أحلام أمي
لم تكن الأحلام
تشكل لي هاجسا أو أدنى أهمية في حياتي
قبل أن تبدأ
( قصة أحلام أمي ) ، بل كثيرا ما كنت أحلم
أحلاما
كثيرة ، تضيع من ذاكرتي المثقوبة حالما أفتح
عينيّ
مستيقظا من نوم طويل ، قد تحتفظ ذاكرتي بأجزاء
مبعثرة من
حلم ما ، فأجمع ما استطعت من المشاهد
المتناثرة والمبعثرة لأصنع حلما أقصه على من أراد أن
يسمعني
....كلنا نحلم ، ومن منّا لم يستيقظ في يومٍ ما على حلمٍ أو
كابوس قضُّ
مضاجع نومه .أن
تحلم ليست مشكلة .... المشكلة حينما يبدو لك الحلم
حقيقة ، أن
تعيش الحلم وكأنه واقع .... وأي واقع ؛ واقع
مرير ، ليست
أشياء تُفرح ، ومتى كان الفرحُ شيئا من
أحلامنا
.
في البداية كان
الأمر عاديا ، هكذا حسبته ، فكل الذين
أدمنوا على
رؤية الأحلام يحاولون بل يصرون على رواية
أحلامهم
وقصها على مسامع الآخرين
.
وفي الآونة
الأخيرة أصبح لأمي عادةً جديدةً لم نألفها من
قبل ، فبعد
أن تستيقظ الدار ، ويحدّثُ كلّ منا الآخر ،
سواء برد
التحية ، أو بما يناسب ساعات الصباح الأولى ،
تنادينا أمي
، ونجلسُ بجانبها وأمامها وبعد مقدمات ليست
بالطويلة ،
تدخل بنا إلى حلم من أحلامها ، ففي إحدى
المرات
تحدثنا بأنها شاهدتْ كلبا أسود ، أسود بلون
ليالينا ،
وقد هجم عليها وهي نائمة وسحب عنها الغطاء ،
وإن الخوف
يسيطر عليها .ونطمئنها
بأنها مجرد أضغاث أحلام ليس إلا ، وتكون
المفاجأة
بعد ساعات قليلة ، ويأتي الهاتف من بعيد
يحدثنا بأن
جدنا لأمنا قد وافاه الأجل ، وتبكي أمي
تبكي ....
بكاء مرا ، ويلفنا الحزن جميعا ، وتؤكد أمي
بعد أن تهدأ
الأمور بأن أحلامها حقيقة لا خيال
....وترتجف
قلوبنا من أحلام أمي القادمة ، ونتمنى في داخلنا
ألا تحلم
.
لم تعد الصباحات
كما كانت بالأمس بل أصبحت هما ثقيلا ،
عبئا أُضيف
إلى الأعباء التي نحملها ، نعيش لحظات الصباح
ونحن نضع
الأكف على القلوب ، وندعو الله ألا تحلم أمي
.وتعود
أرواحنا لنا بعد أن تمر ساعات الصباح الأولى دون
أن تنادينا أمي لتقص علينا حلما جديدا .... وتمر الأيام
دون أن تنادينا ، حتى يخيل لنا أن أمي لن تحلم من جديد ،
ثم ما تلبث أن تنادينا ، ونجلس والخوف يأكل قلوبنا ،
وتتكلم أمي وتحدثنا بحلمها الجديد ، وكأنها تراه أمامها، وتقول أنها
فقدت في الليلة الماضية عينيها ، ليست عينا
واحدة بل
الاثنتين معا . وتشاء الظروف وتقع الأقدار من
حيث لا ندري
، ويموت أخ لنا بحادث سيارة ... ويسري الحزن
في كل مكان
من جسد العائلة ، ويتحول بيتنا إلى غيمة حزن
لا ترحل ولا
تزول ، وما هي إلا أيام قلائل ويلحق بأخي
ابن خالة
لنا عزيز علينا، وتضيق الدنيا بنا من أحلام أمي، ونتمنى لو تكف أمي عن أحلامها
، وتخرجنا من هذا الضيق
الذي نحن
فيه .واستيقظ في يوم وأنا أرتعد خوفا وهلعا ، وأفتح عيني وأنا
أبسمل وأتعوذ من الشيطان الرجيم ، فقد أصابني ما أصاب
أمي ، فقد
حلمت الليلة بأن أحدى أسناني قد سقطت ، وكنت
أعلم من قبل
أن سقوط أحدى الأسنان أمر سيئ ، نهضت من
فراشي أبحث
عن أمي ، أريد أن أقص عليها ما رأيت ، كانت
ما زالت
نائمة في فراشها ، نزعت الغطاء عن رأسها بلطف
شديد ،
ونظرت إليها وأنا أناديها بصوت منخفض خوفا من أن
أزعجها ،
ناديت عليها ... أمي ... أمي ... أمي
...ولكنها
لم ترد ، اقتربت منها أكثر فأكثر وارتميت عليها
فقد علمت
أنها لن تحلم بعد اليوم
.
الرصيفة / 2004
مزمار كفيف …. وعزف
متواصل
صخرة صلبة صماء تقتعدها أمام كهفك المهجور ، تتقوقع على نفسك ، وتتصلب
فيك كل الأجزاء التي كانت قبل اليوم تتحرك ، تبحر عيناك في صحراء نفسك ، ثم ما
تلبث أن تخرج مزمارك الذي ورثته عن ابيك وتبدأ بالعزف ، تنتشي روحك وتفرح وأن
تتلاعب أصابعك فوق الثقوب الكثيرة ، المنتشرة على طول مزمارك الجميل ، تسكر في
نوبة من العزف المتواصل ويخيل إليك أو يعتقد عقلك السخيف ، بأن عزفك قد أطرب
جنوب أفر يقيا ، و حرر العبيد ، وأطلق السجناء ، واستل أرواح المتخاذلين ،
وأنهى الحروب …… وقتل البغايا و الزناة في كهوفهم الحمراء .
عيناك تتعلقان بالسماء ، وهي تكبر … تكبر ، تصبح بحجم الخوف الذي في
نفسك ، وأنت مكبل بالقيود ، يدفعك جندي أجرب برأس حربة حاقدة إلى داخل قبو
مظلم. تصمت وتنظر إلى السماء مرة اخرى وهي عابسة غاضبة . تتمنى لو تسقط عليك
قطرة ماء تعزف … تعزف حتى تتدلى شفتاك و يتصلب لسانك ، ويحمر وجهك و يتناثر
شعرك ، والسماء لم تمطر بعد.
تعود تجر أقدام خيبتك إلى كهفك المعتم الموحش و تنتظر غيمة جديدة تحمل
المطر .
تحاول النوم ، تغمض جفنيك ، تأمر نفسك التافهة بالحلم ، فليس لأمثالك
إلا أحلام ولكن عليك ألا تبالغ، فليس من حقك أن تحلم أحلام الأحرار … أو
الأثرياء أو تضاجع امرأة ليست من طبقتك أو … ، أحلم ما شئت ، تخيل ما تريد ،
ولكن إياك أن تتعدى هذا الخط .
خط اسود طويل … طويل … ، اطول من عمرك التعس … لك أن تحلم بقطيع من
الغيوم الهاربة ، تقف فوق كهفك الأنيق الهرم . أو تناجي نفسا أحرقها الشوق إلى
قطرة المطر .
آه … آه …
سماء دنيانا جافة ، نسيتها محاريثنا ، فازدادت يباسا ، وحجارتنا أصبحت
هشة ، طرية ، طحلبية خضراء و نارنا امست بردا و سلاما …
آه… آ ه …
برد … البرد يقص رؤوس أصابع قدميك ، تتكور ككرة صنعت من قماش رديء ،
تتلفع بالبؤس ، يحاصرك غراب مجنون ، يقف منتصبا متحديا ، ينقر جمجمتك المهترئة
كلما حاولت النوم .
آه … آه … لو ينزل المطر .
جبال سأم تحط فوق صدرك الخرب ، صدى … صدى … صدى صوتك يتردد في جوف أنثى
كرهت الدنيا ، مزمارك اصابه الخوف والصدأ فتوقف عن العزف في زمن مرّ ، الآن أنت
بحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى … من يقودك الى درب فيه ذرة نور كي ترى نفسك .
آه … آه … مزمارك توقف حتى عن الأنين .
تحتاج إلى غيمه تقودك إلى ارض أخري ـ هل جربت السفر على غيمة ـ تحتاج
إلى غراب ، ولكن ليس هذا الغراب ، ربما كان كالغراب الذي علم قابيل كيف يواري
سوءة اخيه .
آه منك يا سياب ، مطر … مطر … مطر … لم تبق لنا مطرا ، أمطارك أغرقت
الخليج ، لكنها عجزت عن ان تسقي بذرة قمح واحدة .
آه … آه … لو ينزل المطر .
ما أسخفك أيها المزمار وقد اصابك الخرس في زمن علا فيه الضجيج ، ها قد
اصبحت قطعة نزين بها اكواخنا الرائعة ، حلمت اكثر من مرة بانك مكسور ولكني لم
أحلم مرة واحدة بأنك قد توقفت عن الكلام .
تشنق رغبتك بالعزف المرة بعد الأخرى .
ولكن لا بد من العزف كي ينزل المطر … هكذا قال لي أبي . تعاود العزف ،
وتحلم بقطرة صغيرة تقع على أرنبة أنفك فتحيي بك الاحساس أو تخلعك من حلمك
القاتم الطويل . تحاول العزف و تمضغ هزائمك ، تجتر الأيام المرة العالقة في
سقف حلقك الصدىء …
تتعلقان بمزمار … وغراب … وسماء لا تريد أن تمطر .
تموز/2003
أصابع "عبد الستار"
فوجئ "عبد الستار" وهو يستيقظ من نومه بثقل وانتفاخ في رؤوس أصابع يديه
، قلّب يديه والدهشة تملأ وجهه بعلامات التعجب والسؤال، نهض من فراشه مفزوعا
وسار باتجاه المرآة، حدّق فيها جيدا ، لا يبدو عليه المرض ، عاد يحدّق في أطراف
أصابعه من جديد ، الانتفاخ واضح وهناك احمرار شديد، توجه نحو المغسلة ، وضع
يديه تحت الماء البارد ، وترك الماء ينساب عليها ....يدغدغها ، يرفع رأسه
عاليا...عاليا...وعيناه تبحلق في سقف الحمام وكأنه يعيش في قمة هرم اللذة ،
يشعر بارتياح ولو بسيط .
_ ما الذي أصاب أصابعه ؟؟؟ نادى زوجته وهو ما زال يضع يديه تحت الماء ،
تراجعت زوجته وهي ترى أصابع زوجها وكأنها حبات بلح كبيرة حمراء.... صفعتها
الدهشة فلم تستطع الكلام ، جرّ قدميه باتجاه غرفته وهو يجتهد بأن لا تلامس يداه
جسده ، فأي احتكاك ولو بسيط كان يشعره بألم شديد ، جلس على سريره بسط يديه
أمامه وراح يتأملها بألم شديد ، وخياله يسوقه إلى صور شتى ، فتراه مرة يضحك ،
وأخرى يبكي ، ويرتفع صوته ، يصرخ ...يصرخ...يتعالى صوته فيرفع يديه ليسد بها
فمه ، ثم ما يلبث أن يتراجع عندما يسبق الألم وصول يديه لفمه ، يكتم غيظه ،
وتفر الدموع من عينيه . تتقلب أمامه صور المكفوفين وهم يتلمسون أوراقهم
بأصابعهم ويقرءون ، يندب حظه وهو يتأمل عالم اليوم ، وكيف أن هذا العالم كله
مرهون بضغطة زر واحدة ، هذه الضغطة بطلها أحدالأصابع ، وينظر لأصابعه .
2
"عبد الستار" لم يكن في يوم من الأيام لصا أو قاطع طريق، بل أمضى جلّ
عمره وهو يدرس الأطفال، يهذبهم ، يعلمهم الحكمة والأخلاق الحميدة ، أصابع "عبد
الستار " على درجة كبيرة من النبل والعطاء ، لا أحد يعرف " عبد الستار " وينكر
فضل أصابعه وهي ملوثة بالطباشير ، تدون ما تناثر من الأدب والحكمة للأجيال، ورم
أصابعه الشديد الذي يزداد لحظة بعد أخرى جعله يبدو كطفل رضيع ، يحاول مص أصابعه
ولكنه لا يستطيع ، فهو ما زال يلتمس البرودة ، يبحث عنها، تحت صنابير
المياه ، في الثلاجة ، في مكعبات ثلج صغيرة، يلفها بقماش حول أصابعه ويديه .
يرتجف " عبد الستار " خوفا وألما ، والناس يتجمعون حوله، يحملونه إلى أقرب
مستشفى ، وأصابعه ما زالت تزداد ورما وانتفاخا ، ويحس " عبد الستار " وكأن
أسرابا من النمل تتجول في داخلها ، تكاد تخرج في أية لحظة ، يتمنى لو أن أحدهم
يحضر له ساطورا وخشبة جزار ليقطع هذه الأصابع كما كان يفعل المطلوب للتجنيد
الإجباري منذ قديم الزمان .
3
صور الأصابع في شتى أوضاعها لا تفارق خياله ، أصبح يحصيها ، ويتأملها
بعمق شديد ، وأصبحت تعني له ما لا تعني لغيره من الناس ، فهذه صورة الرجل الذي
يجالس من يحب في المسلسلات والأفلام العربية ، وما يحدث من تناسي الأصابع كي
تتسلل وتسبح لتلامس بعضها بعضا ....مسكين "عبد الستار " ، لم يعد بإمكانه طرح
أصابعه بشكل يبدو عفويا أمام من يقابل من الجميلات ....بل لم يعد بإمكانه تقليب
صفحات كتاب ما أو الضغط على أزرار الريموت كنترول للبحث عن قنوات جديدة وأخبار
مثيرة .
4
على باب غرفة الطبيب في قسم الطوارئ جلس "عبد الستار" ينتظر الإذن
بالدخول ، وقد وضع كفيه على ركبتيه واسند ظهره ، وراح نظره في خط مستقيم ،
وكأنه يرصد شيئا ما ، يصغي لمن حوله من المنتظرين ، ينظر لأحد الجالسين بجاوره
وهو يحرك فقط عينيه ، فيراه يشبك ما بين أصابعه ثم يجذب أصابعه بكل قوة في حركة
عكسية ، فيسمع فرقعة عالية ، فيرتجف قلبه وتنهار قواه . الذي زاد من قلق "عبد
الستار " هذه الحركة التي يحسها ما بين الفينة ولأخرى في رؤوس أصابعه المنتفخة
، وكأن شيئا ما بداخلها . تخرج السكرتيرة وتنادي اسمه للدخول على الطبيب ،
فيحاول رفع إصبعه بسرعة ، فيفشل ويسمع كل من حوله آهته تخرج من صدر كثرت به
الجراح . يتقدم بخطى ثقيلة من باب العيادة ، يدخل على الطبيب ، وقبل أن يكلمه
أو يسأله يرفع "عبد الستار " يديه أمام الطبيب ، ينظر الطبيب إليها ، يتمعن بها
جيدا ثم يصفر صفرة طويلة ، فتنهار جدران الأمل التي بناها " عبد الستار " قبل
دخوله هذا ويتلعثم وهو يسأل
الطبيب :
_ ماذا عن أصابعي ... لماذا يبدو عليك الانزعاج يا سيدي؟؟ يبتسم الطبيب
....ثم يضحك ... يضحك بصوت عالٍ ، ويدير ظهره لمريضه ، وكأنه لم ير شيئا ، ثم
ينحني على مكتبه وكأنه يكتب شيئا ، يرفع رأسه مواجها المريض الذي ما زال يرفع
يديه خوفا من أن تلامس شيئا فيزداد ألمه .... ثم يسمع الطبيب وهو يقول له :
_ أنت الحالة رقم سبعة .... كلهم كانوا يتألمون مثلك ....ويصرخون ...ثم
سكت ألمهم فجأة . أصابعك يا أستاذ حبلى .... حامل . ويسقط " عبد الستار " بعد
سماعه لعبارة الطبيب الأخيرة.
محمد الصورباهري - الرصيفة/ 2004
زوبعة في جامعة "ص"
كاميرات المراسلين الصحفيين تتخذ وضعها لرصد الحدث في جامعة "ص" ، هدوء
مشوب بالحذر يملأ ساحات الجامعة ، يافطات بيضاء عُلقت في أماكن كثيرة من جامعة
"ص" ، كلها تشجب وتطالب بحذف مادة الفلسفة من المتطلبات الدراسية . خيبة أمل
صفعت جميع المتقدمين للامتحان النهائي لمادة الفلسفة … برود سرى في شرايين
جامعة "ص" . مجموعة من الطلبة تجمعوا هنا و هناك وراحوا يتهامسون فيما بينهم ،
وكأنهم يتحدثون عن أمر جلل ."صوفي امندسون"1 جمعت أوراقها التي كانت تصلها من
طرف ٍ خفي لتعلمها الفلسفة وقامت بإحراقها . الأحداث التي جرت في الآونة
الأخيرة قد أحدثت بلبلة في صفوف الجامعة ، رئيس الجامعة وعمداء الكليات وقفوا
حائرين أمام طلبات الطلبة بحذف مادة الفلسفة ليس من جامعة (ص) فقط وانما من
جميع جامعات الدنيا بلا استثناء.
_ لا نريد الفلسفة ، شبعنا من الفلسفة … هكذا بدأ الطلبة يصرخون
ويرفعون أصواتـهم . تفاقمت الأحداث ، وأصبح لها نكهة جديدة بعد أن قام طالب
متزوج بطلاق زوجته لأنـها لم توفر له الجو المناسب لدراسة الفلسفة … وطالب آخر
أبتلع أكثر من ثلاثين حبة أسبرين لإسكات الصداع الذي راح ينتابه وهو يدرس مادة
الفلسفة ، وطالبة كانت قد ارتبطت بشاب جميل له مستقبل واعد ، فسخت خطوبتها
لأنـها لم تجد الوقت الكافي للجلوس معه والتحدث في أمور مستقبلهم . أبواب
الجامعة ما زالت مفتوحة ، الطلبة يتجمعون ، ويتحول همسهم إلى ضجة غير مقبولة في
جامعة (ص) . ترتفع الأصوات شيئا فشيئا ، وحدات من الأمن تطوق أسوار الجامعة من
الخارج تحسبا لحدوث مظاهرات ما أو أحداث شغب ، مكبرات الصوت بين أيدي الطلبة
تطالب ليس بحذف مادة الفلسفة فقط، إنما بحرق الفلسفة وإعدام سقراط مرة أخرى .
وصلت الأخبار إلى وزير التعليم العالي ، الذي بادر لتقديم استقالته فور سماعه
الخبر وذلك بسبب أن مؤهله العلمي (( دكتوراه)) في الفلسفة ، تم تشكيل وزارة
جديدة، وتم اختيار وزير للتعليم العالي ممن يكرهون الفلسفة ، وربما كان ممن
حملوا مادة الفلسفة مرارا وتكرارا أثناء الدراسة الجامعية ، تسارعت الأحداث في
جامعة (ص) وانتقلت الصحافة المرئية والمقروءة إلى الحرم الجامعي ، وأصبحت الحدث
الأهم بعد احتلال العراق . آخر الأخبار كانت إلقاء القبض على سقراط والمطالبة
بإعدامه . خرج الفلاسفة ينفضون التراب عن أجسادهم لوقف هذه المهزلة، أر سطو ،
أفلاطون ، الفارابي ، الكندي ، …. ومن العصر الحديث د. زكي نجيب محمود . جمع
غفير من الفلاسفة تجمعوا في ساحة جامعة (ص) التي تحتجز سقراط وكما كبيرا من كتب
الفلسفة . باءت كل المحاولات في إقناع الطلبة بعدم إعدام سقراط بالفشل الذريع .
وأصر الطلبة على إعدام سقراط رمز الفلسفة . استجاب سقراط دون مقاومة ، وطلب كأس
السم بدون محاكمة هذه المرة وبدون قضاة وبدون أن تحزن عليه أثينا ، ليتجرعها
مرة أخرى على مرأى العصر الحديث . رفض الطلاب جلب السم لسقراط . قال أحد الطلبة
لأحد المراسلين الصحفيين ولإحدى القنوات الفضائية بأن هناك وسائل حديثة للإعدام
، ولم يفصح عن هذه الوسائل . لم تجد كل المحاولات في الإفراج عن سقراط وعدم
إعدامه مرة أخرى ، وبدا التصميم واضح من قبل طلبة جامعة (ص) بإعدام سقراط ،
كانت وسائل الإعلام تترقب الإعلان عن الطرق الحديثة التي قال بها الطلبة . أحد
الصحفيين وعلى إحدى القنوات الفضائية توقع أن يكون الإعدام بالصدمة الكهربائية،
قناة فضائية أخرى توقعت أن يكون الإعدام على الطريقة الإسرائيلية أو الأمريكية
. صحفي ساذج توقع أن يكون الإعدام بأن يلقى سقراط من فوق سطح الجامعة المرتفع .
فتاة تتقن مهنة الصحافة توقعت أنيكون الإعدام باشراك واجبار سقراط بتحرير
العراق . لن أطيل عليكم أيها السادة ، فقد قرر طلبة جامعة (ص) ، أن يكون إعدام
سقراط بأن يدرس مادة الفلسفة في جامعة (ص)، وإذا لم ينجح _ وهذا في شبه المؤكد
_ فسوف يكون هناك محاكمة أخرى لسقراط وبدون وجود قضاة .
الأردن / الرصيفة تموز 2003
هامش:
صوفي امندسون: هي الفتاة التي تلعب الدور الرئيسي في رواية ,, عالم صوفي,,
للروائي جوستان جارنر، فهي في الرواية تبدأ بتعلم الفلسفة عن طريق رسائل تصلها
من مجهول، والرواية تدور حول تاريخ الفلسفة.
الأمر 72
معسكرنا مجموعة من الخيام، انتصبت في الصحراء لا تعرفها الشياطين،
وتخلو من كل مقومات الحياة الطبيعية، حتى الهواء فيها يختلف عن الهواء في باقي
الكرة الأرضية، فتشعر دائما انك تتنفس بصعوبة... رمالها صفراء توحي لك بالكآبة
التي تعيشها في تلك المنطقة... كان عددنا ثلاثين جنديا... جاء اختيارنا من
آلاف الجنود... ولم يكن اختيارا عشوائيا كما سيخطر في بالك، إنما كان بعد
اجتياز مجموعة من الاختبارات، لم نكن نعلم أنها سوف توصلنا إلى هذه المنطقة...
فقد جمعنا قائد الكتيبة يوما، وتحدث لنا عن موضوع اختيار مجموعة من الجنود
للسفر إلى بعض الدول الأجنبية ... وبدأنا نعد العدة، وحاولنا دائما إن نكون
الأفضل، وبعد كل اختبار نشعر إننا اقتربنا من بلاد الحضارة والرقي.. والترف..
