السارق
لقد سرق اللص اليوم آخر أصدقائه، وبقي عامر وحيدا, فعامر كهل بلغ من العمر
أرذله ماتت زوجته منذ عشرين عاما ولم تنجب له أولادا لذا بقي وحيدا في
حياته وخاصة بعد أن تم سرقة آخر أصدقائه ..
أهداه الله عيونا ضعيفة البصر كي لا يشاهدخطايا جيرانه في سرقاتهم له
وضحكات أبنائهم وهم يسترقون النظر إليه لحظة تناوله الطعام ..
كانت بشرة عامر سوداء على العكس من قلبه وعلى وجهه مرسومة خطوط وألوان تحكي
مئات القصص.. فآه من حكايا الوجوه..
القبعة لا تبرح رأس عامر و كأس المتة لا يفارق يديه، وبعد أن تم سرقة
صديقه، أخذ عامر يهاب من كل شيء فعندما داعب زفيف الرياح الباب ظنها طبلة
السارق وعند سماعه حفيف الأشجار ظنها سيمفونية السارق, تمنى في تلك اللحظة
بعد هذه المشاهد المرعبة أن ينزل القمر إلى الأرض وأن يضيء كل ظلمة..
أصبح عامر حذرا من كل شيء ومن كل صوت ونظره الضعيف يترقب الباب خشية زيارة
السارق الوحيدة, كان يخشى من هذا الضيف الذي يبدو خفيف الظل إلا أنه ثقيل
ثقيل , فزيارته وحيدة ونهائية ..
في ليلة اشتدت فيه الرياح وهي تصفع النوافذ والأبواب والسماء تتجشأ على سطح
بيته تذكر عامر طفولته ووالدته توقظه ليتوجه إلى المدرسة ثم تقبله و تضع له
زاده في حقيبته القماشية ثم تذكر والده وهو يمسك يده مصطحبا إياه في نزهة
إلى كروم العنب، تذكر عامر أيام لقاءه بحبيبته عند عدوة الوادي سرا وهو
شاب يمطر رجولة, تذكر أصدقاءه الذين تم سرقتهم وكيف كانت آمالهم وطموحاتهم
ثم تحولت لمجرد رماد, وكلما كان يغرق في ذكرياته التي كانت تبدو له دمعة
تسقط على راحتيه محاولا إرجاعه لعينيه إلا أنها تتناثر في كفه فهيهات
عودتها، كان يوقظه صفعات الريح على الباب التي تجعل عامرا يقف على قدميه
المتعبتين من هذا المساء المتعب.. وقف بعدها وحضر فنجانين من القهوة: الأول
له والثاني لزوجته في ضريحها_ فقد دفنها في الغرفة كي لا يأخذ أحد البيت
إبان وفاته وتبقى مملكتهما سرمدا_ شرب الفنجان الأول ودخن معها سيجارة ثم
سكب فنجان قهوة زوجته على قبرها فكأنها شربتْ القهوة معه فبقي الفنجان دون
أن يلمس شفاهها..فآه من فنجان القهوة حين لا يلمس الشفاه ..
نظر عامر من خلال النافذة إلى الخارج ويئس من الأشجار العريانة.. فآه من
الأشجار العريانة..تشاءم و حكّ رأسه السافر إلا من عدة شعيرات ثم تحسر على
أيام شبابه حين كانت تبدي الفتيات إعجابهن بشعره.. وجلس بالقرب من الباب
محدقا فيه طويلا وهو يعلم جيدا أن السارق سيأتي من الباب المغلق بإحكام
وبدأ يتخيل شكل السارق هل هو أبيض اللون أم أسود ؟.. هل هو نحيل أم
بدين؟!..مرعب أم بسيط، يسرق بلطف أم بخشونة، وعندما كان يخمن ويفحص
الاحتمالات لم يشعر إلا بشيء يقفز من النافذة يسلب نوره..
الكاتب والأطياف
أحبّ الوحدة ولطالما أحبّها، غاص بالفوضى ولطالما غرق بها ، كره الضجة
ولطالما كرهها، عشق الصمت ولطالما عشقه ,فلقد تعلّم على سواد الليل وكره
شعاع النور فأدمن على السهر وانعزل عن الخارج .
مهران شاب في ربيع العمر ينسج قصصا وروايات، وفي ليلة من ليالي الصيف
الحارة وبينما مهران يفكر بمدخل لقصته بعد أن غادر قطار الأفكار قبيل أن
يلحق به قلمه، بحث عن قلمه الرصاص الذي كان يعشقه ولا يستطيع الكتابة دونه،
بحث جيدا وأخيرا وجده على الأرض ممدا اقترب منه ليمسكه فظهر أمامه قدما
رجل ذو قامة طويلة يلبس لباس المهرجين وفي مقتبل العمر،ليفزع مهران
وتتوسع حدقتا عينيه ويصفرّ وجهه ويصرخ : _من أنت ؟ ماذا تريد؟..
فيجيبه المهرج بصوته الأجش : أتنساني يا أبي!..
رفرفت رموش مهران مستغربا ومتعجبا لجوابه:من تقصد بأبي لست أبا لأحد ثم أنا
لم أتزوج بعد حتى يصبح عندي أولاد، و أنت تكبرني عمرا.
فيرد المهرج بسخرية :أتضعني وتلدني وتقول لي لست أباك، فأنت كل الليل وأنت
كل ظلامي فلقد جعلتني مهرجا لأضحك الناس فسرقت الابتسامة من وجهي ..آه منك
يا أبي ..
دبّ الرعب في قلب مهران ففرّ من الغرفة مصطحبا معه قلمه ودفتره ليتوجه إلى
فراشه وأغمض عينيه ليتخلص من هذا الكابوس، فاستلقى على فراشه ليغفو قليلا
ويسمع جمهرة من الناس توقظه فأحدهم ينط على فراشه والآخر يدغدغ أذنه وشخص
يهز السرير، فأمسى مهران لا يميز الأصوات وازداد خوفه فصرخ عليهم بقوة :
دعوني ارتاح، فقط أريد النوم أرجوكم دعوني أنام، فاختفتْ الأصوات رويدا
رويدا، ثم فتح مهران عينيه قليلا لتبدو في وجهه فتاة شبه عارية مستلقية
بجانبه فاستيقظ من سريره مذعورا ومتسائلا : من أنتِ ؟ ..
فتجيبه الفتاة : أتنساني يا أبي أنتَ الذي جعلتني مومسا حقيرة أبيع جسدي في
المزاد والأسواق ..
وقف مهران على قدميه مبتعدا عنها خائفا : ماذا تريدين مني ومن أنتم وما
الذي تفعلونه في بيتي وكيف دخلتم إلى داري ؟..
فتجيبه الفتاة : تعال نمْ بالقرب مني فأنت الذي جعلتني مومسا وترفض الآن
النوم بالقرب مني آه منك أيها الأب المخادع ..
هرب مهران من غرفة النوم لينتقل إلى غرفة الجلوس وليفتح الخزانة ويخرجَ
منها حبوبا مسكنة فرأى أمامه شخصا تماما مثله يشبهه بكل الصفات وكأنه
توأمه، فحاول مهران لمسه ليتأكد من أنها ليست مرآة وقبيل أن يسأله مهران
..
أجابه الشبيه : أنا أنت، أعني أنت تخشى أحيانا من الخروج إلى العامة
فتبعثني بدلا منك إلى الخارج وأحيانا تمسي جبانا في مواجهة الناس فتضعني
أنا المسكين في الواجهة بدلا منك ..
فيجيب مهران : لا ..لا إنما همْ يرفضون نشر كتاباتي ويحاولون كسر قلمي
لأنني مازلت اكتب بقلم الرصاص إلا أنني اعتبر نفسي قصيدة السماء ومهما حجبت
الغيوم الشمس فالشمس تبقى شمسا أما كتاباتي فهي كالخمر المعتق التي سيأتي
وقتها وستمسي أكثر لذة، وصدى كتاباتي كلام يخرج من القلب فيدخل بالقلب وليس
ككتابات اللسان التي تتوقف عند حدود الأذن دون أن تتجرأ بالدخول للداخل
..ثم لماذا يحاولون كسر قلمي الرصاص ؟!..ولماذا يحاولون أن يطمسوا معالمه
بممحاتهم؟!..أنت تختلط بالخارج وتعرف الجواب ..ولماذا يقدّرون الخريف
ويرفضون الربيع بأجمل أشكاله؟!...أنا سأقول لك الغصن الغض الجميل تتكاثر
عليه فؤوس الحطابين لقطعه مع أنه في طور العطاء والازدهار ..فلماذا ينتقدون
قلم الرصاص ويحاولون طمسه بدلا من أن يشجعوه ويجعلوه غامقا فيضيفوا له حبرا
.. و لماذا يحترمون الحبر الغامق ؟!.. الاثنان يكتبان ولكن الشكل
مختلف..أتعلمْ أن عائلتي لا تقرأ قصصي بل تقرأ للغرباء لا أعلم لمَ يفضلون
البضاعة المستوردة! ..
بدأ مهران يزحف ولم يعد يستطيع الجلوس ولا النهوض ولا التفكير وتلُبك لدرجة
غير طبيعية ليتقدم ويخرج من تحت الأريكة شخص يلمس يده بيديه الباردتين
ويخاطبه :
لماذا يا أبي جعلتني مشردا بلا أحد دون أن يكون لي سند, أتذكر عندما غضبت
وأحرقت بيتنا الذي يؤوينا تذكر يا أبي تذكر !
نظر مهران إلى وجهه وإذ به شخص مرعب الشكل وسخ المنظر والتراب يتساقط منه
وذو جسم نحيل ووجه مكفهر, فهرول مهران فارا , ليلاقي شخصا يصرخ على وجهه
بقوة: أنت أيها المجرم جعلتني حانوتيا تكرهني النساء ولم تعد ترغب بي
النساء لأقضي وقتي بين الأموات وأصبح شخصا حيا بقلب ميت و لأعاني الوحدة في
حياتي, فتبا لك من أب ..
بدأ مهران بالهروب إلى المطبخ ليصطدم بشخص طويل القامة عريض المنكبين في
يده سكين تنزل منها الدماء وبيده الأخرى رأس الحانوتي وعلى الأرض يتدحرج
رأس المهرج وليؤنب مهران قائلا :
أنت يا أبتي جعلتني مجرما في الدنيا فلقد زرعت الحقد في أحشائي وجعلتني بلا
رحمة ,فيبتعد مهران عنه قليلا سائلا إياه عن سبب قتله للحانوتي,فأجابه
القاتل :
أتسألني وأنت السبب, لقد باع هذا الخسيس أخته التي كانت حياتي وكل أمل لي
في الحياة فجعل هذا النذل حياتي بؤسا بعد أن كسر أجمل صورة لي في الحياة
ثم قتلت المهرج المسكين الذي كان يعشقها ولكنها كانت تنظر إليه كدمية
مضحكة فأنهيته من عذابه وقد كنت أريد قتلها أيضا ولكنها ضاعت من يدي في
حانات المدينة والآن جاء دورك يا أبي ..فركض مهران و اتجه إلى الحمام
كآخر ملجأ له مسرعا مذعورا , وليعم السكون وليخيم الصمت على المكان..
أضيفت
في 25/04/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
مُصارعٌ في قريتي
إنه قادمٌ ! فهو يتسلل في قريتنا هذه الأيام, نعم
يقولون إنه مرعب جدا وذو شكل متوحش ومصارع يهابه الجميع, فلقد قضى على بطل
الكاراتيه في قريتنا, لقد صرعه وجعل عينيه تجحظان وصبغ بشرته باللون الأصفر
وبعد أيام شربنا القهوة المرة التي لطالما شربناها في قريتنا ..
وألبسنا بطلنا ثوبا أخضرا ووضعناه في بيوت الخاسرين
ونصبنا له لافتة تدل على هزيمته ..
كنتُ سابقا فخورا جدا بجدي ذو المناكب العريضة
والبنيان القوي الذي لا يهاب شيئا وكنت انظر إليه كبطل يستطيع هزم المصارع,
ولكن جدي خيب نظرتي به وتبدلت صورته أمامي, فجدي كان دائما يهابه وأذكر أنه
اشترى ثياب المصارعة لأنه كان يتوقع لقاءه قريبا فقد حضرها منذ زمن, وكلما
كان زفيف الرياح يداعب الباب كان جدي يستيقظ للمواجهة, وقبل النوم يخشى أن
يظهر له ولكنه لم يكن يواجهه ولم يحصل أن واجهه فقد سافر جدي في ظلام حالك
والرياح تئن والثلج يهطل بغزارة محاصرا بيتنا ولم يعد.. سافر بعيدا انتظرته
طويلا.. ولم يعد حتى توقعت أنه غادر باحثا عن بلاد الذهب .
كنا في القرية نتحدث عن أسرار المصارع ونتشوق لرواية
أسراره وأذكر أن الخال أبو عمر الذي كان يناهز التسعين من عمره كان ينصحني
بأن لا أنقب وراء أسرار المصارع فعندما تحين لحظة انكشاف سره نكون عند باب
الحلبة وبدفعة صغيرة نغوص في الحلبة وعندها لا ينفع الندم كمتسلق لجبل عال
ٍ وصل إلى القمة فأنهكه الضنى ولم يعد بوسعه النزول ..
ثم لم أعد أرى الخال أبو عمر يحكى أنه سافر إلى
البلد الذي سافر إليه جدي في سكون الليل هرب وفرّ تحت ستار الظلام.
وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة كنتُ جالسا في
غرفتي وقبل أن يأخذ النعاس مني أوصدت الأقفال وأغلقت النوافذ وبدا لي ضوء
في الخارج, فهل يكون المصارع يا ترى ,سرى الرعب في داخلي فوضعت رأسي تحت
اللحاف ربما لا أرى وجهه وتكون هزيمتي على يده أقل وطأة في نفسي.
وأخيرا جاء الصباح مع صياح الديك وخرجت أتسكع في
القرية قليلا, كانت هناك أقاويل تتردد بأن المصارع بدأ بزيارة حسناء قريتنا
وأنه يمشي بالقرب من بيتها كل يوم ويهيؤها لدخول الحلبة , فذهبتُ لزيارتها
وأصبحتُ أدربها قبل المباراة كما نصحها المدربون بتعاطي الفيتامينات ,
فبدأت تقوى على المشي قليلا وأكملت معها إشعال بعض الشموع .
كنتُ أقف عند رأسها انتظر معها قدوم المصارع فاثنان
في المواجهة أفضل من مواجهة وحيدة, ولكن المصارع كان يزورها عند غيابي ولا
يرضى إلا بحلبة غور عميق ولا يحتكم إلا لعزلة دجالة حتى أن دموعها لم ترده
عن قراره, ومعنوياتها بدأت بالانهيار يوما بعد يوم خاصة بعد أن فقدت شعرها
فهربتْ من الحلبة وقفزتْ من على نجد لتسبح في الوادي.
يُقال أن حسناء قريتنا بعد سباحتها في الوادي طارتْ,
فبدأت أخشى الوحدة لدرجة غير طبيعية وعندما فرض الليل وشاحه عزف قلبي نشيد
الرعب وتوقعتُ قدوم المصارع الذي غزا قريتنا وأسقانا كؤوس الدموع , سمعتُ
في تلك الليلة نباحا قويا من الخارج ونهيق الحمار, فأيقنتُ أن المصارع
يقترب وكنتُ قد وضعتُ قفلا حديديا على الباب والنوافذ .
طق طق , إنني أسمع صوت أقدام تدب على الأرض وتقرع
النافذة, فأشعلت المصباح ونظرت حولي ولم أرَ شيئا ولكني نظرت إلى نفسي في
المرآة فاستغربت لنفسي وأنا ألبس وشاحا أخضرا ووجهي مصفر اللون وبدا لي في
المرآة شكل المصارع وهو يقترب مني صرخت عاليا ولم يسمعني أحد ..صرخت طويلا
ولم يسمعني امرؤ ..بقيت أصرخ بدون جدوى فأدركتُ خطئي الكبير بإغلاق الأبواب
حتى أنني لم أترك نافذة صغيرة مفتوحة..
شجرة الأماني
بين الأعشاب والأشواك وعلى قبر المجرم الخطير بسام,
نمتْ شجرة باسقة يقارب طولها التسعة أمتار ,وبدأ الناس في قرية (المساكين)
يضعون قطع القماش عليها بعد روايات تقول بأنها تحقق آمال وأهداف وأمنيات
المحتاجين, نعم كل شخص في القرية وكل فرد عنده مشكلة يتوسل من الشجرة تحقيق
أمانيه حتى أن وفودا جاءت من خارج القرية تطلب تحقيق أمانيها..
أزهرت الشجرة وأعطت أوراقا ذهبية إلا ان أهل القرية
لم يتجرؤوا على قطف أوراقها خشية من لعنة تحل عليهم, فقد انتشر الخبر في
القرية بأنه في غابر الزمان نشأت شجرة مثيلة لها وسرق أحد اللصوص أوراقها
فحلت اللعنة على القرية وغرقت تحت طوفان كبير.
فهي شجرة تفوق عقول قرية المساكين, اقتربتْ فتاة
صغيرة لا تتجاوز العاشرة من عمرها من الشجرة وسمعتْ صوتا غليظا يناديها,
وهذه الفتاة لقيطة نشأت في القرية و يحتقرها أفراد القرية ، تمتاز الفتاة
بشعر أحمر مسترسل طويل وعيون بنية كبيرة وبعض النمش الذي يزين وجهها والتي
تبدو كنجوم في السماء..
ازداد الصوت حدة وسرى الرعب في جسد الفتاة وظنت
بأنهم أشباح ,حاولت الهرب إلا أن الصوت الذي يناديها لا ينقطع, صوت يناديها
:ساعديني ..ساعديني..
دنتْ الفتاة من الشجرة وسمعت صوتا من الشجرة يقول:
أنا الشجرة لا تخافي مني .
قالت الفتاة بخوف: هل الأشجار تتكلم؟..
فأجابتها الشجرة : الفساد يجعل الأشجار تتكلم يا
صغيرتي , فأنا الشجرة ..أنا ابنة الرذيلة والخطيئة لقد صدرت من أرض مجرم
يحصد الأرواح وها أنا أظله بظلي أيضا..
-لا أحد منا يختار أهله أيتها الشجرة فالذنب ليس
ذنبك
-نعم يا عزيزتي ولكني أزهرت على أرض المجرم والناس
يعلقون علي أمانيهم فانظري لهذه المهزلة , عزيزتي الصغيرة ستساعدينني في
التكفير عن ذنوب أبي, صحيح إنني شجرة ولكنني نبتُ من قبر هذا المجرم الذي
أصبح أبي بالإكراه.
-كيف أساعدك يا خالتي الشجرة
-حسنا, ستأتين في كل ليلة عند انتصاف الليل دون أن
يراك أحد وتقطفين ورقة من أوراقي الستة الذهبية وتعطيها لأشخاص سأدلك عليهم
.
في اليوم التالي وعند انتصاف الليل توجهت الفتاة إلى
الشجرة لتبدأ بتنفيذ مهمتها الأولى ووصلت إلى الشجرة فقالت لها الشجرة :
هناك في القرية شاب يدرس في الجامعة إلا أنه لا يملك
نقودا لإكمال دراسته فقرر أن يترك الجامعة ويبدأ العمل على الرغم من أنه
شارف على الانتهاء, خذي ورقة مني وأعطيها له.
أخذت الفتاة الورقة ووضعتها أمام منزل الشاب وفي
اليوم التالي توجهت كعادتها إلى الشجرة فطلبت منها الشجرة أن تأخذ ورقة من
أوراقها إلى الفتى الصغير سامر الذي لم يتذوق طعم الزاد مذ يومين لأن لا
أحد من أهل القرية اشترى من عنده أي علبة علكة على الرغم من أن الناس في
القرية يعشقون علك الكلام.
وضعت الفتاة الورقة بالقرب من رأس سامر وغادرت بعدها
إلى الحظيرة التي كانت ترعاها وتنام فيها.
استيقظ الناس في القرية واكتشفوا اختفاء ورقتين من
أوراق الشجرة وبدأت التحقيقات ولكن دون جدوى فوضعوا حارسا أمام الشجرة,
فبعثت الشجرة حمامة صغيرة وفي فمها ورقة ذهبية من أوراقها مكتوب عليها بأن
الحارس ينام في الساعة الواحدة دائما, فلا تأتي في انتصاف الليل وإياكِ أن
تخطئي ..
اتجهت الفتاة في الموعد الجديد إلى الشجرة والحارس
غارق في النوم فطلبت منها الشجرة بأن تعطي ورقة إلى حسناء القرية رفيف التي
أصبحت عانسا بعد أن تم تشويه سمعتها من قبل راعي الغنم الذي رآها في صحبة
حبيبها والذي بدوره هاجر إلى المدينة هربا من الأقاويل بعد تلك الحادثة
تاركا رفيف وحيدة , فلعلها بهذه الورقة تفتح محلا صغير لتعمل به وتؤمن دخلا
لها يقيها من العوز والحاجة.
أوصلت الفتاة الورقة إلى رفيف وعادت إلى الحظيرة.
وأهل القرية كل خائف على نفسه من سارق الأوراق الذي سيجلب اللعنة على
القرية فهذا السارق ليس مجرد لص بل ملعون يعبث بمقدسات القرية .
دُقتْ الساعة الواحدة وانطلقت الفتاة إلى الشجرة
وسألتها:
ما أنا فاعلة بالورقة التي أعطيتني إياها على شكل
رسالة.
-دعيها الآن عندك فهي لك وضمان لمستقبلك, خذي الورقة
ما قبل الأخيرة مني وأعطيها إلى كاتب كهل كتب الكثير من القصص والأشعار ولم
يستطع طبعها ونشرها في كتاب, فسرق المتسلقون والوصوليون نتاجاته ونشروها
باسمهم, فأعطيه هذه الورقة لينشر بها أشعاره وقصصه وليسجل اسمه التاريخ.
في صباح ذاك اليوم كان الغراب ينعق على غصن الشجرة
واجتمع الناس ليجدوا حلا لسارق أوراق الشجرة فلم يبقَ سوى ورقة واحدة,
وقرروا بالإجماع وضع حارسين بدل الواحد.
أرسلت الشجرة ورقتها الأخيرة عن طريق الحمامة
لتوصلها إلى الفتاة وتنبهها بعدم المجيء كما تنبه الشمعة الفراشة بعدم
الاقتراب .
لمح الحارس الورقة في فم الحمامة فقام باقتناصها
بالبندقية وسقطت الورقة من فم الحمامة السارقة لتسقط جثة هامدة ..
قرأ الحارس ما هو مكتوب على الورقة وانتظروا مجيء
الفتاة.
برهنت الساعة الواحدة على وجودها واتجهت الفتاة
الصغيرة إلى الشجرة ولم تكن تدري بأن الحارسين بانتظارها وعند وصولها قبض
الحارسان عليها وأخذوها إلى ساحة القرية والناس يرمونها بالحجارة, فهي
السارقة والساحرة المشعوذة التي ستجلب النحس إلى القرية ولقد دربتْ الحمامة
على السرقة أيضا.
ألتم الناس من حولها واقترب منها رجل عجوز وقال:
نعم إنها ساحرة اقتلوها فهي ابنة الرذيلة والخطيئة
إنها ابنة المجرم بسام لا تستغربوا هذه الحقيقة التي لطالما حاولنا إخفاءها
, فهل تنجب الشوكة زهرة من المستحيل الشوكة تنجب شوكة والدها كان شخصا
فاسقا اغتصب فتاة من قريتنا وأنجبت تلك المرأة ابنة الحرام هذه التي ستجلب
الدمار إلى قريتنا, استغربتْ الصغيرة من أنها ابنة بسام فلم تكن تدري أي
شيء عن والديها ولم تستطع ان تدافع عن نفسها فالناس ترى الوجوه ومن الصعب
رؤية القلوب, وطلبوا منها ان تدلهم على مكان الأوراق إلا ان الفتاة أبت فإن
دلتهم فستدمر سعادة أربعة أشخاص بالإضافة إلى أن دماء الحمامة سيذهب هباء .
فحكموا عليها بالقتل حرقا وحرقوها ليتخلصوا من الروح
الشريرة ,بعد حرقهم للفتاة ذبلت الشجرة ثم سقطت على الأرض .
بعد أيام وأيام نمت شجرة أخرى شبيهة بها على ضريح
حارس الشجرة الذي توفي إثر جلطة قلبية بعد قبضه على الفتاة, وبدأ الناس
بتعليق أمنياتهم عليها.
البناء 365
(حياة) مخلوق يسمع ولكنه لا يعي ما يسمعه, يرى لكنه
لا يدرك ما يراه ,يأكل إلا أنه لا يشعر بطعم الغذاء الذي يأكله ,يتكلم بيد
أن لغته غير مفهومة ,يشم إلا أنه لا يميز الرائحة .
دفعتْ الرياح (حياتا)_رغما عنه_ إلى مدخل بناء شامخ
عال ٍ لا يستطاع تمييز نهايته, حيث أن نهايته تخترق السحب والبناء مصنوع من
مادة غريبة قوية تسمى المبادئ, ومدخله ضيق جدا فبالكاد يسع (حياة).
عبر(حياة) مدخل البناء بصعوبة وبعد آلام كثيرة وجد
أمامه بابا ضخما جميلا وقبيل الدخول إليه شعر بخوف شديد وأبى أن يدخله إلا
أنه خيار مفروض عليه فإن رفض فسيضطر للولوج إلى الباب المقابل ,وهذا الباب
موحش المنظر وقديم البنيان وتحت ضغط هذين الخيارين دخل (حياة) إلى الباب ذو
المنظر الحسن فتعرّف فيه على سيبويه وفيثاغورث والرازي وداروين وابن سينا
..وبعد خروجه صعد الدرج إلى الطابق الذي يليه ليتجهز للقاء أرسطو وشكسبير
وجبران خليل جبران فدّب الرعب في قلبه فالأمر مخيف في مقابلة أرسطو إلا
أنه بعد مصافحته لأرسطو زال الخوف من قلبه تدريجيا لتعم السعادة فؤاده ..
تجول في أنحاء الطابق مقابلا ماجلان وابن بطوطة
ومعاتبا كريستوف كولومبس على سوء معاملته للشعوب, فتارة كان يصافح دون
كيشوت و يتكلم مع أوليفر تويست وأحيانا يشعل عود ثقاب مع بائعة الكبريت أو
يتجول مع أليس في بلاد العجائب .
كان يسلب نظره صور معلقة على الحائط صعبة المنال
فهي بعيدة عنه لا تصل راحتيه إليها ولا وسيلة للصعود إليها إلا أن تحضر
سلما من الباب المجاور أو أن تحتال بالصعود بالحبال إلا أن (حياة) لا يجيد
التسلق بالحبال, فتنشط (حياة) وقرر الإتيان بسلم بيد أن الوصول إلى السلم
يحتاج لقطع عدة غرف.. فقطع (حياة) عدة غرف متعرفا على تماثيل جميلة وجاء
بالسلم إلا انه استغرب في طريق رجوعه بأن عدة شعرات من رأسه قد شابت وشاهد
في طريقه الكثيرين ممن سقطوا من على الدرج ولم يعد بوسعهم متابعة الصعود ..
كانت السعادة تملأ جنانه لحظة وضع السلم لاقتناء
الصورة إلا أنه عندما وضع الصورة بين مقلتيه شعر بشعور عادي ولم يعتريه ذاك
الشعور الجميل الذي رسمه في مخيلته ..
بعد حصوله على الصورة بدأ الملل يتسرب إلى نفسه,
فقرر الانتقال إلى الطابق التالي وللانتقال طريقتين إما ركوب المصعد أو
الصعود عن طريق الدرج, فصعد (حياة ) عن طريق الدرج ,فالمصعد يحتاج إلى
مواصفات لم يكن (حياة ) يملكها وعند وصوله إلى الطابق وجد أمامه عبارة
مكتوب عليها طابق العمل .
دخل طابق العمل ليجد الجميع منهمكين في أمرهم
ومتحمسين للعمل بجد ونشاط دون ملل أو كلل لا يشعرون بالوقت ويحملهم هدف
اقتناء سلالم توصلهم إلى الصور المعلقة أمامهم ..
بعد أن تعرف (حياة) على طابق العمل.. قرر الانتقال
إلى الطابق التالي إلا أنه قبيل مغادرته وجد بابا منعزلا عن الطابق ,فدفعه
فضوله لاستكشافه فدخل إليه ليجد بعضهم نائما وبعضهم متذمرا من البناء
والبعض يحكي عن الوصول إلى الصور بدون سلالم ,فقرر (حياة) الانتقال إلى
الطابق التالي وعند صعوده الدرج كانت شعراته تشيب الواحدة تلو الأخرى ولكنه
قرر الصعود فالدرجات الماضية قد انهارت تماما من تحته وأمسى البناء من أسفل
واديا مرعبا ولم يتبق أمامه سوى الدرجات القادمة ورغم ذلك أحبّ الصعود
دافعا إياه فضوله للتعرف أكثر فأكثر.. قبل وصوله إلى الطابق سمع أصواتا
عالية وكلاما كثيرا .. ليصل إلى الطابق ويجد أشخاصا أشكالهم أمست غريبة
عليه ,البعض يضع إطارات غليظة في عينه والبعض أحبوا الجلوس ولم يستطيعوا
القيام وآخرون يفهمون الكلام مقلوبا فجلس بينهم والجميع يتحدث لكنه لا أحد
يصغي للآخر يتحدثون عن هولاكو وهتلر ونابليون والمعارك والغزوات إلا أن
حديثهم لا يلق أذنا منصتة وصاغية .
البعض يتحدث عن صور اقتنوها في الماضي وكيف تكسر
إطار الصورة جراء سقوطها من بين أيديهم والبعض يتحدث عن تمزيقه للصورة
بنفسه والآخر يتحسر على صورة لم يقتنيها وشلة تتحدث عن صعوبة إيجادها
السلم فبقي حلم الصورة يراودهم حتى الآن ..
توجعت أذنا (حياة) من الأصوات العالية والقهقهات
وشعر بأذنيه قد ثقلتا وعينيه لا تميز الأشياء جيدا, فقرر الانتقال إلى
الطابق التالي و صعد درجات كثيرة ولم يجد أي طابق فالدرجات لا تنتهي فبحث
جيدا سائرا إلى الأعلى ولم يجد أي طابق .. بحث ولكن بدون جدوى حتى وصل
لمرحلة اختفت فيه الدرجات فجلس في مكانه .
|