أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: إبراهيم خريط

       
       
       
       
       

 

حكايات ساخرة

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد في مدينة دير الزور 1943

إجازة في الفلسفة- جامعة دمشق.

يعمل في التدريس في ثانويات دير الزور.

نشر قصصه الأولى في الصحف والمجلات السورية.

عضو جمعية القصة والرواية.

مؤلفاته:

1-القافلة والصحراء- قصص- 1989.

2-الحصار- قصص- 1994.

3-قصص ريفية- قصص- 1994.

4-الاغتيال - اتحاد الكتاب العرب - 1997

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

القيد

المقبرة

الصفقة

الدوامة 

حفلة تنكرية

التمثال

مشروع رجل

النفق

 

 

الدوامه

 

عندما دخلت قاعة الدرس كان العرق يتصبب مني،يسيل على وجهي ،ينحدر الى عنقي..وينساب الى ظهري.

لم يكن الجو حارا ولا دافئا،بل كان شديد البرودة فقد تحولت غدران الماء في الطريق الى طبقات من الثلج والصقيع.

وقفت لحظة التقط انفاسي اللاهثة.

نظرت الى ساعتي..لم اتاخر سوى دقيقة أو دقيقتين.ما كان بوسعي أن أصل قبل ذلك.الفرصة عشرون دقيقة والطريق طويل والطلبات كثيرة.

أنا أحسب الزمن بالدقائق والثواني ،أتقن العمليات الحسابية الأربع..أجمع،أضرب،أطرح،أقسم..أضع خططا يومية واسبوعية وشهرية،ومع هذا يضيع الزمن سدى.أمور كثيرة لم تنجز ، العمر يفر في غفلة مني ، وحساب.الورق لا ينطبق على حساب الواقع،فأدرك انني اركض وراء وهم واسعى وراء سراب.

مع خيوط الضوء الأولى اشتري الخبز،ثم اتناول فطوري على عجل،وقبل أن أذهب الى المدرسة آخذ الصغير الى الحضانة.

في الفرصة الأولى أنطلق بدارجتي لشراء الخضار بينما يلتف زملائي حول المدفأة في غرفة المدرسين يشربون الشاي الساخن ويدخنون.

أصل الى السوق،أرجو البائع أن يسرع..يرمقني بنظرة استخفاف ويتابع حديثه مع زبون تبدو عليه امارات النعمة والثراء..أنظر الى الساعة،أحاول أن أجعله يفهم أن وقتي قصير،يلبي طلبي بتثاقل،أحمل حاجتي الى البيت،أعود الى المدرسة..الطلاب يدخلون الصفوف..لاوقت لتناول كأس من الشاي فالمدير ينظر الى ساعته نظرة أفهم معناها.

في الفرصة الثانية أنطلق الى المؤسسة أو الى الجمعية احمل في جيبي بطاقات التموين ودفتر اشتراك في جمعية المعلمين،ولكن ما الفائدة وقداصطف المواطنون في صفوف طويلة تذكرني بصفوف التلاميذ في المدرسة؟

أبحث عن مؤسسة أخرى اقل ازدحاما وانا أنظر بين لحظة وأخرى الى الساعة..أشعر بفرح بفرح عظيم عندما لاأرى أمام احدى المؤسسات سوى شخصين أو ثلاثة..أسأل..يرد البائع:مؤسستنا لاتبيع المواد المقننة هذا اليوم.أسأل بلهفة:أية مؤسسة إذاً؟ يصلني الرد قريبا مثيرا مضحكا مبكيا:السكر في الجورة والرز في المجمع،والشاي في الصناعة أو العمال والزيت...

أقول له:كفى،لاوقت لدي اليوم،ربما غدا أو بعد غد.

المسافة طويلة ودراجتي تئن..جف الزيت في مفاصلها ومسحت اظافر اطاراتها..أتذكر أنني يجب أن ألحظ ذلك في موازنة الشهر القادم.

اذا ،علي أن أستغني عن شراء حذاء جديد بدلا من حذائي المهترئ.

أنظر الى الساعة..الدقائق العشرون تكاد تنقضي.أسرع بالعودة الى المدرسة،أصل متأخرا..مرة أخرى لاوقت لشرب الشاي.

أعود الى البيت ظهرا،التهم طعامي بسرعة،أقرأ ورقة وضعتها زوجتي على الطاولة قبل أن تذهب الى عملها:فول،توابل،منظفات..

أنطلق بدراجتي مرة أخرى،ثم أعود حاملا بعض الأكياس قبل أن يبدأ دوامي المسائي..درسان في مدرسة خاصة وثالث في بيت أحد الموسرين..ورابع أحياناً..أعود مساء،ألتقي بزوجتي وأطفالي..غرباء نحن،نعم غرباء،لانرى بعضنا في ضوء النهار..نركض،نجرى،نعدو..نصوم ونصوم وياليتنا نحصل على الثوم..الثوم صار سعره خياليا هذا العام..الثوم  وحده..

أبدا.مساء،أحاول أن أصلح حذائي المهترئ أنظر أرى أمامي عدة أحذية للزوجة والأولاد.

يفاجئني أحد أطفالي:

-الكتاب بحاجة الى غلاف.

أقول له:حسنا..هيئ المخرز والمسامير.

يسألني الكبير عن معنى بيت من الشعر لشاعر لم أسمع به ابدا،والأوسط يريد أن أساعده في حل مسألة،أقرأ..اشترت سيدة دجاجة ثمنها تسع ليرات وطبق بيض ثمنه عشر ليرات وصفيحة من السمن الحيواني ثمنها عشرون ليرةو...أرمي الكتاب جانبا..أضحك،أرى على وجه الفتى علامة دهشة وذهول.أقول له:هذه المسألة غير معقولة،كلها أغلاط،مستحيلة..بلغ معلمك ذلك.

يدق أحد الجيران بابي..متعلم،مثقف،شهاداته تملأ الجدران..يسألني بلطف وأدب:

-يا جار..ألا تساعدني في تركيب اسطوانة الغاز؟أبتسم،يلح في ذهني سؤال:ماذا علمتك المدارس ياجار؟أكتم دهشتي واقول:حسنا.هات المفتاح ياولد.تقول زوجتي وكأنها تذكرت أمرا:جارتنا قالت منذ زمان ان سشوار ابنتها معطل.

أقول لها:لابأس،ارسلي من يأتي به.

أقضي وقتا طويلا في اصلاحه.

في الحقيقة،أنا أحب الأعمال اليدوية والفنية.تسحرني،لاأعرف كيف يمضي الوقت سريعا عندما اتعامل معها.

تتناهى الى مسامعي تحية العلم..أقول محدثا نفسي:هاقد انتهت برامج التلفزيون وانت لم تنته بعد.ماذا وراء ذلك كله؟!الوجبة الشهية صارت حلما.الفاكهة لم تدخل بيتك منذ زمن طويل..اللحم..البيض..أطباق لانعرفها إلا في المناسبات..

أتذكر أنني لم احضّر دروس اليوم التالي ،أتناول الكتاب والقلم والدفتر..أقرأ..أكتب..يضيق صدري ويعصر الألم قلبي اذ أدرك أن أمورا كثيرة ما زالت معلقة.

وفي الصباح أستيقظ منقبض النفس أشعر بالغثيان.ألتهم طعامي بسرعة ،بضع لقيمات لاتشبع طفلا،أفحص عجلات الدراجة،أتأكد من وجود البطاقات التموينية في جيبي،أتلمس نقودي القليلة،أعصرها بيدي،أخرج الى الشارع،أقفز فوق دراجتي،أحمل الصغير الى الحضانة،تتقاذفني المدرسة والجمعية والمؤسسة مثل كرة ،وأدور في هذه الدوامة من جديد.

 

 

 

الصفقة

 

عندما هل العريس المنتظر وأطل برأسه الكروي من فتحة الباب،اكفهرت الوجوه التي كانت مشرقة قبل قليل...

ساد الوجوم،انقطع اللغو،انطفأت الابتسامات،ماتت الكلمات وخيّم الصمت.

قفزت الى ذاكرة الشاب،شقيق العروس،حكمة صينية قرأها مرة في كتاب(طائر يحط من الجو فتكف جميع الطيور عن الشدو).وابتسم عندما تذكر العبارة الثانية التي وردت في ذات الكتاب وتساءل:هل سيردد كما ردد بطل الحكاية(شدوا اليكم الحمار،شدوا اليكم الحمار.)

كان العريس الذى تجاوز الخمسين،بدينا أسمر البشرة،يميل الى السواد،عيناه ثقبان صغيران،في وجهه ندوب وبثور،وقد غاص رأسه بين كتفين مكتنزين كأنما ليس له رقبة.

أحبطت العروس وأصيبت بصدمة ،تساءلت وقد تهاوت أحلامها دفعة واحدة:هل هذا هو شريك العمر؟!هل هذا فارس الأحلام الذى طالما تخيلته شابا رشيقا وسيما،يأتي اليها كبطل أسطورى؟كإله من آلهة اليونان يحملها على حصان أبيض وينطلق بها الى عالم من السحر والجمال؟!كيف تستطيع أن تعيش معه وهي الصبية الفاتنة مثل وردة متفتحة في ربيع العمر؟!

قالت في نفسها وهي تشعر بالاختناق:أموت قبل أن يجمعني واياه بيت واحد.

همس الشاب بصوت مرتجف:غراب ، غراب أسود ليس الا.وحش في صورة انسان،مستحاثة من مخلفات العصر الحجري..الحلقة المفقودة في سلسلة التطور.

أما والد الفتاة وأمها فقد وقفا مذهولين أمام هذا المخلوق البشري الغريب.

أيقظهم صوت المرأة التي كانت ترافقه:

-ما بكم ياجماعة.ألا تدعونا للجلوس؟!

ردوا دونما رغبة:نعم،نعم،تفضلا.

مرت دقيقة صمت،ثقيلة،مملة،قاتلة،ولم يفلح أحد من الحاضرين في أن يرسم على وجهه ابتسامة أو أن يبدى شيئاً من البشاشة.

فحصت المرأة المرافقة محتويات الغرفة..أثاث قديم باهت اللون،مقاعد بالية،ستائر رخيصة،ثقوب وشقوق في الجدران،بساطة متواضعة تنم عن مدى العوز والحاجة الذي تعاني منه هذه الأسرة،وهذا شجعها وهي التي لاتنقصها الشجاعة في مثل هذه المواقف على أن تقول دون مقدمات:

-من أين نبدأ الكلام.السعادة تدق بابكم،لاحلم ولا منام..الرجل أمامكم،والرجل لايعيبه الا جيبه وجيبه والله عمران..صحيح انه متزوج وله أولاد،ولكن مامن مشكلة،زوجته وأولاده في بلدهم،بينكم وبينهم قفار وبحور،ولديهم مايكفيهم ويزيد.أما عروسنا الحلوة..

واشارت بيدها الى الفتاة واستطردت:لها أن تختار تسكن هنا أو في مدينة أخرى..بيت باسمها ورصيد في البنك.والمهر..بأية عملة تريد .أما الحلي والجواهر فما عليها سوى أن تشير باصبعها.

تجشأ العريس..أثار الاشمئزاز في نفوسهم،وردد بصوت أجش:

-نعم ،نعم كما تقول أم محمود.

وأم محمود هذه،امرأة قاسية الملامح ، خشنة التقاطيع تعيش وحيدة بعد أن تزوجت ثلاثة رجال وقبرتهم جميعا دون أن تنجب.تمارس أعمالا عديدة،فهي تاجرة تبيع في بيتها ثيابا وأقمشة مهربة أو تطوف بها على البيوت،وهي ندّابة يدعوها الناس لتتولى قيادة حلقات المآتم والعزاء،حيث تنشد قصائد الرثاء والمديح،تثير أحزان النساء..

تبكيهن دون أن تنحدر من عينها دمعة واحدة .وهي خاطبة،يقصدها الراغبون في الزواج..الا ان نشاطها في السنولت الأخيرة قد تقلّص واقتصر على خدمة الغرباء القادمين من وراء الحدود.

نظرت الأم الى ابنتها بطرف عينها..غابت الفتاة ثم عادت تحمل القهوة..دارت بها.تناول العريس كأس الماء،شرب منه قليلا،دقّ بيده على صدره ثم تجشأ مرة ثانية،أثار نفورهم وقرفهم.أما أم محمود التي لم ترَ في سلوكه ما يسيء فقد التفتت اليه وقالت :صحة.

اعتدل في جلسته،أراد أن يضع رجلا فوق رجل..صرّت مفاصل المقعد الخشبي وكُسرت إحدى قوائمه فسقط على الأرض.هبوا واقفين..

ابتسم الشاب،تذكّر العبارة الثانية في الحكاية الصينية وهمس:شدّوا اليكم الحمار..

رفعوه عن الأرض..انتقل الى مقعد آخر.

قدّم الرجل للعريس لفافة تبغ.نظر اليها باستهجان واعتذر،تناول علبة تبغ أجنبي من جيبه،اخذ منها واحدة ورمى العلبة أمامهم،ثم قال مخاطبا الرجل:

-سمعت انك تبيع الخضار على عربة في سوق الهال.رد الرجل بخجل:

-نعم،نعم،هذا عمل،والعمل ليس فيه ما يعيب

.سكت لحظة ثم أضاف:ان دخلي الشهري يزيد عن دخل أى موظف بشهادة.

قال العريس:أنا لاأقصد..ولكن،ما رأيك بدكان كبير..سوبر ماركت.

شهق الرجل،التفت الى محدثه وسأل بدهشة:لي أنا؟كيف؟من أين؟‍

دق العريس على صدره.

قفز الرجل كطفل،رحب به بحرارة،وحدث نفسه:انه كريم وابن كرام،هذه صفات الرجل الأصيل..رجل يقدر الرجال ويحترم العائلة التي يصاهرها..أفضل من شباب هذا الجيل الذين يشبهون طبولا فارغة،لاتأخذ منهم الا الوعود ومعسول الكلام.

أضاف العريس وقد التفت الى الشاب:

-وأنت ..طالب،ثانوية عامة،أدبي..أليس كذلك.لقد حدثتني عنك أم محمود.ما رأيك أن تدرس الطب أو الهندسة.

نظر الشاب بدهشة وتساءل:

-كيف.هل هذا ممكن.

رد العريس:أرسلك الى أي بلد أجنبي تختاره،الدراسة هناك بالمال.لايسالون عن الفرع أو المجموع،المال يفعل كل شيء.وهدية النجاح سيارة.

فغر الشاب فمه.هل صحيح ما يسمع؟هل هو في حلم؟هل....؟!

دارت الصور في مخيلته..انتعشت الآمال،غمره فرح لم يعرفه من قبل.

نظر الى محدثه،تأمله ،تفحصه..همهم:هذا الرجل نبيل،والله نبيل،سيد بمعنى الكلمة..رجل والرجال في هذا الزمان قليلون.أرجو أن توافق شقيقتي على الزواج منه،أرجو أن لاترفض بل يجب أن لا ترفض .. سأقنعها ، سأضغط عليها.ما الذى يعيبه؟دميم؟جاهل ؟متخلف؟كبير في السن؟هذه أمور ثانوية.

التفت العريس الى والدة العروس التي كانت تنتظر نصيبها بلهفة:

-وأنت ياحماتي العزيزة..اعتبري نفسك عروسا واطلبي ما  تشائين.

شع الفرح من عينيها..تساءلت:هل صحيح اننا سنقبر الفقر الى الأبد؟ننسى أيام الجوع والفاقة والحرمان؟!ياللرجل الطيب المكتمل الوقور.سيعوضني عما قصّر عنه زوجي..هكذا يكون الرجال.

صمتوا جميعا،هاموا في خيالاتهم،العريس يسـتأثر بالشباب والجمال..تستهويه الفتيات الصغيرات،يتلذذ بامتلاكهن ..لايشبع أبدا.

الرجل يتصدر السوبر ماركت..

المرأة..يزين الذهب عنقها وصدرها ويديها حتى الكوعين. الشاب..يقود سيارته وسط نظرات الاعجاب والحسد.وأم محمود باتت عمولتها في متناول اليد.أما الفتاة فهي أميرة من اميرات الشرق.

تبدلت معالم الوجوه..تغيرت النفوس..

نظرت العروس الى الرجل،فحصته بعين غير التي رأته منذ قليل..حدثت نفسها:لابأس به..شكله مقبول لاعيب فيه لولا سنه وسمرته الشديدة وزرقة شفتيه وبثور وجهه وقصر رقبته و..ولكن كما تقول أم محمود الرجل لايعيبه الا جيبه.

أجزموا أنهم تسرعوا في الحكم عليه أول مرة أو هكذا أرادوا أن يقنعوا أنفسهم.غابت عن أذهانهم المآسي التي  حلت بفتيات تزوجن مثلها أو هم غيبوها .. الوحدة ، السأم،الحصار، الذل والهوان، العبودية، زيف الوعود وفساد الأخلاق.

ارتسمت في أذهانهم صورة أخرى..ما زال شابا قويا،سمرته عادية مألوفة،عيناه جميلتان،كعيني طائر جارح،والندوب تضفي على وجهه مسحة من الهيبة والوقار.قالت أم محمود وقد أدركت أنهم فقدوا كل مقاومة:هل نقرأ الفاتحة.

رفعوا أيديهم الى الأعلى..

وتمت الصفقة.

 

 

المقبرة

 

في اليوم الثالث ظهرا انفض مجلس العزاء..

قوضت الخيمة الكبيرة التي كانت تحتل مساحة واسعة من الشارع..تفرق المعزون والمقرئون والمرتزقون ، بعد أن شربوا آخرفنجان قهوة مرّة،ودخنوا آخر لفافة تبغ.ولما لم يبق إلا نفر قليل من الأقارب والأصدقاء حملتنا بضع سيارات صغيرة وانطلقت بنا نحو المقبرة.

كان الطريق يتلوى صعودا نحو الجبل..هكذا كنا نسمي ذلك المرتفع الذى يحاصر المدينة من جهة الجنوب.وعلى جانبيه تلال من الركام والبقايا والأقذار،تمتد وتتطاول وتتناثر فتصادر مساحات منه حتى يكاد أن ينغلق. شعرت بالضيق والغيظ..استعرت نار في صدري وقلت في نفسي مستنكرا:كيف يجعلون من الطريق مزبلة . هذا الدرب الذي سوف نمشيه يوماً مرة أخيرة لا رجعة بعدها.أليس للمقبرة حرمه؟!أليس للموتى كرامة؟!استدركت بشيء من السخرية المرة:ماذا أقول أنا!وهل للأحياء حرمة أو كرامة!.توقفت السيارات في المقبرة ،وقفنا بخشوع،لم ينبس أحدنا بكلمة،كان الصمت سيد الموقف.أكاليل الورد بدأت بالزبول الا أن أحداً لم يعبث بها.قلت في سري:مازال للموت رهبته وللقبور قداستها،أو لعل الخوف من هذا المصير الذى لامفر منه هو الذي قيد أيدي العابثين والمتطفلين،اذ أن  المرء عندما يقف هنا  ويرى شواهد جديدة تغرس كل يوم ، في هذا الامتداد اللامتناهي يصبح شخصا آخر..يتبدل كليا..يشعر بالرهبة والخشوع،يترفع عن الدنايا ويسمو الى عالم تتجلى فيه الانسانية في أنقى صورها.

هممنا بالعودة بعد أن قرأنا الفاتحة..هدرت محركات السيارات وتحرك بعضها على عجل.

فاجأني صوت ضعيف خافت:

-هيه..أنت،انتظر..

شدني الصوت،تلفت يمينا ويسارا،نظرت ورائي،سمعت دقات قلبي،سرت رعشة في بدني..تساءلت:ماذا أصابني هل أنا أتوهم ؟!

كرر مرة أخرى:أنت ابق قليلا..أريدك.

تلكأت في المسير،تعثرت خطواتي..

نادى على صاحب السيارة التي أقلتني:ما بك؟ماذا تنتظر؟

قلت وأنا أحاول أن أخفي دهشتي واضطرابي:لاشيء،أنا آت.

جاءني الصوت مرة أخرى:هيه..أنت أيها الرجل،نعم أنت ..ألا تسمعني؟!قلت لك انتظر.

كان الصوت ينسرب من أسفل القبر الذى وقفنا عنده قبل قليل.

وهنت قواي،تسمرت قدماي في الأرض.التفت الى الوراء،رماني رفيقي صاحب السيارة بنظرة دهشة واستنكار وقال لائما معاتبا عندما وصلت اليه:

-لم نبق إلا نحن ،أنا وأنت ،ما بك.

تهاويت بجانبه فكرر سؤاله:مابك؟وجهك شاحب،وأطرافك ترتجف.؟لم هذا كله؟الموت علينا حق ،والميت كما اعلم ليس من ذويك ولا هو من أصدقائك المقربين.

ما كان عليك أن تنهار هكذا.

صمت لحظة ثم أضاف مستغربا:

-عيناك ذاهلتان دامعتان..هل بكيت؟

قلت وأنا أحاول أن أبرر موقفي:كلٌ يبكي على موتاه.

رد قائلا:هذا صحيح،ولكني ما عهدتك هكذا.

ظل الصوت يلاحقني.صداه يتردد في أذني، راجياً، معاتباً راجياً : لماذا انصرفت تنتظر وتسمعني.لماذا...لماذا..؟

انتبهت الى نفسي وأنا أقول بلهجة  من يريد  الاعتذار:  سأعود، سأعود.

ظن صاحبي اني أتحدث اليه فالتفت الي وقال مستفسرا:الى أين..الى المكتب أم الى البيت؟ أيقظني سؤاله من ذهولي  فقلت دونما تفكير:لاأدري.ثم أضفت:خذني الى البيت.

ساعات بعد الظهيرة كانت ثقيلة مرهقة.أحاول أن أبعد عن خيالي ما حسبته وهما فلا أفلح.الصوت يتردد في مسامعي وصداه يثير الرعشة في بدني وأنا بين واثق وحالم.قلت

محاولا أن أبدد سحابة سوداء في خيالي : هذا وهم أنا أتوهم . لقد هزني الموقف الى درجة كبيرة سدت علي مسالك التفكير فخلطت بين الوهم والحقيقة.

ضحكت ضحكة ساخرة..لم أقتنع بما قلت فأضفت:ما الفرق بين الوهم والحقيقة..ما الفاصل بينهما؟خيط رفيع،رفيع جدا.لقد التبست علينا الأمور وتداخلت المعايير،فلماذا لايكون ما سمعته حقيقة؟!لماذا يكون وهما وفي كل يوم،بل في كل ساعة يطلعون علينا بحقائق جديدة وأوهام جديدة حتى تهنا وتاهت بصائرنا..

قبل الغروب عقدت العزم واتجهت صوب المقبرة..ابتعدت عن البيوت وسلكت الطريق نحو الجبل.شعرت برعدة في أوصالي..ترددت الاانني لم أتراجع.وصلت القبر الذي وقفت عنده منذ ساعات..درت حوله..تأملته،حجارة جف طينها تكللها باقات ورد ذابل،وعلى مد البصر تناثرت آلاف القبور الكبيرة والصغيرة بغير انتظام..

ثمة بقاع أخرى خالية تنتظر أصحابها من بين الأحياء.

ساورني شك بما سمعته هنا،قبيل الظهيرة، فهدأت نفسي وشعرت بشيء من الارتياح.

نظرت حولي..

كانت الشمس قد بدأت تتكئ على الطرف الغربي للمقبرة ، حمراء كبيرة، والظلال الرمادية تمتد شرقا، تتطاول، تحاصر مساحات الضؤ الصغيرة المتبقية ثم تغطيها تماما.

ساد المكان سكون موحش تخللته أصوات طيور مهاجرة، وقبل أن أسلك طريق العودة فاجأني الصوت:

- ها..لقد جئت.كنت أعرف أنك ستأتي.

 سرت قشعريرة في بدني.. انتفض قلبي بقوة .. ارتعبت .. التفت .. لم أر أحدا.

جاءني  الصوت من القبر ذاته..رزينا هادئا وقد غلبت عليه رنة حب وحزن:لاتخف..أريد أن أسألك.. قاطعته متظاهراً بالجرأة والشجاعة : أنا لست خائفا ولكنني مندهش .. أنا لا أصدق . رد قائلاً : لاتصدق أنا لا ألومك .

قلت:ماذا تريد أن تسأل؟

سكت لحظة ثم قال بصوت خفيض متهدج:رأيت في عينيك دموعا حقيقية، نعم حقيقية،كنت تبكي بحرقة ، كنت حزيناً جداً .لاتقل انك بكيت علي. معرفتنا قصيرة ومحدودة،لاتدعو إلى هذا القدر من التأثر والانفعال على من كنت تبكي؟

قلت:عليك وعلى غيرك ممن غيبهم الموت وصاروا تحت التراب .. على الاخوة..على الأصدقاء الذين فارقونا ..علىالأبناء الذين اختطفهم الردى وهم في زهو الشباب..  

ضحك ضحكة ساخرة حزينة ثم قال:

- أنت لاتبكي عليهم..أنت تبكي على الأحياء، نعم أنت تبكي على الأحياء. نحن هنا في مأمن، لاخوف علينا، الخوف والبكاء عليكم أنتم،يامن تدعون أنكم أحياء.بالله عليك قل لي:هل أنتم أحياء حقا؟! انظر اليكم ،أتأمل مساحات الحزن واليأس والخوف على وجوهكم.أنتم تموتون كل يوم،كل ساعة،منذ الصباح حتى الصباح،لاتقل لسنا جميعا كذلك،أنا أعرف هذا فلكل قاعدة استثناء،ومن تعنيهم ليسوا منكم..انهم بشر من نوع آخر..انهم غرباء عنكم ،لا أنتم منهم ولا هم منكم.أنا أعنيكم أنتم..يامن مازالت عيونكم تذرف دموعا ساخنة صادقة على كل ما ضاع وسيضيع..أنتم تستحقون البكاء ،نحن هنا نستطيع أن نجتمع ونلوم ونعتب،نقول ما نريد،لانخشى شيئا ولا نخاف أحدا..لابغضاء ولا كراهية ولادسائس ولا مؤمرات..كلنا متساوون،ليس بيننا حاكم أو محكوم ولا ظالم أو مظلوم،فلا تحزن علينا بل احزن عليكم.

تهدج الصوت ثم خفت، كأنه آت من بئر عميقة..

كأنه الصدى يتردد في فضاء المقبرة هادئا رتيبا متقطعا:احزن عليكم أنتم..احزن عليكم..ثم سكت تماما.اختلجت جوارحي..عصفت بي مشاعر عنيفة..

تلفت حولي..بعد قليل يهبط الظلام ويعم الكون سكون موحش.

أسرعت بالعودة،وعندما انحدرت من المرتفع الجنوبي الذي كنا نسميه جبلا،ظهرت معالم المدينة التي ترقد عند السفح بصمت وهدوء.مسحت بناظري تلك الكتل من الحجارة الرمادية والنوافذ الصغيرة والأبواب الموصدة..خلف هذه الأبواب والنوافذ ترقد كتل بشرية،هياكل عظمية يكسوها جلد متغضن..أفواه فاغرة لم تعرف الشبع يوما..عيون غائرة،ألسنة خرساء،أحلام مصادرة،رغبات مكبوتة،كلمات لاتقال الا همسا..عبارات نتبادلها بالاشارة.

وعندما تغلغلت في الشوارع والأزقة المعتمة،وهبطت درجات القبو الرطب الذي يأويني خيل الي أن مقبرة أخرى قد بدأت تبتلعني.

 

 

 

القيد

 

أذكر فيما أذكره اليوم انني كنت تلميذا في المدرسة الابتدائية،كأي واحد من أبناء بلدتي الراقدة على ضفاف الفرات..أجر قدمي صباحا الى المدرسة على درب ترابي مثيرا ورائي سحابة من الغبار أيام الجفاف،أما في الشتاء عندما يتساقط المطر وتتحول الطرقات الى غدران ماء وطين،تغوص قدماي في الوحل ويتسرب الماء عبر ثقوب الحذاء ويبلل جواربي فأظل أرتجف من البرد وأنا على المقعد الخشبي.

وأذكر انني عدت يوما من المدرسة وقد أنهكني التعب والجوع،وجمّد البرد والصقيع أطرافي..دفعت الباب بيدي فسمعت صريرا كأنين المرضى،ثم دخلت.

نظرت حولي..بحثت عما يمكن أن يقضي على الرتابة في حياتنا ويبعث الأمل في نفوسنا..وجبة شهية،زائر يحمل هدية،مفاجأة..خبر..

لا جديد..

أمي تقبع في زاوية من زوايا الغرفة، تخيط بالابرة قطعا من القماش مختلفة الشكل واللون لتصنع منها غطاء نتدثر به في ليالي الشتاء.أخي يلعب في باحة المنزل، أما أختي الصغرى فهي تحاول أن تقلد والدتي التي كانت تنهرها كلما مدت يدها لتأخذ خيطا أو ابرة.

صورة ميتة هذه التي أراها أمامي ..قاتمة ..سوداء، كل شيء تنقصه الحركة..ينقصه اللون والبريق،ينقصه نبض الحياة.

رميت كتبي على مقعد قديم ونظرت الى نفسي في المرآة،انني صورة منهم..عيناي  غائرتان ذابلتان،شعري أشعث مغبر، وجهي شاحب،جسمي هزيل..لوني يميل الى الاصفرار.سألت:ماذا لدينا على الغداء؟

ودون أن ترفع أمي رأسها قالت: لا شيء.

انتابني ضيق شديد،شعرت بألم في بطني وكدت أن أتقيأ.

صرخت:لا شيء.كيف؟ انني أموت من الجوع.

ردت بغضب:لاتصرخ في وجهي.ماذا أفعل لك؟!

وقبل أن أغادر الغرفة جاءني صوتها:

-عندك الخبز والزيت والزعتر..

قلت بضيق:خبز! خبز.!لاشيء الا الخبز! يا أمي حرام،والله حرام..رفاقي في المدرسة يأكلون اللحم والبيض والفاكهة..وأنا..

قالت مستنكرة:كلهم..؟!

استدركت:لا..ولكن..

قالت بلهجة صارمة:اسكت اذا..لا تكفر بالنعمة،قد يأتي عليك يوم تركض وراء اللقمة فلا تجدها ،وتنظر الى القمر فتحسبه رغيفا أحمر..ثم..ما ذنبي أنا ؟!قل هذا الكلام لأبيك.

سألتها:أين أبي؟

أجابت دون اهتمام: لاأدري.

تساءلت: ترى . ألم يجد عملا بعد أن سرحّ من وظيفته لعجز صحي؟ ألم يدفعوا له التعويض الذي وعدوه به؟ لقد وعدنا بوجبة شهية وحلوى وهدايا وألبسة.أذكر أنه قال لأمي: البرد قارس يامرأة،والجوع كافر، والأولاد محرومون من كل شيء.ومنذ أن سمعنا ذلك ونحن نحلم باليوم الموعود، ونترقبه بفارغ الصبر.

هممت أن أسأل والدتي عندما دخلت جارتنا الأرملة وأسرعت تقول وقد ألقت بجسمها الثقيل إلى جوار أمي:

-مبروك..مبروك.

فتحت أذني وعيني وفمي،ووقفت مذهولا تتملكني حيرة وتتصارع في نفسي مشاعر شتى..فما الذي تعرفه الجارة ولا أعرفه أنا.

سألت بلهفة:ماذا جرى ياأمي؟

لم أسمع جوابا.

ابتسمت والدتي وقالت تخاطب جارتها:

-بارك الله بك،عسى أن يرزقك بابن الحلال.

قالت الجارة كمن تتمنع وهي راغبة:

-لا..أنت تعلمين اني لا أفكر بالزواج..المهم،دعينا من هذه السيرة وأرني اياها.

رفعت أمي كمي ثوبها فرأيت بريق الذهب الأصفر،كاصفرار وجوهنا..كلون الدم الذي يجري في عروقنا..رأيت سوارين من الذهب يحيطان بمعصمي أمي..استغربت،هل أصدق ما أرى..وكيف؟! يدفعني الفضول للمسهما وتأملهما عن كثب،ويصدني عنهما شعور بالقهر والحرمان يتأجج في صدري.

أدركت أن والدي قد قبض تعويضه فاشترى لأمي هاتين الحديدتين.

سألت الجارة مستفسرة:كيف..كيف استطعت أن تقنعيه..؟!

ردت والدتي:

-هي دين لي بذمته..لقد وعدني بهما منذ زمن طويل..عندما باع سواري القديمين وسدد بثمنها بعض الديون.

قالت الأرملة وعيناها معلقتان بالذهب:

-خيرا فعلت والا..

تلفتت حولها واستطردت بصوت منخفض:أنت تعرفين،الدهر خوان والرجال ليس لهم أمان.

كل هذا حدث أمامي..أرى وأسمع وكأنني لا أرى ولا أسمع .لا أدري..ربما اعتقدتا انني لا أفهم أو أن الأمر لا يعنيني ولن ينطبع في ذاكرتي ويترك بصماته على مسيرة حياتي.

التفتت الي والدتي تلومني بنظراتها ثم أشارت الى السوارين وقالت مثل طفلة تفرح بلعبة جديدة:

-يجدر بك أن تراهما منذ اللحظة الأولى .ان بريقهما يخطف البصر..أم انك لا تريد أن تبارك لأمك.

جمدت في مكاني عاجزا عن الكلام.

واستطردت أمي تقول مؤنبة:

-منذ زمان وأنا أقول انك تختلف عن بقية الأولاد..

لايعجبك العجب ولا الصيام في رجب.

ردت الجارة ،ولا أدري ان كانت تتهمني أو تدافع عني:لا عليك،ما هو الا ولد.

نظرت الى يدي أمي اللتين طوقتا بسوارين من ذهب.

صنعا على شكل ثعبانين..رأيتهما يكبران ويكبران...

يمتدان،يلتفان،يحيطان بأعناقنا ثم يضغطان..يضغطان بقوة..أكاد أختنق،لاأستطيع أن أتنفس..جسمي يرتعد..يداى ترتجفان،قلبي يدق بقوة،شفتاى ترتعشان،لساني يتلجلج في فمي ولا أستطيع الكلام.

ثم..

هدأت ثورتي وتصبب العرق مني باردا،بلل  جسمي وثيابي،فشعرت بالوهن والاعياء..لفتني غمامة قاتمة،سالت من عيني دمعتان ساخنتان،ثم لملمت أفكاري المشتتة..

قاومت ضعفي،استجمعت ما بقي عندي من قوة وقلت ببرود وقد أشحت بوجهي عنها:

-أجل يا أماه..مبروك.

ثم انطلقت أعدو..

وأذكر فيما أذكره اليوم انني سألت أمي بعد أيام وأنا أطيل النظر الى السوارين:

-ما جدوى أن يملك الانسان ذهبا،ومعدته فارغة من الطعام.

أجابت وهي تشير اليهما:هذان ذخيرة للمستقبل،أمان من غدر الزمان،نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة..للأيام،حلوها ومرّها..سوف ترى اني على حق فيما أقول وتتذكر كلماتي هذه،وتقول..أمي قالت.

لم أنطق بكلمة..لم أجد ردا مناسبا،فسكت ولم اقتنع.

مرت شهور واعوام..

تجرعنا المر وعانينا من الحرمان..

أيامنا الحلوة قليلة..لم تكن أياما،كانت لحظات عابرة.لاندري ان كنا نسرقها في غفلة من الزمان أو ان الدهر يتصدق بها علينا.

كبرنا وكبرت معنا الهموم والمآسي،وكلما قلت لأمي وأنا أشير الى السوارين:

-أليس هذا يومها.

كانت تقول:لا..قلت لك نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة.

نمنا على الطوى مرارا،تعرينا،صبرنا على البلاء وظلت أمي تردد عبارتها الشهيرة.

مات أبي ..لاأدرى كيف تدبرنا النفقات الا انني أذكر فيما أذكره اليوم اننا بعنا بعض الأثاث وتراكمت علينا ديون جديدة.أما السواران فقد كانا يلمعان في يدي أمي وهي تتقبل التعازى.

قلنا لأمي..أنا واخواتي وقد عصرتنا الأيام:

-نبيع السوارين ونستثمر ثمنهما..الحياة تتغير والناس يتطورون ونحن كما كنا .

هزت رأسها وقالت بأسى وهي ترمقني بنظرة زاجرة : أنت أنت،لم تتغير.

بعد أيام فوجئنا بعساكر وموظفين يحملون سجلات ودفاتر، يدقون بابنا بعنف..وكان بينهم ذلك الرجل البغيض الذى وفد الى قريتنا منذ أعوام وامتلك أرضا فيها وبلغونا قرارا بالحجز،اذ ادعى انه دفع ثمنها لأبي،وان لديه سندات بذلك،طلبوا منا أن نوقع..رفضنا،فلصقوا صورة القرار على بابنا،واتهمونا بالممانعةو..وأنذرونا أن نمتثل للأمر،وان كان لنا حق فما علينا الا أن نطرق أبواب المحاكم.

كان  علينا أن نفعل شيئا فقلنا لأمي وكنا نعتقد أنها قد صحت بعد غفلة،واستيقظت بعد غفوة:

-أما حان يومها؟

رمتنا بنظرة استنكار وقالت بغضب:

-لا..قلت لكم هذه للأيام..حلوها ومرها.

سألت بصوت منكسر والألم يعصر قلبي:وهل أكثر مرارة يا امي....؟

اختنقت ولم أكمل كلامي.

حاولنا إبطال الحجز أو ايقافه،ولكنا كمن يصرخ في قوم لا يسمعون..كل خطوة نخطوها تحتاج الى المال..المحامي، والدعوى،والشهود،فقلنا لها وقد تحلقنا حولها وعيوننا معلقة بالسوارين:

-أما حان يومها؟

رفعت الينا عينين تبرقان وقالت بحزم:لا.

ثم أضافت ساخرة:يارجال.

قلنا:الرجولة وحدها لاتكفي.

ردت:هل ترون ذلك؟

سكتنا ولم نعرف ماذا نقول.

مرضت والدتي ورقدت في الفراش،تحملت الألم...

قاومت..صبرت وكابرت..

قلنا لها:نبيع السوراين..هذا يومها.

ردت بصوت كأنه آت من بئر عميق:لا..ليس بعد.

وكررت وهي تختنق:قلت لكم نحتفظ بها لوقت عوز وحاجة.بعد أعوام ماتت والدتي،والموت مكلف كما هي الحياة،أصبنا بالذهول.وقعنا في حيرة..تساءلنا:ماذا نفعل وكيف نتصرف.؟!تبادلنا النظرات..كانت عيوننا تقول شيئا واحدا..

بعنا السوارين وتفرق ثمنها بين الكفن والمقرئ،وحفار القبور والمأتم ،والبائسين الذين اعتادوا العيش على الصدقات،والسيارات التي حملتها الى مثواها الأخير.

 

 

 

حفلة تنكرية

 

أخيرا..عزمت على السفر.

لما وجدت أن لابد مما ليس منه بد ،وان ذيول القضية تشعبت وتفرعت،وتعدد الذين يمسكون بأطرافها،حتى باتت تحتاج الى مراجعات ومقابلات واتصالات مع معارف ووسطاء وموظفين كبار وصغار،وأختام وتواقيع،وانتظار هذا والوقوف بباب ذاك ،والرجاء والشكوى وشرح الحال وبذل المال.

أما لماذا لم اقرر الا أخيرا،فهذا أمر يتعلق بطبعي،اذ صرت أكره السفر الى المدن الكبيرة..الحياة فيها ميدان سباق،الناس يتحركون كخلية نحل..ازدحام في الشوارع والساحات والمحلات والدوائر والفنادق.واني لأعجب كيف لايصطدم البشر بعضهم ببعض في هذا الزحام الذى يختلط فيه الكبير والصغير والمرأة والرجل والموظف والعامل والبائع والمشتري..فتتدافع الأكتاف والصدور والظهور،وتتشابك الأذرع والسيقان.

عندما وصلت أخذت حقيبتي الصغيرة وقصدت فندقا متواضعا أقضي فيه ليلتي،لعلي أستيقظ في الصباح نشيطا فأنجز ما جئت من أجله.

لم أشعر بالنعاس..حاولت دون جدوى..في رأسي صور وأفكار عديدة..تقض مضجعي،تهوي على ذاكرتي مثل مطارق ثقيلة فتطرد النوم من عيني.

قلت في سري:لأخرج الى المدينة..أمشي قليلا،لعل ذلك يروح عني فتهدأ نفسي ويقارب النعاس أجفاني.

تذكرت كيف قضيت في هذه المدينة الكبيرة سنوات عدة،للدراسة في جامعتها..كانت الأيام غير هذه الأيام.كان للمدينة جمال ساحر ورائحة مميزة..وكم كنا نسير في طرقاتها ليلا،بعد تعب الدرس والقراءة..

نشرب الماء البارد من مناهلها المنتشرة في الحارات ونشم  رائحة الياسمين والفل ، نقطف باقة صغيرة نزين بهاغرفتنا المتواضعة.

ومصادفة..التقيته..

صديق قديم،لم أره منذ سنوات..هو غريب مثلي،استهوته المدينة فاستقر فيها بعد أن وجد وظيفة مناسبة.وبعد سلام وعناق وسؤال قال:

-لن أتركك الليلة،أنت ضيفي،وأنا وحيد مثلك،سافرت زوجتي الى البلد..مارأيك أن نقضي السهرة في مكان عام ونستعيد أيام زمان.

أردت أن أعتذر..

قال:يارجل..فرصة مثل هذه قلما تأتي.

قلت:عندي عمل كثير ،يجب أن أنجزه غدا.

قال :لاتخف..مازال حتى الغد وقت طويل،هيا بنا.

سألته:الى أين؟

رد قائلا:اختر أنت.

-أنا ...؟

واستطردت ضاحكا:أنا لاأعرف كثيرا في هذه المدينة فقد تغيرت تماما.

-هذا صحيح..لقد تغيرت ..كل ما فيها تغير البشر والحجر،فكما يقول صاحبنا هيراقليطس انك لا تسبح في النهر الواحد مرتين..لأن مياها جديدة تجرى من حولك دائما.

صمت لحظة ثم أضاف متسائلا:

-ما رأيك بحفلة تنكرية؟

لم أتكلم..أردت أن أرفض،الا ان الفكرة استهوتني.

استطرد قائلا:سوف ترى عالما آخر.

ثم عقب مازحا:هي فرصة يارجل فاغتنمها قبل أن ارجع في كلامي.

انطلقت بنا السيارة الى فندق ذى نجوم خمس..شعرت بشيء من الرهبة والوجل،وأنا ألج عالما لاأعرفه من قبل.

الأبواب الزجاجية تفتح وتغلق آليا..شد انتباهي اعلان عند مدخل الصالة الكبيرة..قرأت..الدخول باللباس الرسمي،يرجى التقيد بذلك.

استوقفت رفيقي..أشرت الى اللوحة.قال موضحا:ما بك يارجل!هذا مكان لا يرتاده الا علية القوم.

ةأضاف ضاحكا كعادته:وأنا وأنت.

رحب بنا النادل،انحنى لنا،كان يرتدي ثيابا سوداء وربطة عنق أنيقة،حييته ومددت يدي مصافحا..شدني رفيقي وقال هامسا:

-ماذا تفعل؟صحيح انك بدوي.

جلسنا على كرسيين متقابلين،تتوسطنا طاولة فوقها صحون وملاعق وأقداح وعلبة محارم ورقية وزجاجة ماء..

تلفت حولي..ليس بين الرواد من يضع قناعا أو يرتدى ثيايا تنكرية،فقلت في سري:هل هذه هي الحفلة التنكرية التي وعدني بها؟وأضفت:ربما لم تبدأ بعد.

امتلأت الصالة بالناس والدخان ورائحة الكحول والعطور،وصدحت في القاعة موسيقا صاخبة تصيب الآذان بالصمم.

صعد الى المنصة مطرب شاب،غنى ألحانا عربية وأجنبية.. أعلن عريف الحفل عن الجزء الثاني من السهرة،أطلت فنانة شابة بثوبها القصير جدا وصدرها وظهرها المكشوفين ونهديها البارزين..رقصت وغنت أغان عديدة لمطربين ومطربات،كانت تصل واحدة بأخرى.ضجت الصالة بالتصفيق والهتاف..

صفّت على حافة المنصة زجاجات الشراب..أكثر من واحد دنا منها ونثر عليها قطعا نقدية كبيرة.

نهض رجل..كان يبدو رزينا متزنا قبل أن ينهض،صعد اليها،اقترب منها،همس في أذنها،امسك بيدها،غنت له ،رقص،ضمها اليه..دفعته عنها..تأرجح،وقع أرضا..زحف على يديه وركبتيه..احتضن ساقها..زجرته،رفسته بقدمها.تدخل شابان قويان وأعاداه الى مكانه وهو يهذي بكلمات رخيصة مبتذلة.

قال صاحبي:طبعا لا تعرفه.

قلت:طبعا.

قال:يلقبونه بالمرعب.

قلت:ولكن..لايبدو عليه ذلك

أضاف:لاتستغرب..تراه في النهار على غير ما تراه في الليل..

تلفت حوله واستطرد:انه من ذوي الشأن ،هو مرعب حقا..صارم حازم،لايضحك في النهار ولايبتسم أبداً.

آخر.؟.استهوته الراقصة الشقراء أو السمراء،لا أدري،فالأصباغ والألوان غطت بشرتها..ترك مقعده وراح يرقص الى جانبها،يحاول أن يقلدها..نزعت الحزام عن وسطها ولفته حوله فانتشى وصار يهز وسطه ويتلوى.

قلت لصاحبي:هل هذا منهم أيضا؟

ورسمت بيدي اشارة يفهم معناها.

ابتسم وقال ببساطة:هووه..طبعا.

شغلت بالمراقبة والتساؤل وكدت أن أموت هما،هاهي امرأة شابة جميلة فاتنة تسرق نظرات خاطفة الى شاب ينزوي في ركن آخر،وتبادله التحية بالاشارة خفية أمام زوجها الذى يجلس قبالتها،يجهل أو يتجاهل ما تفعل.

قلت لصاحبي:اكاد أفقد صوابي.

قال:لماذا؟

واستطرد بطريقته الخطابية ساخرا:

-عجيب أمرك أيها البدوي القادم من اطراف الصحراء،الناس هنا لايهدرون الوقت..هنا يعقدون الصفقات وينجزون المعاملات ..بيع،شراء، نقل، تعيين...وكل شيء بثمن،هنا يخلعون ثياب التنكر ويكشفون عن خفاياهم التي يتسترون عليها في النهار،حيث ترى كل واحد بحجمه الطبيعي دون تزييف.

قلت:ولكني أعتقد اننا جئنا الى حفلة تنكرية.

ابتسم ساخرا ولم يتكلم.

طالت سهرتنا حتى مطلع الفجر..قام بعض الرواد الى بيوتهم مخمورين.. أعلن أحدهم وقد تعته السكر انه لم يظلم في حياته كما ظلم بزواجه من أم الأولاد،وأنه على استعداد لأن يدفع نصف عمره مقابل ليلة مع تلك الشقراء.

كانت الصالة تلفظ روادها قشورا منزوعة اللب..

نظرت الى ساعتي،كانت تشير الى الثالثة صباحا.

قلت مفزوعا:لقد تأخرنا،وأنا عندي أعمال علي أن أنجزها في الغد.

ضحك وقال : تقصد اليوم..

ثم استطرد: لا أنصحك بالعودة الى الفندق والنوم.قد لا تستيقظ الا بعد الظهر.

ذهبنا الى بيته،وفي الصباح شربنا شايا وقهوة وانطلقنا الى المجمع الكبير.

وفي الطريق قلت:قضينا سهرة لطيفة،ولكنك كنت قد وعدتني بحفلة تنكرية

ارتسمت على وجهه ابتسامة لم تلبث أن انفجرت قهقهة لفتت الأنظار الينا،ثم نطق:

-حفلة تنكرية أيها البدوي! أنا مازلت عند قولي .ولكن..نسيت أن أقول لك ان مثل هذه الحفلات صارت تقام في النهار..انظر حولك.

كانت المدينة عروسا تستيقظ بدلال ،متعبة،كسولة، نشوى، النوم يثقل أجفانها ونسيم الصباح يثير فيها رعشة لذيذة،وفي شوارعها التي تفرعت كالشرايين في الجسد دبت الحركة بهدوء،ثم لم تلبث أن ازدحمت بسيارات كبيرة وصغيرة،ووجوه قابلت بعضها في تلك السهرة أو هكذا خيل الي.

نظرت حولي..امعنت النظر..

وجوه جادة وقورة..نظرات هادئة،خطوات ثابتة رزينة،حديث عن الواجب والمسؤولية،وحوار حول النزاهة والأمانة والشرف..وترشيد الاستهلاك واستغلال الموارد والطاقات،والقضاء على الهدر والرشوة والفساد،وأخبار عن التصدى للظلم والعدوان، واستعادة الحقوق ورفض الاستسلام.. وحماية البيئة وحقوق الانسان...

ضحكت ضحكة ساخرة..

عقب صاحبي: تضحك... انظر.. هذه هي الحفلة التي وعدتك بها.. يبدو انها قد أعجبتك.. تأمل جيدا،فها هي قد بدأت الآن.

نظر الى ساعته.. كانت تقارب الثامنة صباحا ثم أضاف: اعذرني.. سوف نفترق..((نمرتي)) تبدأ بعد قليل ويجب أن لاأتأخر.

 

 

 

التمثال

 

وحيدا يقف في الساحة..لم يبرحها رغم تعاقب الفصول. يحمل في يده دفتر أشعاره،يهم أن ينطق الا ان العابرين لم ينتبهوا اليه مرة واحدة..يبتلع الغصة بأسى ، يتكور جسمه النحيل الواهن،تتوقف شفتاه الشاحبتان عن الارتعاش ، يغرق في الصمت، وتضج الساحة بهدير السيارات في النهار وثرثرات المتسكعين والسكارى في الليل.

سنوات عدة على هذا الحال..

منذ أن احتفلوا بقص الشريط ورفع الستار الذي يكلله،بعد أن وضع الفنان لمساته الأخيرة.

في ذلك اليوم غصت الساحة بالناس.. رجال ونساء،طلاب وطالبات، فتيات صغيرات في ثياب مزركشة يحملن الأعلام وباقات الزهور.

لقد صفقوا طويلا،حتى كلتّ أيديهم واحمرّت أكفهم.لم يصفقوا له بقدر ما صفقوا لحامل المقص ورفاقه الذين تكرموا بقص الشريط ورفع الستار... ثم رموه بنظرات عجلى وانطلقوا بسياراتهم السوداء،يتسابقون في الوصول الى فندق من الدرجة الأولى،تتوسط صالته الكبيرة مائدة عامرة..احتفاء باقامة نصب تذكاري يعلوه تمثال علم من أعلام الفكر والأدب والترجمة.

 

انطفأت شمس الخريف منذ ساعات،وزحف الظلام الى المدينة التي ترقد مهملة على ضفة النهر..لم تقو مصابيح الكهرباء القليلة الباقية على هتك ستار الظلام.. البرد يلسع الجلد كابر حادة،ثم يتغلغل في النسج والخلايا ويسكن في المفاصل والأحشاء،وقد خلت الساحة تماما من الناس،وظل التمثال وحيدا كما كان.

قبل منتصف الليل،وعلى حين غرة،حدث ما لم يكن متوقعا.. أمر غير عادي هز البلدة التي كانت غارقة في السكون..دبت حركة غريبة..دراجات نارية وعادية،شاحنات ثلاثية العجلات،أفراد وجماعات من مختلف المهن والأعمار.. بعضهم جاء راكضا،آخرون ارتدوا ثيابهم على عجل فبدوا بصورة غريبة مضحكة. أحدهم كان ينتعل فردتي حذاء مختلفتين. وكل يحاول أن يصل قبل الآخر.. وغايتهم واحدة..التمثال.

تحلقوا حوله.. حاولوا الصعود اليه،وطأت أقدامهم أحواض الزهور،تدافعوا بالأيدي والمناكب.. لمعت سكاكين وخناجر،طارت أحذية وتمزقت ثياب،تبادلوا الشتائم...

سلّطوا على التمثال أضواء المصابيح.. أشعلوا أعواد الثقاب.

اهتز التمثال،انتصبت قامته، ارتعشت شقتاه الرقيقتان، ثبّت نظارته السميكة فوق عينيه..ابتسم للجمهور الذي تذكره فجأة،رفع يده اليسرى التي قبضت على دفتر أشعاره ورسمت يده اليمنى اشارة في الهواء معلنة بدء القصيدة، لكن لغو القوم لم ينقطع.

تتالت الصرخات والاستنكارات والشتائم،نشبت المشاجرات، أصيب أكثر من واحد اصابات بالغة، وقع أحدهم أرضا فوطأته أقدام المتزاحمين.

أعلن أحدهم انه فقد حذاءه وتساءل كيف يعود الى البيت حافيا...وصرخ آخر:لقد أضعت محفظة نقودي،وقال ثالث بلهجة سوقية،وقد كان طالبا فاشلا لا يحب الشعر والشعراء:العمى.. شغلتنا في حياتك وها أنت تشغلنا بعد مماتك.

لملم التمثال أوراقه .. ضمها الى صدره، ابتلع غصة مرّة، تساءل:أي أمر جلل جاء بهم؟

عندما مات الشاعر الانسان كلن المشيعون قلة، لم يتجاوزوا عشرين أو ثلاثين. واليوم ودونما مناسبة كما يتهيأ للشاعر التمثال، لم يبق في البلد كبير أو صغير ، متعلم أو أمي، جزّار أو ماسح أحذية، موظف أو ، أو خادم في مطعم ، أو نادل في مقهى .. راكب دراجه أو عامل سائق شاحنة الا وقد حضر.

مقهى الأمراء... ذلك الجحر المتداعي الذي يلتقي فيه مربو الحمام والفاشلون والعاطلون عن العمل..لم يبق فيه زبون واحد.تركوا طيورهم في أكياسها المثقبة واندفعوا كخيول جامحة، يتسابقون في الوصول الى الهدف،لايأبون لمن تطأوه أقدامهم أو تصدمه دراجاتهم وآلياتهم.

بعد دقائق كان بعضهم يغادر الساحة مسرعاً كما جاء اليها.

أحدهم يسأل:هل عددتها؟ كم هي؟

لكنه لايسمع جوابا أو قد يسمع اجابات مضللة،فمن يعرف الجواب لايبوح به بل يستأثر به،ويغادر مسرعا علّه يفوز بالجائزة.

قال أحدهم:هناك زر مقطوع.

سأل آخر:أين؟

قال ثالث لزميله:دعنا منهم.. لقد عرفت عددها،هيا بنا قبل أن يسبقنا الآخرون.

انطلق بدراجته النارية كالسهم، قفز رفيقه خلفه فارتفعت عجلتها الأمامية،وقطعت عدة أمتار على عجلة واحدة،قبل أن تستعيد توازنها ويغيّبها الظلام.

فرغت الساحة من الناس تماما.. انطلقوا الى بيوتهم واحتضنوا أجهزة الهاتف،يديرون أقراصها أو يضغطون أزرارها بنزق.. يتسابقون في الاتصال بمعد البرنامج التلفزيوني الذي كان قد وجّه الى الجمهور سؤالا حول عدد الأزرار في تمثال الشاعر،ورصد جائزة مالية كبيرة لصاحب أول جواب صحيح ياتيه عبر الهاتف.

عندما اكتشف الشاعر التمثال سر هذا الحدث،شعر بالأسى،ابتلع غصة مرّة.. تمنى على المذيع لو أنه سألهم عن قصائده ودواوينه.. عن ترجماته، عن بيت من الشعر حفظوه له.. عن تاريخ مولده أو موته. الا ان شيئا من هذا لم يحصل.

شحب لونه وتقوست قامته.. ضغط بيده اليسرى على أوراقه وطواها.أما يده اليمنى فقد كانت أصابعها مضمومة الا واحدا،ظل منتصبا يعلن عن مولد قصيدة لم ينظمها في حياته.

 

 

 

مشروع رجل

 

لايدري كيف جاؤوا به الى هنا..

فتح عينيه فرأى نفسه شبه عار الا من قميص ابيض، على سرير فوقه أغطية بيضاء،في غرفة جدرانها بيضاء وسقفها أبيض، والى جانبه وقفت ممرضة بيضاء ترتدي معطفا أبيض.

همّ أن يتكلم..أحسى بثقل في لسانه رافقه ألم شديد..شعر بالدوار، داهمه شعور بالخوف والاستغراب، هاله أن يرى نفسه في غرفة بدت له واحدة من غرف المشفى، حاول مرة أخرى.. بصعوبة ندّت عنه كلمات ومقاطع: أين أنا؟ من أتى بي الى هنا ؟ ماذا فعلتم بي؟

ابتسمت الممرضة وقالت وهي تشير اليه بالسكوت:

-صحوت أخيرا.. لاتقلق،الأمر عادي، بسيط غاية البساطة.

كرر السؤال بالرغم من الصعوبة والألم:

-ماذا حدث؟ما به لساني؟ماذا فعلتم به؟

أجابت: لاتتكلم..الكلام يؤذيك. سوف يشرح لك الطبيب كل شيء عندما يحضر.

وضعت يدها على فمه وأضافت:

-أصدقاؤك الذين حملوك الى المشفى،في مكتبه . ينتظرون أن تستعيد وعيك بعد التخدير والعملية، سأبلغهم بالأمر.

قالت ذلك وغادرت الغرفة مسرعة.

حاول أن يلملم أفكاره المشتتة..أن يتذكر أين كان وماذا حدث قبل أن يغيب عن الوعي.

لمعت في ذاكرته بعض معالم الصورة التي غابت عنها.. كانت باهتة مشوشة،حاول بجهد أن يمسك أطرافها ويجمعها ويربط بينها..

تذكر أنه قد دعي الى اجتماع عاجل هذا المساء، حيث تلقى نبأ ترشيحه الى منصب أعلى.الا ان المهمة الجديدة مشروطة باخضاعه لاختبارات عديدة.وخيّروه بين الرفض والقبول.وبعد تردد أعلن موافقته وأبدى استعداده لاجراء هذه الاختبارات.

بعد لحظات دخل الطبيب ورؤساؤه في المؤسسة، وآخرون لم يرهم  من قبل.. أحاطوا به من كل جانب..

حاصروه بنظرات فاحصة.. ابتسموا له، شدوا على يده، هنأوه بالسلامة.. نظر اليهم بعينين ذاهلتين وسأل:

-ماذا جرى؟ ماذا فعلتم؟ ما به لساني ؟

دار حوار بينهم.. بالنظرة والاشارة.. اقترب منه أحدهم،قرّب فمه وهمس في أذنه:كان في لسانك ورم صغير..لاتخف،انه ليس ورما خبيثا..قد أكون أخطأت التعبير.في لسانك قطعة صغيرة زائدة .. أقصد كان طويلاً بعض الشيء ، في بعض المرّات، وقد اقتطع الأطباء هذا الجزء الزائد ،بناء على تعليماتنا وبعد موافقتك طبعا.

صرخ بغيظ والم:لماذا؟كيف؟

رد آخر وهو يبتسم:حتى يتناسب مع المنصب الجديد..هذا كل ما في الأمر..لاتقلق.

....................

في مكتبه الجديد الذى انتقل اليه بعد خروجه من المشفى كانت باقات الورد وبطاقات التهنئة قد شغلت مساحة كبيرة منه، فلم يسمح سوى لفئة قليلة من المهنئين بالدخول اليه.وقد شمل المنع كافة المستخدمين والعمال وصغار الموظفين.

ومما يذكره المقرّبون منه وأصحاب العلاقة انه قد تغير كثيرا، فهو عابس متجهم مقطب الجبين دائما.. يختصر من الكلام كثيرا ، وقد تغيرت لهجته وخلت لغته من بعض المفردات التي كان يكررها قبل اجراء العملية،وصار يستخدم عبارات ومفردات جديدة لم يسمعوها منه من قبل.

......................

بعد عام استدعاه رئيسه في العمل..

كان وجهه ممتقعا ونظرته حادة قاسية.قال له بنبرة جافة صارمة:

-رؤسائي غير راضين عنك.

فتح فمه دهشة .. حاول أن ينطق إلا أن المفاجأة أفقدته القدرة على الكلام.

استطرد قائلا:

-يقولون..قلبك مازال ضعيفا..باختصار..يبدو انك لاتصلح لهذه المهمة.

سأل مستغربا: أنا . كيف. لماذا.هل قصرت في شيء؟!

قال رئيسه بنبرة لوم وعتب:

-يا أخي.. أنت لين جدا، طيب أكثر مما يجب، ولأنك طيب القلب فأنت تغض البصر وتصفح وتسامح.

-أنا لا أتساهل مع أحد.

-يارجل..أنت تفهم ما أعني..الكلام كثير..

غمز ولمز وتجريح .أمن المعقول انك لاتعرف أم انك..؟

رد وقد انتابه الخوف:لا.. أبدا.

-أنت تدرك قصدي اذا.

رد بانكسار: نعم.

مرّت دقيقة صمت، ساد المكتب سكون.. دق قلبه بقوة..طغت دقاته على دقات الساعة الجدارية الرتيبة.

خيّل اليه ان رئيسه يسمع نبض قلبه، اذ رفع راسه اليه وقال:

-ألم أقل لك.قلبك قلب طفل،وهذا لايناسبنا، نريد قلبا من حديد.

هدأ روعه وقال مبتسما:

-ومن أين آتي بقلب من حديد.

هب رئيسه واقفا..مشى عدة خطوات،دار حوله،نظر اليه بعينين ثاقبتين، وضع يده على كتفه... هزّه برفق وقال بهدوء:يبدو اننا متفاهمان..

ثم أضاف مشدا على مخارج الحروف:

-هذا أمر سهل..

-سيدي..

-أنا أعني ما أقول..قلب من حديد...دع الأمر لنا.

-سيدي..

قال رئيسه بلهجة تنطوي على التهديد:

-اذا كنت تريد الاحتفاظ بمنصبك.

أطرق براسه الى الأرض.. عيناه غائمتان، نظرته حائرة، وقلبه ينتفض بين أضلاعه كطائر مذبوح.

استطرد رئيسه بنبرة آمرة:

-قل انك تريد.

غرق في صمته..دارت به الدنيا..تذكر كيف قطعوا في المرة السابقة جزءا من لسانه.واليوم يريدون أن ينتزعوا قلبه ويستبدلوه بقلب من حديد..انهم لايلعبون.يكاد يفقد عقله..هاهو يقف على حافة الجنون.. شك في نفسه وملكاته.. كيف له أن يعرف الحقيقة من الباطل والصواب من الخطأ ؟!

فكر..

وماذا في ذلك؟ أنا ضعيف القلب كما يبدو..

يرقّ قلبي أحيانا، يغفر ويسامح في بعض المواقف.لايحمل حقدا أو كراهية.. وهذا هو عيبي.

هزّ رأسه وقال بتخاذل:

-نعم، أريد.

..............

بعد عودته الى المكتب من المشفى، لم يلتفت الى موظفيه ومستقبليه، ولم يرد على تحيتهم.أغلق بابه وأمر الآذان أن يمنعهم من الدخول.

ويذكر المقربون وأصحاب العلاقة انه قد تبدل كثيرا،فهو جلف مع المراجعين،خشن مع المرؤوسين،وقد أقام بينه وبين الناس سدودا وحواجز.

..............

عندما استدعاه رئيسه مرّة أخرى،ابتسم له وقال:

-لقد تقدمت كثيرا.نحن راضون عنك... ولكن..بقيت مسألة أخرى..

لم تبدر منه أية ردة فعل،لم يستغرب أو يتردد أو يتساءل بل قال متلهفا:

-ماذا تريدون؟.أنا جاهز.

-أعرف ذلك..أنت تتقدم بسرعة..شيء واحد لابد منه حتى تنال كل الرضى وتصبح أهلا للثقة..

-ماهو..؟

قام رئيسه من مقعده..نظر اليه مليا، مدّ اصبعه ، قرّبه من رأسه ، نقر به على جبهته وقال بصوت هادئ متقطّع:

-عقلك.

ثم استطرد:

-ما دمنا نعرف أكثر منك،وما دمت منا وتعمل معنا ولا تخالفنا في شيء،فما حاجتك اليه؟! نحن نزودك بما يجب أن تعرف وما لا تعرف، ما تفعل وما لا تفعل، ما تقول وما لا تقول..من تحب ومن تكره ، كيف تفكر وماذا تقرر..

سكت لحظة ثم أردف:

-نحن نخشى أن يتمرّد عليك يوما ويأخذك هنا أو هنا ويهدم ما بنيته،فتخسر كل شيء.عملية بسيطة وينتهي الأمر..هل أنت موافق؟

............................

عندما عاد الى بيته بعد العملية الأخيرة والتقى بزوجته وجمعتهما غرفة واحدة وسرير واحد، صدّته عنها، لم تسمح له أن يقترب منها أو يلمسها..قفزت مذعورة ووقفت بعيدة عنه..تصورت انها ترتكب اثما..تمارس الزنا، فما من عضو في جسده بات ينتمي اليه.

 

 

 

النفق

 

لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري عندما جرت أحداث هذه القصة..

كنت فتى نحيل الجسم وقد لوّنت شمس الصيف بشرتي بسمرة شديدة حتى باتت لا تختلف عن لون الثوب الرمادي الذى لا أنضوه عن جسدى الا للغسيل أو السباحة في الساقية القريبة من بيتنا.

وبيتنا هذا..غرفتان صغيرتان من لبن وطين وعريشة عنب في بستان كبير انتظمت فيه أشجار الفاكهة صفوفا طويلة، وزرعت أرضه بالخضروات والذرة الصفراء ودوّار الشمس.

في تلك الأعوام كانت لنا رحلتان..رحلة الشتاء من القرية الى المدينة عندما تفتح المدارس أبوابها، ورحلة الصيف في أوائل حزيران اذ نعود الى القرية حيث موسم الحصاد وجني المحصول.

ولأنني أختلف قليلا عن أبناء القرية، ولجهلي بالمخاطر التي قد يتعرّض لها فتى مثلي، لايسمح لي بالابتعاد عن البيت كثيراً ، لهذا لم أكن أعرف حدود البستان الذى نملكه، ولم أتوغل في جوانبه مرة واحدة.

الا ان المغامرة بالخروج من الدائرة الضيقة المرسومة لي استهوتني.. يدفعني اليها رغبة ملحة في التعرّف على ذلك العالم الجميل الغريب، واكتشاف بيوته وحقوله وبساتينه وسواقيه وبيادره..يشجعني على كسر الطوق والخروج من حدود الدائرة شعوري بأنني لم أعد طفلا وبعض الرفاق من أبناء الفلاحين..هؤلاء الذين يشبهون طيورا برية..يتنقلون النهار بطوله في الحقول والسواقي وغابات الحور والغرب. يتسلقون الأشجار، يأكلون ما تختطفه أيديهم من خضرة أو فاكهة، وقد يصطاد أحدهم بعض العصافير أو السمكات الصغيرة فيجعل منها وجبة شهية دسمة تغنيه عن وجبة البيت التي قد لا تكون سوى الخبز والشاي.

ذلك الصيف صرت أقلدهم..ألعب معهم، أتسلق الأشجار،أصطاد العصافير،أمرّغ جسدي بالرمل عند السباحة.وعند العودة الى البيت أهيئ نفسي للعقاب أو اللوم والتهديد.

ذات يوم، بعد أن ذهب أبي الى المدينة، سمعت من ينادي علي..كان ذلك هو (الأسود)الفتى الذي يماثلني في العمر أو يزيد عني بشهور..تسللت من البيت بخفة وهدوء ، ولما اقتربت منه قال:

-هيا بنا ..

سألته: الى أين؟

أجاب هامسا: سوف تعرف.

كان الأسود حافي القدمين،أشعث الشعر، وقد احترق جلده بشمس الصيف حتى غدا كجلد الثعبان.

مشى ومشيت الى جانبه، يتقدمني على الأرض الرملية المحرقة أحياناً، وأجاريه أحيانا أخرى.

كنت أشعر بقليل من الرهبة والرغبة،وكلما ابتعدنا يكبر خوفي وتكبر رغبتي في التعرّف والاكتشاف.

سرنا بجانب جدار البستان الذى نملكه ونقيم فيه..

اعترضت طريقنا ساقية عالية وأسلاك شائكة فانحرفنا، واجتزنا حقلا مزروعا بالذرة..كانت عيدان القصب تتعالى على قامتينا، وكنا ننحرف يمينا ويسارا ونحن نتابع طريقنا وعندما خرجنا من الحقل لم أعد أعرف اين صرنا وكم ابتعدنا.

رأى في عيني شعورا بالخوف فقال:

-لاتقلق، سوف نعود على الطريق ذاته.

قلت متظاهرا بالشجاعة: لست خائفا.. أخشى أن أتأخر.. ثم ..لماذا جئنا هنا؟

قال : سوف تعلم عندما نصل.

انعطفنا الى اليسار،مشينا،ثم انعطفنا الى اليسار مرّة أخرى.

سألته:هل نعود الى البيت؟

ثم استدركت: ليس هذا هو الطريق الذى مشينا عليه.

قال: أعرف.

بعد خطوات،كنا نقف أمام جدار طيني مرتفع،فوقه زرعت قطع من الزجاج وأسلاك شائكة، وخلف الجدار بدت أشجار فاكهة تشابكت أغصانها وتدلّت ثمارها الكبيرة الناضجة.

قال وقد اشرق وجهه:ما رأيك؟

لم أجب بكلمة.

في بستاننا ثمار مثل هذه، لاتختلف عنها في شيء.

تأملتها..وفي لحظة الصمت والانتظار تبدلت نظرتي إليها..بدت لي مختلفة تماما..أكبر حجما، وأكثر احمرارا، وربما ألذ طعما..

قلت أسأله: هل من سبيل اليها؟

قال بعد أن حك رأسه:هذا صعب.

-لنرجع اذا.

قاله: لا..سوف نجد طريقه.

تجوّل في المكان..فحص شقوق الجدار وثقوبه، حاول أن يتسلّق إلا ان السلك الشائك والزجاج حالا دون ذلك . تلفت حوله ثم صرخ بفرح طفلي: وجدتها..انظر.ثمة نفق قديم يمتد عدة أمتار تحت الطريق الموازى للجدار ثم ينفتح على البستان.

قال: هذا مجرى للماء.

سألته: وما نفع ذلك؟

قال: إذا دخلنا من هذا النفق نصل الى البستان.

قلت بدهشة واستنكار:

-ندخل النفق؟‍ كيف؟ انه طويل،ضيق ومظلم.

وربما كان مسكونا بالأفاعي،أو قد يكون مسدودا.

قال:نجرّب.

انحنى نحو النفق،وقرّب رأسه بحذر..قفزت بعض الضفادع فهبّ مذعورا..رأيت الخوف في عينيه وعلى تقاطيع وجهه..قلت ضاحكا: خفت.؟‍

قال:أنا .لا..أبدا.

انبطح على الأرض ودسّ جسمه النحيل في النفق..كان يتقدم بصعوبة.لاأدري،هل كان ذلك بسبب الخوف أم ضيق النفق.ناديته،لم يرد على ندائي،كانت قدماه تتحركان وتدفعان بجسده نحو الداخل.توقف ثم عاد وقد جرّ معه بعض العيدان والحجارة،وقال:

-هذه تسد طريقي.

التفت الي وقال:تتبعني؟

هززت راسي موافقا ولكنني لم أكن جازما.

كثعبان أو كجرذ غرز جسده في النفق.

وقفت حائرا..أخشى أن اتبعه ولا أستطيع الخروج من هذه المصيدة الرهيبة،وأخجل أن أرفض فيتهمني بالجبن والخوف.

بعد تردد انبطحت على الأرض وزحفت.

صار نصفي الأمامي في النفق..حجبت حزمة النور بجسمي،كان النفق مظلما حارا رطبا..زكمت أنفي رائحة نتنة.. ربما كانت رائحة حيوان نافق أو بقايا ماء آسن،وفي الظلام  لمست شيئا يتحرّك .. انتفض مبتعدا فسحبت يدي بسرعة..

صرخ الأسود: هل أنت ورائي؟

قلت خائفا:نعم.

أضاف قائلا:أنت من لمس قدمي؟.لقد أفزعتني.

قلت :وأنت كذلك ،حسبتك..

ولم أكمل..كنت أرتعد..

قال مشجعا:اتبعني،سوف نخرج.

توقفت، حاولت أن أتراجع لكنني لم أستطع..ذعرت، قلت محدّثا نفسي: لقد علقنا وقد نختنق ونموت وندفن هنا ولا يعلم بنا أحد.

صار النفق أكثر حرارة ورطوبة..كنت أتنفس بصعوبة،نزّ جسمي عرقا غزيرا..اختلط ببقايا الماء الآسن، تمنيت في تلك اللحظة أن أكون في أي مكان غير هذا ، جال بفكري أن نهايتي باتت قريبة .. المعجزة وحدها هي  التي يمكن أن تنقذنا..

صرخت بصوت مخنوق:تقدّم..اسرع..

رد قائلا: النفق ضيق،يكاد أن يطبق علي.

قلت بصوت يغالبه البكاء:

-حاول وأنا أدفعك.

دفعته بكل ما بقي لدي من قوة..تقدّم قليلا، زحف ببطء شديد، ثم قال وقد تغيرت نبرة صوته:

-ادفع أيضا..لقد اقتربنا..

بذلت جهدي، دفعته يائسا.وعندما رأيت خيط نور يتسرب من فتحة النفق شعرت بشيء من الأمل والعزم . كان الأسود قد تجاوز النفق ..مدّ يده وشدّني ، صرنا داخل البستان..جلست على الأرض ألتقط أنفاسي،تبدد كابوس الخوف الذي لازمني داخل النفق..شعرت أن الحياة عادت الي مرّة أخرى.

كنت ملوثا بالطين والطحالب..في يدي وساقي جروح وخدوش لم اشعر بها وأنا في النفق.أما الأسود فقد كان منظره مضحكا اذ بدا كتمثال من طين، تلمع في وجهه المعفّر عينان تشيران انهما لكائن حي.

لم تعد الثمار الناضجة تغريني، كل ما يشغلني هو الخروج من هذه المصيدة والعودة الى البيت.وهذا ما يقلقني ويرعبني ، سألت : كيف نخرج ؟ أشار بيده الى النفق.

قلت : أرمي بنفسي الى الجحيم ولا أدخله مرّة أخرى.

قال: اتبعني..ولكن عليك أن تعدو اذا طاردونا، وقد نقع في أيديهم..

قلت :هذا لايهم.

تغلغلنا بين نباتات الذرة الصفراء ودواّر الشمس. تطول المسافات ، نعدو ، نلهث، نتعثر بالأحجار، لانأبه للأشواك أو لأوراق الذرة التي تدمي أذرعنا وأقدامنا..

وبعد أن اجتزنا مساكب الذرة تمهلنا قليلا فقد بتنا مكشوفين،نحتمي بين حين وآخر بالأشجار الكبيرة.

وقد بدا المكان خاليا من الانسان والحيوان.

قال:اذا تقدّمنا بهدوء فقد نخرج من بوابة البستان دون أن يرانا أحد.

مشينا بحذر، تقدّمنا أكثر..

بدت لي بعض المعالم مألوفة .. هذه الشجرة تسلقتها، وهذه الساقية رأيتها من قبل..

اقتربنا أكثر..

بدت عريشة العنب والبيت الصغير ذو الغرفتين. صرخت : إنه بيتنا ..

أضفت: وهذا بستاننا الذى كنا نريد أن نسرقه.

غسلنا أيدينا ووجهنا بماء الساقية..

تسلل الأسود خارجا من بوابة البستان..

نفضت الغبار ، ومسحت الطين عن جسمي وثوبي . وعندما وقفت أمام البيت أطلّت أمي وقالت وقد راتني بهذه الصورة :

-أين كنت ؟ مالذي فعلته بنفسك؟.. لاشك انك ابتعدت كثيرا ولعبت في السواقي والحقول.

قلت وأنا أشعر بالذنب:

-كنت هنا ، في البستان..صدّقيني.

قالت:أنت تكذب .

طبعا لم تصدقني رغم إني كنت صادقا هذه المرّة.

 

أضيفت في 13/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية