سخريات صغيرة
الاخـتبـار
مازلت أضحك. وسأضحك طويلاً مما حدث. وهل يمكن نسيان الذي حدث؟. لولا بقع
الدّم على مُلاءة السرير البيضاء، ولولا الحقيبة السوداء، لقلت: إنه حلم..
كابوس من الكوابيس التي تعتادني.
دعوني أشرح لكم.كتمان السر يكاد يدفعني إلى الجنون، أو أن ما حدث هو الجنون
عينه. ربما وجدتم تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة. لقد استطعتُ إخفاء
المُلاءة البيضاء والحقيبة السوداء في مكان أمين، لكنيّ لا أستطيع إخفاء
ضحكاتي، التي تنطلق في صمت الليل، أو صخب النهار، فتظن بي زوجتي الظنون،
ويقف أولادي حائرين قبل أن يتابعوا ما هم ماضون فيه، أو يستيقظوا من نومهم،
والذعر الأخرس في عيونهم، يقلّبون نظراتهم فيما حولهم، قبل أن يعودوا إلى
أشواك أحلامهم.
تلك الليلة! تلك الليلة كنتُ وحيداً في البيت، قبل أن أسمع الطرقات الملحّة
على الباب. كنتُ أعيد قراءة إحدى روايات ديستويفسكي، استعرتها من مكتبة
المدرسة حيث أعمل، وأنا أعاني مرضاً أعلم أنه غير حقيقي، أعداني به بطل
الرواية بأوهامه ووساوسه. حين سمعتُ الطرقات اعتقدت، للوهلة الأولى، أنها
زوجتي ، وقد أحست بذنبها، فعادت عن حردها في بيت أهلها. لكني تذكرّت أنها
تحمل المفتاح، وأنها لا يمكن أن تعود في مثل هذا الوقت المتأخر، إذ يلفّ
الليلَ مطر ثلجي وريح شرود. ولمع في رأسي خاطر خاطف: أوقع حادث لأحد
الأولاد؟. فقفزت إلى الباب تسبقني دقات قلبي.
وعلى ضوء الممر الكابي لمحت شخصاً يسد الباب بقامته الطويلة النحيلة. يحمل
بيده اليسرى حقيبة صغيرة، يستعملها رجال الأعمال عادة، ومن خلفه تلامعت
ذرات الماء الثلجي المتأرجحة. داخلني إحساس بالخوف؛ إذ لم يسبق لي أن عرفتُ
هذا الوجه المستطيل، والعينين الصغيرتين البراقتين. لكنه أثار لديّ شعوراً
غامضاً منبعثاً من أزمنة بعيدة، وحارات عتيقة متداخلة. لاشك أنه يقصد
منزلاً آخر، وقد ضلّ الطريق في متاهة الليل. وانتظرتُ منه بادرة ما تبدّد
حراجة الموقف وغموضه. ولمحته، على ضوء ما تناثر على وجهه من ضوء، يمسح
بكفّه قطرات المطر عن جبهته العريضة وشعره الرمادي، ويبتلع ريقه قبل أن
يقول، وقد انبثق على شفتيه الدقيقتين خيط ابتسامة:
- عباس الأمين أنت؟ ألا تدعوني للدخول؟
ووجدت نفسي أفسح له الطريق، وأنا ذاهل عن نفسي، وكأني أتابع صفحات الرواية.
وتهيأت لمئات التوقعات، وأصبح كل شيء ممكناً.
تابعته في الممر، ثم أشرت إليه أن ينعطف إلى اليسار، حيث غرفة الضيوف.
وسبقته في الدخول، لأضيء المصباح. وتبدّت ثيابه، في النور، غارقة بالماء.
خلع معطفه المبلل، وجلس على مقعد كنبة من الباب، تحت آية من القرآن الكريم
معلقة على الجدار، ووضع بين رجليه حقيبته السوداء، بينما رحتُ ألقي عود
ثقاب في المدفأة، ثم أجلسُ في مواجهته.
ومرّت ثوان حرجة، صعبة. كنت أريد أن أرّحب به. لكن كلماتي لم تطاوعني
فبقيتُ صامتاً أنتظر. وتململ في جلسته، وعبّ نفساً طويلاً قبل أن يتكلم.
ولم أشأ مقاطعته، وبتلقائية، لا أدري كيف. تقمصت دور المحلل النفسي، وكان
هو المريض، أوكنتُ الكاهن وهو يجلس على كرسي الاعتراف!.
«- أنا محروس الصامت.. طبعاً أنت لا تعرفني.. أنا أعرفك.. أنا من قرّاء
مقالاتك الأسبوعية في جريدة (اليقظة). أحببتك دون أن أراك.. أقول الحق:
أنتم الجنود المجهولون.. المعروفون أيضاً.. أنتم الشموع.. أحببت تناولك
للجوانب السلبية في حياتنا أحم.. أحم.. الرشوة.. المحسوبية.. التهريب..
الصفقات المشبوهة.. الثراء المفاجئ.. الاستهانة بأرواح الناس ودمائهم..
سقوط القيم.. احم.. احم.. احترمت جرأتك.. أثارني حس الصدق فيما تكتب.
أتذكر مقالك من نحو شهرين عن ذاك الذي جمع ثروة دون وجه حق.. وقرر التوبة..
وجد الحل الأمثل - احم.. احم.. لا تؤاخذني يبدو أني بردت في طريقي إليك -
وجد الحل في إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين.. واجهته عقبات وعقبات..
لقد أضحكتنا وأنت تصوره، وقد غدا في نظر بعضهم متهماً أو ربما مدفوعاً من
جهات غريبة.. احم.. احم..»
وقفز إلى ذهني سؤال مفاجئ: كيف عرف الطريق إلى بيتي؟
ولكني تركته يمضي في حديثه:
«ـ أصارحك أني أحد هؤلاء الذين كتبتَ عنهم.. لقد جعلتني استيقظ على ما
فعلته يداي.. يداي هاتان ملوثتان بالدماء.. أتسمع؟ بالدماء.. دماء حقيقية!
جعلت ضميري «يرتجف أمام ضحاياه» أليس هذا تعبيرك ؟.. احم.. احم.. جئتكَ
الليلة لهذا.. من ضحاياي من اختفى إلى الأبد.. والبقية لا أعرفهم.. أريد أن
أتطهرّ.. أن أكفر عن ذنوبي.. هذه الحقيبة فيها الملايين.. سحبتُ كلّ
أرصدتي.. بعت كلّ أملاكي، لم أُبق لي سوى غرفة واحدة تؤويني، وبعض المال
أتبلّغ به في أيامي المقبلة، وجئت إليك.. احم.. احم.. مقالاتك كانت تعبث
بأعماقي.. كنتُ أعجب بها بعقلي.. لم تكن تذهب أبعد.. مجرد عبث ودغدغة
للأعماق.. لكن بعد أن وقع الذي وقع، عُدتُ إلى مقالاتك فأصابت مني
مقتلاً..».
وفتحتُ عينيّ على وسعهما، أتساءل عن هذا الذي وقع. ودون أن أفتح فمي تابع:
«- أصبحتُ ذات يوم.. فإذا أنا أفقد زوجتي وأولادي الأربعة.. كلهم في لحظة
واحدة.. ويا ليتني كنتُ معهم إذاً لاسترحتُ.. سحقت سيارتهم شاحنةٌ ضخمةٌ..
فلم يخرج منهم مُخبّر.. تصور! عندك زوجة وأولاد.. هه؟.. حاولت الليلة النوم
فلم أُفلح.. في رأسي ورشة مقلع للحجارة.. أنت تفهمني.. لم أستطع النوم..
فجئتُ إليك.. قلتُ: الليلة قبل الغد يا محروس! يجب أن تفعلَ شيئاً..
أعترف لك أني قررّت أن أهب كل هذه الأموال للدولة.. وتكون أنت شاهدي على
ذلك.. ومُساعدي.. ما رأيك؟.. الحقيقة لم أشأ أن أحرمك المشاركة في هذا
الأمر.. أليس هذا عظيماً؟!.. اسمع.. اسمع.. سأطلب في هبتي للمال أن ينفق
على المحتاجين.. اليتامى.. الأرامل.. المعوقين.. المشردين.. سأوصي ببناء
مدرسة.. وملجأ.. ومشفى.. هذا شرطي.. شرطي الوحيد.. ما رأيك؟.. قل شيئاً..
لماذا أنت صامت؟.. احم.. احم.. لهذا جئت الليلة إليك قبل أن أُخبر أحداً
بهذا القرار..»
صمتَ.. وبقيتُ أنا صامتاً.. وكان الليل في الخارج صامتاً، إلاّ فحيح النار
في المدفأة. كنت أقرأ، بلا صوت، الآية القرآنية على الجدار فوق الرجل.
وغرقتُ في أحداث الرواية التي أقرؤها.
* * *
لن أطيل عليكم. بعد أن قدتهُ إلى غرفة النوم في سرير زوجتي الفارغ، وكان
التعب قد نال منه؛ حتى إنه غرق في النوم قبل أن أغطيه بالُملاءة البيضاء
واللحاف الثقيل، استيقظت في وعيي، زوجتي.. زوجتي الجميلة الرائعة.. زوجتي
التي استطاعت أن تشدّني جيداً بالخيوط القزحية للأنثى الخالدة منحاً
ومنعاً. استيقظ حبُّ زوجتي للفساتين الجديدة في الواجهات الأنيقة، تألقها
في الحفلات التي تعشقها. استيقظت فيّ أحلامها بلا حدود، و«المرء يعيش مرّة
واحدة» تكررها دائماً. استيقظ أولادي، طلباتهم التي لا تُلبىّ، شكاواهم
التي لا تنتهي. استيقظتْ فيّ بيوت أصدقائي الفسيحة، وأثاثها الفاخر، وهم لم
يتعبوا عُشر الذي قد تعبت. استيقظ وجه مؤجري العابس، والحاحه على التخمين
لزيادة الأجرة. استيقظ حرماني الطويل، وطفولتي القاسية الشقيّة.
صوت.. هاجس تغلغل في رعب الليل.. تغلغل في خلايا الكون، ولفّني: إنك تقتل
القاتل، وتسرق السارق، والدولة ستدير مؤخرتها لشروطه المضحكة.
وبكلمة، نصّبتُ نفسي القاضي، والنيابة، والشهود، وحكمتُ عليه، ونفّذتُ.
كان يبحر في نومه وأحلامه، وغطيطُه هادئ منتظم. وكنتُ أراقبه من بعيد.
فكرّت في أن أطبق على عنقه بيديّ الاثنتين، لكني خفتُ أن تخونني يداي، أو
يصدر عنه صياح غير متوقّع، أو يبديَ مقاومة يائسة لا تقاوَم. سحبت عنه
اللحاف بحذر، فبدرت عنه حركة منتفضة، جمدّت الدّم في عروقي. لكنه سرعان
ماعاد إلى غطيطه المنتظم. وتنّبهتُ إلى رائحة غريبة، يعبق بها جو الغرفة،
وكنتُ في شغل عنها. ولم أشأ سحب المُلاءة عن وجهه وصدره حتى لا أضعُف،
وتحسستْ أصابعي المرتجفة مكان دقات قلبه. وغرقت في بحر ذهول أذهلني. ولم
أدر كيف رفعت سكّين المطبخ الحادّة، وكيف اخترقته بضربة موفقة، كأني عبّاس
آخر. أنّةٌ قصيرة، وحشرجة سريعة، وانطفأت أنفاسه. وعلى ضوء المصباح الضئيل
رأيت الدم الداكن النافر يغرق بياض المُلاءة البيضاء.
وسبحتُ في بحر الذهول، فقادني إلى الحديقة الصغيرة تحت شجرة التفاح الوحيدة
في البيت، لأحفر حفرة تضمه، وتضمّ كل معالم حضوره إليّ. وغداً تصبحُ حرّاً
كالفراشة.
جلّلني عرق غزير بارد، وأنا أعود إلى الغرفة بخطوات مضطربة. واصطدمت نظراتي
بالسرير، وثقل لساني في فمي، وصدر عني صوت سمعته غريباً في أذني: غير
معقول!
كان السرير فارغاً. ولولا المُلاءة الغارقة بالدم لحسبتني في حلم.. في
كابوس من الكوابيس التي تعتادني. أضأت المصباح القوي، وبحثت في زوايا
الغرفة، وبحثت في أنحاء البيت الصغير عن جثة شاردة.. عبثاً بحثت، فأخذني
رعب قاتل. وعدت أفتح الحقيبة السوداء، على الطاولة القصيرة، حيث تركها.
فتحتها بلا تروّ، وسحبت الرزم منها، فتناثرت أوراق صحف مضموم بعضها إلى بعض
بعناية، تحمل عناوين بعض مقالاتي.
لا بأس..! مضى وقت طويل قبل أن أدرك حقيقة أني وقعتُ في الشّرَك. عندها
ضحكتُ.. ضحكتُ حتى كاد يغمى عليّ من الضحك، ومازلتُ حتى الآن، أضحك.
دفنتُ المُلاءة البيضاء المدماة، والحقيبة السوداء بما احتوت، في الحفرة
التي أعددتها. ودفنتُ معها كلّ ما يمتُّ إلى ماحدث تلك الليلة، وسوّيتُ
الأرض كما كانت.
مازالت ترعبني فكرة، بعد أن مضت أيام وأيام، وبعد أن عادت زوجتي وأولادي،
وتابعنا حياة العتاب واللوم والشكوى والحرمان. مازالت ترعبني فكرة أن أحفر
فلا أجد المُلاءة البيضاء المدماة ولا الحقيبة السوداء يما احتوت، ويكون
آخر آثار تلك الليلة الرهيبة قد اختفى إلى الأبد.
أرجوكم.. إذا سمعتموني أضحك في صمت الليل أو صخب النهار فاعذروني!
أنا أرتجف من أعماقي.. أرجوكم.. قولوا لي كلمة.. كلمة واحدة.. تفسيراً
يردني إلى وسادة الراحة.. فأنام كما كنتُ أنام من قبل.
قصص واقعيّة في عيد
الحب
(1)
مرّ سعدون، وهو عائد إلى منزله، على بائع الأزهار، ليشتري زهرة حمراء واحدة
يهديها إلى سعدى، في عيد الحب. ففاجأه البائع:
- مئة ليرة فقط!
فانتفض سعدون كمن لدغته عقرب، وتابع طريقه. وحين قصّ القصّة على سعدى، ضربت
صدرها، وقالت: مئة ليرة ابن الحرام؟ الأولاد أحق بها!
وداعبت سعدى شعر سعدون، وهي تقول ضاحكة:
- لابأس.. كأنك أهديت لي، ياحبيبي، مئة وردة.. كل عام ونحن بخير!
(2)
حين لم يجد في جيبه ثمن زهرة حمراء، أحضر بطاقة، ورسم عليها زهرة، وكتب
تحتها: أنت أجمل زهرة تضيء كل الفصول جمالاً وبهاء وعطراً.
وحين قدمها لها صمتت، وبقي هو صامتاً، ومازال ينتظر جوابها!
(3)
قال لها:
- تخيلي أني أهديتك، اليوم في عيد الحب، وردة حمراء، نضرة، فوّاحة، وقدمتها
إليك قائلاً: كل عام وأنتِ بخير يا حبيبتي!
- وإذا بها تصيح في دهشة: أوه.. إنني لم أر في حياتي أجمل من هذه الوردة
الحمراء!
وألقت بنفسها في أحضانه، وهي تبكي!
(4)
ذكرّته زوجته، وهو الغافل دوماً، بأن اليوم هو عيد الحب.
فطاف على عدد من محلات بيع الزهور يبحث عن زهرة حمراء واحدة، يهديها لها.
فوجد أن الأزهار الحمر، قد فقدت وقال له الباعة جميعاً: لقد جئت متأخراً!
تذكّر قصة قديمة قرأها لأوسكار وايلد عن فتى أحب صبية أكبر منه. وطلبت
إليه، ذات يوم وردة حمراء وكم أسعده هذا الطلب! فبحث في كل الحدائق. وكم
أحزنه ألا يجد فيها سوى ورود بيضاء. جلس على أحد المقاعد يبكي. فرآه عصفور
صغير على هذه الحال فرقّ له. وكي يساعده وقف على وردة بيضاء وترك شوكها
يخترق قلبه. وأخذ يغرّد للحب. للحياة، للفرح، للحزن، ودمه الأحمر ينساب في
خلايا الوردة البيضاء. وحين أصبحت حمراء فاضت روحه. وحمل العاشق الصغير
الوردة الحمراء إلى محبوبته. وسرعان مازهدت فيها، وداستها بأقدامها!
حين تذكر هذه القصة اشترى وردة بيضاء، وجلس على مقعد في الطريق، وشك شوكتها
في ذراعه. وحين سال دمه الأحمر على بياض الوردة لم يلوّنها. ولمّا أعيته
المحاولة حملها إلى زوجته بيضاء من غير سوء. فتضاحكت قائلة بعد أن استمعت
إلى قصته:
- العصفور المحبّ لوّن الوردة البيضاء بدم قلبه، لا بدم ذراعه.. وشتان!
(5)
جاء عيد الحب في موعده، وحين علم بهذا الخبر تساءل: من أين يصدرون إلينا
هذه الأعياد، ونحن نقلدهم كالببغاوات؟ حتى الحب أصبح له عيد؟! إن قلبه يعمر
بالحب منذ سنين لم يخبُ أو ينطفىء لحظة واحدة. وقرر أن يدير لهذا العيد
ظهره، وكأنه لم يكن!
(6)
منذ الصباح اشترى زهرة حمراء متفتحة. وأخذ يطوف في شوارع المدينة الطويلة،
ليقدّمها لمن تبتسم في وجهه. طال طوافه، وتعبت قدماه، ومالت الشمس إلى
المغيب، ولم يعثر على ضالته المنشودة. وبدأت الزهرة تذبل بين أصابعه. ورأى
نفسه يتجرأ، ويوقف فتاة مستعجلة، ويدسّ الزهرة الحمراء في يدها قائلاً:
- كل عام وأنت بخير!
وأخذ يراقبها وهي تحمل كنزه. وماإن ابتعدت حتى رآها تميل عن خط سيرها،
وتلقي بزهرته في وعاء القمامة، ثم تختفي في الزحام!
(7)
منذ الصباح قطفت الوردة الحمراء الوحيدة، التي تفتحت على الرغم من البرد
والمطر، انتظاراً لمن يطرق بابها، لتقدمها إليه. لقد انتظرت هذا الطارق
سنوات وسنوات، ولم يأت. ولكن الأمل، اليوم، يراودها بقوّة. وانتظرت تطوي
الثواني والدقائق والساعات. وسقط المساء، ولم يأت أحد، حملت الوردة
الحمراء، وتقدمت إلى المرآة، وتأملت صورتها طويلاً وقالت:
- لاأحد سواك أنتِ يستحق هذه الوردة! كل عام وأنت بخير!
(8)
بقيت الأم تنتظر عودة أولادها واحداً واحداً! لعلّ أحدهم يتذكّر، ويحمل لها
زهرة حمراء. وهاقد حلّ المساء، وعادوا جميعاً. ومامن زهرة واحدة. فطوت
انتظارها ولهفتها، وقامت تحضر لهم طعام العشاء!
(9)
ناو لها الزهرة الحمراء الأخيرة من الباقة التي وزّعها، منذ الصباح، على من
يحب، وهو يطوف عليهن واحدة واحدة. وقال لها، بصوتٍ حاول أن يلوّنه بمشاعر
حقيقية: كل عام وأنت بخير.. يا حبي الوحيد!
(10)
جاءها الموت على حين غرّة، في يوم عيد الحب، وحين دفنت وانفض عنها
المشيعون، وجدت نفسها وحيدة. وسرعان ماتوافد على قبرها المحبون واحداً
واحداً، وفي يد كل منهم باقة حمراء. وفي صباح اليوم التالي فوجىء زوّار
المقبرة الواسعة بقبرها أحمر من الرأس إلى القدمين. فأخذتهم الدهشة، ولم
يصلوا إلى تفسير مقنع لهذه الظاهرة الخارقة!
(11)
اشترى لها في عيد الحب سيارة حمراء جديدة، دفع ثمنها، عداً ونقداً مليوني
ليرة. ثم طاف على بائعي الألعاب، فاشترى من الدببة الصغيرة مئات ومئات
حمراً وبيضاً، وفي عنق كل منها، قلب أحمر للدب الأبيض، وقلب أبيض للدب
الأحمر. ثم طاف على محلات بيع الأزهار، فملأ السيارة بآلاف الآلاف من
الورود الحمر، وغطّاها بقلائد وحبال من هذه الورود، وزينها بشرائط ملونة
وحين سلّمها مفاتيح السيارة متمنياً لها عيد حب سعيد، تبسمت قليلاً، ثم
انطفأت بسمتها، قبل أن تتمكن من شكره، وهي تذكّره بعيد ميلادها القادم بعد
أيام!
وحين شاعت هذه القصة عرف بعضهم لماذا اختفت الورود الحمر، ولماذا ارتفعت
اسعارها في عيد الحب!
ومن الحب ما..
عزيزي المحرر..
أرجو أن أوجه، عبر هذه الصفحة، هذه الرسالة إلى زوجتي. فلربما استطاعت أن
تقرأها مع مئات القرّاء، فتكون لها مرآة ترى فيها نفسها على حقيقتها، فتكف
عما تمضي فيه، وأنتهي من عذاب سنوات طويلات عشتها معها.
لقد حاولتُ مرات ومرّات أن أناقش معها أمورنا المشتركة، وأحاورها بهدوء
ورويّة وتعقّل. وكنتُ في كلّ مرّة آمل أن نصل إلى حلّ مرضٍ. ولكنّي كنتُ،
في كل مرة، أخرج عن طوري، ويسمع الجيران كلهم تفصيلات نقاشنا. وننتهي إلى
أن يلتزم كلّ واحدٍ منا زاوية من المنزل، لا يكلم أحدنا الآخر ثلاث ليالٍ
سوياً. وأعترف أني ربما كنتُ، المسؤول الأول عما يجري؛ فقد بُحتُ لها في
مطلع زواجنا ببعض العلاقات البريئة، أو شبه البريئة، التي ربطتني بهذه
أوتلك، لأعطيها درساً في الصراحة والثقة، ونبدأ معاً صفحة جديدة. فأصبحت
هذه الاعترافات دليلاً فاضحاً على سوء سلوكي، ولازمة تتكررّ في كلّ «نقاش»
بيننا لإدانتي.
وتشاء الأقدار ألا نرزق بطفل، يملأ على زوجتي حياتها، ووقتها، ويشغلها عني،
فملأت قلبي قهراً، ورأسي ضجيجاً، وأعصابي توتّراً.
أعلم أنها بسلوكها ستقتلني إن لم تكن قد فعلتها بعد. هي تغار من النسيم،
تغار من خيالي أن يكون أنثى فيتبعني. وأعلم أنّها لا تحبني ذلك الحب، الذي
يعمي ويصمّ. ولكنها تفعل ذلك، كما صرحت مراراً، إشفاقاً على كرامتها. ولا
تريد أحداً في العالم ـ ولا تعني أحداً سواي ـ أن «يستهبلها» وهذا يعني في
قاموسها: يخدعها!.
إنها تراقب ثيابي وأشيائي: تفتّشها، تقلبها، تشمّها، لعلّ شبهة نسائية
تطلّ منها. ولا يمضي أسبوع دون أن تراجع، في دفتري الصغير، الأسماء
والعناوين وأرقام الهواتف. والويل إن عثرتْ على رقم أمرأة بينها. إذ تتحوّل
إلى مفرزة تحقيق كاملة، تطرح ما يخطر على البال، وما لا يخطر، من الأسئلة،
وهي تحدّق في وجهي لترى صدق أقوالي. وإذا انتهى الأمر بسلام صرخت فجأة،
وكأنها فطنت إلى أمر غاب عنها: وما أدراني أن فوزي هو فوزية، وعلي هو
علياء، وخالد هو خلود؟!
فلا يكون منّي إلا أن أقول في استسلام:
ـ حاولي.. تكلّمي معهم إن لم تصدّقي.
ولا يكون منها إلا أن تبتعد عني وتقول مهددّة:
ـ سأعثر عليها.. مفكّرتك السرّية.. لا بد.
تصور..! إذا التقينا، في الطريق، صديقة قديمة، تعرّفت إليها من خلال ظروف
عملي، وسلّمتُ عليها، وقدّمتها إلى زوجتي، ووقفنا دقيقة أو دقيقتين، فإنها
تمطرني، بعد ذهابها، بوابل من الأسئلة: من هي؟ متى عرفتها؟ أين وكم مرة
خرجت معها؟ هل بينك وبينها «إنّ»؟ و«إنّ» في قاموسها: علاقة. وتبقى حردة
أسبوعاً كاملاً.
ذات مرّة تركتني واقفاً مع إحداهن، وانسحبت عنا دون أن أنتبه وحين بحثتُ
عنها لم أجدها. واكتشفت، بعد عودتي إلى البيت، أنها ركبت « تاكسي» وسبقتني.
فاجأتني مرّة وأنا أرى نشرة الأخبار في التلفزيون:
- تريد الأخبار أم هذه المذيعة الوقحة؟ أنت معجب بها. قل لي: من عرّفك
عليها، وأين تراها فرس النهر هذه؟ أنتم الرجال بلا عقول. يكفي أن تبتسم
واحدة في وجوهكم لتتبعوها. لو غسلت فرس النهر وجهها لتساقطت الأصباغ
والدهون. يجب أن تروها حين تستيقظ من نومها، لتروا وجهها الحقيقي.. هذه،
كيف أصبحت مذيعة بربك؟ ألم تسمع كيف تلوك الحروف لوكاً كالجمل؟ بس أريد أن
أعرف ما الذي يعجبك فيها؟
فاجأتني، مرّة أخرى، أقرأ رواية لمؤلفة محلية شابة، وعلى الغلاف صورتها.
صارت تقلّب الأوراق بحثاً عن كلمة إهداء فيها. ولمّا لم تجد قذفتني:
ـ تدفع نقودك لهذه السفاسف؟ وماذا ستكتب هذه الجرباء سوى عن عشاقها، وربما
تكون أنت واحداً منهم؟ هل هي عبقرية زمانها؟ يقال إن أحد الشعراء يكتب لها.
وهذه الصورة التي تحدّقُ فيها قديمة ، مضى عليها أكثر من عشر سنوات!
واختفى الكتاب إلى الأبد.
تأملت مرّة، إحدى لوحاتي الأخيرة، وحين سألتها عن رأيها فيها لم تجب. وفي
صباح اليوم التالي وجدتها عابسة،مقطّبة. وضعت أمامي فنجان القهوة وانسحبت
إلى غرفتها. وحين عدتُ من عملي بعد الظهر، وسألتها عما في الأمر أجابت
باكية:
ـ أليستْ صاحبة اللوحة صديقتك التي رأيناها في المطعم العام الماضي؟
قلتُ لها: ولكن هذه اللوحة عن أيام زنوبيا ملكة تدمر!
أجابت بحقد: وما الفرق؟ إنها تسكن تلافيف دماغك!
وحدثتها، ذات يوم، عن صديق يعمل في الطب النفسي عالج امرأة منحرفة قادمة من
إحدى الدول العربية. وبعد يومين أو ثلاثة فاجأتني بقولها:
ـ لماذا تحدثني عن تلك المرأة الشاذة؟ أتقارنني بها؟
وصمتت قليلاً ثم تابعت:
ـ بربك! ألم تحضر لزيارتك في المعرض الذي أقمته الأسبوع الماضي، وعالجتها
أنت لا صديقك كما زعمت؟!
واستسلمت لحردها.
وأيقظتني من نومي، ذات ليلة، وصرخت في وجهي:
ـ من هي التي تحلم بها. اعترف.. سمعتك وأنت تقول لها: تعالي!
وفاجأتني صباح يوم باكر، وهي تهزّني بيديها:
ـ لا تنكر.. لقد رأيتكما في المنام، أنت وهي. قل لي من تكون؟
وهمست في أذني، وهي تستقبلني، بعد عودتي من جولة قصيرة في أوروبة، وكنّا في
طريق العودة من المطار:
ـ ما رأيك أن تجري فحصاً للآيدز؟!
هذا غيض من فيض. والمشكلة أنني أفاجأ في كلّ مرة، على الرغم من كل
الاحتياطات التي تجنبني الثورة. وأجد نفسي، في كل مرة، وقد أعماني غضب
جارف، لا يقف عند حدّ. وأيقنتُ أنني هالك لا محالة، فاتخذت سلسلة من
الإجراءات:
أصبحتُ أتجاهل من أراه، في الطريق أو في الأماكن العامة، من النساء اللواتي
أعرفهن.
أصبحت أتغيّب عن المحاضرات أو المعارض أو الأمسيات التي تقدمها كاتبات أو
فنّانات.
غيبّتُ عن مكتبتي كلّ المؤلفات التي تحمل أسماء نساء.
أصبحت لا أرى من النشرات الأخبار إلا لمذيعين. ومن باب الاحتياط أختارهم
مذيعين بشوارب!
أصبحت أتحاشى رؤية المسلسلات التي تمثلها بطلة جميلة جداً أو حتى جميلة.
اختفت من لوحاتي النساء، واقتصرت على الرجال.
اختفى من كلامي كل الأسماء التي فيها تاء التأنيث، فلم أعد أقول: «أريد
تفاحة») أو «برتقالة»، بل أقول: أريد «تفاحاً» و«برتقالاً».
أصبحت أصرّح أنني أحب الليل والقمر والبحر، ويغيب من تصريحاتي أنني أحب
الشمس والشجرة والزهرة!
وأخيراً صمتُّ عن كل شيء: لم أعد أقصّ حكايات أو فكاهات أو أخباراً . حلّ
بي صمت يائس. واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد.
لكني فوجئت بها من جديد، تهز رأسها، وهي تنحني نحوي وتقول:
ـ فلتهنأ تلك التي أخذت عقلك، وجعلتك تسكت من أيام لتفكر فيها!
عندها خطر لي أن أكتب إليها هذه الرسالة المفتوحة؛ فقد أقررت بالعجز،
وأصبحت أرجو الخلاص بأي ثمن.
وقد يسألني أحد لماذا لا أطلقها، وأنهي كل هذه المشكلات، وأتفرغ لنفسي،
ولفنّي فأقول: لقد نسيتُ، منذ البداية ،أن أذكر أني أحبها.. أحبها حباً ملك
عليّ كل طريق، وأراها لأمر ما، أجمل نساء الأرض، ولا أستطيع أن أتصور
الحياة دونها. وهذه هي مشكلتي الحقيقية. فاسمح لي، عزيزي المحرر، أن أخصّ
زوجتي بهذا السطر: « زوجتي الحبيبة.. اعلمي أن كل نساء الأرض لا يستطعن
تحويل قلب رجل محبّ عمن يحبّ.. وارحمي عزيز قوم، أحبّ، فتزوج، فذل!».
فشّة خُلق..
السيد المحرر المحترم:
استفزتني الرسالة التي نُشرت بعنوان ( ومن الحب ما..) على هذه الصفحة، تتهم
المرأة بالغيرة العمياء، ومحاصرة الرجل دون وجه حق. ورأيت فيها ظلماً
كبيراً لي ولبنات جنسي. إننا نعيش في مجتمع الرجل، ومتى كان الرجل أهلاً
للثقة؟ دعني أتحدث بصراحة لا تقبل المهادنة، وأبدأ بنفسي، دون أن أدخل في
المهاترات النظرية، عمّا خبرتُ ورأيتُ وسمعتُ.
كان لنا جارة لعوب، ترى أن الرجال لا أمان لهم، وأنهم مستعدون أن يلهثوا
وراء أي عظمة تلوح في طريقهم (أعتذر عن هذا التعبير، جارتنا هي التي ترى
هذا، لا أنا وهي، حتماً، لا تقصد كل الرجال) ولمّا عارضتها في رأيها
وتحدّيتها، راهنتني أن توقع زوجي في أشراكها، وقبلتُ الرّهان.
وطلبتْ مني، ذات يوم، أن أحضر ، سرّاً، إلى بيتها. أخبرتُ زوجي أنني ذاهبة
لأزور والدتي في الحي المجاور، ودخلت إلى العمارة المقابلة. واستقبلتني
الجارة اللعوب، ورجتني أن أجلس وأسمع بنفسي. وبعد دقائق رنّ جرس الهاتف،
فضغطتْ على زر في الجهاز، فأصبح الحديث مسموعاً للجميع. وفوجئت بصوت زوجي
يدوّي في الغرفة المغلقة:
ـ مساء الخير ... حبيبتـي!
وكاد يغمى عليّ، لولا أن تماسكت، وضبطت أعصابي. وسمعتُ في ساعة كاملة، كلّ
كلمات الغزل العذري والفاحش، التي أسمعني إياها زوجي في فترة الخطوبة،
وبدايات الزواج، ثم انقطع، إلا في المناسبات، عن تكرارها. وفي آخر الحوار،
حدّدت الجارة موعد لقاء معه في عزّ الظهيرة لليوم التالي، وأقفلت السمّاعة
على أصوات قبلاته المفرقعة، وقالت:
ـ غداً سترين بنفسك!
واتصل بي زوجي، في اليوم الثاني من عمله، وأخبرني عن اجتماع طارىء هام في
الدائرة، سيطول، ويتخلله غداء عمل.
وبعد مرور أكثر من ساعة على الموعد ذهبتُ إلى المكان المحدد، فوجدت زوجي
يذهب ويجيء، في الظهيرة الحمراء، وهو يفرك يديه بقلق مقلق، يتلفتُ يميناً
ويساراً، ويدور حول نفسه في حركات عصبية، وهو ينتظر تلك المرأة التي لن
تجيء.
وفوجئ بظهوري المفاجئ أمامه، ولما سألته عما يفعل هنا، ارتبك، واحمرَّ
واصفرّ واخضرّ، وتلعثم في الكلام وهو يقول:
ـ أنزلني المدير العام، ابن الحرام، وطلب مني أن أنتظره قليلاً.
وأسفت لهذا الرّهان الذي كلفني زوجي!
أحياناً أقف في الشارع دقائق، لأنتظر صديقة أو قريبة، تأخرت عن موعدها،
فتقف لي السيارات، وأتلقى دعوات كريمة، وعروضاً سخية، وأسمع عبارات غزل
كنتُ أتمنى أن أسمعها من زوجي.
يا إلهي! أكلهم ينتظرون مثل هذه الفرصة لاقتناصها؟ كم من النساء اضطررن،
لأمر ما، أن يقفن أو يسرن وحيدات! كم من أطنان الكلام والغزل يلقى على
مسامعهن! كم من الدعوات! كم من الآمال تُعقد على وقوفهن أو سيرهن! كم من
الأحلام توقد في خيالات الرجال الحمقى، الحمقى فقط!
كثيراً ما تحدثني بعض صديقاتي عن رجل، أغلق الباب عليهن معه مصادفة، فتنهال
الإغراءات: المال، الجاه، القوة. هكذا دون خجل، ودون أن يخطر في بال الرجل،
لحظة واحدة، أن يفكر في هذا المخلوق البشري أمامه، في حقها، في حدودها، في
حريتها المهدورة، في رغبتها الحقيقية، في رأيها فيه. قد أغلقتْ نزواته
منافذ التفكير في رأسه، وأيقظتْ فيه رجولته العطشى، فعمي عليه كل شيء.
وتحدثني بعض صديقاتي عن رجال، يقتنصون لحظات خلوة بهن، فيسردون بعضاً من
حياتهم الخاصة، ومشكلاتهم مع زوجاتهم، وعن الظلم الذي يلحق بهم معهن. ولا
يخجلون من التعرّض إلى الكلام عن السرير صراحة ودون مواربة.
وتتحدث بعض المطلقات أو الأرامل من صديقاتي، اللواتي وقفن حياتهن على
أولادهن، عن رجال من كل الأعمار والمستويات الاجتماعية، لا يرون فيهن سوى
صيد سهل، فيعرضون خدماتهم، خدمات بلا حدود، دون مقابل! أحدهم تطوّع،
يومياً، لغسل سيارة سهام، وآخر تعهد برعاية حديقة ليلى، وآخر تبرّع بمرافقة
ولديْ منى إلى المدرسة صباحاً وإعادتهما ظهراً، وآخر ذو سلطة وعضلات تكفل
بإبعاد كل الذئاب، على حدّ تعبيره، عن طريق سلمى، وآخر أرسل زوجته لخطبة
أمينة، جارتهم الجميلة المطلّقة، لتصبح زوجته الثانية!
تتجاهل زينب تصرفات زوجها الطائشة، وهو لا يدري أنها تدري، حرصاً على بيتها
وأولادها، آملة أن يستيقظ ضميره، فيكفّ عن نزواته، ويثوب إلى بيته، ويثوب
معه الحب والأمان والثقة.
أميرة لاحظت تعلق زوجها الكهل بسكرتيرته الشابة، فما كان منها إلاّ أن
خطبتها له بنفسها، ووقفت على خدمته، ليموت في أحضان زوجته الشابة الجديدة،
وقد أصابته «رهقة» شهر عسل قصير قاتل.
ووقعت إيمان، وقد اشتد عليها المرض، بعض الأوراق البيضاء لزوجها، لتسيير
معاملاتها في الدوائر الرسمية. وفوجئت بورقة الطلاق، تبعها، بعد أيام، حكم
بإخلاء المنزل الذي كانت تملكه بعد أن أصبح ملكاً لمطلقها. وعلمت أنه يجري
وراء امرأة من الوسط الفني.
وعادت فتحية من رحلتها، بعد غياب شهرين، في زيارة أهلها خارج البلاد،
وفتحية تحمل إجازة في الآداب، فوجدت زوجها قد تزوج من الخادمة الأميّة التي
لا تحمل أية مؤهلات جمالية!
صديقتي الشاعرة هيفاء استمعت للكاتب الروائي الكبير، بعد قراءته ديوانها
الأخير:
ـ أنت امرأة حرة، تروحين وتجيئين، تختارين، عليك أن تكتبي كما لو كنت في
غرفة نومك، عرّي نفسك، عبري عما لا تجرؤ امرأة على البوح به، فتحققي القفزة
المطلوبة!
وجدت هيفاء دموعها تسيل على خديها، وقالت للكاتب الكبير وهي تنهض خارجة:
ـ أستاذ.. أنا شاعرة ولست عا...!
قرأتُ مؤخراً أن ممثلة قديرة وكبيرة سُئلت، بعد هذه الرحلة الطويلة، ومعرفة
أصناف من الرجال، عن رأيها فيهم، فأجابت بملء فمها، وهي في غاية الرضا:
ـ كلهم أوغاد!
سيدي المحرر: كنتُ أحتاج إلى مجلدات، لأسرد كل القصص التي أعرفها، وعلى
الرغم من ذلك، وعلى الرغم من الغضب الذي يجتاحني فإن علينا أن نقبل الحياة
كما هي، حتى نغيّر ما بأنفسنا، وأنا على استعداد لتكرار الزواج، إذا تقدّم
لي أحدهم وأعجبني. وأرجو أن يكون هذا بمثابة «إعلان» غير مدفوع الثمن! ورحم
الله الذي قال: الرجل شرّ لابدّ منه!
وأخيراً.. وصلت الرسالة
سيدي الكريم..
يخيّر الإنسان، أحياناً، بين السعادة والشقاء فيختار السعادة، حتماً، عندما
يكون في كامل قواه العقلية. ويخيّر، كذلك بين الخير والشر فيختار الخير،
ويخير بين الحياة والموت، فيختار الحياة. ولكن.. ما حيلة الذي يخيّر بين
الموت والموت، وليس في استطاعته ألا يختار؟!
على كل حال، سأوجز قصتي ليتضح ما أقصد إليه:
أنا فتاة من هذا الوطن، أبلغ العشرين من عمري، وأعمل معلمة في مدرسة قريتي
الوحيدة، وقريتي مرمية، مثل كثير من القرى، على أطراف البادية. تعلمت في
دار المعلمين بإحدى المدن الكبرى، وأقمت في القسم الداخلي. كان التحاقي
لمتابعة تعليمي بعد شهادة الكفاءة أشبه بمعجزة لن أخوض في تفصيلاتها. عرفت
في هذه السنوات القليلة عن الحياة والمجتمع والناس ما يحتاج إلى قرون
لمعرفته لو بقيت في القرية. والدي ووالدتي على قيد الحياة. لي أخت متزوجة
وإخوة صغار أكبرهم في العاشرة. وكنت انتظر الغد، وأنا مسكونة بالآمال
والأحلام وبما نفثته الكتبُ في أعماق روحي.
وتشاء الأقدار أن توقع والدي في «شباك الخطيئة» مع فتاة في القرية، الله
وحده يعلم أين كان يلتقيها، وأين حصل الذي حصل، وقريتنا مبسوطة كالكفّ في
وجه السماء. وفاتح والدي والدتي بالأمر، وأخبرها أنه عازم على خطبة الفتاة،
درءاً للفضيحة، من أهلها الذين لا يعلمون عن الأمر شيئاً. وهم قوم قساة،
غلاظ، لا يحلّون مشكلاتهم، غالباً، إلاّ بالدّم. ولم تجد والدتي ملاذاً سوى
الرضوخ وتسليم أمرها لصاحب الأمر، الذي لا يرد له أمر. ولاذت بأحضاني تشكو
بدموع لم تجد سبيلاً إليها في حضن آخر.
وتقدّم والدي إلى أصحاب الشأن طالباً التشرّف بالقرب منهم، بمصاهرتهم وفق
ما يقتضيه الشرع. فوافقوا دون تردد، بشرط وحيد بسيط: أن يوافق والدي على
تزويجي أنا من أخ للفتاة. وهو شاب متزوج، له أولاد، أُمّي، سكّير، عاطل عن
العمل، لا يمكن أن يخطر في بالي أن يُغلق عليّ وعليه باب.
هنا وقعت أنا في الشرك. كنت أشفق على أمي، وأرثي لحال أبي، فصرت أشفق على
نفسي وأرثي لحالي. كنت أبكي لمصيرها، فصرت أبكي لمصيري. لم أجد من حولي من
أعوّل عليه في حلّ مشكلتي، فهداني تفكيري، أخيراً، إليك، وأنت القادر على
مد يد العون لانتشالي مما أنا فيه، لهذا جئت أحمل قلقي وعطشي إلى جواب، إلى
أية إشارة ترشدني.
أأرضى بهذا الإنسان، وبما ضُمّ عليه من خلائق، فأقتل نفسي في الحياة، وأقتل
أمي مرتين مرّة من أجلها ومرّة من أجلي، أم ارفض فتكبر الفضيحة، فأقتل أبي
وشريكته؟!
أأهرب وأدع أبي يواجه مصيره وحده، أم أتقدم وأصرخ فيهم: خذوني.. هاأنذا
«الضحية» فاذبحوني؟!
أي الموتين أختار؟ أوليس من حلّ يجنبّني أحد الموتين؟!
سيدي..! أنا في انتظار كلمة منك تهديني سواء السبيل.. تضيء، ولو شمعة في
ظلام أوقاتي، أمامي أيام معدودات لأختار، فلا تدع رسالتي تنتظر.
المعذبة م.ع.
قرية...
ملاحظة: أرجو ألا تذكر اسم القرية في جوابك إليّ
قرأتُ الرسالة مرّات ومرات، ذُهلت عن نفسي، وأخذني التعجب من وصولها إليّ
بعد أن تركت هذا البرنامج الإذاعي منذ سنوات طويلة. وكيف لي أن أردّ على
الرسالة، وليس عليها اسم محدد وعنوان؟ راودتني فكرة غريبة: أن أسافر إلى
صاحبة الرسالة في قريتها ذات المدرسة الوحيدة لعليّ أقف إلى جانبها. ولكن
هذه الفكرة الغريبة الجريئة سرعان ماتبددت حين انتبهت. فجأة انتبهت..
انتبهت إلى أن الرسالة مؤرخة في 25/10/1970 فدارت بي الدنيا، ولم تقعد حتى
اللحظة.
إذاً.. فقد مرّت خمس وعشرون سنة على رسالة هذه المعذبة (م.ع)، ووصلت إلي
اليوم. أين كانت؟ أين ضاعت كلَّ هاتيك السنين؟ وأي الدروب سلكت؟ وما الذي
جرى لهذه المعذبة؟ أقبلتْ أن تكون «الضحية» وتزوجت من ذاك المتزوج الأمي
الفظ السكير العاطل عن العمل، أم أن والدها لاقى وشريكته المصير المحتوم،
أم أن حلاً آخر تدخل وغير المصائر؟!
أيتها المعذبة...! خمس وعشرون سنة مضت منذ أن جفّ حبر رسالتك. ولابد أن
تكوني قد انتظرت، وانتظرت دون جدوى. ولابد أن تكوني قد اخترت. لم يعد
ينفعك، الآن، رأيي، ولا رأي غيري.
لم أعد أستطيع أن أفعل شيئاً. وهاأنذا أنشر قصتك في الصحف، لعلك تقرئينها،
بعد خمس وعشرين سنة. فإذا وقعت بين يديك، وارجو لها ذلك، فأخبريني. قولي لي
ماالذي حدث؟ فأنا الآن، لاأنتِ، الذي ينتظر، ينتظر منك كلمة، إشارة لعليّ
أعلم منك: كيف حلّ الزمان المشكلة، وأي موت من الموتين اختار؟!
أرجوك... أنا في الانتظار
قطط لا كالقطط!
كتب إليّ قريب شاب يدرس في أمريكا أن جاراً له جاء يطلب، بلطف زائد، أن
يتفضّل، ويقبل استضافة قطته لأيام معدودات، لأنه مضطر إلى السفر في عمل
ضروري. وأفهمه بطريقة غير مباشرة، أنه يمنحه شرفاً عظيماً حين يختاره لهذه
المهمة دون غيره من الجيران. ولم يكن أمام قريبي وزوجته إلاّ القبول، على
مضض لمثل هذا الشرف العظيم، فهما لم يألفا، من قبل، مثل هذه المهمة.
ولكن الأمر، على عكس ماكان متوقعاً، راق الزوجة، فهي تكاد تكون وحيدة في
بلد غريب، وكانت قد أجلّت فكرة الحمل بالاتفاق مع زوجها لضيق ذات اليد.
وجدتْ متعة غامرة، في يومها الطويل، وهي تعتني بالقطة وترعاها: طعامها
وشرابها وحمّامها ونزهتها.. تنفيذاً لتعليمات الجار المتفضّل.
وأسرّت لزوجها ـ بعد عودة القطة إلى صاحبها ــ رغبتها في اقتناء قطّة
تسليها خلال غيابه في الجامعة. وأشار عليه بعض معارفه بالاتصال بمكتب من
المكاتب التي تبيع القطط. وفوجىء بأن ثمن بعض القطط يصل إلى آلاف
الدولارات، وأن الحد الأدنى لقطّة متواضعة في حدود خمس مئة دولار. وجد أن
هذا الحد الأدنى مبلغ كبير، وهو يتذكر القطط المجانية الشاردة في حارات
مدينته البعيدة، دون أن يأبه أحد لهذه الثروات الخيالية! ونصحه أصحاب أحد
المكاتب بالاتصال بالبوليس، فلديهم قطط لقيطة، تركها أصحابها في الطرقات
لسبب أو آخر. وهي ارخص ثمناً من تلك القطط، ذات الاحساب والانساب والأصول.
وفعلاً قام بالاتصال المطلوب. ووجد ضالته بسهولة. ولكنه فوجىء مرة أخرى
بتحقيق لم يتوقعه:
- يبدو أنك غريب!
- نعم
- هل أنت واثق من رغبتك في اقتناء قطة؟
- أوه... نعم... أنا وزوجتي.
- وهل لديك الوقت للعناية بها؟
- أجل.. زوجتي متفرغة.. لاتعمل
- هل سبق لها أن اقتنت قطة؟
- لا..لا.. ولكن..
- لابأس هناك كتبٌ تعلّمها ذلك. هل أنت قادر على تحمّل نفقاتها المختلفة؟
وهل لديك فكرة عن هذه النفقات؟
- لا.. أعتقد أن الأمر بسيط.. كم يكلف ذلك؟
- القطة تكلّف مئة دولار أسبوعياً ما بين طعام وشراب ورعاية صحيّة،
وتأمينات مختلفة.
وكتم ضحكة غالبته. ومع أنه قرر قمع هذه الفكرة عند زوجته، إلاّ أنه تابع
الحديث من باب الفضول:
- لابأس.. مئة دولار أسبوعياً؟ لابأس
- ولكن ماهو عملك؟
- أنا طالب موفد أحصل على نصف منحة
- طالب ومتزوج ونصف منحة وتريد اقتناء قطة؟!
- نعم وما المانع؟
- ليس عدلاً أن تموت القطة من الجوع والإهانة في بيتكم.
- في الحقيقة... أهلي يرسلون لي بعض النقود
- الأمر بسيط إذاَ.. ماعليك سوى أن تكتب لأهلك لتأمين كفالة رسمية لإعالة
القطة، وترجمتها، وتصديقها من الدوائر المسؤولة ومن سفارة بلدنا في بلدكم.
- كل هذا من أجل تربية قطة؟!
- أجل.. وهل تظن الأمر مزاحاً... نريد ضمان كل شيء
ولم يستطع قريبي أن يتابع المكالمة عند هذا الحد، فانقطعت. وكفّ هو وزوجته
عن التفكير في هذا الأمر. وعزما على الانتظار حتى تتحسن أحوالهما الماديّة،
فينجبا طفلاً يشغل الزوجة في أوقات فراغها.
الصعود إلى الهاوية
أنا مدرّس للغة العربية عملت معاراً في اليمن أربع سنوات، وأتبعتها بسنتي
استيداع. واشتريت بما وفّرت بيتاً في ( المزّة) وانتقلت إليه، وأجَرْتُ
بيتي القديم.
فجأة، وبلا مقدمات، قفزت أسعار البيوت قفزاً مجنوناً. وأصبح محسوبكم من
أصحاب الملايين، فلم يعد عقلي يحملني، نظرت من حولي، تْشمّمتُ الأسواق،
واتجاه الرياح، وقلت لنفسي: ياولد! إذا جنّ قومك فجنّ معهم.
وبلا طول سيرة بعتُ البيت الجديد، واستأجرت بيتاً استئجاراً سياحياً،
وتصرّفت بالأموال بحكمة وحمدت الله أني لم أنس المثل الانكليزي الذي يقول:
لاتضع بيضك كله في سلة واحدة! فوظفت نصف المبلغ عند أحد جامعي الأموال في
مشروعاته المختلفة، ولم أكن قد سمعتُ بغيره لقاء دخل شهري يساوي مجموع
مرتّبي قبل استقالتي لمدة سنتين، واشتريت بربع المبلغ شقة (على العظم) على
الخريطة، أتسلّمها بعد سنة واحدة. واشتريتُ «ميكرو باص» على المازوت بالربع
الأخير، وسلّمته لأحد السائقين المأمونين جداً. وصنّفت نفسي من أصحاب
الأملاك، وصرت أحلم بالسيارة والمزرعة وقضاء الصيف في مونت كارلو أو جزر
الكناري، والشتاء في بانكوك أو هونولولو، وراودتني فكرة الزواج ثانية!
وأعترف، وليس لكم عليّ من يمين، أني عشت كأمير من أمراء النفط سنة كاملة
تعادل عمري، الذي عشته وسأعيشه ولو عُمّرت مئة عام. وفجأة صحوتُ من الحلم
وأظلني كابوس ثقيل، إذْ قُبض على جامعي الأموال بالعشرات. وجُمّدت أموالهم
وأموال المودعين الذين يعدّون، ويا للعجب، بعشرات الآلاف، حتى إشعار آخر.
وتطوعت الحكومة مشكورة، حفظها الله، أن تنصف المودعين، وها قد مضى أكثر من
ثلاث سنوات، ولم تتخذ أي قرار في شأننا. واكتشفت حين ذهبت لتسلُّم الشقة
الموعودة ـ وياللهول، على لغة المغفور له يوسف وهبي ـ اكتشفت أنها مبيعة
لعدة أشخاص، والمحكمة، التي ستقول كلمتها الفصل، قائمة، الآن، على قدم
وساق، والخصوم يتكاثرون كالفطر وآمل أن يتم الفصل فيها خلال السنوات
القادمات، وقد أخبرني أحد العارفين ببواطن الأمور، وهذا سرّ أرجو أن يظل
بيني وبينكم، أن أمثال هذا التاجر سيحالون ، وفق قانون جديد، يُدرس حالياً،
على محكمة الجنايات بصفتهم محتالين وسارقين ، لا على محكمة مدنية تستغرق
سنوات وسنوات كما هي الحال الآن. وهبطت أسعار ( الميكروباصات) المازوتية
إلى الثلث، وأصبح دخل ( ميكروباصي) يصرف بأكمله على الاصلاح، كما صرّح لي
السائق المأمون جداً! وحين طالبت ببيتي القديم المؤجر أعلن المستأجر الكريم
العصيان! وحين احتكمتُ إلى القضاء، وقدمت كلَّ المستندات التي تثبت أن
المستأجر يملك بيتاً في (ببيلا) رُدّت دعوتي، لأن (ببيلا) من ريف دمشق، مع
أنها لاتبعد إلا أمتاراً معدودات عن آخر حي في المدينة. كما اضطررت إلى ترك
البيت المستأجر سياحياَ لانتهاء المدة المحددة، ولأسباب لم تعد تخفى عليكم.
وأثاث بيتي، الآن، موزع عند بعض أقاربي. وأصبحت أنا في بيت أهلي، واصبحت
زوجتي مع ابننا الصغير عند أمها في غرفتها الوحيدة، وأصبح قسم من أولادي
عند عمّهم، وقسم عند خالهم. ونحن نلتقي جمعياً مرّة في الأسبوع في إحدى
الحدائق العامة، في انتظار أن تحلّ مشكلاتنا جميعاً فنلتقي من جديد، تحت
سقف واحد!
وأرجو ألا تظنوا أني حزين أو غاضب أو نادم، فقد تجاوزت ذلك كله، بل أرى أنه
كان لابد أن يحدث ماحدث حتى أرى الأمور بهذا الوضوح، وأخرج بهذه الحكمة
التي خرجت بها وأنا في غاية الرضا والتفاؤل. وكتابتي لقصتي ليست شكوى موجهة
إلى أحد على الإطلاق؛ فأنا أعلم أن المسؤولين أكثر حرصاً مني على حل
مشكلتنا، ولاشك أنهم يسهرون ليل نهار من أجلنا، ولااريد أن أضيّع أوقاتهم
الثمينة بشكاوى لاتقدم ولاتؤخر. وكل ماهو آت قريب. ومهما يكن وضعي صعباً
وقاسياً فلايمكن أن يقارن بأوضاع بعض ممن عرفتهم أو سمعتُ عنهم. فجارنا
أصابته، بما حصل جلطة قاتلة، والأستاذ كامل، الذي وظّف كل تعويضاته بعد عمل
ثلاثين عاماً في منظمة دولية، انتهى به الأمر إلى مستشفى الأمراض العقلية،
أما تلك المرأة التي باعت بيتها لتجد دخلاً يطعم أولادها الخمسة فقد اضطرت
إلى أن....
إذاً... هاأنذا أعترف أني المسؤول الأول والأخير عمّا حدث. أنا الجاني وأنا
الضحيّة, ولاأتهم أحداً سواي. وإن كنت أكتب لكم فإني أفعل ذلك لتتسلوا
بقصتي وتضحكوا قليلاً، وأنتم في حاجة إلى ذلك، فأنا أعلم أن حياتكم أصبحت
صعبة أكثر مما ينبغي، أليس كذلك؟!
وأودّ أن أبوح لكم بسرّ: المصيبة التي وقعت على أمّ رأسي جعلتني أتلمس
موهبة التأمل والكتابة عندي، فمنذ زمن بعيد وأنا أحس أن هذه الموهبة تتحرك
في داخلي، وأنا أتجاهلها، وهاهي ذي تحاول التعبير عن نفسها.
لي رجاء بسيط بشقين: الشق الأول موجه إلى وزارة التربية لإعادتي إلى عملي
في التدريس ولو كان تعييني الجديد في (ديرالزور)، والثاني موجه إلى اتحاد
الكتاب العرب للموافقة على طبع روايتي الأولى التي كتبتها أخيراً من واقع
معاناتي، فروايتي لاتقلّ، في رأيي، عما ينشر هذه الأيام!
واسمحوا لي أخيراً أن أودعكم من مقهى (أبو كمال) هذا المقهى الشعبي الذي
أتردد إليه كثيراً هذه الأيام، فقد تأخرت على الصديق الذي دعاني للإفطار
على حسابه عند بائع فول مشهور في السوق العتيق!
رسالة إلى امرأة في خطر
كان الأمر في غاية البساطة، أيتها المرأة التي لم تقرأ جيداً تاريخ الرجال.
كان الصّياد وكنتِ أنتِ الفريسة؛ إذ سخّر لك كل ميراث الرجولة، وجولاته
الرابحة والخاسرة في حدائق النساء، فجرّك بمهارة فائقة إلى الشرك. كان
التاجر المحنك المداور، وكنتِ أنتِ الصفقة المغرية بما تملكين من جمال
وأنوثة وحياء، يتمسكن وهو القويّ العارف بأنك الأضعف، والأكثر حاجة إلى رجل
يحميك، حتى يتمكن، والويل لك إن تمكن!. ينتقي لك من أشراك الكلمات، التي
أتقنها، أعذبها وأكذبها وأقدرها على التغلغل في خلاياك، ودغدغة الأنثى فيك.
وهو لا يبتغي لديك سوى سحر المغامرة، فاستنفر لديه حسّ الامتلاك الذي لا
يقف عند حد. وأنت لا تبتغين سوى القوة والأمان والظل الاجتماعي لديه. يدفعه
إليكِ الشبع والملل، وتندفعين إليه بالحرمان والشباب. يشهر في وجهك كلّ
الأسلحة: الوسامة والجاه والمال وقشرة الثقافة، وأنتِ تواجهين عزلاء، ومنكِ
البراءة والغرام الأنثوي بالجمال والأضواء والأحلام. وهو ليس على عجلة من
أمره، ينسج ناعماً ناعماً على ريث، وقد مرن على الصبر والانتظار؛ حتى جاءه
المال طارئاً، وسقط عليه الشبع بعد الجوع والحرمان، واستيقظت فيه القوة من
ضعف وخوف. وأنت نافدة الصبر من خوف الأيام القادمة، وعاتيات الزمن!. هو لا
يريد أن تقاوم فتنته امرأة، أو تصد عن محراب رجولته امرأة. يؤذيه، بل
يقتله أن يرى امرأة رائعة الجمال لم تمّر في سريره، هذا الشهريار الذي لم
تؤدبه بعدُ حكايات الشهرزاد!
نعتك، وهو يهمس في أذنيك، ويذوّب قلبه في صوته المدرّب، بالأجمل بين نساء
الأرض، والأرق والأذكى والأشرف وتصدقين. توّجك مليكة على البشر، وعلى قلبه.
ألبسك من الأوهام حللاً ولآلئ. أسكنك منازل فوق القمر حتى غارت النجوم منك.
باهى بك الشمس حتّى حلّ بها الكسوف، وتصدقين. منّاك بأنهار من ذهب وفضة
وماس، وبقصور الأحلام في جنان الخلد، وتصدقين. تغزّل بعينيك النافذتين إلى
قلبك اللتين لم يُخلق مثلهما في البلاد. داعب بأنفاس كلماته شلاّل السنابل
في شعرك. سوّى من شفتيك كرزتين من ثمرات الجنة، ومن صدرك الناهض مستقر
الأماني، وتصدقين. قطّر من إهابك كل العبير الأنثوي الخالد، واستنفر السحر
المذاب المشعّ من تموجات صوتك، وتصدقين. وسباك في شِباك الكلمات!
وها أنتذي تسيّجك الأسلاك الشائكة، وتعبرين فوق صواعق الألغام، وترتديك
الظلمة والبرد والضباب من قمة الرأس حتى رؤوس أصابع القدمين. ومع ذلك
فأنتِ تنشدين للربيع القادم، وعرائس الأزهار القزحية، والروائح المسكرة،
وتستحمين في موج الدفء والطيب والخيال. فأية امرأة أنت! أية مفارقة تعيشين؟
كيف يعشق المقتول قاتله؟ كيف يعبد السجين سجّانه؟ كيف يقبل الحمل ذئبه
امتناناً؟!
لم يفعل بكلماته سوى أن جرّدك من أسلحة المقاومة، إن كان ثمة أسلحة، وجرك،
على قدميك ، إلى الشباك التي أعدها. وها أنتذي تقتربين مسحورة نحو الوكر،
والضبع الصّياد في انتظارك، يسيل لعابه من بين أنيابه للوليمة المقبلة.
لم يبق إلا خطوات معدودات، ويتفجّر الدم القاني من اللحم الطري المعطّر. لم
يبق إلا لحظات، وتغوص الأظفار المسنونات الزرق في الجسد الحار، وتمزق
الأنياب الخلايا والأنسجة. لم يبق إلا خفقات قلب، وتصبحين كومة عظام تذروها
رياح العدم!
ومع ذلك .. لم يبق إلا أن تستيقظ فيكِ الحاراتُ الموحلة وتفتح الطفلة،
الشقيّة البريئة، ذات الجديلتين، عينيها الرائعتين، وهي تصنع ألعابها
بيديها، وتخيط للعبتها الحلوة ثوب الزفاف!
لم يبق إلا أن تتذكري ذلك الكتاب الذي نسيتِ عنوانه، ولم تنسي تلك الفتاة،
التي ألقت بنفسها إلى الهاويات السفلى، حتى لا يأخذها الأعداء سبيّة!
لم يبق إلا أن تستعيدي رائحة الشهيد الراحل، الذي لم يكن له خيار آخر غير
الموت غيرة على الأرض والشجر والبحر والسماء والأهل والأصحاب. غاب، ولم ينس
أن يغرس في أحشائك بذرة نمت، وخرجت للشمس والهواء!
لم يبق ـ أيتها المضبوعة ـ إلا أن يرتطم رأسك الصغير الجميل بصخرة المغارة،
ليتفجّر دمك الحيّ، فتفيقي من خدركِ، وتصحي على نفسك عارية في البرية،
وتلملمي بقاياك، وتستري عريك بما وصلتْ إليه يداك من أوراق وأزهار وأشواك
وتعودي من حيث أتيت! فهل تفعلين؟!
|