حالة خاصة من النعاس
أسيادي الأفاضل:
فجرَ هذا اليوم أفقتُ على صراخ أمّي. كنائمٍ صُبّ على رأسه ماء،
وأفقدتني المفاجأة صوابي، فقد داهمت النّوبة –في وقت حرج- أمي المصابة بداء
عُضال.
غادرت البيت إلى الطابق العلوي، وجّهتُ عدّة لكمات لباب بيت الطبيب
بدل أن أنقره، فانبعثَ الجيران إلى الرّواق مستطلعين كموتى يوم الحشر.
عاينَ الطبيب أمي وأعطاها مسكّناً، وناولني أنا وصفة، ثم انصرف
الجميع متثائبين راجين لأمّي السلامة.
إلى هنا، يبدو لاعلاقة لاستيقاظي المبكر بحالة النعاس التي باغتتني.
سادتي:
ولأنّ الوقت كان مبكّراً لشراء الخبز، فقد صنعت شاياً لي ولأمّي
واحتسيناه معاً. ولم يخلُ الأمر من بعض مواساة ووعود بشفاء عاجل مثل:
(سلامتك.. هذا دواء جيّد.. اشربي الساخن ينفع..)
أيضاً قمتُ بلملمة البيت، وتسوية فراشي فيستحيل العودة إليه في ظرفٍ
كهذا. في السادسة، تركت أمّي في عهدة الجيران وذهبت إلى (البرّاكة) فاشتريت
ربطة خبز مع وقف التنفيذ، أي مع وقف الدفع لمطلع الشهر، فمن عادة الموظف
الحكومي المشرف على بيع الخبز أن يثق بقدرتي وأمي على إيفاء الدّين فيقرضنا
الخبز على حذر. ولم أنس التعريج على السمّان لاستدانة خمس بيضات وكيلو
غرامين حليباً، فمن عادتي وأمي عند غياب الحواضر أن نستهلك بيضتين مع الشاي
عند الفطور، ومثلهما عند العشاء، وبهذا لاتتعدى حاجتنا أربع بيضات، لكنّ
الحياء يدفعني لشراء خمس راجيةً الله أن لايطول غياب أقربائنا عنا فيطول
معه اشتهاؤنا للزيتون والزعتر أو مشتقّات الألبان التي يُحضرونها معهم
أحياناً إذ يعرّجون علينا في المدينة.
بعد ذلك كان عليّ فتح النوافذ، وكنس البيت، فملازمة أمّي الفراش لم
تسمح بشطفه. وفي السابعة أطلّت الشمس بحدة منذرةً بنهار حار بعد ليل مؤرق
حبست فيه الحرارة العالية (الأوكسجين) عن صدورنا، ممّا جعلني أسرع بغسل
الملابس والبيّاضات التي لابدائل لها، ونشرها على السطح قبل أن يسبقني إلى
ذلك الجيران أو تحتدّ الشمس أكثر. وعليَّ أيضاً إنهاء تصحيح الاختبارات
الخطيّة للتلاميذ قبل الثانية عشرة ظهراً، أي قبل بدء الدوام المدرسي، وهذا
ماعكفت عليه وأنا أجلس إلى جوار أمي تحسّباً للطوارئ، وأحياناً أترك عملي
لأسندها من مرفقها فأقودها إلى المطبخ أو الحمّام. أو لأراقب الساعة
فأناولها كأس ماء وحبّة دواء.
في الساعة التاسعة ارتديت ملابسي على عجل لصرف الوصفة الجديدة من
السوق، ولم أخط قيد شعرة قبل أن أترك أمّي أمانة في عنق الجارات.
في الشارع واجهتُ أمرين لايُطاقان: كثافة الزحام وحرارة الشمس.
واضطّرتني قلّة المال أن أقطع الشارع العام وأصل السوق راجلةً، حيث ابتعت
دوائي وصدمني ثمنه الباهظ... وصدمت كذلك رغبتي في العودة إلى البيت بسيارات
الخدمة المنتشرة، التي تصل خلال دقائق إلى أبعد نقطة في المدينة فترحم
الناس من سيلان العرق، وسياط الحرّ.
ها أنا أتابع سيري باتجاه حي (المينا)، عليَّ قبل العاشرة أن أصل
دار المالك، وأدفع له أجرة بيته الذي نسكنه، إذ ترتّب علينا تأخير لايغتفر
هذه المرّة.. وبعد أخذ وردّ لم أسلم خلاله من غضب ولسع كلام، ودّعت الرجل
وسرت تحت الشمس من أقصى حي شمال المدينة إلى أقصى حي شرقها.
لعلّي الآن لا أحسد على وضعي: فأنا أشعر بدبيب حبّات العرق فوق
جبهتي، وتحت ذقني وإبطيَّ، بل أشعر بتكثّف قطراته تحت الجلد، وانبجاسها
خلال المسام خلف أذني وأعلى الفخذين وأسفل ظهري، مما تسبّب بلزوجة ونتانة
ولّدت فيَّ استياءً.
حاولت تناسي الأمر وأنا أجدُّ السير بين شوارع مزحومة وأرصفة
مأهولة، ولاشك أنّ النشاط الناجم عن مشيٍ سريع قد أحيا روحي، واستدعى
انتباه الناس لي سيّما وأنا أنسلّ بخفّة بين السيارات الواقفة بأمر من شارة
المرور. وإن كان عليَّ أن أشعر بالحرج من ذلك.. فعلى الآخرين بالمقابل أن
يتفهموا الدافع الأليم الذي جعلني أسير كالمجانين تحت شمس حارقة فيما هم
يركبون (التاكسي).
إنني الآن أشاطر "ألبير كامو" أحاسيسه حين وصف الجزائر الحارّة في
(الغريب) فقال أنها (بلدٌ تقتل فيها الشمس الأسئلة).. فسخونة رأسي لاتسمح
بالتفكير إلاّ بعودة سريعة للاطمئنان على أمي، والتقاط الأنفاس قبل خوض
معركة جديدة: (أربع ساعات ونصف من شرح الدروس لثلاثين تلميذاً).
وحتى الآن.. يبدو لا علاقة لكل ماحدث في حالة النّعاس التي باغتتني.
فرغم مسيرة صباحية شاقة بددت نصف وقتي، وصلت في الحادية عشرة والنصف
فوجدت أمي على خير حال، وقد بارحت الفراش مما شجّعني على أخذ حمّام سريع
أنساني مشقّتي وآلام ساقيَّ، وردَّ إليَّ الحياة.
ودخلت الصف بذهن يقظ، وغبطة قلّما أحسّها تأتّت عن كفاح دام من
الفجر إلى الظهر.
مضت الحصة الأولى على خير. وحتى بداية الحصة الثانية... يبدو
لاعلاقة للجهود التي بذلتها في شرح بحث (النسبة والتناسب) في حالة النّعاس
التي باغتتني.
معذرةً، سادتي الأكارم... فسأكفّ قليلاً عن الكتابة إليكم لأواصل
الكلام... ربما مع نفسي.
***
أذكر تماماً رغم صدمتي بما جرى، أنها كانت حصة (أخلاق وتهذيب) وكان
الدرس: "يوم الحساب".. فشرعت أوضّح معنى (أن يظلّ الله العباد في ظلّه يوم
لاظلّ إلاّ ظلّه) ففي هذا اليوم نميّز فئتين من الناس: من خفّت موازينه،
ومن ثقلت موازينه، وفيما كنت أتحدث وعيون الأطفال مشدودة إليّ حتى لتكاد
تنفر من محاجرها، إذ برأسي يثقل شيئاً فشيئاً تحت سلطان خدر لعين زحف إليه
من حيث لا أدري مما أرغمني على الجلوس والتملّص من الكلام بصرف انتباه
الأولاد إلى قراءة الدرس بالتناوب، واستخلاص العبرة منه وسط دهشة وخيبة.
استندت بمرفقيّ إلى الطاولة. حاولت شقّ أجفاني والتظاهر بمراقبة
مايجري، لكنّ نعاساً طاغياً أذبل عينيّ، فأمال رأسي، فأحنى ظهري، وأخيراً
لامست جبهتي سطح الطاولة، واختفى وجهي بين ذراعيّ.
أعتقد أنّ همس التلاميذ تحوّل إلى صياح... وكان عليّ رفع رأسي
لنهرهم وإعادة الأمور إلى مجراها، لكن منعني قرب حلول الفرصة، وطغيان نعاسي
وأعتقد أنّ يداً غضّةً أو أكثر ربّتت برفق على ظهري أو هزّت كتفي...، بل
أظن أنّ أحداً نفحَ أنفاسه في أذني ليسرَّ لي بأمر... أو أنني كنتُ أحلم.
لكنَّ ما أيقنتُ منه حين أفقتُ من نومي على قرع الجرس وماصاحبهُ من
ضوضاء... وجود أشخاص ثلاثة داخل حجرة الدرس برفقة المدير. وحين أجلفتُ
ووقفتُ احتراماً، كان الوافدون قد مسحوني من فوق لتحت بعيون محمرّة وغادروا
كالبرق.
دُعيتُ إلى الإدارة لحسابٍ عسير... حاولتُ بحياء شرح أسبابي فبتر
المدير استعطافي وقاطعني بحدّة، مشيراً إلى الإهانة التي يُلصقها معلم (بلا
ضمير) بسمعة مدرسة وشرف مهنة، مُلمّحاً إلى غضب مندوبي الوزارة مني،
واحتمال فرض إجراء صارم بحقي.
***
تقصّيتُ أسباب نومي أثناء رجوعي إلى البيت. فلو لم تمرض أمّي لكانت
قاسمتني وزر الحياة في يوم صاخب كهذا. فإذْ تذهب في السادسة لشراء الخبز
واللبن والبيض... يُتاحُ لي قسطٌ كافٍ من النوم فأنهض في السابعة لإعداد
الفطور وغسل الملابس بارتياح وهدوء.
وفيما يصحبُها الجيران لاحقاً لتسديد إيجار البيت... أجلسُ إلى
أوراقي فأقوِّم الاختبارات على مهل. ويبقى معي (بحبوحة) وقت قبل بدء
الدوام، فلا أُضطّر لشيّ جلدي وتسخين دماغي بشمس حاقدة... إذ يبدو واضحاً
لي الآن أنّ مانلته من تعب تسبّب في خَوران عزيمتي، وإضعاف قواي الجسمية
والذهنية، وأدّى إلى نومي في الصف،... وتلك سقطةٌ لاسابق لي بها.
***
لكل حصان كبوة كما يقال. فهل يفهم السادة الأفاضل أنّ ماجرى هو كبوة
من كبواتي؟ فيرفعون اليد عني ويتفضّلون بقبول اعتذاري؟!
أمامَ سخط المدير وتعنيفه أجدُ نفسي مضطرة لتحليل أسباب حالة النعاس
التي باغتتني على أنها حالة (خاصّة) وذلك بشرح الظروف الاستثنائية التي
أدّت إليها، مما جعلني فور دخول الدار أُمسك قلماً وورقة وأخطُّ مايلي:
أنا الموقّعة أدناه العاملة (س) من الفئة الثانية أعرض مايلي:
أسيادي الأفاضل:
"فجر هذا اليوم أفقتُ على صراخ أمّي، كنائمٍ صُبَّ على رأسه ماء...
وأفقدتني المفاجأة صوابي، فقد داهمت النّوبة –في وقت حرج- أمّي المصابة
بداء عُضال..
19/1/1999
حكاية سوقية
مات رجل يناهز السبعين في بلدة مجاورة لنا، ولا يذهب بكَ الظن إلى
سكتة قلبية، فالضياع هنا تفتقد منذ أمد إلى حكايا تدغدغ الخواطر وتنعش
الأخيلة، فجاء موت الرجل إيذاناً بفتح باب /سمسم/ على غرائب القصص والقيل
والقال.
ولولا قلّة الحظ لاعتُبر موت الشيخ كموت قطة أليفة ونُسيَ بسهولة.
لكنَّ الفضول الذي يسبح في فراغ من ضجر شاء أن يجعل النملة فيلاً والقطرة
بحراً.
ولايكاد يعي عاقل كيف آل موتٌ طبيعي إلى جناية قتل، فحين أنهى
الغاسلون تنظيف الميّت، توقفت يد العطّار فجأةً عن رشّ "الكولونيا" وعلقت
في الهواء إثر صرخة فاجعة ندت عن امرأة اقتحمت الغرفة دون حياء، وهي تنتحب
وتتوعّد بالانتقام من قتلة زوجها.
دُهش الحاضرون لأمرين: اقتحام الزوجة حجرة الغسل، واحتمال موت الرجل
مقتولاً رغم غياب مايُنبئ عن جريمة من جسد ممدد بانشراح.
خلال نصف نهار شاع خبر جريمة، وعمَّ قرىً مجاورة...، وحّلق في فضاء
الناحية...، ومساءً حطَّ في مركز شرطة المنطقة فاستُنفرت العناصر، وأوائل
الليل كانت دورية أمن جنائي تجوب بصعوبة درباً وحيدة سالكة إلى الضيعة.
كان تأجيل الدفن أمراً بديهيّاً، وإبّان ذلك بدا عسيراً على الأهالي
قضاء سهرتهم دون تحليل النبأ وإظهار (فهلويّة) في فهم أسباب ودوافع
الجريمة، وتقصّي الجاني ممّن لم يحضروا تدابير الدفن أو يشاركوا فيه، أو
ممّن بارح القرية فجأة أو عزم على قضاء الليلة خارجها، أو كانت له عداوة مع
الميّت، أو مصلحة في بيع أو شراء أو رهن بوصفه ملاّكاً زراعياً كبيراً.
"أم علي جحجاح" أسرّت لجاراتها في الثامنة ليلاً بما دار في مجلس
زوجها وسُمّاره الذي لم ينفضّ بعد، ومفاده أنّ (غريب بن لطف الله) ارتكب
القتل كي يضع حدّاً لنيّة (أبو البدر) بالاستيلاء على أرضهم المرهونة لقضاء
دين ترتبَّ عليهم لأبي بدر وعجزوا عن سداده. وما بدر عن (غريب) عند سماع
النّبأ من نشاز سلوك يكفي لإدانته، إذْ اتّسعت عيناه وبهما بريق فرح لايخفى،
وانفجر يقهقه شامتاً متشفّياً. ثم جمع مراهقي الحارة وشبّانها العاطلين
فأعدَّ وليمة لا يحلم بمثلها الملوك، ولم تسلم دجاجة من ذبح ولا شاة من
شواء.
وفي الحارة الغربية نُقل عن (أبو عتاب) شكوكه في الكنّة (بثينة)
التي اشتهرت على مستوى البلدة بمناكداتها لحميها البخيل، وأُذيع عنها
مراراً سخريتها منه حين تسأل: إلام يكنز الأموال؟ ولمن؟ لتمنع عنه الموت أم
لتؤنسه في القبر؟.. وتحدّثوا عن احتراز (أبو البدر) من تناول أي طعام في
دور أبنائه خشية أن يقوم الأصهار والكنّات –وكلهنّ عاصيات- بدسّ السمّ في
طبقه ثم السطو على أرزاقه.
(مَدْيَن) رفيق طفولة بدر، حلف بمقامات الصالحين التي تحيط بالبلدة
كعسكر أنّ فاعلها هو بدر عينه. وإلاّ نهى زوجته وزوجات إخوانه عن التحرّش
بأبيه، وما كان تمادى في حثّه على تقسيم الورثة بالترغيب والترهيب وافتعال
شجار أفاقت عليه الجانّ في الأوكار، ممّا جعل العجوز يلوذ بنفسه إلى الغابة
لالتقاط الأنفاس. فلطالما أخذ (مدين) على بدر ولعه بحب نفسه، وعدم برّه
بالطّاعنين سنّاً.
وكان للحارة الشرقية رأيٌ مختلف في المسألة. فلم يُبتَلى بموت أبي
البدر شخص من قريته، حين يكثر في الجوار خصومه والمتضررين من تربّصه الذئبي
بفرص مصادرة أملاكهم لحنثهم بميثاق معه... لعلّه (أبو فريد) فاعلها أو (أبو
جنادة) الذي أحرق زيتونه ذات سنة ودخل السجن ثم خرج بكفالة.
بقي في البلدة مكانان: حارة (الضّهر) وحارة (الوطا).
أما (الضّهر) التي وصلها الخبر متأخراً لتوغّلها في حرش جبلي ناء،
فقد استنكرت موتاً لأبي بدر بغير تدبير القضاء والقدر سيّما لكبر سنّه،
ودعت أهالي الحارتين الشرقية والغربية للكفّ عن إيقاد الفتن ورجم الناس
بتهم باطلة. وذكّر أفراد العائلات الأربع التي تؤلّف الحارة في كلام نقل
للمختار لاحقاً أنّ حماقة أهل الحارتين وسماجتهم. أهمّ أسباب لجوء هذه
الأُسر للجبال فهنا تبدو الضباع والثعابين والذئاب أكثر أنساً.
بقي (الوطا).. وقد لاذ أهلوه بصمت غريب، وانصرفوا بعد الحادثة إلى
بساتينهم السهلية دون تعليق سوى: (أكل عمره) و (يرحمه الله).
عند المختار في الحادية عشرة، كان مصباح أصفر شحيح يضيء البيت
الطيني، تدافع حوله فراش وناموس وانبعثت من حجرة مجاورة رائحة روث البقر.
وكان مأمور التحقيق يواصل لملمة شكوك كبير الضيعة وأعيانها حول قاتل (أبو
البدر). وغادر واعداً باستدعاء طبيب شرعي، بعدما أثقل رأسه التعب، وروائح
المكان... وترك لحراسة الجثّة عنصران.
في منتصف الليل نامت حارة الضّهر على سُخط وتبرّم، وتغيّرت قناعات
أهلها نصف درجة، فإن كان لابدّ لأبي بدر أن يموت مقتولاً فقد مات (فقْعاً)
من مكائد الناس، وإلاّ ماعثر عليه نائماً بين أشجار صنوبر نائية، لائذاً
بفرار لتتاح له السّكينة إثر شجار مُرّ مع أبنائه. وعموماً تبقى الجريمة
مستبعدة في بلدة فُطرَ ناسها على بساطة وطيبة حتى لَتَرقّ قلوبهم لمقتل
شاة.
وفي (الوطا) أنهى المزارعون تفقّد أحوال البندورة والخيار في قباب
(البلاستيك)، وحوالي الثامنة، سُمع شخيرهم للجقال والكلاب الشريدة أسفل
الوادي. إذ أدركوا ببساطة أنَّ لُدغة أفعى في حرش، تكفي لقتل أعتى الرجال،
وهو ماجرى لأبي بدر غالباً. ولأنّ (الحيّ أبقى) فالعناية بغلالهم خيرٌ من
هدر الوقت في تلقّف الأخبار. مع هذا، لم تنم بقيّة الضّيعة، ولا انفضّ مجلس
(آل جحجاح)، ولا مجلس (أبو العتاب)..، ففي التاسعة ليلاً بُرّئ ابن لطف
الله من اللحاق بأبي بدر إلى الدّغل ودفعه نحو المنحدر، وأُلصقت التهمة
بالحفيد (زين)، إذ أنّ آثاراً لرضوض طفيفة، وبقع زرقاء ظهرت على جسد الميّت
عند غسله وكان ظنّها الناس بوادر تصلّب شرايين أو اضطرابات جلدية مزمنة،
فلاشك أنّ بدراً وزوجه دَفعَا (زيناً) للإطاحة بجدّهِ، فغياب مراهق زمناً
في دَغلْ لا يستدعي انتباهاً لسهولة الانسلال، وخفّة الحركة، وقلّة الطّلب.
بينما يصعب على الأب مبارحة بيت لا يغادرُهُ ضيف إلاّ ليدخلهُ جار أو قريب.
وفي العاشرة، أجمعَ الرأي –ونادراً ما يُجمع- على سمسار أراضي في
ضيعتنا يقال لهُ (أبو غاندي) الدلاّل. وكانَ شَهِدَ زوراً في قضية نِزاع
أبي بدر مع جيرانه على حدود أرضهِ الشمالية… من يومها استحكمَ خلاف بين
الرجلين فواحدٌ يتّهم الآخر باللصوصية والبخل والجشع. وذاكَ يُشيع عن
صاحبهِ غش الزبائن، وفوضى السمسرة التي تجانب أصول القانون… وقيل أنهُ لدى
لقاء الرجلين في المحكمة نشبت بينهما مشادة مُعيبة اضطُرَّت القاضي لرفع
الجلسة وتهديد الطرفين، بسبب تصريح (أبو البدر) أنّ شهادة خصمهِ كشهادة
(كشّّاش حَمام) وبالتالي لا تُقبل.
وفي الحادية عشرة. احتارَ كثيرون في قاتل أبي البدر: من داخل
المنطقة أم من خارجها؟!.
وفي الثانية عشرة توصّلَ أحدهم إلى ما يُفيد أنّ الرجل انتحرَ هرباً
من عذاب الضمير وتنامي عداواته. وهذا كانَ كافياً لإنعاش الرؤوس الناعسة،
وشدّ السهرات من أذنابها لتطول أكثر.
ونُوِقشَ أمران: انتحرَ مسموماً أم دحرجَ نفسهُ إلى الوادي؟؟…
وأُشرعت ألسنة، وسخَنَ جدال، وتناقلت النساء أخبار جديدة، وقُربَ الثانية
ليلاً بدأت الأضواء تشحّ والفوانيس تنوس وأخيراً…
نامَ الجميع.
***
في حياتي كُلِّها لم أَعجب لقصة كهذه. فالموت وارد، والجريمة واردة
وإن ندرت في منطقتنا ندرة السمك في الجبال.
إنَّ ما أدهشني العقول التي لا عِقال لها، وألسنةُ أهل ضِياعِنا
التي ما إن (يدق الكوز بالجرّة) حتى يُحَلّ لِجامُها فتنطلق بثرثرات
وتلافيق رخيصة لا يبرأ منها بعض ضحايا. فهل تكفّ الصنابير المفتوحة من
غَمْر الدّلاء بما لا طاقةَ لها به من ماء؟!
بموت (أبو البدر) قد يحدث هذا. فقد حضرَ الطبيب الشرعي صباحاً.
وعُلِمَ أثناء ذلك أنّ هجوماً نسائياً شنّتْهُ كنّات (المغدور) على أم عتاب
وبَنَاتها، تبادلَ فيه الطرفان شدّ الشعر وشق الملابس والرّجم بكِعاب
(الفلّين) المضغوط وما خَفَّ من أثاث البيت. والسبب اتّهام العائلة للكنّات
بقتل حميهِنَّ عَمْداً.
وفي محلٍّ آخر اشتبكَ (بدر) و (مدين) في مُلاسنة كلاميّة مقذعة لم
تُعرف تطوّراتها بعد.
فيما انهالَ (أبو علي جحجاح) بالضرب على زوجته لتسريبها أنباء شكوكه
في (غريب بن لطف الله) لِلجوار. أما (لطف الله) نفسهُ فقد سبَّ ولدَهُ
ونَعَتَهُ بأشنع النّعوت للوليمة التي أَوْلَمَها أصدقاءهُ شماتةً برجل
ميّت.
أخيراً… أعلنَ الطبيب الشرعي نتيجة الفحص.
وحينَ بلغَ العراك النسائي أشدَّهُ، وبرقعت الدماء الأرض… اقتحمت
جمهرةُ نساء بيت أبي العتاب وصرخت أكبرهُنَّ سنّاً برجاء حارّ:
-حرام عليكُنّ،… توَقّفنَ حُبّاً بالله… يا جماعة.. المرحوم "مات
مَوْتة ربُّه… مَوْتة ربُّه ولا شيء آخر…".
***
بعض الأمور هكذا يا أصدقاء، كصنابير مفتوحة أصابَ مغالقَها عطبٌ
فجائيّ… فاسترسلَ الماء في السّكْب… وامتلأت الدِّلاء، فحدثَ غَمر..،
فَغَرَق، فطوفان…
فاحذر تلكَ الصنابير، وإلاّ رُحتَ في الطّوفة.
17/1/1999
لو لم تكن قدماي
تؤلمانني
صورة أبي منصوبة على الحائط
وجه نصف جانبي. شعر مفروق بعناية، ممسد بالزيت، نظارة دائرية مضحكة
تتكئ على أرنبة أنف ناتئة.
جفنان يتهدلان على عينين ناعستين.
سترة رماديّة من الكتان، تحتها صدرية زرقاء مزرورة بأناقة، تبرز من
قبّتها ربطة عنق مقلّمة.
الكف اليسرى استراحت على الخاصرة، واليمنى احتجزت بين الفكين
غليوناً مبتذلاً.
الصورة إجمالاً مبتذلة، بهذا أُفكر وأنا ممدّد على القطن المنضدّ
فوق حصير متآكل كقط رعديد انتبذَ ركناً قذراً في منجاة عن لؤم وخسّة
مطارديه.
من خمسة عشرَ عاماً والصورة تفتح شبابيك أمل كاذب في حلكة الليالي
البائسة. تضرب مواعيد مخلوفة لعودة مغترب يدعى أبي.
أذكر أبي… والكيفيّة التي هاجرَ بها بحيثيّاتها وتفاصيلها المكرورة.
لم أرَ شيئاً من ذلك، ولا حتى أبي، فعمري الآن لا يتعدى الخامسة عشرة، لكنّ
الضيعة تذكر… والسنديانات والمفارق والربوات وصنوبرات الجبل والمنحنيات
يومَ رحيله…
كانَ نهاراً رمادياً، رائحة الشتاء تهبط من الأقبية الرطبة تنزلق
على الجدران الطينية تاركةً أثر عفونة. تنساب من التربة العطشى جنيّةٌ تصوغ
من الطين والبَلَل رُضاب عطر ينعش الأرواح.
الناس واجمون كأنّ جثماناً سيُشيَّع أو مهلكة ستقع، لا حسّ ولا صوت
خلا همهمات انتثرت في جنبات البيت العاتم الذي أَمّهُ الغريب والقريب. وفي
الساحة المسترخية قدّام باب خشبي تجمهرَ أطفال وصبية ومتطفلون يشهدون وداع
ربّ الدار. وكانت شجرة لوز عمرها من عمر البيت تحني أغصانها أسفاً وبدا أنّ
جذعها أوغلَ في التقشّر، وجذورها توشك أن ترخي قبضتها وترفع أصابعها
الأخطبوطية عن أعناق الصخور.
وحينَ أزّت عجلات سيارة غريبة، عانقَ الجيران أبي وارتجّت أصوات
النساء حادّةً في أجواء الحارة تنثر الدعوات بالتوفيق والسلامة. وكشفرة
تقشط جناح فراشة ملأ بكاء أمي النفوس ألماً وتطّيراً وآخر ما رجمت به أبي
قبل أن يتوارى لخمسة عشرَ عاماً دون خبر صراخُها النافذ حتى العظام:
-رح، اتركني وحدي.. الله لا يسهّل وإن فكّرت بالرّجعة فلأجل ما
ببطني وهؤلاء…
وشدّت إلى خاصرتها ووركيْها أختي (بهيرة) وصبيين آخرين، أما أنا فلم
أكن رأيت النور بعد.
سافرَ أبي وهيهات أن يرجع بسلامة أم بدونها. المهمّ في الأمر أنّ
أمّي تناست غيابهُ من لحظة رحيله ببدلة مستعارة، وحقيبة تبرّعَ بها أصحاب
صرَّ فيها ملابسهُ وساعة بسلسلة فضيّة وليرات وفرنكات شدّها بحزام في كيس
صوفي بدا كخابية صغيرة أو إبريق.
بهيرة أيضاً نسيت والدنا وعجّلَ برعمها بالتفتّح لا لُتعشق أو
تُحبّ، بل لتعارك وأمّنا ويلات الزمن. وقفت مرّةً أمام مرآة –عفو الخاطر-
تلمّست بغرابة وخوف ربوتْين نفرتا في صدرها… وشعر انسابَ كستار مخمل على
ظهر صقيل وسواعد مكتنزة، لمعت مفارقهُ كأنَّ يَدَ نبي مسحت عليها… انشدهت (بهيرة)،
شهقت بحياء واستنكار كأنّما عُرّيت أمام أشهاد. جزّت شعرها بقسوة كمن يسلخ
جلد ماعز…، انسكبت الخصلات على الأرض أفاعٍ صريعة وصارَ لبهيرة شكل صبي.
قمطت رأسها بمنديل عقدت أطرافه على جبهتها كفلاّحة مخضرمة أو كواحدة من
(أخوات الرجال)… شقّت فستانها المخصور، خاطت منهُ خرقاً للاستعمال البيتي.
وكأنّ إبليساً سطا على روحها هرعت إلى صندوق الملابس، لبست ثوباً فضفاضاً
لأمنا، فهدّأ روعَها غياب نحالة الخصر وملامح التكوّر والبروز.
من اليوم الذي اعتقلت فيه بهيرة أُنوثتها وحزنٌ مرير يعايشني.. أكبر
فيكبر معي، ويُنضج وعيي قبل الأوان.
الفرشة العفنة التي بَقَرَتَها بهيرة بسكين كالخنجر يخيفُني لمسُها،
تندلق أحشاؤها على الحصير كتلاً من قطن مُصفَرّ لهُ رائحة الصّدأ والحديد
المحروق.
أتمدد على الحشوة كهرّ استمرأ العطالة والزوايا التالفة.
في انتظار أن تحشو بهيرة الفرشة وتخيطُها ثانيةً أستمتع بحريّة
واسترخاء لكامل جسمي وعضلاتي فلا شريك لي بفراشي اليوم.
غضبُ أمّي يباغت فرحتي فتجفل وتنطمس تحت سقف من القلق يحتكر الشعور
والقلب الواجف. ها هيَ أمي تدخل الدار، تلقي أحمالاً عن ظهرها. ألمحُ في
إثرها بهيرة برأس مقموط وسواعد مشمّرة…، فرغت أمي من حلب البقرة التي نضبَ
ضِرعُها وإطعام العجل الذي لا يأتي على علف حتى يخور مطالباً بأحسن منهُ.
فرشت بهيرة شوالاً من الخبز اليابس على الأرض. وشرعت المرأتان
تكسّران الأرغفة الرمادية، وتلعنان حظّاً خائباً قاهراً رَفَسَهما إلى
الدرك الأسفل من الحياة وصَنّفهُما كأُجراءٍ للآخرين، تعتاشان من نبر
الزيتون وطحن الجوز والدقيق وتقشير الفستق بالأجرة، وقد تدخلان في شراكة
تجارية غير متكافئة كما الحال مع بقرة الجيران فتؤمّنان قوتَنا من اللبن
لقاء تعليفها وتسمينها والسهر على ولادتها والنوم على خوارها ومعاينة
أمراضها ومسايرة أفانين دِلّها وغنجها…، وحيثما اتفّقَ ووجدت بهيرة فرصة
عمل فهيَ لا تتردد في اقتناصها واهبةً حياتها (كأُضحية) من أجلنا، حتى أنها
رهنت نفسها كـ (دادا) لأولاد الحارة الذين حظيت أمهاتهم بوظائف حكومية في
المدينة فكان على (الدادا) بهيرة أن تبتكر حيلاً تردع الصغار عن المطالبة
بأهلهم بافتعال ألعاب وتمثيليّات ساذجة تبدو بها كمهرّج لم يتقن عملهُ
ريثما يستردّ المؤتمنون أماناتهم من عندها.
يبدو انفعال أمي وبهيرة حاداً هذا المساء لدرجة أنّ أمّي لم تفطن
لنومي على القطن وإلاّ ما سلمْتُ من سُخريتها اللاذعة كأن تعلّق هكذا:
-ما تفعل يا فدّان هنا؟ أكل ومرعى وقلّة صنعة؟… شكراً لله الذي
باركني بفدادين تجتّر وتشخر فتؤنس وحدتي…
وما كنت لأُبادل أمي نقمة بنقمة إذ تسوطني بمقذع شتمها بل تأخذني
بها رأفة، ويستبدّ بي حزنٌ وعَجز يمحق اخضرار الأمل فيتصحّر القلب ويعجف
عندها..، تفّر العين إلى الصورة المحايدة، تتعقّب مسارات الخطوط الزيتيّة،
وتزاويق فرشاة غرّة رسمت خارطة كذبة سوداء وملامح سحنة مغبونة ساذجة
ورثُتها عن رجل يُدعى
أبي…
-عُدْ إلينا يا أبي…
وإذ لا تقع العين على ما يريح الخاطر تروح فُرْجَتُها تضيق حتى
تنطفئ شبه نائمة في لحظة يأس وخصومة مع القَدَر.
الشتاء حزين، الحزن ذاتهُ يحتجّ لتعاسة أمّي. يريد أن يطفش، لكنَّ
يداً تشدّ أطراف ثوبه فيمكث بقتامتهِ وثقله..، وكانون طاغية تَعِس يكسّر
البَرَد شظايا حقد تغتال دروباً طيّبة ونوافذَ بريئة وحيطاناً عزلاء، وأنا
فوق الفراش أعقدُ رهاناً خاسراً مع خِدر لعين لا بدّ سيهزم الإرادة
ويُسلمني لنومٍ محققّ.
"النوم موت مؤقتّ"… يقرُّ بذلك العلم على ذمّة معلّمنا الذي أكثر ما
يسوؤهُ أن يُباغِتنا مُتَلّبسين بالنوم على المقعد أو لاوين أعناقنا في
حالة شرود ذهني. حينها تقتضي المصلحة المهنيّة و (أمانة الرسالة) أن يُلهب
أكفّنا بقضيب الرمان فتفرّ الدماء إلى وجوهنا فاضحةً هَلَع نفوسنا وذلّنا
وانكسارنا.
قضيب الرّمان يجعلني أُطبق جفناً وأشقّ آخر… حاجتي للنوم ملّحة
والوجوم الشتائي يغري بذلك، من جهة… عليَّ استظهار درس التاريخ واستكمال حل
مسألة رياضية عالقة، وبمجرّد أن (يُميتني النوم مؤقتاً) فسأعجز عن (بعث)
روحي قبل الصباح فأبلغ المدرسة يعتريني انزعاج المقصّرين.
بهيرة وأمّي تتصايحان. تنعيان حظّهما،… رغم الجلبة أكاد أتخدّر
كليّاً وأغفو.. يدخل إخوتي الدار، يقرقع الباب، أفتح عينيّ بتأثير تنبيه
عصبي حامداً الله لأنني لم أنم فبالكاد يتسع الوقت لاستئناف الدراسة.
لحظات، وأهبّ من مكاني كباشق لمحَ فريسة ضالّة، أثب عدّة وثبات..،
أحرّك جذعي وأطرافي بعنفوان ونزق فأُشعل في جسمي مجمرة حقيقية، خلال نصف
ساعة أُتِمّ واجبات المدرسة ثم أغيب في سبات نهائي عاذراً أمّي لعدم
إيقادها مدفأة الحطب إذ يصعب أن تفرقع النار في الخشب المنقوع بماء المطر.
لهذا تبدو أقدامي محنّطة بالصقيع، مُفخّخة بالألم. كذلك قرنيّات أظافري
أُحِسُّ أنّ إبراً تحقن تحتها وجعاً ووخزاً قاهراً. فلولا ألم قدميّ ويديّ
لأنجزتُ وظائفي بدل أن أتقعّر على الفرشة عاضّاً على أناملي، داسّاً قدميَّ
العاريتين في فُتات القطن العَفِن.
في محاولة يائسة لإبقاء عينيَّ يقظتين أُعاود النظر إلى صورة أبي…
خواطر طارئة تنكص بي إلى ذكرى أوّل كذبة أتتنا عن عودتهِ، يومَ تحمّسنا
حماسَ من عانقَ عندهُ الحلمُ الحقيقةَ، وصافحَ الواقعُ الخيال، وبتوالي
الكذبات عرّشت المرارة في القلب عنكبوتاتِ خيبةٍ ومقت يلوك براءة الحلم
ويغتال الأمان.
-لن يعودَ أبوكم.. انسوه.
قالت أمي بجمود في ذكرى الكذبة العاشرة عن عودة أبي. من وقتها،
أُسدل الصمت على الموضوع، وانعزلت أمي في غرفتها ساهمةً لأسابيع حتى خشينا
أن تفقد صوتها أو عقلها. وحين فتحت بابها، ملأت البيت صراخاً ولعناً..،
قذفت رفشاً إلى بهيرة واعتقلت معولاً وانطلقت الاثنتان تواصلان الكدّ في
الزراعة والسقاية والتعشيب وجني المحاصيل حيثما اتفقَّ ووجدتا من يبتاع قوة
عملهما.
وشغلنا –نحنُ الصبيان الثلاثة- مرتبة الوصيف لأمّنا وأُختنا نأتمر
بأمرهما، ونضطلع بمهام بسيطة لا تتعدى جلب المتاع ونقلِها وتوصيلها.
-البردُ يُناوش عظامي…
أتحسسّ بيدي الباردة ساعدي المطوي تحت رأسي… يبدو الساعد دافئاً من
أثر الثقل الذي يحمل، ومن فرق الحرارة بين اليد الطلقة واليد المقيّدة إلى
الرأس أشعر أنّ اليدين لا تنتميان معاً لجسمي، فكأنهما عضوان في بدنيْن
مختلفين، هذا لأني لا ألتفّ ببطّانية، فقد ارتميت بكل ثقلي وتعبي منذ وقت
على القطن الأعجف وجمّدني البرد في انحناء تقعّري حتى أني لا أقوى على
الانقلاب إلى الجهة العكسية، فالبرد سيهاجم بضراوة الجانب الدفيء من جسمي.
أقسى ما في الأمر أنّ جواربي مغسولة، ها هيَ منشورة على طرف كرسي
مخلوع والماء يقطر منها فقد ابتلت في الطريق الموحلة إلى المدرسة. وحدثَ
هذا مع إخوتي، فأرغمتنا بهيرة على خلع أبواط (الغوما) الملطّعة بالطين
وتسليم جراباتنا الملوثة للغسل الفوري كضريبة لدخول البيت، فمن صادفَ
خُفّاً أخفى رجلُه فيه أو عثر على قبقاب بهيرة العتيق انتعلهُ ومن لم يجد
لفَّ قدميه ببّطانية، أو طمرهُما بالقطن كما فعلتُ.
المطر يطشطش في الخارج كدرنات بطاطا تتقلّب في مقلاة. تطل السماء
حالكة في كوّة الحائط..، الرؤيا تنعدم تحت سلطان العتمة،… تضيء بهيرة شمعة
في حجرة مجاورة، تغادر وأمي البيت يلحق بهما الضوء إلى الحظيرة، هناك يخور
العجل متحدياً طشيش المطر.
يا لَلظّلام يطوّق الحجرة آمراً بالنوم. أبدو مقتنعاً بخسارة الرهان
الذي عقدُتُه مع نفسي، فالنهوض من الفراش الآن يعادل البعث من قبر.
المشكلة عندي تتعدى كسلاً غَشَيِني وصقيعاً يَبرد عظامي، فينكمش لهُ
جسمي، ويتكرمش جلدي بصورة تنتأ فيها المسامات، وتنتفخ كحبوب صغيرة نتجت عن
فطور جلدية… كل المصيبة في الجراب الصوفي المغسول فلو كان يحبك بشدّة على
قدميّ العاريتين، وساقيَّ دونَ الرّكب، لنالَ الازرقاق والألم اللعين
قصاصاً على ما يُلحقانِه بي من تنكيل وعذاب. أما وأنا على هذه الحال
فمستعدّ للإجفال في أية لحظة تتلامس بها يدي الباردة فوق مع نظيرتها
الدافئة تحت. وفي فكيّ، يغرز البرد أورامَهُ فتكاد اللثة المقرورة تنشقّ عن
دعامات الأسنان، رغم هذا وخلافُهُ ظلت عيناي تنوسان بين فتح وإغماض حتى
سكنت الرعشة فيهما وأسبَلَتَا معاً.
***
دوّى صياح أمي كطبول تُعلن نفير الحرب:
"يا فدَادين،.. يا عجّان قوموا…، فات وقت المدرسة".
قفزتُ من مخبأي كأرنب بُوغتَ بطلقة صيّاد، تلمّستُ جواربي، عجنُتها
بيديّ، ما تزال مبتلّة. لبستُها مكابراً على الألم وعلى نِمال واخز شَلَّ
أمشاط أقدامي. زررتُ سترتي بأصابع فقدت لونها. اختطفتُ كتبي كيفما كان
وهُرعت على الطريق الموحلة إلى المدرسة..، إخوتي يلهثون في إثري، والمطر
حيوان شرس يسدّ الطُرُق ويغشى الرؤيا كالضباب المُدلهّم.
في مدخل الصف وقفت كشجرة قصفَ الإعصار غصونها ولوى رقبتها. سرى لغط
وتأوُّه، تحول الصف إلى قاعة محكمة أنا المتّهم، رفاقي شهود، القاضي يجلس
على كرسي خيزران، يُريح بطّة ساقه اليمنى على جنبهِ الأيسر.. يصفّق بالقضيب
البني الغليظ على راحة يدهِ ساهماً متأمّلاً.
-أينَ كنتَ يا وَلد…
لم تصدر عني كلمة. تخاذَلَ صوتي. تجمّدَ من البرد، فرّ إلى أمعائي
باحثاً عن قبَس حرارة يُعينُهُ على الإفصاح والنطق. وكنتُ أرتجف كقصبة
وحيدة عند مفارق طرق، الماء يرشح منّي ويصطفق فكّاي ببعضهما. أما الألم في
كاحلي وكِعابي فكانَ فوق التصوّر…
أومَأَ إليّ بالاقتراب.
القرّ والبلل أبطأا حركتي فدنوت بتثاقل مباعداً ما بين ساقيّ كمن
تغوّطَ في ملابسه. هبّت عاصفة ضحك وظُنّت بي ظنون.
-همّ… جئتنا متأخراً، لِنَر إن كنت حفظت درسك.
انطلقَ في استجوابي من درس التاريخ، أبدى صبراً في انتظاري وكأنهُ
يحزر النتيجة سلفاً ويتلذذ بتعذيبي، لم تُسعفني الذاكرة، فأمس استظهرت
الدرس بعجالة على نيّة أن أنام (قليلاً) وأعود متنشطاً فأُغيّبهُ وأفكّ
طلسم الأُحجية الرياضية.
قلّبَ الأستاذ بتأنٍّ مقصود دفاتري المبتلة:
-هم… م م م، لم تُكمل وظيفة الحساب، لم تكلّف نفسكَ عناء تبييضها
حتى.
بعد صمت ثقيل اعتكرت ملامحه، تجعّدت عقدة حاجبيه، استقامَ أمامي
ماردَ رعب وهلع..، بصعوبة تكمّشت أصابعي بقماش البنطال المتهدّل. الصقيع
ينساح في بطني حقوداً قاهراً، يقرص أحشائي، تلتهب الأمعاء، تئنّ، تتقلّص عن
جدران قَفَصها فأحسُّ بجوفي خاوياً ممغوصاً.
-آ ا ا ا ا ه…
تميد الأرض لصُراخي، القضيب يحلّق في الفراغ متبجحّاً بسلطانه على
النفوس ويسوط بضراوة أطراف أصابعي وظاهر كفيَّ.
مع كل جلدة يشق المعلم فضاء الصف صارخاً:
-تتأخّرْ، طِخّ، درساً لا تحفظ، طِخّ، وظيفة لا تكتب، طِرِخْ… تعوم
في المستنقعات وتأتيني قميئاً كحشرة، طِرِخ، أسألُكَ فلا تجيب.. طِرِخ
طِرِخ طِخّ…
وينبثق صوتي من رماد العجز حارّاً أليماً زاعقاً:
-آ ا ا ا ا خ… أيّ ييّ ييّ ييّ.
بملء الصوت الذي استعدتُه، وددتُ لو أصرخ أمام محكمتي وقاضيَّ
والأرانب التي تضحك على أنفسها حين يدور عليها الدولاب وتصيبُها الطلقة.
وددتُ لو أطلب مُهلة، فسحة وقت إضافية أوضّح فيها أشياء وأشياء
ينبغي قولُها.
اللعنة على البرد، اللعنة على الوجع. لو لم تكن قدماي تؤلمانني كنت
درست التاريخ، وحللت الرياضيات ولكن…
اللعنة على الجراب الملوّث. اللعنة على بهيرة التي لم تعصرهُ جيداً
ليجف بسرعة.
اللعنة على الشتاء…، على النوم…، على حظّي…
لكنَّ شيئاً من هذا لم يحدث.
23/3/1999.
|