أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: نجاة حالو

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

•مهندسة جيولوجية في مؤسسة الإسكان العسكرية فرع حمص.

•خريجة جامعة دمشق عام 1983.

•حصلت على منحة تدريبية من يوغسلافيا في مدينة زاغرب عام 1985.

•عملت مديرة لمشاريع المواد الأولية لمعامل القرميد والسيراميك في القطر.

•أعمل حالياً رئيسة لدائرة الكلفة والتخطيط ورئيسة لدائرة التصفية للمشاريع في الفرع الصناعي بحمص.

•أهوى كتابة أجناس أدبية مختلفة.

•حصلت على الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة لاتحاد الكتاب العرب فرع حمص لعام 2003.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

الصديقان

 صانع الأعاجيب

الماس العجيب

سر الحياة 

الزلزال

فأر في البيت

أجيال وتتكرر اللعبة

عرس الأرض

 

 

سر الحياة

 

 

أصبح النوم المطلب الأكثر إلحاحاً لندى.. تطلبه فلا تجده..

وكلَّما ازدادت حاجتها إليه.. ازداد هرباً منها.. حتى أضحت خيالاً ضامراً. وبدأ توتر والدتها يتدرج إلى خوف حقيقي وهي تراقب انهيار صحة ابنتها وإصرارها على محاربة الطعام الذي بات همَّاً يومياً.

كانت تدرك بقلب الأم أن هذه الحالة التي وصلت إليها ابنتها لم تعد تحتمل السكوت.. إنها تقدر حزنها على جدتها التي انتقلت إلى الدار الآخرة منذ أكثر من شهر.. لكنها ترى أنه زاد عن الحد فقد حسبت في بادئ الأمر أن حزن ندى حالة عارضة.. تزول تلقائياً مع الأيام.. فكل هذا العمر الذي عاشته خلصت منه بحكمة جدتها هي الأخرى "الزمن كفيل بكل المشاعر" لكن ما بالها الأيام تطوي بعضها بعضاً وحزن ابنتها لا ينقص..؟؟.. وكأنه طفل غالٍ تحرص ندى على تنشئته وتكبيره.. القلق أصبح زاد الأم..

والحيرة عنوانها.. ماذا تفعل..؟؟ كيف يمكن أن تخرج ابنتها من اعتصامها.. ومن كآبتها.. قبل أن تصل إلى الانهيار العصبي..؟؟.

ما قالته لرياض ابنها الأصغر لم يجدِ نفعاً معها.. لقد اقتنع الصغير بأن جدته في رحلة إلى السماء.. وسنلتقي جميعاً بها بعد أن ننهي أعمالنا.. فكل ما تقوله الأم للصغير يصدقه باستسلام.. وليس الأمر بهذه السهولة بالنسبة لندى..

قالت لها يوماً.. يا بنتي الموت خاتمة الأشياء كلها.. ونحن نؤمن بعقيدتنا أن البعث حقيقة.. وأننا سنلتقي بمن نحب في السماء.. إن اجتزنا امتحان الحياة بنجاح..

لكن ندى استمرت تحدق بعينيها.. صامتة.. وبلا حركة.. ليس في عينيها سوى تلك النظرة التي تدل على الذهول والبلاهة.. حالها منذ اليوم الأول الذي رافقت فيه جدتها إلى مثواها الأخير..

حاول الأهل يومها تجنيبها هذا الموقف.. لكن أحداً لم ينجح حتى أنها انزلقت من بين الجميع ووقفت على مقربة من الحفرة تراقب الجدة وهي ترقد فيها.. وتراقب أباها الباكي وهو يهيل التراب عليها.. ورجال العائلة وهم يسوون سطح القبر ويغلقونه..

كل هذا نجحت برؤيته بصمت ثقيل.. وبعينين محروقة جافة.. لكنها لم تنجح في إسكات صوت عقلها.. الصارخ.. الرافض..

كان السؤال قد مات على شفتيها.. حتى حسب الجميع أنّها لاذت بالوعي واستكانت لمنطق الحياة.. لكن الحقيقة كانت شيئاً آخر..

فما إن وصلت إلى فراشها.. حتى غدا شوكاً يخزها.. لم تغسل الدموع عينيها كما غسلت أحزان أفراد الأسرة..!‍!

حاولت أن تجيب نفسها عن الأسئلة المحيرة التي أخذ عقلها يطلقها.. كانت أسئلة تتجاوز حدود عمرها.. ومعرفتها..

أخذت صورة الجدة الضاحكة دوماً.. والصامتة وهي في حفرتها تتداخلان في رأسها تداخلاً مضطرباً..

تارة تراها وهي تقف حاجزاً بينها وبين والديها لتحميها من عقاب مفروض وتارة تراها جثة هامدة ممددة في حفرة رطبة. التراب أرضها وجدرانها وسماؤها.. فتثقلها الحيرة.. وترهقها المقارنة بشكل هستيري.. خطر لها أن تتسلل خلسة وتأخذ معها مصباح بطارية تضعه في قبر الجدة لأنها تكره العتمة بشكل رهيب.. لكنها قدرت أن المصباح لن يعمل في هذه الحفرة الرطبة الخانقة..

خطر لها أن تذهب إلى حفار القبور وتطلب منه فتح نافذة صغيرة أسفل القبر.. حتى تبقى جدتها على اتصال مع العالم الخارجي فالجدة تحب الناس وتكره العزلة.. لكنها خشيت أن يطردها وينعتها بالجنون. يا الله.. كيف ستستطيع هذه الكائنة الوديعة.. الضاجة بالحياة أن تستكين لظلمة القبر ووحشة الوحدة..

عقلها الصغير.. لا يستطيع الإجابة عن سؤال كبير كهذا..!! يدرك الأبوان أن الصراع في رأس ابنتهما قد يقودها إلى الهاوية..

ويحاران فيما يفعلانه.. إنها لا تستجيب لأي مؤثر.. مهما كان قوياً.. استعانا بالأهل.. استعانا بالأصدقاء.. قال الطبيب: "إنها على وشك الانهيار.. حاولا إخراجها من عزلتها بأيَ ثمن".

كانا يفتعلان نقاشات حامية فيما بينهما على مسمع منها كلها تدور حول فكرة الحياة والموت.. والهدف من حياة الإنسان..

والحقيقة إنهما وكأي إنسان آخر.. كانا يجهلان الكثير.. حتى أن الصمت والنظرات المتسائلة كانا ينهيان أغلب نقاشاتهما.. استعانا بضرب الأمثلة.. عن الأشجار.. والطيور.. والحيوانات.. وكل هذا لم يحرك ساكناً بابنتهما.

وردت إلى ذهن الأم بعض الآيات القرآنية.. فردّدتها يوماً بصوت عالٍ وهي تريد لندى أن تسمع:"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور"..

وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون...

وقبل أن تبدأ حوارها مع الأب حول الآيات الكريمة ارتفع صوت ندى.. نادباً: خلقنا للعبادة أم للدود يأكلنا ولوحشة الوحدة تفتتنا؟ وقبل أن ينبري أحد للإجابة أخذت تردد بهستيريا واضحة من طلب منه.. من أراد..؟ لماذا؟ لماذَا؟..

اندفعت الأم نحوها تريد تهدئتها.. لكن الأب أشار لها بيده لتتوقف. لجمت خوفها واضطرابها.. وأخذت تراقب ابنتها على حين قال الأب: دعيها تفرغ شحنة حزنها بثورة الغضب هذه فقد ترتاح بعدها.. وتعود إلى حالتها الطبيعية..

لكن بدلاً من الهدوء الذي يلي العاصفة.. كان ما حدث شيئاً آخر أخذت ندى تضرب صدرها بكلتا يديها وتترنح برأسها وهي تقول: لا أريد الموت.. لا أريد أن أدفن في حفرة متطاولة صغيرة.. لا أريد أن يأكلني الدود.. الحياة ظالمة.. أنتم قساة.. هذا الأمر شنيع.. لا أريد.. لا أريده.. اقترب الأب منها بهدوء.. وشدها إلى صدره وقد بدأت قوتها تتلاشى.. وهي أقرب إلى الوقوع أرضاً.

قال: وهو يغرس بصره بعينيها.. هذا رائع يا ابنتي.. رفضك للموت يعني أنك تريدين الحياة.. ومن يريد الحياة يجب أن يأكل ويشرب ويحياها.. سحبت جسدها الضئيل بتمرد..

قالت صارخة: لا.. لا أريد الحياة.. حاول الأب الاستنجاد بالأم التي جمعت نفسها وقالت: لا مجال للهرب من الاثنين معاً.. الحياة والموت ضدان لا يجتمعا عليك باختيار أحدهما..

باستسلام ضعيف قالت: أكره الموت.. أكرهه.. لا أريده. مسحت الأم رأس ابنتها بحنان بالغ.. قالت وهي تضم وجهها بكلتا يديها.. حسناً يا صغيرتي.. الأحياء جميعاً يكرهون الموت ويريدون الحياة لذلك ترينهم يعملون على أن يحيوها.. يأكلون.. يشربون.. يتزاورون... يتزاوجون.. كل ما يفعله الكائن الحي هو نتيجة حبه للحياة وكرهه للموت.

تابع الأب وقد بدأ يشعر أن ابنته تعود إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً يا بنتي يجب أن تعلمي أن الموت هو ابن الحياة كما هي ابنته..

لولا الموت لما كانت الحياة نظرت إليه بحيرة.. لاقتها حيرة الأم.. سألت: كيف..؟

بدا للأبوين أن أي شرح قد يزيد الأمر سوءاً وأن الأب تورط بجملة لا يعرفان كيف يفسرانها..

إنهما بهذا العمر.. ولا زالت الحياة لهما لغزاً يصعب تفسيره..

قفزت إلى ذهن الأب فكرة حلوة.. قال بحماسة: ما رأيك برحلة قريبة.. أريك فيها كيف تنبثق الحياة من الموت؟ تلقى نظرات الأم المتسائلة.. فابتسم وهو يتابع.. في مزرعة عمي حيث تتوافر أشجار التوت الرائعة.. تقوم بعض النسوة بتربية دود القز. سترين على أرض الواقع.. دليل ما قلت.

في الصباح.. حمل الأبوان ندى.. وأدخلاها السيارة رغم ممانعتها. كان الأوان.. أواخر فصل الربيع.. والهواء لا زال رطباً.. عليلاً في المزرعة التي لا يجهل صاحبها حالة ندى صحبها إلى حيث يجلس رجل مسنّ أمام وعاء كبير فيه ماء يغلي فوق موقد مشتعل.. وبيده عصا خشنة.. يحرك بها الماء. في الماء المغلي كانت شرانق دودة القز تتعلق خيوطاً ناعمة على العصا الخشبية.. نظرت ندى بصمت حزين.. وانبرى العم للشرح.. إنك لا تجهلين شكل دودة القز يا ندى.. أجابت بصوت ضعيف: رأيتها أكثر من مرة.. فوق شجرة التوت. قال بحماسة: وأنت تعرفين أيضاً أنها بعد عشرين يوماً من ولادتها تبدأ تصنع الشرنقة حول نفسها قالت: أذكر مرة أني شاهدت العاملات يحملن أوراق التوت ويقطعنها قطعاً صغيرة لتكون طعاماً لها..

قال: رائع أنت طالبة لا تنسي شيئاً.. إننا نربي دودة القز بأعداد كبيرة في غرف خشبية صغيرة ونضع لها طعامها المكون من ورق التوت حصراً.. حتى تكبر وتبدأ تصنع الشرنقة.. عندها نكف عن إطعامها ونبدأ ننتظر.

وما إن تنهي الدودة سجن نفسها في شرنقتها.. حتى نُسرع إلى استخلاص خيوط الحرير بالطريقة التي ترينها أمام عينيك الآن..

نظرت ندى بتساؤل.. وما دخل انبثاق الحياة من الموت في هذا يا أبي.

قال الأب: تعرفين الآن أن دودة القز رغم حبها للحياة ونهمها للأكل هي من تصنع كفنها بنفسها..

لا شك في أنك تعلمين أيضاً أن الإسراع في إلقائها بالماء الساخن هو سبقاً للزمن حتى لا تثقب شرنقتها وتصبح فراشة تطير..

إن كفنها.. أو قبرها بالأحرى ما هو إلا فترة قصيرة يتم تحويلها في داخله.. من دودة بطيئة الحركة لا عمل لها سوى أكل أوراق التوت بنهم إلى فراشة طائرة تحلق في الفضاء الرحب.. وبعد أن كان مسكنها طاقة خشبية صغيرة أو على أحسن الأحوال شجرة توت ملتصقة عليها.. أصبح فضاءً لا تحده حدود..

أترين كم هي ذكية هذه الدودة التي تحيك قبرها لتنبعث منه نحو الضوء والحرية المطلقة هكذا هي الروح المسجونة في جسد.. إن عملت صالحاً..

صرخت ندى: لكنكم تخنقونها بالماء.. قبل أن تتحرر.. لتصنعوا منها خيوطاً تافهة..

تدخل العم: الحرير ليس خيوطاً تافهة يا ابنتي.. إنه من أغلى أنواع الخيوط على الإطلاق.

رددت بحزن.. أعلم.. أعلم.. أن الإنسان كائن جشع.. يتطفل على حياة الكائنات لمصلحته..

ضحك العم بصوت مرتفع: ما ترينه أنت تطفلاً وجشعاً يا صغيرتي نراه نحن وسيلة لكسب العيش حتى تستمر حياتنا التي نحرص عليها "بكرامة" وهذا مطلب مشروع للإنسان على ما أعتقد أم أني مخطئ؟؟ لم تجب.. أخذت الأفكار تتزاحم برأسها وهي تحاول تجميع الصور المتناقضة: غرفة جدتها –التي كانت أكبر غرفة في المنزل- مع هذا كانت تردد: افتحوا الأبواب والنوافذ.. لا تدعونا نختنق. القبر العاتم الذي يحوي جثتها.. دودة القز الزاحفة على ورقة توت.. النعش الذي تحيكه لتنطلق منه فراشة نحو النور..

جدتها وهي تثقب القبر وتنطلق فراشة هي الأخرى.. الإنسان المتطفل الذي يقتل مشروع الفراشة ليحصل على خيوط يحيك بها ثياباً.. هذا القاتل.. هو نفسه من يبحث عن وسيلة للعيش تضمن استمرار حياته وحياة أسرته..

تُرى لو أدركت هذه الدودة أنها ستصبح خيوطاً وقماشاً هل كانت دخلت قبرها طواعية..؟؟

من يدري..؟ ربما كانت تدرك وهي تفعل ذلك عن رضى لتصنع من نهاية حياتها شيئاً مفيداً.

كما الشجرة التي تعطي طوال حياتها وفي النهاية تصبح أبواباً ونوافذ أو حطباً للتدفئة.. والوقود..

إنها النهاية الواحدة لكل ما على الأرض.. لكل دور يجب أن يؤديه مهما تكررت المراحل.. كانت الصور تتضارب وتتصارع في الرأس الصغير مما جعل حاملته تقع مغشياً عليها..

لكنها عندما استفاقت كانت تشعر بشيء من الهدوء حتى أنها طلبت بنفسها الطعام..

وكان في الطعام الطازج الذي حُضّر في مزرعة العم عسلٌ من صنع نحلة أرادته غذاءً لملكتها.. وبيضاً من دجاجة أرادته أن يكون صوصاً تحتضنه.. وحليباً من غنمة كانت تضن به غذاءً لوليدها.. أكلت ندى راضية.. وبدت أكثر هدوءً واستسلاماً. إنها الحياة التي بدأت تدرك شيئاً من أسرارها. 

 

 

الماس العجيب

 

في أرض باقر الخاوية حيث الأراضي كلها بركانية نشطة كان الناس يخشون الاقتراب منها خوفاً من ثورة البراكين الدائمة. غير أنه ثمة منزل وحيد متواضع تم إعماره على الطرف الجنوبي للنهر المنحدر أسفل الصخور البركانية المنصهرة.

كان يشغله شاب باحث في علوم الأرض والأحياء وبرفقته أمه وأخته الشابة الجميلة.. التي شكلت عائقاً لا بأس به أثناء طرحه فكرة الانتقال إلى تلك المنطقة..

 

فقد كانت من النوع الذي لا يثير انتباهه غير توافه الأمور وقشور المادة لكن الأم أقنعتها خوفاً من ترك معيل الأسرة وحيداً وسط مفاجآت الطبيعة ومخاطرها فأذعنت مرغمة وحزينة على ترك حياة المدينة والأصدقاء.. لا حباً بالصداقة ولا حسرة على ما تقدمه من غنىً للنفس والروح.. بل لأنها فقدت متعة المباهاة بالجمال على أقرانها وأترابها. وذات يوم ضبابي خرج الشاب كعادته في الصباح الباكر مستطلعاً وباحثاً.. اقترب من منطقة اللابات( ) الساخنة بحذر وأخذ يحدق إليها.. خطر لـه أن يمدّ إحدى قدميه ليلامسها.. ولكنه بحكنة الدارس أخذ حجراً وقذفه أولاً ولشد ما كانت دهشته عظيمة.. حيث تشكلت دوائر حول الحجر وانطلقت أبخرة وغازات تدل على الغليان ثم غاص الحجر ضمن تلك الدوائر دون أن يترك أثراً على السطح..

رمى عصام حجراً ثانياً وثالثاً.. وأخذ يراقب.. كانت النتيجة نفسها في أي مكان يصل إليه الحجر.. تتشكل دوائر كالتي يصنعها أثناء قذفه في المياه الساكنة ومن ثم تغلي الأرض وتنطلق أبخرة وبعدها يغوص الحجر إلى أسفل.

حمد عصام الله لأن حبَّ الاستطلاع عنده لم يدفعه إلى المغامرة ووضع قدمه على اللابات.. وإلا كان مصيره.. مصير الحجر المختفي. أخذ يحدق إلى ما حولـه برويّة والفجر ما زال يرسل خيوطه المضيئة إلى المنطقة، فجأة سمع صوتاً هادراً جعله يرتجف بعض الشيء.. ويقبع في مكانه ساكناً منتظراً.. حتى لمح حيواناً هائلاً يشبه التنين الضخم إلا أن ذيله كان أطول ورأسه بقرنين صغيرين..

أخذ يراقب الحيوان بحذر ودهشة.. إذ كيف يستطيع هذا الحيوان الضخم السير فوق الطف البركاني على حين لم يثبت الحجر الصغير سوى ثوانٍ قليلة.. كيف لم يحترق أو ينصهر؟

تابع النظر بدقة.. كان هذا الحيوان يتألم تألم الأنثى أثناء الوضع إنه أنثى حيوان إذاً.. وهي تضع وليدها فوق هذه الصخور الهشة اللاهبة وما أن انتهت عملية الولادة وما رافقها من آلام وصرخات هذا الكائن الغريب حتى شاهد عصام.. الوليد.. كان كائناً صغير الحجم بالقياس إلى أمه.. أشبه بالسلحفاة وضعتها الأم فوق اللابة الحارة.. وانصرفت..

أراد عصام الاقتراب والإمساك بها.. لكنه تذكر مصير الحجر.. فتراجع بخوف والدهشة لا تزال تأخذه إلى معاقلها..

كان مصير الوليد.. نفس مصير الحجر الذي رمى به سابقاً.. سرعان ما فارت اللابة.. وشكلت دوائر مترافقة مع أبخرة وغازات غاص على أثرها الوليد الأشبه بالسلحفاة إلى حيث لا يعلم.

كيف ابتلع الطف البركاني الوليد..؟ ولم يبتلع أمه ذات الحجم الأكبر..؟ ما سر هذا الكائن العجيب..؟

كان عصام يحدث نفسه بصوت مسموع: أعرف أن كل الكائنات الحية مهما كانت عظيمة أو دونية.. تبحث عن استمراريتها في أولادها.. لذا تقوم بالتكاثر في الأماكن الأكثر أماناً حفظاً لسلامتهم.

فما بال هذا الكائن اللغز.. يضع وليده في أكثر الأماكن خطورة حيث تبتلعه الحمم البركانية..

إنه لشيء مثير للدهشة..! ما فائدة التكاثر لـه إذاً..؟ لعمري هذا شيء مخالف لقانون الطبيعة في حرص أحيائها على استمرار نسلهم. كانت هذه الأسئلة المحيرة والأفكار المضطربة رفيقة عصام في عودته إلى منزله فبدا كأنه غير راغب بالعودة وأخذ يسير بطرق ملتوية..

كان يردد: ليتني استطعت ملامسة هذا الكائن الوليد ولو لحظة.. ليتني أستطيع أن أعرف شيئاً واحداً عنه..

وصل في سيره المضطرب إلى الطرف الآخر للنهر الذي يربض منزله على ضفته الثانية.

أخذ يضرب المياه الساخنة بطرف قدمه.. وإذ بها تتعثر بشيء ما.. انحنى على الأرض.. أزاح الرمال بيديه..

يا الله.. إنه الوليد نفسه الذي ابتلعته الحمم البركانية قبل قليل..!! أو لعله شيء شبيه به.. التقطه بيديه بحنو ورقّة.. إنه كائن كثير الشبه بالسلحفاة..

شعر وكأنه عثر على كنز لا يقدَّر بثمن.. حمله.. وأخذ يسير مسرعاً باتجاه البيت.. لقد تدخل القدر.. ومنحه فرصة نادرة لإجراء بحث جديد.. لم يسبقه إليه أحد.

كان بين اللحظة والأخرى يقف ويرفع الحيوان الصغير باتجاه وجهه متفرساً.. إنه كائن وديع.. يخفي رأسه في الصندوق المشابه لصندوق السلحفاة.. لكن عندما يظهره مستطلعاً، كان يشبه إلى حد كبير رأس ذلك الحيوان الذي رآه منذ قليل متلبساً بحالة ولادة.. مما زاد في يقينه أنه الكائن نفسه الذي تمت ولادته فوق اللابة الساخنة.

بدا الأمر الآن أكثر إقناعاً للعقل من قبل.. إنها الحالة الطبيعية للتكاثر.. الأم تضعه في المنطقة التي يعتقد الرائي إنها خطرة.. ليتم تشكيله في مرحلة ثانية ويخرج من منطقة أكثر أماناً..

لكن كيف؟ ولماذا؟ وما هو السر؟ أسئلة محيرة كثيرة بحاجة إلى إجابة وعصام يعتقد في نفسه القدرة على البحث والدراسة والصبر لحل هذا اللغز الغريب.

صرخت دلال أخت عصام عندما رأته يحمل الحيوان الصغيرة بيديه: "كان ناقص حيوانات قذرة في البيت..! ألا تدري أن السلحفاة قذرة وتحتاج لعناية فائقة بها..".

ابتسم عصام: إنها ليست سلحفاة.. إنها شبيهة بها كثيراً.. لكنها ليست سلحفاة.. فلا هذا هو شكل رأسها، ولا هذه هي طريقة ولادتها.

لم يأبه عصام لاستنكارها وضع الحيوان ريثما يتم تأمين طعامه، ليتمكن من استمرار الحياة حتى يقوم بإجراء تجارب عليه وحل لغزه الصعب.. في تلك الأثناء دخلت الأم مسرعة غرفة ابنها استجابة لطلب ابنتها فتعثرت بالحيوان المندهش وكادت تقع أرضاً..

حمل عصام السلحفاة الغريبة وقال يمازح والدته: سأضربها كرمى لك لأنها كادت توقعك.. وبدأ يضرب السلحفاة ضرباً ناعماً على ظهرها.. ولشد ما كانت دهشة الجميع بالغة.

عندما خرجت من جوف السلحفاة قطعة حجر لامعة.. أحدث سقوطها على الأرض صوتاً أشبه بصوت الزجاج عند ارتطامه بالأرض..!

التقط عصام الحجر بدهشة وتفحصه بدقة.. ثم صرخ فرحاً.. إنه ماس حقيقي.. ماس بحاجة إلى قليل من الصقل لتبرز قيمته الرائعة..

قالت أمه: أعرف أن الماس يستخرج من الأرض وأنه تبلور قسري للبقايا المتفحمة في باطن الأرض خلال مئات السنين.. ولم أسمع يوماً أن الماس يمكن أن يخرج من فم أو مؤخرة أي كائن حي.. قد يكون لؤلؤاً.. أو شيئاً شبيهاً به..

عاود عصام تفحص الحجر، ثم قال بيقين: إنه ماس.. أنا أعرفه جيداً.

ثم إنه ضرب السلحفاة المدهشة بلطف مرة ثانية على ظهرها.. وإذ بحبة أخرى من الماس تسقط منها..

كرر الضرب ثالثة.. ورابعة.. وفي كل مرة كانت تخرج حبة مماثلة للأولى في القساوة واللمعان..

رقصت الأم.. وارتفع صوت الأخت بالتهليل..: "لقد ودعنا الفقر إلى الأبد.. سنعود إلى مدينتنا.. ونبتاع فيلاً كبيرة.. وسيارة ومصيف على البحر.. وعلى الجبال.. و وَ.."

قاطعها عصام: مهلاً هل جننتِ؟ من أين كل هذا..؟

قالت: "يا غشيم من هذه الماسات..".

قال عصام بسخرية: أربع ماسات صغيرة ستحقق كل أحلام دلال دفعة واحدة..؟

قالت دلال بيقين: "يا أحمق.. حيوانك هذا منجم ماس" ثم مدت يدها لتخطف السلحفاة.. على حين ابتعد بها عصام وهو يتوعد: "إيَّاكِ يا دلال ضربها ثانية.. ألا ترين كم تتألم رغم نعومة ضرباتي..".

دعيها اليوم لنبحث عما نطعمها إيّاه وفي الغد نرى ما يمكن فعله.. ابتلعت دلال ريقها بغضب.. وهي تقول: أخي يعشق الفقر.

وانشغل عصام مع والدته في إحضار قشور الخيار والخس.. طعام السلحفاة المعتاد لكنها رغبت عنه مما زاد في حيرتهما..

كانت تنظر إلى عصام بتوسل.. وكأنها ترجو أن لا يعاود الضرب.

في اليوم التالي.. ترك عصام السلحفاة مع ماسَّاتها في غرفته وانطلق باكراً إلى الشاطئ الذي وجدها عليه.. يبحث في طيّاته.. عما يمكن أن يكون طعاماً تقبل تناوله وهو يحدث نفسه: "إن الخالق الذي استخلصها من وسط الحمم الحارة إلى الشاطئ الساكن.. لا بد أن يكون قد أتى بها إلى المكان الذي تستطيع العيش فيه وتأمين طعامها".

هكذا تستقيم الأمور في منطق أكثر. تسللت الأم إلى غرفة ابنها بعد مغادرته لها وأخذت تتفحص الحيوان الشبيه بالسلحفاة.. أعادت عرض المياه والخس.. والخيار عليه.. دون فائدة.. أمسكت به وأخذت تضربه بنعومة كما فعل ولدها..

لم يسقط منه شيء.. عاودت الكرة بعنف أكثر.. فندّت عنه صرخة ألم مما جعل الأم ترتعش وتعيده إلى الأرض..

إنها امرأة حكيمة.. علمتها الحياة.. الكثير.. أيقنت في داخلها أن ما تهبه السلحفاة لابنها.. لن تهبه لآخر أبداً.. لأنه الكائن الأول الذي التقطها بعد الولادة.. وحملها بعطف.. وحب.

تركت الحيوان على الأرض بعد أن أغلقت الباب وعادت إلى مطبخها وهي تدعو لابنها بالتوفيق في أبحاثه..

حين استيقظت دلال.. أسرعت إلى غرفة أخيها.. التقطت الماسات الأربع ووضعتها في جيبها.. ثم حملت السلحفاة بقسوة وأخذت تضربها كما فعل أخوها..

وعندما لم تخرج السلحفاة شيئاً.. ثارت ثائرتها.. واشتد غضبها فأكثرت من الضرب والركل.. وكلما صدر عن السلحفاة ما يشبه الأنين.. ازداد غضب دلال.. وازدادت قسوتها على الحيوان الصغير.. حتى أنها أحضرت عصا غليظة وضربتها على ظهرها.. ولدهشة دلال أخرجت السلحفاة من باطنها مواد كريهة الرائحة جداً لا تحتمل.. ثم همدت حركتها..

رمتها أرضاً.. وخرجت هاربة من الغرفة.. والاصفرار يعلو وجهها.

حضرت الأم مسرعة على صوت الجلبة وانبعاث الرائحة الكريهة من غرفة ابنها.. وفهمت للتوِّ ما حصل.. التفتت إلى ابنتها بتأنيب تعرف أن أوانه قد فات.

وقالت معاتبة: ضيعت ثمرة تعب أخيك..

كان الندم الذي لا يجدي نفعاً قد أخذ من نفس دلال الكثير وهي قابعة في غرفتها.. حزينة تنتظر عودة عصام..

في الوقت الذي كان فيه عصام قرب النهر.. باحثاً عن شيء ما يخدمه في إطعام السلحفاة..

فجأة سمع صرخة عظيمة.. كان الصوت نفسه الذي سمعه بالأمس عندما شاهد الحيوان الضخم في حالة ولادة..

ربض ساكناً خلف إحدى الشجيرات يراقب ما يكون من أمر هذا الكائن، كانت هذه الأنثى تبحث على أطراف الشاطئ.. عن شيء مفقود.. وتضرب بذيلها الطويل.. يمنة ويسرة.. والنار تقفز من عينيها الغاضبتين..

لا بد أنها تبحث عن وليدها.. من رنة صوتها الضخم.. الحزين.. عرف عصام أن الوليد لا يمكن أن يعيش دون أمه..

عرف ذلك من القطرات التي تشبه اللبن الخاثر التي كانت تتساقط من صدر الأم.. ومن القطرات النارية التي تسقط إثره من عينيها الحزينتين..

يا لروعة الخلق.. إنها أم تبكي على إرضاع طفلها.. يبدو أنها تضعه على اللابة ليتشكل شيء ما.. في داخله.. وتنتظر خروجه من حيث تعلم على طرف النهر لتلتقطه وترضعه كأي أم..

 يا لها من أم ثكلى ويا لتعاسة ذاك الوليد بعيداً عمن تضمن استمرار حياته.. لكن لا.. سأعود إلى المنزل وأعيده إلى الشاطئ.. حيث ينعم بالقرب من أمه.. لن أحرمه أجمل شعور في الوجود..

لقد أعطاني الكثير كوني حملته بحب ولطف.. ولا بد أن يعطيني أكثر إن أحضرته ليحيا الحياة الطبيعية في حضن الأم المسكينة.. كان هذا ما يحدث عصام به نفسه، وهو يسرع الخطا باتجاه منزلـه وما إن وصل إلى البيت حتى اندفع باتجاه والدته يشرح لها ما توصل إليه بشأن الوليد وأمه.. دون أن ينتبه إلى الحزن الرابض في عيني والدته وإلى شدة انبعاث الرائحة الكريهة من غرفته. لكن أمه.. ما إن سمعت بتحليل ابنها وخوفه على الأم من الحزن على وليدها حتى انفلتت بالبكاء.. عندها فقط اشتمَّ عصام الرائحة الكريهة..

أسرع إلى غرفته وقد حدّثه قلبه بالخوف.. وما إن شاهد السلحفاة مسجاة على ظهرها ولم يجد أثراً للماسات حتى خمّن ما حدث..

قال بصوت يشبه العويل: متى تتخلص أختي من جشعها وغبائها؟ وأخذ يمسح دمعة انفلتت رغماً عنه.

حمل السلحفاة أو شبيهتها الميتة.. ووضعها على الشاطئ.. وجلس قريباً منها والحزن يأكل قلبه..

في اليوم التالي عاد الحيوان الضخم يبحث بصوت حزين وما إن شاهد الوليد ميتاً حتى أخذ يطلق حمماً ملتهبة (أحرقت الأشجار النامية على ضفة النهر) ويصدر أصواتاً مرعبة.. وحزينة بآن واحد..

ابتعد عصام هلعاً: وعاد مسرعاً إلى منزله.

قالت الأم مواسية: كل شيء في الدنيا قدر مرسوم.. لا تجزع كثيراً..

قال بهمس باكٍ: المصيبة أن الأغبياء والطمّاعين هم مَنْ يصنعون قدرنا.

أجابت محفزّة: حاول العودة ثانية إلى المكان الذي وجدتها تضع وليدها فيه قد يسعفك الحظ بحيوان ثانٍ.. تكون أقدر على التعامل معه في المرة القادمة..

بيأس قال: تعرفين أن زمن التكاثر عند بعض الكائنات يكون طويلاً وبعضها يتوالد لمرة واحدة..

وأنتِ تعرفين أيضاً أن بعض الثديات إن حزنت على ولدها الأول لا تنجب بعده أبداً..

تمتمت الأم بحزن: يحدث هذا أحياناً عند أنثى البشر..

أردف عصام: لِمَ لا تكون هذه حالها هي أيضاً.. إنني لم أرَ طوال حياتي أو أسمع عن حيوان شبيه.. وهذا يعني ندرة نوعها وبالتالي يعني صعوبة أو ندرة تكاثرها..

لم يكن عصام بعد هذا الحوار بحاجة إلى تأكيد أمه.. إنه باحث.. والباحث الجيد لا يعرف اليأس.. إنه يعرف أن البحث بحد ذاته علم تفوق قيمته قيمة الماس الذي فقده..

تذكر عندها الماسات الأربع.. سأل أخته.. التي قفزت ناسية حزنها.. ورددت: أجل الماس.. الماس.. إنه ثروة.. إن وعدتني بالعودة إلى المدينة.. أحضرت الماسات. رفض عصام إعطاء الوعد.. فعمله وأبحاثه أهم وأثمن.

واستنفدت الأم أعصابها وهي تحاول ترويض عناد ابنتها.

أخيراً أعطت وعداً مشروطاً.. بعودتها إلى الدراسة والعلم مثل أخيها..

عندها أخرجت دلال الماسات.

ولشد ما كانت دهشتها عظيمة.. كانت الماسات كامدة.. لا بريق لها. نظر الأخ بألم وسأل: أين كانت هذه الماسات يا دلال؟

قالت بدهشة: في غرفتي.. تحت وسادتي!..

صرخ بغضب: أيتها الغبية إنها من النوع الذي يحتاج للضوء أثناء اكتمال التبلور ليستمر تألقه وبريقه إلى الأبد.

اندفعت بما يشبه البكاء: ماذا يعني هذا.. هل فقدت الماسات قيمتها لأني خبأتها فوراً.. ورمت بها أرضاً.

ردّ بصبر العالم وحلمه.. وهو يلتقط الماسات: تبقى قيمتها بالذكرى وبتلقينك درساً يجب أن لا تنسيه ما حييت.. أشاحت دلال بوجهها باكية وهي تردد: لن أتدخل فيما لا أفقه بعد الآن.. لن أتسرع..

قاطعتها الأم: المهم أن تتخلصي من الجشع..

ومنذ ذاك اليوم ودلال تقضي يومها بين اللابات المنصهرة.. ترمي حجراً وتسرع إلى الطرف الثاني للنهر علها تلتقط شيئاً ما..

فلا تجد غير أباريق مكسورة وبقايا أواني قديمة وحصى متنوعة الألوان تقذف بها المياه إلى الشاطئ..

والأعوام تمر.. دون أن يعود ذلك الحيوان الغريب للظهور ثانية.

17/9/2003

 

 

صانع الأعاجيب

 

 

في قرية صغيرة هادئة يحب أهلها بعضهم بعضاً ظهر فجأة رجل سيرك غريب الشكل والأطوار.

كان شكله من الأعلى يشبه كافة المهرجين بلباسهم الأحمر المرقع وبوجوههم المطلية بالمساحيق البيضاء، وأنوفهم الحمراء الكبيرة، وأفواههم الضاحكة الواسعة.

لكن قسمه الأسفل كان مختلفاً تماماً عن أي كائن عادي.. كان أشبه بحصادة.

سرواله الأحمر يشبه سراويل المهرجين.. لكنه بثمانية أقدام بدلاً من قدمي البشر الاثنتين، ومن بين كل قدم تمتد آلة تشبه المقصلة يجرها بسهولة ويسر. مما أثار استغراب الجميع.

لم يسبق ظهوره أية دعاية أو إعلان عن مهرجان.. أو سيرك.. ولم يحمل يوماً بوقا لينادي به الناس!!.

اجتمع أطفال القرية حولـه أولاً. يدفعهم الفضول لاستكشاف هذا الكائن الغريب.. لكن أحداً منهم لم يجرؤ على الاقتراب منه.

وهو لم يوزع وعوداً بعروض ممتعة.

كان فقط يبتسم في وجه الأطفال بلطف ويقول بهدوء من يعطيني يده.. أعطه مبلغاً كبيراً من المال ثمناً لها.

فيبتعد الأطفال خائفين مذعورين..

سمع حكماء القرية وكبار السن فيها بهذا المهرج الغريب وتدارسوا أمره..

قال كبيرهم: لا بد أنه كائن فضائي من كوكب آخر.. يجب إبلاغ الشرطة.

وقال المختار: قد يكون لصاً متنكراً يريد سرقة خيرات القرية، فلنراقبه جيداً قبل إبلاغ المخفر.

وقال وجهاء القرية: إنه معتوه.. من يمكن أن يستغني عن يده مقابل كنوز الأرض..؟ وابتدأ الجميع بالمراقبة الحذرة.

لم يمضِ يومان حتى شاهد أهل القرية. أبا عبدو صاحب البقالية الوحيدة في القرية.. بيد مقطوعة. وعندما سألوه.. ابتسم بترفع وقال غداً سأشتري سيارة وخادماً فتصبح لي ثلاثة أيد بدلاً من اليد الواحدة.

وبعد يوم واحد شاهدوا أبا سليم سمسار الأراضي بيد واحدة.

سألوه باستنكار فأجاب بتعالٍ: غداً سأشتري الأراضي الخصبة. وستكون عندي مائة يد بدلاً من اليد الواحدة.

مساء اليوم ذاته.. كان أبو جلال مساعد رئيس المخفر يمشي بيد واحدة. قال بلا سؤال.. سأرتاح من أوامر رئيس المخفر سأستقيل وأشتري دكاناً وأرضاً.

كانت المقاصل البارزة من بين أقدام المهرج تمتلئ يوماً بعد يوم برائحة الدم وآثاره.

ولا أحد يعرف ما الذي يفعله المهرج الغريب بهذه الأيدي. ولا بأي شيء يمكن أن تفيده.

لم يمضِ شهر واحد إلا وأغلب سكان القرية قد فقدوا أيديهم. ولا أحد يقبل أن يبيع أرضه أو دكانه لأن كلاً منهم أصبح يملك المال بالقدر ذاته.. عمت الفوضى القرية الهادئة وحل التعالي محل الطيبة والمحبة في التعامل بين الأهالي..

لم ينج من ذلك سوى مختار القرية، وبعض كبار السن الذين اجتمعوا للتدارس ولمحاولة إيجاد حل للمشكلة فأبو عبدو السمان لم يستطع أن يشتري خادماً فلا أحد يريد أن يخدم وهو يملك المال...

وأبو سليم سمسار الأراضي لم يجد من يبيعه أرضاً لأن الجميع يريدون الأراضي ويريدون الخدم فيها.

أبو جلال بعد أن قدم استقالته لم يجد من يساعده في شراء ما يريد ولم يستطع العودة إلى وظيفته وليس بمقدوره العمل عند أحد.. كارثة حقيقية حلت بالقرية الهادئة.

قال المختار: الحل يجب أن يكون عند هذا الغريب الذي سمحنا لـه بقطع أيدينا ذهبوا إليه والشرر يتطاير من أعينهم.. قالوا بحدة وحزم: سممت حياتنا.. أنت من يجب أن يجد الحل!

قال بهدوء: أنا لم أجبر أحداً.

قالوا: صدقت ولكنك أغويت الجميع ومن يغوِ يكن شيطاناً..؟

ضحك ضحكة مجلجلة.. وقال عندي الحل: اجمعوا المال الذي أخذتموه مني وأعيدوه لي وأنا أعيد لكم أيديكم.. وتعود قريتكم إلى حالها السابق من الهدوء والمحبة.

قالوا: أتقسم على أن تعيد الحال إلى سابق عهدها.

قال: أقسم أن أعيد الأيدي.. وأنتم وظيفتكم أن تعيدوا الأمور كما كانت.

تدارس الحكماء الأمر ثم قالوا: سنجبر الجميع على إعادة المال ومن يرفض نطرده خارج القرية. وبعد أخذ ورد ونقاشات حامية وخلافات حادة..

أجبر الحكماء الأهالي على إعادة المال بكامله إذ لا أحد استطاع الاستفادة منه.. جمعوا الأموال وذهبوا إلى المهرج..

قال بثقة: أمهلتكم شهراً لإعادة الأموال.. أمهلوني يوماً واحداً لأعيد الأيدي.

قال المختار: ومن يضمن لنا عدم كذبك وهربك بالأموال.

ضحك المهرج وقال: لست من البشر لأكذب مثلهم..

ومع نظرات الاستغراب التي تبادلها الوفد لم يملكوا إلا الموافقة فليس أما مهم من خيار..

قال بثقة: غداً في مثل هذا الموعد والمكان لنا لقاء.

في اليوم الثاني اجتمع أهل القرية جميعاً في الموعد والمكان المحددين ليروا صانع الأعاجيب كيف يعيد الأيدي إلى أصحابها.

كانت الأيدي المقطوعة مكومة بعضها فوق بعض.

وفوق الكومة لافتة كبيرة كتب عليها لم أكذب.. وفيت بالوعد.. لكن لكثرة الأيدي واجهتني مشكلة صغيرة.. لم أعرف كل يد لمن تعود..!

بإمكانكم حل هذه المشكلة بأنفسكم.. وداعاً..؟

اختفى الغريب مثلما ظهر فجأة.. واختفت معه أمواله وكانت كومة الأيدي ملقاة على الأرض أشبه بالهياكل العظمية. ملأت الدموع أعين أهل القرية.. من يستطيع أن يصلح ما انكسر؟ من يستطيع صنع المعجزات؟ لم يعد أحد يملك المال الذي يجعله متعالياً على جاره..

لم يعد أحد قادراً على الخدمة في أرضه أو أرض غيره، فمن يستطيع العمل بيد واحدة.. إنها غالباً ما تكون عاجزة دون مساعدة أختها.. الثانية التي خلقها الله لهذا الغرض.

سورية – حمص – 3/6/2003.

 

 

الصديقان

 

 

وقع الثعلب يوماً في فخ منصوب.. لم يكن منتبهاً لوجوده..

فأخذ يصرخ ويستغيث.. ولحسن حظه توافق وقوعه مع مرور ذئب في اللحظة ذاتها..

الثعلب: أرجوك يا أخي.. أنقذني.

ضحك الذئب: هل سمعت يوماً عن ذئب يمد يد العون لثعلب؟

الثعلب: كلنا أبناء الغابة.. وأولاد الغابة أخوه ولا شك.

الذئب: قانون الغابة لا يحتمل الأخوة.. إنه قانون القوة والتفرد بها.

الثعلب: يا أخي.. أنا في محنة.. وأقسم لك بكل مقدساتي إني سأرد صنيعك بأفضل منه.. وسأكون نعم الأخ والصديق.

صمت الذئب فترة متفرّساً في الثعلب وفجأة قال وهو يضحك:

-أعجبتني كلمة صديق هذه..! هل تقسم على أن تكون صديقاً وفيَّاً مؤثراً لصديقك على نفسك؟

-أقسم باللحم الطري الذي أكلت.. وبالدماء القانية التي شربت على أن أكون نِعمَ الصديق.. وستراني وقت المحنة والضيق.

عالج الذئب الفخ بأنيابه ومخالبه وساعد الثعلب على الخروج من محنته ثم مدَّ لـه يده القوية لتصافح يد الثعلب الجريحة..

كانت ضعيفة وقد شعر الذئب بذلك فضحك في سرّه سعيداً.

سارا متجاورين.. وفي كل خطوة كانا يرسمان قوانين الصداقة وأصولها.

الثعلب: الصديقان متساويان في الحقوق والواجبات..

-ونحن سنكون كذلك.

الثعلب: والصديق لا يخفي سرّاً عن صديقه ويؤثره على نفسه.

-لن أخفي سرّاً وستكون عندي قبل نفسي.

الثعلب: صديقي مَنْ يقاسمني همومي.. ويرمي بالعداوة مَنْ رماني.

-وأنا سأحمل همومك عنك.. وسأكون مخلبك الضارب في قلب أعداؤك.

-اتفقنا..؟

-اتفقنا على بركة الغابة وقوانينها..!

وبعد أن صاغا قانون اتفاقهما.. افترقا.. متصافحين.. متعاهدين، وقد فرح الذئب مرة ثانية عندما لامس يد الثعلب الجريحة..

كان ملك الغابة في ذلك الوقت يعاني من مرض نفسي فقد هجرته أنثاه وهو يحاول جمع شتات نفسه والسيطرة على الغابة من جديد.. لكنه وحتى لا يشعر أحد بضعفه كان يعمل على إرضاء الجميع ليضمن انتخابهم لـه في دورة تشريعية ثانية..

ذهب الذئب إليه.. قال: يا ملك الغابة! لقد أنقذت الثعلب من فخ كان الموت فيه محتماً وقد طلب صداقتي مقابل ذلك..

ضحك الأسد: ذئب وثعلب صديقان..

يا للعجب.. مستحيل.. لكن حسناً وليرحم الله أبناء الغابة..

ذهب الثعلب إليه وقال: أنقذت الذئب من محنة نفسية حقيقية كان يعاني من الإحباط والملل.. لذا عرضت عليه صداقتي متنازلاً عن كل الفروق التي بيننا.. فما رأيك..؟

قال الأسد بوقار: هنيئاً لك تواضعك أيُّها الثعلب (وبسره قال: كان الله بعون الغابة) ثم وبصوت مرفوع: ليبارك الله صداقتكما النادرة ولتكن مثالاً يحتذى به في مملكتي.

وفي اليوم التالي قال الثعلب: هيه أيها الصديق الحبيب لديَّ خطة رائعة.. لقد تعاهدنا على الصداقة.. ونحن قوة ضاربة معاً..

ما رأيك بتنفيذ خططي..؟

الذئب: وأنا لديَّ خطة.. ما رأيك أن نبدأ بأرض المزارع المتاخمة لحدود غابتنا.. إنه رجل بسيط ويملك ماشية تكفينا طعام شهر كامل وليس عنده سوى بضعة كلاب.

أعتقد أنك تقدر عليها..

الثعلب: شهر.؟ لا.. لا. أريد أن أنفذ خطتي أولاً وأنتقم من الصياد الذي وضع الفخ لي..

الذئب: لكنك لا تعرفه..!

الثعلب: بلى.. إنه الصيّاد الذي يقطن في الطرف الشرقي من الغابة.

الذئب: وما الذي يجعلك متأكداً من ذلك؟

الثعلب: إحساسي.. ثم أن ما يملكه من حيوانات مصطادة تقتل جوعنا أشهراً طويلة لا شهراً واحداً كما تفكر أنت.

-يا صديقي. إن الصياد هذا يملك بندقية حديثة قد تقضي علينا معاً.. فلِمَ المغامرة؟

-أنت صديق جبان.. صداقتك لا تروق لي أنسيت أنك وعدت أن ترمي بالعداوة من رماني.. ثم إن ما سنغنمه منه يستحق المغامرة ولا تنسَ أننا سنقتسمه معاً أنا وأنت فقط.

-بالتساوي؟

-أجل ومن قال غير هذا..؟

-قد لا يروق لملك الغابة هذا الفعل..

-يا غبي ألم تدرك بعد أن ملكنا بحاجة إلى رضانا أكثر من حاجتنا لموافقته.. ثم إنّما نحن مَنْ عيناه ونحن مَنْ يقيله وقت اللزوم.

-الذئب: (وهو يلعق لسانه حالماً باللحم الطري) في هذا أنت محق لكن ما رأيك في أن نستعين في هجمتنا هذه بمَنْ نراه مناسباً من حيوانات الغابة ليساهم معنا في هذه الحفلة الانتقامية..؟

الثعلب: فكرة معقولة وإنْ كنت لا أحبذها كثيراً، فمن سيشارك لا بد أنْ يقاسم..؟!

الذئب: لا لن نعطي أحداً شيئاً فنحن أصحاب الفكرة.. ونحن المخططون لها..

الثعلب: تقصد أنْ تقول إني أنا صاحب الفكرة..؟ الذئب (وهو يزدرد لعابه) فكرتك فكرتي.. ألسنا صديقين؟

الثعلب: (وهو يتحسس يده المريضة): معك حق في هذه. أجل صدقت نحن صديقان لا شبيه لنا..!!

رفضت قوى التحالف الحيوانية.. المساهمة في الهجمة على الصياد وممتلكاته خوفاً من المغامرة..

لكن بعض الجرذان والحشرات الطفيلية قالت: إن تم وضع خطة ذكية تضمن سلامتنا.. خضنا المعركة معكم..

ولم يجرؤ أحد على الحديث عن الغنائم لأنهم مجرد حيوانات صغيرة..

الذئب: هل تعتقد أنهم لن يقاسموننا؟

الثعلب: أيها الأحمق يكفيهم فخراً أننا وافقنا على مشاركتهم معنا. إنهم سيدخلون التاريخ من أوسع أبوابه فقد حالفهم الحظ وكانوا حلفاء لأكبر قوى ضاربة في الغابة..

الذئب: معك حق.. ولا أعتقد أنه يضرنا أن نترك لهم روث الحيوانات وبقاياها..!

وضع الثعلب خطة ذكية وطلب من الجميع التقيد بها.. استطاع الصياد الفرار بعد الهجوم المحكم.. لكن كل ما اصطاده طوال عمره بقي غنيمة سهلة للمهاجمين.

بعد فترة قصيرة قال الثعلب: كان خطة ناجحة وذكية أليس كذلك؟

الذئب: قل كانت مخاطرة فقدت بسببها ساقي..

الثعلب: أنت مَنْ اندفع بسرعة عندما اشتم رائحة اللحم الطري..

الذئب: وأنت مَنْ تراجع إلى الخلف متعللاً بإصابة يدك..

ثم ولنفسه: "كنت أحسب هذا الأمر لي.. وإذ به عليّ".

الثعلب: المهم كلانا غنم طعاماً يكفيه شهوراً طويلة.

الذئب: لكن الصياد هرب وسيعود يوماً للانتقام..

الثعلب: ليهرب إنه لم يعد يشغلني الآن. ما يشغلني هو ذاك الصياد الذي يسكن الجزء الشمالي من الغابة فهو من وضع الفخ لي..

الذئب مستنكراً: ألم تقل إن مَنْ يسكن الشرق هو مَنْ وضع الفخ.

الثعلب: "متنحنحاً" في الحقيقة.. في الواقع.. لم أكن متأكداً..

الذئب: وأنت الآن متأكد..؟

-بالطبع فهذا الذي يقطن في الشمال يملك فخاخاً وشباكاً عديدة، لقد عاينت الأمر بنفسي..

الذئب: والأول..؟

-الأول لا يملك سوى البندقية وبضع طلقات نارية..

الذئب متهكماً: بندقية قديمة أطاحت بساقي..؟؟ وكادت تقضي عليَّ لولا تلك الحشرات التي سارعت لإنقاذي وملاحقته.

الثعلب: دعك من هذا الآن.. ودعنا نخطط لمهاجمة الثاني..

الذئب: يا صديقي دعنا نرتحْ قليلاً من جرّاء ما جرى.. ثم لدينا طعام يكفينا شهوراً طويلة.

الثعلب: يا ظل الصديق.. أنت لست طموحاً ولا مقداماً.. دائماً ترضى بالفتات ولا تواكب صديقك.

أيها الأبله.. إن تركنا الوقت يمضي.. سبقنا واتحد الصيادان ضدنا وهذا سيربك مجتمع الغابة الدولي وسيقوده للانهيار..

الذئب: لك ما تريد يا صديقي.. لكن هذه المرة بسبب قدمي.. ستكون أنت في المقدمة.

الثعلب: ونسيت يدي.؟. الذئب ضاحكاً: عرج الثعلب من يده..

الثعلب: هيّا.. ولا تكن قاسياً.. سنهجم معاً..

الذئب: دعنا نستعن بأقوياء الغابة..

الثعلب: ألا زلت تأمل خيراً من هؤلاء العجّز يا صديقي.. نحن معاً لن نحتجْ أحداً..

الذئب (مغلوباً على أمره): سينكرني أخوتي الذئاب لمصادقتك ولتفردي بالجري خلفك..!

في الهجوم الثاني.. اندفع الاثنان معاً. تغطّيهما الحشرات الطفيفة..

كانت معركة ضارية.. لكنها حسمت بسرعة لصالح قوى التحالف الشريرة..

وما إن جلسا لاقتسام الغنائم.. حتى أخذ الثعلب الجزء الأكبر ولم يترك للذئب سوى القليل.

عوى الذئب: احتجاجاً..

فصرخ الثعلب: أنا مَنْ خطط.. وأنا مَنْ اندفع.. أنت كنت متردداً والآخرون كل منهم رافض.. وفي الغنيمة تريد التساوي..؟

الذئب: لكنا صديقان وتعاهدنا على التساوي.

الثعلب: أجل هذا كان قبل أن نغنم هذه الغنائم كلها.

الذئب: يا صديقي.. لولا مساعدتي كنت الآن في عداد الأموات.

الثعلب: ولولا خططي لبقيت أنت تركض خلف الطرائد ولبقيت ظلاً للملك.. أنا مَنْ دفع بك إلى المقدمة..

الذئب: مقدمة كان من الممكن أن تكون روحي ثمناً لها..

الثعلب: لقد حميت ظهرك.. وكنت لك نعم العون. ثم إن ما أخذته من غنائم في المرة الماضية وما جنيته من شهرة بسببي.. تعادل كل ما آخذه أنا الآن..

الذئب: وعهدنا.

الثعلب (ضاحكاً): وهل سمعت يوماً عن ثعلب يرعى عهداً، عهدنا تعرفه أكثر مني.. قانون الغابة نحن مَنْ وضعناه معاً، عشيرتنا.. وعشيرتكم.. لكنك زيّنت لنفسك فوق استحقاقها عندما لامست ضعف يدي المجروحة. أوَ تظنني لم أفطن لذلك؟.

يدي الآن يا صديقي معافاة.. فهل ترغب في العراك لتعرف قانوني الجديد..

الذئب: ((وهو يعوي بصوت يشبه البكاء)):

لا.. لا أريد التجربة.. أنا منهك من حربين طاحنتين ولا أعرف إن تركتك ماذا سيحل بي من عشيرتي وأهلي لأني صادقت ثعلباً؟ ولا أعرف إن غامرت معك ثالثة إلى أين ستقودني يا صديقي..؟

 

 

الزلزال

 

 

انتهينا.. هتف أحمد بفرح ظاهر، وهو ينظر بفخر واعتزاز إلى العمل المتقن الذي أنجزه الفتية بصبرهم وتعاونهم ودأبهم..

قالت سعاد (ذات الأعوام العشرة) وهي تزغرد: إنها فكرتي.. إنها فكرتي.. نظر عصام بطرف عينيه زاجراً: سعاد لا تكوني مغرورة الفكرة الجيدة تحتاج إلى تشجيع وإلى تنفيذ متقن.. لتكون واقعاً جيّداً، الكل عمل بصبر ونشاط.. إنها هديتنا جميعاً لأهلنا..

نظرت رانية بوجوم شديد إلى البيوت الخشبية المتلاصقة، وعندما سألها أحمد: ما الأمر لِمَ أنت حزينة يا رانية..؟؟

قالت بحزن شديد: أعتقد أن أهلي لن يقبلوا فكرة الانتقال إلى هذه البيوت.

أحمد: سنقنعهم.. إنها مهمتنا.

رانية "بتصميم": لن يستطيع أحد إقناع والدتي.. إنها تعشق المظاهر.

عصام: سنقول لها.. اعتبريها رحلة مع الكشّافة لاستكشاف الطبيعة وأسرارها..

رانية "بأسف": الاستكشاف الوحيد الذي يثير أمي هو ما تحمله جيوب أبي من نقود.

ضحك الفتية بصخب.

قالت سعاد: سنقنع الجميع بأنها رحلة إلى الجبال لاستنشاق الهواء النظيف.. محددة الوقت حتى تنتهي الأزمة.

رانية "بتأكيد حزين": حتى الرحلة.. ترفض والدتي المشاركة فيها إن لم تقضها في أفخم المقاهي والمنتجعات..

التفَّ الأصدقاء حول رانية (وكانوا تسعة عشر فتىً وفتاة وهي تكمّل العدد عشرين.. كانوا جميعاً من أعمار متقاربة.. أصغرهم في التاسعة وهو سمير الأخ الأصغر لرانية وأكبرهم في السادسة عشرة وهو أحمد الأخ الأكبر لسعاد..).

رددوا بمرح ظاهر.. لا تهتمي.. سنقنعهم.. سنقنعهم.. ومن ثم انطلقوا باتجاه بيوت الأهل لشرح الفكرة وإقناعهم في الطريق قال عصام (الأخ الأوسط لسعاد): ماذا لو لم يقتنع أهل رانية منا.

أجابت نور بتصميم: إن أصرّوا.. فسنحضر رانية معنا.

انتفضت رانية وقالت جازمة: لن أترك أهلي أبداً لأنجو بنفسي..

كانت البيوت الخشبية المتلاصقة تغيب رويداً.. رويداً عن أنظار الفتية لكنها كانت تسكن قلوبهمْ وعقولهمْ..

بيوتٌ صغيرة.. متلاصقة.. جدرانها من خشب صناديق الخضار والفواكه. وأسقفها من القش الخفيف.. مجهزة بمفارش أرضية بالية عليها أغطية قديمة.. وفيها بعض الأواني النحاسية الرخيصة الثمن وبعض الغازات القديمة.. مع بعض الجرار المعدّة للماء.. وبعض أدوات التنظيف. إنها غاية في التواضع.. لكنها تحتوي على المستلزمات الضرورية.. التي استطاع الأولاد استجرارها من بيوت الأهل دون لفت انتباههم نظراً لكونهم كانوا متفقين على العمل السري دون إخبار الأهل فباعتقاد أحمد أن الكبار سيهزؤون من الفكرة وسيضعون العراقيل في طريق تنفيذها..

لقد استغرق العمل ثلاثة أشهر متواصلة.. كانوا يتعللون بالغياب الطويل فيها عن البيوت بأعذار شتىً.. أحياناً يصدقها الأهل.. وأحياناً أخرى يتعرض الأولاد فيها للمتاعب المختلفة.

ذات يوم.. نال التعب من رانية فاستلقت على الأرض قرب أحد البيوت. نهرتها نور.. وقالت محفّزة: هيّا.. لا بد أن ننتهي فقد يحدث الزلزال الآن.. وتبتلعك الأرض في باطنها..

نهضت رانية مرعوبة.. وهي تردد "بعيد الشر.. بعيد الشر" وحتى يخفف عصام من توترها.. قال ممازحاً: هل تعرفون أن القدماء كانوا يعتقدون أن الكرة الأرضية محمولة على قرنيّ ثور كبير.

عندما يتعب أحدهما ينقلها الثور إلى القرن الآخر ليريحه مما يسبب الاهتزاز والكوارث..؟؟

ضحك الجميع.. وقال سمير: أدعو الله أن لا يتعب الثور قبل الانتهاء من عملنا..

يومها سألت نور عصاماً: هل تعرف شيئاً عن سبب حدوث الزلازل والبراكين يا عصام.

عصام: إنها كوارث طبيعية تحدث دورياً.. من صنع الخالق..

انبرى أحمد للشرح مقاطعاً: قرأت يوماً في مجلة علمية موضوعاً يتحدث عن الزلازل والبراكين.

ترك الجميع ما بيدهم من أعمال والتفّوا حول أحمد الذي تابع بحماسة: إن الأرض مؤلفة من طبقات عديدة ونحن نسير على القشرة منها. مثلما تظللنا سبع سماوات الأولى فيها مزينة بالنجوم والقمر. وباطن الأرض مملوء بالسوائل الحارة.

يحدث أحياناً أن تندفع هذه السوائل نتيجة شق أو صدع أو ضغط يمارس من خلال الطبقات الأعلى فيسبب اندفاعها البراكين.

ويحدث أحياناً انزياح لإحدى الطبقات عن الأخرى مما يسبب شقوقاً وانهيارات إن كان الانزياح خفيفاً.. وزلزالاً في الحالات الشديدة..

سألت سعاد "التي كانت تتابع الحديث باهتمام شديد". ولماذا يحدث هذا الانزياح..؟

أجاب أحمد: حسب ما قرأت لهذا أسباب كثيرة مرتبطة بما يحدث فوق سطح الأرض من نشاط.

فمثلاً اقتلاع الأشجار يؤدي إلى انزلاق في التربة وهذا يؤدي إلى شقوق. وما يرميه البشر من نفايات كيميائية تصب في مجاري الأنهار الباطنية تسبب أيضاً تغيرات في بنية باطن الأرض.

الغازات والأبخرة المتصاعدة من الآليات والمصانع أيضاً تؤدي إلى رفع درجة الحرارة وهذا يؤدي إلى انهيارات جليدية.. وإلى تغيرات باطنية تؤدي إلى حدوث كوارث عديدة..

صرخت سعاد وكأنها وجدت حلاً للغز ضائع من زمن:

لماذا يقول عصام إذاً من صنع الخالق..؟؟ إنها من أخطاء البشر.

ضحك أحمد وهو يؤكد: دورة الحياة كلٌ متكامل والتوازن في كل ما عليها هو سبب استمرارها.. أي خلل في هذا التوازن يسبب الكوارث.. جزء من الخلل مسؤول عنه الإنسان وجزء آخر من قوى الطبيعة القاهرة.. ولا يد للإنسان فيه..

كان رأس سعاد الصغير ما زال يعمل عندما نبّه أحمد الجميع:

هيّا إلى العمل يجب تثبيت الأخشاب بالأرض.. حتى لا يسهل اهتزازها أو تهدمها..

ضحك عصام وهو يقول: حتى لو تهدمت.. لن يكسر رؤوسنا الإسمنت المسلح والحديد.. إنه مجرد قش خفيف سيداعب شعرنا. وفي يوم آخر.. ضرب سمير بالمطرقة الحديدية على أحد الأواني النحاسية فأصدر صوتاً قوياً.. ضخمته الرياح التي كانت تضرب الجدران الخشبية التي لم تكن عملية تثبيتها قد انتهت تماماً.. مما أدى إلى انهيارها وإصابة الأولاد برعب شديد.. فما كان من أحمد إلا أن صرخ.. ابتعدوا واحموا رؤوسكم.. صرخت سعاد بجزع: هل هو الزلزال..؟؟

رد أحمد: لا إنه طيش سمير.. المهم انتبهوا كي لا تصيب الأخشاب رؤوسكم..

وعندما أعادوا البناء وتثبيت الجدران قالت سعاد منفعلة: "يا إلهي صوت قوي بعض الشيء.. أرعبنا بمثل هذا الشكل..

ترى ماذا كان شعور سكان المدن المجاورة التي أصابعها الزلزال..؟

قالت نور: كان الله في عون الناجين وليرحم مَنْ مات منهم..

إن المصائب التي ألمت بهم تحطم القلوب.

تابعت سعاد: المناظر المرعبة التي تابعتها على شاشة التلفاز هي التي أوحت لي بفكرة البيوت الخشبية..

عندما شاهدت فرق الإنقاذ تحاول رفع أنقاض البيوت والأثاث من فوق رؤوس المصابين قلت في نفسي: لو كان هؤلاء المساكين في خيم أما كانت خسائرهم أقل..؟

أحمد: لهذا شجعناك على الفكرة.. وقمنا بتنفيذها.. فكل ما أصدرته وسائل الدفاع المدني من تعليمات وكل ما ردده المدرسون في المدارس عن طرائق الحماية والوقاية لم يقنعنا.. على حين أقنعتنا فكرتك.. تنهدت يومها رانية وهي تقول: المهم أن يقتنع أهلنا..؟

كان الطريق إلى بيوت سكان مدينة الأحلام طويلاً.. نظراً لأن الأولاد اختاروا موقعاً بعيداً عن الأبنية والأعمدة الكهربائية وعن الأنظار أيضاً لبناء بيوتهم إذ أرادوا العمل سرّياً.

وعندما وصلوا أخذوا بإقناع أسرهم.. لم يكن الأمر سهلاً لكن الجميع اقتنعوا بضرورة رؤية الإنجاز الذي أصرّ الأولاد على أنه هدية للأهل..

أم سعاد ضمت ابنتها إلى صدرها.. وقالت مزهوة بها: أنت رائعة.

أبوها.. قال: لم أخفيتم الأمر عنا؟.. كنتم ستحتاجون وقتاً أقصر وسنساعد بإنجاز أفضل..

أم نور.. قالت: عمل رائع.. متى أنجزتموه..؟

على حين صرخت أم رانية: ما هذا.. إنها أقنان دجاج..

أبو أحمد قال: إنها بعيدة عن الأعمدة الكهربائية.. هل تتصورون حياة بعيدة عن الكهرباء وما توفره من وسائل تعليم وترفيه.. واتصال..

انبرى أحمد للإيضاح: إن الأمر مؤقت.. ريثما تنتهي الأزمة.

إن الزلزال الذي حدث بالأمس في المدينة المجاورة كان على حدودنا والهزات الارتدادية تستمر زمناً ليس بالطويل سيستقر الأمر بعدها..

قال أبو رانية: قد يحدث أن نعيش دهراً في هذه البيوت السخيفة.. ولا يحدث زلزال.. من يستطيع..؟

أجابت رانية (بحماسة): اعتبروها رحلة كشافة.. وساعدونا في إجراء التجارب والاستطلاع على الطبيعة عن كثب..

زجرتها الأم بغضب: حياة كشافة..؟ أم حياة قطط ودجاج..؟؟ بعد جهد طويل.. استطاع بعض الأبناء إقناع أسرهم.. وكانت غالبية هذه الأسر فقيرة الحال أو متوسطة.. أمّا الأسر الثرية.. فكان من المُحال إقناعها.. فشل الجميع في إقناع والدة رانية.. ووالدها.. وعندما قالت نور بغضب: إن رانية ستعيش معنا.. لأنها تعبت في إنشاء هذه البيوت وكانت من أكثر المتحمسات للفكرة..

ردت الأم: لقد تسلت بما فيه الكفاية.. هناك أعمال أكثر أهمية في انتظارها..

قال الأب: إن كانت تريد قضاء بعض الوقت عند أسرة أبو أحمد فلا مانع عندي.

لكن رانية رفضت بعناد وهي تقول: إما معكم أو لا.. ولم تنفع توسلاتها ولا دموعها في إقناع أهلها بالسكن في هذه البيوت.

سمير الصغير كان أكثر حزماً منها.. قال: سأبقى مع صديقي مهند وأنام مع أسرة نور..

عادت رانية مع أسرتها الثرية إلى الفيلا الأنيقة التي تقطنها والحزن يثقّل صدرها الصغير.. ولم تفلح أية وسيلة من وسائل التسلية المتعددة في أن تعيد ابتسامتها إلى ثغرها..

لم تمضِ فترة وجيزة.. حتى استطاع

سكان البيوت الخشبية استنباط طرائق للتسلية والمرح تجمعهم..

كانت ألعاباً بدائية.. لكنها ممتعة.. ساعدتهم على تحمل ثقل الوقت وثقل تعليقات الأثرياء المزعجة.. وجعلتهم أكثر ارتباطاً بعضهم ببعض وبالأرض وما فيها وما عليها من حيوانات بسيطة ومتنوعة..

في ليلة مقمرة.. قال أبو أحمد: أين كانت غائبة عنا متعة السهر في ضوء القمر وأحاديث السمر مع الأهل والجوار..

أجاب أبو نور: انشغالنا بالحاسوب والتلفاز والهاتف وبالأرقام التي تأكل عمرنا وأيامنا.. غيّب عنا.. حتى إحساسنا بوجودنا..

وقالت أم أحمد: لولا الكارثة التي ألّمت بالجوار ما اكتشفنا متعة العلاقات الاجتماعية الإنسانية ومتعة التعايش مع الطبيعة.. كان الأطفال يتابعون مثل هذه الأحاديث بشعور مفعم بالرضى والفخر وهم متأكدون من أنهم أنجزوا عملاً عظيماً سواء وقع الزلزال.. أم لم يقع. وما كان يزعجهم سوى فكرة غياب صديقتهم رانية التي شاركتهم العمل ولم تشاركهم متعة العيش فيه..

في ليلة حالكة الظلام.. استفاق سكان البيوت الخشبية على ضجيج حركة الحيوانات الأرضية وعلى نباح غير مألوف للكلاب وطنين غريب للنحل..

قالت سعاد بذعر: هذا ما قرأناه عن مؤشرات الهزة الأرضية هيّا بسرعة.. ركض الجميع باتجاه الأهل والأصدقاء قاطنيّ البيوت الإسمنتية لتحذيرهم.. حتى يغادروا مساكنهم.

كان الزمن يركض بسرعة.. والأقدام تعجز عن مسابقته.. حاولت الأصوات العالية أن تسبق الأقدام لتوصل الإنذار إلى الجميع تنبه بعضهم للأمر.. لكن الغالبية.. كانت تغط بنوم هادئ تداعب أحلامها.. وبعضهم الآخر كان مشغولاً بمتابعة القنوات الفضائية والإنترنت وما تجودان به في الساعات الأخيرة من هزيع الليل. فلم تصل أصوات الإنذار إليه.

ثوانٍ وكانت البيوت دكاً مدكوكاً.. والضحايا تتناثر من كل حدب وصوب كانت الخسائر أقل بكثير من خسائر المدينة المجاورة. نتيجة جهد سكان البيوت الخشبية في توصيل الإنذار لأكبر قدر ممكن من البشر.

أخذ سمير وأصدقاؤه يبحثون بين الأنقاض عن أسرته.. لم يجدوا أثراً لرانية أو والدها.. لقد قضيّا تحت الأنقاض.

على حين بقيت والدتها ثلاثة أيام قبل أن يتمكن رجال الإنقاذ من إخراجها مصابة بشلل في العمود الفقري والكسور تملأ جسدها.

هدأ الحدث.. وقف الناجون على أبواب سكان البيوت الخشبية يسألون: ألديكم متسع من المكان لمنكوبيّ الزلزال..؟

كانت أم رانية تقول لأصدقائها: رانية شهيدة الزلزال.

وكان أصدقاؤها يرددون والدموع تملأ قلوبهم وأعينهم دون أن يُسمعوا الأم ودون أن يزيدوا في حزنها: إنها شهيدة الصلف والتكبر..

نور الصلبة، قالت: علينا أن نكف عن البكاء على رانية إنها مستمرة معنا في كل ما شاركت فيه من عمل إنها خالدة بفدائها وحبها لأهلها.. رانية مستمرة كذكرى عطرة للتضحية.. ذكرى تستحق التقدير وتستحق أن تكون مثلاً يُحتذى..

مَنْ يستحق البكاء فعلاً..؟؟ أمها..!!

إن زلزال الأرض انتهى.. لكن متى سينتهي الزلزال الذي سكن رأس أمها.. وهي تشاهدنا كل يوم أمامها.. أحياء ننعم بما أنجزناه..؟؟

24/6/2003

 

 

فأر في البيت

 

 

دخل البيت فأر صغير.. وأخذ يعيث فساداً بأثاث المنزل.

قال الأب وكان رجلاً مسناً متعباً: لا بد من قتله.. قبل أن يخرب البيت كله..

ضحك الأبناء جميعاً.. لقد خرّف أبانا.. فأر يخرّب بيتنا الكبير؟! ونحن موجودون فيه..؟!

قال الأكبر (وكان شاباً قويّ الساعد.. مفتول العضلات.. مهاب الجانب): "بركلة واحدة من طرف حذائي.. أجعله فتاتاً..".

وقال الأوسط (وكان ذا هيبة وحنكة عندما يتكلم): "ركلة القدم قد تسبب آثاراً قذرة على الأرض تتعب أمنا المسنة بعدها..

سأرفعه من ذيله بطرف إصبعي هاتين.. (وأشار للإبهام والوسطى..) وأرميه خارجاً".

قال الأصغر بعامين (وكان مغروراً.. منفاخاً..): "فأر صغير لا يستحق أن ألوث به إصبعاً.. سأدحرجه بطرف المكنسة وأعيده من حيث أتى"..

قال الأصغر (وكان قليل الحيلة.. كثير الكلام.. خائب الأفعال لكنه مدعوم بحب الأم الزائد وبعطف الأب..): "أنا لها.. إياكم.. والاقتراب منه.. إنها فرصتي لأثبت لكم جميعاً.. أني أستطيع فعل شيء ما..".

اختلف الأخوة.. وكانوا كثر.. واحتدم النقاش والأب يستمع بحزن ويهز رأسه بأسى.. ويردد بصوت ضعيف بين الفينة والأخرى:

يا أولاد.. الفأر.. الفأر.. يخرّب البيت..

غاب صوت الأب.. وارتفع صوت الخلاف بين الأخوة..

الأول قال: أنتم ليس لكم كبير.. عندما يتكلم الكبير يجب أن يصغي الجميع.. ونسي أن أباه هو الكبير وليس هو..!!

وقال الأوسط: من غابت حنكته.. بطلت أفعاله..

كلكم تشهدون لي بالذكاء ويجب أن أكون صاحب القول الفصل..!

وقال الصغير: أرأيتم.. حتى صغائر الأمور.. لا تتركوها لي.. وتقولون بعدها لا أصلح لشيء..!

غاب صوت العقل.. وكان الخلاف سيد الموقف بين الأخوة..

كبر الفأر.. وأصبح جرذاً.. وكبر الخلاف..

كانت النقاشات الحامية.. تمتد ساعات طويلة.. يخرج بعدها الأخوة متخاصمين.. كل واحد يطعن أخاه في ظهره.. كم من المرات تخاصم بعضهم.. وكم من المرات تصالح الآخر على حساب خصام أخوته.. وكم من المرات اضطروا مرغمين إلى الاجتماع.

استدعى الجرذ فأرة كبيرة تشاركه البيت.. المليء بالرجال.. أصحاب الأقوال الطنانة.. والأفعال الهزيلة..

فرّخ الجرذ والفأرة جرذاناً وفأرات.. والأخوة لا زالوا يجتمعون ويتناقشون.. ويتخاصمون.

مات الأب.. وماتت الأم.. ولم يعد الأخوة يجتمعون إلا للتذكير بأن البيت امتلأ بالفئران..

قالت زوجة الأخ الكبير (وكانت محبة للمال حتى النهم): لِمَ تتركون البيت هكذا للفئران..؟؟ ثمنه أفضل منه.. فلتبيعوه ولتنتفعوا بثمنه..".

قالت زوجة الأوسط (وكانت ذكية وألعبان): "قد لا يقبل الأخوة ببيع البيت لأنه رمز اجتماع العائلة الوحيد".

قالت زوجة الأصغر (وكانت مشهورة بالحكمة): "أي عائلة هذه بعد موت الأبوين؟.. إنهم لا يجتمعون إلا للشجار والخصام.. اجتماعهم عدمه أفضل منه..!"

اختلفت الزوجات.. لكنهن سرعان ما اتفقن على أن بيع البيت هو الأفضل.. وهو الأهم.. وسرعان ما أقنعن الأخوة..!!

ذهب الجميع إلى صاحب المكتب العقاري للمفاوضة والاتفاق.. وعندما فتح الدلال باب البيت.. راعه ما رآه.. بيت مليء بالفئران.. خرابة لا تصدق..!

دفع ثمناً بخساً.. لم يرضِ أحداً وقال: إنه لا يصلح للعيش.

قال الأوسط (ذو الحنكة والخبرة): "لقد بعنا بيتنا من زمن..".

وعندما فتحت الزوجات أفواهن دهشة.. وقبل أن يسألن لمن..؟ ومن قبض الثمن..؟

قال الأوسط: للفئران.. وبلا ثمن.. بل لقد دفعنا من جيبنا أيضاً.. أخوتنا.. وأحلامنا..

11/5/2003

 

 

أجيال.. وتتكرر اللعبة

 

 

الليل لا يحمل سوى صوت هامس بالكاد يفصح عما يحمل.. إنه حوار أشبه بالبوح أو بعتاب ناعم بين محبيّن.

ألصقت أذنها بثقب الباب.. علها تلتقط شيئاً من الحوار دون أن يشعر بها المتهامسان..

سمعت تنهيدة من رهف.. تبعتها زفرة معبأة من صلاح حاولت الالتصاق بالباب أكثر.. وبحرص أكبر.

إنها امرأة قانون وتعرف عقوبة التنصت القانونية /سجن من شهرين إلى عامين/ ضحكت في سرها.. من لا يتنصت على مَنْ.. في هذا الزمن الأعرج..؟ الدول..؟ الحكومات..؟ الجيران..؟ الأهل..؟

والجميع يطالب بحرية الرأي.. وحماية الحرية الشخصية..؟! تتنصت الدول الكبرى على النامية حفاظاً على الأمن القومي.. وكي لا تنهض النامية من نومها وتزاحمها في مسيرتها المسالمة..!!

وتتنصت الدول النامية على مواطنيها.. حتى لا تفقد قدرتها على النمو..!

ويتنصت الجار على الجار ليشغل فراغاً في داخله.. رغم كثرة الأعمال العقيمة التي يمارسها كلاهما معاً.

ويتنصت الأهل على الأولاد خوفاً عليهم ورغبة في حمايتهم. وهي.. عذرها معها فيما لو ضبطها زوجها أو أحد أولادها متلبسة بالجرم.. إنها تريد أن تقوم بدورها كأم عصرية متحضرة أمام أولادها لكنها لا تستطيع أن تخلع عن جلدتها دور أمها في الخوف والقلق على الأولاد. فهمت من الحوار الذي استطاعت التقاط بعض خيوطه إن ولديها يعدان لعمل شيء ما في السر.

كانت رهف تقول بهمس: هل أزلت الرسائل الأخيرة من على شاشة الحاسوب والخليوي..

سمعت ضحكة صلاح المتخابثة: لا تخافي على أخيكِ المهم أن تخفي أنتِ الديسكات التي اشتريتها..!

بغرور قالت رهف: يعتقدون أننا لا نعرف أنهم يتنصتون علينا وأنهم يدخلون على كل البرامج التي نشاهدها أو ندخل عليها

صلاح: لا أعرف ما الذي يفيدون منه..؟ لو تركونا على حريتنا لوفروا علينا وعليهم الوقت الضائع في لعبة المطاردة هذه.

رهف: يدّعيان العلم والتطور.. مع هذا يريدان أن نكون نسخة عنهما مع أن كل واحد فيهما يلعن حظه أمامنا ألف مرة.. ترتفع ضحكات الاثنين.

صلاح: اخفضي صوتك فالحارس الليلي في دماغ أمك لا ينام بسهولة..

رهف بهمس أكثر: هل أعدت مفاتيح أبيك إلى مكانها..

صلاح: يعتقدان أنهما الأذكى.. يتصور أنه بإخفاء المفاتيح يفوّت عليّ فرصة قيادة السيارة..!!

سمعت الأم صوت طقطقة المفاتيح..

ورنة الفرح في صوت رهف: متى نسختها..؟

صلاح: اليوم أثناء قيلولته..

رهف: المهم أن تعيد السيارة بعد المشوار كما كانت على الشعرة.

صلاح بزهو: يا جبانة.. إننّا نخرج منذ أكثر من شهر.. ولم يفطن أحد لذلك.

رهف بتوتر: أتصور حالة أمك.. والجنّي الذي سيسكنها فيما لو شعرت بخروجنا..

صلاح وهو يستعد للخروج: صليّ كي لا يحصل هذا.. المسكينان أحياناً يثيرون شفقتي..

شعرت الأم بالدوار..

أرادت أن تفتح الباب بسرعة وتضبط ولديها قبل أن يخرجا من البيت ويتعرضا لحادث لا قدّر الله من جرّاء قيادة السيارة ليلاً..

توثبتْ كقطة جريحة.. وضعَتْ يدها على قبضة الباب لكنها توقفت فجأة.. سيكون منظرها سخيفاً وهي تعلن عن تنصّتها. انسحبت إلى غرفتها بسرعة..

تراجعت عقارب الزمن بها إلى ثلاثين عاماً خلت عندما كانت في عمر ابنتها تقريباً وكانت أختها تكبرها بأعوام ثلاثة.. لم يكن عندهم أيامها فيديو (C D) ولا حاسوب.. ولا خليوي ليكتبوا ويرسلوا ما يريدون ثم يزيلوا ما لا يريدون أن يطلع عليه أحد بذكاء عصري..

على الرغم من أنهم كانوا من وسط مثقف ومن المحظوظين في وسطهم، فقد كانت كل مقتنياتهم الترفيهية.. التكميلية تقتصر على مسجلة كاسيت وهاتف أرضي وتلفاز يبث محطة أرضية واحدة وتنهي بثها في الواحدة مساءً.. مع هذا كان أبوها يصرُّ على إرسالهم إلى غرف نومهم في التاسعة والنصف كل ليلة حتى في سهرة نهاية الأسبوع.. ومع كل الحيطة التي يتخذها.. كانت وأختها تنسلان على رؤوس أصابعهما وتعيدان فتح التلفاز بعد نوم الأبوين لمتابعة فيلم السهرة العربيّ..

تذكرت.. كيف وفرت من مصروفها ثمن الموزع الكهربائي الذي كان أبوها يأخذه معه قبل النوم.

وكيف دخلت راقصة لتهمس لأختها: يعتقدان أنهما الأذكى..!! والهاتف.. ضحكت بعمق.. كم لعبتا معاً لعبة نزع الموصل من غرفة الوالدين..

انتزعها من ماضيها.. صوت محرك السيارة.. نظرت إلى الساعة. الواحدة مساءً.. ابتهلت إلى الله بقلق لم تستطع السيطرة عليه (لطفك.. يا رب.. من مفاجآت القدر).

وأخذت أعماقها تردد قولاً لجبران على لسان النبي:

((أنتم الأقواس.. وأولادكم سهام حيّة.. قد رمت بها الحياة عن أقواسكم)).

تذكرت والدتها.. التي تمنت يوماً أن لا يبتعد السهم كثيراً عن قوسها، لكن مشيئة الحياة أرادت أن تتزوج في بلد غير البلد وتنجب وتنشغل بعملها وأولادها.. حتى عن أمها..

وبعد أعوام مئة.. كان الضجيج يغلِّف الليل.. لم يعد هناك سكون ولا هدوء.

وسط الضجيج التقطت (ر 5) واسمها الحركي رهف. شيفرة رسالة من ابنتها (ر 6) [ري ستة] وهي على صحنها الطائر في نزهة مسائية إلى القمر موجهة إلى صديقها (ص 7) [صاد سبعة] على متن مكوكه الطائر في رحلة حول مجموعة الدب الأكبر.. تنصتت (ر 5) لمعرفة ما يدور في رأس ابنتها: من (ر 6) إلى (ص 7).

أمي حاجز بيني وبين ذاتي الطليقة.. تريد أن تكون حياتي صدى لحياتها القديمة.. الرثة.. تصور أنها تخاف عليَّ.. حتى وأنا بين النجوم..

وكان الجواب الملتقط من (ص 7): لا تبتئسي.. تمتعي بوقتك لست أفضل حالاً.. أنا أعد الأيام لأبلغ الثالثة عشرة وأتحرر من قيد المتخلّفَيْن اللذين أنجباني..

شعرت [ر 5] بالغثيان.. أرادت أن ترسل فاكس طائر لابنتها.. أن تقول لها: حبنا لا عجزنا وتخلفنا هو سبب خوفنا وقلقنا عليكم.

أرادت أن تقول.. اهبطي فوراً.. فأنا خائفة لأني أحبك لكنها لم تفعل.. فأمها من قبلها لم تفعل.. وجدتها لم تفعل.. ومن ألف.. ألف مائة جدة إلى الوراء.. لم تفعل.

الحب لا ينتقل بالكلام.. ولعبة المطاردة والقلق. تتكرر على الدوام المهم أن يبقى حنين السهم المنطلق إلى القوس الأصل راسخاً لأن حب القوس للسهم لا شك فيه.. فهو بالرغم من يقينه أنه سينطلق بعيداً لا يستطيع إلا أن يلقنه كل الحب ويخاف عليه من عدم بلوغه الهدف.

28/7/2003 

 

 

عرس الأرض

 

 

الكآبة تجثم على صدرها.. حملاً لا يوازيه ثقل الجبال..

ممنوع التجول.. قرار حكم عليهم به آلاف المرات السابقة.. سخرت أعماقها.. ممنوع التجول للمواطنين العزّل وللأجساد الهزيلة.. مسموح للدبابات المدججة بالحقد والأطماع والأحلام التوراتية..!

أدخلت فراخها الستة إلى المنزل.. وضمتهم بعاطفتها المستنزفة، ألقت على أجسادهم المرتجفة غطاءً خفيفاً.. خمنت أنه سيقيهم من القشعريرة التي أصابتهم.. مع أنها تعرف أنها قشعريرة الخوف والغضب.. ولا تشبه قشعريرة البرد في شيء..!!

وضعت يدها على مفتاح الضوء.. الحمد لله لم يقطعوا الكهرباء هذه المرة، سيقوم التلفاز بتسلية الصغار زمن الحصار بدلاً عنها.. إنها غير قادرة على الكلام.. الأحداث المتعاقبة.. المتشابهة.. سرقت منها قدرتها على فتح فمها اليابس.

فتحت عينيها بدهشة.. بصقت بقرف.. اللعنة.. ألف لعنة.. وحوش متأنسنه كذباً وافتراءً..

لقد دخلوا في بث المحطة الأوغاد.. يريدون إفساد عقول الناشئة.. أغلقت التلفاز وبصقت ثانية وهي تراقب اتساع عيون الأطفال والدهشة التي اعترتهم..

بث أفلام إباحية رخيصة (من على بكرة الصبح! يا فتاح يا عليم..) لمن تشتكي..؟ لمن توصل صرختها المكتومة..؟

الحصار يحيط بالجميع حتى ضمن المنازل.. أبناء اللعنة لا يتركون وسيلة مقززة إلا ويتبعونها..

هل سترحل.. مثل الكثيرات لتبحث عن بقعة على هذه الأرض لا يحوطها هواء فاسد..؟

لقد تمسّك جدها بالأرض منذ يوم النكسة.. ودفع الثمن.. وتمسّك أبوها.. ودفع الثمن.. وتلاه إخوتها الأربعة.. شبّاناً في عمر الورد تابعوا مسلسل تضحية الدم.. وعرس الأرض الذي لم يبدأ بعد.

نظرت إلى الأرض تحتها.. رأتها مغارة كبيرة مفتوحة الفم تصرخ.. هل من مزيد..؟

نظرت حولها.. كان هناك ثمة أشجار زيتون أكلت لحم يديها وعرقها في الغرس والعناية بها..

تقطع بعضها.. واحترق الآخر.. والأرض تحتها لا تكف عن الطلب. سألتها بدموع مكابرة.. ترفض البوح: أما شبعت بعد..؟

جدي.. أبي.. أشقائي.. وزوجي الآن.. أين هو؟.. إنه في الطريق الطويل.. المرسوم للشرفاء..

أسندت رأسها إلى الحائط الذي حمل بصمات الزوج والأشقاء والأطفال الستة.. أغمضت عينيها على دمعة محروقة.. إنه زمن العهر.. العالم كله أصم.. لا يسمع صوت الظلم وصرخة القهر.. في هذه البلاد المقدسة التي يدّعي كل صاحب دين أنها ملكه وحده..

نظرت إلى السماء بخشوع وقهر.. يا رب القدس.. يا حاميها.. ألم يحن الوقت لتضع حداً لكل هذه الصراعات..؟ ألم يحن الوقت لتكن كلمتك هي الفصل.

في عام الفيل.. قلت كلمتك.. وثبّتَ حق العرب بالكعبة.. حرستها.. أليست القدس قدسك أيضاً؟ أليست بيتك المقدس..؟

استغفرت الله العظيم.. ليس هذا زمن المعجزات؟: "لا يُغيِّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

ما الذي يمكن أن تغيره بنفسها.. ولم تغيره..؟!

تعرف يقيناً.. أن المرض ليس بالأشخاص.. ليس فيها.. تعرف قصة القوى العظمى.. وقصة الأحلام الطمّاعة.. وتعرف أكثر قصة مسلسل الخيانة من ضعاف النفوس الذي يغتال مسلسل التضحيات، لكنها كغيرها من الشرفاء متأكدة من أنه لا بد للحياة الكريمة من ثمن تدفعه مع غيرها من سكان هذه الأرض الثكلى.. صرخت جارتها توقظها من أفكارها المتزاحمة:

(جاكِ الشرف من جديد يا أم أحمد.. ركع على عتبتك تاني يا مرت الشهيد)

شهقت.. ثم زغردت.. كل البيوت الفلسطينية أضحت تودع أحبتها بالزغاريد.. عندما تكون الحياة مذلة.. والموت ضياءً وشرفاً.. تختلف طرائق التعبير في الحزن والفرح.. عندما يكون الموت أغلى من الحياة.. تزغرد الحناجر وتدمع العيون.. على الرغم من قرار منع التجول.. امتلأ بيتها بالأحياء.. بعضهم يبكي.. بعضهم يشتم.. بعضهم يتوعد.. الخوف يطوّق عيون الأطفال والتحدي يرسم لوحات تشفٍّ قادم على مُحيّاهم.. والنساء.. تقطع كل هذا بالزغاريد.. الطريق طويل.. طويل.. والنهاية غير محددة بعد..

ودّع الجميع الشهيد الجديد مع ثلة من رفاقه.. (وهم يعرفون أنهم ليسوا آخراً) بعرس يليق بدمائهم التي سارت في أخدود المقاومة لتتجمع يوماً وتنفجر بئر بركان منتقم.. يغسل عار الأمة ويغيظ عدوها الحالم.. عادت أم أحمد لتسند الحائط الحزين الذي فقد بصمة جديدة من ذكرياته.. الوضع الطبيعي أن يشغلها التفكير بأطفالها وتأمين لقمة عيشهم.. لكن مَنْ قال.. إنه في أي بقعة من فلسطين.. كان الوضع قريباً من الطبيعي.. من يوم أعلن بلفور وعده الحاقد..

هل تفكر بصغارها.. هل تفكر بشريك دمعتها وقلقها الذي رحل وخلّف صيصاناً بحاجة إلى مَنْ "يزّقهم".

التفَّ الأطفال حولها مواسين.. شعرت أنهم ما عادوا صغاراً..

شعرت بهم رجالاً أشداء..

يكبر الطفل في فلسطين بسرعة.. يحرق سنوات العمر بطريقة لا يصدقها أحد من سكان المعمورة كلها..

اقترب أحمد الذي لم يبلغ الحلم بعد.. قال: أين كوفية أبي يا أم الشهيد؟

صعقت.. صرخت: لا تقلها يا ولدي.. أنت ما زلت صغيراً..

ردَّ بثقة: في فلسطين لا تلد الأمهات صغاراً.. إنهم يولدون رجالاً.. لذا يرهبهم عدوهم.. حتى وهم أجنة في الأرحام فيبقرها.. ما دمنا يا زوجة الشهيد وابنته وأخته نتنفس هواء الرجال المثقّل برائحة دمائهم فنحن رجال مثلهم..

-صدقتَ يا بضعة من الكبد الجريح.. لكن دورك لم يحن بعد..

-ليس في بلد مستباح تسلسل للأدوار يا أمي.. أنت قلتها أكثر من مرة.. الطريق طويل.. والخيار مفتوح.. وأنا ابن حرة ومن ظهر أبي، رضعت الكرامة ورفض الذل مع حليبك المقهور. خياري واضح يا أم الشهيد..

-لست أقل من أي أم مثلومة في هذه الأرض يا ولدي لكني أخشى على قطع العجين هذه بعدك يا وريث أبيك..

-أخوتي في كنف الله.. أنسيت الخنساء التي دفعت بأولادها جميعاً إلى الاستشهاد..؟

يا ولدي كل يوم تكشف هذه الأرض على ألف خولة وألف خنساء وضمير العالم كله يهجع في عُهر المادة والسيادة..

-لا تبتئسي يا أم أحمد.. ما دام لديك ستة قنابل.. قادرة.. على أن تحرك سكون الضمير.. وترمي القذى في عيون العالم النائم.

تدثرت أم أحمد بإيمانها.. بحبها لهذه الأرض التي كانت تراها مغارة فاغرة الفم لا تشبع..

سألتها بتحد وهي تنظر إلى موقع قدميها: هل ستكفيك سبعة قنابل قادمة؟

نظر أحمد إليها.. هل نسيت أمه العد..؟ هو وأخوته ستة..

قالت: وهي تمسح شعره بيدها.. أمك ليست جاهلة بالحساب يا ولد أنتم ستة وأنا السابعة.. ولنرَ إن كانت هذه الأرض ستستصرخ الجبناء والحاقدين والخونة.. ألا كفى..!!

منذ بدء الكون يا ولدي.. منذ الأزل والطرق متنوعة.. والخيارات مفتوحة ونحن في أم البلاد.. اخترنا طريق المقاومة حتى النصر أو الاستشهاد.. ستضم هذه الأرض يوماً كل مَنْ عليها.. لكنها حتماً ستنحني بإجلال للشرفاء المجاهدين.. وستكون ناراً حارقة على الآخرين، أنا واثقة من هذا.. رصّعت أم أحمد جبين ولدها الفتي بقبلة الوداع وهي تسلمه كوفية وعقال أبيه وتقول: سلم على السابقين..

انسحب بهدوء وهو يتمتم.. انتظر القادمين..

فالأرض عروس وتحتاج يوم زفتها في عرس النصر الملايين للمشاركة.

10/9/2003

 

أضيفت في 06/03/2006/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية