الرخيص الغالي
قبل أن تشرق الشمس في ذلك اليوم ويطير الندى عن تراب الطريق كان
هناك رجل يشق طريقه بين المزارع على ظهر حمار آملا أن يصل إلى "المركز" قبل
أن يفوت الأوان.
وكان الرجل طويلاً نحيلاً، يركب حماراً قصير القامة، ويرتدي جلباباً
من الصوف قد انقضت أيام عزه وولّت سنوات مجده، لوّحته الشمس من على
الكتفيْن، فاتخذ النسيج لوناً آخر، وتكاد رجلاه تلمسان الأرض لطول ساقيه
وقصر قامة الدابة. وفي نعله البالي عدةُ رقع، وفي يده عصا من الخيزران
تُشبه عصا "المايسترو" كان يضرب بها عنق الدابة من آن لآن كلما أفاق من
الأفكار.
وهناك موسيقا بدائية تنبعث من حقول الذرة كلما شخلل النسيم بالورق
يتخللها وقع الحوافر على الأرض أو شقشقة عصفور يفر من من شجرة إلى شجرة،
لكن هذه السيمفونية الصباحية لم تكن قادرة على أن تسحب هذا الراكب من غمار
أفكاره، لأنه كان مشغولاً بما هو بعيد عن الأنغام والوجدان والقلب والحب.
كان مشغولاً بحسبة، فهو يجمع ويطرح ويُوازن بين الأرقام، ويعدُّ
مطالب زوجته التي ودّعته عند الباب وهو ذاهب إلى البندر وطلبت منه أقة من
البلح الأمهات وعلى وجهها صفرة النفساء.
كان "عم هاشم يحسب في نفسه قائلا:
ـ إنه ريال .. نعم ريال، لا بأس به. سأحصل عليه فوراً بعد أن أفرغ
من العمل الذي أنا ذاهب من أجله. وقبيل عودتي إلى داري سأملأ هذا المنديل
الكبير بخيرات البندر. لقد طلبت زوجتي بلحاً، وطلب أحد الأولاد عجوة، وطلب
الثاني جوافة .. على أن اللحم الجملي في هذه المدينة الصغيرة جيد .. جدا ..
و ..".
وبلع ريقه المتحلِّب، وزجر حماره الواني الخطوات حتى لا يفوته
الوقت، ثم لسعه بالعصا وحرك رجليه الطويلتين كما يُحركهما الفارس بالمهماز،
ثم عاودته الأفكار. إن "عم هاشم" رجل غليظ القلب يُعلِّل دائماً قسوته على
الناس بقسوة الناس عليه: "كيف تجني الرمان من شجرة الحنظل؟" هكذا كان يقول.
وكان مُعادياً للأقدار أشدّ العداء، يكاد يلعنها حتى في صلاته ..
ويتوهّم أنها نصبت له في كل مرحلة فخا لا تراه عيناه.
ولما كانت الدنيا تأخذ لون المنظار الذي يُغطِّي عيوننا فقد بدت له
خضرة الحقول سوداء، وصفاء السماء دُكنة وغبرة، وتفاعلت نفس "عم هاشم" مع
أوهامه فأخذت كل منهما من صاحبتها وأعطت حتى فسد الطعمان. وأصبح المسكين
ينظر لمآسي الناس بشماتة وراحة بال كأنما كان يأمل أن تعمم الأقدار بلواه
فلا يبقى في القرية قلب سعيد واحد.
ولما بزغت الشمس كان قد بلغ منتصف المسافة، وبدا الطريق في هذه
البقعة موحشاً ضيقاً وحقول الذرة على الصفين كأنها غابات. وكان الراكب
مشغولا بنفس الحسبة غير منتبه لشيء ولو أن الشمس الوليدة على الأفق توقظ
الدنيا برفق وتُدفئها بحنان. لكنه أحس كأن الحمار يتململ من تحته، وزاد
تململه حتى صار ضجراً. وبنظرة إلى الوراء رأى كلباً كبير الجسم هزيلاً كأنه
مريض زائغ العينين يُداعب رجلي دابته من خلف. ولم يزد "عم هاشم" على أن زجر
الكلب ثم حث حماره على المشي. فوثب الكلب إلى الحقول في صمت غريب، وقطع
الراكب بضع مئات من الأمتار ثم رآه مرة أخرى، كان كأنه قد تسلَّح بشيء،
والشراسة الحيوانية في عينيه تُنذر بشرٍّ جديد. وقبل أن يرتفع صوت الراكب
بكلمة كانت أنياب الكلب قد نشبت في مؤخر رجل الحمار، فتوقف، ونزل صاحبه
ليُدافع عنه، فما كان جزاؤه إلا أن أعمل أظافره في جلبابه الصوفي الذي ولّت
أيام عزه وانقضت أيام مجده، فحدث فيه من الأمام ـ من حيث لا يستطيع أن
يستره ـ قطْع كبير من المتعذر أن يمشي به ـ كضربة القضاء ـ بسرعة لا تدع
للبديهة مجالاً.
وقعت هذه الحوادث واختفى المعتدي في حقول الذرة، ولم يحدث أن نبح
مرة واحدة إلا بعد أن غاب داخل الحقول. هنا لك صدرت منه نبحتان مخنوقتان
حزينتان كأنهما تأبين ميت، خشخشت بعدهما الحقول، وغرّد في إثرهما عصفور،
وتعالى بعد ذلك في الفضاء أنين ساقية.
ووقف "عم هاشم" حائراً، مختل التوازن فأخرج منديله الكبير الذي كان
يأمل أن يعود به مليئاً بخيرات المدينة وحوّله ضمادة لجرح الدابة، ثم ألقى
نظرة على جلبابه الوحيد، وقَدَّر التلف الذي أصابه، وانبرى يُعاتب الأقدار.
ولم يكن هناك مجال للرجوع لأن المسافة الباقية أقل بكثير من تلك
التي قطعها .. خير له أن يذهب حتى لا يخسر كل شيء .. على أن إصلاح الجلباب
ضرورة أخرى تُحتِّم عليه المسير في طريقه، ثم عاد يحسب قائلا:
"إنه ريال على كل حال .. سيخف نزف الدم شيئاً فشيئاً. وسيصلح
الجلباب بعدة قروش. والباقي أستطيع أن أحقق به معظم الطلبات".
والمهمة التي كان ذاهباً في سبيلها مهمة غير مشروعة، لكن ..
إن مشروعية الأعمال وعدم مشروعيتها تختلف في ميزان الناس، وإذا اختل
ميزاننا مرّة بعد مرّة، تحتَّم علينا أن نقضي مدّة معقولة حتى يعود إليه
ضبطه، وحتى نُغَيِّر بأيدينا من جديد "صنجاته" القديمة، لذلك فإن الذين
يهبطون المنحدر قلما يتوقفون إلا إذا وصلوا إلى الحضيض. وكان "عم هاشم" يسب
الطرفين معاً، والحمار يعرج. كان يسب الذين سيمدُّ إليهم يده بالمساعدة
والذين سيمدُّ إليهم يده بالأذى. وأخرج من جيبه سيجاراً ليشعلها، وبعد أن
وضعها في فمه تذكَّر أنه نسي الكبريت، فتنهد في صمت، ثم عاد لأفكاره قائلا:
"هناك في السلسلة حلقة مفقودة، فقد كان هناك شبه مودّة بين الدائن
والمدين وانقطعت فجأة، وتكلَّم الناس كما هي عادة الناس، وعلّقوا على
الموضوع، لكن .. أنا أُرجِّح أن الدائن على حق. لست على علم بتفاصيل
الحوادث، ولكنها كلمة، سأقولها كما هي العادة أمام القضاء، ثم أخرج ..".
وكان قد دخل البندر في هذه الوهلة. وكانت الحياة قد دبَّت في الشارع
الرئيسي، وبدت أقفاص البلح الأمهات مرصوصة كأن فيها كهرمانا، وأفخاذ اللحم
على واجهة المحال تُنبِّه شهية المعدة، وهناك أشياء أخرى لا قِبل له
بشرائها.
وعرَّج أولاً ـ وقبل كل شيء ـ على دكان خياط، فلفّق جلبابه، ثم اتجه
إلى المحكمة، وقابله الدائن، وشدَّ على يده، وبرقت عيناه بمعنى الوفاء
بالوعد، ومرّت عليه المرأة المدينة ..
كانت في خريف عمرها، تتعثّر في جلباب قروي طويل، داست عتبة المحكمة
للمرة الأولى، فدمعت عيناها لحيف الزمن وقلة الرجاء وكثرة العيال. وألقت
نظرة خاطفة فارغة من كل أمل على وجه الرجلين، الدائن منهما والشاهد، ثم خطت
إلى الدّاخل يتبعها غلام في العاشرة من عمره، على وجهه ملامح أمه، وفي
عينيه انكسار اليتامى.
وكانت المرأة ذات وسامة، تدرك الأبصار حين تقع عليها أن الدنيا جارت
عليها فجأة، وأنها تُجاهد. ولم يكن في وجهها بادرة واحدة من بوادر
الاستسلام، نعم إنك قد ترى على وجهها ذلا، ولكنه في إطار من الصبر، وتحت ظل
رجاء كبير في قوة مبهمة، لكنها عظيمة.
وبدت على وجه الدائن إمارات الغيظ، وطوّح عصاه ذات المقبض والحلية،
وسار في كلِّ اتجاه يُضيِّع الوقت. وجلس "عم هاشم" في فناء المحكمة يستعيد
ما سمعه من الناس.
إن هذا الذي جاء يشهد معه ضدّ هذه المرأة بأنها مدينة بعشرة جنيهات
أرملة لفلاح مسكين دهمه الموت فترك أربعة من الأولاد أكبرهم في سن العاشرة.
ودخل الدائن في ثياب الملائكة في هذه الدار بعد وفاة صاحبها، وفجأة أراد أن
يلبس ملابس الشياطين، وبخلت عليه المرأة بما اشتهاه، فانقطعت العلاقة، لكنه
عاد إليهم في ثياب الملائكة مرة أخرى، ثم ما لبث أن ظهرت خبيئة نفسه، فلقي
من الفقيرة الحرة التي "تجوع ولا تأكل بثدييها" ما اعتبره مهيناً للكرامة،
فقام النزاع ووصل بهما الأمر إلى حد أن أوقفها أمام القضاء.
ولأول مرة في تاريخ "ذمة عم هاشم" شعر بقشعريرة تسري في كيانه لما
ارتفع صوت الحاجب مناديا عليه، لكأنَّ صحوةً غير منتظرة دبَّت في ضميره ..
والأرملة الفقيرة جالسة وفي عينيها شجاعة ودموع ..
وكان القاضي جديداً على المحكمة، كان شديد الهيبة، شهي السمرة، يمسح
شاربه الأسود المائل إلى الغزارة، وينظر بعينين ثابتتين. ولمّا مثل أمامه
"عم هاشم" حملق فيه طويلاً كأنه يلتمس في ملامحه رجلاً كان يعرفه. ثم طلب
بصوت هادئ النبرات القسم المعروف:
"والله العظيم أقول الحق".
وأقسمه الشاهد، ثم بحث عن ريقه فلم يجده. وأشعة قوية من عينين
سمراوين تنبعث باستمرار. والسكون مخيم كأنما هبط الظلام .. إلا من سعلة
لرجل كهل كانت أشبه بلفظ الأنفاس.
ولم يتكلم "عم هاشم" فوراً، واستمر برهة أخرى لأن نباح كلب غضبان
تعالى خلف النافذة آتيا من الحقول. وكان النباح حاداً أول الأمر، ثم استحال
بعد قليل إلى عواء، كأنه نواح، وجعل يقترب شيئاً فشيئا حتى بدا التأذِّي
على وجه القاضي، واستحث الشاهد على أن يتكلّم.
كان "عم هاشم" في انتباه من يستمع صوت النذير .. خُيِّل إليه أن
الحيوان الذي اعترض طريق مجيئه قد تعقّبه، وربض له تحت الشباك. ونظر الشاهد
إلى الأمام فرأى العينين السوداوين لا تزالان متربصتين له. وندت من خلفه
تنهدة عميقة خرجت من صدر مهموم .. لم يسع الشاهد إلا أن يقول الحق.
ولم يكن هذا الحق في صف الدائن، بل كان في صف الأرملة، ولمّا خرج
المتخاصمون كانت المرأة تدعو "لعم هاشم"، وكان الدائن يُعيِّره بتاريخ ذمته
ـ باختصار ـ بماضيه المجيد. لكن الرجل لم يُعلِّق بكلمة ..
وفي طريق العودة بدا كهرمان البلح الأمهات يخطف البصر، وعناقيد
الحيّاني تُحيِّر الألباب، واللحم الجملي السمين يُثير جنون المعدة. لكن
صوت الضمير كان لا يزال عالياً فلوى وجهه عن كل ذلك بشيء من الاشمئزاز،
وتذكّر الأرملة التي رضيت بذل الحاجة ومرارة العوز، ولم ترض أن تبيع
الغالي.
وتمتم الشاهد: صحيح .. آه .. يجب ألاّ نبيع الغالي رخيصاً، هيه ..
وكل الذين هانوا في حياتهم باعوا الغالي رخيصاً أول الأمر.
وسكت. سرح ذهنه يجمع الشواهد على هذه القضية. فتذكّر زكية بنت عبد
الموجود التي باعت الغالي رخيصاً لأحد الناس في ليلة ظلماء فعاشت بقية
عمرها ذليلة. وتذكّر فاطمة بنت عبد الخالق التي تركت أولادها بعد وفاة
زوجها صغاراً كأنهم أفراخ دجاجة وتزوّجت رجلاً جديداً. ومرّت الأعوام وكبر
الأطفال، وشاخ الشباب، وأصبحوا يمقتونها لأنها لم تحبهم في ضعفهم، فمصمص
شفتيه ..
ثم ذكر رجلاُ آخر ظل يتصعلك لأحد الأغنياء، ويسير وراءه تابعاً
ذليلاً من أجل تفاهات، وبعد حين من الزمن خلعه الغني كالشيء البالي، بعد أن
كان يتبعه مثل ظله.
ومصمص بشفتيه مرة أخرى. وفطن إلى أنه على ظهر الحمار وهو يعرج به،
والطريق ضيق، وحقول الذرة على الصفين، فقال في نفسه:
"من طويل وأنا أبيع الغالي رخيصاً، فلماذا؟"
وتحت شجرة وحيدة رأى امرأة تستريح، كانت تمسح عرقها بطرف طرحتها
لأنها قطعت المسافة ماشية، وكانت هي المدينة التي رآها منذ ساعة وبجانبها
ولدها، وقد جلس وفي إحدى يديه خبز وفي اليد الأخرى خيارة يأكل فيها.
وسمعها تدعو له وهو مار عليها، فرفع وجهه إلى السماء طالباً من الله
أن يستجيب. وتصالح مع الأقدار. وحول البقعة التي هاجمه فيها الكلب أثناء
ذهابه رآه واقفاً مرة أخرى. ولم يكن على الطريق بل كان عند مدخل الحقل وقد
بدا نصفه الأمامي فحسب. وكان فاغراً فاه يلهث بعنف، وعيناه الزائغتان
خاليتان من كل مدلول. وتأهّب الراكب للدفاع عن نفسه لكن الحيوان لم يُغادر
مكانه. وبعد أن قطع "عم هاشم" بضع مئات من الأمتار رأى الكلب يدخل إلى
الحقول. ولمّا غاب عبرها سمعه ينبح .. مرّة أو مرتين عاد بعدها إلى الصمت
أشد عمقاً وسكوناً.
وعند باب الدار رأى طفلين ينتظران. وكنت يد أبيهما فارغة مما طلبا،
فرقصت على وجهيهما خيبة الأمل. لكنه قال لهما: "إن أحد اللصوص هجم عليه
أثناء الطريق وسلبه كل شيء".
وأراهما آثار المعركة. فلما اعترض ابنه الصغير سائلاً:
ـ ولماذا يا أبي يشتغل بعض الناس لصوصاً؟
حمله إلى الداخل ومشى يُقبِّله، واحتفظ لنفسه بالجواب.
قبل أن تشرق الشمس في ذلك اليوم ويطير الندى عن تراب الطريق كان
هناك رجل يشق طريقه بين المزارع على ظهر حمار آملا أن يصل إلى "المركز" قبل
أن يفوت الأوان.
وكان الرجل طويلاً نحيلاً، يركب حماراً قصير القامة، ويرتدي جلباباً
من الصوف قد انقضت أيام عزه وولّت سنوات مجده، لوّحته الشمس من على
الكتفيْن، فاتخذ النسيج لوناً آخر، وتكاد رجلاه تلمسان الأرض لطول ساقيه
وقصر قامة الدابة. وفي نعله البالي عدةُ رقع، وفي يده عصا من الخيزران
تُشبه عصا "المايسترو" كان يضرب بها عنق الدابة من آن لآن كلما أفاق من
الأفكار.
وهناك موسيقا بدائية تنبعث من حقول الذرة كلما شخلل النسيم بالورق
يتخللها وقع الحوافر على الأرض أو شقشقة عصفور يفر من من شجرة إلى شجرة،
لكن هذه السيمفونية الصباحية لم تكن قادرة على أن تسحب هذا الراكب من غمار
أفكاره، لأنه كان مشغولاً بما هو بعيد عن الأنغام والوجدان والقلب والحب.
كان مشغولاً بحسبة، فهو يجمع ويطرح ويُوازن بين الأرقام، ويعدُّ
مطالب زوجته التي ودّعته عند الباب وهو ذاهب إلى البندر وطلبت منه أقة من
البلح الأمهات وعلى وجهها صفرة النفساء.
كان "عم هاشم يحسب في نفسه قائلا:
ـ إنه ريال .. نعم ريال، لا بأس به. سأحصل عليه فوراً بعد أن أفرغ
من العمل الذي أنا ذاهب من أجله. وقبيل عودتي إلى داري سأملأ هذا المنديل
الكبير بخيرات البندر. لقد طلبت زوجتي بلحاً، وطلب أحد الأولاد عجوة، وطلب
الثاني جوافة .. على أن اللحم الجملي في هذه المدينة الصغيرة جيد .. جدا ..
و ..".
وبلع ريقه المتحلِّب، وزجر حماره الواني الخطوات حتى لا يفوته
الوقت، ثم لسعه بالعصا وحرك رجليه الطويلتين كما يُحركهما الفارس بالمهماز،
ثم عاودته الأفكار. إن "عم هاشم" رجل غليظ القلب يُعلِّل دائماً قسوته على
الناس بقسوة الناس عليه: "كيف تجني الرمان من شجرة الحنظل؟" هكذا كان يقول.
وكان مُعادياً للأقدار أشدّ العداء، يكاد يلعنها حتى في صلاته ..
ويتوهّم أنها نصبت له في كل مرحلة فخا لا تراه عيناه.
ولما كانت الدنيا تأخذ لون المنظار الذي يُغطِّي عيوننا فقد بدت له
خضرة الحقول سوداء، وصفاء السماء دُكنة وغبرة، وتفاعلت نفس "عم هاشم" مع
أوهامه فأخذت كل منهما من صاحبتها وأعطت حتى فسد الطعمان. وأصبح المسكين
ينظر لمآسي الناس بشماتة وراحة بال كأنما كان يأمل أن تعمم الأقدار بلواه
فلا يبقى في القرية قلب سعيد واحد.
ولما بزغت الشمس كان قد بلغ منتصف المسافة، وبدا الطريق في هذه
البقعة موحشاً ضيقاً وحقول الذرة على الصفين كأنها غابات. وكان الراكب
مشغولا بنفس الحسبة غير منتبه لشيء ولو أن الشمس الوليدة على الأفق توقظ
الدنيا برفق وتُدفئها بحنان. لكنه أحس كأن الحمار يتململ من تحته، وزاد
تململه حتى صار ضجراً. وبنظرة إلى الوراء رأى كلباً كبير الجسم هزيلاً كأنه
مريض زائغ العينين يُداعب رجلي دابته من خلف. ولم يزد "عم هاشم" على أن زجر
الكلب ثم حث حماره على المشي. فوثب الكلب إلى الحقول في صمت غريب، وقطع
الراكب بضع مئات من الأمتار ثم رآه مرة أخرى، كان كأنه قد تسلَّح بشيء،
والشراسة الحيوانية في عينيه تُنذر بشرٍّ جديد. وقبل أن يرتفع صوت الراكب
بكلمة كانت أنياب الكلب قد نشبت في مؤخر رجل الحمار، فتوقف، ونزل صاحبه
ليُدافع عنه، فما كان جزاؤه إلا أن أعمل أظافره في جلبابه الصوفي الذي ولّت
أيام عزه وانقضت أيام مجده، فحدث فيه من الأمام ـ من حيث لا يستطيع أن
يستره ـ قطْع كبير من المتعذر أن يمشي به ـ كضربة القضاء ـ بسرعة لا تدع
للبديهة مجالاً.
وقعت هذه الحوادث واختفى المعتدي في حقول الذرة، ولم يحدث أن نبح
مرة واحدة إلا بعد أن غاب داخل الحقول. هنا لك صدرت منه نبحتان مخنوقتان
حزينتان كأنهما تأبين ميت، خشخشت بعدهما الحقول، وغرّد في إثرهما عصفور،
وتعالى بعد ذلك في الفضاء أنين ساقية.
ووقف "عم هاشم" حائراً، مختل التوازن فأخرج منديله الكبير الذي كان
يأمل أن يعود به مليئاً بخيرات المدينة وحوّله ضمادة لجرح الدابة، ثم ألقى
نظرة على جلبابه الوحيد، وقَدَّر التلف الذي أصابه، وانبرى يُعاتب الأقدار.
ولم يكن هناك مجال للرجوع لأن المسافة الباقية أقل بكثير من تلك
التي قطعها .. خير له أن يذهب حتى لا يخسر كل شيء .. على أن إصلاح الجلباب
ضرورة أخرى تُحتِّم عليه المسير في طريقه، ثم عاد يحسب قائلا:
"إنه ريال على كل حال .. سيخف نزف الدم شيئاً فشيئاً. وسيصلح
الجلباب بعدة قروش. والباقي أستطيع أن أحقق به معظم الطلبات".
والمهمة التي كان ذاهباً في سبيلها مهمة غير مشروعة، لكن ..
إن مشروعية الأعمال وعدم مشروعيتها تختلف في ميزان الناس، وإذا اختل
ميزاننا مرّة بعد مرّة، تحتَّم علينا أن نقضي مدّة معقولة حتى يعود إليه
ضبطه، وحتى نُغَيِّر بأيدينا من جديد "صنجاته" القديمة، لذلك فإن الذين
يهبطون المنحدر قلما يتوقفون إلا إذا وصلوا إلى الحضيض. وكان "عم هاشم" يسب
الطرفين معاً، والحمار يعرج. كان يسب الذين سيمدُّ إليهم يده بالمساعدة
والذين سيمدُّ إليهم يده بالأذى. وأخرج من جيبه سيجاراً ليشعلها، وبعد أن
وضعها في فمه تذكَّر أنه نسي الكبريت، فتنهد في صمت، ثم عاد لأفكاره قائلا:
"هناك في السلسلة حلقة مفقودة، فقد كان هناك شبه مودّة بين الدائن
والمدين وانقطعت فجأة، وتكلَّم الناس كما هي عادة الناس، وعلّقوا على
الموضوع، لكن .. أنا أُرجِّح أن الدائن على حق. لست على علم بتفاصيل
الحوادث، ولكنها كلمة، سأقولها كما هي العادة أمام القضاء، ثم أخرج ..".
وكان قد دخل البندر في هذه الوهلة. وكانت الحياة قد دبَّت في الشارع
الرئيسي، وبدت أقفاص البلح الأمهات مرصوصة كأن فيها كهرمانا، وأفخاذ اللحم
على واجهة المحال تُنبِّه شهية المعدة، وهناك أشياء أخرى لا قِبل له
بشرائها.
وعرَّج أولاً ـ وقبل كل شيء ـ على دكان خياط، فلفّق جلبابه، ثم اتجه
إلى المحكمة، وقابله الدائن، وشدَّ على يده، وبرقت عيناه بمعنى الوفاء
بالوعد، ومرّت عليه المرأة المدينة ..
كانت في خريف عمرها، تتعثّر في جلباب قروي طويل، داست عتبة المحكمة
للمرة الأولى، فدمعت عيناها لحيف الزمن وقلة الرجاء وكثرة العيال. وألقت
نظرة خاطفة فارغة من كل أمل على وجه الرجلين، الدائن منهما والشاهد، ثم خطت
إلى الدّاخل يتبعها غلام في العاشرة من عمره، على وجهه ملامح أمه، وفي
عينيه انكسار اليتامى.
وكانت المرأة ذات وسامة، تدرك الأبصار حين تقع عليها أن الدنيا جارت
عليها فجأة، وأنها تُجاهد. ولم يكن في وجهها بادرة واحدة من بوادر
الاستسلام، نعم إنك قد ترى على وجهها ذلا، ولكنه في إطار من الصبر، وتحت ظل
رجاء كبير في قوة مبهمة، لكنها عظيمة.
وبدت على وجه الدائن إمارات الغيظ، وطوّح عصاه ذات المقبض والحلية،
وسار في كلِّ اتجاه يُضيِّع الوقت. وجلس "عم هاشم" في فناء المحكمة يستعيد
ما سمعه من الناس.
إن هذا الذي جاء يشهد معه ضدّ هذه المرأة بأنها مدينة بعشرة جنيهات
أرملة لفلاح مسكين دهمه الموت فترك أربعة من الأولاد أكبرهم في سن العاشرة.
ودخل الدائن في ثياب الملائكة في هذه الدار بعد وفاة صاحبها، وفجأة أراد أن
يلبس ملابس الشياطين، وبخلت عليه المرأة بما اشتهاه، فانقطعت العلاقة، لكنه
عاد إليهم في ثياب الملائكة مرة أخرى، ثم ما لبث أن ظهرت خبيئة نفسه، فلقي
من الفقيرة الحرة التي "تجوع ولا تأكل بثدييها" ما اعتبره مهيناً للكرامة،
فقام النزاع ووصل بهما الأمر إلى حد أن أوقفها أمام القضاء.
ولأول مرة في تاريخ "ذمة عم هاشم" شعر بقشعريرة تسري في كيانه لما
ارتفع صوت الحاجب مناديا عليه، لكأنَّ صحوةً غير منتظرة دبَّت في ضميره ..
والأرملة الفقيرة جالسة وفي عينيها شجاعة ودموع ..
وكان القاضي جديداً على المحكمة، كان شديد الهيبة، شهي السمرة، يمسح
شاربه الأسود المائل إلى الغزارة، وينظر بعينين ثابتتين. ولمّا مثل أمامه
"عم هاشم" حملق فيه طويلاً كأنه يلتمس في ملامحه رجلاً كان يعرفه. ثم طلب
بصوت هادئ النبرات القسم المعروف:
"والله العظيم أقول الحق".
وأقسمه الشاهد، ثم بحث عن ريقه فلم يجده. وأشعة قوية من عينين
سمراوين تنبعث باستمرار. والسكون مخيم كأنما هبط الظلام .. إلا من سعلة
لرجل كهل كانت أشبه بلفظ الأنفاس.
ولم يتكلم "عم هاشم" فوراً، واستمر برهة أخرى لأن نباح كلب غضبان
تعالى خلف النافذة آتيا من الحقول. وكان النباح حاداً أول الأمر، ثم استحال
بعد قليل إلى عواء، كأنه نواح، وجعل يقترب شيئاً فشيئا حتى بدا التأذِّي
على وجه القاضي، واستحث الشاهد على أن يتكلّم.
كان "عم هاشم" في انتباه من يستمع صوت النذير .. خُيِّل إليه أن
الحيوان الذي اعترض طريق مجيئه قد تعقّبه، وربض له تحت الشباك. ونظر الشاهد
إلى الأمام فرأى العينين السوداوين لا تزالان متربصتين له. وندت من خلفه
تنهدة عميقة خرجت من صدر مهموم .. لم يسع الشاهد إلا أن يقول الحق.
ولم يكن هذا الحق في صف الدائن، بل كان في صف الأرملة، ولمّا خرج
المتخاصمون كانت المرأة تدعو "لعم هاشم"، وكان الدائن يُعيِّره بتاريخ ذمته
ـ باختصار ـ بماضيه المجيد. لكن الرجل لم يُعلِّق بكلمة ..
وفي طريق العودة بدا كهرمان البلح الأمهات يخطف البصر، وعناقيد
الحيّاني تُحيِّر الألباب، واللحم الجملي السمين يُثير جنون المعدة. لكن
صوت الضمير كان لا يزال عالياً فلوى وجهه عن كل ذلك بشيء من الاشمئزاز،
وتذكّر الأرملة التي رضيت بذل الحاجة ومرارة العوز، ولم ترض أن تبيع
الغالي.
وتمتم الشاهد: صحيح .. آه .. يجب ألاّ نبيع الغالي رخيصاً، هيه ..
وكل الذين هانوا في حياتهم باعوا الغالي رخيصاً أول الأمر.
وسكت. سرح ذهنه يجمع الشواهد على هذه القضية. فتذكّر زكية بنت عبد
الموجود التي باعت الغالي رخيصاً لأحد الناس في ليلة ظلماء فعاشت بقية
عمرها ذليلة. وتذكّر فاطمة بنت عبد الخالق التي تركت أولادها بعد وفاة
زوجها صغاراً كأنهم أفراخ دجاجة وتزوّجت رجلاً جديداً. ومرّت الأعوام وكبر
الأطفال، وشاخ الشباب، وأصبحوا يمقتونها لأنها لم تحبهم في ضعفهم، فمصمص
شفتيه ..
ثم ذكر رجلاُ آخر ظل يتصعلك لأحد الأغنياء، ويسير وراءه تابعاً
ذليلاً من أجل تفاهات، وبعد حين من الزمن خلعه الغني كالشيء البالي، بعد أن
كان يتبعه مثل ظله.
ومصمص بشفتيه مرة أخرى. وفطن إلى أنه على ظهر الحمار وهو يعرج به،
والطريق ضيق، وحقول الذرة على الصفين، فقال في نفسه:
"من طويل وأنا أبيع الغالي رخيصاً، فلماذا؟"
وتحت شجرة وحيدة رأى امرأة تستريح، كانت تمسح عرقها بطرف طرحتها
لأنها قطعت المسافة ماشية، وكانت هي المدينة التي رآها منذ ساعة وبجانبها
ولدها، وقد جلس وفي إحدى يديه خبز وفي اليد الأخرى خيارة يأكل فيها.
وسمعها تدعو له وهو مار عليها، فرفع وجهه إلى السماء طالباً من الله
أن يستجيب. وتصالح مع الأقدار. وحول البقعة التي هاجمه فيها الكلب أثناء
ذهابه رآه واقفاً مرة أخرى. ولم يكن على الطريق بل كان عند مدخل الحقل وقد
بدا نصفه الأمامي فحسب. وكان فاغراً فاه يلهث بعنف، وعيناه الزائغتان
خاليتان من كل مدلول. وتأهّب الراكب للدفاع عن نفسه لكن الحيوان لم يُغادر
مكانه. وبعد أن قطع "عم هاشم" بضع مئات من الأمتار رأى الكلب يدخل إلى
الحقول. ولمّا غاب عبرها سمعه ينبح .. مرّة أو مرتين عاد بعدها إلى الصمت
أشد عمقاً وسكوناً.
وعند باب الدار رأى طفلين ينتظران. وكنت يد أبيهما فارغة مما طلبا،
فرقصت على وجهيهما خيبة الأمل. لكنه قال لهما: "إن أحد اللصوص هجم عليه
أثناء الطريق وسلبه كل شيء".
وأراهما آثار المعركة. فلما اعترض ابنه الصغير سائلاً:
ـ ولماذا يا أبي يشتغل بعض الناس لصوصاً؟
حمله إلى الداخل ومشى يُقبِّله، واحتفظ لنفسه بالجواب.
|