أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: ملك حاج عبيد

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

ولدت في جبلة 1946

تعمل مدرسة في الكويت.

عضو في جمعية القصة والرواية.

نشرت قصصها الأولى في الصحف والمجلات السورية.

تسكن في مدينة جبلة ومتفرغة للكتابة

 

مؤلفاتها:

1-الخروج من دائرة الانتظار -قصص- دمشق 1983- اتحاد الكتاب العرب.

2-قال البحر - قصص- دمشق 1986- اتحاد الكتاب العرب.

3-الغرباء -قصص.

4-حكايات الليل والنهار -قصص- دمشق 1994- اتحاد الكتاب العرب.

5-غربـة... ونساء - مجموعة قصصية - اتحاد الكتاب العرب /2000

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

لماذا رحلو فاطمة

الطيور

الرحلة

بحثا عن سماء 

الدوران

قصة حب

الشتاء والحب

الزائر

 

بحثاً عن سماء

 

مروان:

- بابا وصلنا.

أوقف السيارة أمام المدرسة أتلقى قبلة رنا، أرقبها وهي تجري إلى الباب. تلتفت إليّ بوجهها الضاحك، تلوح بيدها وتغيب داخل أسوار المدرسة.

تدرج السيارة، تنعطف إلى اليمين، ينزل أحمد:

- مع السلامة يا بابا.

في صوته رنة حزن وفي عينيه سهوم، أحس ألماً يخزني، أكاد أناديه ولكنه يغيب عن ناظري بين شلة من رفاقه يصخبون قبل الدخول إلى المدرسة.

تنحدر سيارة في الشارع النازل إلى مركز المدينة، تحمر الإشارة، أخفف السرعة، أضحك عالياً:

- يجب أن تتقيد بالقوانين.

- متى؟

- الآن يا مروان؟

أقهقه بصوت عال... دائماً بعد فوات الأوان.

- لا تعبر التقاطعات عند احمرار الإشارة.

أعبرها سهماً وأرى نظرات الهلع في عينيها:

- زوجك بارع يا ليلى لا تخافي. زوجك خائب يا ليلى، زوجك بائس يا ليلى.

"قال لي والدي:

- اخرج من البيت أيها الغبي.

قال لي الأستاذ:

- لا تضع وقتك في المدرسة، لن تفلح".

وأنا أعرف أنني لو أمسكت الذهب لاستحال في يدي تراباً.

- التجارة ذكاء، وقوانين سوق أيضاً، يجب أن تعرف متى تقدم، ومتى تحجم.

- أنت متهور، كيف تكتب له شيكاً وأنت تعرف ألا رصيد لك في البنك، سيلقيك في السجن".

تسوطني رياح حارة، أحس بأنني سأختنق، لم يبق إلا السجن، أفتح درج السيارة أرى الجسم المعدني الأسود ممداً هناك. أتنفس ملء رئتي، ثم تعتريني قشعريرة باردة.

- اشرب قهوتك يا مروان.

- سأعود ونشربها معاً.

- لن أبقى في عمان، سآخذ الأولاد وأذهب إلى دمشق، عندما يصبح باستطاعتك أن تستقل بعملك ويصبح لنا منزل نعيش فيه بمفردنا بعيدين عن سيطرة أختك وزوجها سأعود قبل ذلك لا.

- لن تذهبي، ستبقين هنا، حياة الشتات هذه لا أقبلها لنفسي ولا لأولادي، تحملي معي ريثما أستطيع الوقوف ثانية.

- تحملت كثيراً، لم أعد أستطيع الاحتمال، اذهب إلى السعودية، كون رأس مال هناك ثم عد قد نعيش في الأردن أو في الشام.

- لم أعد صغيراً، لا أستطيع أن أعود إلى السعودية لأبدأ من الصفر.

- وأنا لن أقبل صدقات الآخرين.

صرخت فيها بعنف:

- أيتها الجاحدة متى عشنا من الصدقات؟ ما آخذه سآخذه مقابل عملي.

- أختك تنظر إلينا من أعلى، زوجها سيعتبر نفسه المحسن الذي أنقذنا، إنني أكرهها.

وانفجرت بالبكاء.

- كنتما صديقتين، هي التي عرفتني بك.

- ولكنني الآن أكرهها، وسأكرهك إن قبلت بالعمل عند زوجها.

ليلى الغاضبة، ليلى الخجول، ليلى التي أحبها وأكرهها، والتي تمنيت أن أقدم العالم هدية لعينيها.

- لا أعدك بالكثير لست إلا موظفاً في شركة، في نهاية الشهر آخذ مرتبي ولا شيء غيره، ولكنني أحببتك فهل تشاركينني حياتي؟.

طوفان حب أغرقني، أنا الظامئ الذي أحرقتني رمال السعودية، أعب الأفراح، أفتح عيني أدهش، يا إلهي لماذا كنت مغفلاً، أي روعة هي المرأة؟.

ليلى حبيبتي، أحب عينيك، شعرك، يتمزق قلبي وأنا أرى نظرتك العاتبة.

- تشردت كثيراً، تعبت كثيراً إلى أن التقيتك، أنت ملجئي وأماني.

- وأنا أحببتك يا مروان.

تطوف في عينيها نظرة حزينة.

- أعرف يا ليلى. لا تقولي. سأكون لك أماً وأباً وحبيباً.

من السعودية إلى الكويت إلى عمان. رحلة تعب وحب.

- ستصبح أباً يا مروان، ماذا سنسميه؟.

- نسميه أحمد باسم أبي.

أبي أين أنت الآن يا أبي، أيها الرجل الهرم المتعب، في أي أرض نائية حططت رحالك، لماذا تلح عليّ الرغبة في رؤيتك؟ سبع سنوات لم نلتق.

أغمض عيني أتخيله... قامة طويلة، وجه أسمر، عينان سوداوان براقتان، يسافر، يعود، يأخذنا معه، يتركنا يرتحل، يغيب سنوات.

وجه أمي الحزين، في كل بلد له امرأة، تعرف لكنها تتجاهل، تبتسم، تتزين عندما يجيء، هكذا هي ابنة الأصل تبقى لزوجها مهما طال غيابه.

كانت صبية، كانت جميلة، كانت معذبة....

كبرنا، انتشرنا، ليبيا، الكويت، السعودية، أميركا، دمشق... عائلة؟ هل كنا عائلة؟ أنا وليلى، أحمد ورنا عائلة؟ أي مستقبل لنا نحن المساكين؟.

- سافر، عد.

وأنا أريد أن أحتضنهما، أن أحس خفق قلبيهما، أن ينموا تحت عيني وبصري.

- مروان لا تدع عناد زوجتك يؤثر عليك، العمل مع زوجي مضمون، جربت وانفصلت عنه انظر ما آل إليه حالك، أخجل منه لم يعد باستطاعتي أن أطلب منه إقراضك المزيد.

تخجل منه، أم تخجل أن تقول لي أنت فاشل.

- أختك مغرورة، مذ كنا طالبتين وهي تعتقد أنها تستطيع أن تستحوذ على العالم بجمالها فكيف وقد أصبحت حرم المقاول الكبير، الملياردير.

- لا تسممي حياتك بالغيرة منها.

- أنا لا أغار منها، ولكن أريد أن أذهب بعيداً عنها، مروان أرجوك لقد تلفت أعصابي.

وأنا تلفت أعصابي، وتلفت حياتي.

أتوقف أمام البيت، أيها البيت يجب أن أغادرك غداً، ولكنني مصمم على مغادرتك اليوم، أيها البيت كنت واحة حياتي، كنت لي الواحة يا ليلى فلم تغيرت؟.

- مروان حبك يكفيني، ولكن بحق الله دعنا نغادر إلى أي مكان تختار، لنذهب معاً، أو دعني اذهب مع الأولاد.

أنا المسؤول يا ليلى، حملتك الكثير، وأنا الآن أعدك بالراحة.

أفتح الباب.

- عدت يا مروان؟.

أحدق إلى وجهها، كم أحبها، هاتان العينان المحبتان العذبتان، هذا الشعر ما زال جميلاً كما عهدته، هذه القامة كم ضممتها.

ترنو إلي منتظرة.

- أعد لك القهوة.

- نشربها معاً.

تحدق في وجهي مستغربة.

- ما بك يا مروان؟ لم يرتعش صوتك؟.

- سنرتحل معاً.

- إلى أين؟.

- إلى حيث لا ديون ولا متاعب.

- عم تتحدث يا مروان؟.

- أتعبتك معي، وإن تركتك ستتعذبين أكثر.

فتحت فمها لتتكلم، عاجلتها بالكلام:

- أنا إنسان عاجز، لا أمل ولا رغبة لي في شيء، لم أستطع أن أحقق في حياتي شيئاً ولن أستطيع بعد الآن، من يعرف أنه ليس كفؤاً لهذه الحياة عليه ألا يعيشها، كان يجب أن أتعظ من أبي ولكنني لم أفعل، لذلك يجب علي أن أغادر.

اقتربت تريد أن تطوقني بذراعيها:

- ابقي مكانك، لا تقتربي مني.

ارتفعت يدي بالمسدس، التمعت عيناها بالرعب:

- لن تفعل ذلك.

ارتجفت يدي، انطلقت رصاصة، وثانية، وثالثة، انبجس الدم من كتفها من صدرها تلطخ قميصها صرخت، سقطت.

ركضت إليها، أخذت رأسها إلى حجري، أطلت من عينيها نظرة جارحة:

- لماذا؟.

لأنني أحببتك. لا أريد لك أن تذلي من بعدي.

ابتسمت بحزن، ثبتت نظرتها في وجهي:

- أحمد ورنا؟.

- سيعيشان.

- وأنت؟.

- اسمعي.

سمعت دوياً في رأسي، وتناثرت أشياء الغرفة، رأيت وجه أبي وأمي وأخوتي، من النافذة رأيت سماءً وغيوماً ودماً وسواداً.

ليلى:

- اشرب قهوتك يا مروان.

- سأعود لنشربها معاً.

لماذا سيعود؟ المفروض أنه سيذهب ليدبر أموره، لكم تغير، دخان، أرق، صراخ، أصبحت أخاف منه، أخاف هذه العصبية التي تحيل البيت إلى جحيم....

قالت لي رنا:

- إنني أخاف أبي، عندما ضرب أحمد البارحة ظننت أنه سيقتله، ماما، أحمد لم يعد صغيراً إنه في الرابعة عشرة من عمره، قال لي إنه سيترك البيت ويرحل.

أحمد يفكر بالرحيل، أهي لعنة متوارثة؟ مراون كان في السادسة عشرة من عمره عندما رحل، وأبوه الغجري المترحل؟!.

أكان خطأ اقتراني بمروان؟ ما أغباني وأنا أطرح هذا السؤال الآن، مروان أي تناقض يتنازعك، أي جنون؟.

- مروان أنت لا تعرف الاعتدال، إما دخل كبير وتبذير دون حساب وإما خسارة وتصفية أعمال وأيام صعبة وانتقال من بلد إلى بلد.

- في هذه المرة لن ننتقل سأعمل مع زوج مروة.

- عملت معه فماذا كانت النتيجة؟.

- وانفصلت عنه فماذا كانت النتيجة؟.

- إذن؟.

ونظر إلي نظرته المتحدية فلم أجرؤ على قول ما كنت أريد قوله.

ضاقت الدنيا، لم يعد هناك إلا زوجها ليعمل معه، أنفها في السماء وأنا بعيدة عنها، فكيف سيصبح ومروان تحت سيطرتها؟.

كنا صديقتين نتهامس بأسرارنا، تزوجت، اغتنى زوجها، داخلتها الخيلاء، مال وجاه، فيلا.. سفريات إلى أوربا، ثياب من أحدث بيوت الأزياء، شلة أرستقراطية انضمت إليها، لم تعد مروة التي أعرفها، أصبحت نجمة مجتمع متألقة.

- لا يا مروان سأذهب مع الأولاد إلى دمشق، ولك الحرية في أن تعمل هنا، أو تذهب إلى السعودية.

وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة ليشتعل:

- لست صغيراً، أصبحت في الحادية والأربعين من عمري، أنت والأولاد يجب أن تكونوا معي لا أحتمل حياة الوحدة، ولا أريد لكم حياة التشرد.

أأنا من تسبب في هذه الحياة؟ لعنة التشرد ورثها عن أبيه "كل سماء أعمل تحتها فهي سمائي"، وأنا أحن إلى سماء أظلت طفولتي وشبابي وأشعر بحنين يشدني إليها.

أغمض عيني، أحلم ببيت هادئ أعيش فيه حتى نهاية العمر.

سنوات زواجي كيف قضيتها؟ ست سنوات في السعودية، خمساً في الكويت، اثنتين في دمشق، اثنتين في عمان، لست بالإنسانة المتطلبة ولكن لي الحق في أن أمد جذوري في بلدي، أتمنى أن آلف الشوارع والشجر والناس، أن أحس بالانتماء إلى مكان ما بقعة من أرض وسماء.

أنا الباحثة دائماً عن الانتماء، في بيت أمي، في بيت أبي، في بيت جدي.

وجه زوج أمي بابتسامته المزيفة أمام أمي وعبوسه وراء ظهرها، وجه زوجة أبي "قطة المطبخ البيضاء السمينة" أسمعها تهمس لأختها:

- إنها تنغص علي حياتي.

تقول أختها:

- لماذا لا تزوجينها؟.

في المساء تقول لأبي:

- لماذا لا نزوج ليلى لأخي، لن تجد عريساً أفضل منه، يحمل إجازة جامعية، يعمل مع والدي في تجارته، مستقبله مضمون.

- ولكنها صغيرة، لا تزال في السابعة عشرة من عمرها.

وأتصور أخاها التافه، ذا الوجه الأبيض المنتفخ فأحس بالكراهية تجاهه.

يقول والدي:

- هيا يا ليلى اجتهدي لتدخلي كلية الطب، سأرسلك إلى أي بلد تشائين لتكملي اختصاصك.

وما كنت أريد الاجتهاد، ولا أن أصبح طبيبة، كنت صغيرة، ابحث عن الحب والحنان.

ووجدتهما في عصام، أربع سنوات وهو يسكن عيني وقلبي وسمعي، ضوء غرفته، رواحه، مجيئه، صوته العذب على الهاتف، غنية به فرحة، سعيدة، أنتظر يوم تخرجه ليتقدم إلى أبي، هل عرف هذا الغبي معنى أن يقول لي:

- يجب أن أكون صريحاً معك، لا أنكر أنني أحببتك أما الآن ففي حياتي فتاة أخرى، ثم أنني سأسافر إلى الخارج لأحصل شهادة الدكتوراه.

خرج عصام من حياتي ولكنه استعصى في قلبي، ما كنت أصدق أن حبي الرائع قد انتهى بهذا الغباء. كنت مجروحة الكرامة فجاء مروان ليرد لي كرامتي.

قالت مروة تعرّف بالشاب الداخل إلينا:

- هذا مروان. أخي الذي يعمل في السعودية، وهذه ليلى صديقتي.

التقت نظراتنا، رأيت في عينيه صحارى شوق وظمأ.

- ليلى قد أحببتك مذ رأيتك، في عينيك حنين وشوق، كأن كلاً منا كان يبحث عن الآخر وعندما وجده اندفع إليه.

كان متعجلاً وكانت زوجة أبي متعجلة فأقنعت والدي بالموافقة.

- مروان ليس الزوج الذي كنت أتمناه لك يا ليلى، لا يحمل إلا الثانوية.

- لا أحلم بأستاذ جامعي مثلك يا أبي، مروان طيب وسأكون سعيدة معه.

مروان الطيب، الوادع المحب، النقي، من يعرفه عندما يصبح مجنوناً؟... ما عرفت جنونه إلا بعد الزواج، أول مرة غضب فيها أمامي أخافني بعينيه المتوهجتين وعروقه النافرة، وصراخه الهستيري، ولكن عندما هدأ جاء إلي يقبل يدي:

- سامحيني أعرف أنني أخطأت.

السعودية شهدت عذابي وسعادتي وخوفي.

يعود إلى البيت منهكاً، يتناول عشاءه وهو مغمض العينين ثم يغرق في النوم، سئمت، حننت إلى بلدي، تمنيت العودة، تذكرت عصام، عنفت نفسي.

تقربت إلى مروان وعندما عرفته غفرت له جنونه، كان يغمرني بحنان ما عهدته عند أبوي كان صديقي وحبيبي وزوجي.

عندما جاء أحمد كاد يجن من الفرح، راح يرقص في البيت ويصرخ كالطفل.

- أصبحت أباً.

ثم جاءت رنا، قال لي:

- يكفينا اثنان، لقد كنا ثمانية أولاد، لو كنا اثنين فقط ما تشتتنا، ما ذهب كل منا إلى بلد، هل تصدقين أننا منذ عشر سنوات لم نجتمع معاً.

كان مهووساً بي وبالبيت والأولاد.

- البيت هو جنتي

 كان حنوناً وقاسياً، إذا أخطأ الصغيران ضربهما حتى الإيلام، ثم يندم ويغرقهما بالهدايا.

ربح وخسارة، فرح وحزن، خوف وسفر، إفلاس، شيك دون رصيد، رعب...

- لماذا أخفيت الأمر عني؟ كنت أحس ولكن لم أظن أن الأمر قد بلغ هذه الدرجة من السوء.

- لم أرد إخافتك، ظننت أنني أستطيع أن أتدبر الأمر وحدي، ثم ما الذي تستطيعين أن تفعليه.

كان يتحدث بألم ثم فاجأني بسؤاله:

- هل ندمت على الزواج مني؟.

تأملت وجهي الحزين، رأيت ملامح القهر واليأس.

- أبداً يا مروان، لقد أحببتك، وسأحبك إلى آخر يوم في حياتي.

تندت عيناه بالدموع وخرج من البيت.

لماذا تلح علي الذكريات؟ ألأننا على وشك أن نغادر هذا البيت الذي ألفناه إلى ملحق فيلا أخته؟.

أشعر أنني أختنق، وأنني لا أستطيع أن ألمح نظرة التعالي في عينيها.

أتمنى أن أعود إلى دمشق، لماذا يعاودني الحنين إلى بيتنا، إلى أبي، إلى الحي الذي نشأت فيه؟.

يا للأيام، يا لحياة الإنسان؟ من قال إن الإنسان يملك قدره؟ ليتني أستطيع أن أمتلكه لأتوجه إلى شاطئ أمان واستقرار.

يفتح الباب، أسمع صوت خطواته في المدخل.

- عدت يا مروان؟.

يحدق إلي بنظرة غريبة.

- أعد لك القهوة؟.

يأتيني صوته من واد عميق.

- سنشربها معاً.

- ما بك يا مروان، لم يرتعش صوتك.

ألمح في عينيه التماعة غريبة.

- سنرحل معاً.

- عم تتحدث يا مروان.

- أنا إنسان يائس، لا أمل لي ولا رغبة في شيء، لم أستطع أن أحقق شيئاً ولن أحقق، يجب أن أغادر.

أرنو إليه بحب وإشفاق، هذا الوجه المعذب يحتاج إلى لمسة حنان تمسح عنه أحزانه، أراه طفلاً صغيراً حزيناً، أتمنى أن أضمه إلى صدري لأبث في نفسه الطمأنينة، أسير إليه لأطوقه بذراعي:

- ابقي مكانك، لا تقتربي مني.

أرى المسدس في يده، أرى يده ترتجف، أرى عينيه تتوهجان وشفتيه ترتعشان.

- لن تفعل يا مروان.

- أريد أن أرتاح وأريحك معي.

- لا يا مروان.

سمعت طلقة وثانية وثالثة، ركضت إليه ولكنني لم أستطع، سقطت على الأرض، أحسست سائلاً دافئاً ينبجس من كتفي وصدري، كان قميصي يغرق في حمرة تكبر حتى تشمل كل شيء.

رأيت رنا قادمة إلي بوجهها الطفلي النضر، رأيت أحمد بنظرته الساهمة المعذبة، رأيت مروان بعينيه الذاهلتين.

سقط إلى جانبي، رفع رأسي إلى حجره، رأيت يديه بلون أحمر قان، رأيت دموعه تنحدر من عينيه وتقع على وجهي.

- لماذا؟.

 

- لأنني أحببتك كثيراً.

- أحمد ورنا؟.

تحركت شفتاه:

- وأنت؟.

لم أسمع، كأنني أسقط في واد بعيد، قبل أن أصل إلى القرار سمعت دوياً وصرخة وحلّ الظلام....

 

 

 

الرحلــــة

 

هل أستطيع أن أستعيد السنين الراحلة؟ أقول للزمن توقف، عشت عمراً لا أريده أرجع لي عمري لأعيشه من جديد.

عشرون سنة ركضت... هربت... لم يبق منها إلا تعب الجسد وجراح الروح... عشرون سنة عبرت... آه يا سنين عمرنا الآفلة أنا لا أحب الأفول.

أحب الحياة إشراقاً، تفجراً، فلماذا كان علي أن أنحت الصخر، وأن أستصلح الصحراء... لا الصخر أشاد صرحاً ولا الصحراء أعطتني الخضرة.

وحيدة والمدينة تعج بالحياة.... حزينة والدنيا تأتلق سعادة.

الليل يهبط على المدينة، كنت أحب الليل الآن بت أخشاه أخاف ويلاته.

ليل وامرأة وحيدة... يقول لها أخوتها كلنا حولك ولكنهم يمضون إلى بيوتهم ولا يبق إلاها معلقة بين السماء والأرض.

البارحة كان المصعد معطلاً، فاضطررت إلى الصعود على قدمي حتى الطابق السابع، دخلت الشقة فارتميت على أول أريكة خافقة القلب... خشيت أن تكون النهاية، ولكن ما زال الوقت مبكراً على الرحيل لا أزال في الخامسة والأربعين... منتصف العمر.

كنت أنظر إلى من هم في منتصف العمر وكأنهم ينتمون إلى جيل بعيد عنا، موغل في أعماق الزمن.

وصلت إلى هذا السن وأنا أعجب كيف وصلت.

تتراءى لي الأجيال راكضة... متلاحقة... تبدو لي الحياة متسارعة الإيقاع، أحس أن عبوري كان سريعاً... ومضة لاحت في سماء بعيدة... نقطة في بحر... ورقة في غابة مترامية الأطراف، وأعرف أن كل شيء ماض ونحن إلى زوال، فلماذا الأسى يعتصر قلبي... ولماذا أسترجع أيامي أنا التي أحرقتها لأصل إلى حاضري... أنا التي رجوت الشمس أن تغرب والأقمار أن تغيب لتنتهي أيام الغربة وأعود إلى بلدي.

قلت لبلدي فرح الطفولة والشباب، لهوائها نبض القلب وري الروح... شمسها الدفء والحب ونيلها الخلود والجمال... قلت:

- أهلي وحريتي.

الآن أقول إذا انكسرت الروح فكل البلاد سواء وإذا انغلقت سماء الأحلام أصبحت الحياة سفحاً دون قمة نرتع فيها ونعرف أن هذا هو المدى ولا أمل في ارتقاء.

يقولون لي:

- ماذا تريدين؟ حصلت على ما يلهث وراءه الآخرون حققت أمانك المادي فأفلت من الهموم.

وأقول:

- أريد الكثير وما حصلت إلا على القليل.

يقولون لي:

- القناعة.

و أقول:

- الطموح.

أهو التلاعب بالألفاظ؟ لا. هو التناقض جوهر حياتي، تمنيت أغرف من نهر الحياة ولكنها أعطتني من قطارة شحيحة... كنت أريد حياة حلوة متناغمة ولكن هي الفجوات والقفزات... هي مسافات الركض واللهاث وهي بلادة الانتظار... هي السعادة التي ظننت أنني قبضت عليها وامتلكتها وهي التعاسة التي امتلكتني... هي السر والعلن...

عشت في السر وما عرفت أن سري مكشوف وأن القصص الملفقة التي أرويها كانت قصص تندر في مجالس الآخرين.

لماذا اخترت حياة الظل؟ لماذا قنعت بما أوحى إلي أنه يغدقه علي؟ ألأنني كنت أحس بأنني لست صاحبة الحق أم لأنني كنت مخدوعة؟.

الخديعة... كلمة نحاول أن نستر بها هزيمتنا، أن نعلقها بأعناق الآخرين لننجو من محاسبة النفس، لنقول نحن لم نخطئ الظروف هي التي اضطرتنا.. ننسى هذه الرغبات التي تحرقنا وتدفعنا إلى ما نريد. أريد أن أزيح أثقالي أتخفف منها، أحيلها كلمات فربما استطعت أن أسقطها وأحللها وأتحلل منها.

الكتابة ليست مهنتي ولكنهم قالوا لي: حديثك طلق لماذا لا تكتبين فكتبت، ولكن ما أكتبه يأتي بعيداً عما أحسه....

الكتابة سباحة في بحر عميق وأنا تعلمت العوم متأخرة فلأحاول.

صفحة الطفولة:

لماذا ورثت قامة أبي القصيرة الممتلئة ووجهه الأسمر ذا الملامح الخشنة ولم آخذ من أمي قوامها الرشيق وبياضها الشمعي وأنفها الدقيق؟.

طرحت على أمي هذا السؤال فوجمت لحظة ثم قالت ضاحكة:

- عندما تكبرين تصبحين مثلي.

على هذا الأمل رحت أرقب أيام الصبا.

كنت المدللة فقد أتيت بعد خمس سنوات من الزواج، وكاد أبي أن يتزوج لولا أن استجاب اللَّه لنذور أمي، ودعا والدي اللَّه أن يرزقه ذكراً ولكنني جئت أنثى، إلا أنه تقبلني واعتبرني الصبي الذي كان ينتظر، رافقته إلى السوق والمقهى وإلى زيارات الأقارب، يحادثني، يناقشني، يجيب على أسئلتي الكثيرة ويرنو إلي بإعجاب.

كان أبي فخوراً بي لم يضق بأن ينادى "أبا فاطمة" ولكن نظرة غامضة كانت تنبعث من عينيه عندما يرى رفاقه وحولهم أولادهم الذكور وقد أصبحوا على أعتاب الشباب.

أحسست أن أبي يتوق إلى صبي وأن مكانة الرجل تعلو كلما كثرت ذريته منهم.

بعد سبع سنوات من مولدي جاء أخي محمود.

مجيئه كان أول ندبة في صفحة نفسي النقية المنطلقة التي كانت تظن أن الدنيا إنما خلقت لأجلها، ولعينيها تشرق الشمس ويأتي القمر.

عرفت معنى الهجر ومعنى الغيرة والكراهية...

تجاهلني والدي وكأني لم أكن الحبيبة الأثيرة، أما أمي فقد نذرت نهاراتها ولياليها لإجابة طلبات هذا القادم الجديد.

ولأعترف بأنني تمنيت موته، وكنت أتحين الفرص لأؤذيه، أحسوا بي فأبعدوني عنه.

فعرفت أن الدنيا صراع وأن الغلبة للأقوى، وما كنت الأقوى ولكنني كنت مصممة على الفوز وصممت ألا أغلب في ميدان حتى لو لجأت إلى القنص.

حاولت أن ألفت الانتباه إلي، فقالوا عني خفيفة الظل، وقالوا ذكية، ورأيت التماعة اعتزاز في عيني أبي يوم عرف أني متفوقة في المدرسة، استعدت جزءاً من مكانتي السليبة ولكنني أردت أن أنفرد بساحة الإعجاب.

هل خفت حدة عدوانيتي بعد أن جاءت أمل؟.

كنت في العاشرة عندما جاءت، رأيتها لعبة جميلة أو لعل حبي لها نبع من أنها استطاعت أن تنزع استئثار محمود بأمي.

من أوراق الصبا:

أقف أمام المرأة أتأمل الوجه.. العينين... الأنف.. القامة...

بلغت الرابعة عشرة ولم يتحقق وعد أمي بأن يصبح لي وجهها وقوامها، بقيت صورة أمي هي المثال الذي طمحت للوصول إليه وما وصلت، أتمنى لقامتي أن تمتد، أتمنى لشعري المجعد أن يسترسل... أتمنى لعيني الضيقتين أن تتسعا.

أحس بدبيب شيء غريب حار يشتعل في جسدي، يشعل أيامي لهفة انتظاراً لشيء مثير رائع يحملني إلى عالم غامض لا أعرفه ولكنني بكل حواسي أتلمس معالمه أحاول أن أحدد ملامحه...

يأخذ شكل ضباب، يتألق بألوان بعيدة ساحرة، يرتسم في وجداني خيالاً... أركض إليه ولا أدركه.

أنتظره على النافذة في الشرفة، في اليقظة وفي النوم أترقبه.

تتفتح أمام عيني عينان أحدق إلى سوادهما، تخترقان قلبي تؤرقان ليالي... أعرف معنى الشوق والسهر أحس بأنني أدنو من هذا العالم الغريب البعيد.

أرقبه من الشرفة، أوقت دراستي مع دراسته، سهري مع سهره، عرفت أن الحب طرق بابي وأنني استجبت للنداء.

 

يا اللَّه هل أستطيع أن أستعيد عذوبة النبض الأول... رعشة القلب، ارتجاف الجسد.. إطراق العين... وتعثر الخطوة...

يا براءة الصبا والقلب الغض والحياة التي استحالت عينين وشرفة وأغنية.

الآن أنظر بعين الشفقة إلى المراهقة التي كنتها... الآن أعرف أن هذا الاندفاع والخيال والشوق إلى السماوات البعيدة كان فورة جسد يتفتح فيحيل الرغبات أحلاماً مجنحة.

الآن أعجب لهذه الفرس الجموح الرامحة في سهوب الحياة مطلقة صهيلها اللاهف كيف استحالت فرساً عتيقة هجرت الجري والآفاق واستكانت في بيتها تحلم بالحياة التي لأجلها ضحت بالحياة.

بعين اليوم أنظر إلى أمسي، يوم انصرف عني حبيبي، أرى عيني المحمرتين وبكائي المجنون، أسترجع تصميمي على الانتحار ورغبتي في قتل هذه الغريمة.

الآن أرى تصرفاتي نوعاً من الرعونة السخيفة، أما وقتها وقت الجموح فقد كانت طعنة بقيت تنزف في قلبي شهوراً.

كانت هذه هي الطعنة الثانية في حياتي، ورغم أساي استطعت أن أحول هزيمتي إلى انتصار فتفوقت في الشهادة الثانوية.

وعرفت أن الحياة قنص وفرص تصبح ضائعة إن لم نحسن استغلالها، فصممت أن أستغل فرصي.

حياة الجامعة أنستني قصتي المخفقة، أحببت الجامعة بانطلاقها وشللها ومرحها، لعل أمتع أيامي تلك التي قضيتها في الجامعة.

لم تكن قصة حب تلك التي عشتها في الجامعة، ولكن مشروع أمل كنت أعلقه على زميلي، باعدنا التخرج، ذهب إلى بلده وبقيت في القاهرة.

أقول لعله يأتي ولكنه لم يأت فلم أحزن كثيراً.

بدأت رحلة البحث عن عمل، سجلت في مكتب التنسيق وأنا أستعجل التعيين ولكنني عرفت أن آلاف المتخرجين سوف ينتظرون شهوراً قبل أن نحصل على العمل.

وأخيراً جاء تعييني، فرحت بأول مرتب آخذه، أحسست بنفس قوية حرة، شعرت بأنني أقف على أرض صلبة، ولكن في نفسي مازال هذا التوق إلى البعيد الغامض...

سنتان في العمل لم تستطيعا أن تمتصا قدرتي على الحلم... في داخلي شيء يدفعني إلى حياة غامضة بعيدة.

الرحلة الأولى:

لاح لي التعاقد مع السعودية نجماً ساطعاً سريت إلى ضوئه، بدت لي أرض النفط والذهب فتحرك في أعماقي الشوق للبعيد المجهول.

أصبحت أيامي حلماً بالعقد والسفر...

أخذت أبي معي وسافرت إلى الأرض الموعودة تسبقني خيالات امتزجت فيها رغبات الدنيا الجموح بالرهبة والخشوع.

صحراء وشمس حارقة وغبار وعباءة سوداء لفت بالسواد أيامي، كنت أحس بالاختناق وأرى آثاره في وجه أبي، أنظر إليه بإشفاق لا ملاذ له إلا المسجد، المتنفس الوحيد لروحه المتوحدة أما أنا فلا ملاذ لي لا شيء إلا الغربة والوحشة والضيق والخوف.

حياتي لم تكن حياة، كانت انتظاراً لآخر الشهر وللصيف أقضيه في القاهرة.

عرفت الشوق والحنين وعرفت ما الذي يعنيه الوطن... وعرفت قسوة أن يضيع الوطن أبناءه.

ثلاث سنوات ما أطولها... لو كنا سنلغي أيام الشقاء من أعمارنا لما تجاوزنا الطفولة أبداً.

ثلاث سنوات امتد عذابي، أحسست بأن البقاء يعني الموت وكنت أحب الحياة.

أرى هذه السنوات بعيدة غاربة، كأنني لم أعشها... كأنني لم أقطع أيامها عذاباً...

عدت إلى القاهرة ولكن لأسافر منها ولأودعها وداعاً طويلاً.

الرحلة الثانية:

بلد جديد... وعد... وأن الواقفة على حدود الظمأ، ثلاث السنوات التي قضيتها في السعودية ألقتني على طريق الحلم، ولكن ما حققته، فهل تستطيع الكويت أن تحقق لي حلمي؟.

سماء وصحراء وبحر وانطلاق، قلت هنا تتحقق المعادلة الصعبة، الوفرة والحرية.

أقبلت على الحياة بشوق عارم، سيارة تطوف بي البلد... البحر... الأسواق... المنتزهات... صديقات ومرح وحياة تفتح لي ذراعيها أنا الظمأى، أشرب ولكن الظمأ ما زال يحرقني.

شابة في السابعة والعشرين، في قلبها يضطرم شوق، وفي جسدها تشتعل رغبة، والبلد على انفتاحها مغلقة.

أغرق في عمل مسائي، أحاول به أن أمتص الفراغ والطاقة...

أعود إلى البيت متعبة ولكن حاجة القلب لا تلبى...

أدور... أدور... أبحث عن شيء ينقصني، عما به اكتمالي... فلا أجد.

أعود بغصة الفقد... والسنوات تنسل من عمري... أقف على مشارف الثلاثين أشعر بحزن، هذا هو الحد الفاصل ما بين الشباب وما بعد الشباب والفارس الذي حلمت به ما لاح في سمائي.

وتقول أمي:

- لا تضيعي حياتك، عودي إلى بلدك.

و أقول:

- أحلامي كثيرة وما حققتها بعد.

يقول أبي:

- كفاك غربة.

تغرب شمس أبي، تلحقها أمي وأحس بالخوف، أحس أن الجدار الذي كان يفصلني عن الموت قد سقط وأنني مكشوفة للمصائب مهيأة للرحيل... أشعر أنني نبتة وحيدة... أحن إلى أختي وأخي، أتمنى أن أظلهما بجناحي، ولكن ماء البحر لا يروي وأنا مازلت ظامئة إلى حياة رغدة أراها حولي وأحلم بها وأسير إليها، ولكن.. لا أصل.

على حافة الخوف والتوق عرفته...

اللقاء:

وسط العاصفة التقيت به، فكان حبي عاصفاً.

ذهول.. وحطت طائرة السادات في القدس.

غضب... قطيعة... معارك... وأصبحت مصر متهمة في نظر الجميع.

وانصب الغضب على المصريين العاملين في الخليج، عنف الهجوم على المصريين جعلني أتعصب لمصريتي، أحسست أن مصر رغم تضحياتها متهمة في شرفها القومي وأن الزميلات الفلسطينيات مستعدات لتحويل كل حوار إلى مشاجرة.

كانت المجادلات عنيفة، كادت إحداها أن تتحول إلى تماسك بالأيدي.

كنت منفعلة مهتاجة، فقالت لي سلوى:

- لن أدعك تعودين إلى سكن المدرسات، قد تتجدد المشاجرات هناك، تعالي معي إلى بيتي، تبقين عندي حتى المساء ريثما تهدأ أعصابك.

كنت بحاجة إلى الصحبة، إلى التنفيس عن الثورة التي تجتاحني، فرحبت بالدعوة.

عندما رأيت زوجها لم أصدق، معقول أن يكون زوج زميلتي الأستاذ مختار مقدم برنامج الشباب في إذاعة القاهرة؟.

ورحنا نتذكر أمجاد هذا البرنامج، وتدفق يتحدث عن ماضيه وجمهوره والشخصيات التي قابلها.

أعادني إلى أيام الصبا، عندما كنت أسمع وأتحمس وأظن أن السماء قريبة من يدي، وأننا الجيل الذي يحمل رسالة مقدسة.

ترحمنا على عبد الناصر الذي أسرج لنا الحلم فرساً، تطير بنا إلى دنيا الكرامة، وتأسينا على البؤس الذي وصلنا إليه.

عدت إلى السكن يغمرني شعور بالرضا، أحسست أن صحراء الخواء في أعماقي قد تندت بالحنين إلى شيء جميل يربطني ببلدي، بشيء كان يلون أيامي بالأمل.

قالت لي سلوى في اليوم التالي:

- قال مختار إنك لطيفة خفيفة الظل.

كثرت زيارتي لهم، أصبحت فرداً من البيت، طالت أحاديثي معه، تشعبت.

كان يملك هذا المنطق القادر على تحليل الأمور وردها إلى أصولها... فتنتني ثقافته وصوته الرجولي القوي وقدرته على الإقناع.

كنت أستمع إليه فأحس أن صوته يحتوي الدنيا، يسكب على الكلام ضوءاً ودفئاً، وأغبط نفسي أن محدثي هو صاحب هذا الصوت الذي فتن أسماع جيلنا وأقام له عالماً من الفتوة والحلم.

للكلام معه طعم مختلف، له مذاق النضج والعمق وأنا صحراء التوق أغرق معه في حديث لا ينقطع.

لم لم ألتق بمن يماثله؟ أين كنت سألتقي وأنا الطائر المهاجر الذي ما استقر في بلده ولا المنفى الذي اخترته منحني حياة أحس فيها بإنسانيتي.

عمل في الصباح وعمل في المساء... ركض وراء مال هارب ينسرب من بين أيدينا كالرمل.

قلت لسلوى:

- أنت محظوظة بمختار.

قالت ضاحكة:

- هو المحظوظ.

أما هو فقد هز رأسه وقال لي بعد أن غادرت:

- سلوى طيبة، ولكن الرجل بحاجة إلى ما هو أكثر من الطيبة.

لماذا أفرحتني كلماته؟ شيء ما ينقصه ويبحث عنه، أتراه وجده عندي؟.

لأجله كنت أشتري الثياب الجديدة لأجله أتزين، لأجله العطور.. أصبحت أيامي انتظاراً لزيارتهم.

أنكرت نفسي، إنها صديقتي، فكيف أجرؤ؟.

أقنعت نفسي أنه من الطبيعي أن ينمو الود بيني وبين زوجها... ولكن كنت أضحك على نفسي... إنه الانجذاب، إنه الدوران في فلك لا نستطيع منه انفكاكاً.

عرفت أنني قد بدأت طريق الشوك.

خوف... عذاب... تأنيب ضمير، محاولة ابتعاد ثم كان الانجراف، كنت أهوي... أهوي.. وكان ينتظرني ملهوفاً.

كيف كان اللقاء؟... صحراء شوق وكان المطر.

مطر ما ترك للصحراء ظمأها ولا رواها... لقاءات مسروقة عن عينيها وعيون الأولاد والأصدقاء... من أين ينبع كل هؤلاء الأصدقاء؟.

لا مكان يأوينا، ندور لائبين في السيارة على الشاطئ... في الطرقات.

سهام الشك انطلقت من عيونها، إنها تحس وأنا أراوغ... أتحدث معها وكأن لا شيء بيني وبينه، ولكن جداراً لا مرئياً قام بيننا، حتى بيني وبين الأولاد.

أيتها الصديقة، ماذا أفعل، لقد خرج الأمر من يدي.

من يطفئ النار إذا اشتعلت؟.

كان علي أن أبتعد قبل أن تنبعث الشرارة، الآن فات الأوان، ودعت الصداقة، وأشرعت بابي للحب...

كثرت اللقاءات... صحاري الشوق تفتت ظمأ وسماؤه داكنة أرهقها الانتظار.

إلى أين سأمضي معه؟ لا أستطيع أن أقول له طلقها... إنها صاحبة الحق به وأنا الدخيلة، ولا أستطيع أن أمنع اندفاعي إليه... مددت يدي إلى النار واستعذبت وهجها، ولكنني تذكرت نار ربي... فتراجعت.

يجب أن أبتعد... لم يمض على قراري أسبوع... مرضت، انسحبت الألوان من عيني، كل ما حولي غدا رماداً.. فرغ الشاطئ من الأنس، انطفأت الشمس، سكتت الأصوات فقدت الإحساس.

أنام وأستيقظ وأذهب إلى المدرسة، وأجلس أمام التلفزيون وأتحدث وأفتح فمي بابتسامة ومن حلقي تنطلق قهقهة ثم أبكي فأنا لا أحس.

أيام البعد تمر على قلبي رصاصاً... تتثاقل... تسحقني.

في الليل يأتيني وجهه حزيناً:

لماذا تعذبين نفسك؟.

- من أجلها.

- ونحن؟... ماذا عنا؟.

- لا أريد أن أخطئ، يجب أن نفترق.

- بل يجب أن نتزوج.

أستدعي الفرح؟ أم الحزن؟ أم الخوف؟.

من أحبه يطلب الزواج مني وأنا أتمنى أن أندفع ولكنني لا أستطيع، يأتينني وجهها... وجوههم... عتبهم.

- نحن بشر لنا الحق في أن نحب، أحل اللَّه لي أربعاً، لو كان حراماً ما أحله.

هذا هو الحلال الذي يعرفه!، لو كنت مكانها هل أرضى لزوجي أن يتزوج ثانية؟.

واندفع الرفض في قلبي... لو كنت مكانها لفتحت له الباب وقلت:

- اخرج... لا أريد رؤيتك ثانية.

كيف أحل لنفسي زوجها؟.

بذور ندم نبتت في نفسي، راحت تنمو واهية في، تتحامل على نفسها، تحاول أن تستقيم، لكن رياح الهوى تغلبها.

أي نبتة واهنة هذه التي تصمد للعاصفة؟.

وأعرف أنني ضعيفة، وأعرف أنني مندفعة إليه بكل جموحي وشوقي وظمئي، ولكنني ما زلت أقاوم.

أحاول أن أتماسك، أن أذكره بها، بالأولاد، يسكتني:

- أنت لا تعرفين ما الذي يعنيه لي الفراق، أنت المرأة التي بحثت عنها، تعبت حتى التقيتك، عندك وجدت ما أبحث عنه، فيك اكتمالي، لا تفوتي علينا فرصة سعادة قد لا نلتقيها.

وسنوات عمري الثلاثون تصرخ بي: هذا هو رجلك الذي تحبين، فلم الغباء؟! هو من أحببت، وهو من انتظرته سني حياتك، فكيف تفرطين به؟.

"لا تفوتي سعادة قد لا نلتقيها" وأنا أعرف أن الحياة فرص نندم بعد أن تصبح ضائعة.

بينهما صحارى ملل وبعد، هما أزواج بحكم العادة، ولكن حبنا شيء باهر، كيف أضحي بالوهج والألق بالمدارات الرائعة من أجل حياتهما الخاملة؟.

لن أحرمها منه، سيكون لها الزوج أبو الأولاد وسيكون حبيبي وزوجي.

وأصرخ:

- أريده لي وحدي.

وأعرف أن صرختي لن تستجاب، بل ترتد إلي غصة.

كنت أحلم بالثوب الأبيض... بالطرحة... بالأضواء... بالأهل يحيطون بي، ببيت يتألق بجماله وأناقته.

زواج في المحكمة لم يحضره أحد.

أصبحت زوجته، ولكن زوجة مشردة بلا بيت، تلتقي بزوجها خلسة في الفندق في بيوت الأصدقاء المسافرين، ولكن ليس لها الحق بأن تطالب ببيت، ليس لها الحق في أن تظهر معه علانية.

لماذا رضيت؟... لماذا رضيت بهذا الوضع الشاذ؟.

كنت أظن أنه الحب، الآن أعرف أنها الرغبة، التوق إلى اقتحام عالم محاط بالسحر حلمنا به منذ الصغر، وتعلمنا أن تكون حياتنا انتظاراً له.

الآن أتساءل ما ركضت إليه وما ضحيت لأجله... هل كان يستحق مني هذه التضحية؟.

أضحك ساخرة وأقوم إلى سيجارتي أنفث دخانها حلقات أراها تتبدد في سماء غرفتي.

وأقول:

- تبددت حياتي قلقاً... وانتظاراً... وفراغاً.

يلفني الفراغ... يلفني الليل والخوف:

البيت:

قلت له:

- زواجنا ليس زواجاً لقاءاتنا مسروقة، مللت الأكاذيب، أريد أن أخرج معك أسهر معك، أسير في الطريق معك، أنام معك في بيتي أريد أن أقول للناس جميعاً أنا زوجتك، لم يعد باستطاعتي أن أقول لمن يراني معك أنه أخي.

قال- أنا لا أستطيع، مرتبي ومرتب زوجتي بالكاد يكفينا، لا تنسي أن لدي ثلاثة أولاد علي أن أؤمن مستقبلهم.

سألته:

- وأنا ألا مستقبل لي معك؟!. إن كنت تعرف نفسك غير قادر على أن تصرف علي بيت آخر، فلم تزوجت؟.

قال:

- ظننتك أنضج من ذلك، ظننت أن حبنا شيء استثنائي بعيد عن مواصفات الزواج والبيت والمصروف.

ما يقوله أيقوله عن قناعة أم هي محاولة للتملص؟ في ذلك الوقت لم أستطع الجزم، كان الحب ما زال يغشى عيني، فرجحت حسن الظن وقررت أن يكون لي بيت.

أخذت قرضاً من البنك واستأجرت شقة، فرحة وحزينة في آن واحد، ونحن ندور على معارض الأثاث كان مرافقاً لي أما عند الدفع فقد كنت أنا التي تدفع.

بعد خمس سنوات أصبح لي بيت، حاولت أن أفرح ولكن الفرح لم يستجب لي بل سكنتني الغصة.

أعرف أن الزواج مشاركة ولكنه أعفى نفسه من أي التزام وكان علي أن أقوم بالأعباء وحدي.

شيء ما قد تغير في مشاعري نحوه... هذا الاندفاع إليه واللهفة للقائه قد خفتا في نفسي، وعرفت أن إلى جانب الحب أشياء أخرى إن لم تتحقق فإن الحب يتآكل ولكنني قطعت على نفسي الاسترسال في تحليل مشاعري.

أقنعت نفسي بأنه لا فرق بيني وبينه، وأن القادر هو الذي يعطي وأنا القادرة.

وأعرف أنني كاذبة، ولكنني أحاول أن أقنع نفسي بأنني سعيدة وأن على الإنسان ألا يطالب بالكثير، وأحس به يتناءى، أحس به مشغولاً عني وهو معي، مرض الأولاد ومصاريفهم ودراستهم، أحاديثه كلها كانت تدور حولهم، أصبحت مستشارة لشؤونهم، وكان هذا يجرحني.

متى يصبح عندي ولد، خمس سنوات مضت على زواجي ولم يأت الطفل، وأنا أدعو اللَّه أن يمنحني طفلاً أحمله وأداعبه وينشغل به عنها وعن أولادها.

أنتظر وما أمر الانتظار... وأسمع زميلاتي يتحدثن عن تعب الأولاد والسهر فأقول يا شمس التعب متى تشرقين في حياتي ليذهب عني ليل الفراغ والوحدة، ولكن الطفل لا يأتي ويبقى هو يهذي بأولاده وأحار هل أحبهم أم أكرههم أم أغار منهم؟.

أحياناً أتمنى أن يمضوا جميعاً ليبقى لي وحدي، ثم أعاتب نفسي على هذه القسوة وأسحب دعواتي.

المواجهة:

طرق الباب ونحن لا نزال في السرير، وضعت علي روب الحرير الأسود.

البارحة قال لي:

- في اللون الأسود تتألقين.

تأملت نفسي في مرآة الصالون وأنا أعبره، فأحسست بالرضا.

فتحت الباب كانت سلوى أمامي، وقفنا متقابلتين، في عينيها الغضب والاحتقار، وفي عيني الخجل، قالت:

- أنت عاهرة.

صعقتني الكلمة... تراجعت... دخلت إليه، وسمعت صوته المدهوش، جملة واحدة تلك التي نطقتها.

- ألم تخجل من نفسك.

وسمعته يقول:

- انتظري.

ولكنها لم تنتظر، قبل أن تصفق الباب قالت:

- لن تكون الأخيرة في حياته، كما سرقته مني ستسرقه أخرى.

بقيت واقفة في الصالون مشلولة لا أعرف ماذا أفعل، جلست على الكنبة، انتظرت أن يأتي إليّ ليواسيني ولكنه لم يأت.

رأيته قد لبس ثيابه يريد الخروج وراءها، عندما التقت نظراتنا سألني بضيق:

- من الذي أخبرها؟.

أغلق الباب وراءه وبقيت وحدي، ثلاثة أيام لم أره، كلما اتصلت به في عمله قالوا استأذن وخرج.

اذهب إلى المدرسة أعود إلى البيت، أدخن، أنام، آكل، أستيقظ، تغرب الشمس يهبط الليل....ينبلج الصبح، أعاود الكرة، أحس أنني أنهار.

كان النهار لي والليل لها، فهل استكثر علي لقاءات النهار؟.

واتصل به في البيت وأسمع صوتها فأضع السماعة وأحاول ثانية.. وأخيراً يأتيني صوته:

- إنها ثائرة والجو متوتر، سأنقطع عنك فترة.

أركب سيارتي.. أنطلق في الشوارع... أدخن... أبكي... أدور وأدور، أصل إلى بيته، أوقف السيارة، اصعد الدرج، أريد أن أقول له:

- أنا زوجتك بشرع اللَّه، فلماذا تخاف؟.

ستفتح لي وأواجهها، سأقول لها:

- لقد أحببته وتزوجته.

تنظر إلي باحتقار وتقول:

- لا تحدثيني عن الحب يا سارقة الأزواج.

كنت أعرف أن هذا اليوم آت فلماذا الحزن؟ كنت أعرف أنني أنا الطرف الضعيف الذي يجب أن يتوارى، أن يمارس حقه في الحياة والحب خلسة.

الآن انكشف السر فمم أخاف؟. سيعرف الناس جميعاً أنني زوجته أكاد أرى الوجوه والغمزات والكلمات المغرضة.

أعرف كل شيء، أعرف موضع كل طعنة في ظهري وأحس بلسعة كل نظرة.

وأحس بأنني أختنق فأستنجد به، يأتيني وأشعر أنني أنا التي جئت به، ولم يأت من نفسه.

كأن شرخاً قد أصاب زواجنا، لكأنه كان يستعذب لعبة الخفاء والمغامرة ولما انكشفت فقدت سحرها، أم لعله قد...

وأخاف أن أنطق الكلمة.. أيمكن أن تكون قصتنا قد انتهت إلى الملل؟.

أسأله... لا يعرف بم يجيب.

أعاود السؤال فيقول:

- هي طبيعة الأشياء لا يمكن أن تمضي سنوات زواجنا بنفس اللهفة الأولى.

هل استهلكنا علاقتنا؟ ظننته قمر حياتي، ولكنه ما عاد يرسل ضوءاً، حجبته الغيوم، قلت للغيوم مواسم ولكن يبدو أن غيوم سمائي دائمة.

يتباعد، ينأى، وابتعد أحس أن جداراً قام بيننا.

يأتيني زائراً له حقوق الضيف، ولكن ليس له التزامات صاحب البيت، ألتمس له العذر حيناً وأثور عليه حيناً، يسترضيني بضمة وقبلة وأنا الغبية أنسى غضبي وأمسح دمعي، وأريح رأسي على صدره وأبات بين ذراعيه تاركة حزني لعاصفة أخرى.

أهذا هو رجلي الحلم والوعد؟ القامة العالية انحنت، الوجه المملوء تهدل، الأحاديث الفاتنة أصبحت اجتراراً لما حدث معه في العمل وفي البيت، وأنا أحس بأنني كيان زائد، إنسان خارج إطار تفكيره.

تزوج أخي، تزوجت أختي، جاءهم الأولاد، ولكن هل يستطيع هؤلاء الأطفال مهما أحببتهم أن يصبحوا بديلاً عمن أنتظر؟.

ثماني سنوات من الزواج ما أثمرت طفلاً، أصبحت في الثامنة والثلاثين، أريد أن أصبح أماً قبل فوات الأوان.

أدور على الأطباء يقولون لي لا مانع من الحمل، والحمل لا يأتي وخوف الفوت يتعاظم، وأنا قد اختلطت لدي المشاعر، لا أعرف إن كنت أحبه أم كنت أكرهه أم أني اعتدته.

غاوتني فكرة الانسحاب من حياته، ولكن لا أستطيع، شيء لا أدريه يربطني به، بقايا حب، ظلال أمل، خوف؟... لا أريد أن أصبح مطلقة في مجتمع يكره النساء الوحيدات.

أنا بحاجة إلى رجل، ظل رجل، كنت أسخر من العقل الشعبي وأنعته بالغباء، الآن أعرف ما الذي يعنيه "ظل رجل".

الاجتياح:

كنت في القاهرة عندما هبت العاصفة، ظننت الأمر مناورة تنتهي بأيام ولكن لا، لقد اجتاحت العراق الكويت وتدفق الكويتيون على مصر.

وضج العرب وانقلبت الدنيا، أتضرب العراق لتحرير الكويت؟.

خرجت مظاهرات تؤيد ومظاهرات تعارض، وانقسم العرب وتشاتموا واقتتلوا واستنجدوا بعدوهم.... فأنجدهم.

كان الخوف يغزو قلبي، من أين أعيش وأنا ما عملت حساباً لمستقبلي، رصيدي في البنك لا يعدو آلاف الجنيهات أصرفها ثم ماذا؟ قلق كان يؤرقني، أما هو فقد كان غارقاً في هموم مصروف الأولاد ومدارسهم.

قليلاً ما كنت ألقاه، بدأت أحس أنني غلطة في حياته وأن حياته تسير بي وبدوني، كتمت هذه المشاعر حتى عن نفسي ورحت دون شعور مني أبحث لنفسي عن حياة بديلة فيما لو افترقنا.

بدأت أمد جذوري في بلدي، الأهل والمقاهي على النيل، الشوارع في الليل، أحسست أنني نبتة عادت إلى موطنها فارتوت بمائة وتنشقت هواءه فعادت إليها الروح.

وجدت عملاً فزايلني الخوف، لم يعد هم العيش يؤرقني ما زلت قادرة على العطاء.

سبعة أشهر مرت وأنظار العالم معلقة على العراق، أيقبل بالانسحاب أم يرفض، ثم كانت الضربة القاصمة.

بدأت الكويت تستدعي العاملين فيها، في الجريدة قرأت اسمي واسم مختار، اسمها لم يكن موجوداً.

فرحة صغيرة داخلتني ما لم أستطع أن أحققه لنفسي، حققته لي الظروف، لن يتمزق بيننا سيكون لي وحدي، في الكويت على الأقل.

حومت الطائرة في سماء الكويت، كانت السماء بساطاً رمادياً داكناً وآبار النفط كان شموساً صغيرة تضيء ظلام الدخان.

توقعت أن أرى الكويت خراباً ولكن لا، الكويت كما هي ما عدا بعض البنايات المحترقة.

إلا أن شعوراً بالكآبة بالرهبة بالوجوم كان يخيم عليها، إنها البلاد عندما تطلع من الحرب، وانتقلت إلى عدوى الوجوم، انطفأت فرحتي بالعودة، داهمني قلق ماذا حدث لبيتي وسيارتي؟.

رغم كل ما سمعته عن الفوضى والسرقة كان لدي يقين بأني سأجد بيتي كما تركته وسيارتي عند الباب تنتظرني.

وصلنا إلى شارعنا، هدوء قاتل وسواد يخيمان عليه، لقد رحل الفلسطينيون، فالشوارع خواء.

وقفت بنا السيارة أمام عمارتنا، ملهوفة كنت أبحث عن سيارتي، ولكنها لم تكن في مكانها... رحت أبحث بين البنايات في الساحة الخلفية، في الشوارع الفرعية، ولكنها لم تكون موجودة.

شعرت بالدم حاراً يصعد إلى رأسي وسقطت الدموع من عيني....

عندما دخلت إلى الشقة انفجرت بالبكاء... لم يكن هناك إلا الأرض والجدران والنوافذ المفتوحة للسخام والغبار.

كان واجماً كأنه توقع ما حدث، أما أنا فقد كانت صدمتي كبيرة، حاول أن يواسيني ولكني رفضت أي عزاء.

كل قطعة أثاث في بيتي هي قطعة مني، من تعبي وعرقي.

لم ينهبوا أثاث بيتي، بل نهبوا حلمي ومستقبلي، قطفوا ثمرة عملي أنا التي كدحت وجهدت ليكون لي بيت.

ذهبت السيارة وذهب أثاث البيت، وأصبح لزاماً علي أن أسدد أقساط القرض الذي أخذته.

حزن وقهر وغضب اجتاحني، كنت كاللبوة الجريحة أشتم وأسب وأصرخ وأبكي، لو أعرف أي مجرم سرق بيتي لمزقته بأسناني وأظافري.

قال:

- اصبري.

وقلت:

- من يأكل العصي ليس كمن يعدها... أنت ما شقيت بالبيت لذلك لا تعرف ما الذي يعنيه لي.

قال:

- سنتعاون لنؤثث بيتاً بسيطاً.

أي بيت ذلك الذي أثثناه، أثاث رخيص مستعمل ذلك الذي اشتريناه، لم يكن ما أثثناه بيتاً ولكن بقايا بيوت ربما كانت مسروقة كبيتي.

ترى من ينام على سريري الآن، من يلبس قمصان نومي، من يركب سيارتي... وتنطلق الحسرة من قلبي.

عدت إلى عملي، التقيت بزميلاتي، الوجوه لم تتغير ولكن النفوس هي التي تغيرت زال الود القديم، ساد جو توتر واستفزاز.

كره الكويتيون كل ما هو عربي وعشقوا كل ما هو أجنبي، قلت لهم ضاحكة: أنا لست عربية، أنا فرعونية، ولكن تهمة العروبة كانت لاصقة بكل ما هو غير خليجي، ذكرتهم بأن مصر وقفت إلى جانبهم فقالوا: لكل شيء ثمن، قلت لهم: الدم لا ثمن له.

ثم عرفت أن لكل شيء ثمناً وأن دم الأمريكي أغلى بكثير من دم المصري، وعرفت أن اللَّه خلق الناس شعوباً وقبائل لا ليتعارفوا، ولكن ليتعالى بعضهم على بعض بقوة الدولة أو المال.

ثقيلة تلك السنة التي مرت بعد الاحتلال أيامها بطيئة ثقيلة، يحس الإنسان أنه يختنق بالدخان وبالممارسات الخاطئة ويجرح بسهام الكلام.

كان الكويتيون يحسون بأن الجميع قد تآمروا ضدهم وأن الجميع كانوا يحسدونهم، لذلك رحبوا بابتلاع العراق لهم، وعبثاً كنت أشرح لهم خطأ الفكرة، لكن أمام التعصب يسقط أي اقتناع، شعرت أن شرخاً قد أصاب علاقاتنا أما الشرخ الذي يكبر يوماً بعد يوم فهو شرخ زواجي من مختار.

سنة الغزو علمته معنى التقشف، جعلته يحس بأنه في كل لحظة معرض للخطر لذلك ازداد حرصه، أصبحت أنا رجل البيت وامرأته، وقليلاً ما كان يسهم في المصروف، أما مرتبه فجزء منه لزوجته وأولاده والجزء الأكبر يحوله إلى مصر للادخار.

قاسية تلك السنة التي مرت، كان البنك يخصم نصف مرتبي، وكان علي بالنصف الباقي أن أقوم بأعباء البيت، لم يبق معي حتى ثمن ملابس لي، أحسست بالظلم بأنني مستغلة وبأنني أعيل رجلاً كان يجب أن يعيلني، نبتت في ذهني صورة أبي بصوته العالي بارتجاف أمي أمامه، رأيت فيه صورة الرجل وكان مختار يرتجف أمامه ذليلاً.

هل هي نكسة في تفكيري؟ إنها النكسة على كل المستويات.

إنني أختنق بضائقة مالية أما هو فيبدو أن الأمر لا يهمه، بدأت أشعر بالقرف، بدا صغيراً ثم راح يسقط ويتسفل، وبدأت أكتشف علاقات دنيئة كنت أظنه فوق مستواها.

رحت أتأمله وأسأل: أهذا هو الرجل الذي أحببته؟.

وراح السؤال يلح علي عندما يستغل الإنسان الآخرين ألا يحس بالخجل من نفسه.

قرض البنك كان سيفاً مسلطاً على عنقي، وكان لا بد من البحث عن عمل لأؤمن حياتنا.

وجاءت إحدى الزميلات تطلب مني أن أعطي دروساً لابنة قريبتها.

من أوراق الصداقة:

أمام بيتي توقفت سيارة فخمة لتنقلني إلى منزل طالبتي، عندما توقفت السيارة أمام البيت، لم أجد بيتاً بل قصراً وأسطولاً من السيارات متوقفاً في الكاراج.

حديقة متسعة، صالون كبير يعج بالأثاث الفخم والتحف، يسعى في جنباته خدم نظيفون هادئون.

جاءت إلي سيدة تماثلني سناً:

- أنا حصة والدة دانا، دانا ذكية ولكنها لا تحب الدراسة.

وقالت إنها ارتاحت لي وأني خفيفة الظل جذابة الحديث.

أصبحت مدرسة دانا وصديقة الأم.

في بيت حصة وجدت ما أبحث عنه، الأمان... الرغد... السعادة.

ما حسدتها على النعيم الذي تعيش فيه، ولكنني لم أستطع منع نفسي من المقارنة بين بيتها الباذخ وبين بيتي الخرب، بين زوجها وما يغدقه عليها وبين زوجي وما يستنزفه مني.

كلتانا قد أخذت الرجل من زوجته، بشبابها، بمرحها، استطاعت أن تنسيه زوجته الأولى وأولاده الذين يكبرونها سناً، أنجبت له أولاداً أعادوا له أيام الشباب والفتوة.

نسي قبلها أنه كان زوجاً وأباً، فتنته بحيويتها، بإقبالها على الحياة، فلم يعد يرى سواها، أما أنا فلا هو أعطاني المال ولا أنا أعطيته الأولاد.

أعلنت تمردي، قلت له:

- البيت لا يقوم على كاهل واحد.

قال لي:

- لمن تجمعين المال، لا أولاد لك ليرثوك، أما أنا فأولادي في عنقي.

لم يكن جوابه صدمة لي فقط بل كان جرحاً لكرامتي وأنوثتي، ثرت عليه، قلت كلاماً كثيراً فنزلت الصفعة على وجهي.

قلت له:

- اخرج من بيتي، لا أريدك.

قال:

- أنت التي ستخرجين.

قلت ساخرة:

- لست غبية، كل ما في البيت مسجل باسمي.

متخاذلاً خرج، وما كنت بالنادمة عليه ولا بالشامتة، ولكن كنت حزينة.

صوته يأتيني بالهاتف محاولاً إرجاع ما كان، ولم يكن لدي أي مبرر لأستعيد حياة باهتة أحس فيها بالظلم والاستغلال.

وقالت لي صديقاتي:

ستندمين

تساءلت:

على أي شيء؟.

وصلتني ورقة طلاقي فبكيت وبرقت أمامي وجوه كل المطلقات وانطلقت في أذني كل الشائعات.

وحيدة في شقتي، وحيدة في مدينة غريبة، ويلوح لعيني سكن المدرسات فأراه سجناً حقيقياً وأعجب كيف استطعت أن أمضي ست سنوات من عمري خلف جدرانه؟!.

امرأة وحيدة وبدت لي الوحدة وحشاً سيفترس أيامي.

بمعونة حصة استطعت أن أؤمن لأخي إقامة وعملاً، جاء والآمال تسبقه، مجيئه كوة نور انفتحت في ظلمة وضعه المتردي.

في الليل أنام عندها، وفي النهار أعود إلى أخي، تعلق بي أولادها، أحبوني وأحببتهم، دخلت في نسيج العائلة، أصبحت فرداً منها.

حاولت أن أعود إلى بيتي وأعيش مع أخي، ولكن لم يعد باستطاعتي العودة... للحياة في القصور طعم مختلف.

لطموح الأغنياء وهج التحقق ولأماني الفقراء رماد الانطفاء، دائماً كانت حصة تحلم بالمزيد ودائماً تحقق ما تريد... جمعيات نسائية وجمعيات خيرية... ومشروع مجلة تريد أن تصدرها ومرافقة لزوجها دائم الأسفار والرحلات، وكان علي أن أتحمل جزءاً كبيراً من محاولتها تحقيق هذه الطموحات.

علي أن أكون مدرسة للأولاد... وسكرتيرة لها وكاتبة لافتتاحياتها، ومرافقة لها في أسفارها.

زرت فرنسا وانجلترا والسويد والدانمارك وإيطاليا... لم يبق مكان إلا رافقتها إليه.

عرفت طعم الرغد والغنى ولكنه لم يكن رغدي... لم يكن غناي، لست إلا مرافقة للسيدة.

شعرت بالغصة في حلقي، بكيت، هذه الغادية الرائحة المشغولة بشؤون الغير ليست أنا... لم يعد الوقت وقتي، لم يعد الاهتمام اهتمامي، لم يعد الوجه وجهي.

شعرت بالإرهاق، شعرت بالظلم... صحيح أنني آخذ ثمن تعبي ولكن ما الذي ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه؟.

تنتابني حالة تمرد وأعود إلى بيتي، أتحدث مع أخي، أحس بالشفقة عليه وهو يكدح ليله ونهاره مقابل هذه الدنانير القليلة.

وأسأله عن حاله فيقول:

- اشتقت للأولاد.

وأقول لا أولاد لي لأشتاق إليهم، أنا المعلقة بين البلدين، ما عدت أعرف أين مستقري، لا دافع يدفعني للعودة إلى بلدي ولا فرح يشدني إلى هذا البلد.

كنت مع دانا في السوق، عندما رأيت مختار، حدق كل منا في الآخر ثم مضينا، تساءلت أهذا هو الإنسان الذي عشت معه خمسة عشر عاماً، يا إلهي كيف أصبح غريباً؟.

لا ليس هو فقط كل الأشياء فقدت الفتها... ما عدت أنتمي لشيء... أروح وأغدو... وأضحك وألقى النكات ويضج المستمعون بالضحك والبكاء ويبكي قلبي ويقول:

- لا تصدقوا وجهي، وجهي كاذب.

ويقولون:

- لاتحلو الجلسة إلا إذا كانت فاطمة فيها.

وأقول:

- غدوت يا فاطمة مهرج الجلسة.

أغص وتضحك غبيات الزيارات الفارغة والتباهي بالماس والفيلات والسفريات.

وأقول: سقطت يا فاطمة. وتقول فاطمة: هي الحياة.

وأقول: أردت القمه وها أنا أدب على السفح.

وأصرخ... لم أعد أطيق، شبعت تمثيلاً ونكراناً لنفسي، أريد أن أكون ذاتي، أريد أن أستعيد وجهي وصوتي.

أقدم استقالتي وآخذ صك عتقي وأطير إلى بلدي لأغرد في سربي لأمد جذوري في تربتي.

الورقة الأخيرة:

امرأة وحيدة في مدينة كبيرة، يداخلني الخوف أحس بالبرد يسري إلي، أقوم أتفقد النوافذ، أرى نافذة مفتوحة، أغلقها، أستدير، أفاجأ برجل أمامي، أصرخ، يمد يديه إلى عنقي، أنشب أظافري في وجهه، أضربه بقبضتي، يشدد الضغط على عنقي، أختنق.... أتهاوى في مكان سحيق.

أفيق... أتساءل لم أنا ملقاة على الأرض، أتحسس عنقي، أستعيد وجهه، أفتح الباب وأصرخ... يأتي الجيران، يستدعون أخي وأختي...

لقد سرق التلفزيون والفيديو والمصاغ، وألفي جنيه كنت قد سحبتها من البنك، تأتي الشرطة تأخذ أقوالي.

بعد أيام يستدعيني الضابط، يشير إلى رجل.

تلتقي عيناي بعينيه، إنه هو بوجهه الجهم، وقبضتيه الغليظتين اللتين أطبقتا على عنقي.

أسأله:

- لماذا جئت تسرقني.

قال:

- عرفت أنك غنية، كنت تعملين في الخليج.

قال لي الضابط بعد انصرافه:

- هو قريب الشغالة التي تعمل عندك.

سيدة؟ المسكينة التي تعيل أطفالاً، تعمل دليلاً لعصابة سرقة؟.

وكنت أنا الوضع النموذجي، آه يا للمستقبل الحلو الذي ينتظرني، أعود إلى بيتي أعاني من حالة إنهاك عصبي، تأتي إلى أختي. تقول لي:

- لن أتركك حتى تذهب عنك آثار الصدمة.

وأسألها:

- أيهم؟!! فهم كثر.

أسترجع سني الراحلة، أسترجع أحداث حياتي وأتساءل: ماذا بعد؟ ما الذي ينتظرني؟.

أقوم إلى النافذة أفتحها، تهب علي نسمة عذبة، تغمرني أشعة شمس شتائية تدثرني دفئاً... أخرج إلى الشرفة... أطل على الشارع... النيل بمسيرته الخالدة، والأشجار تحضنه... السيارات تعبر... الناس يسيرون... الصبايا منتشرات على الشرفات... أطفال وأزهار وأغان... إنها الحياة تتدفق من حولي قوة وعذوبة.

أتساءل لو أنني في تلك الليلة أسلمت الروح بين يدي ذلك اللص لكنت الآن تحت التراب.

سرت إلى رطوبة الأرض، أحسست بلزوجة الدود يزحف على جسدي، انتابتني رعدة، لا أحب الموت، أحب الحياة... أريد أن أعيش أن أحيا.

لي السماء والشمس، النيل والقمر، لي الزهور والعصافير، لي الدفء والنسمة، لي الرعدة والبسمة.

أغمضت عيني نشوة... أنا أحيا...

رحت أتهجى الكلمة متمهلة... الآن أعرف معناها وأتساءل: أي عطية في الدنيا تعادل الحياة؟.

 

 

 

الطيور

الوداع:

عيونهم السوداء تحاصرني، تأتلق نظراتهم، في أعماقها يترسب الخوف، وعلى سطحها بعض فرح.

أحاطت بي ذراعاً "كومار وياسميناً"، أسيجة ورود وريحان... أحس الدفء، أحس النبض يتحد بنبضي، أشعر بدمائهما تجري في عروقي... أود أن أحملهما في قلبي وأمضي بهما، فأنا لا أطيق الوداع.

- ماما... لا تسافري.

لن أسافر، أرفع رأسي لأقول لـ "راج" عدلت عن السفر... أرى ابتسامته الوادعة... أرى التماعة الأمل في عينيه، كيف لي أن أطفئ فرحه، كيف لي أن أرفض الوعد الذي طار بنا إلى دنيا الحلم؟.

أمد يدي إليه أستنجد به، أتمنى أن يطلب إلي البقاء وعندئذ سأرتمي على صدره.

لكنه شد على يدي وقال:

- اعتني بنفسك.

إذن هو الرحيل، تحركت قدماي للأمام وارتدَّت عيناي وقلبي إليهم... توقفت... لوحت... غرقوا في بحر البشر الذين يلوحون.

ترتفع الطائرة بي، أتأمل بلادي، جنة خضراء... أنهار وغابات... زهور وألحان... وأناس أحبهم فلماذا أغادرهم؟ لماذا أترك أطفالي؟.

تأتيني عيونهم الجميلة:

- ماما. نريد.

نقابلهم بالصمت فيواجهونا بنظرات العتاب.

أسترجع كلام "مالا":

- في فلوس، ولكن التعب كثير.

وأنا مستعدة للتعب مقابل بسمة ترتسم على شفاه الصغار.

أسألها:

- تنصحينني بالسفر؟.

غامت نظرتها وقالت:

- جربي حظك.

- هل أنت سعيدة يا "مالا"؟.

- علينا أن نرضى بالقليل من السعادة.

الجالية:

بين المنتظرين أرى "مالا" تلوح لي، تعانقني، يصافحني زوجها، أقبل ابنها.

زوجها يقود السيارة في طريق صحراوي، ثم تلوح الشوارع والأضواء... الوعد أصبح حقيقة، ها أنا ألج بوابة عالم جديد... تداخلني رهبة تنتزعني "مالا" من شرودي:

- أقمنا لك حفلاً صغيراً نحن معتادون أن نجتمع كل خميس عند إحدى العائلات... ستسرين بمعرفتهم وتشعرين بأنك لم تغادري الهند.

بيت صغير جميل، بيت اثنين يعملان معاً ليعودا إلى مكان يعوض لهما التعب.

وجاء الأصدقاء بوجوههم الأليفة، سمعت أحاديثهم، ضحكت لمزاحهم ونكاتهم.

امتدت مائدة شهية فقلت: هي الوفرة.

رغم كل المرح الذي حرصوا أن يوفروه في السهرة، رأيت في عيونهم أسى، تساءلت: أهو الأسى الملازم لبلادنا أم هو ألم المعاناة؟.

ودعوني متمنين لي عملاً جيداً وإقامة طيبة.

عندما أطفئ النور، جاءني "كومار" و "ياسمينا"، سمعت صوتهما، مددت يدي لأحتضنهما ففاجأني الفراغ.

صاحب العمل:

استقبلني صاحب مكتب العمل بنظرة إعجاب، تأملته... شاب وسيم لا يكف عن الابتسام، فلماذا يقولون عن أهل البلد إنهم متعجرفون؟.

قال لي:

- التسمية في مذكرة الجلب خادمة، لا تهتمي، فهذه هي الطريقة لإدخال العمالة الأجنبية، عليك أن تأتي إلى المكتب كل يوم ريثما نحصل على الوظيفة.

أغضيت... فقد كانت كلمة خادمة تستفز كرامتي.

قلت:

- أنا أحمل ليسانس في الأدب الانجليزي.

قال:

- بيوت البلد مملوءة بالخادمات الجامعيات.

نظرت إليه، كان هادئاً، ولكنني أحسست بأنه يتقصد طعني.

زوار يروحون ويأتون أفواج الخادمات تصل إلى المكتب يعرضن أمام الطالبين... هنديات... فلبينيات... سيلانيات... فتيات في عمر الزهور... نساء تركن أولادهن... نساء في أواسط العمر يصغرن أعمارهن ليحظين بفرصة المجيء إلى بلاد الذهب.

أرى نظرات الانكسار... أرى نظرات الأمل، أسمع الشكاوى، أسمع التوبيخ... أقرأ قصص الأسى في العيون... فيثور في قلبي غضب... هؤلاء بشر ليسوا أغناماً، هؤلاء النساء يجب أن يكن في بلدهن ينعمن بالأمن.... بالحب... بدفء الأهل.

ما الذي ينتزع الأشجار من أرضها ويلقيها في أرض غريبة؟!.

نظرات صاحب المكتب تقول لي:

- هؤلاء هن مواطناتك، فانظري أية خدمة أؤديها لك عندما أؤمن لك وظيفة.

ونظراته الأخرى تحدثني حديثاً أتجاهله.

متألمة... غاضبة... قلقة... خجلة.

تقول لي "مالا":

- لا تخجلي مني، كلنا استدنا عندما جئنا، عندما تعملين تسددين ديونك.

وأنا أشعر بالحرج من زوجها وابنها... وأسأل صاحب العمل متى أستلم عملي؟ يضحك ويقول:

- لماذا تتعجلين التعب، أمامك وقت للراحة والأنس.

نظرت إليه متسائلة، جاءتني نظرة لا أخطئها.

قلت:

- أرجوك، لست من تظن.

قال:

- أنت جميلة فلا تكوني غبية.

قلت وأنا أتراجع:

- أنا متزوجة وأحب زوجي.

أطبق علي بذراعيه... كنت أدفعه وأصرخ، سد فمي بكفه:

- لاتصرخي، فلن ينجدك أحد.

أبعدته بقبضتي وأظافري.

قال:

- أحب القطط المتوحشة.

قفزت الدرج قفزاً، أخذت سيارة من الطريق.

عندما عادت "مالا" من عملها فزعت لرؤيتي:

- ما الذي جرى؟.

- إنه يساومني.

قالت:

- إنه يجرب، وعندما يرى رفضك يتراجع.

هل يتراجع؟ حملت معي همي المؤرق وذهبت إلى سهرة الخميس.

أحاديث ومناقشات ومرح وطعام وكنت شاردة.

- ما الذي يقلقك؟.

قالت إحداهن:

- شوقها إلى أطفالها.

شوقي إلى أطفالي... ديوني... جرح كرامتي.. إحساسي بالثقل على "مالا" جعلني أنفجر باكية.

التفوا حولي، قصصت عليهم القصة وقلت:

-أريد أن أعود.

قالوا:

- اصبري لا يستطيع أن يرغمك على ما لاتحبين، جميعنا صادفتنا المتاعب وتغلبنا عليها في الغربة كلنا أخوة، وثقي أننا سنقدم لك كل عون.

نسمة عذبة ندت روحي، فشعرت بشيء من الأمان.

العمل:

جاءني صوته على الهاتف.

- أعتذر عما بدر مني، أمامك يفقد الإنسان مقاومته، تعالي غداً في الساعة الثامنة لتستلمي العمل.

غيمة فرح أمطرت في قلبي، قلت لـ "مالا":

- مؤكد أن ضميره قد استيقظ.

تعامل معي بطريقة مهذبة، أوصلني إلى العمل بسيارته وقال:

- تعبت كثيراً ودفعت حتى أمنت لك هذا العمل.

قلت له:

- سأسدد لك كل ما دفعته.

هل ابتسمت لي الدنيا؟ كدت أصدق.

رغم إرهاق الدوامين شعرت بالفرح إنه تعب العمل... في آخر الشهر آخذ مرتبي... أسدد لـ "مالا" دينها... أبحث عن بيت صغير أو حتى غرفة.

وطارت بي الأحلام إلى الهند، إلى زوجي وأطفالي.

الوقائع:

دوام مرهق، عمل... حسابات... كومبيوتر أحاول أن أتعلمه، أبكي إرهاقاً.

يجيء إلى الشركة... يتفقد أحوالي... يتحدث معي.

قال لي:

- أشعر بالأسى عندما أراك حزينة.

رفعت إليه عيني، قال:

- أحس بك، إنك تفتقدين أولادك وزوجك.

سكت ثم قال:

- سأؤمن عملاً لزوجك تأتين بالأولاد وتعيشون أسرة.

لقد ظلمت هذا الإنسان إنه يحس بآلام الآخرين، الدنيا لا تزال بخير، وكل إنسان معرض للخطأ، والطيب من يتراجع، وها هو يتراجع، يمد إلي يدا رحيمة.

ابتسمت بامتنان، قال:

- تصبحين فاتنة عندما تبتسمين.

احتارت الابتسامة على شفتي، تراجعت...

نظرت إليه معاتبة، قال:

- أريد أن أسعدك.

قلت له:

- أنت إنسان طيب.

قال لي:

- وأنت يجب أن تكوني طيبة معي.

رفعت عيني إليه، قال:

- سأستأجر لك شقة تعيشين معي فيها شهراً ثم يأتي زوجك وأولادك.

بدا لي أنني لم أفهم، نظرت إليه متسائلة، قال:

- الدنيا أخذ وعطاء.

شيء انهار في أعماقي... أحسست بوهن في مفاصلي... كدت على وشك السقوط... كانت شفتاه تتحركان تقولان كلاماً ربما عن الجمال أو عن تبادل المنافع... أو عن رغبته في تقديم العون.

تمنيت أن أقذفه بكل ما أمامي من أشياء، أن أقول له:

- أنت قبيح وبذيء.

كدت أصرخ:

- انظروا إلى هذا المسخ يطلب إلي أن أتعهر.

أية فائدة لأي كلام؟... الجميع منكبون على عملهم... وعيناه عينا صقر تترقبان طيراً أعدت له المصيدة.

قلت بهدوء وقلبي ينفجر:

- كرامتي ليست سلعة تساومني عليها.

قال وهو ينهض:

- فكري بالأمر تجدي أني أقدم عرضاً كريماً.

مساء الخميس اجتمعوا عند "مالا" قصصت عليهم القصة بان الغضب في وجوههم:

- يجب أن يوقف عند حده، يجب أن يعرف أن العمل لا يعني العهر، اتركيه وسنبحث لك عن عمل آخر.

الواقعة:

أتفانى في العمل أتمنى أن أنتزع إعجاب المدير، ولكن لا شيء إلا استياؤه، مر شهران ولم أقبض مرتبي، مازالت ضيفة على "مالا" ذات يوم كان صوت صاحب الشركة يهدر:

- أين اختفت معاملة الصرف؟.

كانت عيناه تتجهان إلي وكان قلبي يهوي.

قد يتهمني بإضاعة المعاملة، وتسارع نبضي، يمكن أن يفعل أي شيء، يطردني من عملي، يرحلني، وتواردت على ذهني قصص الافتراءات والعقوبات.

يا إلهي لو معجزة تظهر براءتي، ولكن كيف تظهر البراءة المخبأة في درج الصياد.

تهديد... صراخ... وكان هو المنقذ الذي جاء يفتديني راح يطيب خاطر صديقه... وما كانت التمثيلية السخيفة تنطلي علي، ولكن ماذا أفعل وعنقي في يد جلادي؟.

عثروا على المعاملة أو لعله أوعز له بأن يجدها، لعله خاف على الطريدة أن تموت قبل أن يحقق ما يريد.

نظر إلي وابتسامته الخبيثة ترتسم على شفتيه، كانت عيناه تقولان لي:

- أنا من يسعدك وأنا من يشقيك.

جاءتني الكوابيس... كانت المعاملات تضيع وكان صاحب الشركة يهددني، ثم جاء البوليس، كانوا يسوقونني إلى السجن، هربت منهم، ركضت في صحراء مقفرة، كنت أجاهد لأنتزع قدمي ولكنهما لا تطاوعاني... صرخت... أفقت... حمدت اللَّه أنه منام.

بعد أيام قال لي صاحب الشركة:

- تقلصت أعمال الشركة، يجب أن أستغني عن بعض الموظفين.

ما كان لي أن أعترض، هو صاحب البلد وأنا ضيفة وليس للضيف إلا ما يقدمه المضيف.

المبلغ الذي أخذته من الشركة سددت به جزءاً من دين "مالا" ولكن ماذا عن ديون صاحب المكتب وماذا عن الديون في الهند؟.

ذهبت إليه أطلب عونه، قال:

- الأعمال في البلد أصبحت قليلة، العمل الوحيد المتوفر هو خادمة.

أحسست بمدية تغوص حتى أعماق قلبي... نظرت إليه رأيته صغيراً... وكرهت الحياة التي جعلت الصغار يتعملقون ويمسكون أمور الخلق بأيديهم.

خادمة أيها الحقير... لسافل مثلك يساومني على شرفي في كل يوم؟.

حزينة ويقولون لي:

- حاولي معه أقنعيه بأن يمنحك إقامة وسندبر لك عملاً تسددين به ديونك.

قال لي ساخراً:

- أنا من زرع فكيف أترك لغيري أن يحصد ثمرة تعبي؟.

يوم الخميس انفجرت في وجوههم:

- أحس بأنني فقدت إنسانيتي، لست إلا سلعة تباع، نحن جميعاً سلع في سوق استهلاكهم كثر عرضنا فانخفض ثمننا، لا ألومهم، العمالة تتدفق عليهم من كل أنحاء الأرض، قادرون على أن يشتروا كل شيء، عملنا، كرامتنا، شرفنا.

قال أحدهم:

- ليس ذنبهم بل ذنب حكوماتنا التي ألجأتنا إليه، لو وفر لنا وطننا العمل والكرامة ما الذي جاء بنا إليهم نتحمل القهر والإهانة؟.

قلت:

- إذن سأذهب إلى السفارة أقول لهم انظروا ماذا فعلتم بمواطنيكم.

صمت الأصدقاء، كنت أرى نظراتهم الحزينة، وراء كل نظرة ألمح قصة يخفونها.

قال أحدهم:

- ما الذي تفعله السفارة لك؟ وما الذي تفعله للآلاف الذين يعملون هنا، قد يقدمون لك بطاقة سفر ثم ماذا؟ تعودين وأنت غارقة في الديون.

- إذن؟

قالت إحداهن:

- نحن بحاجة إليهم.

نظرت إليهم:

- تنصحونني بالقبول؟.

خيم صمت قاتل... رحت أنقل نظراتي بينهم، خفضوا عيونهم، قرأت الإجابة في إغضائهم.

قال لي:

- أنا أسهل لك الأمور وأنت تعقدينها شهر واحد سرعان ما يمر، يأتي زوجك وأولادك، توفون ديونكم، تبنون مستقبلكم.

ما أكرمك... ما أجمل الحياة وما أنبلها.

يأتي زوجي أتحسس قرنيه وأقول له: اشتقت إليك. أضم أطفالي إلى دنسي وأقول: أحبكم.

- يجب أن تقرري...

نعم يجب أن أقرر، فماذا أقرر؟.

 

 

 

لماذا رحَّلوا فاطمة

 

خيول جنون تصهل في قلبي، تمزق شراييني يتدفق الدم في رأسي وعيني وجسدي... أصرخ:

- اخرج يا محمود.

أضغط بوق السيارة ينطلق الصوت داوياً ولكنه لا يسمعني، أعادو الضغط والصراخ:

- أرجوك اخرج.

محمود أصم والجدران غبية والمسافات بعيدة، سيارتهم تغيب عن نظري، والسيارات تمر قربي وأنا كتلة هياج وجنون.

بثينة تملأ عيني وقلبي وأراهم يعرونها وأرى عينيها المفزوعتين وأسمع استغاثتها وذعرها.

أطلق بوق السيارة ومحمود لا يسمعني.

أدير المحرك أدوس البنزين أنطلق صاعقة، أمرق بين السيارات يميناً وشمالاً، ضباب الدمع يغشي عيني، أفتح نافذة السيارة وأصرخ ينظر إلي الناس يسألونني وأنا أسوق بجنون.

وأرى شمساً حمراء تسطع في أمامي، أفتح باب السيارة وأنزل، أستغيث أركض بين السيارات.

يغادر الناس سياراتهم يسألونني.

وأقول:

- خطفوا ابنتي.

أركض يركضون معي، نصل إلى السيارة، أدق على أبوابها، والسيارة قلعة حصينة، ابنتي داخلها والسفلة يحيطون بها.

يتكاثر الناس حول السيارة أقف أمامها أقول:

- لن يسيروا إلا على جثتي.

وأسمع الناس يخبطون الزجاج، يعالجون الأبواب.

ينفتح الباب الخلفي، تندفع بثينة شاحبة باكية مرتجفة، وآخذها إلى حضني أضمها إلي، أتمنى أن أدخلها إلى قلبي أحميها من هذه الدنيا الرهيبة.

أحدهم يدس ورقة في يدي:

- أختي هذا رقم السيارة سلميها للشرطة.

يضيء اللون الأخضر... يعودون إلى سياراتهم ينطلقون.

تتوقف أمامي سيارة الشرطة:

- خطفوا ابنتي... هذا رقم سيارتهم.

- تعالي معنا إلى المخفر.

رويت لهم ما حدث، أخذوا اسم زوجي وعنوان بيتنا، وطلبوا مني أن أعود إلى البيت.

جاء محمود قصصت عليه القصة، احمرت عيناه، صر على أسنانه:

- لا كرامة للإنسان في وطنه، ولا كرامة للإنسان إن خرج منه.

في اليوم التالي، طرق الباب، فتحه محمود، سلمه الشرطي ورقة، أخذ محمود الورقة فتحها، قرأها وابتسم قال وصوته يقطر مرارة:

- أمامنا أربعة وعشرون ساعة لمغادرة البلاد.

فتحت فمي دهشة، مد يده إلي بالورقة قرأت:

"على المدعو محمود مرعي وعائلته مغادرة البلاد خلال أربعة وعشرين ساعة، فقد قادت زوجته المدعوة فاطمة عودة سيارة مخالفة بذلك قوانين البلاد التي تحرم على النساء قيادة السيارات.

ينفذ القرار فوراً، أي تمهل يعرض صاحبه للمساءلة أمام محاكم البلاد".

نظرت إلينا بثينة نظرة اعتذار، قلت لها مهونة:

- لا عليك يا حبيبتي، مكتوب علينا أن نطوف بلاد الدنيا باحثين عن وطن.

 

 

 

الدوران

 

أقود السيارة على شاطئ الخليج حيرى، لا أنا بالمتمهلة ولا أنا بالمتعجلة، ذاهبة إليه لاأعرف إن كنت حقاً أريد رؤيته، عندما تستوي لديك عوامل الجذب وعوامل المنع، تقف في نقطة التوازن، التوازن هو العدم ولقد آمنت بالتطرف في كل شيء، أكره الوسط، أكره الاعتدال، الانطلاق حتى المدى، التدخين حتى آخر سيجارة في العلبة.

أشعل سيجارة وأخرى وأخرى، تنطفئ الشمس في البحر، تنتشر الحمرة في الأفق الظلمة تزحف في السماء، تلتمع الأضواء، السيارات تزدحم أمام مقاهي الشاطئ ساحات الألعاب تعج بالأطفال.

سيارة على يميني وشاب صغير يريد أن يغازل.

- يا بني أنا في سن أمك، لو بقي جنيني الأول لكان اقترب من عمرك.

اقترب من السيزلر أستعيد صوته

- وأنا وأنت نباتان صحراويان لذلك ننجذب إلى الماء.

بيتنا كان على الخليج... كان ذلك منذ سنين... ولقاؤنا هل سيكون على الخليج؟.

أصل إلى ساحة السيزلر أهم بالدخول، لكنني أجاوز الساحة، أدور حول المكان لقد اعتدت الدوران في الأمسيات، في الأسواق على الشاطئ، أبحث عن شيء عن وجه، عن معنى، وبعده كل شيء قد افتقد المعنى...

أعود مرة ثانية أنظر إلى المطعم المضاء، إنها السادسة وعشرة دقائق، لينتظر قليلاً فلقد انتظرت كثيراً.

عشر سنوات وأنا أنتظر، ثم خطر له أن يتحدث.

عشر سنوات مرت وعندما سمعت صوته، أحسست بقلبي يغوص إلى قدمي قال:

- منذ أسبوع وصلت إلى الكويت، بحثت طويلاً حتى وجدت رقم هاتفك.

رددت في نفسي: هكذا يكون الوفاء.

يتدفق في حديث، كنت أعرف بعضه من أصدقائنا، وكم تقت في الماضي لمعرفته كله، ولكنني الآن أستمع دون أن أعي.

أغلق السماعة وأنخرط في بكاء عميق، إنه يعود ثانية إلى حياتي وأنا التي هربت منه، غادرت البلد التي تجمعني به. انتظرته وعندما يئست من عودته غادرت دمشق لأعزي نفسي بأنه لا يعرف مكاني.

الآن لا أريد رؤيته ولا سماع صوته ولكن ها هو صوته يعيدني إليه وأنا أعرف أنني ضعيفة أمامه، وأعرف أن أمامي أيام معاناة طويلة لأتخلص من صوته وصورته.

لقد خرج من حياتي وأنا غارقة في حبه وأنا الآن أريد أن أخرجه من حياتي مع أنني لا أزال أحبه.

حاولت بعده أن أحب، خيل لي أنني أحببت، ولكنني كنت أعرف أنني واهمة وأن حبه في أعماقي أراوغه وأتناساه وأزعم أنني نسيته وأرحب بمشروعات زواج، ولكنه الآن يعود يمسح كل ما عداه وأعرف أنني هربت منه إلى قصص لم تجلب لي عزاء ولكنها أعادت لي طعم الخيبة.

الخيبة. وانطلقت من حلقي ضحكة ساخرة، من كان يظن أن الخيبة هي مآلي؟ أنا الطموح المتألقة أزاح إلى الزاوية، أصبح ماضياً له وتجربة في حياة آخرين إن كانوا منصفين قالوا تجربة وإن كانوا سفلة قالوا أشياء أخرى.

ثلاث تجارب مخفقة وهو الفائز دوماً، تزوج وأصبح لديه ثلاثة أولاد بعدد تجاربي.

كيف أصبحت الآن؟ أمازال الوسيم الجميل، سألته:

- ألم تسمن وتصلع؟.

قال:

- ما زلت كما تعرفين.

واثق، مغرور؟ وأنا؟ أنا تغيرت، امرأة تقف على أبواب الأربعين وتعجبت كيف وصلت ولكن المرآة تجيب.

أين البريق الذي سحره ذات يوم؟ أين التوقد؟ أين الجسد الممشوق؟.

لم أطلت الوقوف أمام المرآة؟ لأرى كيف سأبدو في عينيه أم لأرى كيف أبدو في عين نفسي، حزينة أبحث عن تألق عن دور عن فرح فلا أجد.

جربت كل شيء وفقدت الرغبة في كل شيء.

إنه الآن في المقهى انتقى مكاناً ينتظرني فيه، لف نفسه بغلالة دخان جذابة رجل وحيد مسربل بالدخان، يعرف كيف يلقي شبكة صيده.

دائماً يضع نفسه في مركز الضوء، في بؤرة النظر، لا يضيع وقتاً في البحث عن الفرص الثمينة، لعله في طلاقنا كان يجري وراء الفرصة الأفضل.

تخزني الفكرة... أسرع وأسرع ولعلها المرة الخامسة التي ألف بها حول المكان.

الليل قد خيم علىالمدينة والأضواء تألقت وهو يجلس في مكانه يتألق، ينتظرني أنا التي انطفأت وترمدت، لماذا قبلت لقاءه؟ لماذا رضيت بالمجيء ألأنني ما أزال؟.

أدوس على البنزين تطير بي السيارة، أتمنى أن تطير بي إلى مكان بعيد، شهران وهو يحادثني، يحاول أن يرى انبعاث الماضي في نبراتي وأنا أجاهد لأخفي أي انفعال.

ثم فجر القنبلة:

- لماذا لا نعود؟.

سألته متغابية:

- إلى أين؟

قال:

- نتزوج ثانية.

ضغطت على أعصابي وسألته:

- هل تنوي أن تطلق زوجتك؟.

قال بهدوء:

-لا، لماذا؟.

سألته:

- تريدني زوجة ثانية.

قال:

- هل هناك مانع؟.

قلت ساخرة:

- لديك لا. أما أنا فلدي موانع كثيرة، إما أن أكون المرأة الوحيدة في حياة رجلي أو لا أكون.

أراد أن يناقشني وكنت أشعر بالقرف والإهانة من الخوض في هذا الحديث.

من يظنني؟ يطلق عندما يريد ويعود عندما يريد. من قال إني أريده؟ تمهلت عند هذه العبارة. لم لا أقول سنوات وأنا أنتظر عودته.

ولكن لا ليست هذه العودة التي حلمت بها، ظننته سيعود ليقول: عرفت نساء الدنيا ولكني لم أحبب غيرك فهل غفرت لي رعونتي أنا الطفل المدلل، ربته أم ترملت صبية فأحبته وكان دنياها وكرهتك قبل أن تراك لأنها لا تريد أن تشاركها به امرأة... شرقت وغربت وتزوجت وأنجبت واكتشفت أنني لا أستطيع أن أعيش بدونك، كنت سأرتمي على صدره وأقول وأنا لم أحبب سواك.

ضحكت ساخرة من نفسي ما زلت تلك المراهقة الخيالية في عالم يموج بالحسابات والتطلعات.

وهو. هو الرجل الذي أحببته وعرفت نواقصه وتغاضيت عنها، قلت الزمن كفيل بالإصلاح ولكن الزمن لم يصلح، زمننا كان سافلاً وكان هو الابن البار لهذا الزمان.

دائماً يجري وراء الجديد، وراء الضوء، فراشة أدمنت النور ولكن تعرف كيف تتقي الاحتراق، أصبحت جديداً بالنسبة إليه لذلك يريد أن يعود، يتحدث عن عودتنا وكأنها أمر محتم وكأننا قد تخاصمنا إحدى خصوماتنا القديمة وها نحن نتراضى.

أتمنى أن أراه، أصحيح لم يتغير، لو أستطيع أن أراه، أن ألقي عليه نظرة ثم أنصرف دون أن يراني، أدخل إلى المطعم أجلس في مكان بعيد أتأمله، أراقب تلهفه، أتعقب نظراته على أي الوجوه تستقر، هل سيدفعني الحنين إلى الاقتراب منه، أم سأحس بأنني أكرهه وأنه لا يستحق هذا الحب الذي حملته له؟

فات على الموعد نصف ساعة ولكنني متأكدة أنه ينتظرني، إنه يحتاج إلي يحس بالضياع في هذا البلد الغريب، قال لي يوم طلاقنا:

- أتمنى أن تعلمي أنني أحببتك وسأحبك دائماً ولكن هناك ظروف أقوى من الإنسان وسنبقى أصدقاء.

ولكن نسي حتى الصداقة، لم يكلف نفسه أن يسأل عني، عاد إلى حضن أمه، رجع إلى بلده الصغيرة إلى حياة جديدة رتبها الأهل حسب معاييرهم، وأنا التي تحديت وحاربت لأجله وانتصرت لحبي، كنت مندفعة، معبأة بأفكار أخلصت لها وجعلتها هدف حياتي.

من يحطم القديم من يبني المجتمع الجديد؟ من سوانا نحن الطليعة المثقفة، نحن الذين سنحرق عفن الماضي. إنه الماضي الذي يعشش داخله غطاه بالرمل ولكن الرياح ما لبثت أن سفته.

لماذا نسيني هذه السنين الطويلة، لماذا تذكرني الآن؟ لأنه بحاجة إلى أن من يتحدث إليه، يفهمه، يفتح له قلبه يذكره بالبلد التي جاء منها والماضي الذي تنكر له. لأنه يحتاجني ولكن عندما كنا في البلد كان بحاجة إلى أمه وزوجته وأولاده. أنا الصديقة... وربما أرادني العشيقة وها هو يلوح بالزوجة... إنه الرابح دائماً، وأنا الخاسرة أبداً.

كم حلمت بالعودة إليه والآن تتساوى عندي الأشياء، مضى على الموعد ساعة، أيتألم أم تساوت لديه الأشياء، عشر سنوات مرت على فراقنا رغم ألم الجرح كابرت، بدوت مزهوة قوية وأنا أغادر البيت، كنت أريد أن يحس أنه قد خسر امرأة لا تعوض.

الآن كسرتني الأيام، غيرتني، هل سيعرفني؟ هل سينكرني، هل سيندم لأنه طلب إلي العودة، يجاملني ثم ينسحب؟ ماذا سيفعل؟.

أدور وأدور لا أعرف إن كنت سأصعد أم لا إنها سيجارتي العشرون، مضى على الموعد ساعتان، ربما غادر المكان، أحس بالإهانة.

ابتسمت ساخرة، هل أذقته الإهانة؟ أي إهانة تعادل طلاقه لي وأنا أحبه، وأي إهانة تعادل كوني لا أزال أحب، تمتلئ عيناي بالدموع... أتمهل في سيري... أتباطأ، أطفئ المحرك، أكاد أغادر السيارة، لكنني أدير المحرك ثانية وأعاود الدوران.

الدوران ( 2 )

يتعالى الرنين، أعرف أنه على الطرف الآخر، شعور بالقرف ينتابني، هذا الغبي مازال لديه الكثير من السيئات لأكتشفها.

ولكن هل سأعطي لنفسي فرصة الاكتشاف؟

يلح الرنين... لن أقبل تعليلاته، قضيت عمري أسوغ له وأتقبل، فهل بقي من العمر متسع للتسويغ؟ هل هو متضايق؟ ليته يكون متضايقاً، إذن لشعرت بالارتياح ولكن لم يتألم، ترك الألم لي أغوص في أعماقه وأتذوق الخيبات، كان الخيبة الأكثر مرارة والأطول عمراً لا، هو اللعنة التي طاردتني. ليتني لم أسامح، ليتني تماسكت، لو تماسكت لما وقفت هذا الموقف المذل، ولكن لا من البداية كنت خارج حساباته فما أنا إلا سلم الوصول.

في ضيقه كنت سيدة القلب.

الآن أحس الكلمات فارغة... حمقاء.

ويقسم أنه ما أحب امرأة سواي ويملأ عينيه بالدموع فأرنو إليه وأقول:

-أي ممثل يستطيع أن يتقن دوره أكثر مما فعلت...

وأنا هل أعفي نفسي.... أنا الغارقة في الخطايا... فلأغضب من ضعفي ومن انقيادي إليه.

أهو قدري، أهو لعنتي الملازمة؟.

يتعالى الرنين يستوي عندي أن أسمعه أو أرفض السماع، أي معنى للعتاب والمصالحة، أي معنى لأي كلام.

-اسمعيني، قدّري موقفي إنهم يحتاجونني.

سألته ساخرة:

-وأنت تحتاجهم؟,

صمت، وكدت أقول له:

-عندما أكون بجانبك، كيف تحتاج إلى أي إنسان؟.

وأرد الجملة أبتلعها، هو الذي يجب أن يقولها، تفقد معناها عندما أنطقها، وأنظر إليه أتأمل الوجه الذي جاء بالأمس يطلب الغفران.

كنت أقول قلبي محمي بطلسم غدره ولن تفلح تعاويذه بفك الرصد ولكنه فارسي القديم وقد عاد، رغمي انشق باب القلب.

قلت:

-رغم سفالتها صفت لنا الأيام، لعله عاد إلي ليمسح الجرح ويكفر عن الآثام.

قال لي:

-سيدتي لك كل الفصول ولهم الصيف يكتوون بحره فلا يطيقون البقاء.

سافرت فجاؤوا، طال بقاؤهم.

قال ضاحكاً:

-أحبو صيف الكويت.

تساءلت:

-كيف لايحبون الشتاء؟

في عينيه أقرأ الهم، ماعرفت أنه همّ تأمين إقامتهم ومدارسهم.

نظرت إليه دون عتاب قال:

-لاتنسي أنني أب.

وقلت في نفسي:

-لولاك لكان أبنائي يملؤون علي الحياة.

وقال لي:

-أنت في القلب ولكن الإنسان لايستطيع أن يتخلى عن الواجبات.

قلت له:

-اتفقنا أن يبقوا هناك.

قال:

-أمام عيون الصغار تلغى الاتفاقات.

وأنا الغبية ألغيت كل الاتفاقات، تنكرت لكل شيء وركضت إليك وقلت لي:

-سنعلمهم كيف الحب يحطم الأسوار.

لكنك حطمتني وانسحبت... عشر سنوات وأنا أهرب منك، ماشفاني هروب ولاسفر.

عندما جئت إلى الكويت أردت أن أنتقم.

قلت لك:

-لو بقينا في البلد دهراً لن ألقاك.

فقلت لي:

-لاتقنعي نفسك بالأوهام.

كنت عنيداً وكنت بحاجة إليك، لم يكن حباً فما كان قد راح ولكن الإحساس بأنك مشدود لإنسان. بيتك الآن مملوء بها وبأولادك... أمحى مكاني ماعدت تذكره فأنت المتجدد دوماً وأنا الواقعة في أسر الماضي.

أذكر كل ركن من بيتنا -عفواً بيتك- أذكر لقاءنا الأول بعد عشر سنوات.

-ما أحببت غيرك، كلهن عبرن حياتي.

كنت ظامئة فمسحت دموع القهر وقلت:

- إن كان الظمأ هو الذي يدفعني إليك فما الذي يدفعك إلي إلا الحب، أنت الذي خلفت في البلد زوجتك وأولادك وجئت تسعى إلي...

وأشرق في قلبي فرح مر، راحت الأيام تستل منه المرارة.

-نتزوج ثانية.

وقلت لك:

-لا.بيننا لن يكون هناك زواج، عندما أكرهك أتركك.

وكنت مملوءة اعتزازاً هي امرأتك شرعاً وأنا امرأتك حباً وأمام الحب تنحني كل الشرائع.

ولكنك لم تمنحني هذا الوسام جئت بهم لتجردني من سلاحي... فماذا أبقيت لي.

وقلت لك:

-اخرج من حياتي.

قلت:

-لا أستطيع.

قلت:

-شباكك باتت مفضوحة فوفر على نفسك تعبها.

الرنين يتعالى وأضحك سخرية:

-لعلها غائبة عن المنزل، لعلها في المطبخ وأنت تنتهز فرصة انشغالها، ما كنت إلا الوقت الضائع في حياتك.

كنت التسلية في فترة انتظار قدومهم... وكاذب إن أردت أن تقنعني بعكس ذلك.

الرنين يتعالى... لارغبة لي في السماع...

وأتساءل عندما يتعالى غداً وبعد غد وبعد غد، هل سأتركه للصدى أم سأعاود الدوران.

 

 

 

قصة حب

 

قص الشريط الحريري وتدفق الحضور، سطعت أضواء الكاميرات وافتتح المعرض.

العيون كلها مركزة علي وأنا أقف إلى جواره. فأحس بالدم حاراً يتدفق في عروقي وينفجر من مساماتي، ينبت لي أجنحة تطلقني فراشة تحوم محملة بفرحها وآمالها.

كل شيء يبدو لي متألقاً رائعاً... سعيد بقامته المديدة ووجهه المبتسم الحي، اللوحات الجميلة المنسقة على الجدران بألوانها المتماوجة الشفافة، الحضور المتدفق الذي يبدي الدهشة بالمعرض.

نظرات الإعجاب تنتقل من اللوحات إلي، تقترب منا صحفية، تسأله:

-زوجتك؟.

يبتسم ولايجيب.

أقول وأنا أنظر إليه:

-ليس بعد..

أتمنى أن ألتصق به وأقول للناس جميعاً:

-سنصبح زوجين.

الزوار يدخلون ويخرجون وأنا سعيدة، خائفة، أحس بنظراتها تثقبني وتنفذ إلى قلبي وتعرف مافيه.

من الأقوى؟ هي المعسكرة في الزاوية وحولها أولادها؟ أم أنا الواقفة إلى جانبه؟.

ليس من عادتها أن تحضر معارضه، فلماذا كسرت القاعدة وجاءت؟ ألتثبت لنفسها أم لي بأنها هي الأصل وما أنا إلا عابرة في حياته؟.

تمر إلى جانبي الصغيرة، تصطدم بي، ترفع إلي وجهها وتبتسم، أتراها ماتزال تحبني أم أن كلام أمها قد عكر عاطفتها البريئة؟.

انظر إلى ساعتي، إنها الحادية عشرة:

-يجب أن أعود إلى البيت.

-سأوصلك.

نخرج من الصالة دون أو أودعها:

-مؤكد أنها تضايقت لأنك توصلني.

-لاتفكري بها.

-كنت اليوم رائعاً ياسعيد، أنا فخورة بك.

التفت إلي غمرني بنظرة حلوة وقال:

-هذا المعرض لك.

تتوقف السيارة أمام البيت:

-سآتي غداً.

ألوح له، أدخل غرفتي، أتأمل نفسي في المرآة، أحس بالفرح يجتاح كياني، إنه يوم مميز في حياتي.

أسترجع أحداث هذا اليوم.

كان خائفاً، متردداً.

-لو لم توزع بطاقات الدعوة لكنت قد ألغيت المعرض، أحس بأن اللوحات ليست بالمستوى المطلوب.

-لوحاتك رائعة، ولاتظن أنني أتملقك.

-أنت أروع لوحاتي.

أحدق إلى سقف غرفتي، أهمس لنفسي، لقد نجح المعرض.

إنني سعيدة، ولكن هناك بقعة مظلمة تعكر هذه السعادة.

ويقول لي: لا يهم.

وأنا أقول: لو رفض العالم كله منطقي فأنا مقتنعة بك.

تلفحني هبة ساخنة، هل أنا مقتنعة به؟.

-لا علاقة للحب بالقناعة، الحب شيء طاغ خارج عن إرادتنا، يجذبنا ولا نستطيع منه انفكاكاً ننساق إليه ولانستطيع المعارضة.

هل أنا بحاجة إليه ليقنعني، لاشيء يقدر على إبعادي عنه، لا زوجته ولا أولاده ولا الناس، ولا المشاجرات التي تقوم بيننا، ولا فترات الاختبار التي نعطيها لأنفسنا لنتحقق من عواطفنا.

أين كنت تختبئ لي ياسعيد؟.

أنت الزورق التائه، كيف قدر لي أن أقف عند شاطئك، أنا التي لا أعرف ماأريد، كيف أرضى بهذه الحياة، ترسمها لي، وأرى نفسي أسير على خطوطها راضية.

وجوه تمر بي، كنت أظنها لا تنسى، ولكنها تبهت، تغيب، وتثبت أنت بسمرتك، بشعرك المجعد بعينيك السوداوين، بنظارتك الطبية السميكة.

فتى أحلامي كان أشقر، أزرق العينين، جئت أنت لتقلب حياتي، وتغير حتى نظرتي الجمالية.

كنت طائراً طليقاً، وكنت سجيناً في قفصك، من منا الذي جذب الآخر إلى عالمه، هل سجنتني أم أطلقتك؟.

منذ سنتين لم أكن أعرفك، والآن تغدو كل شيء في حياتي.

عندما التقيت بزوجتك في دمشق سلمت علي بحرارة، وتساءلت بعتب:

-هل من المعقول أن نكون نحن الاثنتين في الكويت ولانلتقي، لا تنسي أني ابنة عم أبيك في مقام عمتك.

أعطتني رقم هاتفها وأعطيتها رقم هاتفي وأنامصممة على عدم الاتصال، ما الذي أفعله في بيت هذه المرأة الغارقة في بيتها مع زوجها وأولادها.

عندما عدت إلى الكويت، وجدت نفسي تحت ضغط إلحاحها مسوقة إلى زيارتها.

ما الذي دفعك أيتها القريبة للاقتران بهذا المصري ذي السمرة الداكنة والشعر الأجعد والكلمات المتداخلة، والحركات العصبية.

كان الأولاد ينتظروننا في الشرفة، فرحوا بالمدرسة الجديدة قريبة أمهم.

أعجبني البيت بأناقته، بديكوراته الجميلة، وفرشه المنتقى من أحدث بيوت المفروشات.

وقفت أتأمل اللوحات المعلقة على الجدران، هتفت أمام إحداها رائعة.

قالت قريبتي ضاحكة:

-من رسم سعيد.

استدرت إليه فرحة:

-أنت رسام؟

قالت زوجته:

-رسام كبير، كانت له معارض وأيام ومعجبات.

غمزت وقالت ضاحكة:

-أمريكيات و...

أطرق، ابتسم يداري حرجه:

-ولكنني الآن متوقف عن الرسم.

-ما السبب؟.

رأيت في عينيه نظرة أسى.

-أغرقتني الحياة.

-لكن الفن شيء في أعماق الروح لاتستطيع مشاغل الحياة أن تقضي عليه.

أصغى إلي بانتباه:

-وماتقولينه جميل من زمن لم أسمعه.

البنتان الكبيرتان أصبحتا صديقتين لي والصبيان أظهرا لي المودة، والصغيرة لم تكن تفارقني عندما أزورهم، والبيت الذي نفرت في البداية من زيارته أصبح أكثر الأمكنة تردداً إليه.

فتحت لهم قلبي وفتحوا لي قلوبهم، وعندما حدثت قريبتي عن مشروع ارتباط بعبد الله الشاب التونسي الذي أعرفه شجعتني ولزم زوجها الصمت.

عاد سعيد إلى الرسم، كان يرسم ويعرض علي اللوحات، أنتقدها له فيعد لها حسب آرائي.

كثرت لوحاته، تألقت ألوانها، نبتت في رأسه فكرة إقامة معرض، عرض علي أن أتولى ترتيبات المعرض وسيعطيني نسبة من الأرباح.

قبلت الفكرة فلقد كان لدي الكثير من وقت الفراغ.

بدأنا نرتب للمعرض، ندور على قاعات العرض، ننتقي أطر اللوحات، نتناقش في تصميم بطاقات الدعوة.

في مساء يوم خريفي وهو يوصلني إلى البيت سألني إن كنت أمانع أن نذهب معاً إلى الميريديان لنأخذ الشاي، قبلت فما زال لدي متسع من الوقت أستطيع أن أقضيه في الخارج.

وهو يقود لحظت اضطرابه، عندما وصلنا بقي فترة حتى استطاع أن يتحدث.

كأنني سمعته يقول:

-لم يعد باستطاعتي أن أخفي الأمر، إنني أحبك يا سوسن.

فنجان القهوة، يكاد يلامس شفتي، ولكن ما إن سمعت كلماته حتى أنزلته، حدقت إليه بعينين مدهوشتين وفم مفتوح:

-مستحيل!.

-هذه هي الحقيقة.

-كيف تجرؤ؟ أنت زوج قريبتي، وأب لأولاد أعتبرهم أصدقائي، ثم هناك الفرق..

-أعرف أنني في الرابعة والخمسين وأنت في التاسعة والعشرين، أعرف أنني أكبرك بخمسة وعشرين عاماً، وأنك في عمر أولادي، ومع ذلك أحبك.

-أعدني إلى البيت.

-صدمتك؟.

كانت الدموع تملأ عيني، يا إلهي في أي كوكب أعيش؟ وما الذي أسمع؟ زوج قريبتي في مقام والدي يفاتحني بحبه. أي غباء هذا؟ من الغبي فينا، أنا؟ أم هو؟ أم هي؟.

أحسست بالإشفاق عليها، وهي قابعة الآن في بيتها، ربما تكون تكوي له قمصانه أو تحضر عشاءه وهو يأخذ قريبتها إلى فندق ليصارحها بحبه.

-قد أكون فاجأتك ولكن فكري في الأمر، مذ رأيتك أحببتك، رأيت فيك تجسيداً لكل ماحلمت به، الرقة، الشفافية، الانطلاق.

-كفى لاأريد سماع الباقي.

طوال الطريق ونحن صامتان، عندما نزلت سألني:

-متى أسمع رأيك؟.

-ليس لدي ماأقوله.

-عندما تفيقين من ذهولك، اسألي نفسك وفكري جيداً وبعدها أجيبيني.

هرولت إلى غرفتي، أغلقت الباب ورائي وانطرحت على السرير.. المجنون هل يعني ما قاله حقاً؟ كيف لم ألاحظ إعجابه بي؟ ثناءه على ذوقي، اهتمامه بأموري..

كل هذه الأشياء أخذتها على محمل الرعاية، ولكن لم يخطر في بالي أبداً...

يجب أن أقطع علاقتي بهم، أرفض العمل الذي عرضه علي، مؤكد أن هذا العمل ستار لتوثيق علاقته بي.

في كل صباح كنت أرى سيارته أمام البيت، ينظر إلي من بعيد دون أن يكلمني ثم يغادر.

اتصلت بي قريبتي تسألني عن سبب انقطاعي وتدعوني بإلحاح للغداء عندهم، ولم تستطع كل الأعذار التي قدمتها أن تقنعها.

عندما ذهبت إليهم، كنت أتجنب النظر إليه، وكنت أضغط على نفسي لأبدو بمظهر طبيعي هادئ.

-تعالي لأريك اللوحة الجديدة.

لم أستطع الرفض:

-بدأت برسمها عندما عدت من الميريديان، أحسست أنني أريد أن أفعل شيئاً خارقاً فكانت هذه اللوحة.

صمت قليلاً، تأملني:

-فكرت بالموضوع؟.

-الموضوع منته بالنسبة لي.

-لكنه لم ينته عندي وأنا إنسان عنيد.

قلت له بحدة:

-انس الموضوع نهائياً، لست لئيمة كي أدخل بيتاً فأدمره على رؤوس أصحابه.

-هذا البيت سيدمر معك أو مع سواك، هذا البيت ليس له وجود في الحقيقة.

-وهؤلاء الأولاد هل جاؤوا من الحقيقة أم من تصور الناس؟.

-كل زواج لابد أن ينتج عنه أولاد.

-قد يأتي الإنسان بولد واحد وعندما يكتشف استحالة الحياة يفترق، أما أن ينتظر حتى يصبحوا خمسة ثم يفكر بالهرب هذا ليس عدلاً.

-وأين العدل في هذه الحياة، هل كان من العدل أن أتزوج من قريبتك؟.

-ما العيب في قريبتي؟.

-لاتغالطي نفسك، في كل يوم ترين صوراً من تفاهتها، السوق، الخياطة، الجارات، الثرثرة، لم تسألني يوماً بم أفكر، لم تبد اهتماماً بفني، مرسمي لا تدخله، حتى ولو لتنظفه، جئت أنت مرات قليلة عوضتني كل التجاهل الذي تبديه.

-أنت الذي خطبتها.

-كان لابد لي أن أتزوج، عرفت أخاها، رأيتها أعجبتني، لم أستطع النفاذ إلى أعماقها، ولكن يبدو أن الخلاف بيننا كان كبيراً، تصل الأمور بيننا إلى الطلاق، يتدخل الأصدقاء، نتصالح أياماً لنتشاجر شهوراً، كيف استطعت أن أتحمل حياتي معها هذه السنوات الطويلة؟.

في مجال تبرير موقفه يستطيع أن يطعن في كل شيء.

-سوسن صدقاً أقول، لقد أحببتك أنت بالنسبة لي حلم كنت قد يئست من تحقيقه.

-يجب أن تبقى يائساً.

-أنت لاتستطيعين أن تعارضي الحياة، أنت منجذبة إلي كما أنا منجذب إليك.

أزعجتني الفكرة، وتسلل إلي خوف أن تكون هذه هي الحقيقة.

أجبته بعناد:

-أعرف مايصلح لي وأعرف كيف أخطط لحياتي.

-نحن متشابهان ياسوسن، أنت إنسانة موهوبة، في الأعماق فنانة تتوق إلى التألق كل منا بحاجة إلى الآخر.

-لاتجر كثيراً وراء الخيال، نحن لم نخلق لبعضنا البعض.

-تتوهمين.

هل أنا واهمة حقاً، لماذا رحت أردد كلماته؟ لماذا أتلهف لرؤية سيارته تنتظرني أمام البيت والمدرسة صباح مساء. يرتجف قلبي، أخاف، ثم أحس بنشوة...

ولكن لايحق لي يجب أن أبعده...

يأتيني هاتف عبد الله:

-هل لنا أن نتناول الغذاء معاً.

تمنيت لو أنه في هذا اليوم يفاتحني بالخطوبة فأنهي هذا المأزق الذي يجرني إليه سعيد.

كعادته كان لطيفاً، رقيقاً تحدث في كل الموضوعات بعمق وحسن رؤية.

قال بابتسامته الودودة وهو يودعني:

-أتمنى أن نلتقي ثانية.

تمتمت حانقة:

-أيها الغبي، أهذا كل مالديك؟

أهبط من السيارة، أرى سيارة سعيد مرابطة أمام البيت، ووجهه مربد متجهم.

ناداني:

-من الرجل الذي كنت معه؟

-والد طالبة أعطيها درساً خاصاً.

-لماذا أوصلك هو ولم توصلك زوجته؟.

-أنا لا أستطيع أن أشترط عليهم من الذي يوصلني.

وانفجر في وجهي:

-تظنين أنك ببعدك عن أهلك قد هربت من الرقابة، أنت واهمة، أقسم بالله العظيم سأضربك إن رأيتك تخرجين مع أي رجل.

صرخت في وجهه:

-ولكن بأي حق تخاطبني بهذه اللهجة؟.

-بحقي كرجل يحبك ويحرص عليك.

توقفت، غاضبة، حائرة، حزينة.

-هيا اصعدي.

وجدت نفسي اصعد إلى جانبه، فانطلق إلى الميريديان.

اختار طاولة جانبية، بدأ حديثه مهدداً:

-هذه الحياة التي تعيشينها يجب أن تتغير، أين تظنين نفسك؟ في لندن؟ في باريس؟

من هؤلاء الشباب الذين تخرجين معهم؟ وبأية صفة تقابليهم؟.

-إنهم أصدقاء.

-عن أية صداقة تتحدثين؟ أين تعيشين؟ في بلادنا لاشيء اسمه صداقة. عيون الرجال فارغة والبلد محافظ وأنت تجعلين من نفسك فرصة طيبة لمن يريد أن يتسلى.

-لا أسمح لك أن تقول لي هذا الكلام.

-لن أنتظر سماحك لأجنبك النار التي تسيرين إليها.

-إنني كبيرة أعرف مصلحة نفسي.

-بل تحاولين أن تغطي أحزانك بصداقات وهمية.

-عن أية أحزان تتحدث؟ لا أحزان لدي.

-ترك رياض لك كان صدمة زعزعت ثقتك بنفسك فرحت تحاولين البرهنة لنفسك والآخرين بأنك محبوبة والجميع يتمنونك.

-إن أفضل جميل قدمه لي رياض هو زواجه، لو تم زواجي منه لاكتشفنا بعد فوات الأوان أننا مختلفان.

-تقولين ذلك لتعزي نفسك.

-لم أفجع لأعزي نفسي.

كنت أنتفض من الغضب وكان يكلمني هادئاً.

قال بأسى:

-لو كنت مكان هذا الشقي ماتركتك أبداً.

وانفجرت بالبكاء، هل وضع يده على الحقيقة، هل صحيح أنني أصادق الشبان لأثبت لنفسي أنني الفتاة المرغوبة؟.

رياض جرحني حتى أعماقي، أحببته كل الحب، أعطيته راضية أحلى سنوات عمري، حتى الآن لم أستطع أن أنساه، أحتفظ بصوره،  أراه في وجوه الناس.

-سوسن قد أكون آلمتك ولكنني إنما أفعل ذلك من أجل مصلحتك، في البداية كنت أنصحك من منطلق قرابة وأبوة، والآن لأنني أحبك وأريدك لي.

-وأنت أيضاً تريد أن تخرج معي، أن تتمتع بوقتك، ما الفرق بينك وبين الآخرين؟.

رفعت إليه عينين مغضبتين.

-لا تسيئي بي الظن، إنني أحبك، وسأصونك كما أصون عيني.

تمنيت لو وضعت رأسي على صدره وبكيت طويلاً.

أحبه؟ وتبرز لي عيونها وعيون الأولاد، أهرب منها، تطاردني، أبتعد، يأتي ليأخذني إليهم، أحس في نظراتها ضيقاً وفي تصرفاتها بروداً.

يقول لي أمامها:

-ما بيننا عمل يجب أن ينجز.

نلتقي، نخرج معاً.

-لأول مرة أحس أنني أحيا. عرفت الكثير من النساء، ولكن لم أشعر بما أشعر به تجاهك، أحس وكأنني انتقلت إلى مدار آخر، كأن للعالم طعماً لم أحسه من قبل. أيتها الساحرة ماذا فعلت بي؟ كنت أحس وكأن الحياة انصرفت عني، معك أحس وكأنها مقبلة بكل أفراحها. حياتي كانت قد اتخذت مساراً رتيباً، فجأة أحس أن لي أجنحة تحملني إلى دنيا جديدة، فتية نضرة.

هل تعرفين كم لوحة رسمت بعد أن عرفتك؟ أربعين لوحة.

-الملهمات كثيرات في حياة الفنانين، ولكنهن يتبدلن بتبدل الفورة.

-ولكنك المرأة التي لن تتبدل في حياتي.

-ما الذي يقوله الآخرون؟

-يتسلون بحكايتنا فترة ثم ينسون.

-وزوجتك والأولاد؟.

-لن ينقصهم شيء أقدم لهم كل مايريدون وآخذك إلى بلد بعيد نعيش فيه فلا يضايقنا أحد.

-لن أستطيع أن أفعل ذلك بهم.

-ما الحل إذن؟.

-لا أعرف، لتبق الأمور كماهي.

-لا أستطيع، يجب أن تكوني زوجتي.

-لن يوافق أهلي.

-لا تستبقي الأمور، هل أنا أول رجل يتزوج ثانية؟ هل خرقت قوانين الكون إن أحببتك. صدقيني إنّ أحداً لن يحبك كما أحببتك.

كنت ظمأى فأغرقني بعاطفته، أهو الأب الذي أبحث عنه؟ أهو الحب؟ أهو السعي إلى الأمان والاستقرار؟ ولكن أي سعي؟.

يأخذني لنذهب إلى صالة المعرض. يحدق إلى ثيابي بانزعاج.

أقطع عليه طريق التعليق:

-ظنتني الصحفية زوجتك.

-وظنك أحد الأصدقاء ابنتي.

خيم بيننا الصمت، قطعه بصوت حاول أن يجعله هادئاً.

-مراراً طلبت منك أن لاتلبسي بنطلونات الجينز.

-لكنها تريحني.

-تريحك أنت وتسبب لي الحرج، عندما نكون معاً لانعطي انطباع زوجين.

-ولكننا لسنا أزواجاً.

-سنصبح.

-سعيد لست صغيرة، أنا في الثلاثين، فلماذا نتحدث عن فرق السن دائماً.

-من يرك يحسبك في العشرين.

-لاتبالغ، أنت الذي تبدو أصغر من سنك، يقدر من يراك أنك في الأربعين، الفرق بيننا هو عشرات سنوات، وهو فرق معقول.

ابتسم، فرحت أنني استطعت أن أمحو من نفسه الكدر.

صاحب الصالة يقول:

-هناك عروض كثيرة لشراء اللوحات، أصبحت معظم اللوحات محجوزة.

يطفر البشر من وجهه، يقول فرحاً:

-نصيبك من الربح سيكون عالياً، سأشتري لك سيارة، لا. سأضع باسمك رصيداً في البنك، أم في رأيك أن أشتري لك بيتاً في دمشق؟.

صمت برهة ثم قال:

-مهما قدمت لك لن أفيك، لكأنك خلقتني من جديد.

أستعيد كلام صلاح:

-"أنت مسرفة، كل فلس نكسبه يجب أن نضعه في المكان المناسب، الحياة صعبة، وهذه البلد لن تتحملنا طويلاً، علينا أن نحسب حساب المستقبل".

سعيد فيه شيء أصيل صميم، اندفاع طفلي مؤثر وسط عالم يموج بالتفاهات والحسابات.

-ها.. سوسن أين وصلت؟ هيا بنا.

في السيارة كان رائق المزاج يغني، انتقينا طاولة متطرفة وجلسنا إليها، وراح يتدفق حديثاً وفرحاً:

-كنت أحب دمشق قبل أن أعرفك، الآن أصبحت أعشقها، حواريها وأسواقها لوحات رائعة رسمت بعضها، وأتوق إلى رسم الباقي، أتمنى أن أخلد هذه المدينة.

-أول مصري يتحدث عن الشام بهذا الحب!.

-مدينة عريقة، غنية، رائعة الجمال.

شردت بخيالي أسترجع تفاصيل مدينتي... تهت في دروبها ومنحنياتها، وشجرها، ابتسم لنفسي طفلة تلعب في حدائقها....

أسمع صوتاً مغضباً:

-لمن تبتسمين؟.

أستيقظ من ذكرياتي:

-ماذا؟.

-أقول من هذا الشاب الذي تبتسمين له؟.

نظرت إليه مستفهمة.

قال وقد لاحت في عينيه نظرة قاسية:

-لاتتظاهري بالبراءة، رأيتك تنظرين إليه.

-لمن؟.

أشار إلى شاب يجلس ورائي.

قلت وأنا مازلت محافظة على أعصابي:

-لا أعرفه.

-بل تعرفينه، كلما جئنا إلى هذا المكان رأيته أمامي، وها أنتما تتبادلان النظرات.

قلت وأنا أضغط على كل كلمة أنطقها:

-لا أعرفه ولم أنظر إليه وأنا أعطيه ظهري؟.

-تنظرين إليه من مرآة العمود المقابل لك.

أحسست بالدم يغلي في رأسي، صرخت في وجهه:

-أنت كاذب.

أربد وجهه، انتفض واقفاً:

-هيا نذهب.

-نعم يجب أن نذهب، الحالة لم تعد تطاق.

-ماذا تقصدين؟ هل اكتشفت أنك أخطأت في حبك لي.

-لا بل اكتشفت أنك مللت وتريد الانسحاب.

-تغطين رغبتك بالهرب.

أدرت وجهي ولم أجب.

قلت له وأنا أغادر السيارة:

-مابيننا قد انتهى ولا داعي لأن نجرح بعضنا البعض بالاتهامات.

-عندما تقولين لإنسان يكبرك بخمس وعشرين سنة أنت كاذب فهذا معيب.

-بل المعيب أن يكذب هذا الإنسان.

أكرهه وأكره نفسي لأنني أحببته...

يمر اليوم الأول والثاني والثالث والرابع.. أتمنى أن أتصل ولكن لماذا لايتصل، هو الذي أذاني وهو الذي يجب أن يعتذر.

لقد بطر، كان يحبني وهو يركض ورائي ليقنص حبي، وعندما أحببته بدأ بالتراجع هذه هي الحقيقة فكيف غابت عني.

هكذا هي متعة الصياد يعدو وراء الصيد وعندما يحصل عليه يلقيه في سلته، ولكني سألقيه قبل أن يلقيني، لست واحدة من هؤلاء الكثيرات اللاتي عرفهن.

هذا المغرور كان يريد وجهاً يتباهى به يوم الافتتاح، ولما انتهى المعرض انتهت القصة، لم يحبني كنت إطاراً براقاً لصورته وتجديداً لزواجه الطويل.

أكرهه.. أحبه.. أبكي شوقاً إليه وأعرف أنني مخطئة وأن هذه الإشارة تنبئ بوجوب التراجع، ولكنني أدير رقمه، ترد زوجته، يرد أولاده، وأنا أريد سماع صوته، وأحس أنني أحترق حزناً وقهراً..

ويأتي العيد..

لابد أنه الآن في بيته يقوم بواجباته العائلية، يزور الأصدقاء ويزورونه وأنا قابعة في غرفتي وحيدة مهجورة، إن عنَّ له أن يحدثني اتصل بي وإن ثارت كبرياؤه امتنع.

عشرة أيام مرت قبل أن أسمع صوته.

سألته بمرارة:

-لقد انتهيت من أداء واجباتك فتذكرتني.

-لقد أسأت وكان الواجب أن تعتذري.

-لو اتصلت بي لاعتذرت، ولكن كيف أتصل بك وأنت محاصر بعائلتك؟.

-سآتي لنسوي الموضوع.

-تدخر الخروج معي للحظات ضيقك، أما عندما يصفو لك الجو في البيت فلا تذكرني.

-أتعرفين أين كنت في هذه الأيام؟

-أين؟.

-في المستشفى.

-لماذا؟ هل كنت مريضاً؟.

-لا، ولكن الصغيرة احتاجت لإجراء عملية جراحية.

-من؟ لينا.

-نعم. كدنا نفقدها، الأسبوع الماضي كله قضيته في المستشفى.

-كيف هي الآن؟.

-أفضل. ألن تزوريها؟.

-متى أستطيع أن أزورها دون أن تكون زوجتك هناك؟.

-في الرابعة.

في الرابعة كنت في المستشفى وكان هو معها، عندما رأتني ابتسمت ثم نادت أباها وطوقته بذراعيها فاغرورقت عيناه بالدموع.

أتراها تحس وبذراعيها تحميه مني؟.

على باب الغرفة رأيت الأم، سلمت عليها بسرعة وانصرفت.

في المساء خرجت معه. كان التأثر بادياً على وجهه.

-لا أستطيع أن أتمالك نفسي عندما أراها في السرير، إنها أحب أولادي إلي.

أتأمله وهو يسوق السيارة محاولاً أن يرسم السعادة على وجهه.

هذا الرجل أحبه ولكنه ليس لي، إنه لأولاده، لمن يمرض منهم ومن ينجح، ومن يرسب ومن يسافر.

حبه لي سحابة صيف، عبرت حياتي، ولكنها لن تمطر.

-بعد أسبوعين ألقاك في دمشق، لا أستطيع أن أتخيل شهور الصيف تمر دون أن أراك.

-في دمشق لا أستطيع أن أراك.

-ولكننا سنتزوج.

من قال أننا سنتزوج وألف عقبة تقف في وجهنا؟.

أعود إلى البيت، يصل صوتها عبر الهاتف:

-اسمعي ياسوسن. عندما رأيتك اليوم أحسست بالمسؤولية تجاهك، مازلت قريبتي ومازلت أحافظ على سمعتك، أنا أعرف الناس بزوجي، في حياته الكثيرات اللاتي  تسلى بهن فلا تعطه هذه الفرصة. يشرق الرجل ويغرب ولكن مآله إلى بيته وأولاده.

-زوجك لايتسلى معي، لقد عرض علي الزواج.

فوجئت، تضعضعت، ارتعش صوتها.

-لا تنجرفي معه، لاتغتري بكلامه عن لوحاته ومعارضه ورصيده في البنك، إننا لا نملك حتى بيتاً نعيش فيه، لاتضيعي مستقبلك بأوهام يزينها لك، ابتعدي عن طريقه.

أجبتها دون وعي:

-أنا لم أضع نفسي في طريقه هو الذي سعى إلي.

-هذه هي عادة الرجال ولكن على النساء أن يكن أكثر حصانة فهن الخاسرات.

شعرت بكراهية تجاهها، لو لم تكن في طريقنا لتزوجنا، أكان يجب أيها الأحمق أن تلتقي بي وأنت مرتبط؟.

-سعيد لقد تحدثت معي زوجتك.

-ماذا تريد؟.

-تطلب مني أن أبتعد عنك لأنك تتسلى بي، فقلت لها إنك قد عرضت علي الزواج.

شحب لونه، ارتجف صوته:

-لماذا قلت لها؟.

-وهل سنتزوج خفية؟.

-لا ولكن حتى يتم الأمر لا داعي لتقلبي البيت جحيماً على رأسي، في كل يوم محاكمة واتهامات وتحريض للأولاد.

-جرحتني، قالت إنك تتسلى بي.

-تعرفين الحقيقة، فلماذا تتغابين؟.

نهض مغضباً، قال وهو ينصرف دون أن ينظر إلي:

-صباحاً سآتي، في العاشرة تماماً أكون عندك.

أهذا وداعه لي أنا المسافرة غداً؟.

في الحادية عشرة اتصل بي، فرحت عندما سمعت صوته، لابد وأنه أحس بخطئه، لكنه أخمد فرحتي بقوله:

-اضطررت لعمل عاجل. لن أستطيع توصيلك إلى المطار.

ما كدت أغلق الهاتف حتى وصلني صوت أحد الزملاء يطلب مني أن أوصل بعض الأغراض لأهله في دمشق وعرض علي أن يصحبني إلى المطار فقبلت العرض.

طوال الليل وأنا أفكر بسعيد، هل أخطأت في إخبارها؟ مؤكد أنها ثارت عليه، تشاجرا سمع الأولاد، بكوا، رق قلبه، تحركت عواطفه، كرهني.

ولكن مهما كانت الظروف كان عليه أن يودعني، هو الذي قال إنه يتخلى عن الدنيا كلها ولا يتخلى عني، هو الذي قال لايعد اليوم يوماً من عمره إذا لم يرني.

يحبني، يكذب علي؟ يتسلى بي؟ هل سينساني ويعود إليها مستغفراً؟.

"على النساء أن يكن أكثر حكمة فهن الخاسرات". أي ميراث حكمة نطقت عنه أيتها القريبة الغبية السمجة؟.

في العاشرة صباحاً، أوصلني زميلي إلى المطار، انتهيت من تقديم أوراقي، كنت أتحدث إليه عندما رأيت سعيد يقف بعيداً ومن عينيه ينبعث الشرر.

شعرت بالخوف، طلبت من الزميل أن يغادر، هرعت إليه لكنه أسرع خارجاً من مبنى المطار، انتظرت نصف ساعة ريثما يصل إلى عمله واتصلت به، قال زميله إنه لم يصل، المجنون إلى أين ذهب كان من المفروض أن يصل، أيكون وهو يسوق بجنون قد وقع له حادث؟...

اتصلت ثانية، وصلني صوته يقطر حقداً ومرارة:

-من زمن وقلبي يحدثني.

-اسمعني يا سعيد أرجوك.

أغلق السماعة في وجهي.

أعدت الاتصال.

قال ساخراً:

-أنا الذي كدت أخرب بيتي لأجلك، الآن اكتشفت أنك لاتستحقين أية تضحية وأنك لا توفرين فرصة للخروج مع الشبان إلا وتنتهزينها.

-لقد اعتذرت أنت عن...

سمعت صوت السماعة تخبط بعنف في الجهة المقابلة.

أتبلغ يا سعيد من الغباء هذا المبلغ؟ أتصل بك الشكوك إلى هذا الحد؟.

أي وداع رائع كان هذا الوداع، وأية نظرة قاتلة ألقاها علي وهو يغادر؟.

تقلع بي الطائرة وأنا ذاهلة عما حولي، هل أخطأت لأن زميلي أوصلني؟ ليتني رفضت عرضه لكنت قد وفرت على نفسي هذا الموقف البائس.

أين سعيد المحب العطوف من هذا الفظ الذي أهانني؟

كيف أسمح له أن يعاملني بهذه الطريقة؟ هذا الغبي التافه المغرور الذي ركض ورائي يسبني الآن. لماذا يحدث هذا معي؟ أحس بغصة تملأ حلقي، رغماً عني أمسحها محاذرة أن يراني أحد، ألتفت إلى جواري تلتقي عيني بعينين طفل رائع يسألني بلثغة حلوة:

-خالة لماذا تبكين؟.

رغم دموعي أبتسم لكلماته العذبة، أمسح على شعره:

-لا أبكي ولكن عيني تؤلمني...

-ظننت تبكين لأنك تركت أولادك.

أضحك له:

-لا أولاد لدي.

لو تزوجت لكان لي أولاد في مثل عمرك أيها الشقي الجميل ولكن ليس لدي إلا الذكريات.

خمس سنوات ومازلت أحن إليك، أذكرك، تطفو إلى ذهني كلما مرت بي الأحزان.

لماذا كان وجهك هو الأبقى وقصتك هي الأوجع؟.

مازلت أذكر ثوبي الوردي الذي لبسته يوم الخطوبة والورود التي نثرتها على شعري، أراه داخلاً بقامته الممشوقة، بشعره الأشقر، بعينيه الزرقاوين، أرتجف عندما يضع الخاتم في إصبعي.

يهمس لي:

-أية صدفة رائعة كان لقاؤنا؟ أنا المتشرد الغريب لمَ لم ألتق بك قبل الآن؟.

عشر سنوات وأنت صديقة أختي ثم لا نلتقي إلا قبل أيام!.

وأنت أين كنت يا رياض، قبلك جريت وراء الأوهام والآن أعرف أنك الحقيقة الحلوة التي أتمسك بها.

-أعود إلى السعودية وتعودين إلى الكويت وفي العام القادم نتزوج ونستقر.

أية أشواق مختزنة غمرتني بها؟ فتحت لي أبواب عالم لم أكن أعرفه فإذا بعواطفي تنفجر وتندفع إليك.

يوم وداعنا كان أول يوم أعرف فيه طعم الجسد، مازلت أذكر هذه اللحظات حتى الآن بحنين، بيأس، بغضب.

يصلني صوته على الهاتف يومياً يحمل لي نبضه وأمنياته، يحدثني عن أدق تفاصيل حياته، يقول لي:

-لا أستطيع أن أنام دون أن أسمع صوتك.

مزهوة بحبي، مزهوة بشوقه.

ذات يوم يقول لي، والفرح في كلماته:

-ستوفدني الشركة إلى أميركا، إنها فرصة العمر، ما رأيك بالاستقرار هناك، أسبقك ثم أستدعيك.

رسائله وكلماته حملت لي الوعود، رسمت له صورة رائعة للحياة معه...

تتباعد رسائله... تنقطع مكالماته... في قلبي ينغل الشك والحيرة.

تمر سنة وأنا لا أزال ألبس خاتمه، أزوّر لأهلي وصديقاتي مستقبلاً ينتظرني معه، في أول الليل أعاتبه وفي آخره أكون قد اخترعت له الأعذار، ثم أعرف أنه تزوج فأنهار.

ذكريات.. ذكريات... الجامعة... الأصدقاء.. الكويت... رياض... صلاح... عبد الله.

لماذا قصصي مخفقة دائماً؟ هل العيب فيّ أم فيهم.

أبحث عن الإجابة في صداقة شبان أتعرف إليهم وأخرج معهم، أتسلى برفقتهم ويفرحون بصحبتي.

حياتي في هذا البلد الصحراوي أية أفراح تنديها؟.

البحر... الطواف بالسيارة في المدينة ثم ماذا؟.

أنظر إلى رفيقاتي جميعهن تزوجن، أصبح لديهم أولاد، وأنا لا أشتهي حياة كحياتهن، ولكن لم أعد أطيق حياتي.

أكملت عامي الثامن والعشرين، لم يبق بيني وبين الثلاثين إلا سنتان.

زميلتي تقول:

-بعد الثلاثين يخشى على المرأة أن ...

لا تكمل... أضحك، فأنا أعرف الكلمة التي تخجل أن تقولها لي.

على أبواب الخوف والضجر ألتقي بك ياسعيد، تملأ عيني وقلبي، تسد على أبواب النجاة.

أحبك.. أخافك.. أخاف زوجتك والناس.. تتناوبني الأمراض والهواجس، أقاوم، أرى السعادة في ابتسامتك، أحس التعاسة في غضبك.

أنا العصية المتأبية.

أصبحت رهن مزاجك العاصف المتقلب.

يجب أن تخرج من حياتي أيها الرجل الذي أحبه وأكرهه، وأتمناه، وأتمنى الخلاص منه.

خمسة عشرة يوماً وأنا أحاول أن أرمم أعصابي، أحاول أن أتخيل حياة لا تكون فيها، حياة تعطيني السلام والأمان...

أحاول أن أخرج للناس، أتعرف إلى من يجعلني أنساك، أتمنى أن يتقدم لي أي شاب لأراه مناسباً. فزواجي أفضل من هذا الجنون الذي أعيشه معك.

تقول لي أختي:

-لا شرع ولا خلق يبرر علاقتك معه.

أعرف أنها محقة ولكن من قال إن الحق هو الذي يسيرنا...

يأتيني صوتك نادماً:

-هل تسامحينني يا سوسن.

أحس غصة تملأ حلقي، أتمالك نفسي:

-قصتنا صفحة طويت، ولقد فتحت الآن صفحة جديدة في حياتي.

-لا تخدعي نفسك، ما تحملينه لي من حب عميق، لا تستطيع لحظة غضب أن تمحوه.

-عندما لا يكون حبك لي بمستوى حبي لك فالأفضل أن نفترق.

-ليس الآن مجال المناقشة والسفسطة، أريد أن أراك لأتحدث إليك.

-لا داعي لأي حديث بيننا.

-سآتي اليوم لأخطبك من والدك.

قال والدي:

-الفكرة مرفوضة من أساسها، كيف تريدني أن أزوج ابنتي لزوج ابنة عمي؟ هناك شيء اسمه منطق.

يتصل بي، أرفض الخروج معه، أراه في سيارته يحوم حول بيتنا، أراه يحرق سجائره ويحترق معها.

ألقاه، أرى نحوله، اضطرابه، ارتجاف يديه:

-جعلتني أعود للخمر.

أخاف عليه ومنه.

-لماذا لا تستغل وجودك في دمشق وترسم؟.

نظر إلي ساخراً:

-أي رسم هذا الذي تتحدثين عنه؟ أصبحت مشرداً، ضائعاً يتسكع في الطرقات.

-ماذا تريد مني أن أفعل؟.

-نتزوج.

-لا أستطيع أن أعارض أهلي. من يدري ما الذي تخبئه الأيام، قد نختلف، قد ننفصل، لمن ألجأ، سأخسر الطرفين.

-تفكرين بالاختلاف والانفصال والربح والخسارة، وأنا المجنون الذي ترك كل شيء من أجلك. سوسن لن أتخلى عنك أبداً ولن أتركك تسعدين بأي زواج إن كان من غيري.

نتلاقى، أحس أن شيئاً قد تغير فينا، لم نعد كما كنا، بيننا حاجز وفي قلبي جرح...

أغمض عيني... أراه... أعرف أنني غارقة في حبه وأن لا فكاك من هذا الأسر، ولكن الزواج منه...

تقول أختي:

-إنه يغار عليك وأنت لاتزالين خارج بيته، تتشاجران إن نظر شاب إليك.

فكري ياسوسن ما الذي سيحدث بعد الزواج، سيغلق عليك الباب، لن يسمح لك بمغادرة البيت، كلما كبر سنة زادت غيرته، بعد خمس سنوات يصبح في الستين وأنت لاتزالين في الخامسة والثلاثين.

ثم لاتنسي أولاده، قد يكون الآن مفتوناً بك بعد سنة يعتادك، يعاوده الشوق لأولاده لا مستقبل لك مع هذا الإنسان.

لامستقبل معه، ولكن لاأتخيل مستقبلاً لايكون معه، كل الوجوه تشحب، تتراجع ويبقى وجهه الغاضب حيناً، الحاني كثيراً، بنبله، بطيبته، بحبه.

-ها. سوسن قولي نتزوج فنذهب فوراً إلى المحكمة. ماشأننا بأهلك، بزوجتي، بالناس كلهم؟.

أفتح فمي لأتكلم، على شفتي ترتجف الكلمات، أسمع صوتي، ولكنني لا أعرف ماذا أقول... 

 

 

 

 

الشتاء والحب

 

من أشجان الروح

 

البرق يشق السماء بومضات قوية، والرعد ينفجر صواعق داوية، والمطر ينهمر غزيراً، يرشق النوافذ بقطرات كبيرة، تتسلل إلى الغرفة من حواف الخشب.

البحر يمتد أمامي سهلاً من الرماد، تجلده سياط مطر تنحدر من سماء ملبدة بغيوم سوداء، أحس بالبرد فأقترب من المدفأة، يسري إلي شعور بالدفء والسعادة، أحلم بأن يكون الجو صحواً في الغد، لأذهب إلى المقهى البحري، وأنعم بفنجان قهوة أرشفه، وأرى لمعان الشمس من وراء الغيوم الداكنة، وأرقب الزبد يطفو على قمم الموج، وأحس الخفق الرقيق لأجنحة النوارس على صفحة الماء.

يروق لي المنظر، أبتسم، أفرح، أتمنى أن يتحقق الحلم، يستخفني شعور بالمرح، فأحس بأن الحياة حلوة ساحرة.

 

من الغرفة المجاورة تنبعث آهة، إنها عمتي الراقدة في سريرها، تأمل بشفاء لن يوافيها، وتنتظر يوماً لابد منه.

تخدش فرحتي، ولكن مازال الطريق أمامي طويلاً لأفكر بالمرض والشيخوخة، أحس بالشباب يملأ كياني، فتعاودني الغبطة.

من المذياع تنبعث أغنية حلوة تقول:

"آه ياأسمر اللون، حبيبي الأسمراني لا عيوني نسيانة عيون، حبيبي الأسمراني".

تضحك أمامي عيناه، فأبتسم لوجهه العذب، من خلفي تنبعث شهقة، أذهب إلى غرفة عمتي، أراها تختنق بالبكاء:

-ماذا حدث؟.

-لاشيء.

-ولكنك تبكين.

صمتت، اقتربت من سريرها.

-هل أستدعي لك الطبيب؟.

-ما الذي يستطيع الطبيب أن يقدمه لي وقد حان السفر؟.

-لاتقولي ذلك ياعمتي.

-هذه هي الحقيقة سأسافر إلى حيث ينتظرني.

-من؟.

-ابن عمتي.

هل هي مريضة إلى درجة الهذيان، أم أن روحها ستفيض الآن، فترى مالا أستطيع أن أراه؟ أهو ملاك الموت؟ أهي أرواح تطوف حولها وتناديها؟ اعتراني الخوف. ولكنني غالبت خوفي، وسألتها:

-عن أي ابن عمة تتحدثين؟.

-عن أحمد، ابن عمتي.

هل كان لعمتي عمة؟ مذ وعيت على الدنيا وهي كبيرة العائلة، فعن أي عصر سحيق تتحدث؟.

-ما الذي ذكرك به الآن؟.

-هذه الأغنية.

على الرغم مني ابتسمت، كنت أظن أن كبار السن لايلقون بالاً إلى الأغاني، حتى لو أنهم انتبهوا إليها لايفهمونها، بل يعدونها ضرباً من العبث، أما أن يتأثروا بها إلى درجة البكاء؟!.

نظرت إليها بتعجب واهتمام.

قالت:

-كان أسمر، أسود العينين، وكنا...

-كنتم ماذا؟.

-كنا نحب بعضنا.

حدقت فيها وكأنني أراها للمرة الأولى، أي مفاجأة مذهلة لي أن أكتشف أن عمتي تحب؟.

رحت أتأمل الوجه الأسمر المغضن، خصلات الشعر البيضاء التي تطل من تحت المنديل، إنها في الخامسة والسبعين من عمرها، أتكون قد أحبت حقيقة؟ وهل كان في زمنها حب؟.

انساب صوتها هادئاً عميقاً، وكأنه يأتيني من غور بعيد:

-لم يكن في البلد أجمل منه، قامة فارعة، عينان سوداوان كحلاوان، شاربان كثيفان، عندما يمر في الطريق تقف الفتيات وراء النوافذ ينظرن إليه.

سرحت ببصرها بعيداً:

-كنا صغاراً نزورهم، ويأتون لزيارتنا، نلعب، نركض، نصخب في الحارة، حتى إذا حل المساء دخلنا إلى البيت لنكمل لعبنا فيه.

كبرنا، فصل الصبيان عن البنات، وفرض علينا الحجاب، ثم مات جدي فوقع الخلاف بين أبي وعماتي على الميراث، كانت عمتي أم أحمد أشدهن خصاماً، فكرهها والدي وحرم علينا زيارتها، انقطعنا سنوات عن رؤية بعضنا البعض.

عندما رأيته بعد انتهاء القطيعة كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكان في السابعة عشرة، التقت عيوننا، فغضضنا البصر، وعندما أعدت النظر رأيت الإعجاب في عينيه، فخفق قلبي.

لم يكن باستطاعنا أن نلتقي، فكان يتحين الفرص ليمر أمام بيتنا، قد يرفع إلي نظره، وقد لايرفع، ولكنني كنت أنتظر هذه اللحظات السعيدة.

-ولماذا لم يتقدم ليخطبك؟.

-تقدم، ولكن جدك رفضه.

-لماذا؟.

-لأن والده كان فقيراً، ولأن جدك لم ينس أيام القطيعة مع أمه.

-ثم؟.

-لم يكن يصدق أن خاله رفضه لأنه فقير، كان يقول لي: أيخجل خالي من مصاهرتي؟ أينسى أنني ابن أخته؟ ما العيب في أن أكون فقيراً؟ إنني شاب أستطيع أن أفتت الصخر، ليمهلني، وعندئذ يرى ما الذي أستطيع أن أفعله.

-لماذا لم يمهله؟.

أطلقت تنهيدة حزينة وقالت:

-الأيام لم تمهلنا... ذات يوم جاء العسكر التركي، جمعوا شبان البلد الذين هم في سن التجنيد، وبلغوهم أن عليهم الالتحاق بالجيش لأن الحرب قد قامت، ومن يتخلف أو يهرب سيعدم.

مازلت أذكر ليلة سفره:

وغابت تسترجع التفاصيل، وانطلق صوتها يروي، وكأن ماتتحدث عنه ماثل أمام عينيها.

قالت أمي لأبي:

-سنذهب إلى أختك لتوديع أحمد.

نهرها قائلاً:

-ما للنساء وتوديع الرجال؟!.

انطوت أمامه ضعيفة، خائفة، تمنيت حينئذ أن أبكي بصوت مرتفع، أن أتمرغ على قدمي والدي ليسمح لنا بالذهاب، ولكن نظرة من عينيه كانت كافية لتوقع الرعب في قلبي، ما كنت أستطيع أن أصدق أنه سيذهب دون أن أراه، ولكن حكم أبي لايرد.

الليل طويل والجميع غارقون في النوم، ووسادتي غارقة بدموعي، وعيناي مفتوحتان تنتظران معجزة. سمعت حركة تحت النافذة، تسللت من فراشي، وأطللت، رأيته في ضوء فانوس الشارع الضئيل، كاد قلبي يسكت من الفرح والخوف، لو أن أحداً رآه لكانت نهايتي على يد أبي.

أشار إلي أن أفتح الباب، فخرجت من غرفتي على رؤوس أصابعي، أمام غرفة أبي تعثرت وسقطت على الأرض، وسمعت صوته الجهوري يصرخ:

-من هناك؟

من أعماق رعبي انطلق صوتي مرتعشاً:

-أنا ياأبي أريد أن أشرب.

عاد إلى النوم، سمعت غطيطه، لكن الذعر جمدني، ماذا لو تظاهر بالنوم ثم خطر له أن ينهض ويراني وأنا أفتح الباب الخارجي؟.

ولكن قوة خفية كانت تدفعني إلى الباب دفعاً، هبطت الدرج، وفتحت الباب، كان يقف أمامي بقامته الشامخة.

-ادخل بسرعة.

وقفنا على الدرج، رددت الباب.

-جئت لأودعك.

انخلع قلبي، تساقطت الدموع من عيني، لم أكن أراه بوضوح، ولكنني كنت أحس بوجوده يملأ كياني، مازلت حتى الآن أذكر لمعان عينيه السوداوين، ونظرة دافئة انغرست في قلبي.

-لاتبكي، سأعود ذات يوم وسيوافق خالي على أن أتزوجك.

-سأنتظرك يا أحمد.

من أعماق الليل انطلق أذان الفجر، وسمعت صوت خطوات أبي متجهة إلى الحمام، وقف الدم في عروقي:

-أرجوك انصرف لقد استيقظ أبي.

-ما أقساه!.

من عنقي انتزعت مصحفي الذهبي.

-ضعه حول عنقك يحمك.

مد يده، تناول يدي بين يديه، قبلهما.

-ادعي لي.

-ليعدك الله سالماً.

ذهب ولكنه لم يعد، من كل شبان البلد الذين راحوا لم يرجع إلا اثنان، طرق أحدهما الباب على عمتي وناولها المصحف:

-هذه أمانة من أحمد.

ابتلعت دموعي، ماكان يحق لي أن أبكي، فالحب في زماننا كان محرماً، ولكن يعلم اللّه أنني ماوضعت رأسي على الوسادة إلا بللتها.

كنت أتساءل: أي ضير سيلحق هذا الكون لو عاد؟ لو رجع سأتزوجه. في الحياة نصنع مانريد، ولكن ما الذي نستطيعه أمام الموت؟.

مرت السنوات وصورته لاتبارح خيالي، تزوج إخوتي وأخواتي، فرغ البيت، لم يبق إلا أنا وجدك وجدّتك.

لم تهف نفسي إلى الزواج، الزواج إما أن يكون من أحمد أو لايكون.

تساءل الناس، نسيني الناس، دب الشيب في رأسي، أخوتي أصبحن أمهات ثم جدات، مر على القصة...

آه ياعمتي، لقد مر عليها ستون سنة.

-هذه الأغنية أرجعتني إليه، فكأنني الآن أراه واقفاً في غبش الليل، أرى لمعان عينيه ونظرته المودعة. أطلقت تنهيدة:

-يقولون من جرح قلبه في الدنيا يجبره الله في الآخرة، حياتي كانت حزينة، فهل سأكون سعيدة هناك.

أحس بألم يعتصر روحي، أتأملها غائصة في سريرها، تنتظر آخر أيام شتائها، صغيرة، منكسرة، أي حب وأي نبل يعيشان في هذا الجسد المتهدم؟!.

سنوات وأنا أعيش معها وأجهلها، مذ كنت صغيرة وأنا أراها تروح وتغدو، تعمل وتساعد، رعت أمها وأباها، ربت إخوتها وأولادهم، بنين وبنات، كل من وقع في ورطة يذهب إليها، تدافع، تحمي، تعطي، وماخطر لي أنها أحبت ذات يوم، وأنها ماتزال غارقة في حبها القديم المستحيل.

أذكر حبها لأخي أحمد، تفضيلها له علينا جميعاً، هي التي اختارت الاسم، وهي التي أصرت على التسمية وأسترجع نظرتها الحانية إليه، نبرتها وهي تناديه. أتأمل الوجه الذابل وقد دبت إليه حمرة ماقبل الغروب، ومن العينين سرت الدموع.

ياعمتي المسكينة تذكرينه لأنك ذاهبة إليه؟.

ألصق وجهي على زجاج النافذة، المطر مازال ينهمر في الخارج، وفي داخلي ينبعث حنان يتمنى أن يمسح آلام الناس جميعاً.

 

 

 

الزائــر

 

البرق يخترق النافذة، تشتعل الستائر بوهجه، تستحيل ظلمة الغرفة بياضاً، يقصف الرعد، يهطل المطر سيلاً، أسمع زخاته القوية تضرب الجدران ثم تنساب على زجاج النافذة، تدوي الريح، تنفذ من حواف باب الشرفة، أرتعش تحت اللحاف، كان يجب أن ألصق شريط إسفنج على حواف الباب لئلا تشعر الصغيرات بالبرد، ولكن.. هي الأيام تهرب مني.

تتقلب "ديمة" في السرير، ينحسر عنها الغطاء، أدثرها، يأتيني السؤال:

-في الشتاء القادم من يدثرها إذا انكشف الغطاء؟.

تفتح "لين" عينيها:

-ماما، أريد ماء.

أذهب إلى المطبخ، أشعل المصباح، أملأ الكأس، يصل إلي أصوات أقدام راكضة وصراخ خائف، أرى "نور" تقف في الباب تسألني:

-لماذا قمت من السرير دون أن تقولي لي؟.

جاءت إلي، حضنت ساقي، أحسست خفقات قلبها الصغير المتلاحقة.

قلت لها:

-أسرعي إلى سريرك، الأرض باردة وأنت تسيرين حافية.

قالت بلهجة راجية:

-ماما، لا تسافري.

ابتسمت لها وقلت مطمئنة:

-إن سافرت تبقين عند جدتك وتلعبين مع أولاد خالتك.

قالت:

-لا أريد الذهاب إلى أي مكان، أريد البقاء في بيتنا.

نعود إلى الغرفة، تشرب "لين"، تتمدد "نور" على جانبها ووجهها إلي.

أغمض عيني، أحس بالتعب يسري إلى جسدي، مازالت الرحلة طويلة فلأحاول اختزان الطاقة، يطلع الصباح، تستيقظ الصغيرات، أغسل لهن وجوههن، أسرح شعورهن، ألبسهن ثيابهن.

تنزل "نور" و "ديمة" إلى باص الحضانة.

يستيقظ "أحمد"، نرتدي ثيابنا، نهبط الدرج، أدق الباب على أمي أودع "لين" لديها.

على باب البناية يفاجئني دفء عذب، أرفع عيني إلى السماء، أرى الشمس مضيئة رغم الغيوم، يسري إلي شعور بفرح حزين.

تمر بي السيارة في شوارع المدينة المغسولة بماء المطر، نخرج إلى الحقول، أرى قوس قزح يمتد بين السماء والأرض... أرى أشجار الحور ذات الخضرة الداكنة وعلى مد البصر زهور نضرة تتمايل مع الريح المثقلة بماء المطر.

يترجع في سمعي الصوت العميق "وبعد الليل يجينا النور، وبعد الغيم ربيع وزهور".

أصل إلى الدائرة، يقابلني الزملاء بنظرات ود.

يقول لي زميلي:

-نفتقدك عندما تغيبين.

أجلس إلى مكتبي، أقلب الأوراق أمامي، يأتيني الآذن بفنجان القهوة، أرتشف رشفة وأخرى ولكنني لا أحس بمذاقها.

كان فنجان القهوة فاتحة نهاري فلم تفقد الأشياء طعمها؟.

يطرق المطر زجاج الغرفة، أقوم إليها، أرى الغيوم تغيب الشمس.

تقول زميلتي:

-شمس وغيم، صحو ومطر، إنه الانفلات من المعايير.

إنه الانفلات من المعايير، هي المفاجآت والذهول.

(_هل جئت بالصور والتحاليل؟.

-لا.

ضبطته يتأملني بنظرة غريبة.

يهرب مني، يجلس شارداً، يرد بضيق على أسئلة الصغيرات، يتظاهر بمتابعة التلفزيون وكنت أحس به بعيداً عما يجري.

يتمدد في سريره، أسمع صوت تقلبه وزفراته، يخرج من غرفة النوم، ينبعث الضوء من غرفة الجلوس.

أنهض من السرير، أذهب إليه:

-ماذا تفعل؟ لماذا لاتنام؟.

يحاول أن يلم صور الأشعة والتقارير المنثورة أمامه...

آخذها منه، أنظر إليها:

-هذه هي تحاليل اليوم والصور الطبقية، لماذا قلت إنك لم تأت بها؟.

آخذ التقارير أقرأ، أعيد القراءة.

-لا. لايمكن... مستحيل.

ينهار قلبي، تتخاذل ركبتاي... أسقط إلى جانبه، يحتضنني.

-غداً نذهب إلى دمشق، الأطباء هناك أفضل.

أسمع كلماته تأتي كرجع صدى بعيد... كأنه يتحدث عن أمر غريب مضى، كأن الصوت ليس له، ولست أنا التي تصغي، لا، لايمكن أن يحدث هذا لي، لست أنا من تصاب بهذا المرض منذ ستة أشهر وأنا أجري التحاليل، مؤكد أن في الأمر خطأ، إن كان هناك شيء كان يجب أن تظهر بوادره لاشيء يخلق من العدم، ربما اختلطت صوري مع صور شخص آخر ربما تداخلت الأسماء.

غمرني الهدوء فمسحت دموعي... ثم اجتاحني الرعب، أحسست أنني أهوى من جرف عال، قبل أن أسقط ركضت إلى الصغيرات احتضنت الثلاث بيدي وبكيت.

ما أطول الطريق إلى العاصمة.

سيضحك الطبيب من تقارير الأشعة والتحاليل، يسخر من التشخيص ويقول لي:

-اغفري لأولئك السذج، الألم الذي سببوه لك.

وتتعلق عيناي بشفتي الطبيب الكبير، أنتظر التماعة الأمل، أترقب صوت العالم وهو يسخر من الأوهام.

تصل إلي كلماته:

-أنت إنسانة مثقفة متزنة، سأصارحك بالحقيقة.

خفق قلبي، أحسست طرقاته على جدران صدري، سمعت دمي وهو يدوي في أذني... أنا إنسانة ضعيفة... خائفة... مجروحة... خذلتني الحياة، فأية حقيقة أستطيع أن أتحملها؟ سيقول لي كم شهراً سيبقى لي في هذه الدنيا؟ كم مرة سأقبل صغيراتي؟ وكم مرة ينمن في حضني؟.

أدير وجهي:

-أرجوك لاتقل كل شيء.

أمتنع عن السماع، وأرى وجه "أحمد" يحمر، أرى عروق رقبته تنفر، وأرى الحزن قد سكن العينين.

قال الطبيب:

-سنجري لك العملية ثم نبدأ العلاج الكيميائي، استجابة المريض تعتمد على حالته النفسية، لا تدعي اليأس يتسلل إلى نفسك.

اليأس يطرق بابي، فيرده "أحمد" بعنف، أراه ساهراً إلى جانب سريري، أرى لهفته وهو يدور وراء الأطباء، يسألهم، يناولني الدواء، يحادثني، يبعد عني الشبح البغيض.

"أحمد" خيمة حب أظلتني فعرفت معنى أن يكون إلى جانبك إنسان تستند إلى كتفه وتبوح بشجنك فيقيك الانهيار.

وقلت لو أننا التقينا من زمن بعيد، وتساءلت هل يطول طريقنا معاً؟.

أمي وأبي وأخوتي يحيطون بي، وجوه ملهوفة وابتسامات مبللة بالدمع وتمنيات ويسألونني:

-نأتي بالصغيرات؟.

أقول:

-لا أريد أن يرينني في ضعفي.

وأسمع أصواتهن على الهاتف، ويقلن أنهن عاتبات لأنني أطلت الغياب.

شهر في العاصمة، وأعود إلى بيتي، يرتمين بين ذراعي، يلتصقن بي ويرفضن الابتعاد.

تقول: نور":

-في كل يوم كنا نصعد إلى بيتنا نناديك أنت وبابا ولكنكما لاتجيبان.

-تقول "ديمة":

-سننام معك ولم نسمح لك بالسفر ثانية).

احتلت الصغيرات غرفة نومنا، أصبح "أحمد" ينام في غرفتهن.

دخلت دهاليز الجسد.. في كل أسبوع يجب أن أذهب إلى العاصمة، كل خلية في جسدي معرضة للمساءلة عن المرض.. تحاليل ومستشفى وعيادات وجرعة وخزعة ودواء وحقن.

أتأمل وجوه رفاق الألم، تلتصق في ذاكرتي أحاديثهم، كل منا يسمع الآخرين قصص من تغلبوا على المرض وتابعوا الحياة، وأتساءل عن مصير الذين تغلب عليهم فيداخلني الخوف.

نعبر المدن مداخلها ومخارجها.. نمر بمقابرها، أرى شواهدها... الأشجار التي تحنو عليها... باقات الريحان الحزينة.

كانت المقبرة طللاً... مكاناً بعيداً في أعماق الذاكرة... أصبحت الآن حضوراً كان الموت شبحاً غامضاً يحوم على تخوم قصية، أصبح الآن ضيفاً متوقع الحضور.

كان الزمن نهراً دفاقاً يجري في سهول العمر الفسيحة، أصبح الآن جدولاً يترقرق قبل النضوب.

شجني أكثر من فرحي، غيابي أكثر من حضوري، مال ميزان أيامي فهل أستطيع الصمود؟.

أقول تعبت، تطلع من قلبي وجوه بناتي، فأمسح دمعي وأبتسم لعيونهن الجميلة الآملة.

أعود إلى بيتي، أسمع صوت "ديمة" تنشد:

يا إلهي امنح العصفور ريشا     وهب الينبوع ماء

ألبس الحملان صوفا     وقها برد الشتاء

وأقول: ياإلهي امنحني العمر لينبت ريش صغاري.

وقعت في دوامة الزمن، يسابقني، يلتفت إلي، يستحثني وأنا أركض وراءه لاهثة متعبة.

أركض إلى الطبيب والمستشفى والدواء...

يسألني الطبيب وهو يأخذ خزعة من عظمي:

-تتألمين كثيراً؟.

أغيب دموعي وأقول:

-أتحمل ألم الدنيا مقابل أن أبقى مع أطفالي.

وأراهن صبايا يضج في وجوههن دم الشباب، وأراهن يدرجن في دروب الحياة مرفوعات الرأس واثقات... وأنظر إليهن فأراهن مازلن صغيرات.

يتسارع خفق قلبي، وأحس بالتعب، وأطلب من "أحمد" كوب ماء.

أمسك حبة الدواء لأتناولها، تأتي إلي "نور" تنتزع الحبة من يدي:

-أنت لست مريضة فلماذا تشربين الدواء؟.

تلتقي عيني بعيني "أحمد"، يبتسم ابتسامته الهادئة المحبة.

أسأله:

-نتغلب على المرض بمصارعته أم بنفيه؟.

يقول:

-نصارعه معاً ثم الأمر له.

وأشار إلى السماء.

يهطل المطر... تدوي الريح، في الداخل ينبعث الدفء فأقول:

"-عائلة سعيدة نحن، فلماذا الفراق؟."

تسألني "ديمة":

-ألن تحضري حفلة الحضانة غداً؟.

أقول:

-لاأستطيع.

ترتجف شفتها، ترمقني بنظرة عتب وتقول:

-كل الأمهات سيأتين.

أستلقي في سريري، أحس بهذا القاتل يسرح في داخلي... يبث سمومه في خلاياي.. يلتهب جبيني، أشعر بالبرودة تجتاحني.

"هدأت الأصوات.. غمر السكون كل شيء.. رأيته قادماً من الضباب متشحاً بثياب بيضاء، قامة طويلة ناحلة ووجه شمعي ونظرة ثاقبة.

أغمضت عيني لكن نظراته اخترقتني...

ندف ثلج أبيض غزير غطى الكون.. وقفنا متقابلين وكنت أرتجف من الحزن، حدق بنظراته الجليدية.

من أعماق رعبي سألته:

-ماذا تريد؟.

في داخلي برق الجواب..".

استيقظت وأنا أنتفض في الفراش، رعب كان يشلني يعجز ذهني عن التفكير، هذه هي الإشارة وانفجرت بالبكاء.

بناتي غصة قلبي... يستيقظن ذات يوم فلا يجدنني، يبحثن عني في كل مكان، ينتظرنني كل مساء، تنكسر القلوب الصغيرة وتبقى أبداً حزينة.

وأرى نظرات الأسى في العيون، وأرى الخوف من الليل والبرد والناس.

من يطمعهن؟ من يحنو عليهن؟ من يسهر عليهن إذا مرضن.. من يقص حكايات المساء؟

قد تأتي امرأة أخرى، ألمح نظراتها القاسية... وأرى في عيونهن دموعاً وتوسلاً، ولكنهن يخرجن من البيت، يتفرقن في بيوت الأهل... يتشردن خائفات...

لا.. هذا المصير ليس لبناتي.

نهضت من السرير، ذهبت إلى "أحمد" أيقظته.

نظر إلي ملهوفاً:

-مابك؟

-أقسم بالله.

سألني مندهشاً:

-علام أقسم؟

قلت وأنا أنظر في عينيه، وأؤكد على كل كلمة أقولها:

-ألا تفرط بالصغيرات وألا يخرجن من البيت أبداً.

نظر إلي متألماً:

-ماذا تقولين؟.

-جاءتني الإشارة، لم يبق لي إلا القليل.

احتواني بين ذراعيه وبكيت كثيراً...

قال لي:

-هي مخاوفك تتجسد كوابيس.

قلت:

-الذين يرحلون يحسون.

رأيت ابتسامة حزينة على وجهه.

وقال:

-ماذا تقولين في الذين غادرونا دون أن يعلموا أو يعلمونا؟ قد أسبقك، قد تسبقينني، قد يسبقنا صغارنا.

سكت لحظة ثم قال:

-الطبيب متفائل بقدرتك على المقاومة، أرجوك تماسكي ودعينا نعش دون أن نفكر بما سيكون يكفينا أننا معاً.

يطلع الصباح، انهض من سريري، أتملى وجه "أحمد" ووجوه الصغيرات، أحدق إلى أبي وأمي..

أذهب إلى العمل... أرى الحقول والشمس وأشجار الحور والزهر، أتنشق من الهواء ملء رئتي. رائحة الأرض... أسلم وجهي للنسمات التي نضرها المطر...

أستحضر الوجوه والأصوات والروائح... أتساءل ما الذي يبقى من الحب والذكريات، الأفراح والأحزان، الآمال والخيبات، أنصحبها معنا زاداً لرحلة الصقيع؟.

"وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه"... وكل متوحد في حفرته.. تهجره الشمس والقمر، تغادره الضحكات والأمنيات، ماذا يبقى للإنسان؟ وما الذي يبقى من الإنسان؟.

ينتصف الدوام... أستأذن المدير بالخروج... أذهب إلى السوق أشتري شريط الاسفنج، أعرج على الحضانة.

موسيقا.. أغان... رقص وضحك... وجوه موردة وجوائز توزع.

في عيني تتألق "ديمة" و"نور" أحلى زهرتين.

نخرج من الحقل... تقولان لي:

-لن نذهب إلى البيت، سنتمشى على شاطئ البحر.

أقول:

-الطقس بارد.

تقولان:

-بل دافئ وجميل.

أسير معهما على الشاطئ.. تمسكان يدي... تتدفقان حديثاً وصخباً...

تقصان علي أحداث اليوم وحكايات الرفاق.

تفلتان يدي... تركضان، تتسلقان السور الحجري... أتوقف معهما، نتأمل الزوارق الراسية في الميناء، أمد بصري إلى النوارس محلقة على سطح الماء تطلق أصواتها العالية.

تصفق الصغيرتان وتقلدانها ثم تنفجران ضاحكتين:

-يا الله يا ماما ماأحلى البحر.

وأقول "يا الله ما أحلى الحياة".

نعود إلى البيت، يأتي "أحمد"، نجلس للغداء، تقص عليه الصغيرتان قصة النزهة، ينظر إلي نظرة تشجيع وإعجاب.

تتأملني "لين" وتقول لي:

-لقد أصبحت قوية ياماما، إذن ضعيني في حجرك.

تتسلق إلي فأضمها إلى قلبي وأرنو إلى عينيها الحلوتين.

أستلقي... أنهض... أدور في البيت أبحث عما ينقصه، كل شيء يجب أن يكون في مكانه، لا أريد أن أشعر أحداً بأنني مريضة.

يأتي المساء... ألصق شريط الاسفنج على حواف باب الشرفة، تقفز بناتي إلى أسرتهن ضاحكات، يناديني "أحمد" لأتابع فيلم التلفزيون، لكن "ديمة" تقول لي:

-اقرئي لنا قصة "الأميرة الصغيرة وأخوتها الطيور".

يصغين مشوقات، يتبسمن للنهاية السعيدة ثم يستسلمن للنوم.

أغمض عيني.. يضيق نفسي... يلتهب جبيني... أنتفض، تأتيني البرودة فأستكين.

أراه قادماً من الضباب متشحاً بالبياض، قامة نحيلة، وجه شمعي ونظرة ثاقبة.

وهن مني الجسد... سكنت الأعضاء.. ندف ثلج أبيض غزير غطى الكون....

جاءني صوته القاسي:

-هل تهيأت؟.

شعرت بقلبي ينهار وبركبتي تتخاذلان.

لكنني رغم الرعب صرخت:

-مازالت بناتي صغيرات.

ببطء راح يتقدم مني، تلفت حولي... في البعيد لاحت لي أرض مشمسة.

البرد يقتلني والرعب يكاد يشكلني، ولكن الرغبة الحارقة تعصف بي:

"اركضي، افلتي من مغناطيسية عينيه الجليديتين".

ركضت فتراءت لي الصغيرات في وهج الشمس، يلعبن ضاحكات، خفق قلبي فرحاً.

ركضت كثيراً، كدت أسقط، توقفت لألتقط أنفاسي، فجأة رأيته أمامي، نظر إلي بعينيه الثاقبتين، مد يده إلي فشع منها برد قارس سمرني.

صرخت:

-بناتي.

ردد السهل صدى صرختي.

فتحت عيني، كانت بناتي يطوقنني بأذرعتهن، وكنت أحس قلوبهن الصغيرة تخفق على صدري وأصواتهن تناديني.

شع الضوء في الغرفة، رأيت "أحمد" يقترب مني.

تأملت الوجوه طويلاً...

مددت يدي لأضمها إلي لكن يدي بقيتا إلى جانبي.

كانت بناتي يحتضنني وينادينني... وكنت أمضي إلى بلاد الصقيع.

 

أضيفت في 24/04/2005/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية