أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: عبد الباقي يوسف

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

مواليد مدينة الحسكة 1964
روائي وقاص سوري
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو جمعية القصة والرواية السورية

الإصدارات:
1 -  سيمفونية الصمت - قصص - دار المجد - دمشـق 1989
2-  الحب في دائرة العبث - قصص - دار المجد - دمشق  1991
3-  طقوس الذكرى -  قصص -  مجلة الثقافة - دمشق 1992
4-  برويـــن - روايـة - مركز رام - دمشق - 1997
5 - ديـــــن - روايـة - دار الينابيع - دمشق 2004
6 - جسد وجســد - روايـة - دار الينابيع - دمشق 2004
7 - كتاب الحب والخطيئة - قصص - مركز الإنماء الحضاري - حلب 2004
8 - فقــــــه المعرفــــــة - في جزأين - دار المنارة - دمشق - بيروت 2004
9 - فقـه المعرفــــة - الجزء الثالث / إسلام ومسلمون وفقهاء / - دار رضوان - حلب 2004 

الجوائز:
-جائزة / المبدعون / للرواية العربية في الإمارات عام ‏2002‏‏‏
-جائزة نادي الطائف الأدبي للقصة القصيرة  2003
-جائزة نادي حائل الأدبي للقصة القصيرة 2003
-جائزة ناجي نعمان الأدبية في لبنان 2004
-جائزة نادي الفجر لأفضل عمل قصصي في الأردن 2004

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

محطات من حياة خورشيدة

القطة التي أكلت صاحبها

رجال ونساء 

 

رجال ونساء

 

منذ شهر يلح مُكري , صاحب محل لبيع الخضار بالجملة على صديق طفولته زهران , الموظف في مديرية التموين ليلبي دعوته العائلية  على العشاء0 حدث هذا عندما راح زهران إلى سوق الخضار لشراء كيس من البصل اليابس بعد أن كررت زوجته سوسنة , الموظفة في مكتب الكاتب بالعدل مطلبها المنزلي هذا عليه خمس مرات خلال خمسة أيام متتالية 0 وفي كل مرة يعود بعد انتهاء الدوام إلى البيت منهكا وقد نسي أمر البصل , وعندما تنفعل سوسنة وتمتنع من تقديم الغذاء له يداعبها ببسمة مصطنعة قائلا وقد وضع فمه على خدها طابعا قبلة باردة : ياسوسنتي , المشكلة أنك لاتذهبين عن بالي لحظة واحدة ليحل البصل المسكين في بالي  0 فتبتسم وتدعوه  إلى الغذاء قائلة بدلال : ماعاش البصل اللي  يزيح سوسنة عن بالك ليحل مكانها 0 لكنها بعد الغذاء وفي أثناء تناول الشاي تعود فتذكّره بكيس البصل قائلة  : يارجل , منذ شهر وأنا أشتهي الشامبورك ولكن لاتوجد بصلة واحدة في البيت , هل هناك بيت في العالم يبقى بدون بصل لشهر كامل 0 في الليل  لبثت سوسنة مستيقظة تبحث عن فكرة تجعله يتذكر البصل وبنفس الوقت تبقى هي في باله وقد وصلت إلى الفكرة عند الساعة الثالثة والنصف صباحا , وحتى لاتنساها قامت من فراشها ودونتها على قصاصة صغيرة وعادت إلى الفراش  غارقة في النوم لم تستيقظ إلا على أصوات أولادها وهم ييقظونها لتذهب إلى وظيفتها ويهمون بالخروج إلى مدارسهم  0 نظرت إلى الساعة وكانت قد تجاوزت السابعة والنصف بقليل 0 سألت عن أبيهم فقالوا بأنه خرج إلى وظيفته , وللتو تذكرت أنها سهرت إلى وقت متأخر وتذكرت الفكرة التي دونتها على القصاصة من أجل كيس البصل 0 خرج الأولاد ونهضت مسرعة , تمتمت لنفسها بأنها ستفطر في المكتب الفطائر الساخنة مع الشاي  , سترسل المستخدم  عَمْري إلى المخبز وعندما يعود تعطيه فطيرتين قائلة له : خذ يا عُمري  متقصدة أن تضمم العين المفتوحة حتى يبتسم عَمري وهو يقول : شكرا يامدام , متناولا الفطيرتين من يدها ويذهب ليحضر لها إبريق الشاي  0 خرجت سوسنة إلى الشارع وهي تعرف بأنها تأخرت عن موعد وصول الباص الذي يأخذ الموظفات إلى قصر العدل 0 أشارت لسيارة تكسي وطلبت أن يأخذها إلى مديرية التموين بدلا عن قصر العدل , فهي مصرة أن يجلب زهران البصل وقد حملت الفكرة التي توصلت إ ليها في حقيبتها 0  دخلت عليه في مكتبه ولم يكن غيره في المكتب فقال : ما أتى بك ياسوسنة 00 خير  !!

مدت يدها إلى حقيبتها وأخرجت لصقة جروح كتبت عليها / بصل / وسحبت إبهامه الأيسر , لم تفسح له مجالا غير أن يستجيب وهي تلصق اللصقة على إبهامه وتهم بالخروج لأنها تأخرت عن وظيفتها 0 عندذاك قال : اللصقة تكفي لأتذكر , سوف أشطب كلمة / بصل / 0 قالت : لاياحبيبي , حتى لايكون هناك وقت تتذكر ولو لحظة واحدة عن سبب وضع هذه اللصقة , عندما تنظر ستقرأ ولاتحتاج إلى تفكير  0 فقال  : يالك من امرأة ذكية ياغاليتي ,  ودنا إليها ليأخذ قبلة , لكنها خرجت وهي تقول : نحن في دائرة حكومية يارجل , ألا بيت لدينا  0

عند الساعة الثانية خرج زهران من الدائرة واضعا يده في جيبه حتى لايرى أحد كلمة / بصل / المكتوبة على اللصقة واتجه على الفور إلى محل لبيع البصل بالجملة , وعندما توقف أمام المحل وأدرك بأنه لن ينسى أن يشتري البصل  خلع اللصقة , جعلها مثل حبة عدس وقذفها 0

نظر إلى أكياس البصل المتراكمة على بعضها نظرة سريعة وقد أعجبه شكلها , ألقى نظرة إلى صاحب المحل الذي يقف أمام / قبّان / حديدي ضخم يزن بعض الأكياس لأشخاص يقفون جواره وقد وضع خلف أذنه قلم رصاص  0 وكالوميض تذكر بأنه لابد يعرف هذا الرجل , هذه الملامح قريبة إليه , وحتى الصوت مازال محافظا على بعض نبراته 0 لكنه تجاهل ذلك ومد يده يتلمس حبات البصل الحمراء الصغيرة في إحدى الأكياس /  لمسة شراء /  كما يقول البائعون وليس لمسة تضييع وقت 0 وعندذاك دنا إليه صاحب المحل وقد فرغ من الرجلين قائلا وهو يمعن النظر إليه : عفوا أستاذ , هل لي أن أعرف اسمك بلا صغرة  0

بادله زهران النظر وعاد يتذكر بأنه لابد يعرف هذا الشخص وأجاب : نعم , ولكن لِمَ تسأل ؟

قال الرجل : لأن هذه الملامح تذكرني باسم يعود إلى ثلاثين سنة ماضية 0

فتأكد زهران بأنه كان يعرف هذا الشخص حقا , بيد أنه قد نسي التفاصيل , وأصبحت لديه رغبة في أن يتذكر  ذاك الماضي الذي قد نسيه , أو يذكّره به هذا الشخص  وقبل أن يحدث ذلك أشرق ذاك الماضي في ذاكرته في لحظة وهو ينظر في الشخص , ثم مالبث أن صافحه قائلا : هو أنا ياصديقي , ألست مُكري الذي كان يأتي إلى بيت خاله شهاب الدين  في حارتنا  منذ ثلاثين سنة  ؟! ومن جديد تباوسا ودعاه مُـكري للجلوس في المحل محتفيا به إلى درجة أنه أشار لزبون أن يذهب إلى المحل المجاور لشراء البصل لأنه مشغول 0 رفع سماعة الهاتف وطلب ركوة قهوة  , ثم قال : القهوة وحدها لاتكفي 00 ستأتي معي إلى الغذاء  0

قال زهران وهو يشكره معتذرا لأن الأولاد ينتظرونه ولن يتناولوا شيئا قبل أن يكون معهم على مائدة الغذاء 0 عندها قال مكري : ماشاء الله ياصديقي 00 وكم ولد لديك ؟

أجاب زهران : ثلاثة أولاد  0

قال مكري : رغم هذا فإنني لن أتركك قبل أن تعدني بأنك ستقبل دعوتي لك وللمدام على العشاء في أقرب وقت 

قال زهران :  أعدك ياصديقي بأننا سنلبي هذه الدعوة 

قال مكري :  لكن لم تقل لي أين أصبحت الآن , ماهو عملك  ؟  

قال : موظف في مديرية التموين

عندها قال مكري :  أنا تزوجت متأخرا 00 لا أولاد لدي لكن زوجتي حامل في الشهر السادس , ودوما أقول لنفسي : ليتني بقيت عازبا  0

قال زهران بدهشة : لِم تقول ذلك ياصديقي 00 ألست سعيدا في زواجك  ؟

- سعيد  ,, وأطلق ضحكة ساخرة ,, سعيد  , وهل يوجد على وجه الأرض رجل سعيد مع امرأة  0

-  ضحك زهران محاولا أن يخفف عن صديقه قائلا بشيء من السخرية : اسمح لي أن أدافع عن المرأة ياصديقي وأقول : هل توجد امرأة على وجه الأرض سعيدة مع رجل  0

التفت إليه مُـكري هازا رأسه علامة بالاستغراب  : وما تقصد يازهران  ؟

قال بسرعة : أقصد , هل الإنسان سعيد ومنسجم كل الانسجام مع نفسه حتى يكون سعيدا ومنسجما مع غيره  0 من قال لك ياصديقي بأن الحياة لاتستمر بين الزوجين إلا إذا كانا سعيدين ومنسجمين 00 حتى اللحظة الأخيرة يبقى الزوجان يتعرفان على طباع وخصال جديدة في بعضهما , أتعرف لماذا  ؟

قال زهران وهويصغي إلى صديقه  : لماذا  ؟

قال : لأنه حتى اللحظة الأخيرة يبقى الإنسان يكتشف في نفسه طباعا وخصالا جديدة لم يكن يعرفها في نفسه  من قبل  0

قال مُكري  : المشكلة أن زوجتي تتدخل في كل شيء وتفسده علي , تتدخل حتى في حلاقة ذقني , تصور أنها تقول  : أنت ذاهب إلى سوق الخضار يامـُكري 00 لمن ستحلق ذقنك , أم أنك تحلقه لأكياس البصل  0 وعندما أطلب منها أن تلمع حذائي , تقول :  هل أنت مدير دائرة , يارجل أنت ذاهب إلى سوق الخضار المليء بالوحول  0 حتى أنها فرضت علي أن أتوقف عن صبغة شعري  , تقول : كنت تصبغ شعرك لتبدو فتيا حتى تتزوج , الآن وقد أكرمك الله بزوجة مثلي ,  لِمَ تصبغ شعرك  , هذا بدل أن تفكر بالبيت وبمستقبل الأولاد الذين سيأتون  0 إذا كان شعرك أبيضا أو أسودا ما الذي سيتغير بك , أم أن هناك من تصبغ شعرك لها لتراك صبيا  0 أقسم لك ياصديقي لوأنها رأت وسيلة صغيرة لرفعت الهاتف من المحل , ولاأخفيك بأنني أفكر أن أرفعه لأنه أصبح مصدر إزعاج لي , بين ساعة وأخرى تجري اتصالا لتتأكد بأنني في المحل , وإن كان الهاتف مشغولا لبضع دقائق في تلك الليلة نتشاجر حتى تطلع الشمس  0 ألم أقل لك  بأن أكبر خطأ ارتكبته في حياتي هو أنني تزوجت   0

قال زهران  : لست أنت الوحيد ياصديقي , كلنا سواء  , لقد مضى الوقت وأعدك بأننا عندما نأتي لدعوتك سوف نتحدث في هذا الأمر 0

أدرك مكري بأنه يود الذهاب  فنهض وأومأ لبيكاب أجرة كان يقف بالقرب من المحل وطلب من السائق أن يحمل كيسا من البصل ويضعه في صندوق البيكاب  0 وعندما فعل همس للسائق ألا يأخذ من الأستاذ الأجرة وعندما يعود سوف يعطيه 0 والتفت إلى صديقه قائلا : ولله لو لا انتظار الأولاد لك لما تركتك في هذا الوقت قبل أن نتغذى معا 0

ودعاه ليركب السيارة 0 فمد زهران يده إلى جيبه , بيد أن صديقه سارع في دفع يده ومنعها من الخروج من الجيب وهو يقول : يارجل منذ ثلاثين سنة لم نلتق وتريد أن تدفع قيمة كيس بصل  , ياعيب الشوم   0

لكن زهران بدا أكثر إصرارا على الدفع قائلا بحسم : والله يا مُكري إن لم تأخذ لن أركب السيارة  0 عندها فقط مد مكري يده وهو يسحب ورقة نقدية من فئة صغيرة لاتساوي إلا أقل من نصف قيمة كيس البصل وأقسم بأنه لن يأخذ غيرها 0 فشكره زهران  ومرة أخرى تباوسا على أمل اليوم الموعود 0

بعد عشرة أيام اتصل مكري بصديقه مذكرا إياه بالدعوة فقال زهران بأن أشغاله المتراكمة لم تسمح له خلال الأيام الماضية , ولكن لابد أنه سوف  يرى أمسية قريبة سيطرق فيها بابه  0 ومضى أسبوعان  فعاد مكري واتصل به هذه المرة في الدائرة مذكرا إياه بالعزيمة وعندها اتفقا على هذا الموعد المناسب 0

كانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساء عندما خرج زهران وزوجته سوسنة من البيت واتجها إلى بيت مُكري الذي كان على أهبة الاستعداد مع زوجته لاستقبالهما 0 اتجها إلى سوق المدينة واختارا هدية لهذه المناسبة وكانت عبارة عن مزهرية ولوحة 0 عند السابعة والنصف كانا يطرقان باب مكري الذي استقبلهما بحفاوة مع زوجته سُهدية وقد تباوست الزوجتان وكأنهما على علاقة متينة مع بعضهما البعض  0 تحلقوا جميعا حول مائدة العشاء العامرة بالطعام والشراب  وبعد ذلك قالت سهدية بأنه تريد أن تري صديقتها ألبوم الصور , وكانت فرصة ليختلي زهران بصديقه ويكمل له حديثهما السابق في المحل  0 عندئذ قال مكري : كنت أريد أن أقول لك وقد نسيت : هل زوجتك أيضا تتدخل وتفسد عليك حياتك ؟

قال زهران  : يا أخي إنهن من نفس الطينة , لكن لي فلسفتي الخاصة التي تجعلني أتجنب معها الانفعال , أو لأقل أتجنب معها تبادل الحديث العميق 0 وأقول لنفسي : لتقل ماتقل يازهران 00 عقلهن صغير  0

قال مكري : ما الذي تقوله يا زهران

قال : كما تسمع يا مكري , إن أردت أن تكون هادئا في بيتك لاتناقشها ودع لها الحبل على الغارب في الحديث , لتقل ماتشاء وسترى بأن كل شيء سينتهي على خير 0 هناك أشياء ياصديقي تستمد اكتمالها من مقدار الاعوجاج الذي بها وتكون ناقصة كلما نقص الاعوجاج 00 اصغ إلي جيدا , أما عندما تأتي وتريد أن تعدل ذاك الاعوجاج فيها ستخرجها عن كمالها وسوف تراها تتحطم بين يديك أو كما يقول المثل بأنه أعماها وقد جاء ليكحلها 0 ألا يأخذ الهلال كماله من مقدار ما به من اعوجاج , إنه يبدو مكتملا وجميلا وهو مقوس أكثر مما لو كان مستقيما , وإذا أردت أن تجعله مستقيما ألا تخرجه عن جماليته وخصوصيته الهلالية 0 ومد يده إلى أذن صديقه مداعبا إياه : تذكر دوما ما أسداه لك صديقك زهران من نصح وسوف ينتهي كل شجار على خير  0

عادت الزوجتان تحملان طبقا من الفاكهة فاجتمعوا مرة أخرى على سفرة الفاكهة فقالت سهدية لزوجها : ليتك تتعلم يامكري من زهران , منذ ساعة وسوسنة تمدح لي بعقله الكبير , تقول لي : إن مايميز زوجي من بين كل رجال العالم هو عقله الكبير , ودوما أقول لنفسي : كم أنت محظوظة ياسوسنة بعقل زوجك الكبير 0 أما أنت يا مكري كأنك تنتظر مني كلمة لتستفزني وتفسد علي يومي 0

قال مكري وقد انتفض واقفا على قدميه : أنا أفسد عليك أيامك أم أنت التي أفسدت علي كل حياتي  0

وقالت سهدية متجهة بكلامها للضيفين  : هذا الرجل الذي يقف أمامكما يسبب لي آلاما لم أعد أحتملها , إنه يخطئ ويريد أن أبارك له هذا الخطأ , أحينا يتصرف كما لو أنه طفل صغير فأقول لنفسي : هل تزوجت طفلا أم تزوجت رجلا متزنا 0

فقال مكري وقد تصاعد الانفعال إلى سحنته وصوته معا : أنا طفل ياناقصة العقل

نهضت الزوجة واقفة على قدميها وقالت بانفعال : ماشاء الله 00 إنها عبارة جديدة / ناقصة العقل : ومن علمك إياها 00 أنا ناقصة عقل ياناقص العقل 0

عندها تدخل زهران مهدئا صديقه: يامكري تذكّـر 00

صوبت سهدية نظرة إليه قائلة: واي شيء يتذكر

استدرك زهران نفسه وقال: يتذكر بأنه يحبك وأنك أثمن شيء لديه في العالم , عندها سيقع صوتك على أذنه أرق من صوت العندليب  0 وعاد ملتفتا إلى صديقه قائلا له: مشكلتك يامكري أنك لاتتذكر  

وأردفت سهدية: أجل إنه الرجل الحق الذي تهنأ به زوجته , والتفتت إلى سوسنة قائلة لها : هنيئا لك يا أختي بهذا الرجل الذي دوما يتذكر ولاينسى 

قال مكري: لقد أفسدت علي حتى جلوسي مع ضيفَي 

قالت : مادمت مصرا على عنادك , يكفي , أجل يكفي لن نعيش معا بعد الآن , طلقني في هذه اللحظة , أنا لست زوجتك وأنت لست زوجي لتكن كلبا إن لم تطلقني في هذه اللحظة  

فقال مكري بانفعال: أجل لأكن كلبا إن لم أطلقك في هذه اللحظة يا سهدية , أنت طالق , لست زوجتي ولست زوجك بعد هذه اللحظة 

عندها خرجت سهدية من البيت متجهة إلى بيت أهلها فنظر زهران إلى صديقه وقال : هذه هي مشكلتك الوحيدة ياصديقي , أنك تنسى أن تتذكر  ثم أمسك بيد زوجته وخرجا , فقالت له زوجته وهي تتأبط ذراعه  : هنيئا لي بعقلك الكبير يازوجي , إني لأرجو أن يحفظ لك الله عقلك الكبير هذا 

بعد ثلاثة أسابيع اتصل مكري بصديقه وقال بأنه سيزوره في البيت مساء لأمر غاية في الأهمية , حضر إليه مساء وهو في حال يرثى لها  , رفض أن يتناول أي شيء وهو يقول  : لم أكن أعلم بأنها ستترك كل هذا الفراغ في البيت , سوف تقتلني الوحدة ياصديقي , أرجوك أن تأتي معي إلى مفتي لعله يرى لي فتوى تعيد زوجتي إلي لأنني لم أكن في تمام قواي العقلية حينذاك 00 أجل لقد كنت ناقص عقل  0 

 

 

 

القطة التي أكلت صاحبها

 

كم قلت له أن نعود ، كم ألححت عليه ، بيد أنه أصر على أن نكمل رحلتنا وألا ندع لقطة أن تفسدها علينا . قطة البيت التي نسي أن يُخرجها من غرفة النوم قبل أن يغلق الباب لننطلق في رحلتنا التي خصصنا لها عشرة أيام خارج البلاد .

كانت الساعة قد بلغت العاشرة ليلا عندما تذكّر أمر القطة ، وكان ثمة متسع من الوقت لنعود ونفك أسرها . قال بغتة والباص ينطلق بنا  بسرعة فائقة من هذه المدينة النائية نحو العاصمة التي سننطلق من مطارها إلى خارج البلاد : أتعرف بأنني نسيت أن أ ُخرج قطة البيت من  غرفة النوم ، أجل نسيت ، الآن تذكرت بأنها دخلت غرفة النوم عندما كنت أعد ثيابي في الحقيبة ، لمحت القطة تلحقني وتموء وكأنها علمت بسفري لتذكرني بأن علي أن أخرجها من البيت قبل أن أخرج وأغلق الأبواب عليها . قلت في نفسي وأنا أعد الثياب : أجل ، أجل سوف أضعها في بيت الجيران ريثما أعود ، لو لم ترني نفسها الآن لكنت نسيتها في البيت ، حسنا فـَعلـَتْ . ولكن هذا الذي حدث ، لقد نسيتها وخرجت مسرعا عندما طرقت أنت الباب ، لقد أقفلت حتى غرفة النوم التي لحقتني إليها . ليتها بقيت في المطبخ لأنها هناك كانت ستجد بعض الماء والطعام ، أجل هناك رز ، وبرغل ، ومعكرونة ، وبصل يابس ، وثوم ، وتوابل ، وبعض المياه المتبقية في الأحواض وأرضية الحمام يمكن لها أن تستخدم ذلك إذا ساءت بها الأحوال .

قلت : بدل أن تقول لي كل هذا يا راجح يمكن لنا أن نوقف الباص الآن وننتظر على الطريق أي باص عائد ، فيعيدنا إلى البيت ، نطلق سراح تلك المسكينة وننطلق من جديد في رحلتنا .. هه ما رأيك .

قال : يارجل ماذا تقول ، لقد حجزنا في الطائرة ورتبنا أمورنا على الموعد ، لم أصدق بأننا ابتعدنا قليلا عن المدينة التي أشعر بحاجة نفسية للابتعاد عنها لبضعة أيام ، ألا تدري أن فكرتك هذه ربما  تستغرق يوما كاملا يمكن أن يؤخرنا عن موعد إقلاع الطائرة التي حجزنا فيها ، هذا إذا حُظينا بباص يقف في هذا الليل ليعيدنا إلى الكراج ، مضت ساعة واحدة على انطلاقنا وأمامنا نحو سبع ساعات حتى نصل العاصمة ، لاتنس بأننا حجزنا في هذا الباص منذ يومين ، وهل تظن بأننا سنرى باصا جاهزا إذا عدنا .

قلت : ما يهمني قبل هذا كله ياراجح هو أن ننقذ حياة تلك المسكينةالتي سوف تموت ببطء ونحن نفرح ونمرح في رحلتنا ، سوف تدفع ضريبة رفاهيتنا وانطلاقنا بالجوع والعطش والحبس .

قال راجح وهو يربت على كتفي بلطف : انس ياصديقي انس ، كم من أمور ليس لها دواء غير أن ننساها . 

عشرة أيام ، أجل عشرة أيام سنمضيها في نزهات وسباحة ومتاع وأجواء جديدة في هذا الصيف بالغ الحرارة . منذ شهرين اتفقنا على هذه الرحلة الثنائية عندما شعرنا بضجر روتين الحياة والعمل وقلنا بأننا نحتاج إلى بعض التغيير ، وبالنسبة لي فأعتبر ذلك نوعا من العلاج لأنني في الأيام الماضية تعرضت لألم حاد في المعدة والأمعاء ونصحني الطبيب بأن أسافر بضعة أيام لأن علاقة المعدة هي علاقة  مباشرة مع المزاج العام والحالة النفسية ، والراحة النفسية وهدوء الأعصاب يلعبان دورا أكثر فاعلية من أي دواء ، وقال بأنني لاأحتاج حتى إلى حمية إذا قررت السفر . وصدقت كلامه الذي بدا واثقا منه وترك في نفسي أثرا به ، وعلى إثر ذلك رتبت أموري ولم يخطر ببالي أن أشرك أحدا معي في هذا السفر ، لكن صديقي راجح عندما علم بذلك صدفة قال بأنه هو الآخر يشعر بحاجة للخروج من الروتين اليومي الممل الذي يرزخ تحته منذ ثلاث سنوات دون أن يخرج حتى من المدينة .

حجزنا في الطائرة من خلال مكتب الطيران الموجود في المدينة وأصبح الأمر واقعا . وهاهو الواقع يأخذ مساره ، فقد وصلنا العاصمة التي  بدت لي أنني أراها أول مرة ، ، استرحنا في الفندق حتى موعد إقلاع الطائرة ، ثم اتجهنا إلى المطار لننطلق في رحلتنا . لكن رغم كل هذا الواقع الذي بدأ يبعدنا عن البيت والبلاد معا ما أزال أشعر بحالة من الإثم نحو تلك القطة المسكينة التي لابد أنها ستقضي جوعا وعطشا وربما اختناقا من شدة الحرارة في تلك الحجرة المغلقة ، والأمر الذي بدأ يسبب إزعاجا مباشرا لي ولراجح هو أننا كلما نتناول طعاما شهيا أو شرابا منعشا فإن صورة القطة ترتسم على المائدة وهي تموء وتذرف الدموع ، وكلما تع أنظارنا على قطة في مكان ما أو حتى في التلفاز فإن قططتنا تأتي بكل حضورها وتموء مواء كسيرا ذارفة دموع الألم والاختناق  والجوع  ، بل أحيانا وهي تلتهم الفراش جوعا ، وتخبط على الباب بكل بقايا  الحياة لديها ، وتموء بصوت مرتفع ، تخربش على الحيطان في محاولة لإسماع مَنْ يمكن أن يسمعها ويأتي ليفك عنها الأسر .

مضت الأيام العشرة التي لم نشعر فيها بالانطلاقة الكاملة التي خططنا لها ، لأننا لم نستطع أن نتخلص من شبح القطة التي كانت تعيدنا إلى تلك الأجواء التي ابتعدنا عنها ، القطة التي حجزنا حريتها في تلك الحجرة المغلقة ، وأفسدت علنا حريتنا في هذه الفسحة الشاسعة .

 

وعدنا في اليوم الأخير ، ربما لالنعود بقدر مانرى ما آلت إليه حال قطتنا ، وعندذاك كانت لدي رغبة غريبة بأن أذهب مع راجح إلى بيته قبل أن أتجه إلى بيتي لأرى القطة رغم أننا وصلنا في الثانية عشرة ليلا .

ولجنا البيت ، وعلى الفور اتجه راجح إلى غرفة النوم مادا إليها المفتاح  بسرعة فائقة ، ولا أدري مالذي بالضبط حدث غير صراخا  هائلا  لايشبه المواء  صدر من ذاك الحيوان الذي اندفع بكل قوة وشراسة إلى عنق راجح الذي لم يملك غير أن يسقط من طوله على الأرض ويقاوم بكل ما يملك من وسائل المقاومة ، انتابني الهلع وتجحظت عيناي من هول الصدمة وأنا أرى القطة تفترس عنق ووجه صديقي وهو يقاوم ويصرخ بدون أي جدوى ، والقطة تنهش من لحمه بتوحش لم أره في حيوان قط . صرختُ بأعلى صوتي في الجوار الذين دخلوا مذعورين ليروا ما يحدث دون أن يجسر أحد منا  أن يدنو من ذاك المنظر المتوحش الذي يحدث أمامنا . أحد الجوار غاب قليلا وأحضر مسدسا ، بيد أن البعض منعه من إطلاق النار خشية أن يصيب العيار جسد راجح ، وأصبحنا على قناعة أن أي واحد منا لو خطا خطوة واحدة سوف يلقى مصير راجح من تلك القطة التي فقدت كل ذرة من ذرات الألفة وتحولت إلى حيوان متوحش ، ربما إلى أكثر حيوانات العالم توحشا ورعبا وشراسة .

ولم يبق أمامنا سوى أن نقوم بمحاولات بسيطة مثل رشها بالماء الغزير من بعيد ، وقذفها ببعض آثاث البيت ، بيد أن ذلك لم يمنعها من مواصلة الافتراس حتى فقد راجح كل حركة واستسلم لأنيابها ، وعنئذ وقفت القطة بأنيابها المدماة وهي تقف على صدره وتلعق لسانها بشفتيها وترمق وجهه الذي خرج عن إطار الوجه البشري  بنظرات غريبة ، ثم ترفع رأسها وتصوب إلينا نظرات لم تشبه نظرات أي قطة أو أي حيوان رأيناه من قبل ، وهذا ما أبقانا في وجل من أمرنا نحوها ، فما الذي ستفعله بعد ذلك ونحن نتوجه إليها بنظراتنا المريبة والحذرة وسط صمت دموي خيم على المكان بعد كل ذاك الضجيج الهائل . لكنها نزلت من صدر الرجل المسجىعلى ظهره دون حراك ، لم تنط كما تفعل القطط ، بل مدّت خطوات هادئة وشديدة البطء بثقة بالغة ففسحنا لها المجال لتخرج ونحن في دهشة من أمرنا . قبل أن تخرج من باب البيت ، وقفت هنيهة التفتت فيها إلى الرجل ، رمقته بنظرة أخرى ثم خرجت ونحن ننظر إليها حتى توارت عن أنظارنا في قلب العتمة .

هرعنا إلى راجح الذي كان قد فقد أي حركة ، وأي نبضة ، حملناه إلى أقرب مشفى رغم معرفتنا بأننا نحمل جثة خرجت منها الحياة ، وهذا ما تأكدنا منه مجددا هناك .

مع بدء طلوع الضوء عدت إلى بيتي ، وعندما أخرجت المفتاح لأمده إلى فتح الباب انتابتني رهبة وأنا أتخيل بأنني ربما - دون علم -  قد أغلقت الباب على قطة دخلت البيت خلسة .

اتصلت من عند الجوار بالنجدة التي أتت ، فدخل رجلان وقد تجهزا تماما لأي طارئ ، فتشا البيت غرفة غرفة وركنا ركنا وخرجا وهما يقولان لي : لاشيء من ذاك القبيل أستاذ ، يمكنك الدخول باطمئنان إلى منزلك .

 

 

 

محطات من حياة خورشيدة  

 

لم أكن أصدق أن هناك علاقة حميمة تجمع بين أي زوجين في العالم كتلك التي تجمع بين أبوَي , وليست لدي أمنية مثل أمنيتي أن يكون الطالب يدي للزواج يكن لي المحبة التي يكنها أبي لأمي , وكثيرا ما رددت بيني وبين نفسي : أمي محظوظة بحب أبي الكبير لها 0

