من الاغتراب الى الغربة
فجأة.. وبعد ثلاثين سنة من الاغتراب.. وجدت نفسي في بهو مطار دمشق..
-من أين أتيت..؟ ولماذا أنا هنا..؟
-سألني الرجل الطويل الذي استقبلني: هل أنت فلان...؟
-أجبته: أظن ذلك..نعم .. وتذكرته على الفور.. إنه صديقي القديم..
محمود
فعانقني بشوق... ثم اختطف من يدي جواز السفر وأجال نظره في مرفقاته
.. وقال لي: لقد تغيرت كثيراً حتى كدت لا أعرفك.. اهلا وسهلاً بك في بلدك
سورية.. وافتك من يدي الأخرى حقيبة السفر، وقادني نحو اقرب سيارة أجرة،
فامتطيناها وهو يقول إلى السائق: اوصلنا من فضلك إلى فندق /الفراديس/ بساحة
المرجة.
عندما انطلقت السيارة بنا، احسست انني احتضن الهواء، وأطير في حلم
صاروخي عجول..
كانت الأرصفة، والمباني، والاشجار الباسقة، ولوحات الإعلانات- على
حافتي الطريق- تتراجع متراصّة مندمجة بسرعة مذهلة، فترسم شريطاً متداخلا ملونا
للوحة جميلة فاتنة ، لا اذكر انني شاهدتها من قبل..
أدخل محمود يده في جيبه، واخرج رسالة، تفحص بعض اسطرها، ثم أدار
راسه نحوي وقال لي:
-إذن .. لقد فقدت ذاكرتك منذ ثلاثين سنة..؟
-نعم.. ولكنني لم أفقد كل شىء فيها.. إنني فقط، مصاب بنوع من
النسيان، يستحوذ على ذاكرتي في بعض الظروف وفي حالات، ومواقف خاصة..
-لقد أخبرني ولدك في هذه الرسالة( وأشار إلى الأوراق التي كان
يحملها) عن كل شىء يتعلق بمرضك النسياني.. وقد قال لي إنك تتذكر جيداً كل
الأحداث التي عشتها قبل ثلاثين سنة.
- بالفعل.. فانا ما زلت أذكر-مثلا- عندما جئت اول مرة إلى دمشق سنة
1953- ونزلت في مطار المزة/ .. واذكر حتى جوانب الطريق ، كيف كانت خالية من
العمران إلى حدود الجامعة بمنطقة/ البرامكة/.. أما الآن فإن الصورة تختلف
تماما.. هل نحن الآن في منطقة / المزة/؟.
-ابتسم صديقي محمود، وهو يجيب: لا.. لا.. نحن الآن في طريق جديدة..
وقد انطلقنا من مطار جديد أيضاً.. اما منطقة / المزة/ فقد اصبحت مدينة حديثة
كبيرة، تضم مئات الآلاف من السكان.. وتعد من أجمل احياء دمشق..
بدأت أفكاركثيرة، ومشاهد، وأشكال ، تتراقص متزاحمة في مشاعري،
ممزوجة بأصوات والوان، وإضاءات مجهولة المصدر، تتناوب بين اللمعان والتلاشي،
بين الصخب والصمت .. بين الحركة والسكون.. وأحسست بأن ذاكرتي تتشابك مع النسيان
في مصارعة عنيفة وكأنهما كومة من خيوط الحرير الناعم. تحاول بمعجزة ذاتية أن
تتحرر من حقل مليء بالحسك والنباتات الشائكة..
-سألني محمود: هل تذكر لماذا جئت إلى دمشق..؟..
لقد ذكرلي ولدك في رسالته سبب ذلك.. إلا أنني اريد أن سمعه منك أنت
..؟
-في الحقيقة..لا أذكر بالضبط سبب وجودي الان ، هنا.. المواضيع
متداخلة..ربما جئت لأعيد دراستي الثانوية والجامعية..فقد نسيت كل المعلومات
التي كنت قد حصلت عليها، خاصة في قواعد اللغة. والمنطق، وعلم النفس.. ولم انسها
بسبب المرض، وانما لعدم الاستعمال.. لقد نسيت حتى القرآن الكريم الذي كنت احفظه
عن ظهر قلب منذ طفولتي.. بسبب عدم "الإستعمال " كذلك..
وربما جئت لرؤية زملاء الدراسة، إنني اذكرهم دائما، وانا في أشد
الشوق إليهم ... ولا ادري هل هم كما عرفتهم، مازالوا يطفحون حيوية ، ومرحاً
وحماساً.. ام تغيّروا مثلي..!؟
كانت السيارة تخترق وتلف ساحة مستديرة شاسعة، تتوسطها نافورة ضخمة
تتصاعد أعمدة مياهها البيضاء نحو السماء، وكأنها تحاول أن تطول برج المعرض
التذكاري الذي يواجهها منتصبا برشاقة وارتفاع شاهق.
“ اعادني منظر ذلك البرج الموشى بكل الوان اعلام العالم إلى بداية
الخمسينات ، فتذكرت.. إنها ساحة الامويين..
وهالني منظر الجبل الشامخ الذي يضم مدينة دمشق إلى صدره العريض ،
فتحتضنه هي، وتتعلق باكتافه .. لاريب أنه جبل / قاسيون/ ولكن، من كساه كل هذه
الحلل والحلي الزاهية، ومن نثر فوقه كل تلك اللآليء والنجوم..!؟
سألت محمود.. ولكنه اشار بيده نحو بناية عالية وهو يقول لي..ها
..لقد وصلنا.../ الفراديس)..
التف حولنا موظفو وعمال الفندق، يرحبون بكلمات حلوة، مهذبة، لم اسمع
مثلها منذ زمن بعيد.. وكانت بسماتهم لاتفارق وجوههم.. فأحببت أن أعبر لهم عن
شكري وامتناني لحفاوتهم بي.. فلم أجد في ذاكرتي أية عبارة صالحة للتحية.. واردت
ان ابتسم في وجوههم، فامتنعت شفتاي عن الإنفراج.. فأجهشت بالبكاء..!
-قال لهم صديقي محمود- في شبه اعتذار_:
اشكركم..من فضلكم دعوه..إنه مرهق..وهو في حاجة إلى قليل من الراحة
والهدوء..
وقال لي : هل تصعد إلى غرفتك لتستريح بعض الوقت..؟
-أجبته..نعم.. ولكن هل الحراسة متوفرة هنا .. تأكد من فضلك يامحمود..إنني-
بصراحة- اشعر دائماً بالرعب..؟
ضحك محمود بصوت مرتفع، وهو يربت على كتفي، ويدفعني إلى المصعد،
ويقول! بالفعل إنك نسّاى..! ياأخي..! اطمئن تماماً..إنك الآن في دمشق.
-ودّعني صديقي القديم امام باب الغرفة وانصرف.. بينما كنت اهمس في
نفسي: لماذا أنا هنا..؟
ولماذا في دمشق بالذات..؟ هل سأتذكر السبب!؟
الرسالة النسيانية...
رن جرس الهاتف بعنف، فاستيقظت مذعوراً ولم أدر أين أنا.. رميت يدي
لأحمل السماعة، فاصطدمت بنظارتي السميكة، الموضوعة فوق الطاولة المجاورة،
فتطايرت بعيداً.. بحثت مرتعشا عن مكان الهاتف،.. حملت السماعة بالمقلوب، صرخت:
الو..الو..!- لم اسمع سوى وشوشة مبهمة،لم افهم منها شيئا ، اعدت الصراخ: الو
..من أنت ..ارفع صوتك، لم اسمعك ..! انتبهت إلى وضع السماعة فعدلته..الو..!
وجاء الصوت واضحا.:
-صباح الخير..هل مازلت نائما..؟ إنها العاشرة صباحاً،
-الو.. عفواً ..من أنت من فضلك..؟
-الم تعرفني،. هل نسيتني، انا صديقك محمود..قم وارتد ثيابك، سأصعد
اليك بعد عشر دقائق..
أمضيت خمس دقائق في البحث عن نظارتي، وقد وجدتها بعد أن مسحت أرضية
الغرفة كلها بكفي .. وجدتها مختبئة داخل فردة حذائي..! فلعنتها..
وعندما طرق الباب، كنت داخل الحمام. فرفعت صوتي عاليا: دقيقة من
فضلك.. وجففت وجهي بسرعة وفتحت الباب، ناسيا حذري واحتياطي..ومن حسن الحظ كان
الطارق هو صديقي محمود..إلا أنني سرعان ما انتبهت إلى خطئي الجسيم في فتح الباب
، دون التأكد من هوية الزائر، وأحسست بموجة كدبيب النمل تكتسح جسدي، وبجفاف مرّ
في حلقي ..ماذا لو كان الطارق شخصاً مجهولاً..!؟
رفع محمود سماعة الهاتف، وقال لي: سأطلب لك الفطور هنا في الغرفة،
وسألني ماذا تريد ان تأكل..؟
-أجبته- بدون شهية للأكل - أي شىء خفيف..فنحن كما تعلم. لا نأكل
صباحاً.. وتكلم قليلاً بالهاتف,, وسألني وهو يضع السماعة: والآن.. قل لي..هل
تذكرت سبب مجيئك إلى دمشق..؟
-أطرقت..وضعت جبهتي بين اناملي، وضغطت عصرت فكري..ولكن دون
نتيجة..كانت كل الاحتمالات تبدو لي ممكنة، وفي الوقت نفسه غامضة، وغير مقنعة..
-قلت له: الحقيقة أنني نسيت التفكير في هذا الموضوع ، ويبدو لي ،
أنني لن استطيع الآن تذكر أي شىء..!
أخرج محمود من محفظته مجموعة من الاوراق، مرتّبة على شكل كراسة
مدرسية ، وقال:
-استمع إذن..سأقرأ عليك، ما كتبه لي ولدك. عن أسباب مغادرتك بلدك،
ومجيئك إلى سورية..
يقول ولدك الاكبر: " لقد كنا جميعاً نعلم بأن والدنا مريض بداء
النسيان، وذلك منذ سنين طويلة.. وكنا نخشى أن يحدث له مكروه بسبب نسيانه، لذلك
كنت وإخوتي وأحياناً الاقارب والاصدقاء، نقوم بمراقبته من بعيد ، ونتناوب على
حراسته كلما خرج من المنزل.. وقد تدخلنا في الوقت المناسب ، وانقذناه من ورطات
كثيرة.لا تعدّ، ولا تحصى.. ! إلا أنه منذ ثلاث سنوات تقريباً، اشتدّ عليه داء
النسيان، وأصبحت ذاكرته شبه غائبة، لا تسعفه إلاّ لماماً...! ومما ازعجنا أكثر،
وبعث في نفوسنا الرعب..أنه اصبح يقوم بأعمال خطيرة ويتصرف مع نفسه، ومع الناس،
تصرفات غريبة، ومحيرة، الأمر الذي ضاعف من خوفنا عليه ، وجعلنا نتوقع أنه
سيتعرض في يوم ما إلى أبشع العواقب..
لم نستطع حبسه في الدار ، لأنه يتمتع بكامل قواه العقلية، كما أكد
كل الأطباء الذين فحصوه..ومع ذلك نراه من حين لآخر ، ينسى موقع نفسه من وضعية
الظروف الاجتماعية المحيطة به، ويقوم بارتكاب أخطاء عجيبة تتنافى مع الجو
العام" واليك ياعم محمود صوراً عن بعض تصرفات والدي..!
-قطعت قراءة محمود، اثر سهوة اختطفتني كالاغفاءة وسألته: ماذا تقرأ
..؟ وعمن تتحدث..؟
-أجابني بتذمر..انصت يأخي، إنني اقرأ لك ، ما كتبه ولدك عنك، وعن
افعالك العجيبة .. استمع لي جيداً من فضلك، وركّز معي. وتابع تلاوة الاوراق...
" تسللت يوماً وراء أبي، فرأيته يدخل المسجد، فتبعته.. توضأ، ودخل
قاعة الصلاة، وكانت ممتلئة بالمصلين، فتخطى رقابهم وجلس إلى جانب الإمام؛ الذي
كان يقدم حديثا في الوعظ حول عذاب القبر، وذلك قبل صلاة العصر...رأيت أبي يرمق
الإمام بنظرة مؤذية.
فتوجست خيفة من ان يقدم على فعل شائن...ثم تنفست الصعداء، عندما
أبصرته يقوم. ويباشر في أداء ركعتين لله..! وبعد أن انهى صلاته..أخذ يتململ
يمنة ويسرة..ويبحث داخل جيوبه..ثم تفاجأنا جميعا عندما رأيناه يخرج علبة التبغ
والقداحة، ويسحب سيجارة فيشعلها، ويأخذ في مصّها بلهفة، وسحائب دخانها تملأ
المحراب...!
وقف الامام غاضبا ، وهو يلعن ويحوقل، وشدّ أبي من خناقه.. بينما
هرول المصلون نحوه وهم يزمجرون! اطردوا الكافر..اقتلوه..ولا ادري كيف وجدت نفسي
مرتمياً فوقه .احميه بجسدي. واتلقى عنه بعض اللكمات والرفسات..
وأنا اصيح..إنه مريض ياناس..إنه غير طبيعي..وكنت اجرّه بصعوبة إلى
أن أخرجته من الجامع تحت وابل من التهديدات واللعنات والشتم المقذع..!
عندما عدت به إلى المنزل" سألته: لماذا ياأبي اقدمت على تلك الفعلة
الشنعاء، داخل بيت الله ؟
-أجابني وهو يتألم ويتأوه: لقد نسيت ياولدي أنني كنت في حرم
المسجد.. ويشهد الله أنني لم اقم بذلك عن قصد لقد تخيلت أنني داخل مقهى.
وتصورتُ الإمام الذي كان بجانبي أنه فنان ، او شيء من هذا القبيل.. استغفر
الله..استغفر الله...وأخذ يبكي بتشنج..!
-مرة..كنا نتمشى فوق أحد الارصفة بشارع مزدحم من شوارع العاصمة..ولم
انتبه كيف فلت مني إذ لمحته يقف وسط الطريق، إلى جانب سيارة مسؤول مهم ، متوقفة
أمام الإشارة الحمراء..وسمعته يقهقه بطريقة استفزازية، وهو يشير بذراعه إلى ذلك
المسؤول ويقول له: إنني معجب بادوارك المضحكة..إنك ممثل بارع..وركضت نحوه_ وكان
حارس المسؤول قد سبقني إليه، فدفعه بقوة شديدة حتى وقع على الارض. فانتشلته
وكان مايزال يضحك مع الدهشة. وأنا اجره نحو الرصيف..!؟ قلت له: إنه بالفعل يشبه
ذلك الممثل الفكاهي ( فلان) الذي نشاهده في التلفزة، ولكنه ليس هو..الم تنتبه
إلى لون سيارته الأسود، ويافطتها الحمراء_ ومظهرها الرسمي الواضح..الم تر
السلاح الذي كان يحمله الحارس الجالس إلى جانب السائق..إن الفنان الذي تتحدث
عنه أنت لا يملك حتى دراجة..!؟
واكتفى والدي بقوله..إنني آسف..لقد نسيت..!
-ماذا احكي لك ياعم محمود عن قصص أبي المفزعة..؟
إنه اصبح يختطف ما يجمعه المتسولون العميان ، في صحونهم من دراهم،
ويقول: إنهم لايستحقون الصدقة..إنهم موظفون لصوص، يرتدون نظارات سوداء
للتمويه..!
ويقتحم مكاتب بعض المؤسسات. ويوزع مالديه من اوراق نقدية على
المستخدمين، وهو يقول لهم: انكم مساكين..طيبون، تستحقون الحسنة..! وطبعا
يتخاطفون نقوده بشراهة- وهم يتغامزون..
اخيراً.. صار عندما يزوره أصدقاؤه، في المنزل للإطمئنان عنه،
يعاملهم بخشونة وجفاء.. ويوجه اليهم بعض الشتائم، مثل:
جبناء..منافقون..متقلبون.. انتهازيون، مما يجعلنا نكاد نذوب خجلاً، وقد اصبح
الآن لايزوره أحد..ومن رآه من أصدقائه القدامى من بعيد ، يبتعد عن طريقه..!
لقد لمناه كثيراً على معاملته السيئة لرفاق عمره.. وكان يبرر
تصرفاته تلك بأنه نسي معرفته لهم، وعلاقاته الماضية بهم، ولم يعد يذكر منها أي
شىء، لذلك عندما يراهم يعتقد أنه امام غرباء.. ويظن انهم مجرد متطفلين جاء وا
للتشفي منه.. او للتجسس عليه .!؟
منذ مدة قريبة، أخذ يزاول عادة جديدة، وهي أنه كل صباح، يرسل اخي
الصغير ، فيشتري له مجموعة كبيرة من الصحف اليومية، فيقرأ جريدة او اثنتين
منها، ثم يكومها على شكل هرم، ويشعل النار فيها.. وعندما عبرّنا له عن
استنكارنا لتلك الحرائق اليومية ، علل ذلك بقوله : يطلع على الاخبار الساخنة،
يشعر بالبرودة تسري في اوصاله... وينسى قراءة الجرائد كلها، فيحرقها ليتدفأ
بلهيبها المتصاعد..!
وباختصار..لقد اضحى والدنا ، منبوذاً من معارفه. مهدداً ممن مسهم
بمشاكل نسيانه ، مغضوبا عليه من طرف جيرانه، لذلك أجبرناه على مغادرة البلاد
والسفر إلى أي مكان.. وهو الذي فضل الذهاب إلى دمشق ولم يذكر لنا السبب الذي
دفعه إلى ذلك الاختيار..؟
طرق باب الغرفة ، ودخل عامل الفندق يحمل طبق الفطور..فوضعه فوق
الطاولة وانصرف..
وسألني محمود..: لاريب أنك تذكر الآن الاسباب التي جعلتك تغادر
بلدك وتأتي إلى سورية . لقد أصبح كل شىء معروفا بعد قراءة رسالة ولدك..ولكن هل
تتفضل، وتقول لي: لماذا اخترت دمشق بالذات..؟
دون كيشوت.الحسكة ..!
منذ ثلاثين سنة مضت.. وذاكرتي محرومة من دفء أشعتها ، من جمال
الوانها، من شذى ورودها، من زقزقة عصافيرها، من نعومة اطيافها. وحلاوة مذاق
أحلامها..!
منذ ثلاثين سنة، وذاكرتي عقيم لاتلد..كنز ضائع، نبع غائر
المياه..شمعة تنطفئ كلما اضاءت.. عاشقة يسكنها الظلام ، كلما فتح لها حبيبها
نافذة للنور...!؟
لم تعد لذاكرتي طفولة، ولا فتوة.. ولا شباب.. ادراج أما سيها
شاغرة.. مغبّرة.. موحشة... وما تكتنزه قبل ثلاثين سنة، لاأدري كيف اصبحت صورته
اليوم..(ربما اشلاء من الموميات، وانقاض من الخرائب.. والهشيم الذي تذروه
الرياح..! وربما مازالت فيها بعض الملامح النابضة. التي قد تجمعنى بذاتي تقربني
من نفسي، وتفتح لي أفقا مغريا ، للتحاور مع الأمل..!؟
-قاطعني محمود متحمسا: واصل ..واصل تداعياتك، ومناجاة خواطرك.. يبدو
أنني سأكتشف من خلال هذيانك هذا سبب إختيارك المجئ إلى دمشق..
انقطع تيار افكاري، بمجرد أن تكلّم محمود.. وفي اللحظة نفسها لمحت
سربا من العصافير، ينفض اجنحته بضجيج، وينفصل عن شجرة قريبة منا . ويبدأ
بالدوران تحت سماء حديقة / السبكي / ثم يعود باستعجال ليستقر فوق شجرة أخرى
بعيدة.._ قلت لمحمود: هل رأيت تلك الطيور الصغيرة المرحة ..؟ إنها تلعب
كالأطفال ..! لقد تخيّلت عندما كانت تحوّم..كأنني احلق في الفضاء معها.. ولما
غادرت الافق، واختفت بين اغصان الشجرة ، أحسست كأنني ريشة وحيدة، تتهاوى ببطء
نحو فراغ رهيب..!
-قال محمود: أليس من الأحسن ان تواصل الحديث في ما كنت تقوله عن
ذاكرتك ..؟
سألته: أي حديث ..؟ وأية ذاكرة ..؟
- قال لي : احك لي بعضا من ذكرياتك في سورية، قبل ثلاثين سنة... إنك
ولا شك - مازلت تذكرها..
-طبعا- اذكرها ، بل وأحفظها عن ظهر قلب ،... إنها الشىء الوحيد الذي
ظلت ذاكرتي متشبثة به، طيلة هذه السنين التافهة التي مرت بي.. إنها شريط طويل ،
واضح سليم مليء بالأحداث ، حلوها ومرّها ، فيه عزة ، وجلال، وجمال وحب .. وفيه
الم ، وحزن ، وشوق ، وشقاء .. ولا اعتقد أنني نمت يوما قبل ان استعرضه وأشاهده
من اوله إلى آخره .. على شاشة ذاكرتي ، إلى درجة أنني اصبحت الآن خائفا ، أن
يصدمني الواقع بتشويه بعض اجزائه او فصوله ..!
إن فرحتي بقيام الوحدة بين مصر وسورية سنة 1958 . مازالت ذكراها
منتعشة بين جوانحي ،.. وإنها لحدث خالد ، لا يمكن للأيام ان تمحو روعته ، مهما
تقلبت..
وحزني يوم نزلت كارثة الانفصال ، ظل يتأجج ، ويلهب كياني ، إلى أن
وجدت نفسي داخل سجن / المزة / سنة1961.. حيث امضيت اياما للضيم ، والغيظ،
والإرتخاء ..
وعندما انطلقت زغاريد آذار ، زارني الفرح مرة أخرى،... وغادرت دمشق
وأنا مرفوع الهامة ، سعيد النفس.. ثم .. شيئا .. فشيئا .. فشيئا .. غرقت في ليل
كالح موحش ..!
يوم تم اعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة عام 1958 - كتبت موالا ،
ورفعت صوتي بالغناء .. وساعة اشراق شمس الإستقلال في الجزائر، تحوّل الحلم إلى
جناحين في قلبي ..
ومن شدة الخفقان ، عانقت الفضاء وطرت .. وصرخت ، وبكيت ، وصدحت
بالأناشيد ،.. ثم شيئا .. فشيئا .. تهاويت من قمة الحلم الحقيقة ، كريشة وحيدة
، تتأرجح ببطء نحو فراغ رهيب ...!؟ ومن يومها انسدت بعض منافذ ذاكرتي أمام
مسلسلاتها الجديدة ..!؟
وإنني مازلت اذكر أعوام إقامتي في حلب الشهباء ، ورأس العين ،
والقامشلي ، والحسكة ، ودمشق الفيحاء .. وسقى الله عقد الخمسينات بعطر شذي من
نقاء المجاهدين ومن جنان الشهداء ..
في حلب .. كنت بطلا في ركض المسافات القصيرة . وفي خبب المظاهرات ،
وسرعة الإفلات من اعشاب الربيع ، ومع ذلك لم اكن أعر قدمي أنتباهاً أو عناية ..
إلى أن استوقفني مرة فاعل خير ، وطلب مني أن اخفض راسي قليلا ..
وعندما فعلت ، وجدتني ارتدي فردتين لحذائين مختلفين ، اليمنى سوداء ،.. واليسرى
حمراء .. فاندهشت حياءً .. وضحك الرجل ، وانصرف..
وفي رأس العين .. تسلقت شجرة عالية ، وفتحت ذراعي ، وأخذت نفسا
عميقاً حتى إمتلأ بطني بالهواء ، ثم القيت بنفسي في الجو .. محاولا الطيران
كأبن فرناس .. ومن حسن حظي ان / رأس العين / مليئة بالبحيرات الصغيرة العميقة ،
فاستقبلتني إحداهن في حضنها الرقراق، كما تستقبل الام طفلها فوق حجرها .. ونجوت
باعجوبة من السقوط..
وفي القامشلي كنت فدائيا ، عاشقاً ، متصوفا .. أحياناً احمل مسدساً
لأحرس به حبيبتي من شراهة العيون، وأحياناً احمل رشاشاً لأذود به عن حدود
المدينة من خطر المتسللين .. وكنت معلما .. وشاعراً ، ومناضلاً ، وزبونا محبوبا
في فندق / هدايا/ ..!
ومن القامشلي اتجهنا نحو دمشق .. كنا ثمانية من المعلمين والمعلمات
، داخل سيارة أجرة ، لا تتسع إلاّ لخمسة ركاب مع السائق ، .. كان الهدف هو حضور
حفل اعلان الوحدة ورؤية القائد العربي المرحوم ، جمال عبد الناصر ،.. وفي
الطريق الطويل ، كنا إذا صادفنا حاجزاً أمنيا ، لشرطة المرور ، نرفع عقائرنا
بنشيد / قسماً / فكان رجال الشرطة عوض تسجيل المخالفة على تلك الزحمة الجنونية
.. يلوحون لنا بايديهم باسمين ، وهم يهتفون : تحيا الجزائر ..! أما الحسكة ..
فجل ذكرياتي معها يعرفها نهر / الخابور / بضفافه الوارفة .. ويشهد على بعض
لوحاتها الزاهية ، صديقاي: ابو يوسف، وأبن أبينا هكذا كنا نسميه ، لأن والده
كان قساً..
أطرف مشهد مرّ بي فيها ، يوم فتحت باب غرفتي الضيقة صباحاً ، ودلفت
خارجاً ، فإذا بي لم استطع رؤية أي شىء أمامي .. كان الفضاء كله غارقاً في بحر
من الهباب الاصفر الكثيف ، وكان الغموض الضبابي يغمر كل منافذ النظر..والحبيبات
الدقيقة الناعمة ، تتساقط بهدوء، كالعهن الكثيف والسكون يملأ كل شىء ، لاهبوب
ولا دبيب .. ولا يستطيع البصر أن ينفذ لاكثر من خطوة..!
كنت وحيداً في الشارع الصامت .. وواصلت كالأعمى طريقي ، بحي /
غويراة / إلى ان وصلت المدرسة ، وكانت / حاسة الاتجاه / هي دليلي في مسيري ..!
كان بابها مغلقا على غير العادة ، فطرقته .. ثم طرقت بشدة .. وصاح الحارس من
مكان خفي بعيد ..: من هناك ..؟ أجبته : أنا فلان .. افتح الباب ..
-احسست ببسمته الساخرة ، وهو يقول لي بصوت مرتفع : ارجع يا استاذ
إلى بيتك ، فيوم / الطوز / لايخرج فيه أحد من داره ..
لم افهم معنى / الطوز / ولكنني عدت مسرعاً أتعثر إلى غرفتي .. وكان
جيراني ، وهم من الفلاحين ، كأنهم قد انتقلو إلى عالم آخر .. لاحركة ، ولا صوت
.. ويظهر أنهم ما زالوا نائمين وهم الذين كانوا يستيقظون منذ الفجر، ويحرمونني
بضجيجهم من ألذّ لحظات الغفوة ، في تلك الدقائق الفجرية ..!؟
فتحت باب غرفتي ، واقتحمته ، واغلقته بسرعة وحذر ، حتى لا يلاحقني
ذلك الغبار السحري الناعم ... وكم كانت مفاجأتي شديدة مدهشة ، عندما ابصرت جو
غرفتي في اصفراره ، وكثافته ، وغموضه .. كالجوّ الذي يخيم خارجها ..!؟ ياإلهي
.. هل هذا الغبار ، يستطيع اختراق الجدران ..؟ لاريب ان كلمة / الطوز / تعني
أشياء غريبة ...!
خلعت مئزري ، وشمرت عن ساعدي ، وبدأت معركتي مع هذه / الظاهرة
الطوزية / وكان سلاحي هو سكب مالدي من مياه مخزّنة للشرب ، والطبخ ، والغسيل،
بواسطة طاسة مفلطحة ، كنت استعملها عندما آخذ حمّاما داخل الغرفة .. اما الآن
فهي صالحة لتحميم الغرفة كلها .. وبها أخذت ارش المياه ، باتجاه السقف .. من
فوق إلى تحت .. وفي كل الاتجاهات ، وبصورة عشوائية مقصودة ، على نية ان تعلق
قطرات المياه المتناثرة ، بذرات الغبار المتماسكة ، فتذيبها وتحللها ، وتسقط مع
رذاذ الماء .. وبذلك يعود النقاء والصفاء إلى الغرفة ..
استمرت معركتي مع الماء والهواء اكثر من نصف ساعة ، وقد أدى ذلك
المطر الاصطناعي الذي اخترعته ، إلى جعل ارضية الغرفة كأنها مستنقع قذر .. واخذ
العرق يتصبب من جبيني وارهقني الاعياء ، فجلست على حافة السرير المبتل ،
لاستريح ، ورفعت نظري ،.. كانت الغرفة ما تزال على حالتها الضبابية القاتمة ..
لم يتغير فيها أي شىء ..! وتعجبت من أمر هذا / الطوز / البليد .! وهنا سقطت
قطرة ماء من السقف ، أو قطرة عرق من جبيني على باطن نظارتي السميكة المقعرّة ..
فخلعتها لأمسحها ، واستأنف معركتي مع الماء والهواء .. وكانت المفجأة المذهلة ،
لقد رأيت غرفتي ، تنعم بصفاء رائق كالمرآة الصقيل ، لا شائبة فيها ،.. وانتبهت
إلى نظارتي التي في يدي ، ان غلافا كثيفا من الهباب الاصفر الدقيق يفترش
عدساتها المقعرة ..!
ابتسمت بمرارة ، وقلت في سري : يالي من مغفل مهبول .. إنني الآن
جدير بأن احمل اسم دون كيشوت الحسكة !
الفلاّحة ..
-سألت محمود : ألا تحس بأن جو مقهى ( الهافانا) يرتدي غلالة شفافة
من الحزن الباهت ..؟
-نعم - أجاب محمود - احس ذلك ..
ولكن هذا الحزن لايجده كل الجالسين هنا - وإنما جيلنا فقط ، هو الذي
يشعر به.
لقد كانت مقهى ( الهافانا ) ملتقى عامراً بأناس نحبهم ونحمل لهم كل
التقدير .. من أساتذتنا الأجلاء، وأصدقائنا ، أمثال : المفكر العربي الكبير زكي
الأرسوزي ؛ والفنان الرسام نعيم اسماعيل ، والأديب والشاعر الساخر صدقي اسماعيل
، صاحب مجلة / الكلب/ والشاعر سليمان الخش ... وغيرهم .. لقد فارقوا الحياة
جميعا - رحمهم الله ولا ريب أن رؤيتنا لأماكنهم الشاغرة، تذكرنا بهم ، وتبعث في
نفوسنا الكثير من مشاعر الكآبة والأسى ..؟
-صدقت ..إن الزمن هو ، هو .. لا يتغير في مواقيته المعتادة ، ولا في
تعاقب فصوله المعروفة .. والمكان أيضا ، هو ، هو .. لا يتحول عن موقعه ، ولا في
ما وظف له .. إذا حافظ على شكله ومهمته .. ولكن الذي يتغير هو الانسان .. يتغير
حسب مراحل حياته ، أو عبر أجياله المتعاقبة .. ومن هنا تختلف المشاعر ، ووجهات
النظر بالنسبة لظروف الزمن ، وبالنسبة لما توحي الامكنة من انطباعات وأحاسيس ،
وذكريات ..
إنني عندما عدت الى بلدي سنة 1964 ، وذهبت إلى قريتي بدت لي كل
شوارعها ضيقة ، وبساتينها صغيرة ، وجدران منازلها منخفضة تكاد أن تكون أقصر من
قامتي، مما بعث في نفسي الرعب ، وتساءلت هل تغيرت .. ثم اكتشفت أن الذي تغير هو
أنا ، وليست الأمكنة !
ومنذ ذلك الحين ، بدأت نوبات النسيان تنتابني على فترات متباعدة ..
-سألني محمود : هل تذكر ماذا قلت لي أمس ، عندما كنا جالسين في حديقة جامعة
دمشق ..؟
-ماذا قلت لك ..؟ إنني لا أذكر ..!
-قلت لي : في هذا المكان ، بدأت قصة حبك الفاشل ، عندما التقيت ب /
الفلاّحة / لأول مرة .. وقلت لي : إن ما توحيه إليك ، حديقة جامعة دمشق ، قد لا
يخطر ابداً على بال أحد من أبناء الجيل الجديد ..
- لم استرح لكلمة / الفاشل / فقلت لمحمود محتجا: اعتقد أنني لم أقل
لك إن حبي كان فاشلا ، لأن الحب عندما يستحوذ على القلب ، ويملأ اعماقه بعواطفه
النبيلة الممتعة الى درجة الهيام .. الحب عندما يسيطر على الروح ، ويستولي على
الفكر . يكون حباً حقيقياً عظيماً .. ولا يجوز أبداً أن يوصف بالفاشل ..!
-أنت لم تفهمني ،. إن ما أقصده هو أن حبك ذاك لم ينته بالزواج مع من
كنت تحب .. أي أن الفاشل هو مشروع الزواج ..
.. واضاف محمود - في شبه اعتذار - هيا .. دعنا من هذه الحساسية
المرهفة .. واحك لي قصة حبك مع / الفلاحة / فقد تجد بعض المتعة في سرد الذكريات
التي لم يطلها نسيانك ..
وبالفعل احسست برغبة ضاغطة في إعادة ذكريات تلك القصة .. وربما لكي
أختبر ذاكرتي الماضية ، إن كانت ماتزال سليمة ..؟
-قلت لمحمود : إن فشل زواج المحب بمن يحب ، يكون أحيانا سببا في طول
عمر الحب .. وقد كاد حب / الفلاحة / أن يستعمرني نهائياً .. لولا ثورة أم
البنين التي حررتني ، فخرجت منه منتصراً ، مستقلاً..
ومع ذلك ، لابأس من مراجعة شريطه:قصة الحب، بدأت مع أول نظرة -كما
يقولون - حيث غمرتني نشوة عارمة ، وارتياح عميق ، وسعادة غامضة بمجرد أن لمحت
ذلك الوجه الريفي الفاتن في نظري ، والعادي في نظر الزملاء الذين اسموها /
الفلاّحة / استخفافا بذوقي/ .
تعلق قلبي بها .. واصبحت لا أمل من ممارسة ، سرقة التطلعات الخفية
نحوها .. وعندما تغيب عن بصري يعذبني الشوق اليها ، ويكفيني أن أراها أمامي ..
دون طمع في أي شىء آخر ولو نظرة خاطفة منها .. وقد استمرت تلك الحالة القنوع ،
أكثر من سنة ، مع أننا كنا نزاول دراستنا في قسم واحد ..
ولا أذكر بعدها .. متى بدأت تبادلني النظرات ..!؟
في زمن الخمسينات ، وقبل / النكسة / كانت العلاقة بين طلاب وطالبات
الجامعة ، لا تتجاوز حدود التحية المحتشمة . أو تبادل بعض الجمل القصيرة
والمنتقاة من أجل استعارة كتاب أو استفسار عن محاضرة ..! أما عندما يلتقي طالب
بطالبة خارج حرم الجامعة فمن النادر ان يتبادلا حتى النظرات ، ويمران ، وكأن
أحدهما لا يعرف الآخر ..!
كانت عظمة شخصية الطالب . تفهم من جديته واجتهاده ، ومن احترامه
لغيره وتعففه .. وتبدو في سلوكه الأخوي المستقيم مع كل الزملاء والزميلات ..
أما بعض الحالات النادرة ، والمتسمة بالجرأة أو بنوع من الاستهتار من طرف بعض
اللامبالين من الجنسين فإنها تثير لدى الأغلبية ردوداً قاسية من الاستهجان ،
وتعد خروجاً وقحا عن المألوف ..
-قال محمود : وربما تثير عند بعض المعقدين من / المستقيمين / مشاعر
الغيرة والحسد .. فيكون استنكارهم أشد قسوة ..!؟
يظهر انك ابتعدت عن صلب الموضوع .. فلا تنس أننا مع قصة / الفلاحة
/.. كيف تم التعارف بينكما ..؟
-واصلت حديثي..!
صدفة.. وبدون تخطيط ، تم التعارف بيننا ، ثم ترعرت صداقتنا بسرعة
..وصرنا نعبر عن مشاعرنا بارتياح كلما التقينا ..وقد ظلت تلك الصداقة /
الثقافية/ المتينة تربط بيننا حتى تخرجنا من الجامعة .. وافترقنا بدون حذر ،
وكنا ، لا أحد منا يعرف عنوان الآخر ..!؟
في إحدى أمسيات معرض دمشق الدولي ، كنت جالساً في غرفتي افكر في
وسيلة تجعل من جناح الجزائر في المعرض أكثر جاذبية في استقطاب الزوار.. وخطرت
لي صورة غريبة .. فتساءلت ..لو أننا جندنا بعض طلابنا المكتنزين والخاملين
.ووضعناهم في أحد اركان المعرض على شكل جثث مشوهة .. وكتبنا أمامهم : ( هؤلاء
مجموعة من اخوانكم ضحايا الغدر الاستعماري ) الا يكون لذلك المنظر ابلغ
التأثير في كسب تعاطف الزوار..!؟
وبذلك أيضا نكون قد اتحنا لأولئك المكتنزين فرصةً للاعتزاز
بالمشاركة في الثورة .. وتداعت الأفكار وتخيلت اعلام الاستقلال ترفرف وأحسست
كأن المكتنزين ، يتقدمون صفوف المحررين والجماهير تهلل لهم ، وتنثر الزهور فوق
اكتافهم .. وتوهمت كأن يداً خفية تدفعني من كتفي .. وهاتفاً يهمس في أذني :
دع عنك حي / المزرعة / واركض نحو فضاءات المعرض فإن / الفلاحة /
تنتظرك هناك ..!
كنت كاليائس من رؤيتها مرة أخرى .. فارتديت ثيابي على عجل ، واسرعت
كالملهوف .. وكانت المعجزة .. لقد وجدتها مع قريبة لها ، تكاد تتخطى عتبة الباب
الخارجي ، منصرفة الى منزلها ..
صافحتها بحرارة .. وشوق .. وحييتها ، فردت على تحيتي بطريقتها
المحتشمة، المحببة لدي .. وصمتنا لحظة ..
ثم جمعت كل أطراف شجاعتي ، المتعودة على التشتت أمامها .. جمعتها
بصعوبة وقلت لها:
بصراحة أود أن أزوركم في منزلكم لأطلب يدك .. فإذا لم يكن لديك مانع
، فارجو أن تحددي لي موعداً ، وتزوديني بعنوانكم ..؟
بينما اطرقت ( هي ) ابتسمت قريبتها وقالت لي :
لقد حدثتنا عنك ..، وهي تكن لك كل التقدير ..!
تملكتني في اللحظة نفسها عدة رغبات .. في الطيران .. في الصراخ ، في
تقبيل الناس في الضحك .. في البكاء.. في القفز داخل نهر بردى .. ولم يبق في
جعبتي أي كلام ..
قالت / الفلاحة / وهي مطرقة باستحياء ... يمكنك زيارتنا مساء
الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم ، والأحسن أن يكون زميلنا (فلان) معك ..فهو
جارنا ، ويعرف دارنا..
لم أصدق نفسي .. أنني خطوت كل هذه الخطوة الجبارة الظافرة ..
ودعتهما .. وانصرفت كالمجنون ..
عزيزي محمود .. اسمح لي أن أتوقف عن سرد هذه الحكاية الآن .. بهذا
الاسلوب التفصيلي ، إذ ليس في ما تبقى من أحداثها ما يستحق الافاضة أو يوحي
بالاستمتاع ، لهذا سأختصر كلامي ، ضمن نقاط محدّدة قد تصلح في المستقبل لأن
تشكل عناصر اساسية لكتابة رواية مؤثرة..
-عندما ذهبت إلى منزلها مع الزميل ، رحبوا بنا ، وقابلنا اخوها بوجه
متردد ..
-قال لي أن البنت تريدك .. ولكن نحن لانريد لها أن تعيش خارج سورية
، بعيدة عنا .. كفانا تشرداً ..
-قلت له : وأنا لا أريد أن أعيش خارج قريتي ، كفاني غربة ..!
-وقف الأخ ..فوقفت معه ..فطلب مني أن أجلس قليلا ..
واختفى لحظة داخل احدى الغرف ..ثم عاد وقال لي :
- على كل حال ، تفضل ، وزرنا بعد اسبوع في مثل هذا الوقت ..
- توهمت أنني أسمع نشيج بكاء - صافحناه ، وخرجنا ..ولم أعد اليهم
حتى اليوم ..
وبعد خمس عشرة سنة - كنت في اسوأ مراحل مرضي النسياني ..وقد كتب
ولدي في / مذكراتي / يقول:
اليوم .. أغمي على والدي ، وهو في مكتبه ، بعد أن دخلت عليه سيدة ،
معينة للعمل معه كمساعدة ، ولم يفق إلا بعد أن صفعه زميل له بكف ..! فقام وغادر
مقر عمله شاحباً!؟
وتقول تلك السيدة التي زارته .. إنها تفاجأت عندما رأت والدي ، وهي
متزوجة من استاذ مصري ، وأهلها في سورية : وقد جاءت مع زوجها للعمل هنا ..
ولكنها الآن ترفض ذلك ..قالت إن أبي كان زميلاً لها وكان أحياناً يناديها
مازحاً باسم الفلاحة / ولكن عهد المزاح قد انتهى .
دمشق 20/7/1995
مسألة " الشقة "!
مر أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن بدأت إقامتي الجديدة بدمشق ،.. كان من
المفروض - عندما وصلت المطار - أن أذهب مباشرة داخل سيارة إسعاف الى مستشفى /
المواساة / لأن حالتي الذاكرية كانت متدهورة الى حد التوهان ..ولكن صديقي محمود
- سامحه الله - أخذني مباشرة الى فندق / الفراديس /..
لقد تصور صديقي ، أن ذاكرتي التي تخلخلت منذ ثلاثين سنة يمكن أن
تعود ببساطة الى حيويتها المعهودة بمجرد أن اشرب من ماء / الفيجة /، واتنفس
هواء حديقة / السبكي / واتمتع بمشاهدة شموخ / قاسيون / وأصلي في الجامع الأموي
..!
لم يخطر ببال محمود أن مرضي قد يكون معديا ، ويهدد كل من يحتك بي
..أو أنه في منأى عن الشفاء العاجل ..
وعاملني كانني إنسان طبيعي لايستحق الاحتراز منه ..؟
ذاكرتي .. بالفعل - أخذت في التحسن .. وقد أصبحت أتكلم دون / رأرأة
/ أو تردد .. واقرأ الجريدة العربية أمام الناس بدون خجل ، وافهم مناجاة العشاق
، ولا أكثر من الالتفات المتوجس عندما أسير . واتسكع في الطرقات حتى آخر الليل
دون عائق ..
واشترى من / سوق الجمعة / ماأشاء بأبخس الأثمان ، وأقرأ ما أريد ،
واكتب ما أريد ، وآكل ما أشتهي .. وحتى التحية صرت استقبلها يومياً بكل طراوة
ووضوح .. يقول لي المحيي : صباح النور ..؟
فأرد عليه بكل فصاحة وزهو: ما أطيب قهوة زرزور .. ويضحك السامع
إعجاباً بسرعة تلاؤمي ، وبداهتي .. امور كثيرة .. وكثيرة لم أكن أذكر شيئاً
عنها، قبل وصولي الى دمشق ، عادت الى ذاكرتي ، وأضحيت أعيشها كواقع جميل ،
يهزني سعادة وحبورا .. ولكن هذا لا يعني أنني شفيت تماما ..
فمازلت أعاني من بعض المخلفات المرضية ..ومن بينها .. نسياني
لمجموعة كبيرة من أعز الأصدقاء .. ما هي أسماؤهم ..؟
أين هم ..؟ عناوينهم ..؟ لا أذكر شيئاً ..!
كما نسيت أجزاء هامة من خريطة دمشق القديمة،.. لقد بهرني التغيير
العمراني وانتشاره المذهل ، فأنساني ما كان قبله .. ووقع لي ما يحدث لأي محدق
في عين الشمس ، ثم يدير نظره عنها ، فلا يرى إلا ضباباً مبقعا ، يتراقص كسحب
صيفية متلاشية ..!
حاولت في جولة أن استرجع أفياء رياض الغوطتين وسرحت كالفراش ،
شمالاً وجنوباً ، وكاد الاسمنت أن يمزق جناحي ، لولا أن عثرت على موقع حدائق /
ورد الشام / فحومت بين دفاتها ، مأخوذا بروعة جمالها وسحر بيانها ، ورونق
الوانها . فقبلت جبين التاريخ الحي .. وانتعشت ذاكرتي قليلا ..
واهدتني صديقة حكايات عن حنيني / يامال الشام / فعادت بي إلى منابع
الاحساس بفتنة الماضي ونشوة الذكريات .. وشعرت كأن وعياً يستيقظ بين ناظري ،
وينبثق كالنور .. فتذكرت محموداً إنه لم يزرني منذ أيام..! وادركت أنني أصبته
بعدوى مرضي النسياني .. وربما تكون هذه العدوى قد مست بعض أصدقائي الآخرين
ايضاً ..؟
ولكن كيف لم تصب عدواي النسيانية ، جاري الذي كرى لي / شقة / في
عمارته .. مع أنني أتلاقى معه ، واحادثه ، واعطس في وجهه يومياً ..؟ كيف لم تسر
عدوى النسيان اليه ..!؟
مع أنه كان دائما ينسى أن يصلح لي جهاز التلفزة ، وينسى أن يركب لي
المدفأة .. وينسى حتى أن يأتي بمسمار لتثبيت مغلاق الباب ..!
لقد نبهني اليوم بترصد ، إن موعد انتهاء الايجار سيحل بعد غد ، وعلي
أن أبحث عن شقة أخرى ، لأن هذه تنتظر ارتفاعا صاروخيا في قيمة الكراء تبعا
لارتفاع درجات الحرارة في الصيف ..!
يعلم الله أنني كنت ناسيا وضعي كمستأجر ، ويظهر أنني كنت اعتقد بان
المنزل الذي اشغله ، منزل منسي ، أو لا صاحب له ..!
ياإلهي .. كم هو مزعج ، تسارع الأيام ، في هذا الزمن البطيء بهمومه
.. الثقيل بمشاكله ..
وبدأت بالبحث عن شقة على غير هدى .. انتقل من مكتب عقاري الى آخر
.. من / الجسر الأبيض / إلى / البرامكة / إلى حي / اليرموك / إلى برزة/ ..
وكانت الشقق الشاغرة كثيرة ..ولكن الاسعار ، نار على نار ، لا يطيقها الا سادة
المارك والدولار ..!
- يبدو أن اسم الشقة ، مشتق من الشقاء كالمشقة .. وهذه مجرد شقشقة
وردت من ذاكرتي المتشققة ..!
اكتشفت أن سعر كل شىء في دمشق زاد بنسب معقولة منذ الخمسينات حتى
اليوم .. الألبان ، الأجبان لحم الخرفان .. البسه الصبيان .. الفواكه والخضر ،
وعصير الرمان .. / الريان / كل شيء زاد عن سعره القديم بصورة معقولة ، إلا ليرة
الايجار فقد أصبحت تساوي خمسمائة ليرة أو تزيد ، عن ايام زمان وهذا مالم يكن في
الحسبان ..!؟
من المؤكد أن الحقائق القاسية تؤذي ذاكرتي فتسبب لها بعض الانتكاسات
البهلوانية ، وأنا الآن في حيرة من أمري ..؟ لقد اعجبت ب / ملحق / شاهدته في
مرتفعات / المهاجرين / ولكنني لا أذكر المكتب الذي دلني عليه ..!
دخلت مكتبا في / المالكي / وقلت لصاحبه :
أنا مستعد لكراء الملحق الذي اريتني إياه في منطقة / باب مصلى /
فتأملني السمسار جيداً ..ثم ابتسم بأدب وقال لي : اله يشفيك ياحجي ..
-سألته : الست انت أبو حسان ، صاحب مكتب / المزرعة /..؟
-أجابني .. لا ياحج .. مع السلامة .. وخرجت غاضبا من مكتبه .. إن
ابغض شىء عندي ، هو أن يناديني أحدهم بياحجي أو ياحاج .. خاصة وأنني إلى حد
الآن لم أقم بأداء فريضة الحج حتى لو أديتها ، فهل لأحد الحق أن يطلق علي اسمها
.. لماذا لايسمى أبو بكر الصديق بالحاج أبو بكر ..؟
ولو نادوا عمراً لضربهم بدرته .. ثم إنني أؤدي كل عام فريضة الصوم ،
فلماذا لاينادونني بيا صايم .. ولو نادوني بها لرفضت ..!؟
ماذا كنت اقول .. ذهبت إلى مكاتب / ركن الدين / وانحدرت مع الأرصفة
.. كان المسجد بطوابقه الأربعة يعج بالمصلين ، فقطعت صفوف الراكعين ، والساجدين
، والجالسين وتقدمت من الامام ، وهمست في أذنه : سيدي الفاضل هل بإمكانكم أن
تعلنوا في خطبة الجمعة ، (ان هناك مسلماً بدون سكن ، يبحث عن شقة جيدة ورخيصة،
للايجار) ..
ومن قضى حاجته فله أجر الدنيا المحتوم ، وإجر الآخرة المعلوم
وربت الامام على كتفي ، وقال لي بجدية فصيحة:
وفقك الله يا أخي ، فنحن لانشغل بال المسلمين بالقضايا الجزئية
البسيطة .. لقد دخلت المسجد لأداء فريضة الجمعة . ولا أدري كيف نسيت .. وغادرت
قبل قيام الصلاة .. أظن أنني نسيت سبب وجودي في الجامع ، وحسبت أن دخولي اليه ،
كان فقط من أجل طرح سؤال الشقة على الامام .
في المساء التقيت بصديق مهندس ، فأصر على دعوتي لتناول العشاء معه ،
فامتنعت .. وبعد الحاح واصرار امتطينا سيارته الفخمة وانطلقنا ..
جال بخاطري سؤال رهيب : اين أنام الليلة ..؟
وهممت بعرض مشكلتي السكنية على هذا الصديق .. نعم .. سأخبره بمجرد
وصولنا إلى المطعم .. وشردت قليلا حيث شعرت بنوع من الذعر ، عندما توقفت
السيارة فجأة وسمعت الرفيق يقول لي:
.. لقد وصلنا .. استيقظ ..! فاجبته بعفوية .. أين نحن ..؟
- طبعا .. أمام المطعم .. وبهرتني الأضواء اللامعة، وغمرتني الروائح
الشهية ، فجلسنا ، وأكلنا ، وتكلمنا ، وضحكنا ثم تودعنا .. وانصرفت .. ناسيا
تماماً مسألة الشقة ...!؟
دمشق 27 / 7/ 1995
الذاكرة الآلية
أخيراً اكتشفت أنني عبقري .. وأنني قد سبقت عصري بمرحلة كبيرة ،
ووجدت في هذا الزمن المتقدم في تأخره ، وكان من المفروض أن أظهر بعد عشرات
السنين من هذا الوقت ..!
أما مضمون هذا الاكتشاف ، فهو ببساطة ، كوني خلقت . بعد مرحلة
الشباب . نسايا ..! لماذا ..! ذلك . حسب ما يبدو لي . ان قوة الذاكرة .. هي
دليل . في بعض توجهاتها . على البدائية ، والتأخر ، وعهود الانحطاط .. وأن
الفيل يعتبر من أكثر الحيوانات سذاجة، وانصياعاً ، وطيبة.. لا لشيء.. إلا
لذاكرته القوية، كما يقولون ..
في المجتمعات القديمة الأوّلية .. كانت ذاكرة الفرد هي التي تحدد
دائرة معارفه . هي آلة تصويره ، وساعته، ودفتره ، ومسجلته ، وحاسوبه ، وسينماؤه،
ودليله،وبوصلته، وتيلفونه، وفاكسه ... وسكرتيرته الجميلة الملازمة، كانت
الذاكرة هي كل شىء بالنسبة للإنسان القديم، وكانت تشتغل بصفة دائمة ، دون
انقطاع ، لذلك كانت قوية ، نشطة ، لا تعرف الخمول، أو التحول ، أو النسيان ..
ومن جراء قوة الذاكرة البدائية تطورت وازدهرت علوم الفلك ، ومواقع
النجوم ، ورصد العواصف، والقيافة، وتتبع الأثر، ومعرفة الانساب، والقبائل،
ومتابعة الثارات، وتسلسل انتقاماتها، خاصة إذا كانت تمس العرض والشرف ،...
وكانت الذاكرة هي العصبة .. وهي التاريخ بكل أفراحه أو مآسيه .. لم يكن الإنسان
القديم ينسى حتى الموتى .. وكان يعيش بحاضره المليء بالأحداث ، لتلبية وصايا
ماضية المقدس . من أجل تاسيس مستقبله المعلوم..!
وبمجرد أن أخذت حياة الإنسان في التطور ، بفضل تقدم العلوم، وفتوحات
التكنولوجيا ، بدأت الذاكرة البشرية تتخلى شيئاً فشيئاً عن مهامها ، لتفسح
المجال أمام المخترعات الحديثة ، لتحل محلها ، وتقوم مقامها،.. وقد يأتي يوم
ينتهي فيه دور الذاكرة البشرية بصورة شاملة، ويصبح الإنسان / نسايا / بديمومة
وإطلاق وساعتها يكون كل مخلوق آدمي ، مزوداً بذاكرة آلية ، مزروعة في مناطق
دماغه الحسية، بحيث لا يتذكر تاريخاً أو شكلاً ، أو لوناً ، أو طعماً أو رائحة
إلا بواسطة إيحاءات تلك الآلة الذاكرة العجيبة ..!
بالنسبة لي ، ولاعتبار أنني أعيش / نسايا / في عصر غير عصري ، فقد
أنقذني الله من حمل الذاكرة الآلية المستقبلية، وعوضني باستخدام ذاكرة أبنائي
وأقاربي، وأصدقائي، ومحفظتي الجلدية، وفي هذا خير كبير، ونعمة لا تقدر ..
عندما قلت . أن الذاكرة القوية، دليل على البدائية ، والتأخر ..
و.. و..” فأنا بالطبع لا أقصد أن أنفي الخير والسعادة ، أو أمس مظاهر العزة
والشهامة والمروءة عند أجيالنا القديمة جداً ، بل بالعكس فإن عهود الذاكرة
القوية، مفعمة بملاحم البطولة والكرامة.. بينما قد نجد / مستقبلاً / عهد
الذاكرة الآلية، مليئاً بالمذلة والاحتقار .
وبعد.. أرى من الواجب علي، أن أكرر حمدي لله، لأنه جعلني نسايا/ في
غير زمني / ولم يجعل لي ذاكرة آلية، خاصة وأنني من مواطني العالم الثالث.. ومن
الجزائر بالذات.. ولكي أشرح أسباب هذه / الحمدلة / أقول:
إن الذين يعيشون معي الآن / في زمنهم/ مذبذبون في ذاكرتهم، وفي
نسيانهم فهم غالباً ما يتذكرون أشياء كان من المفروض أن تكون منسية لديهم..
وينسون أموراً لا يجوز نسيانها ..!
يتذكرون بسرعة من يتبوّأ منصباً سامياً، ولو كان منسياً عندهم منذ
سنين .. وينسون من عاكستهم الحظوظ في الجاه أو في المال ، وان كانوا من قبل
يسبحون بحمدهم، ليل نهار ..! ومثل هؤلاء ، تكون في الغالب ذاكرتهم بصرية، لا
بصيرية .. يوقظها اللمعان الخاطف، ولو كان حارقاً، ويخمدها منظر الظلال، ولو
كانت موئلاّ للعزة والأنفة والشرف ..
فمثلاّ ..هل بالإمكان نسيان الأرض، والشهداء والشعر، وحقد،
الصهاينة. ومأساة الشتات .. أي ذاكرة مسلوبة منبهرة هذه ..!؟
ان اغلب الذين بدأت تظهر عليهم أثار الذاكرة الآلية، من سكان العالم
الثالث، وبدأت ذاكرتهم البشرية في الضمور والانحلال، هؤلاء الناس مع الأسف ،
يمكن اعتبارهم من بين ابشع ضّحايا عصر التيكنولوجيا. ونستطيع عدهم من بين
معطوبي الإرادة والشخصية ومعوقي الوعي ..!ولا فرق بينهم، وبين ضحايا العبودية
في العصور القديمة ، إلا في المظهر فقط ..!؟
إن الذاكرة الآلية هي من صنع الدول القوية المتفوقة، وهي ( مفبركة )
، ومكيفة، ومبرمجة بقصد ، لتتلاءم وتتناسب مع مناخ اصحابها، وميولهم، وافكارهم،
وسلوكهم، وطموحاتهم الشخصية ..
ونظراً لمواقفنا الانعزالية ضد التوحد والتضامن والتعاون فإننا لا
نستطيع . في حالة التمزق هذه أن نصنع أية ذاكرة أو نتمكن من استعمالها .. لذلك
.. فالأقوياء المتحدون هم الذين يصنعون لنا ذاكرتنا الآلية ، بما ينسجم مع
طاقاتنا المحدودة، وهم الذين يركبونها لنا ، ويكيفونها، ويبرمجونها حسب
مايريدون، وكما يحلو، لهم،.. ومن جراء ذلك، فإننا لن نستطيع أن نتذكر إلاّ
مايريدون هم منا أن نتذكره ، وننسى كل مايريدون منا نسيانه ..!؟
إنهم- اليوم - يوجهون نحونا أقمارهم الصناعية، ويبيعون لنا /
الهوائيات المقعرة/ ويبثون بيننا البرامج التي يختارونها لمقاسنا .. يطبعون
الجرائد اليومية والمجلات، ويخصوننا بنسخ خاصة .. الكتب، والألعاب، والألبسة،
والرسوم .. حتى المصانع والأسلحة، والأغذية.. كل شىء يبيعونه في أسواقنا، حسب
مقاييس محددة، وصلاحيات محسوبة .. تتناسب مع التمهيد / لترويض/ ذاكرتنا
الحالية، حتى تكون على استعداد للتلاشي واحلال الذاكرة الآلية محلها ..!
وكم هو رهيب ذلك اليوم الذي تبدأ فيه عمليات تصدير الذاكرات
الآلية..
إنه بالفعل سيكون يوم نهاية التاريخ ..!؟
كم أتمنى أن نحافظ على تأخرنا، بحكمة ووعي وان نبعد مواقع ضعفنا
الحضاري عن عبث المتطورين ..! وأن نحمي ذاكرتنا البشرية العربية من غزو الذاكرة
الأجنبية، وان نتخبط في وحلنا، دون مساعدة أي يد تمد لنا من الضفاف الأخرى
للبحر، ثم نمسك بأيدي بعضنا كما يفعل / الرحابة/ أو أصحاب / الدبكة/ ونتقدم
خطوة خطوة إلى أن نصل بأنفسنا، ماوصل إليه غيرنا بنفسه ، وبذلك فقط، نستطيع أن
نعتمد على ذاكرتنا، حتى ولو جعلناها آلية لأنها ستكون من ابتكارنا وصنعنا
وسنكون نحن من يركبها ويكيّفها حسب مقتضى الحال.
احسست بشيء مكهرب، يوضع فوق كتفي الأيمن، فقفزت واقفاً كالملسوع،
واستدرت بسرعة فائقة ، وانا أرتعش لأواجه، بلا وعي، هذا الرعب الداهم.. وانطفأت
كشعلة عود كبريت، داهمتها نسمة عابرة وهي في عنف توهجها ..!
-عزيزي محمود.. لقد افزعتني كثيراً، وأنت تضع يدك بغتة على كتفي..!
كان من الممكن أن تقتلني بمثل هذه الحركة .. أرجوك لاتكرر معي هذه المباغتة مرة
أخرى.. إنني مازلت أعيش كابوس الارهاب ..!؟ وعلى كل حال ، الحمد الله على
السلامة .
-شكراً .. ومعذرة .. لم يكن قصدي أن ارعبك .. ويبدو أنك قد تحسنت
كثيراً ، عما تركتك عليه منذ شهرين..
-نعم .. تحسنت فكرياً، أما نفسيتي فمتدهورة.. ربما بسبب العزلة
التي عانيتها منذ سفرك، ومما يضاعف قلقي أنني إلى حد ألان ، لم أجد لنفسي
مبرراً مقنعاً عن سبب أختياري المجيء إلى هنا .. إنني متأكد من وجوده.. ولكن
متى اتذكره .. متى ..!؟
دمشق 10/8/1995
التشابه ..!
من الأمور العادية ، أن ينسى الإنسان حادثة، أو إسماً، أو وصية ، أو
أي شىء آخر، كان يذكره ، ثم فجأة يختفي من ذاكرته ، ولا يعود إليها إلا بعد
تركيز واعتصار إلى حد الكزاز .. وقد يتلاشى نهائياً، ولا يظهر أبداً ..
ولكن هل من المعقول أن ينسى الإنسان شيئاً معيّناً ثم ينسى أنه
ناسيه ، فيعوضه بشىء آخر، ظاناً أنه هو المطلوب بعينه .. وأن ذاكرته سليمة، ولا
غبار عليها ..!؟
منذ سنين ، كانت زميلتي تتمشى أمامي، فناديتها بصوت مرتفع، جاكيت..
جاكيت ..! وتعجبت كيف لم تدر راسها نحوي .. ألم تسمعني..!؟ وكررت النداء بصوت
مرتفع أكثر .
-جاكيت .. ألا تسمعينني..؟
التفتت نحوي غاضبة، وهي تقول، ماهذا المزاح الثقيل ..! هل اسم جاكيت
عندك أصلح من اسم جانيت ..!
طبعاَ الجمني الإحراج والحياء، فلم أنبس بكلمة واحدة عفواً يا جانيت
.. وكانت أصداء نبراتي الداوية بمفردة / جاكيت / مازالت ترن في أذني كالهاجس
الوقح ..!
ما علاقة اسم جانيت، بهذا الاسم الدخيل، جاكيت؟ ربما لأنها دائماً
ترتدي جاكيتاً فضفاضاً فوق تنورتها؟ أو ربما لأن شكل هذه الزميلة، يشبه إلى حد
كبير ، شكل الجاكيت. فهي ضامرة، ونحيفة، وخفيفة الحركة، وتبدو وكأنها بدون صدر
..!
وربما مجرد زلة لسان، سببها تشابه حروف الاسمين .. مثل التطبيع ،
والتبطيع والتنطيع والتطويع.. فهذه الكلمات كلها متشابهة في بعض حروفها، ويمكن
للإنسان أن يخلط في النطق بها نتيجة النسيان ، وعدم التركيز ..
وبمناسبة ذكر موضوع تشابه الاسماء بالحروف، أذكر أنني كنت قد سجلت
مجموعة من الأخطاء/ المطبعية/ الطريفة، كانت قد وقعت في بعض الصحف الجزائرية
اليومية ،.. وكانت مثاراً للكثير من الاغتباط أو الاغتياظ .. وكان سبب حدوثها -
في رأيي- يعود إلى سهو/ المصحح / ونسيانه ، نتيجة تشابه الحروف .. وليس لشيء
آخر ..!
وعلماء النفس، يعرفون جيداً أسباب هذه الأخطاء البريئة، ودوافعها
العفوية..
- فمثلاً- نقرأ : / قصر المؤامرات/ .. والمقصود - طبعاً _ قصر
المؤتمرات ..
- ونقرأ: سنفتح الأبواب أمام الاستعمار الخارجي.. وفي الغد .. تعتذر
الجريدة، بأن المقصود من كلمة / الاستعمار / هو الاستثمار .. وأنها مجرد غلطة
فمعذرة.
العجيب في الأمر- حسبما أذكر - أننا خلال أعوام الخمسينات، كانت
أغلب أخطائنا/ المطبعية/ تنصب نحو مقاصد، ومعان، وأشياء.. كريمة، ومحبوبة،
فمثلاً ، نخطىء في كتابة/ الثروة/ فتكون / الثورة/ .. وبدل/ الوخذة/ نكتب /
الوحدة/... وقد نسجل كلمة/ التحرير/ بدل التحجر أو التأخير ... كانت أخطاؤنا/
المطبعية/ تعبر ببداهة، عن مطامحنا، ونوايانا، لذلك كانت تنزع - بتلقائية نحو
الأفضل والأجمل ... بينما في هذه العهود / الاستسلامية / الرديئة .. تحولت كل
أخطائنا إلى كل ماهو نقيض، وسيّئ، وكريه.
-سمعت مسؤولاً يخطب أمام مجموعة من مسؤولي الشباب في المغرب العربي،
فقال لهم : " إنني أرحب بكم أيها / الأشقياء/ في بلدكم هذا .." وكان يقصد: أيها
الأشقاء..!
وكانت مذيعة التيلفزيون، تكرر يومياً، إعلانها عن تقديم حصة للأطفال
بعنوان/ العبقري الصغير / فتقول :" والآن إليكم أيها الأطفال حصة العبرقي
الصغير "! ولم تنتبه أبداً لتصحيح غلطتها..!وفي إحدى حملات التبرع الخيرية، قال
مواطن متبرع ، أمام ميكرفون الإذاعة:" إنني قد تبعّرت في قريتي، وجئت هنا
لأتبعّر في العاصمة"..!
كل هذه الأخطاء لا ريب أن لها علاقة بتشابه الحروف.. كما لها أيضاً
علاقة وطيدة بآفة النسيان، حيث ينسى الكاتب أو المتكلم وجهة الصواب، ويقع في
الخطأ ، وهو يعتقد أنه لم يحد عن جادة المنطق المقصود.. وتلك هي مشكلتنا في زمن
انتشار الأخطاء ..!؟
بالنسبة لي كمريض أصيل في داء النسيان ، فقد يحق لي أن أحمد الله،
على أخطائي النسيانية . نظراً لكونها في الغالب لا تتجاوز حدود الشفهيات
البسيطة، وهذا يعود إلى ما يتمتع به مرضى النسيان من براءة، وعفوية، وشهامة..
ومن نزوع مستمر نحو الصراحة ، والحق والخير ..!
أما تلك الأخطاء النسيانية الأخرى، والبعيدة عن محيطي الأخلاقي،
فإنها تستحق كلمة/ أعوذ بالله / .. لأنها تتجاوز حدود القول إلى الفعل، وتتعدى
مرحلة البساطة إلى درجة التعقيد،..
وعوض أن تثير بسمة الرحمة والإشفاق، أو نظرة العتاب الرقيق.. فإنها
تكون مصدراً خطيراً لإحداث الكوارث، والآلام، والأحزان ...!؟
أحدهم يسافر نحو الغرب بذاكرة مشوهة، أو منحرفة.. يحمل معه جهله،
وفقره، وحرمانه ، فتلفظه الموانئ في عرض الطريق،.. وتبتسم له فضلات الأرصفة
ببعض مافيها من بقايا قوت مسموم.. وركام مكانس.. وشوارد شقراوات.. وتتوالى أيام
الهزال، فينسى ذلك المسكين نفسه، وينغمس حتى العنق في أحد أكياس الفضلات ..
وينخطف بصره لشدة لمعان الشعر الأصفر، ويتمطط الكيس، ويبدأ، يغرق،.. يغرق
فتأكل رطوبة البحر قدميه وتنهش ملوحة العيون الزرق حروف بطاقته الشخصية، فيصبح
دون رقم، وبلا صورة أو هوية.. وشيئاً فشيئاً.. يبتلعه جوف الكيس، ويتعفن،
وتحمله شاحنة البلدية لترمي به كأي قمامة في مكان منسي سحيق ..!؟
في الزمن الماضي، كان التشرد خارج الوطن، يتطلب جهداً، وشجاعة،
ومعاناة، وتضحية، أما اليوم فقد صار التشرد سلوكاً مجانياً تافهاً حقيراً ..
وأحياناً لا يستدعي حتى الرحيل والمغادرة، يكفي المرء أن يتنكر لذاكرته،
ويتناسى روح المغامرة ، ويجحد هويته ويعتنق بانبهار تعاليم / البارابول/ الدش،
فينسلخ عن جلده..
اليوم ..ما أكثر المشردين بلا هوية ، في اعالي الجزائر، وشوارع غزة
وأريحة.. وأزقة المغرب وتونس.. مااكثر ضحايا النسيان / المستورد/ وما أكثر
الذين يقتلون.. ويقتلون نتيجة للأخطاء النسيانية بسبب تشابه الحروف بين
الأسماء.. وبسبب تشابك الأشكال واختلاط المفاهيم، وانتشار ظاهرة التعدد في
الأذواق السقيمة ..
اليوم.. تجاوزت أمراض النسيان مرحلة الشفهية.. إلى مراحل الحفر،
والهدم ، والتدمير..
التشرد اليوم اصبح داخل الوطن الأم، والوطن أصبح مزكوماً بالأكياس
المتعفنة، والأم أرملة، وكل الذين يسيرون على أقدامهم كالأيتام، مهددون بالتبني
من طرف العم : سوبرمان : ليجعل منهم في المستقبل القريب ، مواطنين صالحين،
لتأهيل كوكب المريخ .!؟
دمشق 31/8/1995
لعنة " الدير "!
كم أتمنى أن أنسى نسياني لأستريح .. ولكن يبدو أن الجرح أعمق من أن
يستوعب جرحاً أخر فيه ..!
إنها أكبر من مأساة أن يتمزق هذا القلب (الوحدوي) إلى أشطار ...
شرق .. وشرق.. وغرب، وغرب...
ولا أدري كيف يكون النبض إذن ..؟!
ربما _ من حسن الحظ- أن مساري كان دائماً مستطيلاً في معابره، بلا
شمال أو جنوب... ولو كان مربعاً ، لكانت ماساتي أكبر من أكبر ..!
المغرب العربي والمشرق العربي، هما جسدان من جسم واحد ، وقد يبدوان
للعين المجردة ، أنهما يدوران في فلك واحد .. لكن من خلال النظرة المجهرية
المدققة، يظهر أن كل واحد منهما أخذ يلف حول محور خاص- وقد جرى كل ذلك ، بسبب
هذا القلب المشطور ..! فهل يأتي يوم يلتئم فيه البطينان ..؟!
إنني أبحث عن سبب أختياري المجيء إلى دمشق، دون غيرها من العواصم
العربية ..؟ ولقد أرهق ذاكرتي المريضة، الصديق محمود .. بهذا السؤال ..
ربما هو حدس تفتق عن إرهاصات دفينة جعلني أحس بقرب معجزة، ستحدث حول
ضفاف بردى يحققها قائد عبقري وجئت هنا كي اشاهد المعجزة عندما يلتئم القلب
الكبير .. وتندمل الكلوم .
وربما لكي أطمئن تاكدي، من أن لغة " البدو هي أيضاً _ في محافل
التقنيات _ بليغة ، وقادرة ، ورائدة وإن إطلاق كلمة ( البدو) من بعضهم هو أدعاء
ملغوم.! وافتراء عرقي حاقد ...
وربما لكي أحصر يأسي ، وأخنقه وهو في المهد - وأبرهن لأشباح التشاؤم
التي تهافتت أمامي ، أنه ما زال في ديار العرب من يذكرنا بعمر، وعلي، وخالد..
ببيانه وبنائه، يبدع الهيبة والاستقرار، ويزرع البسمة والأمان، ويجني غلال
الازهار.
الأمير عبد القادر بن محي الدين ، جاهد مدة سبع عشرة سنة بالسيف،
والبندقية والقلم.. وعندما ضاقت حوله الدوائر ، وخانه ذوو القربى، اختار دمشق،
ومثله فعل مئات الآلاف من الأحرار... الأنصار ..
لماذا أختار الأمير دمشق بالذات، وهي أبعد العواصم العربية _
تقريباً- عن عاصمته ..؟
-يبدو أن سورية والجزائر- كانتا في الأزل بقعة جغرافية واحدة،
بترابها وشبابها، باخلاقها وارزاقها، بطباعها وصراعها.. فحملها الله بيديه
الكريمتين ساعة توزيع الحياة، وتوظيف الكائنات- على هذا الكوكب العامر- ثم وضع
ما باركته يمناه في المشرق وماباركته يسراه في المغرب، وقال لهما .عز وجل _
كونا شوقا واحداً يتأجج بين قطرين .. دمشق .. الجزائر
وإلاّ .. ما معنى حنين الأمير ..ووجود ما يقرب من سبعمائة ألف مواطن
سوري، من جذور جزائرية هم حالياً يتحركون بكرامة وسعادة وكبرياء .. من رأس
العين إلى درعا ..؟
كان الأمير يبحث عن الحرية، وقد وجدها في جنبه الأيمن .. سورية.
وربما ما حدث للأمير ، وانصاره ..
هو ماحدث لي بالضبط، مع فارق في مهام الزمن، وفي نوع الحرية التي
كنت أبحث عنها طيلة ثلاثين سنة..؟
لقد كان الأمير يبحث عن حرية الوطن .. بينما كنت أبحث عن وطن
الحرية، لذلك كان عظيماً خالداً، وصرت أنا متسكعاً شارداً.. مع أننا وجدنا
ضالتنا، في مكان واحد.. هو دمشق ..
-لماذا أخترتها ..؟
ربما لأنني فيها، كنت قد أكتشفت ذاتي .. وتعرفت على مسارب جذوري،
الضاربة في أعماق التاريخ المجيد..
وربما لأنني بين ربوعها أخذت أول درس في المنطق ، وعلوم النفس،
والقيمة الأخلاقية، وعلم الجمال..!
وربما لأنني، فوق مروجها الزكية الندية، زرعت- لأول مرة. وردة للحب،
وعندما نمت وازهرت، غادرتها بغتة، وكتبت قصيدة شجية، من ( ربيعي الجريح) !
وفي سورية.. ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، كنت لأول مرة ، أقود مظاهرة،
وأعزف على / الكمان / وأذيع .. واكتب في الصحف .. وآكل الكوسا باللبن، واعلم،
والعب الشطرنج وامتطي/ ترامواي/ السكة نحو حي الميدان، وادير قرص الهاتف، وأشرب
وأطلق الرصاص في العرس ، واشارك في رحلات الجامعة ، وامسياتها الشعرية، وأترأس
منظمة للطلاب، وأتدرب على استعمال الرشاش، وأقود دورية، وأشتري ورقة/ يانصيب /
خاسرة، وأدخل السجن، وأخطب ، وأنسج طاقية بسنارة واحدة، وأطرز عليها صورة العلم
الجزائري بألوانه الثلاثة.. ثم تضيع مني تلك الطاقية، دون أن أضعها فوق راسي .
ولو مرة واحدة ..!؟
ربما... وربما لأن ذكرياتي قبل ثلاثين سنة لم تزل كما هي .. ساخنة
منتعشة.. واضحة جلية بكل تفاصيلها حتى لكأنني أعيش أحداثها الآن !.
إنني أستطيع أن أطلق على كل صورة منها، كلمة (لا تنسى ). أما بعد
ذلك فجل ذكرياتي قد طالها النسيان ..وفي ذلك خسارة لا تعوض، وعمر من المواقف ،
ضاع وتلاشى بلا أثر أو إحساس مني .. أو من الآخرين الذين هم نحن ..؟!
ليلة ( لا تنسى ) مرت بي عندما كنت معلماً في مدينة الحسكة ..
كنت عندما تتجمع لديَّ بقايا راتبي، لثلاثة أو أربعة أشهر، اضعها في
جيب البنطلون، واتجه مباشرة بالحافلة نحو دمشق ، فيستقبلني الأصدقاء، وطلاب
المغرب العربي كما يستقبل الأثرياء الكرماء، وخلال أسبوع من الغيث أكون قد نظفت
جيوبي من درن المادة، وأعود سعيداً إلى الجزيرة، وأنا لاأملك سوى أجرة الحافلة
، وطيب الذكريات .
مرة.. كنت عائداً إلى مقر عملي ..فدفعت كالعادة أجرة الحافلة من
دمشق إلى الحسكة، ولم يبق في حوزتي أي قرش ..!
انطلقنا صباحاً .. وقبل الغروب، وصلنا محطة الحافلات في مدينة دير
الزور .. وإذا بالسائق يعلمنا بأن محول السرعة في حافلته قد تعطل، وأننا
مجبرون على قضاء الليلة كلها في المحطة . لمن أراد _ حتى يتم إصلاح العطب،
وسنواصل السفر غداً .. إن شاء الله ..!
تعالت بعض الاحتجاجات . ثم استسلم الجميع للأمر الواقع .. وهنا بدأت
حكايتي ..
كنت ارتدي بدلة أنيقة مع ربطة عنق،( نسيت الألوان ).. وأحمل محفظة
منتفخة، تضم بيجامتي، ولكن من يراها في يدي ، يتخيل أنني محام ثري، يحمل قضايا
دسمة ,..!
اشتقت إلى شرب كأس شاي، ومنعتني كرامتي أن اتسوله من صاحب المقهى ،
بل امتنعت حتى عن الجلوس فوق أحد المقاعد . خشية من أن يواجهني الجرسون بعرض
خدماته، وأرده دون حياء ... إنه حينئذ سيتهمني بالشح ، وهي صفة أمقتها ..
وعندما غابت الشمس قمتُ على غير هدى - وتلوت فاتحة الرحلة ..
وبخطى ثابتة، اقتحمت شوارع المدينة، وكنت أوهم كل من يراني أنني
أقصد مكاناً معيناً ومعلوماً، حتى لا أثير أي شك بأنني متشرد، مفلس أجهل مسارب
المدينة، ولا أملك غير أنفي.. وساقي المتسارعتين، ومخلفات عائلية من عقدة
الحشمة .
قبل انتصاف الليل ، كنت أحياناً أصادف شخصاً ما، في زقاق ما ، يتسلل
باستعجال وحذر نحو مقصده، فيرمقني بنظرة إعجاب وغبطة .. كنت أتصوره يقول في
نفسه: لا ريب أن هذا الرجل الثري المحظوظ قد وصل الآن من السفر، وهو في طريقه
نحو منزل أحد الأغنياء.. إن الطيور على أمثالها تقع..!
كنت أرمق المارة القلائل بنظرة فيها اعتزاز وكبرياء مع تظاهر بقرب
الوصول ...! وبسمة طيفية توحي بسعادتي، فيحيونني بأدب . وأرد بإشارة خفيفة،
وأنا أحسدهم، لأنهم يعلمون أين هم ذاهبون..؟
لو كنت في مكان آخر، زمن أنهيار الذاكرة لجردت من ثيابي، بسبب
محفظتي وربطة العنق ، ولأشبعت ضرباً، ولرميت بين الموت والحياة، خلف أي رصيف
..!؟ وبعد منتصف الليل، كان صدى قدمي، فوق أزقة المدينة الهادئة المقفرة، هو
الصوت الوحيد الذي يردد أن هناك إنساناً وحيداً يمشي.!
لم أشعر بالتعب أو بالجوع أو العطش ، ولكنني كنت منزعجاً من طقطقات
وقع حذائي على الأرض .. لم أكن أدرك من قبل أنه يصدر ذلك الضجيج الكريه ...!
لقد دنس حرمة السكينة الخاشعة، ولم يكن باستطاعتي أن أسير حافياً،
إن ذلك سيفسد مظهري .. وإلا كنت فعلت فللمدينة اسم محفوف بالقداسة .
حوالي الساعة الثالثة صباحاً، وجدت نفسي خارج العمران ..فتراجعت مع
قليل من الذعر، وتوغلت داخل أزقة، كنت أحس بأنني أطول من قامات أسوارها ..
كنت أفكر في النائمين .. أليس بينهم أحد يراني الآن في حلمه ،
فيغادر فراشه راكضاً، ويقدم لي كأساً من الشاي ..؟
مجموعة كبيرة من سكان دير الزور، هم من أعز أصدقائي .. ولكن لم تكن
معي عناوينهم ، واستحيت أن أسأل عنهم .. هكذا .. بلا إخطار ، مع احتمالات الليل
..!
ومشيت .. حتى طلع الفجر علي .. ثم أشرقت الشمس ..
وأحسست بالأرهاق .. فأنطفأت فوق مقعد الحافلة .
وعندما حكيت قصتي هذه ، لأصدقاء من الدير ، ابتسموا .. ولعنوني بأسم
كل صديق لي في مدينتهم البريئة: الدير ..!
دمشق 20/11/1995
|