإلقاء محاضرة؟.. لا تخف!.. ليس في نيتي أن أفعل
ذلك!.. لكم رددت في نفسي أنها قضية تطور فحسب.. أراني قد أدركت الآن أن
الأمر ليس كذلك!.. أن يزول هذا التأخر!.. كان معنى ذلك في اعتقادي أن يقترب
مجتمعكم من طريقتنا في الحياة.. أن ينصهر التخلف في حضارتنا الغربية
وتصنيعنا!.. أكاد أجزم اليوم أن هنالك ثغرة ستظل مائلة بيننا.. ثغرة لن
أفهم كنهها!..
_أراك
تعود إلى " كيبلينغ ".. " الشرق شرق، والغرب غرب
"!..
_..لا..
ثق أنه ليس شيئاً من هذا!..
نظر إذ ذاك
إلي طويلاً.. وقال..
_لابد
أنك نسيت حديثنا يوماً عن اللغة، ومشكلة التعبير في الشرق..
_لا،
لم أنس!.. لكن، أتظن جاداً أن للغة صلة فيما أتحدث عنه؟..
_وكيف
لا؟!.. ألم تقل.. " أكلم الفنان " فأشعر بكذا!؟.. وهل هنالك احتكاك عن غير
طريق التعبير؟!.. كيف تنسى ارتباط التعبير بالفكر؟.. اللغة بالفكر؟!.. لكن..
وأشار بيده
إشارة يائسة..
_كيف
لك أن تفهمني، وأنت غربي، لم تفكر يوماً إلا بما تستطيع أن تتداوله من
كلام، أن تعيشه أثناء يومك!؟..
_ها
قد عدت إلى الأحاجي!..
_بل
إلى الواقع، كل الواقع!.. إن ما لا تعلمه عنا، عن مأساة الفصحى، والعامية
في حياة الشرقي، هو تأثير هذا الازدواج على تطوره، وعلى غنى حياته
النفسية!.. إن وجود هذين النقيضين يجري عملية استقطاب في نفسه، تستنزف
تطوره، التطور الذي تبحث عنه أنت، يتجه الفكر عامة، والمركّز منه خاصة، نحو
الفصحى، التي لا يتداولها الشرقي في أثناء يومه، بينما يجفّ واقعه، ويتحول
إلى ما هو عليه من مد وجزر.. تأرجح بين ما أسميته بالشدة والمبالغة، من
جهة، والميوعة، من جهة أخرى!.. بين الإبداع.. والرتابة والتفاهة!!..
_لم
أفهم!..
_ولن
تفهم ذلك ما لم تتكلم لغتنا، إلى جانب عدد من اللغات الأخرى، فتحس بالفرق
الشاسع بين طريقتك وطريقة الشرقي في التعبير، فتدرك الفقر الذي يعانيه في
التعبير أثناء حياته اليومية.. فقراً يصبح، هو نفسه، حياته اليومية!.. عالم
ضحل تعوّده، ركاكة.. لا يجد ما يجتر غيرها، تنساب مع دمه، تؤكد في نفسه حب
الاجترار، حتى تصبح في النهاية الجزء الأكبر من كيانه!..
ضقت مما
سمعت..
_وكيف
تستسلمون لهذا الواقع؟!.. عليكم ببتر أحد هذين القطبين!!.. أو دمجهما!!..
_رأي..
قوله أسهل من تطبيقه!..
_أجبني،
من الوجهة النظرية على الأقل، لئن تعذّر فرض الفصحى على الشرقيين، أليس في
استعمال العامية، مثلاً، مع محاولة إغنائها، حل لهذه المشكلة؟.. أليست
هنالك محاولات تجري في هذا الاتجاه؟..
بلى.. مع
الأسف، هنالك محاولات ينادي بها بعض الأدباء.. كأنها مسألة قواميس، وكتب
قواعد!.. إنهم جهلة ومتطفلون!!.. يظنون أن العامية لا تنقصها سوى القواعد
والمفردات!.. كأن اللغة هي جمع أو طرح للمفردات.. أو حتى صياغة لها!..
اللغة يا صديقي، هي واقع.. وفكر!!.. والفكر هو لغة وواقع!!.. ورغم أن
الإنسان يعبر عفوياً عن هذا الترابط الدائري برموز تبدو بسيطة، تلفظ، أو
ترسم بأشكال نسميها " حروفاً " و" كلمات "، إلا أن وراء مختلف طرق التعبير
التي تبدو عفوية للجاهل، وراء هذه الطرق، بناء ميكانيكياً معقداً، يولد
الطفل مزوداً باستعداد هائل لتنميته.. تطوره الأجيال والحضارات، حتى يصبح
في النهاية ما نلقبه اليوم " لغة " !.. صرح هائل!.. ما أبعد الأدباء عن فهم
مقوماته!!..
_ومن
يفهم مقومات اللغة إن لم يفهمها الأدباء المتمكنون من لغتهم؟!..
هز رأسه
ساخراً..
_إن
هذه هي مشكلتنا بالذات!.. كلما جاء ذكر اللغة، تنطح إلى بحثها الأدباء!..
أنا لا أتكلم عن هذا النوع من الفهم!.. ولا يهمني الإبداع الفردي في مجال
الصياغة، ولا فهم الأدباء لعدد لا حصر له من المفردات، أو سعة تمكنهم من
القواعد!.. إني يا صديقي، أتكلم عن " علم اللغة ".. أي علم " السيمانتيك
الحديث " واﻟ " سيميوتيك " و اﻟ " سنتاكس " المنطقي، والرياضي، الكامنين
وراء أية لغة!..
راح ينظر
إليّ ملياً ويتابع كلامه ببطء وهدوء..
_إن
أية جملة تقال، أكانت بليغة أم ركيكة، أكانت فصحى أم عامية.. إن هي إلا
معادلة رياضية!.. نعم معادلة رياضية!.. وهذا ليس وصفاً أو تشبيهاً!.. أرجوك
أن تفهم ذلك!.. بل معادلة رياضية حقيقية ذات رموز جبرية!.. واﻟ " سنتاكس "
هو بناء العلاقات بين رموز هذه المعادلة، والتي لا يمكن للإنسان أن يعي
جملته ما لم يرتكز تركيبها، ويتقمص هذا الشكل الرياضي!.. إن غنى اللغة يا
صديقي ليس في كثرة مفرداتها، أو تعقيد قواعدها.. بل في غنى هذا اﻟ " سنتاكس
" المنطقي الرياضي، والذي لا وجود لأية لغة أصلاً بدونه!..
_حسناً..
وأين هي المشكلة في العامية عندكم؟..
_العامية
لا تفتقر إلى " سنتاكس " اللغة الناضجة فحسب.. بل إن ما تتبعه من " سنتاكس
"، هو بالذات نتاج أقسى ما عرفه الشرق من عصور الانحطاط!.. إن العامية
تتقمص هيكلاً تمخض عنه عصر الخنوع والذل.. بَرَصٌ، نتوارثه!.. فكيف لا تود
للشرقي اليوم أن يعكس هذا العالم في تفكيره، وهو لا يعرف غير مقوماته
ومصطلحاته منفرجاً لفعالياته الذهنية اليومية!!..
بدا
الانفعال على وجه فراس، فضحكت..
_لم
أدر أنك عالم لغات، إلى جانب عديد هواياتك
!..
_
وكيف أدعي أني
كذلك.. وهو علم حديث، والخبراء فيه قلة في العالم؟!..
_قل
لي!.. هل ينطبق قولك هذا على جميع اللهجات العامية؟..
_لا
طبعاً.. اﻟ " أرغو " في فرنسا مثلاً، قضية اختلاف مفردات.. أو فقر فيها..
إذ أنه يعتمد " سنتاكس " اللغة الإفرنسية الناضج.. ولست أقول الكامل!..
_لحظة
أرجوك!.. كيف أطبق قولك هذا على أصدقائك؟!.. فأنا لم أسمعكم يوماً تتكلمون
سوى الإفرنسية!.. قطر.. ميساء.. وزوجتك..
_..
صحيح.. ولابد
أنك لاحظت أنها إفرنسية من نوع خاص! إفرنسية مترجمة.. لايتكلمها
الإفرنسيون!.. قطر وميساء وزوجتي لا يتكلمن أية لغة بحد ذاتها.. رؤوسهن
ليست سوى سلال تحتوي مفردات من كل حدب وصوب!.. كلمات تتأرجح بين صور ركيكة
عن بنيان العامية والإفرنسية والفصحى!!..
_لئن
خرجت لأهل بلدك بهذا التفسير لضياعهم .. أفلا تظن أنهم سيرفضونه.. ويهزؤون
منك!؟..
_..
طبعاً.. وهل
يمكن للمتخلف إلا وأن يهزأ ممن يشرح له أحد أسباب تخلفه؟!..
صمتنا برهة
.. وإذ عدت أنظر إلى صديقي، قلت..
_مالك
تبتسم؟..
_صورة
جالت في ذهني.. لا علاقة لها بالعلم..
_وهل
لي أن أعرفها؟..
_إنها
تتعلق بالفصحى.. فالفصحى ماثلة عندنا في رؤوس الشرقيين ک " غرف الضيوف " ..
كصالونات طبقتهم المتوسطة!.. لا تفتح أبوابها إلا للوجهاء.. وفي المناسبات
الخاصة!.. أرى الكلمات الرنانة كالصور البرّاقة، والأواني المذهبة، التي
يزينون بها هذه الصالونات، من غير ما ذوق!!..
قطع ضحكي
كلامه، فتوقف، ثم سألني..
_هل
أتابع؟..
_أرجوك!!..
وإذ به يردف
ساخراً حزيناً..
_أما
العامية.. فهي كغرف جلوسهم.. تعكس حياتهم اليومية!.. يعيشون فيها في جو
أفقر من واقعهم.. لايستقبلون فيها سوى الأقارب والبسطاء!..
_فقراء؟!..
_إن
شئت!..لكنهم فقراء يظنون أن لديهم ثروة مخبأة في طريقة تعبير فصحى أنتجها
عالم لا نعرف عنه سوى ما تسرب إلينا عنه عبر رقابة لا تقبل النقد!!.. سمك
مجفف، نُجري عليه محاولات لا آخر لها كي يبدو وكأنه طازج!..
_هل
يفهم من ذلك أن غرفة الجلوس هي واقعهم الحقيقي؟..
_بل
الدار بأجمعها!.. بغرفة الضيوف.. العديمة الذوق والقليلة النفع.. وكذلك
بغرفة الجلوس.. البسيطة.. المهلهلة!..
_ألا
مجال للفصل إذن؟..
_وهل
تعرف شرقياً يقبل طائعاً الاستغناء عن غرفة الضيوف في داره؟!.. أويقبل أن
يجعل منها غرفة جلوس له؟ !.. غرفة لحياته اليومية؟!..
حدقت فيه..
_أنت
يا فراس!.. وهل أنسى دارك الواسعة الأرجاء، التي أزحت جدرانها، حتى باتت
غرفة شاسعة واحدة؟!..
ضحك..
_ما
لك ولداري؟.. دعني وشأني!..
_ألن
تعود إلى دارك؟!..
_بل
سأعود!..
_إلى
دمشق إذن!..
_إلى
داري في دمشق!.. لا إلى دمشق بحد ذاتها، ولا إلى داري، منفصلة عما يحيط
بها!.. إلى، " داري في دمشق "..
_أدرك
ما تعني!.. إنما.. أليست دارك، وما فيها من نفسك، جزءاً من دمشق؟.. من دمشق
التي تحب؟!..
_بالله
عليك!.. ألم تمل محاولات الربط هذه؟..
أجبت كمن
يدفع تهمة عنه..
_ولم
أملّه؟..
_إلام
تهدف؟.. وما طائلة هذا الربط؟..
_أحب
أن أرى الأشخاص والأحداث ضمن خلفيتها الواسعة.. من منظار مكبر..
قاطعني
قائلاً..
_أراك..
وقد استرحت من أمر أصدقائي، تعود لتلقي بشباكك حولي؟.. ألست الآن تبحث عن
إطار تحيطني به؟!..
_من
الجائز!.. لكنه ليس إطاراً بالمعنى السطحي للكلمة!..
أحسست بأن
الحجب قد سقطت.. وأنه لن ينفعني اللف ولا الدوران!.. فتابعت على الفور..
_إنك
تعرف أنني أبحث عن أمر فيك، لست أدري ما إذا كنت أدرك كنهه حق الإدراك!..
فراس!.. لم أعد أدري ما هو الشرقي، وما هو الغربي فيك !.. ولم أعد أدري أي
الأصلين هو الأقوى في نفسك، أو إذا كنت حصيلة هذين الينبوعين معاً!.. حصيلة
مبهمة غريبة.. أم أول برعم لنبتة لن يلبث عالمكم أن يمتلئ بالملايين من
أمثالها!.. ولست أمدحك بهذا القول أو أذمك!.. إنما أنا أبحث.. وأود أن
أعرفك!.. ليس نفس الشيء أن أقول " نصف كأسي فارغ " أو أقول " نصفه ممتلئ "
!.. أتذكر شجرة " ريلكة " و" فاليري " ؟.. أتذكر كيف يمكن لأغصانها أن تبدو
لسكان القمر كجذور تقترب منهم، بينما تبدو لهم جذورها كأغصان تبتعد عنهم
نحو أحشاء الأرض.. تسعى نحو مركزها؟!..
أطرقت لحظة،
ثم تابعت لاهثاً..
_..
أود أن أعرف
الأغصان منك من الجذور!.. أود أن أعرف من أنت!.. أين تقف؟!.. نحو أي بعد
تمتد؟!.. وفي أي اتجاه!.. ثم..
تبسم فراس..
ثم انفجر ضاحكاً..
_هون
عليك يا صديقي!.. هون عليك!.. لم هذه الحدة والتطرّف؟.. شرق!.. غرب!.. يخال
لمن يسمعك أنك مؤتمن على مهمة ولا أخطر!.. ماذا وراءك؟.. وهل أنت مبعوث من
جحافل الغرب تستطلع ما يخبئ لكم الشرق من مقارعين؟..
هززت رأسي
يائساً..
_أعرف
أنك لن تجيبني عن نفسك!.. بل لم أعد أدري ما إذا كان بإمكانك أن تجيبني
أصلاً!.. سيبقى ما أبحث عنه سراً إلى أن يأتي اليوم الذي سأفهم لغتك فيه،
لغتك أنت، فأسخر من نفسي كيف لم أستبق الجواب!.. لا بد أنه الآن ماثل أمام
عيني.. ولا أراه!..
_قل
لي بربك.. ألن تمل هذه الحرب؟!..
_لقد
أنهكتني لكنها أصبحت جزءاً من كياني!..
_يالك
من " دون كيشوته "!..
نظر إلى
ساعته ثم قال..
_لقد
قارب الوقت من الثامنة!.. ألا يحسن بنا أن نبدل ملابسنا، ونسرع إلى الحفل
لنصل في الوقت المناسب!.. دعنا من هذا الحديث.. قم.. هيا!..
وفي طريقنا
نحو الأوبرا، وسط زحام المارة وتطاحن سيارات تحركها أيد متصلبة ونظرات
جامدة، أو حاقدة، أو متوثبة، نبهني صوت فراس من شرودي..
_تود
أن أطلعك على ما جرى أثناء تلك الليلة.. في القصر الصيفي.. أليس كذلك؟!..
_هنا؟..
في السيارة؟.. وليس أمامنا سوى دقائق معدودات لنصل إلى دار الأوبرا؟!..
_..
وما المانع؟..
أتظنها قصة طويلة؟..
_لكن..
المرور!.. وهذا الصخب!؟..
_..
لم لا؟.. ألم
تبدأ تلك الليلة في مثل هذا الصخب النفسي؟!..
زاد إلحاحه
من توتر أعصابي الذي قادني إليه نقاشنا قبل أن نترك الدار.. لزمت الصمت..
ورحت أتابع حركة المرور، ألتفت إلى المارة بانتظار الإشارة الخضراء، وأترقب
كلامه، متوجساً مما سيقصه علي..
كان شارداً
يراقب المارة مثلي.. وفجأة قال..
_كنت
في سيارة مراد، ونحن في طريقنا إلى قصره الصيفي، أنظر إلى الطريق الجبلي..
فلا أجد سوى الظلام!.. ألتفت بطرف عيني بين الفينة والأخرى إلى مراد، فأراه
واجماً.. يقود سيارته بسرعته الجنونية المعتادة، لا تغير من وجومه تلك
الابتسامة المبهمة التي ارتسمت على شفتيه.. إلى أن مدّ يده لي بلفافة تبغ..
وطلب مني أن أشعل له واحدة، هو الآخر..
صمت فراس..
كنا قد
اقتربنا من دار الأوبرا.. فأخذت أبحث عن مكان أترك سيارتي فيه.. طال بي
البحث..
عاد فراس
إلى الكلام..
_..
قلت لمراد إنني
لا أميل إلى هذا النوع من التبغ.. فضحك، وسألني ما إذا كنت قد دخنت مثله من
قبل!.. فقلت متردداً.." بلى ".. لكن طعم هذه اللفافة غريب.. ثم تنبهت إلى
ابتسامته العريضة، فسألته ما إذا كانت تلك اللفافة تحوي شيئاً آخر غير
التبغ.. فضحك، وسألني ما إذا كان لدي من مانع، فيما لو كان ذلك صحيحاً!..
فسمعت ضربات قلبي وأنا أقول له.. " لا ".. مصطنعاً عدم الاكتراث..
وبعد جهد،
وجدت لسيارتي بقعة شاغرة من مكان قصي..
رحت أزجها
فيه بعصبية لم ينتبه فراس إليها.. كان شارد العينين، وكأن الزمن قد عاد به
إلى تلك الليلة التي اتجه فيها مع مراد، نحو قصره الصيفي..
سمعت صوته
يقول..
_...
كفّ مراد عن
السرعة، وراح يقود بهدوء وينفخ لفافته بتلذذ... هدأت ضربات قلبي بعد قليل..
وأحسست براحة وهدوء داخليين لم أعرف مثلهما من قبل.. فأسندت رأسي إلى
المقعد إلى أن سمعت مراداً يقول.. " كدنا نصل
"..
لم التفت
إلى فراس..
أوقفت محرك
سيارتي، وترجلنا منها...
رفعت معصمي
أنظر إلى ساعتي مستنيراً بمصباح الطريق الخافت..
تنبهت بعد
قلبل إلى انني كنت أسرع الخطا رغم ما أنبأتني ساعتي به من أن أمامنا عشر
دقائق بعد على ابتداء الحفل..
لمحت وجه
فراس بطرف عيني، فوخزني هدوؤه وسكينته، رغم خطواته السريعة التي كنت أحضه
عليها..
تابع فراس
قائلاً..
_..
وأطل علينا
القصر.. شرخاً قاتماً، ينبعث نور وهاج من بعض نوافذه العليا.. أوقف مراد
السيارة في الحديقة المظلمة.. ثم سمعت صرير مزلاج السور، يقفله الحارس
وراءنا.. أوقفني مراد برهة أمام درج المدخل العريض.. ثم مد لي بلفافة أخرى،
أخذتها، هذه المرة، وأنا أضحك في نفسي، وأبتسم منه.. ثم، أظن أنني قلت.. "
ولم لا
"!..
أسرعت مع
فراس نصعد درج الأوبرا.. واتجهنا نحو مقصورتنا دون أن ننظر إلى حيث كنا
نسير..
كنت أعرف
الدرب..
الدور
الثاني.. مقصورة الانحناءة الجانبية.. المقاعد المنفردة التي يُرى منها
المسرح، وبقية المقاصير، وفي الوقت ذاته، بنفس الوضوح..
أغلقت باب
المقصورة خلفي..
..
قال فراس..
_..
صرف مراد الخدم
الذين خفوا لاستقباله.. ثم أطلت علينا ثلاث فتيات ضاحكات، كن قد بدأن السمر
قبل وصولنا..
جلست واجماً
أنظر أمامي دون هدف..
بدأ
العازفون يحضرون آلاتهم..
أسرع
المشاهدون يحتلون أماكنهم مستبشرين متفائلين، مفعمين حبوراً بالقائد الشهير
الذي جاء ليقود أمامهم تحفة " فاكنر " الرائعة..
جلس فراس في
مقعده دون أن يخلع رداءه الأسود الفضفاض.. فغاص رأسه في ياقته المخملية
العريضة، حتى غطت أذنيه..
حاذت فمه
السلسلة الفضية التي تجمع الياقة، فغطت حلقاتها العريضة شفتيه، وبدا صوته
لي وكأنه يخرج من عينيه الشاردين..
خفت الأنوار..
همس فراس..
_...
لاأذكر سوى
حوادث الساعة الأولى، أو ما يقارب ذلك.. ثم غرقت في تأثير اللفائف!.. أذكر
خيالات مبهمة، تلمع وتنطفئ في ذهني، بين حين وآخر!.. أذكر البهو الفسيح..
والمقاعد الوثيرة العالية.. أذكر الأضواء المشعشعة التي سارع مراد إلى
إطفائها.. فلم يُبقﹺ
إلا على بعض مصابيح خافتة، مبعثرة هنا وهناك.. أذكر أني رأيت " بيانو " في
زاوية منعزلة.. فأقبلت عليه ضاحكاً، باكياً، أود أن أقبله.. جلست إلى "
شومان ".. ثم إلى " شوبان ".. أذكر مراداً يشعل لي اللفافات، فأتناولها
منه، مغرقاً في الضحك، ثم أعود إلى الموسيقى..
ولا أذكر
أني عزفت من قبل قط بمثل تلقائية تلك الليلة، وعمق عاطفتها.. أظن أني
بكيت!.. لا أذكر متى توقفت عن العزف.. أحسست بملمسٍ رخصٍ ناعم خلف عنقي،
وأذني.. أظن أنه كان نهدي إحدى الفتيات..
كنت أنظر
إلى فراس وأحس بضيق يكاد يفطر قلبي..
دخل " فون
كارايان " القاعة، فعلا تصفيق حاد غمرني، لم أسمع منه سوى أصداءه تتكسر
فوقي كالأمواج.. ثم صوت فراس، إذ توقف الدويّ، وتصلبت يدا القائد في الجو..
_..
لا أذكر بعد
نهدي تلك الفتاة شيئاً.. اختلطت علي الوجوه، ولم تختلط!..
وتحركت يدا
القائد، فانبثقت الألحان حبيبات رقراقة من نبع حزين، تتحدث عن " تريستان
"!.. " تريستان ".. المحكوم عليه، لأنه، واسمه، وحدة لا تنفصل.. لأن هذه
الوحدة تدعى " تريستان
"!..
تجمعت
الحبيبات في جداول، انهمرت تلهث بذكرى ما عرفه " تريستان " في الماضي من
مقدرة " إيزوليت " على السحر، والحب.. معرفة أحبها، وخشيها، فتجنبها، حتى
إذا أعادته الظروف إلى بلاط عمه الملك " مارك "، نسيها، أو تناساها!..
هاهو " مارك
" يجمع الجداول في نهر خضم، يطلب هديره من " تريستان " أن يذهب إلى أقاصي
الأرض ليأتيه بالمرأة التي أزمع أن يتزوجها.. ومن هي هذه المرأة؟..
"
إيزوليت "
نفسها، من دون نساء الأرض جميعاً!..
فيركب "
تريستان " البحر حذراً، متطيراً، مصمماً أن يواجه قدره!!..
وتوقفت
الموسيقى، تأخذ أنفاسها، استعداداً لما كنت أعلم أنها ستجلبه من مأساة في
الفصل الثاني!..
نظرت إلى
فراس، فرأيت الحزن في عينيه.. وعلى جبينه..
أزاح
السلسلة الفضية عن شفتيه، وقال كمن كان يعيش كل اهتزازة سمعناها..
_..
لم أكن أنا
الآخر على علم بما هيأته نائلة!.. ثم.. من أين لي أن أعلم بما كانت تحتويه
اللفافة الأولى؟!..
وعاد الصمت
بيننا من جديد..
عادت
الموسيقى تهمس على عاطفة لا مهرب منها، ولا قاع لأغوارها!..
عاطفة..
تفجّرها الطلاسم.. ليس لها من ند يقارعها سوى الموت.. فتمتزج به منذ
البداية!..
المركب
العائد يضمهما..
همسٌ، راح
يعلو ويمتد حتى صار شهيقاً يدوي بتشاؤم " تريستان ".. وبتعاسة " إيزوليت
".. برادع يذكر " تريستان " بعمه الملك " مارك "، فيكبل قلبه ويديه!..
من أين كان
له أن يعلم أن الكأس التي ستقدمها له " إيزوليت " تحوي طلسم الحب؟!..
و " إيزوليت
" نفسها!.. ألم تطلب أمها منها أن تشرب الكأس ظناً منها أن السحر سيدفع بها
إلى حب " مارك "؟!..
ويشرب
الإثنان من الكأس!..
وتتجمع
الأنهر في سيل جارف، ينحدر من بعيد فيذري كل شيء يقف أمامه!..
سيل من
التعاسة، والحب، والألم، والموت.. يغمر الكون بمن فيه، فيضيع " تريستان "
و" إيزوليت " في أجوافه!..
لم يشأ فراس
أن يترك مقعده أثناء السكون الذي أعلن الاستراحة..
قال، ورأسه
مسند إلى كفيه المغلقتين..
_..
أذكر أني فتحت
عيني في ذلك القصر لأدرك أنني في فراش وسيع، وأن مراداً يغط كالطفل في نوم
عميق ورأسه على ذراعي الممدودة.. أظن أني نظرت إلى عينيه المغمضتين
طويلاً!.. لست أدري لماذا برق في ذهني المتخدر أنه " تيليماك "!.. طفل..
يبحث عن والده!.. سحبت ذراعي الممدودة برفق، فأحس مراد بذلك.. مال باتجاهي،
لافاً صدري بذراعه.. فعدت إلى التملص بينما شد على كتفي.. إلى أن ضممته
برفق، وهمست في أذنه أنني سأعود بعد لحظات.. فارتخت ذراعه، واستويت بهدوء..
أنظر حولي!..
كان
العازفون قد عادوا إلى أماكنهم يتحضرون لأداء لحن الحب.. والموت..
تابع فراس
كلامه هامساً..
_..
استويت في ذلك
الفراش.. ونظرت حولي لا أفهم ما أرى.. كانت اثنتان من الفتيات متعانقتين
إلى جانبي، تغطان في نوم هادئ.. تسللت من الفراش.. واتجهت نحو نور كان
ينبعث من الحمام، وإذا بالفتاة الثالثة تظهر أمامي عارية من خلف الباب،
وتشير لي أن أتقدم منها.. سألتني هامسة مبتسمة.. " هل تبحث عن ثيابك؟ "..
ثم تابعت " لا تتعب.. إنها في بهو الدور الأرضي، قرب البيانو.. حيث تركتها
" .. سألتها، وكأن الأمر على غاية من البساطة.. " وهل تركنا جميعاً ثيابنا
تحت "؟.. فأجابتني مبتسمة، مازحة.. " كدت أستعمل العنف معك كي تتعرى، أيها
اﻟ " أبولو" !.." .. ثم !.. أقبلت نحوي تقبلني بنهم مفتعل، وتقول بتحدّ.. "
لا تخف لم تقدم على شيء لم تكن لترض القيام به.. وأنت على كامل وعيك "!..
ألصقت جسدها العاري بجسدي.. وإذ حاولت أن تعيدني إلى الفراش، تملصت منها
بمشقة، ثم نزلت إلى البهو، أرتدي ثيابي.. وأدعو أن يكون سائق نائلة في
انتظاري.. كما وعدت..
صمت فراس..
لم أعد أذكر
كيف انتهى ذلك الحفل!..
أذكر شيئاً
واحداً جال في خاطري، وأنا أشاهد موت " إيزوليت ".. ثم موت " تريستان "..
وهو أن تلك الموسيقى لم تكتب لأمثالي.. وأن " فاكنر " ما كان ليستطيع أن
يتحدث عن تلك القمم لو لم يرقها، ولم يعشها.. ويغبّ من أثيرها القاتل
الشفاف!..
أحسست بأنني
مستمع.. مشاهد.. في هذه الحياة.. فكرهت فراس، وكرهت نفسي..}
لقراءة رواية هيلانة
أو رحلة النيلوفر أو آخر الأمويين
أو رواية مسافر بلا
حقائب
|