شجرة التوت
لم تكن تنتهي حرب حزيران غير المتكافئة حتى دخل
الاحتلال مدينة القنيطرة بهمجية غاشمة و أشعل الحرائق في البيوت المتبقية و
التي لم تدمرها قنابل القصف أيام الحرب
كنت في الخامسة من عمري عندما قدم عشرة من جند
الاحتلال إلى منزلنا ، و دخلوه بصراخ و عصبية تترية
كانت أمي و جدتي و إخوتي الأربعة جالسين تحت شجرة
التوت التي زرعها جدي منذ دخوله هذه المدينة الطيبة الوادعة طلباً للرزق 0
لم يكن لدينا بيت واحد صالح للسكن بعد أن دمرت القنابل الهمجية كل الحي
الذي نقطنه ، و قتلت و جرحت أكثر من خمسين طفلة ، و امرأة ً و صبياً و تقدم
منا ضابط نحيل الجسم طويل القامة تبدو أنيابه كأنياب كلب مسعور 0
قال بلكنة عربية : أين هم الرجال المختبئون ؟؟
ثم تقدم من جدتي و ركلها بقدمه السافلة ، و قال :
تكلمي أيتها العجوز الشمطاء و إلا قتلت كل من حولك ،
و أمطرتهم بوابل من الرصاص ، فأجابته بصوت متهدج يشوبه الحنين و المرارة :
تلك عادتكم أيها المتغطرسون ، تحرقون ، و تدمرون ، و
تقتلون ، هذا هو المنزل أمامكم 0 فتشوه كما شئتم 0 لن أقول لكم ليس لدينا
رجال ، فرجالنا مازالوا أحياء ، و سترون شجاعتهم عندما تحين الفرصة 0 صرخ
الضابط بوجهها ، و قال : اخرسي أيتها الوقحة 0 نحن هنا و لن نرحل عن هذه
الأرض ، ثم التفت إلى جنوده ، و قال : فتشوا البيت بشكل دقيق لا تتركوا حتى
أعشاش العصافير و إن عثرتم على أي شيء فأتوني به 0 و دخلت ُ في ثوب أمي
أنظر إلى ذلك الضابط و قلبي يقفز في صدري حقداً و خوفاً 0
صحيح أنني في تلك السن لم أكن أعي معاني الاحتلال ،
و لكنني كنت أشعر من أصوات القنابل و المدافع ، و ما أحدثته من تدمير و
حرائق 0 أن من يصنع ذلك لا يعدو يكون همجياً 0 قد ملأ صدره و قلبه حقداً و
غّلاً ، بل هو وحش يحاول افتراس ما حوله 0 و عاد الجنود بعد دقائق بالخيبة
0 لم يعثروا إلا على سرج حصان كان والدي يستخدمه في محاربة الفرنسيين 0
و تقدم الضابط منا ، ثم قال بنبرة تشوبها السخرية و
الحقد :
أيتها العجوز احملي عكازك و ارحلي أنت ومن حولك 0 لا
أريد أن أرى أحداً في هذه المدينة بعد المساء 0 وضعت جدتي يدها الواهنة على
كتف أمي ، ثم اتكأت باليد الأخرى على عكازها و قامت و تقدمت من الضابط
قائلة :
(( لن تطول غيبتنا عن هذا المنزل ، و سنعود إليه قبل
أن تطلع الشمس ))
ثم تقدمت من شجرة التوت ووضعت جبينها المضنى على
جذعها و خاطبتها قائلة :
لا تكوني حزينة أيتها التوتة !!
سنرجع إليك و سأعانقك بعد رجوعنا 0 لن ودعك الآن
فأنا أعلم أن غيبتنا لن تطول
عن هذا المنزل ، فأعاد الضابط صراخه قائلاً : اخرجوا
من هنا لا أريد أن أرى أحداً بعد هذا المساء 0
و خرجت جدتي و أمي من المنزل مطرقتين تجران وراءهما
إخوتي و شعرت حين ذاك رغم صغر سني بمرارة الحياة و نظرت إلى أمي بعد أن
تجاوزنا المنزل إلى الشارع و قلت لها : و لكن أين والدي و عمي كي
يطــــــردوا هؤلاء الجنــــود من منزلنا ؟!! لم أرهما منذ خمسة عشر يوماً
0
نظرت أمي حولها و لم تر أحداً ثم قالت لي : أبوك و
عمك مع الجنود المدافعين عن القطاع الشمالي من الجبهة ، ولا ندري أهم أحياء
أم أموات 0 كان الله في عونهم ، و التفتت جدتي إلى أمي ثم قالت (( ترخص
الرجال فداء للوطن 00 و الله لو كان عندي عشرون ابناً لأرخصتهم فداءً لهذا
التراب 000 و الله لو قتلوا أمامي جميعا لما رجف لي قلب و لحمدت الله
فالوطن غال ٍ بل هو أغنى من كنوز الأرض 0 توكلي بالله فالأعمار بيده و لن
تموت نفس على هذه الأرض حتى تستوفي ما بقي لها من أنفاس )) 0
و مشينا 000 كانت الشمس تنحني نحو الغروب و كان
المساء يزحف ببطء كسلحفاة حزينة 0 وما إن قطعنا كيلو متراً واحداً حتى سقطت
جدتي على الأرض من الإعياء و التعب فجلسنا حولها و أمي تقول : ما أتعس هذا
الحظ !! فالتفتت جدتي إليها ثم قالت : لم أعهد طيلة حياتي أن الظلم دائم و
سترين بأم عينيك أن الحق سينتصر 0 صحيح أنهم استغلوا غفلة من الزمن و لكن
الرجال استيقظوا و ستسمعين دوي الرصاص في يوم قريب و ستعودين بمشيئة الله
إلى منزلك ومن هذه الطريق نفسها و لكن بعزة و شموخ 0 و التفتت أمي إلى
الخلف بسرعة لترى سيارة هشة محملة بالنساء اللاتي طردن مع أولادهن من
المدينة رفعت يدها مؤشرة للسيارة بالوقوف 0
وما إن ركبنا حتى أسندت جدتي رأسها إلى مقعد قديم و
غرقت في نوم عميق لم تصح منه حتى وقفت السيارة في إحدى المدارس الواقعة في
طرف المدينة و تقدم منا المتطوعون و أنزلونا من السيارة ثم حملوا الجرحى
إلى المستشفيات 0
شرعوا بتوزيعنا على الأماكن الفارغة 00 قضينا أياماً
كانت أمر من الجلوس على الجمر و لم يكد عمي ووالدي يعثران علينا إلا بعد
مشقة ٍ و تعب كبيرين 0
كان عمي خلال تلك المعارك قد جرحت ساقه اليمنى جرحا
بالغاً أعاقه عن المسير
بشكل صحيح 0 و كان والدي قد نجا من الموت بأعجوبة ،
فقد أمطر الطيران المعادي خندقه بوابل من القنابل ولولا عناية الله لكان في
عداد الشهداء 0
تسارعت الأيام 000 كان الزمن يتمخض عن ولادة جديدة ،
و كان الرجال يستعدون لجولة جديدة يشحذون أسلحتهم و يتدربون ليلاً و نهاراً
من أجل أن تبزغ الشمس على تراب بلادنا المقدسة 0
و كبرت 000 لقد بدأت أستشعر معاني الاحتلال 0 لم أعد
أقرؤها في كتبي المدرسية فقط بل أخذت أعاني من ويلاتها 000 ستة أعوام و أنا
أشعر بحنين إلى شجرة التوت 0 كنت كل يوم أجلس بين يدي جدتي لتحدثني عن
ماضيها المتجذر في تلك الأرض و كنت أشعر و هي تحدثني أنني جالس تحت ظل تلك
الشجرة 00 أسمعها بشغف و هي تقول : (( الوطن غال ٍ يا بني !! من لا وطن له
لا قيمة له ))
و جاء رمضان بصفائه و نقائه 000 كان الرجال قد أعدوا
أنفسهم ليعيدوا الأرض 00 و لم يمض عشرون يوماً حتى كانت الرايات العربية
تخفق فوق جبل الشيخ 0
كانت جدتي تجلس إلينا و تحدثنا عن الشمس التي ستبزغ
قريباً 0
ومن إن همدت نار الحرب و عاد والدي و عمي إلينا حتى
باشرت جدتي بإلحاح عليهما للرجوع إلى المنزل 0 و استأجرنا سيارة صغيرة و
دخلنا المدينة 0 كان الجنود يعلقون على أبوابها أكاليل الفرحة و النصر 0
دخلت جدتي المنزل و نحن نسير وراءها ببطء 000 تقدمت
من شجرة التوت 00
عانقتها عناقاً حاراً و التفتت إليَّ و قالت : يا
بني هذه شجرة الحياة حافظ عليها كما حافظ عليها أبوك و عمك 000 لا تدع
أحداً أياً كان يمسها 0
و الويل كل الويل لك إن لم ترخص نفسك لدفاع عنها 000
تقدم منها 000 عانقها كما عانقها أبوك و جدك 000 و اجعلها محراباً لصلواتك
العروس
كان اللَّيل قد ألقى بستائرة المكفهِّرة على الطرقات عندما كان
زَيْدان عائداً من قرية أم الجِمال إلى بلدته ، و لمَّا كان البرد يكشِّر
عن أنيابه ، والمطر ينهمر بغزارة شديدة ، فقد قرر زيدان اللجوء إلى مغارة
الـزرازير
الممتدة في تلك التلة الصغيرة علَّ المطر يَهْدأُ من انفعاله و
تتوقف شرايين السماء عن النزيف 0
وما إنْ باشر زيدان بعبور المغارة حتى رأى عينين تبرقان داخلها0
عندها أحسَّ بأنَّ هاتين العينين هما " ضَبْعٌ" يكمن هنا 0 ولما كان
معتاداً على مقارعة الضِّباع فقد تقدم منه ببطىء، ثم قفز عليه بسرعة البرق
، وبعد عِراك شديد تمكن زيدان من خنق الضبع و جره خارج المغارة 0 وأثناء
جره للضبع كان زيدان يركل جسماً غريباً أحس بفطرته الريفية أنه جسم لآدميٍّ
ميت ٍ 0
حمل زيدان قداَّحته ثم أشعلها ، وأخذ يتحسس بإحدى يديه هذا الجسد 0
إنه جسد أنثى 0 ورغم أنه كان في عجلة للرجوع إلى زوجته وأولاده الذين لم
يرهم منذ أسبوعين ، فقد قرر المبيت في معـــارة الزرازير حــتى الصباح لكي
يتحقق من شكل هذه الأنثى 0 فأبناء الريــف لديهم نخوة أصــيلة تدفـعهم
دائماً إلـى مد يد الـعون حتى للغرباء، فكيف بأبناء بلدتهم الواحدة ثم إنه
لا بد له من معرفتها فالبلدة صغيرة ، وجميع أفرادها يعرفون بعضهم 0
وضع زيدان نعليه تحت رأسه وغرق في نوم عميق ، لقد بلغ منه التعب حدا
ً جعله يستغرق في نومه و كأنه
صخرة جثمت على آلام الأرض 0
ولما بزغ أول خيط للضوء وكان زيدان قد أفاق من نومه كعادته فتململ
قليلا ً ثم نهض ، و أخذ يقلِّب الجثة ثم غطى الجزء المكشوف منها و جر الضبع
إلى داخل المغارة ثم سد َّ بابها بمجموعـة من الحجـــارة وقفــل راجعا ً
إلى بلدته و لما دخل البلدة كان لا بد من المرور عبر السوق حتى يصل إلى
بيته الواقـــع في الـــطرف الآخر و أثناء مروره في السوق سمع عليا ً يصيح
كعادته وهو راكب حماره ويقول :
" من رأى أو سمع أخبار ( حرمة ) عبد القادر فله مئة ليرة ذهبية " 0
وتبسم زيدان بينه و بين نفسه و دخل الدار فقامت زوجته وجهزت له صحنا
ً من اللبن والدبس و جلــست إلى جانبه و أخذت تحدّثه عن قصة مريم ، ثم
استطردت في حديثها قائلة : إنه لمن الغريــب حقا ً أن تــختفي في ليلة
زواجها 0 فهي كما عُرفَ عنها فتاة خجولة مأدبة ابنة حسب و نـسـب ، ولم يعرف
عنها السوء قط
لقد كانت راضية بزواج ابن عمها عبد القادر ، ولكن قد تكون غزوات
البــدو قد اختطفتـــها ، والنـــاس في ضجة العرس فهب جميلة والعين عليها
كما يقولون 0 وحمد زيدان ربَّه بعد أن مسح فمه بطرف منديله و قال : لا
تتعجلي يا خديجة ، فكل شيء لا بد أن يظهر على حقيقته مهما طال الزمن ثم حمل
نـفسه متوجـــــها ً إلى مضافة أبي عبد القادر و سلَّم على الجميع ثم جلس
في أحد الزوايا يستمع إلى حديث الرجال 0
قال أبو عبد القادر : سنقوم بتشكيل مجموعات خمس وكل مجموعة مؤلفة من
ثلاثة رجال يجوبون القرى ولا يرجعون إلى البلدة دون أن يأتوا برأسها مهما
كانت الظروف لقد خفّضتْ رؤوسنا بين العشائر ، وأقــــسم أنها ستصير عبرة
لمن يعتبر 0
وتنحنح زيدان ، وقال : يا جماعة ! لا تتعجلوا ، فشرفكم مصون ،
وكرامتكـــم محفوظـــة ، وابنــتكم ابنة الرجال ! وتلفَّت الجميع إلى زيدان
و هم مشدوهون 0 قال أبو عبد القادر :
أكمل حديثك يا بني ! و أردف زيدان كلامه قائلاً : البارحة عُدْت من
قرية أم الجمال و ساقتني الأمطــــار إلى مغارة الزرازير علَّ السماء تتوقف
عن الهطول 0
وما أن دخلت المغارة حتى وجدت فيها ضبعا ً فخلَّصْتُ عليه وحملته
خارج المغارة فتعثرت قدمـــاي بـجسد آدمي وانتظرت حتى الصباح فوجدت ابنتكم
قد أكل قسم منها فأغلقت عليها باب المغارة ، فاركبوا خيولكم و ستجدونها0
هتف الجميع بصوت عفوي : ابن أصل يا زيدان ! بارك الله في همتك ، و
ستر عرضك 0
وانطلقت الخيول لترجع بالعروس و الضبع حيث عـُلَّـقَ أمام دكان أبي
عــدنان ليراه الجميع و ليــعرفــوا أن شرف الفتاة كان أبيض 0
|