الرغبة، ولون البحر
الميت
عبرت نشرات الأنباء وأوراق النعي دون أن تترك فيّ إنفعالاً يذكر،
فشربت قهوة، واستمعت إلى الموسيقا وبعض الأغنيات، ولم أتعرض منذ الصباح
لأية دهشة.
حزنت بعد الظهر، وضحكت كثيراً لخبر عممته وكالات الأنباء عن حالة
فرح جماعي داهم سكان إحدى القرى، فراحوا يغنون ويرقصون، ويدقون الطبول دون
سبب، وعندما طالت الحالة، أرسلت منظمة الصحة بعثة لتحليل الظاهرة.
رغبت لو أنني مع سكان القرية في هستيريا فرحهم كما سمته الأنباء.
تشير الساعة إلى الخامسة مساءً، الحرارة مرتفعة يتصبب العرق من جسدي
بغزارة، والبحر بلونه الأزرق وركوده الكسول يبدو كالميت، أكرهه في شكله
المقيت هذا.
ينبغي أن أهرب فالملل قاتل.
أوقفت عربة عامة.
- إلى أين ترغب؟
أعجبتني ترغب، فرغبت باستحضار أشكال ساعات يدي التي استعملتها
سابقاً، وقدرت أن أفضلهن كانت تشير إلى السابعة وهي في الواقع العاشرة وإذا
ما وصلت إلى الثالثة تتوقف.
ضحكت، وأنا مستمر في حزني، وخبر الفرح المباغت معي، قال مذياع
العربة أن ثمة موجزاً للأنباء قد حل زمنه فتململت كمن يستعد للأصغاء، وكنت
أكذب في تململي وتنبه سائق العربه لشيء ما لم يقدره، ولم يستطع إكتشافه.
فاكتفى بنظرة سريعة، ثم هز رأسه وقرر أنني مجنون أو هكذا أوحي إليه.
-لماذا تتدخل المنظمة وتغتال الفرح المباغت؟ ناولته النقود. وغادرت
العربة.
اتجهت صوب البناء، استجاب ضاغظ الجرس لحركة إصبعي /طن/طن/.
هكذا وجدت نفسي أواجه الموقف، دون تخطيط والساعة الآن السادسة مساء.
-أهلاً.
قلت:
-أهلاً:
ترددت في نطق أول جملة مطلوبة للوضع الذي واجهني هي ترتدي ثوباً
داخلياً رقيقاً. إنه الحر، لم تضع ساعديها على صدرها كما في (السينما).
-أين هو؟
-ذهب. سيعود. ادخل
-مررت لألقي التحية
دخلت، هبت نسمات اصطناعية فرزتها آلة الطاقة. انتعشت اصطناعياً،
وشممت رائحة عطرها ممزوجة برائحة العرق. ورأيت مساحة صغيرة من السواد تغطي
أسفل إبطها، وآثار قطرات العرق.
سرقت نظرة خجولة للمجرى الفاصل بين النهد والنهد. لعنت حضوري،
وحاولت إعادة كياني المهزوز أمام لحظة حارقة كهذه لكن الرغبة سيطرت. فدخلت
في عالم الدهشة الذي لم أعرفه اليوم، تذكرت حزني والفرح، واخترت كنبة
للجلوس، فجلست مضطرباً وقلت بعتب:
-الجو حار.
قالت:
-البحر أو الحمام البارد.
تخيلت عريها الكامل، ارتجفت.
سارت عدة خطوات عكس اتجاه مقعدي، ظهر بوضوح لون الشيء الداخلي، يميل
إلى (الأورانج). أو هكذا خيل إلي.
حرارة المكان لم تعد تحتمل، والهواء الآلي يضرب وجهي ولا يخفف من
حرارتي، وبحركتي المعهودة رحت ألعب في ساعة معصمي، وشتمت في داخلي شركات
تضيع الزمن، والرغبات المباغتة.
هم لا يترجمون معنى الرغبة يا غبي، كل فلسفات الأرض لا تحجب عنك
الرحم أيها المثقف المتحرر.
(دخل كصديق) (غدر) (نزواته قذرة)
قلت:
-سأمضي.
استدارت. ضحكت. رفعت ساعدها فرزت الطاقة رائحة ما التقطتها
(كالمغناطيس)، ماذا يجري؟.
قالت:
-لا ، سنشرب القهوة معاً
ابتسمت.
-قهوة معاً. لا بأس.
زمن .قهوة. لفائف التبغ، فكرت بتوضيح ما يدور. ألغيت الفكرة دون
تردد.
قلت:
-متى يعود؟
جلست على الكنبة المواجهة، قالت:
-حين ينتهي من لعب (الورق) هو يمقت الخسارة، ولا يرجع إلا منتصراً.
تابعت حديثها:
-أعجبتني الرواية، فيها واقعية وتشويق.
قلت:
-أنجزت مطالعتها بهذه السرعة.
-أجل أنا أستسلم لأي شيء أحبه. رغم أنني أهتم هذه الأيام بالمقرر
الجامعي، رغبتي بالتخرج تسيطر علي. قلت:
-هو لا يعود إلا بعد الانتصار.
لم ترد . راحت تتحدث بكثافة وبوتيرة واحدة.
فانتقلت إلى جماعة القرية. اعتذرت غابت. عادت تحمل القهوة، وكنت قد
اتخذت قراري بالبوح عن الرغبة التي إختلطت بالحرارة، لشعوري أن التفاصيل
المحيطه توحي بأنها مُهّيأة لتقبل ما يدور.
/نزوة/ أخرج/ /خائن/ /غدار/
- قلت بعصبية وأنا أتراجع في جلستي:
- لن أشرب القهوة.
ردت:
-مابك.
-الجو... الجو..
أحسست أن عطش الدنيا قد تجمع في حنجرتي دفعة واحدة
قالت:
-بل ستشرب القهوة. ونتحدث.
رأيت ثغرها كوردة مليئة بالرائحة،وشهية باللون وهواء الطاقة يداعب
شفافيه الرداء.
حقول من البنفسج برزت مع نغم الموسيقا. إنبعثت من مسامات الجسد
الحنطي، وبداخلي طبول تقرع، وبيني وبينها مساحة من الشوك والحواجز والقنابل
الموقوتة.
قلت:
-ماذا تعرفين عن منظمة الصحة؟
ضحكت هي،ضحكت أنا، ضحكت طويلاً... فضحكت معها طويلاً. وتراجعت إلى
الوراء، ارتفع الرداء، أنزلته انحنت إلى الأمام، المجرى سواد أسفل الإبط.
الرائحة. عالم يدور. والطبول تقرع عبّر عن رغبتك. ماذا تنتظر؟
قالت:
-هذه المنظمة تعالج اسهالات الأطفال.
ضحكت هي. ضحكت أنا.. أخذنا الضحك طويلاً.
عبر عن رغبتك... ماذا سيحدث؟
قلت:
-أطفال. مساكين أطفال القرية.
قالت:
أية قرية؟
قلت:
جميعهم دبكوا. غنوا. فرحوا. صغارهم كبارهم ولا علاقة لهم بالاسهال.
هواء مخنوق. رغبة مخنوقة. عودة الرجل المنتصر. حتى القهوة لا طعم
لها، كل المذاق في المواجهة. ينبغي أن أتحرر.
-سأنصرف.
قالت:
_انتظره
قلت:
-قد لا ينتصر.
ضحكت هي. لم أضحك أنا. طعم الخيبة في حلقي فتحت الباب... لفحني حر
الشارع. سرت. وكانت ساعة معصمي تدور،والبحر في ركوده الكسول ولونه الأزرق
كالميت.
1993
لكن نورا لم تقع
"نورا" صبية عصرها، وعصفورة الماء البارد، وردة تتفتح في ربيع صعب
المسالك، تتداخل فيه الطقوس. كانت شهّية كقطعة نور، تشعّ لتبهر، ويصدح
صوتها عبر الطريق الترابية الممتدة من قرية (المغر) المنحوتة في صخر سفح
الجبل حتى عين البارد.
(ردي منديلك ردي
بيضا والشمس حدي)
بين نورا وحمارها ناقل الماء،ألفة أوجدتها تلك العلاقة اليومية، حيث
المسافة بين القرية والنبع تراها وحيدة تحت الشمس، وهي ترتدي طاقيتها القش
وأمامها الحمار، تتركه أحياناً لتلاحق فراشة، أو تراقب ما يثير انتباهها.
يحبون نورا، وهي تحبهم.
-شربة (مي) باردة يا نورا
تقدم الماء ضاحكة، متفتحة كوردة جورية في بلاد لا ورد فيها، كتب
عليها أن تحيا شقاء زمن لايرحم أنامل نورا الطرية.
عشقتها في وقت مبكر من حياتي،حين كنت أتجاوز سن الطفولة متجهاً حيث
بداية نمو زغب الإبط.
كنت أتبع "نورا" سراً، أختبئ خلف الصخور أو أشجارالبلوط، وأنتظر
لحظتها الحارة، حين تطلب من الحمار التوقف فينصاع لها لتبتعد عن الطريق
بحثاً عن مكان مناسب لتفريغ مثانتها.
ألهث وأستمتع، وحين تنهي عملها، تقف لتعيد ترتيب ثيابها، فأغيب عن
الدنيا مسترسلاً مع ثوان ساحرة، أحيا وهجها بحرارة.
يومذاك صحوت على صوت هز الفضاء، تتالت صرخات نورا المستغيثة،
شاهدتها تجري صوب الحمار صارخة:
-يا أبي... يا..بي يا إمي...
جريت خائفاً، وأنا أتطلع صوب نورا التي تصرخ وحين ابتعدت عنها وقعت
على صخرة، فسال الدم من قدمي. لم تقع نورا، وأنا أقطع المسافة كي أصل إلى
قرية (النخيله) حيث تقيم أسرتي بحكم عمل والدي في القوات المسلحة.
اختفى الصوت، ثم عاد، ثم اختفى.
رأيت أمي خائفة، تجلس إلى جانبها جاكلين ابنة الجيران، وهي تخفف
عنها.
صرخت:
-وين كنت يا شيطان؟
لم أرد، وكان لحضور والدي المباغت وهو يرتدي خوذة القتال الفضل في
حسم الموقف.
قال:
-لا تخافوا. هذا طيران العدو يخترق جدار الصوت.
قالت أمي:
جدار من؟
ضحكت جاكلين بخبث، وكعادة أمي لم تفهم ماذا قال أبي. فأسكتها مردداً
-لا تخرجوا من البيت، أو اذهبوا إلى الملجأ
غادر أبي راكضاً، فشاهدت أمي الدم على ركبتي .
-ما هذا؟
-وقعت.
-يا ريت انكسر راسك.
كانت جاكلين تحدق فيّ، قالت:
-قم لأنظف لك الجرح يا مدلل أبوك
ردت أمي:
-بل حمّميه يا جوجو.
عاد الاختراق، ولم أكترث، لأن فكرة الحمام التي طرحتها أمي قد
أعجبتني، ولقيت الرضى من قبل جاكلين الأكبر مني بعشرين سنة.
سمعنا طلقات المدفعية.
-اشتبك أبوك، الله يستر
استرجعت صراخ نورا، وهي ترفع سروالها الداخلي دون وعي.
قالت جاكلين:
-إتبعني إلى الحمام يا ولد.
دخلت أمي إلى المطبخ، وهي تتمتم داعية حماية والدي من شر الأعداء.
صارت جاكلين تخلع ثيابها، قدرت أن فيها ما يشبه نورا، ركبة، ساق،
بياض، وكنت أنتظر القطعة الأخيرة كي أكتشف لون الشعر الذي يعلوه، ولم تفعل
وقفت شبه عارية.
-قوم يا شاطر
صرخت أمي:
-أجرديه منيح يا جوجو
اهتزت وضحكت.
-حاضر يا خالتي .
ثم سلطت صوبي نظرات مفترسة.
-قوم ولاّ...
استسلمت لها، وكان الجدار يخترق، ووالدي يشتبك وجاكلين غير مهتمة .
لا فرق بينها وبين نورا، سوى بلون الشعر، فهو أسود عندها.
جلست جوجو على الخشبة الصغيرة، وأبعدت بين ساقيها ووضعت رأسي في
الوسط، وبدأت تجردني تنفيذاً للوصية. كنت أسترجع نورا، والفضاء المحيط بي
وبها دون أن تدري وأدركت أن حالة نورا مختلفة، وهي أكثر متعة. ولم أستطع في
جو الحمام أن أصل إلى ذلك الإحساس الذي أتذوق طعمه مع نورا.
طلبت جوجو أن أقف، ففعلت، أصبح كل شيء مواجهتها.
قالت:
-يجب تنظيف هذه المنطقة جيداً.
راحت تفرك بيدها والصابون ثم التصقت بي أكثر وهي تلهث بشكل منقطع
وتردد:
-افعل كما أفعل، ماذا تنتظر؟
غبت مع جوجو، ونورا في مخيلتي. صرخت أمي:
-عجلوا ياولاد.
عاد الصوت، وخوف نورا
-يا بي... يا إمي...
ركضت صوب الحمار، وحين عاد الصوت مرة ثانية اختفى صوتها، ولكنها لم
تقع، أنا الذي وقع، إذن اين اختفت نورا؟ تراها قابعة بين الصخور حتى الآن.
قالت جوجو وصوتها يميل إلى النعاس:
-خوفك الخرق يا عيب الشوم؟
وسمعنا طلقات والدي الثقيلة،وبدأت الانفجارات من جديد صرخت أمي:
-لازم نروح إلى الملجأ.
تركت جوجو في الحمام شبه نائمة، وخرجت.
قالت: انتظرني يابغل، ثم ارتفع صوتها تخاطب أمي:
-سألحق بكما حين أنتهي من الحمام.
كنت أتنقل بين نورا وجوجو، وأمي تصلي من أجل أبي المشتبك، وبعض
النسوة يشاركنها ذلك، وأطفال يبكون أو يصيحون، ونورا في رأسي، ورائحة جوجو
عالقة بي. كانت جوجو مستلقية على السرير تشرب الشاي وهي تستمع بنشوة إلى
أغنية من الراديو:
(ياموج البحر أنغامك
شكت للشط عن حالي)
قالت:
-أنت جبان، تركتني وهربت إلى الملجأ، ووضعت يدها على كفها يعني (طق)
خرجت من البيت باتجاه موقع أبي، رأيته في خوذته وغبار المعركة على
وجهه وثيابه، ضحك حين رآني اقترب منه،قال:
-هل خفت يا ولد؟ كن بطلاً.
قلت:
-ماذا يعني اختراق الصوت؟
-يعني صوت لترهيب الناس.
ولم يكمل كلامه لأنه تنبه لصوت أحدهم يصرخ عن بعد:
-ماتت نورا يا سيدي.. ماتت نورا يا سيدي.
رد أبي:
-أين؟
-على الطريق الصخرية بين المغر والنبع.
رحت أجري صوب الطريق، ودموعي تغسل وجهي.
-كيف ماتت؟
رأيت نورا في المكان الذي غادرته قبل ساعتين وعلى جبينها بقايا دم،
ومن حولها اجتمع رجال ونساء قرية المغر والنخيلة والعباسية، وأمها تولول:
-ليش متي يا زينة الصبايا، من بعدك ما في قمر يا نورا، لكن نورا لم
تقع، ركضت خائفة تصرخ، شاهدتها وسمعتها.
حملوها على ظهر الحمار فوق (قربة) الماء، ساروا بصمت وأمها تئن
بألم.
رأيت أبي وجاكلين والحزن يعلو وجوههم، صرخت وأنا أبكي بمرارة
قتلت نورا... أنا قتلت نورا.. أنا قتلتها يا أبي...
قال أبي موجهاً كلامه لجوجو:
-الولد خائف يا جوجو، إذهبي معه إلى البيت، ودعيه يرتاح بعض الشيء.
اهتزت جاكلين.
-حاضر ياعمي... حاضر ياعمي.
ثم شدتني من يدي، وسرنا معاً.
1995
هوامش :
المغر، النخيلة، العباسية، قرى في جنوب الجولان وهي خليط من
أسر سورية ولبنانية بحكم قربها من قرى الجنوب مرجعيون -شبعا-الخيام- وكانت
العادات متشابهة، والزيارات متبادلة وعلاقات الخطوبة والزواج وغيرها.
حين بكت نوال
1- مدخل للبكاء
لنوال نكهة خاصة، تنسجم وطبيعة اعلانات الشاشة الصغيرة، ولشعر نوال
الفحمي جاذبية تشع لتبهر ببساطة، هذه هي نوال التي بكت ذات يوم.
كانت ترغب بالعمل كمذيعة للتلفاز لكونها تمتلك المقومات الفعلية
لمثل هذا العمل.
تقرأ، تضحك، تتقن فن اثارة الدهشة، وكانت تتابع نشرات الأنباء،
وتفرح حين تشاهد الأوسمة وهي تزين صدور القادة الذين حققوا للبلاد تفوقها .
تقول نوال بغبطة.
-هذه الأوسمة سياج النرجس، ما أحلى بريقها وكانت تعتز بصورة تزين
غرفتها، صورة لجنود التفوا حول دبابة وهم بثياب القتال.
كانت نوال تحدق في الصورة فتراهم يتطلعون صوب الأفق بابتسامات واثقة
ورؤوس شامخة ونظرات متوثبة وطن. وخضرة وأوسمة براقة.
تفتح نوال ذراعيها لتعانق الشمس، فتبدوا كفراشة ربيع أخذت من
الألوان وراحت تتقافز بين وردة وأخرى.
تقول:- ما أروع الحياة في نبض الوطن، أنت تحياه، وهو يحيا فيك
وأنتما تنشدان أغنية الأمل وسياج النرجس البراق يبعث الطمأنينة.
يا لصدورهم المزينة بأوسمة المجد.
2- البداية
-نعم سيدي أنا نوال
رفعت شعرها الفحمي، جعلته يتدلى على ظهرها، فبدا قصيدة شعر مسكوبة
بأنامل شاعر، أكثر من الصور الرائعة. ونشرت تلك الجاذبية التي تعبق لتجذب
الكائنات من خلال سحرها العجيب.
إرتبك الرجل الضخم، واستيقظ بداخله حس الإنسان الذي فقده منذ زمن
بعيد.
-تعالي معنا
سارت معهم، دخلت أقبية وهي تضحك، ثم ممرات ضيقة وهي تضحك
-ما أروع الحياة في وطن تحياه ويحيا فيك، وسياج النرجس البراق يزين
صدور المجد.
3- المكان
سألت نوال المراة التي تشاركها ضيق المكان ورائحة العفونة:
لماذا حزنك؟.
ردت الأخرى بصوت واهن في طريقه إلى الموت.
-فيما بعد تعرفين!
ضحكت نوال، ولم تكترث برد المرأة التي تجهل معنى وجودها في مكان
جليل وقوركهذا، ستوضح لها الأمر، وتابعت ضحكتها.
قدرت المرأة أن الفتاة مجنونة، فهزت رأسها عدة هزات متتالية كتعبير
عن الأسف، وكانت نوال ما تزال تضحك.
4- الاختراق
وصلها الصوت الغليظ من عمق السواد، مخترقاً حواجز العفونة والرائحة
.
-مين نوال؟
ردت:
-أنا.
أجاب:
-لا تضحكي بقرف.
لم تسمع هذا الرأي من قبل، لكنه الليل الذي حجب عنه الجاذبية وحوله
إلى مجرد صوت غليظ ينفذ. مشت بمحاذاته، انتقلت من ليل إلى آخر عبر ممرات
ضيقة، وصلت إلى ضوء الطاقة.
-انتظري هنا.
تذكرت نوال بطلات الروايات اللواتي انتظرن مثلها وكانت قد شاهدت ما
يشبه ذلك في (السينما)
-ادخلي يا...
دخلت، فشاهدته وسيماً يدخن سيجاراً، ويتمايل على كرسيه بهدوء، ومن
حوله وزعت التحف الثمينة، ولمحت باقة زهور طبيعية.
خاطبت نفسها:
-لا بد أنه شاعر.
قذفته بابتسامة مشعة، حرصت على شحنها بمزيد من الجاذبية، وتركت
لشعرها الفحمي حرية الحركة.فمج من سيجاره طويلاً وفرغ الدخان بهدوء وهو
أمام موقف أثار بداخله الدهشة الممزوجة بالاتزان المصطنع حدق اليها من
الأسفل إلى الأعلى.
قال:
-اعترفي يا نوال، فالتكتم لا يفيد..
ضحكت نوال:
-توقفي عن الضحك يا نوال.
اقترب منها أكثر، فلامست أنفاسه الساخنة وجهها ثم التصق بها وهو
يردد:
تعترفين فيما بعد، لا بأس، تعترفين فيما بعد.كثيرات هن الفتيات
اللواتي تعرضن لمثل موقفها، فاستسلمت وهي تعلم أن لاجدوى من الرفض. تألمت
من وحشيته حين اقتحمها دفعة واحدة فسال الدم على ساقيها، وابتعد وهو يلهث
ويردد:
-عاهرة وعذراء.
ضحكت نوال وهي تتألم.
صرخ:
-لماذا الضحك يا فاجرة؟ لماذا الضحك؟
-5-
سألتها المرأة التي تشاركها المكان:
-ماذا جرى؟
كانت نوال تتلمس جرحها وسط الظلام، وتزيل بقايا الدم عن ساقيها.
ضحكت.
-لا شيء.. لا شيء أبداً، هم رجال ظرفاء.. ظرفاء جداً واستمرت في
ضحكتها.
هزت المرأة رأسها عدة هزات متتالية... فالفتاة مجنونة ونوال لم تزل
تضحك.
6- التهمة
ركلها بقوة، تمتمت نوال وهي تضحك:
-أنسيت من بداخل بطني؟
سال الدم من انفها، تضحك ويزداد شراسة، حاولت النهوض لم تستطع،
وكانت لم تزل تضحك ثم وقفت بصعوبة عليه وقالت:
-متهمة بالصورة، ما أروعني وأنا أحيا عشقها الأبدي. افعلوا ما
تريدون، لكن الصورة ستبقى.
تلقت ركلة أوقعتها أرضاً وضحكت.
7- الفصل
لم يرد العم حمدان على تحيتها الصباحية
سألته:
-ماذا جرى يا عم حمدان؟
رد العجوز:
_أنت خطرة يا آنسة نوال، ابتعدي أرجوك، أريد أن أعيش..
دخلت نوال غرفة عملها، واجهت نظرات الزملاء.
-ماذا بكم؟
لم تتلق جواباً، قدمت لها إحداهن ورقة رسمية، قرأت نوال قرار فصلها
من العمل، ورفعت شعرها الفحمي جعلته يسترخي على كتفها... ضحكت... خرجت.
8- الخطيب
نزع خاتم الخطوبة .
قال:
-لا أستطيع أن أستمر معك يا نوال.
ضحكت..
صرخ:
-لماذا الضحك؟
غادرت المكان وصوت ضحكها يرتفع..
9- لماذا بكت نوال
لماذا بكت نوال؟
صرخت نوال وهي تبكي بمرارة
-لا.. هذا مستحيل.
كانت الصورة ممزقة بحقد. وقد تحولت إلى نتف صغيرة فبكت نوال..
1994
انتباه
•ملاحظة رقم (1) لشاهد عيان:
لم يمت الرجل الذي داهمه مرض الانتباه، وبعد الحادث فقد مجموعة من
الحواس دفعة واحدة.
•ملاحظة رقم (2) للزوجة:
قررت ترك خيوط العنكبوت، نظراً لقناعتي بعدم جدوى ازالتها.
•ملاحظة رقم (3) للكاتب:
إن لوحظ بعض التشابه بين القصة وحالات واقعية، فالرجاء المعذرة لعدم
القصد.
وإليكم ماحدث بالصيغة التي وجدتها مناسبة للسرد.
التقطت نظراتي لون باب بيتي الباهت وأطرافه المتآكلة بشكل يثير
التقزز، ثم انتقلت إلى زاوية الجدار وأشرت بإصبعي.
-ماهذا؟
ردت زوجتي بعصبية:
-خيوط عنكبوت، إزالتها سهلة.
قدرت أن الخيوط قد رافقتنا حياتنا الزوجية منذ بدايتها .
قالت:
-ثمة أشياء هامة لا تثر انتباهك.
أحسست أن وجه المتحدث غريب عني، كأني أراه للمرة الأولى، فرحت أدقق
بالنظارة السميكة ولون البشرة الذي يشبه لون الباب، وأثناء الطعام رأيتها
تفتح فمها على اتساعه وتقذف بداخله كمية من الأكل، مصدرة أصواتاً ليست
متناسقة.
قال ابني الصغير:
-لماذا لا تأكل يا بابا؟
قلت:
-كل أنت يا حبيبي.
(3)
أنا والآخر، والشيب غطى الشعر، وأخاديد الزمن المحفورة في الوجه
الذي أراه ضمن هذه المساحة الصغيرة من العالم كل يوم، فما الغرابة؟
وكي أبدد النزعة الجنونية التي سيطرت علي أدرت مؤشر المذياع، أنباء
الكرة الأرضية، الطقس.
وتابعت الحلاقة فسقطت الآلة الحادة من يدي وجرحت. صرخت:
-مستحيل. يكذب المذياع.
لم أصدق لأنني أهتم بالأخبار منذ أن كان المتوفى يستمع إليها، وكانت
تشدني أنباء الحرب رغم صغر سني (أعلنت دقات بكبن الساعة...
يقول المصريون أنهم لن يسمحوا بعبور القناة، وأن نهر الأردن لن
يتحول).
(4)
خرجت مشيعاً بحيرة زوجتي وابتسامة ولدي البيضاء، ألقيت التحيات
اليومية وعند (سمان) الحي توقفت وتنبهت أنه يغش.
قلت:
-هذا لا يجوز.
قال:
-لاتشتر من محلنا.
أطرقت، كيف لا أشتري منه وهو يمهل حتى نهاية الشهر تمتمت "ماشي
الحال".
تابعت سيري، ورأسي تهتز تلقائياً للأشياء التي أتنبه إليها الواحدة
تلو الأخرى.
أوراق نعي، قمامة، فوضى الشارع، وجوه الناس المتعبة، نراجيل
المقاهي، المذياع.
احسست بدفقة حزن.
(5)
ينتظر زميلي في العمل حضوري لنشرب قهوة الصباح وكالعادة تطول
الجلسة، ونترك المراجعين ينتظرون حتى يطيب مزاجنا فنفتح الباب.
قال:
-تأخرت يارجل.
فتحت الباب فقفز عن كرسيه.
-ماذا بك هل جننت؟
طلب إليهم الخروج لضرورة العمل، فرميت بالقهوة أرضاً وفتحت الباب،
وأغلقه، وصوب إلى أنفى لكمة قوية وهو يصرخ:
-تشتم الحكومة يا كلب، حسابك عندي.
صرت أجفف الدم بمنديل ورق، وذهني مشتت بين اللكمة والتهمة وغموض
الموقف،
أدركت أن الزمن الذي لا انتباه فيه يقودني إلى هذا الموقف حين
أنتبه.
(6)
-تفضل معنا.
انطلقت العربة متجاوزة الشارات الحمراء مخترقة الشوارع الممنوعة،
ورأيت الناس يقدرونها ويفسحون المجال لتعبر، ومنهم من يلقى التحية بإجلال.
وصلت إلى المكان إياه، اجتزت ممراً، فصالة، فممراً فغرفة وغرفة
وانعطفت إلى اليسار واليمين وهبطت درجات، وعبرت حديقة فيها بحيرة ماء وبط
وكرمة تظلل المكان، فغرفة وغرفة وغرفة.
-انتظر هنا.
جلست على كرسي جلد وبقايا الدم في أنفي، وأنا أمسح عرقي بكم قميصي
وأستنشق (مخاطي).
استدرت بذعر حين شعرت بشيء ما خلفي وشهقت. الجدار ينشق، يا للعجب.
وبعد اكتمال الشق بدت أمامي غرفة واسعة أنيقة ومن سقفها المركب سمعت
الصوت يقول:
-ادخل إلى هنا.
دخلت.
اجلس.
جلست.
-لماذا تصرفت بفظاظة مع زميلك؟
حاولت الكلام
-لا تتكلم، نحن نعلم أن زميلك يحترمك.
صمت قليلاً.
-هل ترغب بلفافة تبغ؟
وقبل أن أبدي رغبتي، امتدت يد آلية وقدمت اللفافه باحترام اصطناعي
ثم اختفت ولم أستطع تحديد مكانها. تنبهت أنهم يحاربون التبغ المهرب
ويقدمونه لزوارهم، وقد يكون ذلك امتحاناً لي، وينبغي أن لا أقع في مأزق آخر
صاح بنبرة حادة:
-دخّن اللفافة، لا تفكر هكذا، نحن لا نخدع ولا نمتحن وبلهجة أقل حدة
أضاف:
-أنت تفضل البن دون سكر.
ثم تحولت لهجته إلى كامل رقتها.
-في التحليل الأخير كان(السكري) مرتفعاً عندك قليلاً أليس كذلك؟
عليك بمراعاة صحتك، دون شعور مني وقفت مذهولاً وأنا أحدق في الجهات. ضحك
المتكلم بهدوء وتابع:
-اجلس يا بني، لا تنفعل، نحن نعرف كل شيء. حضر فنجان القهوة بيد
آلية، امتدت إلى الأعلى. فتذكرت أنني قد كونت عن هؤلاء فكرة مغلوطة وهم
يعاملونني عكسها تماماً.
قال الصوت:
-أنت جيد في تفكيرك هذا، يعجبنا الرجل الذي يكتشف الحقيقة بنفسه،
مقابل ذلك سوف نعفو عنك. وننصحك بمراجعة طبيب لتعالج نفسك، الآن سيظهر
السهم ليرشدك إلى طريق الخروج.
سار السهم بمحاذاة وجهي صار يسخر مني بحركات غليظة، وحين اقترب من
عيني ابتعدت خائفاً قفز أمامي عدة قفزات بهلوانية وحاول اقتحام مؤخرتي
فالتصقت بالجدار، ليتدخل الصوت ويحسم الموقف لصالحي.
-لا تفعل يا غبي إنه صديق.
خرجت كما دخلت. لا أدري كيف دخلت أو خرجت . وحذرني الصوت من التحدث
عن تلك الزيارة لأي مخلوق كان.
(7)
قال الطبيب:
-مرضك أخطر من (الايدز)
-ما الحل؟
سحب من غليونه مجة طويلة، نزع النظارة.
-عليك أن تغمض عينيك كشرط للعلاج. إن الإنتباه يأتي من الرؤية وسوف
تحقن بأمصال لقتل خلايا الإنتباه لتنمو عوضاً عنها خلايا (التطنيش)
اشتريت قطعة قماش سوداء، وضعتها فوق عيني كشرط للعلاج، تنبهت أني
سأواجه صعوبات حتى أنسجم مع حالة فقدان الرؤيا.
قال الطفل:
-أعطني يدك لأساعدك في عبور الشارع.
استسلمت للطفل الذي قال:
-تستطيع متابعة السير فالشارع خال.
عندما أخرجوني من الحفرة التي وقعت بداخلها، سمعت الطفل يضحك بصوت
عال وهو يقول:
-كيف تغطي بصرك بالقماش وأنت لا تجيد هذه اللعبة الصعبة.
علقت على ثيابي رائحة لن تعجب زوجتي كثيراً
صممت أن لا أنزع قطعة القماش، لكن ما حدث كان أقوى من إرادتي تنبهت
إلى صوت العربة القادمة وكنت قد عرفته صباح اليوم حين نقلوني إلى المكان
إياه. أحسست بنوع الخطر الذي يداهمني، فانتزعت قطعة القماش لأشاهد العربة
متجهة صوبي. قفزت إلى الجانب الآخر لم أستطع الهرب، استدارت العربة مضاعفة
سرعتها.
(8)
صرخ الرجل.
1990
ترنيمة الحاصباني
استدار الطبيب قائلاً بوقار:
-الجراحة.
ثبت المريض أزرار قميصه داخل فراغاتها، وأعاد ترتيب ثيابه، خطا
الطبيب باتجاه الطاولة استقر خلفها قال:
-لا بد من إجراء العملية.
تناول المريض منديلاً جفف عرقه، وهو يدقق النظر في ملف الأوراق
والصور وأنواع الفحوص التي أجريت له (الممغنط) (المكهرب) (فوق الصوت) (تحت
الصوت) وكان قد شاهد شرايينه عبر شاشة صغيرة.
-سوف تحسم الجراحة صراع الخلايا.
كانت الخلايا المتصارعة قد منحته قوة كشف الخفايا وتحليل أصل الحركة
وزودت بصره بطاقة غير معروفة.
قال الطبيب:
-ظاهرة فريدة.
نشطت الخلايا، سلط نظرات متوثبة ترغب لو تلغي التراكيب، الأشياء،
أضواء الكاميرات، وأوسمة الانتصارات الوهمية، صور القادة.
قال الطبيب:
-يمكن تحديد الموعد متى تشاء.
حدق في وجه الطبيب، وكان التحديق قد جعله يتلقى انتقادات جارحة لا
يحب أن توجه إليه أوقعته في مواقف حرجة.
-قليل أدب
قالتها إحدى السيدات، وتلقى ذات مرة لكمة عنيفة من رياضي شاب.
قبل عدة سنوات كان يحيا بشكل عادي ويمضي أيامه باستقامة ويعامل
الناس بتهذيب تقليدي، وكان قد شارك في حروب الوطن، وحلق الموت فوق رأسه أو
حاذاه منتظراً فرصة الانقضاض. ولم تنقل الشاشة الملونة أنباء بطولاته.
أحس بخلاياه وهو يدفن والده، ولأسباب يجهلها ضحك على الباكين فدهشوا
لكنه عرف زيف حزنهم ومنذ ذلك الوقت أتقن لعبة الداخل فراح يترجمها.
قالت حبيبته:
-مجنون.
إرتجفت حين نقل إليها وقائع خيانتها بدقة،ولم يكترث فلقد اعتاد أن
يعبر ما يمكن عبوره. يقول:
-الدماغ في مواجهة الدماغ
هو يعلم أن إصبع يد واحدة تلغي الدماغ لكنها ليست المواجهة.
(2)
دخل المجال الرطب واتساعه المخيف، تمدد على منضدة خشبية تشبه
التابوت قائمة على قاعدة مرنة وضعت في وسط الاتساع وفوقها (كهرباء) مستديرة
ترتفع وتنخفض، أحاطت به أرجل، أياد، وجوه، كما مات خضراء.
شاهد دمامل مقيحة على وجه إحدى الممرضات وهي تتحرك وسط أكوام من
العقاقير والمعقمات. حين كبر لم تكبر معه حكايات الأزقة التي عرفته، وكانت
القنيطرة صغيره كورد الربيع وفيها استنشق أول جرعة (أوكسجين) وغسلت (الداية)
يديها من بقايا دم أمه.
كان التراب.البرد. المغص.
وحين توقف نبض المدينة غادر، ومن أجل الحياة حفر خندقاً فصل بين
طفولته والحدود التي قتلت عندها. إنتقل من موت إلى آخر ولم يمت، وكغيره من
البشر أحب (نجود) بجديلة سوداء وابتسامة متحفزة، فأحرقتها قنابل (النابالم)،
وحين طعنته (همس) مستقرة داخل حذاء رجل آخر لمجرد اللاشيء لم يمت، راح يفتش
في الفراغات الأخرى عن عذاب. ماء. طعام. لم تزل أطنان من الموت تنهال فوقه،
أحلامه القديمة لا تكبر كما أراد لها.
وكانت القنيطرة في عينيه وقلبه يتقافز شوقاً للكائنات هناك.
أيها النهر العظيم لماذا تنفرد بترنيمك العذب وتتجه غرباً إلى أين؟
(3)
راحت الأقمار الصناعية تبث شاراتها (تك. تاك. تيك) مرفقة إياها
بالصور ووكالات الأنباء تتلقى. ترسل. تصبغ المساحات البيضاء. أعلن عن تنفيذ
العمل الجراحي جهزت المراسم وأدوات الدفن وأوراق النعي، وكانت العقول قد
قررت أن الرجل الذي مات مئات المرات قد مات الآن.
فشلت عملية إستئصال خلايا في آواخر القرن المتميز بعدم الإصغاء حيث
(بوش)، (السادات) (بيروت).
مات رجل الضحك المهذب بمأساوية غير مضحكة، مات ولم يكن يضحك.
هم يعملون ونظراته إلى السقف المسبق الصنع، قذفت خلاياه حقن المخدر
وتمردت.
كانت دقات (بكبن) وأوسمة الانتصارات الملونة وابتسامات الشاشة
وربطات العنق وزجاجات الماء المثلج، والتي تلبست رجلاً آخر لتذبح الحلم
والورد وتشوه النجم وتغتال الزمن.
بقايا الكحول. لفافات التبغ. القهوة. رنين هاتف دوار. صداع. آلام
معدة. القنيطرة. طائرة. صراخ. مرايا محطمة. معامل. كما مات. ملاقط. مقصات.
دبابيس. قطن.
نهض الرجل، انتزع الأنابيب المطاطية الموصولة بشرايينه، هبط من علو
التابوت المنتصب في الوسط، سار ضمن الاتساع الرطب، فذعرت الوجوه وارتجفت
الأيدي.
توقف البث ليعلن عن وقوع حدث في آواخر زمن الفضاء، وكان (بوش) يتابع
من مقره الصيفي. نهض حياً الرجل الذي عاش ميتاً، واتجه صوب الباب، فصرخ
الطبيب بصوت لا يخلو من الدهشة الممزوجة بالحيرة.
-لا تفتح من أجل التلوث.
ماذا تعني تلك الفسحة أمام ركام الخارج؟
ابتسم بثقة. إنها ليست (هيروشيما).
تسرب الهواء ولم يحزن. دخل المكان الذي خصص لتشريح الجثة فيما بعد.
صرخوا:
-هو يعرف ماذا يريد؟
أضافوا بغضب:
-ينبغي التحقق من تفاصيل ما يحدث.
ارتدى ثيابه وعقد ربطة عنقه بأناقة مفرطة، فبدا ملفتاً للنظر، وغادر
المستشفى بكبرياء رجل مشحون بالطاقة والابتسامة لا تغادر ثغره.
لم يوقف عربة لتنقله، سار، يحب المشي، الهرولة، النساء اللواتي
يطعنه أخيراً والأصدقاء حين يقذفونه بشتيمة أو قنبلة.
ويحب الوطن والأطفال الذين يموتون بالألوان وبيدهم
حجر، وكان قد حزن فوق احتمال قلبه من أجل (الجنوب)
صوت (بكبن) ارتفع، ارتفعت الأنخاب حتى الثمالة.
وكانت الأوسمة تزين صدور (الجنرلات).
سار يحدق في وجوه المارة، عادته القديمة، لم يسمع ما يجرح إحساسه،
وكان التاريخ وأزقة القنيطرة تبحث عن فتاها، والتراب الأحمر في تل الفرس
وأنواع القنابل (العنقودية) (الفسفورية) (الغازية) (الهراوات السامة)
غرفة الجراحة المعقمة، والخوف من التلوث، ومضاعفات الصوت التي
تطارده (الديناصور) يغزو المدينة كما في صور الأطفال المتحركة.
خلفه عربات الاسعاف ببياضها المقيت مزينة بأكليل الشوك والرصاص
ورجال الدروع والأعلام والقبعات والأسلحة المصوبة إلى ظهره وشاحنات الروافع
والسلالم وخراطيم المياه، وفي السماء حوامات. استدار إلى الوراء، لم يعجبه
المزج في اللوحة. تنقل الأقمار والشاشات وقائع ما يحدث على الهواء مباشرة.
(4)
ضحك حين بدل النهر مجراه.
قهقهه حين سمع ترنيمة النهر عكس ما يريدون، فتوقف ليعلن دخوله
الجديد في حالة القادم اليه. وكان النهر.
1989
هي والمدينة
ألا تستطيع أن ترى هذا الجرح الغائر الذي أحمله.
والذي يمتد من أحد أضلاعي إلى حلقي ومن ذقني إلى صدري.
لوركا.
غطت نظراتي مساحة المكان، فوق الطاولة أوراق مبعثرة أشرطه تسجيل،
جهاز للهاتف برتقالي اللون، امتدت يدي، انطلق صوت الأغنية.
تناولت لفافة تبغ (الدخان يضر بصحتك. ننصحك...) ابتسمت توقفت. سرت
باتجاه الشرفة. الشارع. الحركة. باصات النقل والصبية ذات الثوب الأحمر في
الجهة المقابلة.
كل شيء على حاله، هي الوحيدة التي تبدلت.
تراجعت عن الشرفة، جلست وراء الطاولة وكانت الأغنية الطفولية التي
أحببتها.
كيف حدث ذلك؟ رحت أسترجع التفاصيل.
رفعت سماعة الهاتف، صرخت:
-ماذا؟
أعدت السماعة إلى موضعها، ثمة كارثة في الحي الغربي. شاهدت عمليات
نقل الضحايا إلى المستشفيات، وجوه الأموات الذين غادروا الحياة قبل قليل،
وسمعت صرخات الأمهات الموجعة.
يقطن فقراء المدينة في الحي الغربي وهم يعملون ببيع بطاقات الحظ.
تنظيف الأحذية، والتبوغ المهربة وخدمات للبيوت الفاخرة.
إنتقلت إلى الحي الشرقي، والاستعدادات جارية من أجل مباراة كرة
القدم. وفي الصالة الرسمية ستلقى محاضرة هامة، فيما ضجيج الانتخابات يحاصر
المدينة. أزقة حزينة، وشوارع تتقافز نشطة وأمهات (يولولن) وأخريات يستعرضن
الأزياء و(مانشيتات) الصحف مطبوعة بخط أحمر عريض ورواد المقاهي يناقشون
(الانتفاضة) (الجنوب)
وأصدقاء القدم يتراهنون على الفوز، وصديقي القديم كان يتفاخر
بإيمانه. لكنه يبحث الآن عن آخر صرعة في تزيين الجدران والأسقف المستعارة
وتوزيع الإنارة وحركة النهب ويشكو الجوع.
يفرض عليّ العمل التنقل من حدث إلى آخر لأرصد الأخبار. كنت أعيش تلك
الزحمة من الأفكار حين قالت لي:
-لا أستطيع الخروج معك هذا المساء.
لفظت كلمة (ماذا) بحيرة.
لكن الموقف ازداد سواءاً حين صرحت برغبتها في إنهاء العلاقة دون
مناقشة.
مساء أجريت اتصالاً هاتفياً معها، لم أقل (حبيبتي) كما جرت العادة.
قلت
-أريد معرفة الأسباب.
-لاشيء.
أعدت السماعة بقرف، وللوهلة الأولى ظننتها مجرد حالة نفسية، وكانت
الأغنية القديمة التي أحببتها منذ طفولتي.
فيما بعد شعرت بحجم الخداع الذي أحطت به، وأثناء وجودي في الحي
الغربي داهمني إحساس غريب وأنا أتلقى أنباء الموتى وبكاء الأحياء واطالع
الجمل المكتوبة على الجدران وهي عكس ذلك.
تحت سماء المدينة طائرات ليست مألوفة، وحدها التي تغيرت. دوار خفيف
آلام في معدتي.
زعيق الاسعاف الاندز. الإطفاء. الطائرات. أزيز المروحة، وأصوات
امتزجت ببعضها.
سمعت حديث رجل المحاضرة يرتدي ثياباً أنيقة تفوح منه رائحة عطر باهظ
الثمن. يتكلم بحماسة /الحياة/ /العدالة //المجتمع/
الهدف الأول. الأصوات تشارك الفضائيات في النقل. البث الملون. الكرة
ملونة. أرض الملعب ملونة، الهدف ملون، الأصوات.
أدرت قرص الهاتف بكسل، قلت:
-الأخبار.
صورة الأم في الحي الغربي ترافق الحروف، وزعيق المأساة يضج برأسي.
هم يعيشون حزنهم منفردين.
قال الصوت من الطرف الآخر:
-إلغ خبر الحي الغربي الآن ومن غير المناسب التحدث عنه. صرخات بكاء.
أموات. لم أستطع النوم.
-ماذا جرى؟
صمت.
-أنا أحببتك. تذكري..
صمت.
-معنى الحب أن نشرب ماء البحر معاً ونموت وأيدينا متشابكة.
لم تنطق بكلمة واحدة استعدت البداية.
كان الصيف وأشجار الزيتون وأضواء العربات البعيدة وصوت نباح الكلاب
وأول لمسة حب أحياها بعد زمن طويل.
اختطفت قبلة سريعة واعتذرت، ضحكنا وكانت أشجار الزيتون وأضواء
العربات البعيدة تضحك معنا. مرت أيامنا بسعادة.
أحيا من أجلها لأنها الأمل الذي وجد في جفاف حياتي. ابتعدت عنها في
لقاء البحر وكان الأخير، وفي داخلي إحساس ما بأني سوف اكتشف سرها المبهم
لإني أتقن من خلال المهنة فن اكتشاف الخفايا والتوقف عند الجزئيات والتوغل
بعمقها.
وكنت أقول لها دائماً:
-ينبغي أن نشك ليس من أجل الشك، بل من اجل الوصول إلى الحقيقة.
لم تدرك هذا الأمر.
أكتب. أتصل. أعمل. وبداخلي رغبة مناجاة القمر، يدها بيدي والحب، لم
أعش هذه الحالة من قبل. كانت رغباتي تجري آلية وبالتالي أحتسي القهوة ادخن
لفافة مهربة ابتعتها من أصدقاء الحي الغربي. اكتشفت سرها وتلاشى الحلم
ومرارة الخيبة عالقة في حنجرتي.
ببساطة دخل رجل آخر إلى حياتها.
-هل أستطيع إقامة علاقة معك؟
بعدها عاش الرجل الجديد فرحة اللقاء الأول. واغتالت أيامي معها.
لعبة الانتخابات مستمرة، تحدث الإعلام عن المحاضرة. إنجرفت هي إلى
قلب خيانتها وأموات الكارثة يدفنون. إنطلقت ليلاً. الألوان النارية
المختلفة احتفالاً بالانتصار الكروي.
وسكان الحي الغربي ينصتون إلى أيات من الكتاب المقدس على أرواح
الذين دفنوا كيفما اتفق.
وصرخات مكبرات الصوت المنقولة على عربات (السوزوكي) تعدد مزايا
المرشح الذي أعرفه جيداً وهو يعاني إلى الآن من جشع فقر قديم برغم كل ما
نهبه. أصبحت ذكراها تعذبني كشوك يخز الجسد وانقلب وجهها الذي أحببته في يوم
ما إلى قطعة لزجة لا حس فيها، وراحت أسنانها تنهش قلبي.
صار الحي الغربي وجه طفلة يبتسم ووردة بيضاء تتفتح.
اتسعت ابتسامة الطفلة ونشرت الوردة شذاها الرائع.
وكانت حناجر أبناء الحي الغربي تردد الأغنية معي.
1997
الهول
يعشق الفسحة الممتدة أمامه واتساع الرؤية حيث الوضوح يجوب شوارع
المدينة يتقن جزئيات النهار يقرأ أوراق النعي، الإعلانات، يحدد حزن الوجوه
أو فرحتها يطالع الصحف. يستنشق هواء البحر، وحين يعانق حبيبته يزداد سعادة،
إنه يحيا في عمق النور.
-ابتدع الإنسان الطاقة كي يبدد أسرار الظلام. ويتذكر قول أمه:
-الليل غدار.
داهمه السواد ذات ليلة دون إرادته، كان لا يمتلك سلاح المواجهة،
فتاه عن الاتجاهات، سقط في حفرة صعبة، قاوم سقوطه، تمكن من الخروج، وفي
الاتجاه المعاكس ابتلعته كتلة معقدة من الأسلاك الشائكة. بحث عن بصيص ما
داخل الهول الذي هو فيه.
كان الظلام ناشراً جذوره.
عبرت عن تعلقها باللون الفضي الذي يلغي كسل الليل.
قالت:
-تلاحق الفراشات، تدقق في لون الزهور، تقطع الجداول دون أن تقتحم
المياه وتبلل ثيابك. ضحكا معاً أسنانها بيضاء.
عرف الأصدقاء. الأعداء. الرجال. النساء. الأطفال في النهار. وحين
يزحف الظلام يستقر في فراشه. ومع خيوط الشمس الأولى يهب نشيطاً، يحلق ذقنه
ينظف أسنانه بالفرشاة، يرتدي ثيابه، الأخبار. القهوة. يردد كلمات الأغنية،
تنصرف ببساطة حالماً بلقياها.
-تنتهي الحياة مع السواد.
يضحكون. يدهش لموقفهم، تواجههم، فيفرح لإنها استطاعت فهمه، يدافع عن
رأيه، تبقى ابتساماتهم الساخرة، يستمد شجاعته من نظراتها المتوثبة.
رائعة تلك الحبيبة التي تشاركه بناء أحلام جميلة، سيحققانها معاً.
ثمة نجوم تتلألأ في سماء مجهولة، لأول مرة يشاهدها وهو بين الأسلاك
التي تمزق جسده. تذكر أسنانها البيضاء. يده في يدها. والطريق الترابية التي
تنتهي عند بيتها.
-سنحيا معاً
تضحك.
-وسوف نمشي في الطريق الترابية على العكاز.
تضحك.
-إنك خاتمة لرحلة الأيام.
قال والده:
-ينبغي أن تواجه الحياة.
قالت أمه:
-الليل غدار
حمل حقيبة ثياب فيها بقايا تبغه. أشياء صغيرة. واجهته الحفرة.
الأسلاك، كان وجه الحبيبة يمده بالقوة. سمع صرخات استغاثة يلتهمها السواد
في زحمته.
بكاء أطفال. أنين أحياء قبل رحيلهم.
هاجمه وحش فحمي. قاوم .
أطل الفجر. وجد أمامه طريقاً متعرجة محفوفه بالمخاطر، قرر تحطيم
الخوف والتعرف إلى التراكيب التي يطويها الليل بين جناحيه، وبعد ذلك سيعود
إلى حبيبته منتصراً لن ينهار بعد أن عاش التجربة الأولى.
سوف يثقب الحاجز ليتسرب النور.
رجل يمتص دم طفلة بفمه شاهده صباحاً يحتضنها بحنان.
عليه ايقاف المجزرة، اقترب من الرجل فلعله يستطيع أن .. أحاطت به
مئات الأفاعي
لم يستطع استحضار وجه الحبيبة، سرت في جسده قشعريرة.
فكر بصديق الحي الغربي. كان يغرز السكاكين في رؤوس بشرية.
أراد أن يصرخ ليعبر عن أي شيء، تجمدت الأحرف في حلقه، تراجع خائباً،
استقبله الشارع العريض بأشجاره شاهد حبيبته عن بعد، انتفض بقوة، أسرع
ليحدثها عن كل شيء، إلى جانبها رجل تقترب منه أكثر، يدها في يده.
تذكر الطريق الترابية، رائحة العشب، لم يصدق ما يراه، اقترب منها.
كانت تضحك وكان وجهها النهاري يتبدل بطريقة آلية، انقلبت إلى أفعى ثم جنية
مطموسة الملامح،هيكل عظمي أسود، توقفت لتطلق من أنفاسها شرارات نيرانية.
وجهتها صوبه، ارتمى على الأرض، نهض.
راحت الأشجار تتقافز مشيرة إليه أن يخرج قبل أن تحطم رأسه. كان
(السلسال) الذي قدمه إليها رمز حبه العظيم يتدلى على صدرها وفي إصبعها
خاتمه وعلى شفتيها بقايا قبله المذبوحة.
زمجرت، فرزت سمها الحاقد أفقدته الرؤيا.
تذكر قول أمه:
-الليل غدار.
هب واقفاً كما رد من ضياء، وصحت صرخاته من جمودها صرخ:
-أيتها الخبيثة.
فرزت سمها الثاني. الثالث. الرابع..
صرخ بصوت أعلى:
-من يعشق النور لا تقتله سمومك.
تجمعت ذرات تراب الطريق القديمة، شكلت من حوله سداً حال دونه ودون
سمومها.
تذكر صديقه في الحي الشرقي، لا بد أنه سيقدم له المساعدة المطلوبة
وسوف يحدثه عن مشاهداته. وضع اصبعه على ضاغط الجرس، انبعثت قهقهة طويلة ثم
صوت الصديق.
-أتيت أخيراً يا عاشق النهار.
كانت لصديقه أنياب طويلة ممتدة في كل الاتجاهات.
تعبث بالأشياء تتصرف كما تشاء.
تمتم:
-يا للهول.
-قال الصديق:
-ادخل.
رفض.
التف حول عنقه نابٌ قذفه إلى الداخل.
صرخ:
-يا للهول.
قال:
-ولماذا هذه الأنياب؟
عادت القهقهة،كان صديقه الأول يقهقه، وحبيبته، والثالث.
أتاه الرد:
-إنها للفرح النهاري، للحزن، لأوراق النعي، للصحف، للجزئيات التي
تتقن تفاصيلها، لهواء البحر لمصاصي الدماء، إنها لك يا وحش الرؤيا المهزوم.
-إقتليه.
ظهرت حبيبته على شكل أفعى سوداء. فرزت سمها.
1989
همس الحلم الآتي
ماتت همس. لم تمت. نهضت فرزها البحر نقية لم يبرد جسدها، ظلت عروقها
تنبض، بقي حبها للحديقة لممراتها للمنعطف المحاذي لمعمل التبغ، وشجرة
الياسمين التي تتوسط طريق المساء، حيث وقع خطاها، فوق أرض حفظت تفاصيلها
وهي تستمتع بموسيقا الضفادع وتشاهد حارس حقل (الخس) يعد الشاي.
تضحك حين يقول حبيبها.
-ماذا لو صرخنا وسط هذا الزحام؟
-دعيني أقبلك هنا.
-هيا لنمارس طقوسنا كما نشاء.
لونها يشبه لون القهوة وابتسامتها شمسية وكانت تحيك الآمال من
نظراتها المتوثبة، وتعشق بساطة الحياة، وتدخل البيوت الحزينة لتلغي الحزن
وتغرس مكانه بذور الفرح، ترعاها لتكبر وهي في طريقها إلى الضياء، وكانت تحب
الرجال الذين يعانقون الصباح ومعهم زواداتهم المتواضعة وشموخهم المتعاظم
وهم يصنعون بعرقهم المدى الذي يكبر فيه حبها.
كانت تحب البحر ترسم تكتب تمحو فوق رماله، وقمرها يحول الليالي إلى
أعراس، رائحة تعبق من جسدها الرائع. لم تكن قصة حبها عادية، كانت أغنية
رددتها أشجار الزيتون، أضواء العربات، باركتها الطيور. الفصول، أناشيد
الصغار في مدارسهم، الكتب. الحناجر. وكانت الزعتر النقي الذي أنجبته غابات
الغار في أعالي الجبال.
شهدت عجوز الحي ميلاد همس في دقائقه الأولى. أحبتها. رعتها. وحين
كانت تراها تقفز في الهواء من مكان إلى آخر تداعب شعرها الأسود القصير
بوداعة وتقبلها بحنان ثم تجلس القرفصاء كعادتها تراقب ما يجري بصمت.
دهشت همس حين رأت العجوز ذات يوم حزينة سألتها بغرابة:
-لماذا الحزن أيتها العظيمة؟
ردت العجوز:
- ستقتلك الخيانة يا همس.
صرخت:
-أنا أيتها الجباره لماذا ؟ لقد أحببت الجميع. هزت العجوز رأسها
هزات متتالية، وبصوت واهن قالت:
-لأنها الخيانه يا بنيتي.
بكت همس، راحت منذ ذلك الوقت تنجز تطريز حلمها بيتاً ريفياً. زقزقة
عصافير. ظل شجرة توت وتتنازعها لحظة الإحساس بمرارة الخيبة.
فجعت همس حين علمت أن أمها تسعى لقتلها، تلك التي أنجبتها، تبغي
قتلها يا للهول.
ارتدت الأم ثوباً بدا على جسدها كالكفن، زينته ببصمات خفاياها ومشت
في طريق قتلها.
حاولت الموجودات، الأشياء، الحجارة، التراب، الدقائق، إبعادها عن
تنفيذ القتل. وصرخت العجوز بغضب:
-لا..
زمجرت الطبيعة وهبت ريح غريبة، لكن الخيانة كانت الأقوى بعد أن
تملكتها فلم تستجب.
لون همس يشبه القهوة حولته إلى لون الدم. داست فوق قلبها وتقافزت
جنيات حقدها متراقصة فوق الجسد.
صرخت همس:
-ياأماه... يا أماه...
قالت الأم:
-إنتهت لعبتك أيتها الفاجرة.
رددت الطبيعة ما قالته العجوز.
-الخيانة... الخيانة.
حلق جسدها في سماء زرقاء. أمسى نجمة بعيدة تروي حكايتها كل مساء
لزوار من البشر يعرفون الحقيقة.
عزفت الدنيا لحن حزنها وغصت الحناجر وتجمدت الدموع في الأحداق.
قالت العجوز:
-ألم أقل لكم أيها البشر.
بكت النجمة. دفنت وجهها في صدر العجوز، رحلت معها صوب البحر، صنعت
الأم همساً أخرى من الوهم علمتها فن تعدد الوجوه، تحويل الورود إلى خناجر
تطعن ضحكات الأطفال، ظهور الأحلام، تفاصيل الأيام العادية.
فغابت رائحة الزعتر النقي الذي أنجبته غابات الغار من أعالي الجبال.
كانت العجوز تجلس القرفصاء وتتابع ما يجري لكنها لم تفكر مرة
بمداعبة الشعر الأسود القصير المزيف لأنها تعرف الحقيقة جيداً.
سخرت ا"لأم لهمسها المصطنعة كل الوسائل كي تظهرها، تحدثت عنها أجهزة
البث، الأقمار، وكالات الأنباء، الشاشات الملونة، أخذت صورتها مساحات لا
بأس بها في الصحف. الإعلانات، كتبت عنها قصائد شعر مستهلكة ثم احتفلت الأم
بعيد انتصارها. قتل، أحلام مخدوعة، كذب، ثمة طفل مذبوح، فوهات بنادق، أحذية
رصاصية، قلاع، حواجز، أمهات يذبحن، كانت همس لا تحب هذه الممارسات.
ودموع العشاق لا تجدي حين ينقلب ازدحام الصباح إلى حوارات من البؤس.
ويصبح قمر المساء قطعة مذبوحة من أجساد الرجال الذين عرقوا كي
يعيشوا مع الهمس الربيعي القادم إليهم من صفاء الينابيع وتحليق النسور.
لم ترحل العاشقة التي نسجت من زهور الزمن. هنا كتبت، هنا أزهرت
الجدران همسات من الحب لتعيد ترتيب الفصول وموسيقا الضفادع ووجه حارس حقل
الخس.
كانت رائحتها تتغلغل في خلايا البلاد تلامس كل هواء، لم تمت، نهضت،
نقلها البحر نقية أزهرت شجرة الياسمين التي تتوسط طريق المساء. ضحكت العجوز
حين عادت إلى الحديقة ممراتها. ضحكت همس حين قال حبيبها.
-ماذا لو صرخنا وسط هذا الزحام؟ والرجال يعانقون الصباح ومعهم
زوادتهم وشموخهم...
1988
|