والنعيم، وإننا على قيد أنملة من رؤية الفتيات الشقراوات، وما نحلم به وما لا
نحلم به، وجاء اليوم الموعود، وصدرت قائمة بأسماء الجنود الذين تم اختيارهم....
وأصابنا الفرح... ورقصنا كما لم نرقص من قبل، وطارت بنا الأحلام إلى حيث لا
ندري... حملتنا إحدى الحافلات الضخمة الجميلة ونحن نسبح في حلم جميل ... بل قل
أحلام كثيرة ، لم ينقطع حديث الفرح بين الزملاء طوال الطريق ... ولم نستيقظ من
أحلامنا إلا في هذه الصحراء . عندما بدأنا نصب هذه الخيام ، ونحن لا نعلم
لماذا نقيم مثل هذه الخيام في هذه الصحراء الموحشة . واستيقظنا في اليوم
التالي على صوت أجش ... جهوري.... مرعب يأمرنا بالنهوض والخروج كما نحن ....
وبدأت رحلة المتاعب... كان هذا صوت مدربنا ، الذي قال لنا بكلمات مختصرة فيها
الشدة والصرامة .... أنتم المميزون ... أنتم الفرقة اثنان وسبعون.... ومنذ
اليوم سوف تنسون أسماءك....وسوف يصبح لكم منذ اليوم أرقام، هي الوحيدة التي
تعرف عليكم ، وبدا يحذف أسماءنا ويستبدلها بأرقام لاحظت غرابتها بعض الشيء ،
وتباعدها ، لكنها لا تخلو من رابط يربطها رغم تباعدها ، 81، 36، 333، 351، 441،
522، ولم يفتني لغز هذه الأرقام ، فكلها عند جميعها تعطي الرقم 9 ، حتى رقم
الفرقة 72 ، مجموعه أيضا 9 تم توزيع الأرقام وحفظ كل منا رقمه بيسر وسهولة ،
وزمجر المدرب بصوت كالرعد وقال لنا : هذه الدورة عبارة عن مجموعة أوامر تبدأ
بالرقم واحد وتنتهي بالرقم 72 وارتاحت نفوسنا قليلا عندما علمنا أنها لا تزيد
على اثنين وسبعين أمرا ، وبدأنا نحلم من جديد بالرحيل من هذه الصحراء .
ويقطع علينا حلمنا المدرب وهو يقول : الأمر الأول في هذه الدورة سيكون
هذه الصافرة ، مجرد سماعها يجب عليكم الانطلاق والجري إلى النقطة (ج) والعودة ،
ويجب عدم التريث ، والتمهل مهما كانت الظروف ، عليكم الانطلاق ومن يتأخر سوف
يكون حسابه عسيرا. . كانت الصافرة تدوي في رؤوسنا ، كلما سمعناها انطلقنا كما
نحن حفاة ... عراة ... لا نلوي على شيء ، حتى مقتنا أنفسنا ، وكرهنا كل أنواع
الصافرات ، بعد الصافرة مباشرة كان يدخل علينا كالوحش ... يتفقدنا ومن يتأخر أو
يتلكأ يأمره بعدم الركض ... يبقيه عنده ... والبقاء ليس احمد من الذهاب فقد
عدنا من جولتنا يوما وكان أحد زملائنا قد تلكأ في الركض ورأيناه ... وهو يدوس
على وجهه ويأمره بتناول قطعة من الدهن قد تعفنت وأصابها الجرب ولم يرفع قدمه
عنه إلا بعد أن أكلها ولم يبق منها شيء. كرهنا صوت الصافرات بكل أنواعها ودعونا
الله أن يريحنا من صوت صافرة المدرب هذه ... وبعد عدة أيام شعرنا بالفرح
والمدرب يقول يلغى الأمر الأول من هذه الدورة ويستبدل بنهيق الحمار . في
البداية لم نفهم ما قال ... أو تجاهلنا و لكنه أكد لنا أن دور الصافرة قد انتهى
و أن علينا الانطلاق و الجري متى سمعنا صوت نهيق الحمار ... نظرنا في وجوه
بعضنا بعض ... وسمعنا همس بعضنا ، ربما آن لنا أن نستريح ... و فعلا تمددنا على
أسرتنا كما لم نتمدد قبل ... و بدأنا نحلم من جديد ... فقد اصبح لدينا متسعا من
الوقت لنحلم ... ومر اكثر من ثلاثة أيام ونحن لا نخرج إلى الجري سوى مرة في
اليوم وشعرنا بالراحة ... وجلسنا الليالي ندرس حالة الحمير النفسية ، وما الذي
يثير شهية الحمير للنهيق وهل النهيق فعل إرادي أو لا إرادي ... وان كان لاإرادي
كيف نستطيع الحد منه وأوصينا بعضنا بعضا بالا تكون تصرفاتنا عشوائية مع ذلك
الحمار حتى لا تنقلب الأمور علينا ، وحدث ما لم يكن يخطر في بالنا .... ووقع
المصاب واختفى الدواء ... ، ففي إحدى جولات الركض اليومي حدث أن تأخر ثلاثة
زملاء لنا ... وحاول المدرب معرفة سبب تأخرهم ولكنهم تعللوا بالتعب والإرهاق
الذي أصاب أجسادهم النحيلة ، ولكنه لم يقتنع وصرخ بأعلى صوته بأنه مطلوب منه أن
يموت 10% من المتدربين فلا داعي للشكوى ، لن ينتقل للمرحلة القادمة إلا من هم
أكفاء لذلك ، هكذا هي الأوامر ... الأوامر من فوق ... وهمدنا في أسرتنا بعد تعب
طويل .... وباح أحدهم من الثلاثة الذين تخلفوا وقال يهمس في آذان الفصيل...
الحمار لن تسمعوا صوته بعد الآن... ليبحث هذا المدرب عن شيء آخر غير هذا
الحمار، لن نتلقى الأوامر بعد اليوم من حمار آلا تشعرون بالإهانة من المثول
لأمر الحمار .... انبرى أحدهم من تحت الغطاء وقال:
_ ماذا فعلتم ....هل ارتكبتم جريمة قتل .....هل قتلتم الحمار؟؟؟
_ أشبعناه قتلا ....ثلاثة عصي مدببة انغرست في جسده
أكثر من مائة مرة ، ضرب حتى لفظ أنفاسه الأخيرة .استرحنا أكثر من ثلاثة
أيام ، ونحن لا نركض ، استرخت أجسادنا ، أصابها الخمول ، بقينا في انتظار نهيق
الحمار....ولكن الحمار .... أصابنا الرعب والفزع ونحن نرى المدرب يهرول باتجاه
الحفرة التي أودعنا فيها جثة الحمار المسكين ، الذي لا ذنب له سوى
نهيقه...علمنا أن سياط من الويل والغضب ....من الذل ولإهانة ....من السخط
والألم سوف تسقط فوق رؤوسنا بعد اكتشاف جثة الحمار.
ويعود المدرب وهو يلهث وينظر في وجوهنا ، كأننا المتهمون بقتل كندي
...أو رابين ... بدأت قلوبنا بالرقص ....وفرائصنا ترتعد والصفرة قد طغت على لون
وجوهنا ... فشعرنا بالندم لموت الحمار ...وأي ندم ..ولكن المدرب لم يقل شيئا ،
لم يوجه التهمة لأحد ، لم يحاول الاستفسار عن الموضوع لا من قريب ولا من بعيد،
اكتفى فقط بالنظر إلى وجوهنا ، وقال بصوت رخيم ، فيه الحزن والأسى ، سوف نضطر
لاستبدال الأمر رقم (2) بالأمر رقم (13) ، وأضاف قائلا : وذلك أن من قواعد
انضباط دورتنا أنه في حال انتهاك حرمة قانون ما نضطر بالقفز إلى الأمر (13).
وسوف أخبركم غدا ما ينص عليه الأمر (13) ، والآن يمكنكم
الذهاب إلى نومكم .
وفي اليوم التالي كنا نقف أمام المدرب ونحن نفكر في الأمر الجديد ومدى
صعوبة هذا الأمر.
وتلعثمت شفتا المدرب وهو يقول : بما أنكم قد خرقتم قانونا وأمرا من
أوامر هذه الدورة فيجب أن تعاقبوا وعقابكم سيكون خلال بضع ساعات قادمة ، فحتى
يجيء الأمر من القيادة عليكم الذهاب إلى أسرتكم وانتظار الأوامر .
وذهبنا نجر أقدامنا إلى أسرة قد ملت أجسادنا ...والقينا بجثثــنا على
أسرتنا ورحنا نحدق في السماء ....لم يتكلم أحد منا .....لم نسمع كلمة ، فقط
الصمت هو الذي يتكلم .....لقد وصل الأمر إلى القيادة ، والقيادة لن تكون أرحم
من المدرب ، ....ما العقاب الذي سيحل بنا ...أي ذنب ارتكبنا .
إنها غلطة جزء فلماذا يعاقب الكل ، أحسسنا أننا لن نكمل هذه الدورة
....فهي تمتلئ بالصعوبات ....تمنينا لو فشلنا قبل وصولنا إلى هنا ...تمنينا لو
أننا لم نثابر ونجتهد ، اشتقنا إلى وجوه أمهاتنا ، إلى لمس أيدي آبائنا ، إلى
رؤية وجوه إخوننا وأخوتنا ، ولكن الأماني دائما لا تشبه الحقائق....استيقظنا من
أحلامنا على أصوات كلاب ،كلاب كثيرة خيل لنا أنها ستملأ المعسكر ، اختلسنا
النظر إلى الميدان الذي غص بالكلاب السوداء ، وقد أمسك بكل واحد منها جندي لم
نره من قبل ، بل إنها سيارات كبيرة تنزل منها الكلاب ....لماذا هذه الكلاب؟؟؟؟
كنا لا نعلم حتى دخل المدرب وقال لنا ، بعد أن انتظمنا في صفوف متساوية ، جاءت
أوامر من القيادة بأنه يجب عليكم مصارعة هذه الكلاب التي تسمعون أصواتها ، فهذه
الكلاب بعددكم ثلاثون كلبا ، ستقابل ثلاثين جنديا ، وعلى كل واحد منكم محاولة
القضاء على الكلب الذي خصص له أو وكلبه ، نظرنا إلى الكلاب من طرف خفي ....
كانت تمد ألسنتها الحمراء وكأنها تريد ابتلاعنا .. وعيونها قد اتسعت واحمرت
... وشعرها الأسود قد انتصب وكأنه يعلن الاستعداد للمعركة ، تساقطت دموع بعضنا
وهو يشعر بأنه لن يعود من هذه المعركة ، وعانق بعضنا بعضا ، تعانقنا أيما عناق
وانتظرنا من جديد أمر المدرب بالخروج لملاقاة الكلاب .
كانت معركة عنيفة ...ضارية ...، فقدنا فيها الكثير من زملائنا وإخوننا
، وفقدنا فيها الكثير من أعضائنا الهامة...والضرورية ، الحساسة ... قل عددنا
كثيرا ...وتذكرنا كلام مدربنا وهو يقول لنا ، أن من مؤشرات نجاح هذه الدورة ،
أن نفقد 10% من المتدربين ولكن قد نكون قد فقدنا أكثر من ذلك عدنا ، كانت
الدماء ما تزال تنزف من أجسادنا ، ووجوهنا قد مزقتها مخالب الكلاب الضارية ،
كنا نجر أجسادنا المتعبة بإتجاه العنابر المخصصة لنا حين استقبلنا المدرب وقد
وقف إلى جانبه مجموعة من الرتب التي تمثل مراكز حساسة في مثل هذا المكان ،
حاولنا أن نقف في صف منتظم ، وقد حمل كل منا على كتفه الكلب الذي قتله أثناء
المعركة أو الكلب الذي خصص له ... جاءنا الأمر من المدرب بإلقاء الكلاب الميتة
المقتولة إلى جانبنا و التقدم إلى صاحب الرتبة الكبيرة الذي قلدنا وسام الشجاعة
من الدرجة الأولى وهو عبارة عن صورة كلب شرس له أنياب حادة على قطعة من النحاس
بحجم قطعة نقدية معدنية وعلقت الأوسمة على صدورنا ....وتمنينا لو أن رفاقنا
الذين ماتوا واستشهدوا لو كانوا معنا ....قال المدرب وهو ينظر في وجوهنا وقد
أصابها الإعياء و التعب لم يبق من الأوامر الكثير .....ولم يبق لسفركم إلى
الخارج إلا بضع خطوات. في اقرب فرصة ستكونون على متن الطائرة المغادرة إلى حيث
تمنيتم ..... وفي يوم آخر استيقظنا على صوت محرك حافلة كبيرة ،طارت قلوبنا من
مكانها ونحن ننظر إلى هذه الحافلة ، إنها نفس الحافلة التي أقلتنا إلى الصحراء
.... دخل المدرب علينا
وهو يبتسم وقال:
احزموا أمتعتكم ، سوف نغادر هذه الصحراء الآن ، وبعد أن سارت بنا
الحافلة قليلا ، وقف المدرب ، وعبر الميكرفون الداخلي أعلن لنا ، أنه قد وصل
إليه الأمر 72 من القيادة، والذي ينص على إلغاء الدورة أو تأجيلها إلى إشعار
آخر، قد يصل إلى مائة سنة أخرى أو يزيد .
انتظار
ينظر إلى نفسه في المرآة للمرة العاشرة ، يعيد ترتيب شعره من جديد ، يتفقد
هندامه بعناية فائقة، يختلس نظرة إلى حذائه ، يبتسم راضيا عن نفسه ، يغلق الباب
خلفه ويخرج . يتفقد شارعه الطويل ، هو ..هو هذا الشارع ن لم يتغير ، للشوارع
ذاكرة يصعب محوها ، يرسل نظراته إلى كل مكان وهو ما زال يسير ببطء شديد ، يجد
متعة وهو يطيل النظر إلى أبواب المحال التجارية المبعثرة على جانبي الطريق، لقد
حفظ تضاريس هذا الشارع عن ظهر قلب ، أحيانا يغمض عينيه ويسير ، يسير مئات
الأمتار ثم يقف فجأة ليحدد مكانه ، لعبة يسلي به نفسه . يصل إلى مكانه الذي
اعتاد الوقوف فيه ، في هذا المكان تسافر به الأحلام والآمال إلى ما لا نهاية ،
يقطف ثمار ذاكرته ، واحدة تلو الأخرى ، يمزق ما سقط من أيام عمره ، ثم يبدأ
رحلة التفكير بها ، يتخيل قوامها، لون عينيها ، ابتسامتها ، ثوبها ، لون شعرها
، طريقة كلامها ، ابتسامتها ، وكثيرا ما يحدثها قبل أن تأتي ، يعاتبها على
تأخرها ، يغضب ، يشيح بوجهه عنها ، تسترضيه ، تبتسم له ، يداعب كلامها أوتار
قلبه ، يبتسم ثم يعتذر منها . ماذا سيمنعها من المجيء ، لقد أكدت له هذه
المرة بأنها قادمة لن يمنعها أحد أو سبب، سيكون لقاءً حاراً ، سيهمسُ في
أًذنيها بكل كلام الحب الذي يعرفه ، سيجعل من نفسه شاعرا ، ومن قال أن الشعراء
هم من يستطيعون الحب فقط . الشمس تزحف نحو المغيب، وتخلف وراءها الهموم
والأحزان، والليل يجر أذيال الخيبة على من هم مثلي ، يصفعني في كل مرة وارفض
إعلان توبتي ، ليلي ليس كليل العاشقين ، ليلي أسود حالك ، ليس فيه بارقة أمل .
لقد طال انتظاري ، وكأنها لن تأتي ، لقد تأخرت ، الأيام تهرب منا ، تبتلع كل
أحلامنا ، تحيلنا إلى ذكريات بالية. أقفلت المحلات أبوابها ، عاد المتعبون إلى
فراشهم وزوجاتهم باتت الطيور في أعشاشها ، واختبأت السماء خلف النجوم ، ولكنها
لم تأت ، فهو ينتظرها في هذا المكان منذ أكثر من عشرين عام.
قصص قصيرة جداً
(1)
تثاؤب
جلس على سريره ، تثاءب....تثاءب....، مدّ ذراعيه كأخطبوط مريض، قلّب قنوات
تلفازه بحثا عن مشهدٍ مثير ، دخّن علبة سجائره حتى آخرها ، عبثت يداه بكل
الجرائد اليومية التي أمامه ، ثم استلقى على سريره وراح يتثاءب من جديد .
(2) فراغ
ترصدني عيناك وأنا أقبع وراء ظلي المتآكل ، وحيدا أجتر ما تبقى من حكايتي،
بكلمات تزحف من رئة خربة ، قد تلهب قلبك شوقاً ، ولكن لن تغيره، أقضم الحروفَ ،
ألوكها، لتصل إلى قلبك ناعمة طرية. وحيداً أجتر عزلتي ، انحني لألتقط حصاةً
أرمي بها ظلي المشوّه ، أو سيفا أقطع به المرّ من أيامي ، أو رمحاً أثقبُ به
سماء كآبتي. ولكن في كل مرة لا أجدُّ إلا فراغاً.
(3) أحلام ممنوعة
أعصر جرأتي ، أمتص ما تبقى من أمل من أوان فارغة ، أسافر بحثا عن ليل سقطت
نجومه في بئر عميقة، أتدثر ببرد الأيام المرة ، تصطك أسناني وتذوب فرائصي .
أعلم أنني ما زلت ألوث دمك، وأسكن في وريدك المتكبر ، ولكن لا بد من المسير .
نمتطي قطار صمتنا ، تقترب يدك الحانية ، تنفض عن صدري غبار وتعب الأيام،
وتذكرني بوجودك قربي. أحزاني قطع من غيم متناثر ، تسافر...تسافر... ثم تهطل في
قلب جديد . كانت عيناي ترصد صوت الألم المتكون في عينيك ، وتسافر مبحرة في
مجهول كنهك، تسبر أغوار زوايا عشقك الدفين وتتمنى . ما أسعد القلب الذي يجد من
يعتني به . تستفيق الأحاسيس من غفلتها وشرودها ، تتعلق بساعة معلقة بخيط بال ،
عقاربها تشير إلى اليأس والملل. حبال قلق تطوق عنقي ، فأشعر بالاختناق ، وأحس
بالعجز ... أصرخ , واستيقظ من حلم لا نهاية له . آه كم انتظرت ردك ، وصدقت
مقولتك وأنت تضغطين على الحروف لتخرج من مخارجها الصحيحة .( الأيام كفيلة بنا ،
لن تتخلى عنا ). ولكن أرها تدوسنا بأحذية ضخمة ، تسفّه أتفه الأحلام ، ومن قال
لك إن من حقنا أن نحلم ...لا ...لا ... عليك أن تستيقظي قبل أن نتورط في حلم
ممنوع . أو انتظري الريح والأمطار ....انتظري قطارا يأتي من الجنوب ، ففي
الجنوب تختبئ الحكايات.
(4) لوحات ليست للبيع
عاد إلى بيته متأخرا ، متعبا ، نظر في زوايا غرفته الميتة ، حيث لا أولاد له
يريح جثته عليهم ، ولا زوجة يثقل كاهلها بطلبات سخيفة . رمى بجسده المنهك على
المقعد ، تناول بأنامله رواية الطاعون ( للبير كامي) قلّب صفحاتها .... تمنى أن
يعود الطاعون والفئران مرة أخرى ، وتمنى أن تكون كبيرة بعض الشيء حتى تستطيع أن
تأكل وتلتهم الفئران التي صادفها في طريق عودته . مدّ يده إلى جيبه ، أخرج
مذكرة غصّت بهواتف النساء ... مع من يتكلم ، شبع من ثرثرة النساء ، بماذا يقطع
وقته إذن . عاد ينظر إلى رواية( البير كامي ) .... وضع عليها ورقة بيضاء ،
وبقلم رصاص ، رسم جرة ثقوبها كثيرة ، يتسرب الماء منها . رسم أسدا ضخما فمه
مفتوح ، وطفلا صغير يلهو ويقلع أنيابه . رسم حمارا يوضح فكرة ، وكلبا يأكل شاة
، وفأرا يطارد فيلا ، ثم كتب في أعلى الصفحة ، لوحات ليست للبيع .
(5) طائر
زعموا أن طائرا كان قد اعتاد الوقوف على نافذة فتاة جميلة ، وكانت قد اعتادت أن
تلقي له الحبّ وتصبّ تحت قدميه الماء . فيأكل كل ما شاء ، وما لذ وطاب ، ويشرب
ما أراد ، ثم يغني لها أجمل أغاني الحبّ والحنان والوفاء. وفي يوم جاء الطائر
متعبا من يوم أكثر فيه من الطيران والتجوال ، وأتجه صوب نافذة فتاته ، حيث يجد
الراحة والحنان والأمان ، فوجد طائرا قد يبدو للوهلة الأولى أجمل منه قليلا ،
قد أخذ مكانه ، فدار ...وطار... وحوّم ... ، من اليمين إلى اليسار...، ومن
اليسار إلى اليمين ، ومن أسفل إلى أعلى ، عسى أن تراه فتاته التي انشغلت عنه
بطائر جديد ، وكان التعب قد أخذ منه ما أخذ ، ولم يلتفت إليه أحد ، فعلم في
قرارة نفسه أنه أصبح لا شيء ، وإن عدم وجوده أفضل من بقائه ، فسقط تحت النافذة
بلا حراك . وبعد أيام نزلت الفتاة من نافذتها العالية ، فوجدت تحتها طائرا ميتا
يحاكي لون طائرها ، فاختلط عليها الأمر أهو طائرها المدلل أم .... ولكنها طمأنت
نفسها بأن طائرها ما زال يقف في نافذتها يغني لها ، فصعدت وهي تمنّي نفسها
بوجود طائرها ، ولكنها وجدتها خالية ، فعلمت بأنها أضاعت طائرها إلى الأبد
بانشغالها بطائر جديد .
(6) كلب
كنت أغط في نوم عميق ، عندما أيقظتني زوجتي لأطرد كلبا ، رفض التوقف عن النباح
. في البداية حسبت الأمر سهلا ولا يحتاج إلى عناء كبير ، نهضت من فراشي أجرّ
قدميّ المتعبتين إلى النافذة ، فتحت النافذة ورحت أردد أصواتا وكلمات تهابها
وتمتثل لها مثل هذه الحيوانات ، ولكن هذا لم يجد . فأدركت أنه لا بد من فتح
الباب والخروج ثم الوقوف وجها لوجه أمام هذا الكلب العنيد ، فحملت على سبيل
الاحتياط عصا كنت أحتفظ بها للوصول إلى نسيج العناكب في زوايا البيت المختلفة .
لوحت بالعصا لهذا الكلب مرات..... ومرات ، ولكنّه بقي واقفا متحديّا ينبح
بأعلى صوته ... حاولت أن أخيفه بضرب قدميّ بالأرض وتحريك رأسي ، ولكنّه لم يأبه
بذلك ، عدت أجرُّ أذيال هزيمتي أمام هذا الكلب . سألتني زوجتي عن سبب عجزي لطرد
هذا الكلب ، فقلت لها : هناك كلاب لا نستطيع طردها . وأضفت ، ليست كل الكلاب
نستطيع طردها بهذه الطرق البدائية . ظل الكلب ينبح حتى أيقظ أصغر أطفالي ، لم
يكن خائفا كباقي الأطفال ، بل رأيته ينسل من تحت الغطاء بهدوء ويفتح النافذة ثم
يبصق بعد أن استجمع قواه في فمه ولسانه، فتستقر بصقة كبيرة ....كبيرة ما بين
عيني الكلب.....ثم رأيته يقفل النافذة بهدوء شديد ويعود إلى فراشه دون أن يتكلم
شيئا ، أرهفت السمع ، كان الكلب قد توقف عن النباح.
طلقة واحدة تكفي
أربعون عام مضت من عمره .... وهو لا يرى ما يسره في هذه الحياة ، أربعون عام
مضت وهو يجري في أثر السعادة ولا يظفر بها . الفقر أعماه ، جعل منه إنسانا
يتخبط في العصور ويخلط الأيام بالشهور . دائماً تلتقطه عيناك وهو متلبساً
بالتمني ، والأماني فاكهة الفقراء وزاد الضعفاء .ولكن إلى متى....أليس للأماني
من نهاية . أضجره واقع حاله، طرق الأبواب ، وكانت كلها موصدة بإحكام ، جاب
الطرقات ولم يجد من يخفف همه ، كلت قدماه وصارت الموت أحب إليه من الحياة ،
افترش الأرض والتحف السماء. وكان كلما ازداد ضيق الدنيا عليه لعن حظه التعس،
وانشغل في عد السنين ، حتى زوجته التي اختارها بنفسه .... يا لها من زوجة .
ينظر إليها وهي تقلب كفيها وتندب حظها ، وما بين اللحظة والأخرى تنظر إليه
بازدراء ، وتهكم وتشيح ببصرها خوفا من أن يعلق ببصرها. أربعون عام وهو عاجز عن
اتخاذ قرار مهما يكن هذا القرار، واليوم قفز إلى خياله بأنه يجب أن يتخذ قرارا
، حتى لو كان هذا القرار الذهاب إلى جهنم ، ويسمع زوجته وهي تقول له :
_الانتحار حرام يا رجل ، الانتحار ضعف وهزيمة.
_الموت خير من النظر إلى وجهك الذي لا يجلب. الحظ
_وجهي
أم همتك الرديئة وطبعك السخيف.
2
تفقد أدوات موته... سيكون موتا سريعا ، تعذبت كثيرا ، لا أريد أن أتعذب وأنا
أموت أيضا ....طلقة واحدة وأكون في عالم آخر لا توجد فيه زوجتي ولا من ينغص
عليّ عيشتي الأمر لا يحتاج إلا إلى اليسير من الشجاعة وكل شيء سيكون أسهل مما
تتوقع . أخرج مسدسه ، تلمسه برفق ... حشاه بعدة طلقات ، ثم راح يستخرجها ثانية
وهو يقول : طلقة واحدة تكفي ، لا أحتاج إلى أكثر من طلقة وينتهي كل شيء . سحب
الزناد وهو يتذكر أيامه التي مضت ، صوب فوهة المسدس إلى رأسه ، ارتعدت فرائصه
، تحلب ريقه ، اسودت الدنيا في عينيه أكثر من قبل ، استجمع قواه ، الشياطين من
حوله تصفق له وتحثه على المغامرة ، سيولد شيطان جديد . عيناه ترصدان كل شيء
حوله ، وقبل أن يدوس على الزناد ، وقبل أن تخترق الطلقة رأسه ... وقبل أن يودع
هذه الدنيا ..وقبل أن تموت الآمال وتفنى الأعمار ، كان أحدهم يمسك بيده ،ويبعد
السلاح عن رأسه .
3
تراخت يداه ، ضعفت أعصابه ، نظر إلى أعلى ، جفل قلبه ،تمتم لسانه : من أنت ؟؟؟؟
_ لك أن تقول أنني ملاك ، أردت أن أحميك من نفسك الأمارةبالسوء .
_ ولكني لا أريد الحياة ، لم يعد ما في الحياة يغريني .
_ سوف أمنحك فرصة جديدة .
_ فرصة جديدة ..وفقر جديد ... وتعاسة لن تفارقني ..وزوجة تعكر صفو حياتي أن كان
هناك هذا الذي أسميه صفوا ..لا ...لا ...أشك أن هناك متسعا لامثالي في هذه
الحياة
_ بل متسع كبير .. أنت من الآن طبيب ،تعالج المرضى.
_ طبيب !!! وأنا لا أستطيع حتى مداواة نفسي . قل كلاما غير هذا حتى أصدقك .
_ سوف أساعدك ، سوف أكون إلى جانبك دائما
_ ولكن ليس لي بالطب دراية .
_ قلت لك سوف أساعدك ، الأمر في غاية البساطة ، سأرسلك
إلى قرية تعج بالمرض ، تغص بالمرض ، لا بل قل معظم أهلها يشكون ويتألمون وسأكون
معك ، لا يراني أحد سواك،فإذا رأيتني واقفا عند أرجل المريض فاعلم بأنه سوف
يشفى بأذن الله ، فأعطه من الأدوية التي لا تضر وقد تنفع بإذن الله ، وإن
رأيتني عند رأسه ، فاعلم أنه سوف يموت ، فأخبر أهله بالطريقة التي تراها مناسبة
، حتى يعلو شأنك ، ويظهر صيتك ، فلا يبقى أحد إلا، وقد سمع بك ، ولا تأمر
للمريض بشيء ، فهو مفارق . نسي الموت ،ونسي مسدسه المحشو بطلقة واحده ، وراح
ينتقل من بيت إلى آخر ، ويحرص على رؤية صاحبه الجديد ، ينظر إليه أين يقف ثم
يبدأ عمله ...يخلط الأعشاب ، ويسقي المريض ، والناس يدعون له ، والقرية ترفل
بأثواب الفرح والسعادة والسرور لمجيء هذا الطبيب الذي لا يخطئ أبدا والأموال
تتكاثر بين يديه ، وبعد أن كان خادما صار مخدوما ، لا وخدمه كثر .
5
يمرض كبير القرية ، وتمرض القرية لمرضه ، ويزداد مرضه وتلح عليه الأوجاع
والآلام ... ويبكي من حوله الباكون...... ويجلل القرية السواد ، ويهرعون
زرافات ووحدانا إلى الطبيب الجديد ..ويحمل أدواته ، ويشمر عن سيقانه، ويهرع
إلى كبير القرية ، وهو ينظر إلى السماء وهي تبتسم ، وإلى الأشجار وهي تميل طربا
، وإلى كل الأشياء وهي تغني له ، فأي فرصة أعظم من هذه الفرصة ويهرع إلى كبير
القرية ... وتصمت الأنفاس، ويدخل الطبيب على المريض، ويتفقد صاحبه ، فإذا هو
عند أقدام المريض.... فيبتسم ، وتكبر ابتسامته والناس يبكون ..... القلوب معلقة
بالطبيب وبالمريض ويضع الطبيب يده على رأس المريض بكل مهارة ، ويقرأ ....ويقرأ
.... ويتمتم ... والناس يحدقون ، وفي قرارة أنفسهم مستيقنون ، فالموت أمر لا
مفر منه ، واليأس كان قد تسلل إلى قلوبهم ، فلا رجاء من شفاء كبيرهم وحبيبهم ،
كانوا يحبونه حبا صادقا لم يعهده صاحبنا من قبل ، وراح الطبيب يلقي الأوامر ،
والناس من حوله يلبون ، ويركضون في إحضار ما يطلب ، والطبيب يبتسم وهم يتعجبون
، ويسمعونه وهو يقول وكلهم آذان صاغية ، وقلوب واعية
_لن تمر أكثر من ثلاثة أيام حتى يكون في صحة جيدة والأكف من حوله ترتفع بالدعاء
والتضرع إلى الله وأخرى تنكب على يد الطبيب تقبلها وتضعها على رأسها ، والطبيب
ينظر لصاحبه المبتسم ويبتسم ويكمل قوله وتعليماته إلى الموجودين : سأعود أليه
في المساء ... ابقوا إلى جانبه واجلبوا كذا وكذا ....
6
ويعود الطبيب إلى بيته ويغرق ما بين الخدم والحشم ولذيذ الطعام وطيبه ، لم تعد
الأيام المرة تمر في باله ، وإذا مرت أبعدها طردها بالقوة أصبح يسرق الوقت من
الزمن فلا يجده ....فالأيام تمر في أجمل حللها ، والساعات تمر في أحلى أوقاتها
، وكبير القرية يتماثل للشفاء ، وتفرح القرية من جديد ، وتدق الطبول ... وتعزف
الأوتار ..وترقص الملاح ... ويستيقظ كبير القرية من غيبوبته ، ويفتح عينيه
ويسأل عن طبيبه ومعالجه ، ويحضر الرجل ، ويجلس حيث لم يحلم ، ويقرر كبير
القرية مكافأة الطبيب ، ولكن بماذا ، بماذا يشق صدر الفرح ليزرع هناك بذور
الدرر ، ما أعز شيء على نفسه ، إنها ابنته ، نعم سوف يزوجه ابنته ، وتدور
الأفراح والليالي الملاح ، وتعيش القرية في فرح وسرور ، وتشرب كأس السعادة حتى
الثمالة ، ويزداد عدد الخدم والحشم ، وتكثر الأموال حتى تنسيه نفسه ، وتمر
الأيام حلوة جميلة بل غاية في الروعة وتمضي السنون ، أربعون عام مرت وكأنها
يوم واحد ، كلها أيام حلوة جميلة ...ولكن هل للفرح نهاية . يمرض الطبيب ،
ويشتدد مرضه ، وينظر حوله ، وإذا بصاحبه يقف عند رأسه ، فيفزع ، ويجاهد نفسه
ليتحرك ويغير من وضعه ، فيجعل رأسه مكان قدميه ، ولكن صاحبه ينتقل مع حركة
قدميه ويستقر مرة أخرى عند رأسه ، فيشعر باقتراب المنية ودنو الأجل ، وتقطع
حبال الوصل والحياة ، فالمنية قد دنت والأيام قد انتهت ، ويتوسل بنظراته لصاحبه
، وصاحبه يمد له بمسدسه القديم وما زال في جوفه طلقة واحدة، والرجل في حالة رفض
مستمر ، ويمده له بعنف ، ولكن الرجل يقول :لم يعد لي حاجة به . ويكون الموت
أقرب إليه من لسانه ويده ومن حبل الوريد
نشرت في مجلة أفكار العدد 193
مقهى الغياب
يلتهب الشارع تحت قدمّي ، يسبح جسدي في أوهام يخلقها الحرّ الزائد ، تسيطر على
مراكز الإحساس أفكار وهواجس عجزت عن إسكاتها... أرض قاحلة، تأبى أن تحيا ،
تموت طائعة غير عاصية ،أشجار عارية تتقصف أغصانها مع كل هبة ريح ، ثمة أمور يقف
المرء عاجزا مترددا عن التفكير بها أو تفسيرها، صخور صلدا تتناثر هنا وهناك
تسدّ كل المنافذ ... جدران يكسوها الكسل والخمول، تقودني خطاي الواهنة إلى مقهى
تربعت فوق بابه الأخضر الداكن _ ربما تكون هذه البقعة الوحيدة الخضراء في هذا
المكان_ لافتة كبيرة ، وجدت صعوبة في تهجي حروفها " مقهى الغياب" . تسحرني
تفاصيل المكان ، تبدو في أقبح صورها ... جفاف ...يباس...غياب... غياب تسبح فيه
روحي ، تنسل من أطراف أصابعي ، وأرى نفسي فتاتا ...بل ذرات تعانق الرياح. أفكار
ورؤى مبعثرة تدفعني من هوة إلى أخرى ، ويظل حبل الحياة يتدلى قرب أيدينا ...
أجرُّ قدماي إلى داخل المقهى، تتفحص عيناي المكان بحذر شديد ، تدوران مثل
كاميرا تلفزيونية ، من زاوية إلى أخرى ، ترصدان كل صغيرة وكبيرة . المقهى يخلو
تماما من الحياة ...تتناثر في زواياه مقاعد ومناضد علاها الغبار ، جدرانه مزينة
بلوحات زيتية تراكمت على وجوهها مرارة السنين والأيام ، أتأملها ، أحاول الولوج
إلى دهاليزها ومعرفة أسرارها ، زجاجات فارغة ملقاة في أماكن كثيرة ، يثرثر
عقلي كثيرا وهو يتفحص المكان ، يدرسه بعناية فائقة، ويخرج بلا شيء . هواجس
المكان تحاول أن تنال من ذاكراتي ، فأسمع نفسي تهذي . أجلس وأنا ما زلت أتفقد
المكان ، أضع حقيبتي التيأثقلت كاهلي فما عدت على حملها ، أضعها بجانبي بلطف
شديد، أحاول أن استرخي ، أن أترك العنان لخيالي ، وأي خيال بعد هذا ... بقيت
عيناي تدوران ..أبحث عن حياة ، أرهف السمع عسى أذني تقع على صوت ، على همس،
السكون أكل المكان ، والصمت فرخ في كل زواياه وعشش، كابوس ثقيل ، نسيت أنني كنت
قبل لحظات يكاد يقتلني العطش. جسدي لا يقوى على الحراك ، يحتاج إلى الماء ، من
منا ينكر فائدة الماء ، أبحث عن مصدر للماء ، المصادر كثيرة ولكنها لا تحمل في
داخلها إلا الجفاف ، أي مكان هذا !!! هل أبحث عن مكان آخر ، هل كل الأماكن
أصابها الجفاف، جسدي أنهكته الأيام والأحلام أصبح لا يقوى على المسير ، إذاً
هو الاستسلام ، ما أقبح أن نستسلم أما هزائمنا ، ليكن هذا المقهى آخر المساحات
التي تدوسها قدمي .العطش .... العطش إلى الحياة ... إلى همسة تعيد تتدفق الدماء
إلى عروقي الغارقة في الاستسلام ...إلى رائحة تذيب ما تراكم من الحقد والكراهية
لهذه الدنيا ... أضع رأسي على الطاولة التي أمامي غير مكترث بغبارها
وقذارتها... فالقذارة تصبح أحيانا طقسا عاديا مألوفا ، هو النوم، هكذا يجب أن
نستسلم لمصائرنا ، نخلع كل ثياب الأمل ونلقي بروؤسنا الخاوية وننام . تستيقظ
أجزاء جسدي على أصوات ، أرفع رأسي ، أفتح عيني على اتساعهما ، ناس...بشر يدخلون
إلى المقهى ، كلهم يحملون حقائب سفرهم ، الغبار يعلو وجوههم ، آثار السفر تعانق
أجسادهم الهشة ، خطاهم قد أتعبتها الليالي والطرقات الوعرة ، عيونهم من تحت
قبعاتهم تاهت في رماد السنين الأيام ، ها هم يجلسون على المقاعد
المتناثرة....يسحبون مقاعدهم ...يثرثرون ...يضحكون...يبكون...أصواتهم تتعالى ،
أرهف السمع ، انه خرير الماء ،الماء يتدفق بغزارة ، أرفع رأسي أكثر فأكثر
....يمتدد رأسي في الهواء ، تدور عيناي من جديد ، أحدهم يسألني وهو ينحني أمامي
:
_ أستاذ ماذا تشرب ؟؟؟
_ أشرب !!!!!
_لا...لا...
لقد ارتويت
|