اختفاء
-"في ليل مدينتي، يتحوّل الرجال إلى فئران، والنساء
إلى بقرات"
أطلق قولتهُ، ثم قذف ضحكةً أخافتني، ورمى قميصه
بنظرة مكسورة، وفرك، بألفةٍ، فتائل الغبار والعرق المعجونين بالهباب،
وانتظر مفكراً، قبل أن يتابع ساخراً:
-ليست في مثل أحجامها الطبيعة، بالتأكيد!
رغبت في الإشارة إلى شعوره القاتل بالإحباط، وأنه
السبب في تصوراته الشائهة.. لكنه سارع إلى إغماد ضبابة جوربية وجسمه في
رئتيّ، وهو يداعب فروة كلبه الأبيض الصغير، ويقول:
-غزارة الحليب في ضروع الفئران، يعدلها –تماماً- عقم
البقرات!
اضطررتُ لمسايرته. وفتَّقَتْ أفكارُه الغريبة شهوتي
لحلم يقظة يبعدني عنه، لكنه بترها بسرعة:
-كلما نظرت البقرات إلى المرايا، ازدادت تأكُّداً من
عقمها، ومن كونها عديمة الضرورة.. وكلّما أمعنت الفئران في تأملها، صغر
حجمها أكثر.
وجدتُ شيئاً من الخرافة في فكرته، وصدمتي أكثر:
-عيونها منزوية، وأفواهها منفرجة!
***
من منهل اللحظات المقتطعة من لهاث الأفكار، غرفتُ
غَرْفَةً رششتُها على وجه صرامتي، متهرباً من إلحاح نظرات كلبه، الذي اعتاد
نظافةً مطلقة يرعاها مالكه الذي تابع استخراج فتائل عرقه المعجونة بالسواد
والغبار والقذارة.. وفاجأني بإدراكه المتفلسف لأحواله ذاتها، ولما يدور من
حوله:
-أدري أنك تنكرني، وتستهجن قولاتي.. لكن أفكاري التي
تهلكني، أحياناً، كثيراً ما تولّد انفجارات داخلية تشبه ألعاباً نارية: صوت
ونار. ثم، لا شيء بعدهما!
وفي الحقيقة، فقد تعيَّن عليَّ تحمل انفجاراته هذه،
إذ بلغ من إدراكه للمفاسد والبغي والظلم المحيقة به، وبالواقع الذي ندور
جميعاً في رحاه، ما يُعدّ مجرّد التفكير فيه ومحاولة تغييره، جنوناً مطبقاً
وعملاً عبثياً خالصاً..
وحين بدأت في محاولة فهم حالاته وانفجاراته، منذ
زمان مضى، كان إبر الفشل الذي ينبع فشلاً ويتبعه فشلان، والإحباط الذي يلفّ
أوضاعه، ويعدي كل من حوله.. قد انغرزت بقوة، في لحم أعصابه، ففجّرت عشرات
الشواظات، أشعلت غابة جنونه.. وهو ما جعلني غارقاً معه في بحر التفكير
والتحليل، رغم ثروة كانت تنتظره بعد طرد وحرمان، ويقتضي حصوله عليها، وفاة
مالكها.
نَبَرَ:
-الحجارة التي أعادها رئيس البلدية إلى شوارعنا،
تتطارق ليلاً، وتحدثني..
-تحدثك؟.
سألته في استغراب ضاحك.
فأجاب:
-نعم!.. ولقد أسرَّت إليَّ أسراراً، خفيت عنك وعن
الآخرين، زماناً.
لم تفاجئني قولُته. خصوصاً حين فلسفها نابراً:
-أحياناً، أستمتع بحديثها الهامس إلى نجمة الصبح،
أتعلم؟
لم يكن من السهل أن أعلم أو أتوقع ما يدور في خلده.
فأنا في حضرته حالةُ انتظار وتلقِّ، لا أستطيع المشاركة إلاَّ نادراً، رغم
مشاركة نفسية ومعاناة مصير.. همسَ صغيرهُ، فيما قذائف فتائله وانفجاراته
المفاجئة، تفتح هوّاتٍ لا يمكن توقعها:
-أتلصص عليهما، وأعشق تلصصي.. أستمتع باكتشاف أسرار
تخيفني، وأرى حدثاً هائلاً لا بدَّ أن.. أنظر إلى كلبي. إنه يفهم. يفهم
ويتوقع. ألا يحدث لك شيء مشابه؟
(نظر إلى كلبه بحنان مطلق)..
بقيتُ متماسكاً. صامتاً، لا أريم، فتابع:
-حجارةُ الشارع، تُسرُّ نجمة الصبح، نبوءة. بل
نذيراً، وأمس..
توقف مفكراً، فحثثتُه:
-أمس؟..
فتابع وهو يمسِّدُ فروة كلبه بحنان مطلق:
-باحا بتفاصيل ما سيجري؛ ورأيت ذلك مخيفاً، لقد
أنذرا بوعيد شيطاني رهيب!
كنتُ أنفر من تبعاته القليلة، ومن ثرثراته اليائسة،
كلما جاء طلباً لمبيت وطعام، رغم تشاركنا في الكثير من الأحوال والأفكار..
فأخلفه في مضافتي الصغيرة، معانقاً كلبه وكوابيسه، وامتعاضي من شيء غامض
ينتظرنا معاً.. وعندما أتلكأ عن إيقاظه في الصباح المتأخر، يؤكد لي في
سخرية مازحة، أنه يعلم كل ما يدور ليلاً في خلدي وتصرفاتي، ولكنه يمتنع عن
إخباري بهذا الجزء من تفكيري، بقذارته، وخشيتي من انتقال حشراته النفسية
إلى حياتي التي يظنها أفضل حالاً.
***
في ذلك الضُّحى، حملتُ القهوة، لنحتسيها معاً، لحظة
فاجأني اختفاؤه.
لم يكن من عادته المغادرة متلصصاً. وحرتُ بين سعادتي
الخفيّة، وقلقي الغامض، قبل أن أُقرر استبقاء كلبه والاحتفاظ به حتى تحين
عودتُه، ولم يكذب الكلبُ خبراً، إذ تمسح بي، وفاء إلى حجري، موافقاً على
أفكاري، بعد أن دار عدة دورات يبحث في أنحاء البيت عن سيده..
ولم تمرَّ الضحى دون مزيد من القلق والمشاكل..
فقد وصلت الشرطة قبل مغادرتي، وسألتني عن صاحبي..
لكن إجابتي لم تشفِ منها غليلاً، إذا اعتبرته مفقوداً، وحمّلتني مسؤولية
إحضاره، ومراجعة المخفر، معه، قبل حلول المغيب.
قال رئيسهم:
-والده غادر دنيانا لتوّه، وصاحبك وضع يده على مال
وأملاك بعد طول عقود وتوحش ومسغبة..
فكرتُ في كلماته متشككاً.. ورغم معرفتي بغنى والده،
إلاَّ أنني لم أعتد تصديق ذوي الأزرار اللامعة.
سألته بعد تفكير:
-لكن، ما الذي أدراكم أنه بات ليلته عندي؟
لم يجب، وإنما صوّب إليّ رصاصة من غموض، لم يطل
بعدها استغرابي إذ علمت أن صاحبي كان مراقباً على مدار الساعة، وأن الشرطة
كانت ترجح أموراً على أخرى، فهمتُ أنها تروح بين ادعاء الجنون والتطرف
والاستهبال مما دفع إلى وضعي، أنا ذاتي، على قائمة الشرف.
بعدئذٍ، وقد نظر رئيس المخفر نحوي في دونية
واستخفاف، وهممت بالمغادرة، صفعني مشهد صاعق.
لقد كان هو –صديقي- بلباس الشرطة. نظيفٌ ومرتَّب،
وذو رائحة صابون أجنبي، ودون فتائل معجونة بالعرق..
لحظتئذٍ، التصق معدن حذائي بالأرضية المغناطيسية،
لكن صراخ رئيس المخفر، فصل التيار عنها:
-رقيب معروف. تعال هنا!.
وبما أنني أدركت استحالة التوأمة التي أعلم بعدم
وجودها في حالته، فقد أحلتُ الأمر إلى التشابه المطلق، المريب، نظراً لما
فاجأني من تطابق الصوت والحركات والملامح والمشية والضحكة الجانبية
الساخرة.. ولم ألبث أن تأكدتُ أن الرقيب معروف هو من كان يسعى ورائي
مراقباً، طوال فترة ماضية.
***
دام البحث عن المفقود، مثلما استمرت المراقبة
والمخاتلة، أياماً، قبل أن يصل محام زعم أنه اكتشف مكان صاحبي.. لكن ما
يحول دون النهاية السعيدة – تابع المحامي الذي لم أفهم من عيّنه على وجه
الدقة -، هو رفض صديقي الاقتناع بأنه بات مالكاً لثروة كبيرة، إذ هو يحيّر
الجميع بعدم ظهوره ويبقى متوارياً يحيّر الجميع.
قال المحامي وكأنه عثر على كنز:
-أنت! الآن، حلَّ دورك.
لكن العثور على صديقي، استمرَّ مستحيلاً، في حين
تابع شبيهه الشرطي كابوس رقابته.. وفيما ألفني الكلبُ إلى حد منعني من
إلقاء ملابس صديقي في حاوية القمامة، تبينتُ أن الرقيب كان –مرة بعد أخرى-
يرمقني من بعيد، بريبة شديدة، ثم يخطّ في دفتره شيئاً، وهو ينصرف، لأعود
إلى مصادفته في مكان غير منتظر.
هزّاع ضَبانيي
وصل هزّاع ضباني إلى المدينة صباحاً, وغادرها في
المساء.
ما بينهما فعل أشياء كثيرة... ظلت غامضة وغير معروفة
على وجه التخصيص, غير أنها جعلت ابنتَه تتوقفُ عن متابعة دراستها
الابتدائية في لندن, وتعود متحسِّرة إلى أرض الوطن على عجل, وأخاه الكاتب
يكسر قلمه ويمزق أوراقه ويسلّم كلّ ما ألَّفه ونشره من كتب لنيران المواقد,
وابنَ عمِّه يطلِّق ثلاثاً من زوجاته المنجبات, ويطلِق أجراءَه المخلصين
للذئاب. وابنَ أخيه التاجرَ يفتح صناديقه ويبتاع بموجوداتها لحوماً وزعها
على فقراء المدينة, حتى فرغت تلك الصناديق وأفلس.
أمُّه ذاتُها أصيبتْ بالرهقة والخرس لدى وصوله
واستقباله, وسرعان ما فقدت عويلها.
شقيقة هزّاع ضباني الكبرى الأرمل, من جهتها, توقفت
حالاً, عن رعاية أولادِها القصَّر في باريس, وأسلمتهم لكلاب الشانزيليزيه
المدلَّلة, وهجرت قصرها الذي كلَّفها ملياراً, وركِبَتْ أولَ جناح عائد إلى
رحاب الوطن, لتبلغ مدينتَها مع بشائر الغسق.
فما الذي فعله هزّاع ضباني, حتى يحدث حوله كلُّ هذا
الضجيج؟
لم يخبرْ أحدٌ أحداً, وظلَّ الأمر في غياهب أسرار
محدَثي.. إلاّ أنه تبيَّن فيما بعد أن لهزاع ضباني علاقة بتجارة جلود
الأبقار المصابة بجنونها, وبدورة حياتها الإسكافية.
هزّاع ضَّباني منتجاً
تبيَّن لضباني أنها الموضة في التجارة. فرغب في
إنتاج فيلمٍ سينمائي.
وبما أنه تاجر ذو مبادىء, لا يشقُّ له غبار, ولا
تستطيع فرصة مهما ضؤلتْ, أن تفلتْ من براثنه, فقد استشارَ, وشاركَ, وعَقْدَ
شراكات, ثم تراجع عنها, وكتب عقوداً, ثم فسخها, وجابَ البلاد, وتعرَّف إلى
العباد, وجاس في عوالم المنتجين, والكتّاب, والفنانين, والمخرجين.. وفرض
شروطه على كل من تصدّى للتعامل معه, ثم تراجعَ عنها, ثم أكَّدها واعتمدَها,
وما لبثَ أن تملَّص من جديد, حتى إذا اطمأنَّ إلى احترم رغباته وطلباته,
قام بالتراجع عمّا سبق واعتمده, دون أيِّ ندم وتعويض.
عندما اقتنى نصَّ فيلمٍ, اطمأنَّ إلى خلوِّه مما
اعتبره عثراتٍ, وشتاتمَ, وكلماتٍ تحتمل تفسيرين, وإثاراتٍ رخيصة وغالية...
راح يفرض شروط تعديلات جديدة على الكاتب ويسمع المخرج شروطهُ وتوجيهاتِهِ,
فأصغيا والقرفُ يصدر إيحاءاته.
وبما أننا لم نكن على دراية كافية بمثل تلك الشروط,
فقد أشرعنا آذانَنا وأصغَيْنا, وتمكنَّا من سماع أشياءٍ, وفاتَتنا أخرى,
وها نحن نسجِّل:
11) أنا أتصدّى للإصلاح الاجتماعي, فتنبَّهوا إلى
ملاحظاتي ورغباتي..
12) إذا ما سرق الحرامي في الفيلم والمسلسل, فلنخفِ
هذه الفضيحة عن عيون الأجيال, لكي لا تفعل تأثيرات ضارة وإيحاءات مؤذية.
13) إذا ارتشى شرطي, فلنعمد إلى إخفاء رشوته, لكي لا
تتعلم الأجيال مما يحدث, دروساً غير مستحبة. فالسينما والتلفزيون أداتان
تربويتان كالمدرسة سواء بسواء.
14) لا أريد رؤية سيجارة أو نرجيلة يدخنها ممثل.
15) لا كلمة صريحة مما يتداول به العامة والزعران,
ولتكن الحوارات كلها راضية مرضية, شبيهة بأحاديث الصحافة.
16) لا يختليَنَّ بامرأة في غرفة واحدة, والبابُ
مغلق, حتى ولو كانتْ زوجتُه.
17) لا قبلة بين رجل وامرأة.. حتى العائد من سفر
بعيد طويل, لا يقبلنَّ وجهَ أمه, لكي لا تحدث أي إيحاءات خادشة للحياء.
18) لن أسمح بأن تضع ممثلة يدها في يدِ ممثل, وإذا
غافلني المخرج وفعلها, فسأطرده, لأنه يكون بهذا قد وضع إيحاءات جنسية لا
أسمح بها.
19) أرفض أن يسمّى الحشيش حشيشاً, والمخدرات بهذا
الاسم, فلا داعي أن يُذْكَرَ واحد من الممنوعات صراحة بالاسم, ومهما كان
العذر والسبب.
20) على العفة وعدم الملامسة أن تغلِّفَ قصص الحب,
وأن تكون نادرة ومحايدة.
21) لا داعي لممارسة العنف بين المتخاصمين
والمتقاتلين والمختلفين, وأن يقبَلوا بتداعي المصالحة وتقبيل اللحى عند أي
بادرة, مهما كانت دواعي النص.
22) عليك ـ وكان كلام ضباني موجهاً لكاتبه ـ إنهاء
أي جملة, طويلة كانت أم قصيرة ـ بلفتةٍ رضيَّة مَرضيَّة, تقبل بها أكثرُ
الرقابات الملتزمة تشدداً وحرصاً.
23) إذا أرادتَ وضع بعض الأغاني والرقصات في الفيلم,
فلتلزم ما أمكن من دواعي الاحتشام.
24) على شرطي الفيلم ـ إذا كان موجوداً, أن يأمر
فيطاع, وأن يتحدث مع المجرمين, حديثاً غاية في الاحترام والتقدير, خصوصاً
إذا كانوا من النجوم أو من ممثلي الدرجة الأولى, فهذا يلزم المتفرج بأدب
الحديث.
أنا المنتج, أيها الكاتب والمخرج, فادحشا اسمي في
الثنايا, وتدبّرا هذا بالبراعة الممكنة.
أخيراً, وعندما اقترب ضباني بفمه من أذن كاتبه, وهمس
فيه شيئاً, لاحظنا أنه عكس ألواناً من الضيق, والانفراج, والحيرة, والرغبة
في التعبير المباشر, وتمنّى مغادرة المكان على عجل, ثم ـ وياللغرابة ـ جمع
قبضة يده, شَكْلَ من تهيّأ للكم كيس من التبن موضوع في حظيرة للأغنام.
|