السور الواطئ
على تمام الساعة السابعة صباحا …بدءوا يحطمون الجدار …سمعت صوت
ارتطام أحجاره، صوت سقوطها ،يسقط معه حكاية …عمرها بعمر الجدار …
عندما بنوا ذلك السور فوق المنزل …ليفصل سطحهم عن سطح دارنا ،طلبنا
منهم أن لا يكون مرتفع هذا الجدار ….طلبنا منهم أن يبقى لنا صوت ..مكان
نجلس عليه؛ ويدور حوار ….سمعوا لأمنيتنا ..كانوا كرماء معنا …ونحن جيران
…والجار لسابع دار الآن … ماذا يحدث !!! ولماذا يفاجئونني بقرارهم ….
بالأمس قالت زوجته:
-سيبني لنا عمي بيتا مستقلا…هنا على هذا السطح !!
نهضت باكرا جدا…أحببت أن أستعد للحدث ،وكأنني غير مصدقة الآمر، ولكن
هاأنذا أسمع أصوات عمال البناء ..معاولهم تهدم…وضجيجهم …يصم أذني …أنهم
يحطمون بقايا السور المنخفض الذي يفصل دارنا عن دارهم، السور الذي يجمعنا
كل ليلة للسهر والحكايات ……يصلني صوتهم ..واسمع في داخلي صوت تحطم وهمّّ
كبير عشته طوال عمري ….
أخذت استعد لمغادرة المنزل ،فبعد قليل عليّ أن أجهز ليصطحبني أبي
كما كل يوم إلى عملي …حيث يصر عل حمايتي لآخر لحظة، من المشي في الطريق….
وأنا بهذا الشكل …فتاة عرجاء …ولا يقبل مني الذهاب في سيارة العمل لأنها
تجمعني بالزملاء والزميلات …
يصافحني وجهه في المرآة …يحدق باستغراب ..أنظر إليه بذهول ..لكن
صوته القوي فاجأني :
-لماذا تأخرت اليوم في ارتداء ملابسك ..تبدين متعبة وكأنك لم تنامي طيلة
الليل ؟؟
-لا…أجل ، أنا متعبة " ويتناهى لي صوتي واهنا ..ظاهرا الإعياء أو هو كذلك
…فلا أميز هل أنا مدعية كاذبة أم أنها حقيقة أشعر بها ...…لكنه يسارع
للتخلص من عبئ مرافقتي:
-إذا" ..أبق اليوم في البيت ..لا تغادريه ..!! مالك ومال التعب والعمل !!!!
بعد أن التقطت أذناي صوت اصطفاق الباب خلفه …انخرطت في بكاء مفاجئ،
وكأن لدي مخزون هائل من الحزن أريد أن أفرغه بلحظة واحدة !!!
فهل ألوم أبي وأمي اللذان قصرا بحقي أنا دون أخوتي …فأصابني شلل
الأطفال دونهم…أم يلام هو ….الحبيب الأول ..الذي تفتحت مشاعري البكر على
حبه !!؟ فلم أرى سواه، لأنني …لا أسير مشيا على الأقدام كثيرا في
الشارع…وهم جيراننا …كنت أفضل النزول إلى دارهم عبر السطح …حيث أتسلق
سطحنا من السلالم ثم أقفز السور الواطئ بكثير من حذر والفاصل بيننا ثم
أنزل من على درجات سلا لمهم المؤدية إلى فسحة الدار عندهم… كنت أعلم أنهم
يحسون بقدومي …من صوت أقدامي التي تنوء بثقلي على درجات السلم …لكنني أنسى
عاهتي حين تشرق ابتساماتهم …الحارة تستقبلني ،وفرحة أمه…. بوجودي معها في
الدار أحمل عنها بعض الأعباء …تسعدني !!! بناتها يذهبن أما للجامعة أو
للعمل ،وأنا لاشيء أتوسله في فراغي الكبير غير ذلك …ووالدي الرافض دوما
خروجي من البيت حتى لا أبتلي بنظرات الجميع إلى عاهتي …حتى فضلت أ ن لا أصل
بيتي الملاصق لبيتهم من خلال الشارع ،بالرغم من ضيقه ومعرفة الجيران لي ……
حينما اكتشفت سعادتها تلك …أخذت نفسي تطمئن لهم ولترحيبهم
ومحبتهم،…..ولطالما أحببت التسكع في دارهم ،حيث يملؤني حلم صاخب …..هو أن
يثير وجودي حياة "وليد" ولطالما عدت إلى فراشي في المساء أتسلق سلالم
البيت،أحمل حقائب ملآنة أسى ..على انتظار عقيم
في الصباح ، انهض …ينهض الأمل في جوانحي ..وأنا أتأمل
وجهي في المرآة أجمل ما أملك …العينان الخضر واتان الواسعة ،والبشرة ناصعة
البياض …و أسأل نفسي ؟ إلى متى سيبقى مغمض العينان ؟؟؟
والى متى ستبقى الرغبة عندي في إثارة اهتمامه؟؟؟
لكن مع مرور الأيام …وجدته يرسم ابتسامات عذبة ،ويلقي بتحية الصباح
لي بطريقة مختلفة ..ثم يأخذ بفتح حوارات معي حول شؤوني الخاصة ….ما اعتدتها
منه قبلا..!!! وفي أحد الصباحات فاجأني بسؤال:
- "سعدى"… لماذا درست وتعبت حتى نلت الشهادة في علم الإدارة ؟؟ ولا أجدك
إلا هنا مع والدتي تساعدينها في شؤون المنزل ..وبعد أن تنهي أعمالك في
البيت …؟؟
-وماذا تريدني أن أفعل غير ذلك
-لا تستسلمي ، أقنعي والدك بالعمل ..أسوة بأخواتك ..أنت رائعة ولا…ولا
يعيبك شئ …"قالها ولم يلق بالا" أو نظرة إلى عاهتي …"
يومها شعرت إنني يجب أن أخرج وأسير في الشارع لأصل بيتنا وليس عن
طريق السلالم…كنت خفيفة الحركة مثل ريشة …كلماته أنعشتني …وزرعت الأمل لدي
…..
ويوما بعد يوم ،أصبح هذا الحديث يشدني إلى وهم كبير …بأنه يحبني !!!
كان يكبرني بعام واحد …لكن هذا الوهم كاف ليقتل ضجر العمر من حالة العنوسة!!
وقتها ،كنت أنظر للحب والحياة والزواج من ثقب صغير على واجهة عريضة للزمن
تحمل لافتة صغيرة مكتوب عليها "كوني امرأة عاملة عضو فعال في المجتمع"
وانطلقت أتوسل أبي ليسمعني …بل أخذ صوتي يعلو ويصبح أكثر قوة وإقناع
وطلبت منه أن يساعدني للحصول على وظيفة …وكان لي ذلك …ولكن بشروط
والدي…..:
- تعملين في مكان قريب وفي سلك التعليم وأنا من يتولى مرافقتك للعمل
بسيارتي …قبلت ..فهذه خطوة رائعة …وشرفة واسعة أطل منها على عالم يزدحم
بالجديد والمثير…وهناك حيث كانت بانتظاري فعلا "فتون "زميلتي بالعمل والتي
حكت لي قصة زواجها المتأخر …عمرها تسع وثلاثون عاما وزوجها يصغرها بست
سنوات ؟؟؟وبررت استغرابي بما حصل وقالت : تعرفت عليه منذ سنة واحدة جاء
مراجعا للمدرسة ليطمئن عل ابن أخيه …فأخذت أبدي اهتماما به …وأعجب بي …ولا
تنسي إنني امتلك شقة وأحوالي المادية جيدة …وفتن بي وهاأنذا كما ترين حامل
للمرة الأولى …فدعي الأمل يغمرك …سيأتي نصيبك في هذه المدرسة "ياسعدى" …
كنت أعود منهكة وتعبه لكنني محملة بجعبة من القصص والحكايات علي
أن أفرغها …..والسطح حاضر على الدوام ..وحينما ينكفئ أخر ضوء للنهار نستلم
خيوط العتمة الساترة فنسهر ونعتلي السور الواطئ …. نجلس عليه ،ونرمي
بأقدامنا تتطوح في فراغه …مثل الحكايا …هذا السور مازالت له نفس الروعة
التي كانت قبل سنين مضت، حيث اعتادت شقيقاتي وقبل زواجهن، وشقيقاته
أيضا……… أن يجتمعن وتفرغ كل واحدة جعبتها …كنا نرصد العابرين في الشارع
!!!من أبناء الجيران … نتحدث على كل واحد منهم وكأنه استثناء في حياتنا ؟؟؟
يطول السهر ….وفي مرات عديدة نحاول اختراق حصار الهاتف المفروض
علينا في ذلك الوقت !!! حيث قررنا شراء جهاز وأخفيناه لاستعمالنا السري في
تلك السهرات …نصعد إلى السطح ..ونأخذ السلك الهوائي لخطنا الهاتفي وربما
لخطهم لا فرق ..وحتى أننا تجرأنا على سرقة خط جيراننا اللذين كانوا
مسافرين في إجازة ….كل هذه المغامرات من أجل الاستمتاع بحديث هاتفي تافه
!!! ومع شخص مجهول لا يعرفنا ولا نعرفه ..المهم لدينا سماع صوت ذكوري يرد
على الطرف الثاني !!! وكم من مرة خاب أملنا وسمعنا توبيخا لم يثر لدينا
إلا الضحكات …… لا أكثر ولا أقل !!
السطح ، والسور الواطئ، كان متنفسا جيدا لبنات محاصرات في المنزل
صيفا وفي الشتاء بالمدرسة ..الآن ،أصبح للسهر طعم مختلف ..ونكهة خاصة ،
أحاديث عن زملاء العمل …وآمال بالزواج ربما تتحقق ..وقصص وحكايات متناثرة
من هنا وهناك …تسد فجوة الوقت الضائع …. وفي سهرة قبل عام …قررت جارتنا
تزويج "وليد" …هكذا نزل الخبر علي مفاجأ" …حين قالت أخته:
-سوف نخطب لوليد ابنة خالتي!؟
تمت المراسم بسرعة عجيبة …"هكذا رو ادني شعور "!!!!
ونحن الجيران أول المشاركين والمهنئين في كل الطقوس ..وعلينا تقديم
الواجب والخدمات …وعلينا أن نفرح لهم، والفرح بالنسبة لي ..له طعم آخر…طعم
مرّ ..وفيه تختلط المشاعر ،حيث يمتزج الفرح والغبطة وحنان مكسور بمدى
الانتظار ….وقتها تأخذ العين تستدعي دمعها….
تلك الحيلة نلجأ أليها بعد أن نكبر ..نبكي مدعين المرض والتعب
…تماما مستعيدين إحساس طفولي عذب ..ولكن بصورة مختلفة…لكن الشعور هو نفسه
..الحاجة للحب والحنان هو ذاك الذي نفتقده!!! وحين ننال المشتهى ..نمتلكه
إحساسا ومعنى ..نحتويه داخلنا متجسدا في الأعماق كطفل نال كل ما يريد
…فتقفز للعين دمعة ولا نعرف كيف نصفها …!!
وربما كنا نحتاج إلى صفعة ..فقط لنتأكد من الحقيقة متجسدة وليست
حلما بعيدا فحصل أو واقعا فرض علينا فقبلنا به …
فقط حينما تركض السنين على ملعب الزمن كخيل جامح لا يعرف مبتغاه …لا
تعنينا الأيام ولا نحصيها ..نجري معها مغمضي الأعين عن الأشياء التي نخفيها
ولا نظهرها للآخر ..خجلا" ،وربما خوفا"!!؟؟
هي تلك ، الساعات ..التي توقف الزمن ..ونتمنى أن لا يمضي العمر بنا
نريد الخروج من إطاره الوقتي الذي يحدنا بالآخرين وهم يراقبون ما ظهر من
سعادة على وجوهنا وأيضا ما قد نخفيه من خيبة داخلنا …هكذا تم الزواج…
لكن الأزمة ،مرت بسلام …وسكنت عروسهم إحدى غرف الدار …وبعد أيام
أصبحت هي الأخرى من رواد السطح ..لدرجة أنني اتخذتها صديقتي المفضلة
…أحببتها ،لا أدري كيف ولماذا …ربما نوع من التواصل في الحب …بحيث أمرر حبه
عبر حبي لها وإخلاصي أيضا ….كون الحقيقة طي الكتمان أعيشها بمفردي …وبقيت
سعيدة جدا"….المهم، أن السور الواطئ مازال يجمعنا في الليالي ..ومنها أسمع
أخباره وربما بت أعرف أكثر عن تفاصيل حياته الخاصة أعرفه كيف يمكن أن يكون
حبيبا وزوجا وماذا يقول لها من كلمات غزل ….وفيما أذهب لتوسد مخدعي ..أسقط
ما أعجبني من عبارات قالها لها على أنها هي لي لشخصي …وأروح ابني عليها
قصصا وحكايات لن تحدث ..حتى يغلبني النعاس فأنام…
لأنهض من جديد …نهار …آخر أحمل في صدري أملا" وتفاؤل بالحب القادم
من خلال العمل ….
الأمسيات، التي سبقت أمس ….رو ادني شعور بالخوف …كانت تحكي لي أن
خالتها تزعجها ..وأنها تريد الانفراد ببيت تكون سيدته …لكني طمأنتها أن هذه
المشاكل سوف تنتهي بعد زمن …وفي قرارتي كنت خائفة …لو فكروا بالرحيل
..والاستقلال ببيت لهم …لو انهم ذهبوا إلى مكان بعيد لا أستطيع رؤيتهم ..أو
حتى رؤية صغيرهم القادم ….ماذا سيحدث لي ؟؟؟
لكنها بالأمس ألقت بالخبر ..وكأنها تلقي بحجر في بركة مياه قالت:
-قرر عمي أن يساعدنا …..لن نستطيع الحصول على شقة بما يملك وليد من مال
لكن عمي ،سيبني لنا دارا" هنا على هذا السطح الواسع .."وقتها فقط رأيته
ضيقا" ..وأخذ يضيق صدري ..وانبعث من الداخل صوت رافض للحل ..وصرخت:
-لا…لا، ونحن كيف وأين نسهر …"من جديد اكتشفت أن صرختي مثل معزوفة نشاز على
آلة صدئة أزعج الآخرين بهمومي وأوهامي …" لكن أخته ولأول مرة تلحظ شعوري
الحقيقي فقالت:
-- مار أيك لو نقترح أن يكون هناك بابا يطل على سطحكم من الشرفة ؟؟
-- رائع ..سنتواصل عبره ..ولكن من أي جهة سيفتح هذا الباب من سطحنا أم من
شرفتكم ؟؟
-- لا أدري …لكني أعلم فقط أن العمال قادمون غدا" في الصباح البكر…هذا ما
أعرفه !!
انطلقوا ..جميعهم ينامون في أسرتهم هانئين وبقيت وحدي أودع هذا
الفضاء الذي كان رحبا يتسع همومي والذي سيضيق من الغد ليتسع أسرة صغيرة
…وحدي أختزن الحزن في جهة من قلبي وفي جهة أخرى منه يحدوني الأمل أن يبدل
السور الواطئ بباب مشترك أو حتى نافذة ..أو ثقب صغير لأطل منه كل مساء على
عالم صفع أحلامي بقسوة!!!!
هاتف المساء
كل الأشياء التي تزعجنا نعتادها في نهاية الأمر بعد التكرار، هذا
بالضبط ما خطر لي وأنا أعد له فنجان القهوة قبل ذهابي إلى الفراش، ليرفع
سماعة الهاتف ويبدأ مسامرة صديقه. كنت في المطبخ، أتأمل ماء القهوة السميك
وهو يتقلب ويخرج فقاعة كبيرة قبل أن يغلي ويفور، ضجراً من نار الموقد
الحامية، كما ضجرت أنا مما يحدث معنا قبل ثلاثة أشهر، حيث كانت الحياة تمضي
بنا رتيبة وهادئة مثل مياه نهر تعرف منتهاها، ولكن فجأة ظهر له هذا الصديق
الذي شغله وغير الكثير من طريقة حياتنا. كيف حدث هذا التعارف وأين لاأعلم.
مضى على زواجنا عشر سنوات، اتفقنا على إنجاب طفلين، وهاهما يرقدان
في غرفتيهما المشتركة. حينما تبدأ برامج التلفاز، أضع كراسات التلاميذ على
الطاولة لتصحيحها وأتابع بلامبالاة ما يخطر من صور أمامي، وغير معترضة على
تقليب البرامج بجهاز التحكم، لأظنه بعد أن يمل، يمسك بأقرب كتاب أو جريدة
ويأخذ في حل الكلمات المتقاطعة، ويحدث أن تمر ليال كثيرة، هادئة لا نثير
فيها جدالا حول تربية الأطفال، أو نقاشا بماذا يفكر من مشاريع جديدة، وحتى
لم أعد استفزه ليحدثني عن أحلام يقظته بالسفر والأشياء الغريبة التي يودّ
فعلها، كما كان يحدث قبل سنوات،
بعد أن يغلبني النعاس، أشعر بيده تربت على كتفي، يوقظني، واذهب إلى
النوم، كانت أياما هانئة لكن جاء من يعكر صفو مياهها الهادئة كل مساء.
كان السؤال في البداية يؤرقني:
- لماذا يطلب مني فنجان قهوة قبل ذهابي إلى السرير؟ وهو اعتاد أن لا
يتناول القهوة بعد السابعة مساءً، ثم يهاتف هذا الصديق المجهول، وحينما
أدخل زمن المراوحة بين النعاس والاستسلام الكلي للنوم، أكون قد التقطت
نتفاً من الحوار الدائر بينهما، اسمع أحياناً جملاً لا رابط بين كلماتها؛
وربما استغرقته ضحكة طويلة؛ بعد أن يروي لصديقه آخر طرفة سمعها،،، كان زوجي
وعلى غير مااعتدته منه، يستأثر بالكلام، وأحياناً أظن أن صديقه يرفع
السماعة فقط، ليستمع لهذه القصص والتي بت أعرف من خلالها بعضا من هموم
ومشاكل العمل التي تزعجه، فهمت في أحد المرات أن زميله أخذ ترقية ولم يكن
جديرا بها، وأن عمله بات مملاً وليس لديه حافز يجعله يبذل جهدا فيه، لهذا
لم أعد أشعر بكثير من الإزعاج، ولو أنني كثيرا ما تمنيت لو أنه باح لي
بذلك؛ كنت وقتها شكوت له همي؛ من مدير المدرسة في صرف ساعات إضافية إلى
صبية حسناء، جاءت تعمل معنا مدرسة لمادة الرياضة البدنية.
ثم أصبحت اللامبالاة من طرفي مصدر راحة له، ولم أعد أصّر على معرفة
من يكون هذا الصديق الذي يفضل محادثته ليلاً، بدل الذهاب إليه أو معه إلى
مكان ما، أو حتى يأتي لزيارتنا!
كان مطمئناً في أغلب الأوقات أنه لا يصلني صوته، ولا أعرف ما يدور،
ولكن يوما بعد يوم أخذت أسترق السمع باهتمام شديد، وخطر لي مرة أن يكون معه
على الطرف الثاني امرأة، لكنني استبعدت هذا الخاطر، أعرف أن زوجي رجل له
طبيعة تبعده عن مثل هذه المغامرات وإلا لكان قابلها وغاب عن المنزل وادعى
أن لديه عملا ما.
المصارحة التي كثيراً ما سمعتها، جعلتني اقترب أكثر وأكثر من زوجي،
وأخذت أعرف عما يقلقه من هموم، كنت أعتقد أنها لا تعنيه؛ وانه سلبي تماما
ولا يفكر مثلاً في طريقة لزيادة دخلنا أو حتى حمل عبء عمل إضافي جديد،
وصلتني إجابته وهو يقول لصديقه:
-أبذل جهداً في الحصول على عمل مسائي يقتل ضجري ويزيد دخلي
كنت لا اعرف ماذا ينصحه الصديق، ولكن كان لدي حل، أن يعمل مع شركة
زوج شقيقتي دون الشعور بالحرج من أنهم يقدمون له المساعدة!
انتهيت من إعداد القهوة، وكانت المكالمة قد بدأت، وفيما كنت أضع له
الفنجان على الطاولة قريباً من جهاز الهاتف؛ تعثرت وكدت أفقد توازني خفت أن
تنسكب القهوة عليه، تماسكت، استندت على حافة الطاولة بينما ضغطت أصابعي
على زر مكبر الصوت بالهاتف؛ دون قصد، وإذا بصوت ناعم ينطلق بشكل آلي من
الجهاز قائلاً:
الساعة الآن العاشرة تماماً وعشر دقائق وعشر ثوان …ثم أخذ الصوت
يكرر العاشرة..و … , و…، نظرت إليه؛ كانت ترتسم في عينيه نظرات الخيبة
والحزن والمرارة…بينما انطلقت نحوه دون شعور، احتويه، أعانقه بحنان بالغ،
وامسح كتلاً من الصمت التي أبعدتنا عن بعضنا سنوات طويلة (( رزان نعيم
المغربي))
عجز..!
هبط المساء ثقيلا، ورشحت فوانيس الحديقة ضوءها الخافت؛ الذي تناثر
على الزوايا والممرات ؛ لكن العتمة بقيت أعم وأشمل ! وهي مازالت تسند ظهرها
إلى جذع شجرة ضخمة،أرست جذورها في الأرض على عطفة الحديقة الكبيرة ، حديقة
أشجارها متباعدة تحتل طرف المدينة وتطل عليها، وهي تلثم سفح الجبل المرتفع!
شعرت بالرطوبة تنفذ إلى جسدها الواهن، تحمل في أحشائها الجنين الذي
طال انتظاره ،وتمنت لو تجد مقعدا خاليا تجلس عليه ، المقاعد لم تكن شاغرة
تماما،بسبب كثرة زائري الحديقة، وهي لا تجرؤ على احتلال طرف واحد منها
يشاركها الجلوس فيه رجل ؟! لو جاء ورآها سيقيم الدنيا ولا يقعدها ، خفضت
رأسها وأخذت تراقب عن كثب عبثه وهو يكاد يمزق جلدها ضجرا، تسعة أشهر! مسجون
في ظلمة لكنها ظلمة حانية؛أما هي فالظلمة التي حلت ترعبها، الجارة قالت لها
المشي مفيد جدا يسهل الخلاص بالسلامة، وأقنعته هذا الصباح وتوسلت إليه لو
يأخذها في مشوار سيرا على الأقدام،وافق على أن يتمشيا حتى الحديقة.
-سأحمل قليلا من العسل معي ربما عثرت على زبون، حين نصل الحديقة؛
تأخذين قسطا من الراحة وأذهب لبيع العسل،في الحديقة لم يمكث معها أطمأن
لجلستها وتأهب للمغادرة.
-لن تتأخر؟
-كلا! انتظري هنا، إجلسي تحت ظل هذه الشجرة الوقت يقترب من المغيب.
سأدع معك بقية العسل لن أحمل الاثنين معي !
استدار خارجا من البوابة ، ولم يعد، والسؤال داخلها يحتل كل عقلها :
-فقط لو أعرف متى يعود ،وهذا الألم الذي ينتابني ؟ماذا أفعل ليس لدي
نقود وأخافه،أوصاني أن لا أغادر؟!
***************
في قسم الشرطة !
كان يقف محني الظهر، ويضع يده على خده؛ الصفعة قوية ، وما كان يعلم
أن الشاري الذي اصطاده قريبا من الحديقة ضابط يحمل هذه الرتبة ؟! وله يد
تضرب بهذه القسوة ! وإلا لما تورط في بيعه العسل ؛ العسل؟ لا يملك من
الدنيا حرفة يعمل بها إلا بيعه، وزوجته تساعده في تصنيعه، كان يعتقد بأن
الحظ سيحالفه هذا المساء، ويبيع برطمانا أو اثنين، وربما وجد سائحا كريما
اشترى الكمية كلها دفعة واحدة ، لكن الحظ خالفه! ووقع في الشرك، الذي كان
قد نصبه للشاري قبل أيام، ولم يكن سوى هذا الضابط الذي قبض عليه متلبسا،
وهاهو يمطره بالأسئلة والتي يعتقد أنه لا جدوى منها؛ سوى شعوره بالمرارة
والخذلان:
-تكلم ، يا نصاب ولا تحاول الكذب ، منذ متى تغش وتبيع العسل ؟
-دائما، يا سيدي !!
يستدير الضابط ويقلب أوراقه؛ ينشغل بالرد على الهواتف، والآخر
مشغول يتلظى بهواجسه، مستغربا؛ كيف لضابط أن لا يسامحه! لم يرتكب ذنبا
كبيرا، والنقود التي دفعها ثمنا لكيلو من العسل لن تفقره ! ؟
ويحدث نفسه ، أنا فقير معدم وتجوز عليّ الصدقة! ليعتبرها حسنة وله
أجرها، كم يبدو قاسي القلب لا يعرف الرحمة، لقد صرفت كل ما أملك على علاج
زوجتي حتى تنجب. وهي الآن في الحديقة؛ والجو الخريفي بارد في الليل، الذي
تسلل وأنا هنا؛ والضابط لا يعفو عني ولا يتركني اذهب لشأني ،حظي أسود، إنني
تجولت في نفس المكان الذي بعته فيه العسل، للوهلة لم أتذكره ! إلا حينما
امتدت قبضته، وشدتني من ياقة القميص ،نظرته الغاضبة أخافتني وارتبكت ،بدا
وكأنه لم يعرف الضحك منذ ولدته أمه! لم يضحك ويمزح إلا وهو يشتري العسل،تلك
المرة كانت برفقته سيدة جميلة! ربما زوجته ،أو لعلها عشيقته، أخذ يمازحني
ويطلب مني أن أعدد فضائل العسل من ناحية إمداد الرجل بالقوة ؟!
************
الضابط غير غافل عنه!
لكن الموقف لا يتعدى خطأ ارتكبه رجل فقير؛ يريد أن يحتال ليأكل
لقمته ، لكن مثله لا يقبل أن يكون ضحية لنصاب حتى ولو كان المبلغ زهيدا ؟!
وراح يتلهى بالأوراق وينقر الطاولة بأصابعه ،يريد أن يوحي بلامبالاة
للرجل صاحب العسل، وفي الحقيقة هو مشغول ومستغرق بما دعاه إلى شراء العسل
أكثر؛ وأقر لنفسه بأن هذا الرجل الأبله مسكين ويستأهل الشفقة، ولكن كيف
ينسى أنه بقي ضالته لأيام ، لن يرحم هذه النظرة الحافلة بالانكسار والذل
..حتى ليبدو عاجزا عن النطق ..عاجز !هذه الكلمة مؤلمة، منذ متى بدأ يشعر
بهذا العارض؟ لم ينتبه إلا حينما بدأت تلمح له بأن عليه مراجعة الطبيب ،
الطبيب كم يصعب عليه زيارته وعرض مشكلته وهو بهذه الهيبة ؟ لكنها ما تزال
فتية لم تتجاوز الثلاثين وهو قارب الخمسين؛ والرغبة تذوي منه مثل شمعة بدا
ضوؤها يخفت! بادئ الأمر، اعتقد أن الأمر طارئ من ضغط الحياة والعمل، وأن
في الصبر أفضل حل، لكنها أخبرته أن العسل جيد لمثل حالته، حينما رأت
الرجل يبيعه؛ أصرت على أن يشتري ويجرب، ولم ينفع معه! وخجل من مصارحة أقرب
الأصدقاء إليه ،وهم جميعا يتباهون في جلستهم الخاصة بفحولة يعتقد جازما
أنهم جميعا يكذبون ؟
هذا الأبله، صفعة قوية ، جعلته يبلع لسانه ويركن للصمت ويوم باعني
العسل أفاض في الحديث عن حسناته ؟
-ماذا تعمل غير بيع العسل المغشوش ؟
-أبيع العسل فقط الذي تصنعه زوجتي ، سامحني يا سيدي وأرد لك المبلغ،
ودعني أذهب إنها تنتظرني في الحديقة، وهي حامل في الشهر التاسع !
-ربما سبقتك إلى البيت لتصنع العسل؟
-لا، لن تفعل طلبت منها أن تنتظرني، وهي لا تملك نقودا ،ولم تعد
تستطيع صنع العسل
-كيف تصنعه ؟
-تخلط مقدارا من العسل الحقيقي؛ مع عشر أمثاله من الماء المغلي
بالسكر والنكهة.
-أرباحك وفيرة؟
-كلا،الآن في الخريف لا يوجد كثير من السائحين، الذين يشترون بكميات
كبيرة ويدفعون بسخاء.
-سعيد،هه ، تشوه سمعة البلد ؟
-سامحني، لن أعيد الكرة، هات يدك لأقبلها "وحينما اقترب منه ،ابتعد
الضابط وصرخ"
-قف مكانك ،وانتظر !
*****************
وقف في الباب جندي متأبط يد رجل ويحمل معه برطمان عسل :تقدم الضابط
وهو يتأمله بنظرة متفحصة،ثم توجه إلى الجندي يسأله:
-نعم من هذا الرجل ؟ هل هو بائع عسل أيضا؟
-سيدي ، هذا الرجل استلمناه من المشفى العام ،قبضوا عليه ، ويعمل
سائق سيارة أجرة، بعد أن أوصل سيدة في حالة وضع ،وقد أغمي عليها تماما
والسيدة لا تحمل مستندات رسمية ويدعي عدم معرفته بها !
-أين وجدت السيدة ؟
-سيدي ،كانت حالتها صعبة وكنت قريبة من الحديقة في طرف المدينة وهي
وحيدة لا تملك النقود حين فاجأها المخاض ،طلبت مني إسعافها مقابل برطمان
عسل أصلي !
انتفض الرجل قائلا:
-سيدي أنها زوجتي !
-أخرج مع السائق ليوصلك إليها هيا انطلقا
استدار الرجلان فرحين بنجاتهما من الورطة التي فاجأت كليهما هذا
المساء، وبقي العسكري واقفا وهو يتأبط برطمان العسل وينظر إليه بشهوة
بادية
-وأنت ؟
-حاضر سيدي !
-خذ العسل ، سيمدك بالطاقة والقوة، قاوم به برد الشتاء
القادم؟!
في عراء المنفى !
الحقيبة تتأبط متاعي، ساكنة بغير ملل قريبة من المدخل، وأنا في
جلستي على آخر كرسي في الصالة وقريبا منها مازلت أتأبط انتظاري الممل!
كان شوقي لرؤيته قبل الرحيل؛ لا تضاهيها سوى رغبتي في بقائه
مستسلما لنوم عميق ،حتى يحين موعد سفري وارحل دون وداعه!
الآن فقط،أدركت مدى تعلقي بهذا الرجل والذي قبل ثلاثة أشهر فقط، لم
أشعر بضرورة التعرف عليه.
****************************
لبيت دعوته، ولم أكن قد عرفته بعد وجها لوجه ،فقط سمعت عنه ،،كنت
أشعر بحرج شديد،مرده خوفي من أن يكون منتميا إلى المعارضة ، ومع ذلك بقي
شغفي لمعرفته أكبر بكثير من خوفي.
صديقي، المقيم هنا في روما ، فهم ما اعتمل داخلي ،فهمس لي ونحن في
الطريق نهم بركوب السيارة :
-لا تخف، هواجسك لا أساس لها، الرجل غير محسوب على المعارضة.
وحين هممت بتفسير ما دار في ذهني من خواطر،تابع قائلا:
-أفهم، لأنك صحفي وفي بداية الطريق تخشى على نفسك؛ من السير في
مغامرات لا طائل منها، ولكن كما سمعت، هذا الرجل شخصية ثرة، لا تفوت فرصة
معرفتك به .
ربما أصاب صاحبي، ولا أنكر أن شوقي ازداد لمعرفته .
****************************
ومنذ أن فتح لنا الباب، وجدت يده تعانق كأس الشراب كما لو أنها
تعانق حبيبة.
على منحدر المساء التقينا، ومرت الساعات، نتسكع رصيف الليل حتى هجع،
ثم أخذ مّضيفنا وهو في حكاياته الحلوة؛ يعطر السهر بقفشات ظريفة ،ثم إذا ما
انتابه حزن مفاجئ، قضى عليه بسيل من الشتائم ،وراودنا الشعور بثمله؛ وهو
ينتحب غربته وبعده عن الوطن، وأخذت الألفة بيننا شكلها النهائي؛ في غفلة من
حواسنا،لم نخطط لها ولم نتفق عليها، لكنها جاءت، تعلقت به؛ وبادلني ذات
الشعور، فاقترحت عليهما، أن الوقت حان للرسو على مرفأ الصباح الذي لاحت
شقوقه .
لكنه،بادرني أنا شخصيا، بدعوة خاصة للإقامة عنده، لم أمانع،ورحبت
بالدعوة، والاقتراب من رجل قارب الخامسة والستين، أنفق ما يقارب الأربعين
عاما في مهنة المتاعب (الصحافة).
كنت إلى جانبه في هذه الأيام، أجد نفسي كلما توغلت في أعماقه،
أغراني الفضول للمزيد،لأراقب رجلا قرر أن يجرد نفسه من لحاف الوطن، ويتوسد
عراء الغربة والمنفى. بالرغم من أن ما كان يجري في عروقه، هو ماء ينابيعها
وسواقيها،عروقه التي تنبض بذاك الحنين الذي لا يستباح ولا يكشف عنه، إلا في
بقايا ثمالة آخر كأس يتجرعها كل ليلة.!
**************************
في الماضي،كان صحفيا امتلك ناصية الكلمة، فراح قلمه؛ يرمح فوق صفحات
جريدته دون وجل أو خوف،كانت الرؤية لديه أبعد مما يجب لتلك المرحلة،واكتشف
أنه حتى يكون شفافا وصادقا، عليه أن يلملم أوراقه ويرحل.
استيقظ ذات صباح، وهو في قمة مجده، حمل حقيبته دون حبر أو ورق،بعد
أن ضاقت الإجابات على أسئلته المبهمة والتي ظن خطأ أن الوقت قد حان
لطرحها، رحل وهو يودع أحلاما صدئة، درجت مع الريح لإصدار صحيفة، من ملجأه
الجديد .
مساعيه خابت فقط، لأنه لم يجد المال الذي يدعمه. وأخذ يمضي أيامه
ينفق مما يصله من أهله، أو حينما يأتي أحد المعارف في زيارة أو مهمة، ويطلب
منه تحويل ما يملك من العملة، حيث يتبقى له مبلغ هو الفرق بين الأسعار
،وهذا ما فعلته أنا أيضا .
لكن الموجع،هو ما اكتشفته بنفسي ..كان يصرف المبلغ الذي استفاد به
من جديد على ضيافة نفس الشخص ،أما بدعوته إلى العشاء أو الخروج في نزهة .
كان كريما مضيافا،ولكنه يتحول إلى شخص شرس،قادر على شتم من في
ضيافته بعد أن يصبح ثملا.
وبقيت حياته في الغربة، مثل محارة قذفتها الأمواج في لحظة غضب
بحرية، إلى رمل الشاطئ فأخذت تنتظر بين الشهقة والأخرى؛ مد البحر وجزره على
أمل مدّ قوي أو موجة صاخبة تعيدها إلى أعماقه من جديد.
*******************
لم يتبق لي سوى أيام وأعود، لكنه هذا اليوم فاجأني بطلبه:
-أعلم أنك تتكلم اللغة الإنكليزية بطلاقة ،وأتمنى لو تحضر معي لقاء
من نوع خاص وأريد أن تكون المترجم بيني وبين سيدة تملك أكبر دار نشر وهي
بريطانية .
-وتعلم أن هذا من دواعي سروري أ ن أكون برفقتك وبرفقة سيدة مهمة.
******************
سيدة لم تتجاوز الخامسة والثلاثين ،رقيقة وجميلة ، تفرغت
لاستضافتنا بشكل لائق، كانت سهرة رائعة، وصاحبي حلق في تجليات البوح حتى
قارب الحد الأقصى و بات يقترب من مرحلة السكر ، طلبت مني السيدة أن أنقل له
عرضها :
-السيدة تقدم لك مليون دولار، مقابل أن تنشر مذكراتك عن الفترة التي
عايشتها في الوطن أثناء مرحلة التغيير، على أن تكتب كل شيء عن أصدقاءك
العسكريين ورجال الأعمال عن رجال الصحافة عن الفقراء لا تستثني أحدا،وهي
كما تقول عنك أنك شخصية غنية، وكأن الوطن أودعك ذاكرته.
كنت وأنا أنقل له الكلام، في حالة قلق من قدرته على استيعاب العرض ،
بل اعتقدت أن السكر استبد به، لكنه انتفض فجاءة وأنا أحاول تكرار ما سبق
عرضه،وأشار إلي بسباته أن التزم الصمت ورد علي بصوت هادئ قوي لا يشوبه
انعراج :
-سيدتي ، سررت بضيافتك ، أنت سيدة جميلة ورائعة للغاية،ولكن نسيت
شيئا هاما ،وهو إنني قد أختلف مع نظام الحكم في بلدي، ولكن أبدا لن أخون
وطني . قبل أيام تحدثت مع البعض بنيتي في كتابة مذكراتي ،لكنني لم أكتشف كم
هي بشاعة الجريمة التي سأرتكبها فيما لو فعلت، إلا بعد أن قدمت عرضك هذا –
أشكرك .
***********************
شبك يده بيدي، وانطلقنا في الشارع المبلل بنثيث المطر ،وسمعت صوت
زفراته والتفت ناحيتي ليقول:
-يحضرني قول لأحد مفكري الثورة الفرنسية يعبر عن حبه للوطن فيقول((
يا للأسف لا سبيل أن نموت من أجل أوطاننا إلا مرة واحدة..))
قبل أن أعلق وجدته، يترنح في مشيته؛ عائدا من جديد إلى ثمالته ،
كما كان قبل عرض السيدة .
ومشينا، نقطع المسافة الطويلة سيرا على الأقدام .وأنا أحاول
استفزازه ببوح أكثر ،لأعرف كيف يرفض عرضا، وهو أكثر من يحتاج المال؟ وهل
داهمه شعور بالندم أم هو مقتنع بما فعل؟ بقيت أسئلتي دون إجابات شافية،
وكأنه بعد خروجنا ،قرر أن يوصد ذاكرته على ذلك الماضي ،بينما رحت أناوره
لأكنس المزيد من غبارها،كنت أعرف حلمه في جمع ثروة ليصدر صحيفة وصارحته
لكنه أجابني بثقة:
-إذا ما باغتتنا خديعة الأحلام،تصبح مثل الشوك النابت في المآقي .
-مرة سمعت متسولا يقول:" الأشواك لا تؤذي إلا الأيدي الآثمة؟!
-وستبقى يدي نظيفة،لن تخدعها أحلامي.
وقتها أدركنا أننا أنفقنا الليل ونحن في نفس الدوامة، وشهقنا بفرح
طفولي ونحن نستسلم لانبلاج ضوء الفجر وقد اقتربنا من المنزل.
**********************
هذا الصباح ،أزف موعد الوداع، أبقيت أحزاني معلبة ،خوفا من انفراطها
في هذه
الساعة،لئلا تتناثر شظايا مؤلمة لكلانا .
سمعت صرير باب غرفته، تقدم وهو يدعك جفنيه من آثار النعاس ، وقبل أن
أسأله من جديد قال لي :
-هل تعرف يا صاحبي، أحيانا اشعر بأن حياتي كانت سلسلة من المعارك ،
دفعت حريتي ثمنا لها ،المشكلة أنني كنت أخوض حربا لصالح الآخر الذي أمسك
على الدوام بعنقي ،ما أتعس أن يخوض المرء حربا غير مؤمن بجدواها،لكن الحروب
من أجل الوطن شيء مختلف ومن الأفضل؛ أن تبقى بعض الأحداث طي الكتمان ، لا
تحزن لأنك لم تعرف السبب لكن لدي شيء واحد أقوله لك ، الآن ،أرى نفسي مثل
لاعب سيرك ،يمشي على حبل مشدود وفي فمه نصل حاد، الحبل صراطه للوصول إلى
الضفة الأخرى ،وكي يصل يتوجب عليه المحافظة على هدوءه واتزانه.هذا ما أفعله
بدقة.
حملت حقيبتي ،لم التفت إلى الوراء، ولم أنطق بحرف ،كنت أشعر أن حبال
صوتي أصابها اليباس وأنني لن أقدر على وداعه .
الأظافر المكسورة
(1)
بدأت الصالة تزدحم بالمسافرين، الكل يستنفد لحظات انتظاره في
الوداع، حتى آخر قطرة من الزمن ،وحدي أنا ،هاربة منه،الوداع، لا حزنا،بل
مقتا له، من يكون حتى أغتال وقتي في وداعه، وهو اغتال داخلي كل شيء جميل …
انتهت المساحة على الورقة الصغيرة ، الحقيقة أكتب كلماتي على بطاقة
من تلك التي تعطى للمسافرين أثناء دخولهم إلى المطار ،نماذج ، وأنا أخذت
أجمع منها المرمي وأكومه على الطاولة في صالة الترانزيت من الخلف بيضاء،لا
بأس تتسع لنثر همومي ،لكنها أرق من أن تحملها؟!
(2)
-هل مازالت دماؤه تجري في عروقي ؟ تغذي قلبي؟! وتدخل إلى دماغي
فتنهل منها ذاكرتي ماءها، مخيف ؟! سأبدلها! أجل سأغير دمي، أطلب تبرعا
بالدماء، وأشتهي أن تكون نظيفة صافية لا تلوثها الأخطاء ، مثل دم الأطفال
! إنها فكرة رائعة هل أجد متبرعا ؟
حسمت أمري ،واتخذت قراري ، وجسدي يرتدي الكرسي في صالة
الانتظار،ويدي اليسرى عالقة بأذن الفنجان الخامس ثم ترتاح لتعلق بأهاب
السيجارة العاشرة، تمتص شفتي، واليمنى تسود الصفحات البيضاء الصغيرة ، كما
هو وجود بعض البشر يجعل حياة من حولهم باهتة دون لون
صوت المعلن – في المطار – لم يتعب وهو يعلن عن تأخير الطائرة لأسباب
طارئة!
وأنا – هل جئت هذه الدنيا بسبب نزوة طارئة ؟اللعنة !هل كنت من صلبه؟
من صلب ذاك الرجل ؟ أم أتيت في غفلة من زمنه وهو لا يدري،ثم أدرك بحدسه ؟؟
واسمه، أجل اسمه مدرج يزيل أسمى ! افتح جواز سفري لأتأكد ،يا
للخيبة حتى هو سأقدم طلبا للجهات المختصة أغير اسمي أليس هو من اختاره
..وبالطبع اسمه أيضا سيمحى من كل أوراقي، ومن ذاكرتي.
(3)
ماذا لو أنه كان مختبئا في حقيبتي، مسافر فيها؟! عندما أصل وأكون
مسرورة بالهروب منه يفاجئني موظف التفتيش يقول :
-افتحي الحقيبة ! ويصرخ ،من أين جئت بهذا المسخ ؟ مسخ نعم هو كذلك،
يا إلهي، تهزني المبالغة في التصور، لا مستحيل خلفته ورائي ،متأكدة
اللعنة، قطف الأحلام الحلوة من عمري وزرع بدلا" عنها كوابيسه، تطاردني في
كل زاوية ؟؟
(4)
آب اللهاب ..!!
انه السبب ..؟ الشهور الحارة في الصحراء تغلي الدم في العروق وتغلي
معها الشهوة! ومتعب هو ؟ وأمي هجرته ! وما ذنبي أنا ؟ إنها أمي الحقيقية
التي حبلت بي وهنا على وهن …حينما أصل ،سأرمي بكل أثقالي وهمومي وثورتي في
وجهها، هذه المرأة التي اختارت رجلا" ليس أبي، وستقول لي بسكينة وضعف وما
ذنبي أنا ؟!
أجل، لا ذنب لها سأرمي بنزقي من نافذة الطائرة ، ليتناثر في هواء
المدينة، سيلوثها بقذارته .!
-هل تريدين مزيدا من القهوة ؟
-نعم، من فضلك هل لديك قهوة للنسيان ؟
يبتعد النادل وهو يهز رأسه ضاحكا! يظن أنني أمازحه! لا يدرك مدى
سعادتي، بأنني حينما أصل، سأتمدد في فراشي أفرد جسدي دون وجل أو خوف، هذا
النادل لا يتصور كيف قضيت الليالي الماضية، متكومة داخل جسدي مثنية على
وجعي، منكمشة في فراغ الغرفة الضيقة في إحدى زواياها، مختبئة عن عينيه ؟
لكنني كنت ارتعش وأنا أسمع صوت أنفاسه في الغرفة.
يطفئ النور في الصالة، ويتقدم، اسمع دعساته على الأرض تدب، تدب، دب،
دب، دب، يرفع الغطاء الثقيل عني –ونحن في عز الصيف ويسألني ببراءة :
-هل تشعرين بالبرد ؟
-ابتعد عني،أرجوك؟ أصرخ ، آي، يخرسني. تمتد يده القوية تلجم صرختي
الثانية وتبقى عيناي تحدقان به للوهلة، أخجل؟! نعم أغمض عينيّ، ثم …،
هو لا يعنيه الأمر ..لا يهتم ،حينما يتضرج وجهه وتلهث أنفاسه قريبا
من وجهي واسمع نبض قلبه .تك بم ..تك بم ..تك بم ..لا،انه قلبي ..أنا
خائفـــــــة ماذا يحدث ..؟
(4)
هكذا صرخت في المرة الأولى ؟ ماذا يحدث ……….أتذكر جيدا:
- ماذا يحدث؟ ما …با … ،أمسكت بزجاجة المياه الباردة ورميتها
على البلاط ، تناثرت قطع الزجاج حولنا ،لم يهتم، تقدم بشراسة أكبر، طرحني
على الفراش من جديد، وارتفع ثوبي، كان يكابد داخله وحشا نهما! يهوى افتراس
اللحم البشري؟ كان شبقا لأنثى! أي أنثى!
لا يهم إن كانت دماؤنا واحدة! وانه أبى؟ الذي افترش قبل نصف ساعة
سجادة الصلاة !ورتل آيات الذكر الحكيم! ؟
لكنني لم أرحمه، .غرزت أظافري الطويلة والحادة في لحمه، وسال دمه!
وأنا أيضا، نسيت انه أبي، الحاجز انكسر؟؟ هذه العبارة قالتها صديقتي!
(5)
أنا لم أعترف لها، جرجرتني ، رأتني متعبة ومنهارة، أمضيت ليلة كاملة
دون نوم! لا أعرف مع من أتحدث، هنا في هذا البلد ليس لي أقرباء لدي صديقة،
وهي أخذت تستجوبني :
-أنت، لست التي أعرفها! في عينيك ألمح فزعا، وأنت تداريه عني، مم
تخافين ؟
-أخاف! أخاف، من أن أتأخر، أريد أن أسافر إلى أمي و إخوتي !
-لا بأس، لو أمضيت أياما أخرى معنا سوف نفتقدك ؟
لكن، دموعي سبقتني، وهذه المرأة لديها قدرة فائقة على التخمينّ !
إنها تستشعر الحدث! أم لربما، ما حدث معي مازالت صوره ترتسم على أحداقي، يا
إلهي؟ هل ستعرف أمي؟ لا، حرام، صرخت آه ..
-ما لك يا حبيبتي ؟ يبدو أن وجع يسكنك، يكاد يقسمك إلى نصفين؟
-نعم، في الحقيقة أنا نصفان، النصف الأعلى يعذبني بالتفكير في ما
جرى، والنصف الآخر لا أريده، كرهت نفسي، لماذا خلقت أنثى ؟
-الأنثى جميلة، أنت فتاة رائعة، حلوة، ظروفك صعبة، أعرف أن والدك
يبدو غريبا أحيانا، وشرس الطباع، وفي مرات أرى في نظرة عينيه، كيف أصفها ؟
نظرة ، أم نظرات رجل لأنثى و ليس لابنة؟!
أطرقت، خجلت، الصمت أبلغ، وربما أجعلها تائهة عن حقيقة الأمر،
لكنها تصر على انتزاع الحقيقة، وأصر على التمويه، إلى متى؟ أنا منهارة !
(6)
اعترفت …!
في البداية، تقبلت الأمر، وعانقتني، احتضنت حزني وألمي كدت انتفض
حين لامستني أصبحت أخشى العواطف! إنها تخيفني! حتى النبيلة منها، وهل هناك
أنبل من عاطفة الأبوة؟
أراها تتحول إلى شيء آخر غريب، هل صديقتي هذه المرأة ستتحول عواطفها
نحوي إلى شيء آخر أيضا؟ لكنها بعد قليل لم تتمالك نفسها جلست تبكي، لم
تحتمل ما استعطت احتماله!
في اليوم الثاني لاعترافي لها، أخذت تنتظر مكالمتي بالهاتف، وحين
سمعت صوتي، تنهدت بارتياح قالت :
-لم يعد يعنيني إلا أن اسمع صوتك وأنك بخير، هل كنت قوية ليلة
البارحة ؟
-كنت ضعيفة وقوية في آن.
-أفهم، قصتك، مثل ضربة على الرأس، إذا لم تطح به، آلمته وطار صوابه
..؟!
(7)
صرت أحب الخروج من البيت ،أريد أن أمضي الوقت بعيدا عنه، وعن مكان
يضمنا، أخافه أخاف الوحش النائم داخله. لا أعرف متى يستيقظ؟ ويثور..؟؟
-هل أعاد الكرة؟ كيف ،كم مرة حاول ذلك ..؟
-لا، أقصد ثلاث مرات ؟!
-ابق معي حتى يحين موعد سفرك …؟
-لن يقبل !
-كيف أطمئن عليك؟
-لا تخافي، أصبحت أقوى، ثم انظري أمتلك أظافر طويلة وحادة، لها
فائدة ؟؟
(8)
-القهوة ..؟
-شكرا، كم الحساب؟ ينظر إلي بعينين ذابلتين ويبتسم، ماله هذا الآخر
يريد مغازلتي؟
وقح، هل يتشابه الرجال؟ أكره نذالتهم ؟!
الطائرة متأخرة، لا يهم لكنني غادرت وانتهى الآمر، سيبقى في غربته
يقتات الندم ولعناتي حتى آخر يوم في حياته، وأنا حينما أصل، وأحط بسلام
سأخلع ذاكرتي! وربما تركتها في هذه المدينة التي تبعد عنا أميالا !
لربما، يموت ذاك الوحش داخله، ليلة البارحة اعتذر مني! هكذا ببساطة،
ركع أمامي، الأب يركع ؟
-سامحيني، فقط أسمعها منك؟ من لسانك، ليس من قلبك! لا تسألي كيف
فعلت هذا شأن من الصعب تقديره لك الآن ؟
-كلا، لن تسمعها، الله لن يسامحك! كيف أفعل أنا ؟
معتوه، كيف لا أفهم؟ ما حدث بيننا، خمسة وعشرون عاما ومتعلمة ولا
أفهم، فظيع جدا! لكنه يعرف أنني لن أبوح لأحد، صديقتي محقة، قالت لي -جبان،
كان يعلم أنك أقوى من أن تنهاري، وأضعف من أن تفشي سره!
(9)
استرق النظر للركاب المسافرين وهم في الصالة، يتململ البعض من
الانتظار،وهناك من استغرق في ثرثرة يقطع بها الوقت خير من أن يقطعه الحزن
على أحباء تركهم وراءه، وآخرون نائمون على الكراسي لا تشغلهم لهفة إلى لقاء
ولا يقلقهم وداع! فجأة ،ينتابني هاجس، ماذا لو أنهم قرروا إلغاء الرحلة ؟
وأخبرونا بضرورة العودة إلى المدينة .. حتى يحين موعد الرحلة الثانية …؟؟
هل أعود ؟ وارتمي في أحضان الرعب من جديد؟ الرحلة الثانية بعد يومين
إذا لو حدث ! لن أعود سأمشط الطرقات والأزقة ليلا" نهارا، ومم أخاف ؟ من
الكلاب الضالة لن تفترسني بأشد مما فعل بي هو في بيتنا، بيتي، بيته الذي
رميت مفتاحه ؟
ما أجمل الزحام والناس! هنا أشعر بالأمان، سأطلب من إدارة المطار
السماح لي بافتراش هذا البلاط البارد، لن يكون أبرد من صقيع فراشي في
الغرفة الضيقة، في بيته؟
(10)
لو أن عقارب الساعة تتدحرج بسرعة قصوى تتخطى عقاربها؟ ساعة، ساعتين؟
لو أن الزمن ينكص على عقبيه؟ هذه المرة فقط، من أجلي، لأمسح عنه ملح الأيام
الماضية وأضع بدلا منها نقطا وفواصل، هكذا، فواصل ، فواصل، وأنسى! أنسى
تماما ما حدث.
-تفضلي، كوب ماء مثلج؟ .
-شكرا"، احتاجه الماء نقي، لو أغطس في هذه الكأس، أغسل وجعي؟ وصدأ
الزمن الذي تكلس على جدران عمري، أصبح الكلس أقسى من الرخام، لن ينكسر، لن
يذوب، صديقتي قالت بالأمس:
-افتحي صفحة جديدة
-صعب، هذا الوجع عالق بثنايا الروح، عالق على جدران ذاكرتي متكلس
.هل تفهمين؟
-إذا إطلي جدرانها بألوان الحياة الزاهية، اضحكي عليها! إذا لم
نستطع مسح الزمن المر من قلوبنا، نطليه، نزوقه، نجمله ؟
(11)
- تعلن الخطوط الجوية عن قيام رحلتها المتوجهة إلى .. على المغادرين
التوجه عبر البوابة الأخيرة ..أحمل فرحي واركض،الجميع يمشي بتكاسل وملل
تعبوا من الانتظار ..كلهم يتجهون نحو البوابة وأنا وحدي اركض نحو الحمام،
أين المياه ؟ المغاسل؟ المرآة تصفعني بوجه مرهق وعينين مخضبتين بالدموع أضع
رأسي تحت صنبور المياه الباردة .أنفض شعري، هكذا أطفئ الحريق! اعتدت فعل
ذلك قبل أيام، كل مساء حينما يشتعل لهيبه ويستعر،
يطفئه بجسدي، وأطفئ حريقي بالماء البارد! هذه آخر مرة!
كنت أجري في الصالة، اعبر الممر، أدخل البوابة وشعري يقطر، الركاب
يجمعون البطاقات المتساقطة باستغراب! دعوها، لا أريدها إنها عمري الممسوح
من الذاكرة، لتسقط،اركلها أركل الهواء الذي تلوث بأنفاسه، أصل باب
الطائرة، وأفرد يداي أمام وجهي أتملهما، أصابعي العشرة النحيلة الطرية كورق
الخس، أظافري .أظافري مقصوصة! مكسورة، لم يعد لها لزوم بعد الآن؟!
لِلاَّه عيشة…
حينما طلبت الإذن من والدي، كي أذهب بالسيارة وحدي إلى الجبل، دهش
من التوقيت، إذ إن المسافة تستغرق ساعتين من الوقت، ولم يتبق على غروب
الشمس أكثر من ساعة ونصف، لكنه رضخ لطلبي، فقط، لأنني أنوي زيارة جدتي
(للاَّه عيشة)
انطلقت مسرعة ولكنّ أفكاري القلقة سرعان ما هاجمتني،وأخذت أحدث نفسي
بأنهم جميعهم، سيرفضون، ويقفون ضدي، لأن الكل، وأنا أيضاً، أحب( للاه
عيشة)، هذا أول ما خطر لي، ويدي عالقة بمقودِ السيارة، والتي لم تبق ثابتة
بل أخذت تميل ذات اليمين واليسار لكثرة المنعطفات على طريق الجبل، لكن
نظري يمتد نحو ذلك الأفق الصاعد ببطء، حيث بلدتنا المترامية على أطرافه.
استسلمت لاهتزاز السيارة، وهي تتمايل في صعودها وانحدارها، وكنت
استرق النظر أحياناً في الاتجاهين، متأملة وملتقطة إشارات الربيع المنفتحة
بواكير أزهاره،على يمين الطريق ويساره، وفي ذهني أسئلة ملحة، ولا أملك لها
الإجابات.
كنت معلقة بين طرفي أرجوحة، في فضاءِ ضبابي، أرجوحتي تصعد مرة
باتجاه آفاق الحلم، حيث استسلم له بشرود فكر، ملتقية حبيبي " طارق"، وحالما
يسقط عليّ انبهار ضوء الشمس، يصطاد ني القلق، فأهبط من أوهامي، و أتذكر
تحذير أمي لي، من أ ن جدتي((للاه عيشة))، ربما وقفت عائقاً أمام قصة حبي،
وقد يكون لرأيها الأثر الكبير عند والدي، والذي سيرفض حتماً نزولاً لرغبة
والدته.
وتصعد نهدةٌ حَرَّى، أسمعُ معها صوت أنفاسي لاهثةًٌ. ومن ثمة،
استغرق في تفاصيل مبهمة، لقصة حب كبيرة عاشتها جدتي، وانتهت بمرارة وفشل،
بسبب جد "طارق" حينما كان ما يزال شقيقُ زوجها قبل زواجها بجدي.
ينقبضُ داخلي، وأتخيلُ مقدار الألم الذي سوف أتسببه لجدتي، وهي
الغالية عليَّ وعلى كل الصبايا والشبان من أسرتنا والذين رعت قصص حبهم
وحمتها حتى سارت إلى نهايتها السعيدة.
الكلُ يقدر سعة صدرها، ويعتبر بيتها الواسع، وحديقتها الجميلة،
ملاذاً رائعاً، لهذا استحق بيتها اسم الحب،.
جدتي، رقيقة القلب، ودودة وقد جاوزت السبعين، لكنها مازالت تحيا
بقلب فتاة عاشقة لم تتجاوز العشرين، إنها تفهمنا وترعانا أكثر من أهلنا، هي
دوما قريبة من أعمارنا لأنها لم تكبر مثل الجميع .
إنها لا تتبارى مع الزمن، فهي غلبته بشجاعة الإخلاص لحبها،تجوهرت به
ارتدته فتألقت بالطيبة، لكنّ السؤال مازال ملحاً، يطاردني هل سترفض قصة حبي
أنا؟؟
*******************
جدتي كانت؛ وما تزال متميزة عن الجميع، والسّر، هو أنها اختلفت عن
نساء عصرها، هو نشأتها ابنة لشيخ القبيلة (الجد الكبير)،والذي لم يرزقه
الله بسواها، بالرغم من انه تزوج مرتين.أما أنا فلا أتميز عن أحد من البنات
بشيء،وكل ما كانت تفعله جدتي كان سابقاً لعصرها.
جدتي، وجدت نفسها، حرة وحيدة، ُمدَّللَة، تملك أنفة وعزة، وكانت
تقضي يومها، في ركوب الخيل والمطاردة، والسباق مع الفتيان، من سنها والشبان
الأكبر سناً، وربما حدث واشتبكت معهم؛ في معارك حول السبق، وفي السابعة
عشرة، أصبحت فتاة مشاكسة، لا تمت للأنوثة بصلة، ولم تكن حسناء، إنما تجيد
فن الحديث، وذكاؤها الحاد جعلها تعرف كيف تخاطب الرجال وتتحداهم، وهذا ما
تعلمته من مخالطة مجلس والدها، حينما يجتمع رجال القبيلة، عنده، حيث
ولطالما اقتحمت جلستهم تلك، وهذه عادة لا تجرؤ النساء على فعلها.
لكن جدي، أتى يوم عليه، وضاق ذرعا بتصرفاتها، التي اعتبرت طائشة.
وتأثر من أن ابنته التي تملك أكبر ثروة في البلدة، لم يتقدم أحد بعدُ
لِخطبتها!!
إلى أن جاء يوم، ووجد أحدهم الشجاعة في نفسه، وقالوا، أنه هام حباً
بها، فتقدم يطلب يدها، غير أنها رفضته، لأنها تعلم مقدار ضعفه أمام رغبات
شقيقه الأكبر، والذي هو لسوء حظي جدُ "طارق".
المشكلة في أنها أخبرته برفضها، ولكنه أصر، حاولت أن تُسمع صوت
احتجاجها ولكن دون جدوى، وفي النهاية أذعنت لرغبة والدها الذي لا يرفض له
طلب.( فهل سيحدث لي مثلها، هل ستقبل لي نفس مصيرها؟ )
لقد بقيت تحمل في أعماقها أول هزيمة عرفتها، تزوجته وقررت أن تفعل
أي شيء يغضبه، علّه يملُ فيطلقها، وأخذ هو يزداد تمسكاً بها. بالرغم من
مصارحتها له بمشاعرها وأنها ستراه شهما لو حررها، وفي بعض اللحظات كاد
يضعف؛ أمام توسلاتها ورغبة في إرضائها، لكن شقيقه الأكبر، وقف لهما
بالمرصاد ومنعه، بل حرضه على معاملتها بعنف وقسوة .. لم يقدركم كان شقيقه
مُغرماً بها .( وأنه سيأتي يوم وأحب حفيده أيضاً !)
***********************
كانت في بعض الأيام، و قبيل قدومه تغمر نفسها بالدقيق، لتبدو في
نظره قبيحة وثيابها متسخة أو ترمي الطعام، وقبل أن يتناول غداءه، إلى القطط
والكلاب الضالة .
كان لا يحب خروجها في غيبته، لكنها أصرت في يوم على مرافقة الخادمة،
إلى عين ماء تذهب النسوة إليها للغسيل وتعبئة الجرار.
هناك عند ((المالحة)) المتكئة على أذيال مصب عين الرومية،حيث تجتمعُ
المياه في الواحة منفتحةً على السفح، مثل عينٍ حسناء ترمق؛ أهدابها
الطويلة من شجر النخيل، الذي أحاطها واستدقَ على دائرتها، سامقاً وسامحاً
لأشعة الشمس بالمرور، لتعكس ضوءها على المياه البلورية.
ولم تكتف بهذه النزهة، بل أخذت تصعد نحو الأعالي، وعكس اتجاه
المياه، تبغي الوصول إلى شلال ((عين الرومية)) مساقطُ الضوء والماءِ، حيثُ
الصخور المتراصفة مدرجات تصلُ إلى قمةِ الشلالِ، والشلالُ يعصفُ بقوة،
منحدراً من فوقها…. هناك،انتظرتها الغواية، انتظرها العشق… الحبُ الذي
اندسَ بين أحراش السرول والنخيل والزيتون،المتآلفة أغصانها، والمتحالفة مع
ضجيج الشلال المتدفقة مياهه إلى ما لانهاية ……
هناك، التقت الشاب الذي أحبته، ولم تحب قبله أو بعده، وفي أول
الأمر،استباحت لنفسها ساعات تسرقها من أعين الحراس، وفيما بعد، لم يَعْنهَا
أن زوجها عَلمَ وأخذ يستغيثها لتنقذ كرامته.
شعورها، بأنها المتضررة الوحيدة، حيث هي لا تملك قلبها، بينما زوجها
يمتلك ورقة طلاقها، جعلها مقتنعة أن حبها يجب أن يستمر، وعلى الزوج أن
ينسحب لصالح الحبيب.!!!
عندما أحبت ((يحيى)) وَعتْ متطلبات الذات، وقتها سقطت في شرك
الأنانية الخالصة للحب…. على الطرف الآخر، الزوج، بقي مدركاً متطلبات ذاته
المجروحة الكرامة، المكتفية بأن ما أصابها، يهدد كيان الممتلكات ليس إلاَّ
وهو يعي فقط، حب هذه المرأة الحرون، الرافضة، الممعنة في الهروب، ووجد أنه
ما من حل، سوى الإمعان، في معاندة ما تصنع لنفسها من أقدار.
وأثمله شقيقه بروايات عنها، صبها مع كأس الشراب ونزع لجام جموحه،
وضربه بسوط حامِ؛ من الانتقام لشرفه، سن سكين الغدر، ووضعها في يده
الضعيفة، ودفع بيده باب مخدعها الموارب، تسللت سكينه في غفلة من النوم،
وهو ينوي اغتيال الحب؛ الساكن داخله والمطعون من قبلها، لكن ارتعاشة الخوف
التي باغتته، حالما رأى خيط الدم ينفر من نحرها؛ وصرختها الفزعة من الموت
غدراً، أجبرته على التراجع، وجعلتها تنتفض بقوة؛ وتطبق على يده، في ذاك
الزمن الذي تأرجح بين حدّ الموت والحياة، والدماء تنزف غزيرة، منحدرة إلى
أسفل العنق، حملت جدتي قلبها ومتاعها، وذهبت للعيش في بيت والدها، الذي
رحل، وفي قلبه غصة على ما أصابها من مس،
جدتي، حملت قلبها ومتاعها، وذهبت للعيش في بيت والدها، الذي رحل،
وفي قلبه غصة على ما أصابها من مس، واستمرت تلتقي الحب في ((عين الرومية))
حيث صوت المياه متواطئ على السكون، باعثٌ على الطمأنينة لأي عاشقين؛ ابتعدا
عن فضيحة عراء الصمت الكاشف للهمس، (عين الرومية) وَفَّرَت الشروط لنمو
الحب، ومازالت، كريمة مع المحبين، كما الأشجار النابتة حولها، تشرب ماءها
العذب، فتضرب جذورها عميقاً في الأرض.
*********************
هكذا سرقت((للاعيشة)) عقوقها، وضعته في كفة الميزان مقابل عشقها ..
في العشق اغتنت، رضيت نفسها، امتلأت بأحلامها فثقلت، في الكفة الأخرى،
وضعت ارض الزوج القاحلة، الباردة حيث الحياة معه رتيبة لا معنى لها، تدفعها
إلى مزيد من العقوق فغادرت زمنه غير نادمة.
واندفع شقيق زوجها، يحرض على التشهير بها، لكنها قالت أمام الجميع
أنها هجرته، وليس عليه سوى الرضوخ لطلبها – الطلاق- الهدف المستحيل، فأخذ
يطاردها بالشائعات، فلم تذعن ولم تَّلِنْ، وأخذت تراه مثل بحرٍ هائج، يندفع
موجه الغاضب بأقصى قوته، منفلتاً على صخورها المنتصبة، بصلابة وقوة، كانت
صخرة عنيدة لا تتفتت ولا تذوب ..فقط زبده، يصبح رغوة بيضاء، حالما يلتق
هدوءها الموجع.
وكلما عاد موج غضبه وعلَىَ ، تحدته ولسان حالها يقول: أن اضرب موجك
...ارتفع ..انخفض..لابد من التراجع؛ أمام صلابة صخري، وقصصك التي تنسجها
ستبقى مثل مياهك المالحة..لا تنى مرتدةً، إلى أحشاأك العميقة ذائبة مع
رغوتك الزابدة.
بل كان كل من وقف ضدها، ما هو ألا زبدٌ ذائب، فقط شيئان وقفا لها
بالمرصاد، ورقة الطلاق والقدر السماوي!
بعد عشر سنوات، من المراوحة بين زمني الانتظار، الطلاق، والزواج ممن
أحبت، أتاها القدر، ليرسم بثور الجدري على وجه الحبيب، ومن ثم تمحى بتراب
الأرض، التراب الذي داست أقدامهما مشاويرها في المساءات البعيدة..
بين عقدين من العمر، نالت ما حلمت به، وما لم تحلم، مات الحبيب،
وانتفض شقيق زوجها يطالب أخاه الأصغر بالثأر لكرامته..، أمره بطلاقها قبل
أن يوارى حبيبها التراب! فنالته بعد أن فقد معناه ! أخذ زوجها بثأر كرامته،
وحبه، ورحل بعيداً عن البلدة…
*************************
في ذلك الزمن الواقع، بين الهداية والضلال، بقيت ((للاعيشة)) شجاعة،
تواجه قدرها، طوت أسئلتها القلقة حول ماهية الحب، ولبست قميص القبيلة،
مبشرة برجوع تائب، وهكذا تم زواجها من جدي، ابن عمها.
كانت مصافحة بينهم، وبداية اغتراب عنهم…. والحلم وحده أبقاها في عمر
العشرين، حيث تمتطي صهوته كل ليلة منطلقة مع رياح الشمال، برفقة الذات
المنذورة لعشق ينتزع حجباً وأستاراً صنعتها القبيلة… تنطلق غير قلقة بشأن
المستقبل ، لم يعد الحب لحظة اشتعال ضوء، سرعان ما يخبو نوره بل اصبح
سراجاً تضيئه في المساء برفقة الأجيال العاشقة المتلاقية في حديقتها.. لقد
هدأت عواطفها العاصفة، وصخبت أحلامها، بهبوب الرياح في الأجيال المتلاحقة،
من حولها ، وقتها، أطلقوا على داراها اسم الحب.
كاد الليل، َيُهمُّ بفرد عباءته على البلدة، حينما وصلتُ دَاَرهَا،
وكانت الأضواء الخافتة منبعثة من زوايا حديقتها، وهي ما تزال جالسة، خلف
نافذتها، ترمق العشاق الصغار بعين راضية، وقد احتلوا أماكنهم، تحت الأشجار
الحانية الملتفة الأغصان.
فاجأتها بقصة حبي، لم تتكلم، فقط أخذتني إلى صدرها وعانقتني وهي
تغمرني بالدمع والقبل ثم باركت حبي وقالت لي:
-الحبُ هو التمرد على ما يريده الآخرون لنا، وأنت افعلي ما
تَمَنَّيتِه ، وليس ما أحبه أنا..!
حينما انفلت من بين ذراعيها، انزاح ثوبها، كاشفاً عند أعلى الصدر،
على ندبة عميقة تطوق عنقها راسمة نصف هلال غير مكتمل، اقشعر جسدي رعباً
وأنا أتخيل لحظة تلاقي نظرة الضحية لقاتلها، لكنها سرعان ما أسدلت ثوبها،
مخفية وراءه زمناً مضى؛ لا تريده أن يعود، حتى بعد أن جاء حبي ليفتح دفتره
من جديد.
***************************
صباح اليوم التالي، وفي طريق العودة، كنت بين الحين والآخر، أقبض
على وجهي في مرآة السيارة، متلبساً طيف ابتسامة، وأنا أتذكر ما قالته عن
العشق حينما سألتها:
-ألم يكن يعنيكِ ما يقولونه عنك يا جدتي؟
صمتت لوهلة ، فحسبتها متضايقة، لكنها فاجأتني بقولها:
-اسمعِي يا ابنتي، كل واحد في الحياة له فلسفته، أما أنا، فقد
أعجبني وصف أحدهم بأن العشق يشبه المؤامرة، لو كتب لها النجاح سميت ثورة،
ولو منيت بالفشل أصبحت خيانة… أن افتضاح سر العاشق، هو المشكلة وليس العشق
بحد نفسه، الحب رائع وكل رجل يحلم أن يكون عاشقاً وكل امرأة تحلم لأي أن
تكون معشوقة…!!
وصلت مشارف العاصمة، وطغى ضجيجها على أفكاري، بعد أن رافقتني سكينة
الربيع في البلدة .
فقط سؤال واحد أخذ يستحوذ عليّ، وبات يقلقني، وكلما نظرت في
المرآة سألت نفسي: هل الحب يُعلم أم يُورَث؟؟
19/04/01!
المصيدة
(1)
علقت بالفخ!؟
(2)
هكذا هي الآن ،وبكل بساطة لو افتضح أمرها ستكون موضع الشك والسؤال
،بدل أن تكون هي من يسأل، يبدو الأمر وكأن الأدوار ستنقلب ،
كيف حدث أنها لم تحتط جيدا للمحاذير؟. أخذت الأفكار وكل ما مر معها
من حوادث يتخبط داخلها.
(3)
داخلها يغلي، وهي مسجونة داخل غرفة نوم لشاب عازب ،وكل ما يربطها به،
أنه صديق زوجها!.
كانت الغرفة شبه معتمة، إلا من بعض خيوط ضوء الشمس، تصل كليلة
وتستلقي على سريره، ضوء يتسرب من شقوق الباب الثاني للغرفة والمغلق هو
الآخر بإحكام شديد على ما يبدو،وتساءلت لماذا يكون لغرفته بابان ونافذة ؟
حتى النافذة محكمة الإغلاق وعليها ستائر سميكة مشت بخطوات وئيدة على البلاط
خشية أن تحدث صوتا، فتثير الريبة والشك في نفس الضيف الجالس إليه .
وتبادر إلى ذهنها خاطر: وبرعب همست :
-ماذا لو التقيت الضيف على الدرج وأنا قادمة أو حتى وأنا خارجة من
عنده ،ولربما كان أحد المعارف الكثيرين؛ الذين يترددون عليه ويعرفون من أنا
..يا ألهي ،الشك دفعني لارتكاب حماقة ،هل كنت جادة فعلا وأنوي اكتشاف حقيقة
العلاقة التي تربط زوجي بصديقه العازب؟
(5)
مضى ما يقارب الساعة من الوقت، والحصار لم ينته بعد، ترى من يكون
هذا الضيف الثقيل؟
(6)
اقتربت من الباب مرة أخرى في محاولة لاستراق السمع وأخذت تحاول
النظر من ثقب الباب ..دون جدوى 1 لم تسمع سوى ما تخيلته همسا وضحكات خافتة
لم تتبين صاحبها وارتعشت شفتاها وكادت أن تند عنهما صرخة رعب وهي تتخيل أن
يكون زوجها؟ ربما احتمال قائم ؟
-هذا تصور مرعب حقا ،هل نسيت شيئا على الكنبة في غرفة الجلوس التي
استقبلني فيها؟
وأخذت تتفحص ملابسها؛ كانت ترتدي بدلتها ذات اللون الأخضر ومعها
الشال المزهر ..الشال؟ أين هو ؟
تحسست يدها في العتمة كتفيها ..غير موجود ولا حتى عالقا بظهرها من
الخلف وكاد الخوف أن يستبد بها، وتعطلت حواسها، و للحظة لم تستطع أن تشغل
ذاكرتها هل كان معها أم أنها لم ترتده أصلا، وخمنت بسرعة أنه لو انسل منها
أثناء ركضها للاختباء في الغرفة لوقع أرضا ..وهذه مصيبة ! لو كان الضيف
زوجها ولمحه ماذا سيفعل …وطمأنت نفسها بسرعة ،وأن صديقه سيتدارك الأمر
بحكمة فهو معتاد على استقبال ضيوف من النساء ،وهذا وحده دافعها الأساسي
للشك بزوجها ! لماذا يتردد بكثرة على بيت صديقه العازب وكانت غايتها كشف
المستور بينهما ! في الصباح وقبل خروج زوجها سألته:
-إلى العمل مباشرة أم لديك مواعيد في الخارج ؟
ردّ باقتضاب شديد كما هي عادته في الصباح لا يكثر من الكلام !
-أنا في المكتب، هل يلزمك شيء من الخارج ؟
-لا لأنني أنوي الخروج للتسوق.!
(7)
لكنها، قررت هذا الصباح أن تقوم بمهمة استطلاعية ،وتداهم شقة صديقه
، وتحاول التحري والبحث بطريقة غير مباشرة ،تناور وتداور وتستجلي ما
اعتقدته خافيا عنها !
الحقيقة، أن الصديق قابلها بدهشة بالغة حينما فتح باب الشقة ورآها
وحيدة لكنه رحب بزيارتها قائلا:
-تفضلي سيدتي ،هل زوجك بخير؟
-أجل،بخير ! في العمل أقصد ،هل ستقدم لي فنجان قهوة ، أنا كنت هنا
قريبة من سكنك في العمارة المقابلة حيث تسكن صديقتي ،ولم أجدها ! هل تسمح
لي بالانتظار لربع ساعة ريثما تعود .
-طبعا،تفضلي !
حينما ذهب لإعداد القهوة ،فاجأها جرس الباب ، أسرعت وهي تمسك
حقيبتها وتجري نحو المطبخ :
-أرجو أن لا يراني أحد هنا !
ارتبك للوهلة ،لكنه سرعان ما تدارك الموقف، فتح باب غرفة وأدخلها ،
ثم أغلق عليها بالمفتاح من الخارج .
(8)
ابتعدت عن الباب يائسة،من معرفة الضيف المجهول ، فيما لو تناهى صوت
تسمعه،تأملت الضوء الكابي المتسلل عبر شقوق الباب؛وجدته كافيا لترى الغرفة
بشكل ضبابي،لكنه شح عليها برؤية كثير من التفاصيل! فأخذت تستطلع ما احتوته
الغرفة، اقتربت من المرآة .فلم تتبين ملامحها تماما.واعتقدت أنها لو رأت
لون وجهها في هذه اللحظة، لكان بالتأكيد أصفر،لكن العتمة لم تترك مجالا
للرؤية ،وهي تخشى إنارتها لئلا ينكشف أمرها، ويشعر من في الخارج أن هناك
امرأة محبوسة داخل الغرفة مثل فأر!
أجل فأر في مصيدة؟! هذا ما دار في خاطرها وهي تحاول العبث بمحتويات
الغرفة، ثم قررت توضيبها ،بما تبق لها من ضوء! علها تنسى ما هي فيه، كانت
ملاءات السرير مبعثرة فأعادت ترتيبها ولامست يداها غبارا في كل مساحة
لمستها ،واهتدت يدها إلى قطعة قماش فأخذت تمسح الغبار في الزوايا وعلى
أطراف السرير وبمحاذاة المرآة ،تسير بهدوء حذر ،تقطع الوقت الذي قطعها بل
هو شطرها إلى شظايا متناثرة من الخوف والوهم ، والآخر جالس إلى ضيفه ،
منسجم معه يتهامسان وربما يتضاحكان وهي هنا تمسح الأتربة عن أثاث الغرفة
وفي ظلمتها دون أن تجرؤ على أنارتها ؟!
(9)
هل كان يجب أن تكون هذه الغرفة منيعة ضد الأصوات والضجيج في الخارج
؟ نعم لقد سمعته يعلق على هذا :
-غرفتي مصممة جدرانها بمواد عازلة ضد الأصوات والضجيج لأنني أحب
النوم بهدوء !
تذكرت ذلك فأصابها الحزن وهمست :
-كان عليه أن يحبسني في غرفة أخرى هذه الأمنية أصبحت غالية الآن،
ترى ماذا لو كان الضيف امرأة؟ نعم لم لا يكون الآن مع حبيبته يتبادلان
نظرات الغرام وعبارات الغزل وأنا في عزلتي وخوفي انتظرهما ؟ حتى الساعة
بالكاد أستطيع رؤية عقاربها التي تتحرك! وزوجي قد يعود قبلي إلى البيت
والأولاد حينما يؤوبون من المدرسة من سيفتح لهم الباب ؟ هل أطرق الباب
لينتبه هذا الشاب العابث بأنه حبسني هكذا دون أن يفكر بوسيلة لخروجي ؟
وربما هو في موقف محرج مع ضيفه وينتظر خروجه والضيف أما ثقيل أو انه عزيز ؟
تعبت من التفكير ،وجلست على السرير ،شعرت بثقل أجفانها وهي تستند
على حافته، تنبهت للأمر؛ فركتهما بشدة حتى لا تنهار من التعب وتنام في سرير
رجل غريب اقتحمت هي بإرادتها بيته! أحست وكأن سلطان النعاس يريد الاستبداد
بيقظتها، فانتفضت واقفة وهي تلعن الساعة التي نبت الشك في قلبها ، كانت
تعيش مع زوجها بسعادة ويقين وأمان ،لكنه في ساعة ثرثرة ومصارحة مجانية منه
اعترف لها بأن صديقه يلتقي أحيانا بفتيات في شقته وان بعض الأصدقاء
والمعارف لديهم مثل هذه الفرصة !
وسألته : وهل هو عديم الأخلاق لهذه الدرجة وأنت مازلت تصاحبه وتذهب
إليه ؟
لكنه ردّ وهو يحاول نفي الشبههّ عن نفسه :
-لا تذهبي بظنك بعيدا ،تربطني به مصالح العمل وأنت تعلمي ذلك تماما
وهو شاب لطيف ودود لكن أصدقاءه يستغلون طيبته أحيانا، لهذا هو من اشتكى
الأمر لي !
وظنت فعلا انه يريد طمأنتها فقط ،ولكنه زرع الشك في قلبها وسهرت
طوال الليل تفكر في طريقة لاكتشاف الحقيقة وربما كان من بين الأصدقاء الذين
تحدث عنهم ؟
في الصباح ، وقفت أمام المرآة في كامل زينتها وأناقتها ولم يكن
ينقصها سوى الشال المزهر الذي اختفى في خزانة ملابسها فخرجت مسرعة دونه
وكان استطلاع الحقيقة أهم لديها ،فوقعت في مصيدة سخيفة ..
(10)
حينما وصلت إلى هذا الحد من التفكير ،سمعت صوت المفتاح يدور في ثقب
الباب ..هبت واقفة تنتظر الإفراج ،أطل وجهه وفيه ملامح الاعتذار
- آسف ، لقد خرجت مع زوجك ،كان هذا أفضل حل لإخراجك من المأزق،
لكنه أصر على أن أرافقه لأكثر من مكان، ولم أتركه إلا وهو في المكتب؛
وسيتأخر قليلا في العودة إلى البيت. تصرفي الآن! .
خرجت مسرعة ،دون أن تنظر إليه أو تسأله عن شيء .حين وصلت الشارع
واستقبلت ضوء الشمس هدأت خطواتها ..وأخذت تتسكع في الشارع مستمتعة بدفء
الشمس يرد عن أوصالها صقيعا داهمها طيلة ساعات الصباح في غرفة محكمة
الإغلاق، باردة ومظلمة .
|