ولذلك في الليلة الأخيرة من ليالي أمي في الحياة , لم أحس بأنني خسرت أمي فقط , بل خسرت معها أبي 0 مسحت خورشيدة دموعها وأردفت بنبرة مثقلة بالبكاء : خرج الطبيب الجراح من غرفة العمليات وأنبأنا بموتها 0 فقد أبي السيطرة بنفسه فأطلق صراخا مرعبا في ردهة المشفى وراح يخبط رأسه في جدار الغرفة التي قضت فيها أمي في المشفى الضخم , وأمام هذا المشهد المرعب , نسيت موت أمي وانشغلت بما آل إليه حال أبي , كان ينوح مثل طفل بكبرياء رجل  0 تغير لونه بشكل مفزع وبعد قليل نقله بعض ممرضين وممرضات إلى غرفة هادئة بعيدة عن الزحام ورائحة الأدوية 0 كانت الساعة قد شارفت  الحادية عشر ليلا عندما أنهينا تجهيزات نقلها إلى بيتنا بواسطة سيارة إسعاف المشفى , عندذاك صعد أبي الشاحب الذي لم تكن الدموع قد فارقت عينيه  ومضت بنا السيارة , لاأدري لماذا شعرت بأنها تحمل شخصين ميتين هما أمي وأبي , هذا الإحساس كان يدمرني والسيارة تمضي بنا إلى البيت , قبل وصولنا البيت أوقف أبي السيارة بصوت كأنه الأنين بجانب محل لبيع الكحول , تركنا لدقائق وعاد من المحل حاملا بيده كيسا تصدر منه أصوات ارتطام زجاجات ببعضها , وكانت هي المرة الأولى التي أرى فيها أبي يحمل كحولا إلى بيتنا وقد بلغتُ الثامنة عشرة من عمري  0 أنزلنا الجثة , وعند انصراف السيارة , قال أبي بأنه سيغلق باب غرفة نومهما على نفسه , ولايريد أن يعلم أحد بوجوده في البيت , وقبل أن أرد عليه نفذ ما قاله 0 بقيت ساهرة أنتحب على أمي المفقودة حتى طلوع الضوء , ولبث هو الآخر سهرانا يغرق في عالم الشرب 0 تصرفت بنفسي وبمساعدة الجوار في مراسيم الدفن وأنا أخبر كل من يسألني أن أبي غائب عن البيت 0 عند العصر كان قد انتهى كل شيء فبدأتُ أستقبل المعزين حتى التاسعة ليلا , عندذاك فرغ البيت وقد هدني الإرهاق , ولم يكن بوسعي النوم قبل الاطمئنان على أبي فطرقت عليه الباب وناديته بصوت خرج للتو من حنجرتي , فأجاب بأنه لن يخرج , ولكني استطعت  إقناعه بتناول شيء من طعام جلبه لي بعض جوارنا , عندها فقط فتح الباب بالكاد ليتناول الصحون , وفي أثناء فتحه اندفعت رائحة الكحول المخنوقة إلى الصالون وملأته , وبسرعة خاطفة تراجع وأغلق الباب على نفسه 0 بعد أسبوع من عزلته خرج لأول مرة من البيت دون أن يتكلم معي بحرف واحد , ورأيتها فرصة لأقوم بتنظيف غرفته التي بدت لاتطاق من الفوضى , ولكنها بقيت الغرفة الغالية التي ولدت فيها والتي تحمل كل ذكريات أبي وأمي  , إنها الغرفة الأكثر خصوصية بالنسبة إلي لذلك حرصت أن تبقى أنيقة وكأن أمي ماتزال فيها من خلال صورة الزفاف التي تجمعها بأبي والمعلقة على الحائط 0 قلت بأن أبي خرج وعسى أن يحمل هذا الخروج تغييرا لوضعه النفسي فيعود إلى عمله , لكنني فوجئت به يعود بعد ساعة بواسطة سيارة ويُدخل إلى الغرفة ثلاثة صناديق ضخمة من زجاجات , ويقفل الباب على نفسه 0 لم يكن بوسعي أن أفعل شيئا سوى أن أنتظر0 مضى شهر كامل دون أن يرى أبي وجه الشارع ووجه أحد ممن يزوروننا من أقرباء وجوار , وصرت أنفق مما كانت أمي ادخرته للطوارئ , وجر الشهر خلفه تسعة شهور من عزلة قاتلة يعيشها أبي وأعيشها معه لحظة بلحظة , إنه أبي , صاحب التضحيات الكبرى معي ومع أمي , لاأفكر للحظة واحدة أن أتركه , حتى فكرة الزواج من موسى الذي  يحبني وأحبه بدت بعيدة عني , فهل أتجاهل كل تلك المواقف الكبرى التي أوقفتني على قدمي وأقول لأبي أمام أول محنة : وداعا 0 لا لن أكون كذلك , ولا أفكر أن أكون كذلك 0إنه الواقع الذي قال بأنني  لم أعد أملك شيئا أنفقه , فقد نفذ كل ما كانت أمي ادخرته , ولكن رأيت أبي يخرج بين أيام وأخرى فيجلب الكحول وبعض طعام للبيت, وعلى الأغلب يجلب المعلبات والزيت والسكر والشاي والرز فيناولها لي ويعود إلى غرفته 0 كان أبي ينتهي , وكنت أنتهي , وكان البيت ينتهي , وأنا أتخيل منظر أبي قابعا بين الزجاجات المحطمة وأعقاب السجائر وبقايا الطعام , فهو كلما ينهي زجاجة يحطمها ويقضي كل حاجاته في الغرفة دون أن يسمح لي بالدخول ولا بالتنظيف ولا حتى بفتح النافذة إ لا إذا خرج ليجلب مايريد مرة أخرى 0 في هذه الأوضاع المأساوية زارني موسى في البيت  وكان على وشك أن يتقدم لخطبتي , ولكنني أخبرته بأن أوضاعي لاتسمح لي مجرد التفكير بأمر كهذا , فقال بأنه يشاركني حزني وكذلك لايفكر أن يتخلى عني في محنتي , وسوف ينتظر إلى أن تنتهي الأزمة 0 وهو شاب شفاف يعمل معلماوكيلا في القرى النائية  ويسكن في الحي المجاور لنا , وأرجو أن أتمكن من التعارف بينكم فقد بات يعرفك جيدا ياذكرى من حديثي الطويل عنك  0 أجل قلت له بأنني لاأفكر بشيء غير أبي فأنا ابنته الوحيدة التي يمكن لها أن تقدم إليه  شيئامن العزاء  في محنته , وهو الذي سبق له أن قدم كل شيء لي , سبق له أن قدم لي حياة كاملة  وقد عاهدني الرجل أن يبقى إلى جانبي في هذه المحنة ومستعد أن يمنحني راتبه شهريا , فكبر بعيني وأدركت حينها أنه الرجل الذي تُعقد عليه آمال عمر بأكمله , إنه الرجل الوفي الذي يكون أكثر قربا وقت الشدة , فشكرته على موقفه وقلت أنني لست بحاجة إلى مال رغم أنه قال بأنه سيمنحني على سبيل الاقتراض حتى يشفى والدي ويسدد له , فكررت بأنني لاأحتاج , ولم أصل مرحلة كهذه من الحاجة 0 كان يطرق علي الباب في الأسبوع مرتين عندما كان يعود من التعليم من تلك القرى البعيدة لأنه كان ينام هناك ولايأتي إلا يوم الجمعة , ولكنه من أجلي كان يأتي يومي الثلاثاء والجمعة حتى يراني ويسأل عن أبي 0 كان يجلس في الصالون نصف ساعة يشرب كأس شاي أو فنجان قهوة ويعود 0 في إحدى الأيام فوجئت بشخص يطرق بابنا ويسأل عن أبي الذي تراكمت عليه ديون الدكان , فعرفت للتو أن أبي يستقرض مايجلبه , وقلت للرجل أن أبي غير موجود وفور عودته مساء سأخبره 0 كان رجلا مهذبا فانصرف وهو يعتذر 0 بعد ذهابه بنحو ساعة طرقت الباب على أبي : هناك رجل يقول بأنه سمان يسأل عنك و يريدك أن تشرب فنجان قهوة لديه 0 فتح الباب وتركني أدخل , وعلى الفور فتحت النافذة وشرعت في التنظيف والتشطيف 0 أمضيت نحو ساعتين لا أتكلم معه حتى يدعني أكمل التنظيف وتنقية الغرفة لهذا الرجل الذي هوأغلى وأعز وأقرب كائن لدي 0 حتى في لحظات يريد اليأس أن يقترب فيها مني أردد بيني وبين نفسي : لكنه ذاك الذي حملني على كفيه في الثالثة صباحا عندما أصابني التسمم وأنا في السادسة من عمري , أخذني ركضا في تلك الليلة الشتائية الممطرة إلى المشفى الذي يبعد عن بيتنا ثلاث كيلو مترات 0 لكنه الرجل الذي كان يقوم بأعمال مضنية طوال النهار ليجلب لي علبة حليب عندما جف حليب أمي 0 الرجل الذي طالما مد يده إلى لقمة طيبة ليضعها في فمي 0 هل يمكن لي أن أتخلى عنه لمجرد محنة طرأت عليه , وعندها هل يمكن لي أن أخلص لأي شخص آخر لدى مروره بمحنة 0 بعد تفرغي من ترتيب الغرفة  وحواري مع نفسي بركت إلى جواره وطلبت منه أن يعود إلى عمله لينسى لأن الحياة لاتجمد أبدا أمام حدث ودوما تحمل مفاجآت جديدة وسارة خاصة بالنسبة لأولئك الذين فقدوا الأمل 0 عندئذ صوّّب إلي نظرة  زلزلت كياني وبذات الوقت أدخلتني إلى حالة غريبة رأيت معها صورة أمي ترتسم في داخلي , وتذكرت بأنني دون أن أدري اتبعت أسلوب أمي معه عندما كان يمر في أزمات مالية أو جسدية أو نفسية , واسترجعت ذاكرتي بنشاط تلك النظرة التي كان دوما ينظرها لأمي في أحوال متأزمة كهذه , ولا أدري لماذا رأيتني أنهض وأخرج من الغرفة مهرولة وكأنني أهرب من أنامل أشباح أرادت أن تخنقني , فوقفت أتأمل الشارع وأنا أستغفر الله 0 عدت إلى غرفتي وللتو تحسست مأساة الرجل الذي يعيش دون امرأة , وعلى الأخص كأبي الذي الذي عاش مع المرأة , وراودتني أفكار مخيفة شردت معها بفكرة الزواج لأول مرة بهذه القوة من الشاب الذي مايزال ينتظر شفاء أبي وموافقته 0 في اليوم التالي بدأ أبي يخرج إلى الصالون وهو مخمور وتلاحقني تلك النظرة التي باتت مصدر إستفزاز بالنسبة لي ولا أعرف كيف أعبر له كي لاينظرها إلي , لاأعرف أي شيطان تدخل ليوسوس لي بوساوس مفزعة , وكذلك تبعث على الإشمئزاز 0 فجأة جاء صوته وهو يناديني باسم أمي , أجفلني الإسم الذي ناداني به , لكنه عاد ليناديني به ثانية , فالتفتت إليه مبتسمة بكل ما في القلب من ألم : أنا  ابنتك خورشيدة  0 دنا إلي بذات الطريقة التي كان يدنو بها من أمي  , فسارعت الخطا إلى غرفتي وأقفلت الباب على نفسي وقد أصابتني حالة غريبة من الأنفاس المتقطعة مصطحبة بنوب غثيان كادت تهد معدتي , من الطرف الآخر كانت طرقاته العنيفة تقع كالبرق على حواسي وهو يردد با نفعال حاد بأنني أحرمه من حقوقه , وأنه لن يسامحني حتى شعرت بأن صوته انطفأ ولم تعد به نبرة واحدة , فعطفت عليه وانأ أتحسس وقوعه على الأرض مغميا , فتحت الباب وحملته بلطف , وأنا أتذكر مرة أخرى كيف حملني إلى المشفى وهو يركض بي تحت المطر في الثالثة صباحا , لقد كان يحمل أثمن شيء لديه , كان يحمل فلذة كبده , كما أنني أحمل الآن أثمن كائن لدي , أحمل من أتى بي إلى هذا العالم 0 أدخلته إلى غرفته , وصنعت له المليسة التي كانت تصنعها له أمي لتهدئ أعصابه بها , تمدد على فراشه وتناول كأس المليسة , وبعد ذلك صببت له كأسا أخرى لتغسل معدته من آثار الكحول , وعدني بكلمات هادئة بأنه لن يعود إلى الخمر ما دمت أرعاه وأهتم به وأعامله بلطف , وأخذ يحدثني بعبارات كان يقولها لأمي , يتصرف معي تصرفات كان يتصرفها مع أمي , وأصررت عليه من جديد بأنني لست أمي , وأنني لو أوهمته بذلك سأخرجه من حالة إلى أسوأ منها  , وهرعت إلى حجرتي 0 سمعته يحطم زجاجة بالحائط وعادت رائحة الكحول تفوح من حجرته بقوة 0 لبثت أرتعد في فراشي حتى دخل علي فجرا وهو يدفع الباب الذي لم يكن مقفولا ويناديني باسم أمي , لقد تحول هذا الرجل الوديع إلى كائن كحولي لايحتمل 0 لم يكن من أحد ليقف إلى جانبي غير عزيزة التي كانت تأتي بشكل متواصل لتطمئن علي , وقد شحبت المسكينة أكثر مني وكأنها هي التي تعاني الأزمة , في تلك الأيام عرفت كم هي امرأة نبيلة , وعرفت ان الإنسان الوفي يبقى وفيا في كل الظروف 0 قالت لي بأن والدي يحتاج إلى امرأة , ووجود امرأة لسوف يحل له هذه الأزمة 0 وقد طلبت مني أمرا لكنني رفضته بقوة , رفضته وأنا أكاد  أرفع يدي لأصفعها ,لكنها رغم عنفي لبثت مصرة على فكرتها , فذات صباح وقد كنت خارجة إلى الفرن لشراء الخبز وقد تركت الباب مفتوحا لأن عزيزة تأتي في أوقات مختلفة , عدت إلى البيت ولفت نظري أن الباب مقفول , تذكرت بأنني تركت المفاتيح قي القفل من الداخل عندما خرجت 0 وقبل أن أمد يدي لأطرق الباب  سمعت صوتها يهتف به : افتح , أنا عزيزة صديقة خورشيدة , ألست بحاجة إلى امرأة , سأهبك حاجتك , لدي قدرة لامتاعك , افتح , لاتكن عنيدا 0 وجاء صوته مجيبا عليها : لن أخون زوجتي حتى اليوم الأخير من عمري , لقد تعاهدنا على ذلك منذ ثلاثين سنة في اليوم الأول لزواجنا 0قالت وهي ماتزال تطرق بابه بخفوت ورجاء : لكنها الآن ماتت 0 أجاب  باستهزاء : أنت تهلوسين , التي ماتت هي خورشيدة وهي لاتريد أن تعترف بموت ابنتها الوحيدة 0

عندئذ طرقت الباب ففتحت عزيزة وقبلتني , استطعت في تلك اللحظة أن أتحكم بفوران دمي وأظهرت لها بأنني لم أسمع شيئا , لكنني بذات اللحظة كنت سعيدة لنقاء أبي ولمدى إخلاصه لأمي ورفعت رأسي إلى الأعلى قائلة في سري : يارب ارزقني برجل نقي كهذا 0  ما يزيدني  دهشة أنه جاد في حديثه لدرجة أنني في لحظات من جديته أردد في سري بكل جدية : هل أنا واهمة أم هو 00 هل أنا مريضة أم هو 00 هل يمكن أن خورشيدة ماتت وأنني لاأريد أن أصدق موت ابنتي الوحيدة  0 ورأيته يخرج في إحدى الصباحات  دون أن يقول لي إلى أين ولا أدري لماذا رأيتني أتصرف في البيت كما كانت تتصرف أمي , أخذت صيغتها إلى الصائغ وبعتها بكل ثقة وكأنني أبيع صيغتي , ذهبت إلى السمان , سددت له الديون المتراكمة على أبي وعدت إلى البيت حاملة ماينقص بيتنا من أغراض , انتظرته حتى المساء , لكنه لم يعد , قلقت عليه , ولاأعرف متى وكيف أخذتني الغفوة وقد تركت الباب مفتوحا كي يدخل , أفقت في الصباح دون أن أجده , تضاعف قلقي عليه , فأين بات ليلته , وخرجت أبحث عنه في سوق المدينة , خرجت وليتني لم أخرج , ليتني مت قبل أن أرى أبي في ذاك الموقف , كان ثملا يتقيأ على رصيف وسط المدينة والناس يلتمون حوله ويستهزئون به , ويبدو عليه أنه أمضى ليلته على ذاك الرصيف 0 نظرت إليه نظرة كما كانت تنظرها إليه أمي , لا أدري مالذي فعلته به تلك النظرة التي صوبتها إليه مرغمة وقد خرجت من عيني كما تخرج مني الروح , لكنها فعلت فعلها فأيقظته من ثمله لينهض وكأن شيئا لم يكن , كأنه لم يكن ذاك الذي كان قبل لحظات , ووسط ذهول الحضور ناداني باسم أمي فأمسكت بيده وعدنا إلى البيت , أعلمته بأنني بعت الصيغة وسددت ديونه 0 فقال بأن حكمتي دوما تأتي لتنقذه من أزماته 0 في المساء لم يبق أمامي إلا أن أقرر الخروج , وكان الخروج هو محاولة أخرى مني لأكون أكثر قربا من أبي , محاولة جديدة للعناية به والتضحية في سبيله , خرجت من البيت وكأنني أخرج منه لآخر مرة , وصراخ أمي يلاحقني بالخروج 0 تركت بيتي الذي ولدت وترعرعت فيه يوما يوما 00 ساعة ساعة 0 خرجت بعد منتصف الليل وأبي بأمس الحاجة إلى خروجي هذا , بأمس الحاجة إلى غيابي عنه رغم لهفتي ورغبتي الشديدة بالبقاء  0 آلمني أن أتزوج بهذه الطريقة  , ولكنني لم أجد غيرها في ضياعي , شرحت لنفسي  ولهذا الرجل الطيب الذي آلمه أيضا زواجه بهذه الطريقة مني , وكان يفكر أن يقيم حفلة عائلية حميمية لي ويقدم أقرباؤه إلي الهدايا , ونصوّر حفلتنا على شريط فيديو , ونمضي أسبوعا في مدينة جميلة , وكذلك كنت أحلم بوضع صورة لزفافي في غرفة نومي كما فعلت أمي 0 لقد ضحيت بكل شيء في سبيل ألا أخسر أبي وألا يخسرني , فسمعت نداء أمي التي نادت بالخروج وهي على كل ذاك الغياب مني 0 ومن للمرأة غير الرجل 00 هاأنذا أهرب من الرجل إلى الرجل , ولكن علي ألا أهتم بهذه القضايا الموجعة للرأس 00 علي أن أبحث عن مكان أعيش فيه بكرامة وأحافظ على اسم أمي واسم أبي 0 إن أبي يمر بظروف مرضية شديدة القسوة عليه وعلي , وما أستطيع أن أقدمه إليه في مرضه بغيابي لهو أكثر أهمية مما أستطيع أن أقدمه إليه بحضوري في محاولتي اليائسة الأخيرة 00 هذا آخر ما لدي لأقدمه لهذا الرجل الذي لاتنتهي أفضاله علي , لكنه في الليلة السادسة اقتحم بيتي الزوجي بعنف علي  واستطاع أن يجرجرني خلفه ويعيدني إليه بالقوة بعد أن فشلت كل محاولات زوجي وأهله بمنعه 0 أدخلني البيت وحطم رأسي بزجاجة و انهال علي يركلني بيديه وقدميه حتى فقدت الوعي وفقدت القدرة على احتمال الألم 0كانت كلماته الأخيرة التي سمعتها : أنت لي , لن يأخذك مخلوق  مني 0 لا أعرف كم كانت الساعة عندما أفقت , ولكن الليل يخيم , وحده البرد أيقظني , وأظن أن الحرارة كانت تحت الصفر , فقد كنت منطرحة على أرض الصالون كأنني ارتميت من سيارة , فتحت الباب وخرجت حافية أركض بين الصقيع حتى وصلت بيتي الزوجي , في ذاك الصقيع والليل خرجنا إلىالقرية التي يعلّم فيها زوجي  0لم أكن أعلم أنه يعاني هذه المعاناة حتى لايبقى عاطلا عن العمل , حتى يكون زوجا عاملا وليس زوجا عاطلا عن العمل 0 كانت القرية بعيدة عن المدينة وبعيدة عن الطريق العام , لاماء فيها ولا كهرباء ولا هاتف ولا طريق معبد  0 وكانت البيوت  كلها طينية بما فيها المدرسة والغرفة التي منحوها لنا 0 اعتدت على الحياة هناك رغم فكري الشارد بأبي , فكنت أحضر طريقة تعليم موسى للأولاد الذين كانوا نحو أربعين طالبا ابتدائيا من مختلف الصفوف المختلطة , راق لي العمل وصرت أعينه مع المعلمة التي كانت من سكان القرية , وكذلك المعلم الذي كان من المدينة , صرنا كعائلة واحدة 0في تلك القرية النائية 0 كانت الحياة هناك غاية في البساطة واستطعت أن أعيشها ثلاثة شهور متواصلة  دون رؤية المدينة , حتى جاء أحد أخوة زوجي ليخبرني أن أبي أصيب بحالة تسمم وأنه راقد في المشفى 0 خفت أن أفتقده قبل أن أراه مرة أخرى , وركضت تاركة زوجي يركض خلفي إلى أن  وصلنا الطريق العام , لم أهدأ حتى أوصلتني قدماي غرفة أبي في المشفى عند غروب الشمس , ويا للصدفة لقد كانت ذات الغرفة التي قضت فيها أمي لحظاتها الأخيرة  0 رأيت أبي ممددا على ذات السرير , هرعت إليه وصورة أمي الميتة تقفز إلى وجهه , شممت رائحة موت من ثيابه , عندما سمع صوتي فتح عينيه و تمتم باسمي , وغمرني بنظرات أبوية أعادتني طفلة, لكنها بعد لحظات جمدت في عينين ميتتين

 

أضيفت في 15/12/2004/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية