الحالم..
قال لي "في الليلة الفائتة شعرت برائحة امرأة!!"
نظرت إليه بدهشة.. وغرابة.
فقال "هو هذا!! تلمست تلك الرائحة التي أعرفها جيداً.. هل تعرف كيف
تلمس رائحة الأنثى؟!"
قلت له "أنت تحلم وتحلم.. هو الحلم الذي يقودك إلى الجنون.. أم
الجنون يقودك إلى الحلم؟!"
امتعض.. ونظر إلي بسخرية.. مؤنباً (سطحيتي) في رؤية الأشياء.. مدَّ
يده وضغط على كتفي باستياء:
"عليك أن ترى بكل حواسك.. وليس بعينيك البسيطتين فقط!!
للرائحة شكل وملمس وصوت وطعم.."
سكت قليلاً وأخذ نفساً من سيجارته.. وأردف:
"كيف ستشعر بطعم الأنثى إذا لم تتذوق رائحتها.. وتسمع صهيل
خلاياها.. وتشم عبق الياسمين من مساماتها الحالمة؟!
كيف ستشعر بطعم الأنثى إذا لم تستطع رؤية أجنحة اللذة التي تحملها
إلى أفق أزرق بعيد؟!".
كان يتحدث بهمس أقرب إلى السرية، وكأنه يخشى أن يسمعه الآخرون. نظرت
إلى عينيه الواسعتين وقد ازداد جحوظهما واتسعت حدقتاهما.. وجه واسع.. على
رأس حليقة ضخمة.. كتفان عريضان وقامة شاهقة.. وكأنني أراه للمرة الأولى..
كان جبلاً متحركاً.
سألته بهدوء و(تواطؤ) عن رائحة تلك المرأة!!
نظر في وجهي مستفسراً إن كنت هازئا... إنه يعلم في أعماقه أنني لا
أهزأ منه أبداً.. وأنني أحبه وأشاركه أفكاره، و(أثق) بها، مهما كانت
بعيدة..
تنهّد وقال بهدوء وسرية:
"كانت ذات طعم بحري أشقر.. تشبه طعم البرتقال.. ولعينيها الخضراوين
أفق يمتد من شواطئ الرغبة.. وحتى الشفق الناري الأحمر.."
سكت قليلاً، وبعد أن تلفت حوله، أشعل سيجارة من علبته الرخيصة ذات
الرائحة القاتلة، وكأنها دخان "العطن" أو العفن المحروق!! وأطرق متلذذاً
بكلماته:
"كنت أسمع توثب نهديها.. كانا يستغيثان كذئبة غسلت جسدها بماء
عشتار.. ويعويان بإثارة ورغبة وافتراس.. أصوات من البوح الغامض وهما
يتقافزان نحو أشعة القمر المسترسلة على ذاك الصدر الثلجي الحار.."
وسكت برهة.. ثم نظر إليَّ حائراً إن كنت أفهمه.. ولما اطمئن إلى
أنني أتابعه وأهتم لأمر تلك المرأة.. قال:
"كان ظهرها ينساب كما الأسماك.. كما السهول الممتلئة بالطيور
والفراشات.. والمطر.
كان قدسي التضاريس والتعرجات.. نهر بلون سماء فضية..
يخترق حقلاً من سنابل القمح الشقراء..
إنه طعم الفرح في أرض مسحورة، لا متناهية..
كان صوت الريح يداعب السنابل الطويلة المتماوجة مثل خصور
المراهقات.. فتنبعث رائحة الأفق مليئة بطيور مهاجرة.."
نهض قليلاً ونظر عبر النافذة إلى الباحة الواسعة، وأكد أن لا أحد
يستمع إلينا بعد أن تلفت حوله ووجد أن الجميع نيام..
اقترب وأردف بهدوء ومتعة:
"كان لقدميها طعم تفاح الجبال.. ورائحة العشب الأخضر..
وكلما ارتقيت إلى أعلى كنت أسمع أجراس كنائس.. وأشم رائحة برارٍ
بدائية..
كنت أسمع تدفق الشلالات العالية.. وكان الماء المتطاير رذاذاً
ينعش روحي، ويوقظ في جسدي أحاسيس
شتى ..
ربوة من العشب الأصفر الغض كانت تتراءى لي.. وعلى حوافها أزهرت
أشجار الكرز الموشحة بأردية حمراء.. ضباب شفاف كان يغلّف تلك الربوة.. وطعم
عرين غامض يقطنه تنين خرافي.. يلتهم الكون بمتعة.. وإثارة!!"
أطفأ سيجارته في علبة "تنكية" صغيرة، بعد أن امتص جزءاً من عقبها..
وأشعل سيجارة أخرى بعود ثقاب رديء تطاير جزء منه وحرق أعلى سبابته، فوضع
إصبعه في فمه لحظةً.. وتابع دون أن يبدي أي شعور بالألم:
"كانت امرأة فاتنة.. وحقيقية!!
لرائحتها لون أزرق شفاف متماوج مع خصلات شقراء..
هل تعرف أن للرائحة لوناً أيضاً؟!"
وسكت متأملاً الجدران الرمادية الباهتة التي تحيط بنا.. في الفراغ..
وفي اللاشيء!! ترتسم على وجهه ابتسامة حزن.. ونقمة!!
كان يتوجع من شيء ما في صدره، صوت أنين دفين ينبعث من داخله، حين
يصمت.. وكأن وحشاً حبس داخل روحه.. و لم يجد مخرجاً.. نظر إلي و كأن
شيئاً ينكسر في أعماقه ، إنها نظرته التي أعرفها تماماً حين يصاب بخيبةٍ
ما، يتحول آنذاك إلى كائن بلا ملامح ولا معالم، سوى فجوة من الحزن
الأسطوري.. قال لي بما يشبه الصمت:
"بحثت عنها طوال الليل ولم أجدها.. كنت خائفاً عليها من هؤلاء
الأوغاد"
وأشار بإصبعه المحترقة إلى الرجال النائمين تحت الضوء الساطع!!
وتابع هامساً بعجز وذل:
"لا يمكن لامرأة لها رائحة البراري والبحار البرتقالية..
رائحة سنابل القمح والأفق الغامض..
أن تنام بين هؤلاء.. سيضاجعونها كما لو كانت من المطاط!!
دون رحمة.. ودن حواس!!
رائحة الموت تنبعث من أرواحهم وأجسادهم المتيبسة.. هل رأيت
أسنانهم..
سوداء منخورة كما الجذوع المحترقة.. إن حواسهم معطوبة..
تآكلت بفعل الرطوبة والصدأ!!"
سكت بحنق.. تنهد بعد برهة.. وبعينين خائفتين قال:
"أخشى أن تأتي الليلة أيضاً!!"
مددت يدي وأخذت سيجارة من علبته، وبعد أن أشعلتها بعود من أعواده
الرديئة بحذر وتؤدة، نهضت ناظراً عبر قضبان النافذة إلى تلك الساحة القذرة
بجدرانها المرتفعة والتي يعلوها شريطٌ شائك وعسكر يحملون بنادقهم من غرف
المراقبة الصغيرة..
كان الأفق معتماً، والسماء تتلبد بغيوم سوداء.. الأرض مبللة بمطر
قبيح.. والريح تخترق جوانب النافذة بلؤم واستهزاء..
الضوء يملأ تلك الزنزانة الضخمة، بسطحية وعنف، وينبعث من كافة
الأرجاء.. وكأنها غرفة زجاجية، لا نهائية الأبعاد..
باردة وساطعة.. وهذه المخلوقات الموزعة فيها بترتيب وانضباط حديدي،
فئران نُزعت حواسها.. لاختبار الحياة بلا حواس!!
لطالما كرهت هذا الضوء!!
نظرت إليه.. كان جسده متراكماً بعضه فوق بعض .. بفوضى وعبث أحمقين..
أنفه ملتصق بصدره.. و رأسه يتدلى بين الساقين مثل المشنقة..
أذنه تغوص عميقاً في الأرض الباردة.. وخيط دخان يرتفع نحو النافذة
وقد رُبطت فيه شفتان بنيتان!!
عين رمادية كبيرة تتوسط مؤخرة الرأس المقلوب!!
اقتربت منه وهمست في أذنيه :
"حين تأتي تلك المرأة ... أيقظني!!
طفولة..
"تعالي نتسلّق الربوة"!!
قالها بقلبه الذي كان يتدحرج بين قدميها..
كان الغروب شاعرياً.. تضوع من جنباته رائحة سماء مزينة بفرح عتيق..
وغيوم حالمة..
وكان الهواء يداعب شعرها المنساب على كتفيها، عابثاً وطليقاً.. مثل
أمواج ربيعية، لبحار متمردة.. ومثيرة.
"ما زالت فاتنة"!!
نظرت إليه وهي تضع يديها فوق يديه الراكعتين بخشوع.. تصليان للأفق
الأخضر داخل عينيها الصاحيتين..
شعر أن طعم اكتشاف الحب، ما زال يقطن تلك الأنامل البيضاء..
"وتلك الربوة.. عرسٌ أبديٌ في دمي"!!
كان يتأمل شعرها.. جداول شقراء متماوجة، دائماً كان شعرها طويلاً..
وحرا، تخيّله حين كان يمتلئ بالغبار وحبات التراب.. متدلياً فوق وجهها
بعبث..
سكب على ذاك الشعر زجاجة عطر كاملة، سرقها من بين أغراض أمه.. قالت
له:
"لا أستطيع أخذها معي!!"
فتح الزجاجة بيديه الصغيرتين وغسل بها شعرها، وثيابها، وأقدامها..
كانت رائحة ذاك العطر تملأ هذا الغروب بعصافير طفولية، وأحلام
ملوّنة..
"لطالما أحببت شعرك" همس وكأنه يحدث نفسه..
ضحكت بعينيها!!
"حين تضحكين يلمع البرق، وينهمر مطر دافئ.. يمسح غبار الكون..
وأحزانه"
ضحكت بعينيها.. وسارت أناملها ببطء ومتعة على مسامات يده..
"ما زلت تحمل طعم عبثك القديم، وترى العالم بعين إحساسك الأول.."
ارتفع صوته ضاحكاً بفرح الأولاد..
"تقصدين أنني ما زلت أرى الأشياء كما أرغب أن تكون.. كل الأشياء
التي أحبها تتحول في داخلي إلى برتقالات ساحرة.."
ثم أردف وهو يداعب بسبابته باطن كفها الناعمة:
"دون كيشوت.. أعظم شعراء العالم.. وأنبلهم!!"
مازال شعرها يتطاير مع الهواء.. وغصون الصفصاف تتمايل بلا مبالاة
حولهما.. فينبعث حفيفها ممتزجاً بموسيقى آتية من مكان ما..
قالت له:
"بل أكثر نبلاً، وجنوناً من دون كيشوت.. امرأة ستصبح جدّة بعد
قليل.. وما زلت تقترح عليها صعود منحدرات التلة سيراً على الأقدام؟!".
نظر إليها.. عينان شقيتان.. أيدٍ صغيرة تخلط التراب بالماء.. وتزرع
قمراً، تلتقط النجوم وتنثرها بعبث " جسد يغطي تلك الربوة بعبق العشق، ويغسل
صخورها بذاكرتي..
ملعونة تلك الربوة.. بكل عفاريت الشعر!!"
طالما تسلقاها معاً..
طالما سقطا معاً.. ومسحا جروح جسديهما معاً، كانت تبصق على يديها
لتزيل له الدم المتيبس عن ركبته.. وهو يتألم ويصرخ ويشتم.. مزّق سرواله
الداخلي بعد أن خلعه بعيداً عنها، ليلف به مرفقها النازف.. وحين اكتشفت
حقيقة تلك الخرقة، نزعتها عن مرفقها وراحت تجري وراءه وتقذفه بالحجارة
والشتائم..
قال لها وهي تعض كتفه وتركله بقدميها:
"لم أستطع تمزيق شيء سواه.. أيتها الكلبة!!"
ما زالت روحه تتوسل إلى المرأة الممتلئة:
أن تسابقه في صعود التلّة!!
"كانوا سيزيلون هذه الربوة، الأرض تتصحر.. كما الناس، غزو همجي!!"
نظر إليها.. وكأنه يتنبه من حلم ملّون..
"في الربوة تقبع ذاكرتي.."
وامتدت عيناه تعانقان تلك التلة الخضراء.. شعر أن تاريخه يقطن
هناك..
"كل أشيائي الجميلة مزروعة بين تلك الصخور.. تعبق رائحتها مع عشبها
وأشواكها وزواحفها وحشراتها.. روحي هناك!!" هكذا فكّر.. وهذه المرأة
المدهشة.. كيف عثرت عليها بعد هذا الترحال.."
شعر أن العالم ما زال يخبئ بعض الطيبة، وبعض الخير والبساطة..
والفرح.
"أتعرفين.. أستطيع أن أدلك على كل ما في هذه التلة؟! صخرةً.. صخرة،
ما زلت أذكر شقوق كل منها.. الكهوف الصغيرة.. مخابئنا.. مخابئ الحب ورائحة
السر الممتعة؟"
ضحكت.. وضحكت!!
"أجراس كنائس في ليلة العيد..
أصوات الفرح تتدحرج في روحي.. مع عينيها الصافيتين.."
عيناها لم يزحف إليها العمر.. وزمن القهر والتصحّر.
"ما زالت فاتنة.. وشقية"
تحوّلت في لحظة إلى طفلة في التاسعة يسابق جسدها عمرها.. ويتفتح عن
هدايا مدهشة للكون..أرانب بيضاء وحمام زاجل .. زجاجات عطر آتية من الغيب..
طالما بحثا معاً عن أعشاش الطيور الملوّنة.. حين يناجي الجسد ضوء
القمر..
هو الذي أحبّها كما (العشاق) آنذاك، كانت تكبره بسنةٍ واحدة.. إلا
أن شعورها بجسدها كان يكبره بسنوات .. ذاك الأنين الغامض المنبعث من
الخلايا الحائرة داخل جسد يضج بشتى المشاعر والطقوس الأنثوية الحالمة..
وهو الشاعر، منذ صرخة الحياة الأولى، حين ابتسم لأمه مع أول قبلة
يلتقط بها رائحة المرأة..
كانت تبدو بجسدها المتفتح، أمام جسده الذي ينازع الوصول، مثيرة..
وناضجة!! جسده جدول.. أمام شلالاتها الفضيّة الغزيرة..
أحاسيسه نضجت.. قبل جسده!!
أغنيات الحب في تلك المخابئ روائح الفتنة والثنايا التي تغمز
للقلب.. كانت ماءً سحرياً لتلتّف العضلات وتبرز.. وتشمخ القامة مع صفصافةٍ
تعرّش نحو السماء..
كان جسده يكبر بعبقها!!
وكان يختلس النظر إلى كنوزها بعينين فضوليتين نحو الجحيم.. نيران
المتعة، توتر اللهفة، الوصول إلى شيء ما، لم يكن يعرفه.. إلا أن غموضه
ومجاهله كانا يزيدانه توثباً نحو الشعر.. والعذاب الطفولي المقدس. وكانت هي
ترسم بجسدها عوالم مجنونة، ذات ألوان نارية.. مؤلمة ولذيذة!!
طهارة المعابد.. وكهوف الشيطان!!
كل حكايا (الجن) وسحر الأميرات، كانت تسكن ذاك الجسد، بلونه
الحليبي، وصهيل ثناياه المطوية بأنامل ساحرة.. كل طية كانت تحمل دهشةً
ولهفةً.. وفرحاً لا ينتهي، رغم وجع الجسد.. ووجع الروح، ونظرة الكون
العاتبة باحتشامٍ أقرب إلى الخوف.. والتصوّف!!
طالما تساءل في ترحاله و تشرّد روحه عن تلك النغمة الطفولية المدهشة
:
"كيف يمكن لأميرة الفرح أن يبقى جسدها الملكي بمنأى عن سر أسرار
البراءة الأولى؟!
وكيف يمكن لشاعر ألا يضيع بين تلك المتاهات الصارخة؟!"
كانا يكتشفان أغوار الحياة البعيدة..
مغامرة الوصول.. ومغامرة العودة!!
رحّالة منذ البدء.. خبأ أعشاش الطيور داخل جيوبه.. ورحل، حمل صوتها،
عبر عالم لا يهدأ ضجيجه.. إيقاعات حمقاء تملأ الكون نشازاً .. وضجراً ،
وأقدام ثقيلة تطأ الحلم.. وتكسره.
ذات يوم، حقد على العالم وانكسرت براءته الأولى..
شعر أنهم سرقوا منه (بلورة الأحلام) سرقوا أغنياته.. ولوحاته التي
كان يرسمها بفرح.
حين رأى كدمة سوداء تحت عينها.. كانت في العاشرة آنذاك، أشارت إليه
ألاّ يقترب، ورمت إليه ورقةً كتبت عليها:
"بابا سيقتلك إن رآك.. لا تصعد إلى التلة مرة أخرى"!!
أشار إليها، يسألها عن الكدمة، لوّحت بيدها، أن ابتعد، رأى دموعها
مطراً رمادياً يهطل من سماء مجروحة.. أقسم أنه رأى تلك الدموع كما الجداول
على عنقها.. وأقسم آنذاك أن ينتقم لها!!
ضحك.. حين تذكر أنه رمى والدها بحجر طيب وشاطر، حين حاول الإمساك به،
حجر صلب طار من يده الصغيرة، بعزم وثبات، وكأنه يعرف أين يستقر، نظر إلى
أبيها لحظة.. كان خيط دماء ينبعث من جبينه، ثم أطلق ساقيه للريح!!
وأطلق لنفسه عنان الترحال، إلا أنه حمل ذاك القسم في أعماقه.. وظل
يكبر معه..
قال لها:
"لا يوجد امرأة في العالم أكثر إثارة منك.. إلا أنني أحب جميع
النساء"!!
أشعلت سيجارة.. وتأملت قسماته التي تعبق برائحة الماضي.. وهذا
المساء الفاتن.. قالت دون عتاب:
"ثلاثون سنة.. لم أسمع صوتك، خلتك ميتاً"!!
"اللعنة!! أنا لا أموت.. ما زال لي ثأر عند العالم"!!
وبعد برهة صمت.. قال:
"كنت أسمع صوتك كل غروب.. كل روابي العالم تحمل مخابئ للحب..
والطفولة!!
وكل نساء الأرض يحملن كنوزاً وهدايا.. لا كنز فيها يشبه الآخر..
ولكل هدية طعمها الخاص"!!
نظرت إليه.. كان يتحدث نفس النبرة.. ونفس البهجة التي تنبعث من
روحه، حين كان يلتقط نبتة برّية أو يرى فراشة غريبة.. أو يفتح طيّة بيضاء
تفوح منها رائحة السحر.. بين يديه!!
كان يجري نحوها، كما المُهر، ليريها حشرة سوداء اللون لا تدري كيف
التقطها.. وكأنه كان يخلق كل هذه الأشياء.. كان يرسم العالم ويلونه
بالرغبات والأماني.
(كم كنت عاشقاً)!!
قالتها مع دخان سجائرها المتطاير من بين شفتين ناضجتين.. لامرأة
اكتملت فتنتها. مد يده نحوها.. التقط أنامل ما زالت تنبعث منها رائحة رفقة
الجسد.. وتوّحد الحلم الذي ينساب جداول من العسل، وأسراباً من النحل
والطيور المهاجرة.. في أسفل التلة نزعت حذاءها ذا الكعب العالي، عن أقدام
طفلة تُجاري شقاوة طفل..لا يكبر!!
كان جسد المرأة الممتلئ، يتحوّل إلى فراشة تحلق عبر صخور التلة..
ومنحدراتها القاسية..
وكانت أقدامه تتقافز مجنونةً وراء الجسد الأربعيني المتعرّق بأنوثة
مراهقة شقية، ما زالت تكشف عن بريق الكون ودهشته.. حين يداعب الريح فستانها
القصير.. تنساب عيناه اللتان، منذ الولادة الأولى، تختلسان النظر إلى تلك
الأسرار البيضاء الحالمة..
كان رأسه يمتلئ بضجيج السحر الغامض، وهو يصعد بفرح القديسين
وإيمانهم، خلف فراشته الملوّنة ..
أضيفت في
01/01/2006 / خاص القصة السوريةعن
طريق الكاتب
النافذة..
كنت أتسلل من بين الأجساد، المتلاصقة والمزدحمة، لأصل إلى النافذة!! جميع
العيون تتزاحم للنظر.. والامتداد. شوارع نظيفة.. وأنيقة، شوارع قذرة..
وعابثة، أبنية وشرفات.. أرتال من السيارات المتزاحمة لتصل إلى مكان ما..
أيّ مكان!! كل الأمكنة متشابهة وتحمل طعم الهواء نفسه.. أرصفةٌ لا تنتهي،
وأشجار قبيحة ترتفع بحماقة عن الأرض المستسلمة للأقدام الهاربة نحو (مجهول
أليف).. حاويات قمامة.. ولافتات مغبّرة.. وعسكر. تلامذة المدارس بملابسهم
المتشابهة، ذات اللون الواحد.. وضوضاء حقائبهم ينبعث منها ضجيج الدرس
والملل والفوضى والشغب.. والحلم. ونساء.. كل النساء!! كل أنثى عبر تلك
النافذة يتراقص بين ساقيها صندوق الدنيا.. بعصافيره وأراكوزاته.. وعوالمه
الملوَّنة!! "كل أنثى تحمل مخيلتي!!" قالها وهو ينفث دخان سيجارته عبر
النافذة التي تفصله عن الحياة!! نظرت إليه ساهماً.. فأردف: "هل ترى
الحياة.. النساء!! كل امرأة في العالم لديها تُفاحةٌ تتراقص أحلامي على
حوافها.. ويسيل قلبي عبر دهاليزها الساحرة". إنه ما انفك يبعث برسائله عبر
القضبان الأربع.. إلى كل نساء العالم!! انبعث صوت أجشٌ وحازم: "أطفئ
السيجارة يا تيس.. اختنقنا!!" انتبه نحو الصوت وابتسم لتلك اللحية
الرقطاء.. ذات العينين الملونتين والأصابع الغليظة.. ترك سيجارته تسقط من
يده، فركها بقدمه بحنق صامت وهو يكاد يختنق من غرفة متحركة ومزدحمة ببضائعَ
بشرية، ونافذة واحدة بأربعة قضبان قصيرة.. ولا يدخن؟! "اللعنة على تلك
اللحية!!" خرجت من بين أسنانه.. كاظماً غيظه بها وكأنها تخرج من روحه
المتفحمة.. اقترب برأسه من زاوية النافذة وأخذ نفساً عميقاً.. وهو يتأمل
الأرصفة المتشابهة.. "قذارة.. قذارة الخارج أشد من قذارة الداخل" وانكفأ
نحو الأجساد المتلاصقة، والتي يجمعها (جنزير) طويل.. سلسلة من المعدن
الحار.. أيد متشابكة وروائح عرق تنبعث من جيفةٍ اختنقت في زاوية مظلمة
ورطبة.. دون أن تثير اهتمام الأقدام العابرة.. "إنه آب اللهّاب" قالها جسد
ما!! "يقولون في آب.. يذوب المسمار على الباب" رد عليه جسد آخر. "ضَع حذاءً
بفمك أنت وهو.. نكاد نموت من الحرارة دون سماع هذا النعيق" قالتها اللحية
الرقطاء كعادتها.. بحزم ووضوح!! "
اللعنة.. على تلك اللحية" عاد وقالها هامساً مرةً أخرى.. إذ ما زالت غصّة
السيجارة تعبث في قلبه.. سحب أحد الأجساد نفسه نحو النافذة، حتى أصبح رأسه
ملاصقاً لرأسي سألني: "كيف تصل إلى النافذة في كل مرة؟!" "صه.. اخفض
صوتك.." وأشرت له إلى يدي.. كانت بلا قيد!! "عفارم عليك" قالها وهو يبتسم
بتواطؤ مع حيلتي السرية على ذاك الجنزير الأحمق!! لطالما ترك الجنزير في
روحي نُدباً وجراحاً.. أعمق من تلك التي يتركها في معصمي!!
كنت أشعر أننا سبايا.. زنوج مخطوفون.. أو خراف للذبح!! "أسرى رومانيون"
قالها أحدهم ذات يوم بعد أن رأى قطرة دم متخثرة على معصمه.. كنت أُدخل
دبوساً وأحركه بهدوء شديد، وأتابع صوته مع تلك (الحبسة) المعدنية حتى يلتقط
(المسنن).. وآنذاك أحرر روحي!! دائماً كانت النافذة أمنية.. تظل مخيلتي
تبرق وتشتعل حتى أصل إلى تلك القضبان الأربع!! لتبدأ متعة النظر وهو يتحرق
إثارة وعذاب في شوارع تلك العاصمة الكبيرة.. لماذا يجعلون السجون دائماً في
مناطق نائيةٍ وموحشة؟! "إنه تقليد أخذه أحمق ذات يوم عن الجان!! ألم تحدّثك
جدتك البائسة عن سجن الأميرة في قصر مسحور.. أو قلعة خارج الزمن؟!"
قال آخر: "أنت لا تساوي كعب حذاء أميرة.. قصر مسحور يا مؤخرتي!! الآن تصل
إلى كهف يعجّ بالضباع" تململ جسد مثقف وقال: "إنه تقليد أُخذ عن مصاصي
الدماء.. الكونت دراكولا!!" سيارة صغيرة، ذات لون أرجواني يلوح منها شبح
أنثى كانت تسير ببطء وسط زحام الشارع العريض واختناق حركة المرور.. ذاك
الاختناق الجميل الذي اخترعه مبدعٌ خارج حدود المألوف!! "ببطء أيها الطابور
المعدني" قلتها متوسلاً عبر النافذة.. السيارة الأرجوانية تبرق تحت أشعة
الشمس المنصبَّة من سماء محترقة، عيناي تعانقان شعراً متعرقاً ومرفوعاً إلى
الأعلى، عن نحر ينساب كما الذهب.. همس جسد مثقف "حين اخترعوا السجن.. كانوا
قد حبسوا كلباً في غرفة مغلقة دون طعام أو شراب.. وحين فتحوا بابها كانوا
يحملون قطعاً شهيةً من اللحم .. نظر الكلب لحظة عبر الباب.. ولحظة نحو
اللحم الشهي.. آلام معدته الجائعة تجعل لعابه يسيل نحو الأرض.. لحظة أخرى..
وكانت أقدامه تسابق الريح نحو ضوء الشمس والمساحات الواسعة!!"
أجابه الآخر: "للكلب حاسة شم خارقة.. يشم رائحة الحرية من مئات الأميال!!
هل ما زال لديك شيء كهذا"؟!! اللون الأرجواني ما زال يتراقص في الشارع
العريض.. "ببطء.. أيها الطابور العظيم.. بحق الملائكة ببطء" كان قلبي
يقولها مستغيثاً بضرباته الايقاعية التي تتسارع لهفةً وعنفاً.. مثل طبول
أفريقية بدائية!! الشعر المعقوص نحو الأعلى يقترب من النافذة.. وعيناي
تعبثان بالنحر الذي تحوّل إلى نهر أسطوري يقود مخيلتي نحو بحيرةٍ من
الحُلم.. والسحر، الطبول الأفريقية تتصاعد إيقاعاتها مع الأقدام المجنونة
واللحم المنحوت من العاج الصاخب الذي يستحم تحت مطر أفريقي مفترس..
همس أحدهم: "كان في قفص الجنايات سبعٌ وخمسون متهماً اليوم.. صعد القاضي
إلى القوس في الساعة الحادية عشرة.. وهبط في الواحدة.. كانت سبعة وخمسون
قضية قد بُتَّ فيها!!" أجابه الذي بجانبه: "سبعة وخمسون قضية في ساعتين؟!
كل قضية دقيقتان!!" "اللعنة.. هؤلاء الأوغاد!! كُلّه تأجيل.. هل تتخيل أن
يؤجل أحدهم حياتك؟!" الشعر المتعرق ينظر نحو النافذة.. أنثى تبتسم بحب
لشاحنة نقل السجناء!! لمعةُ برق في كبد السماء التي ألقت بغيومها دفعة
واحدة.. لتغلّف بها الكون في لحظة استثنائية!! عينان تقطران أنوثة، توزعان
الهدايا وأكياس الشوكولا وقطع السكر.. والحلم. همس جسد متألم "يطلبون
شاهداً منذ سنة.. وكل مرة يؤجلون براءتي لأن الشاهد لم يحضر!!" "ولماذا لا
يحضر هذا الشاهد النذل؟!" "الشاهد ليس نذلاً.. إنه لا يحضر لأنه متوف ٍ!!"
ما زالت عيناها تنظران بحب.. واستغاثات روحي تملأ الكون غربةً.. وإيقاع
طبول الرغبة يملأ المدينة ضجيجاً. استهوتها تلك اللعبة!! عيناي المرسومتان
بين القضبان تحجرت نظراتهما نحو العنق الذهبي.. تلامسانه كما الفراشات حين
تلامس ضوءً لتحترق!! أصبحت قريبة جداً.. لا يفصلني عنها سوى عدة أمتار
حمقاء وباردة ومستعصية بلؤم.. ابتسامة أثيرة ترتسم على ثغرها الواسع
وشفتيها الممتلئتين بالحياة. اللحية الرقطاء تنتهر (مثقفين) اختلفا على
سيادة القانون.. أم قانون السيادة!! "يلعن أبوك.. على أبو القانون وأبو
السيادة.. احترقنا!!" كنت أرى "تنورتها" التي تغطي ساقيها.. تلك التنورة
الحمقاء هل تعرف أين تسترخي.. ماذا لو كان المرء "تنورة"؟! يحتضن كل تلك
الفتنة والسحر.. معبر الحياة!! "يا ابن.. أبعد رأسك عن النافذة، نريد أن
نتنفس" اللحية الرقطاء تنفخ كما "الحنش" الهائج. حركت ساقيها قليلاً.. كان
الصمت يسود العالم.. والطابور العظيم قد توّقف بوجل وحذر.. حتى أبواق
السيارات هجعت متهيّبة.. ثغرها الواسع انفرج عن ضحكةٍ بحجم السماء، ودون أن
تنظر إلى النافذة أزاحت تنورتها نحو الأعلى وكشفت عن بياض نادر.. كومة من
الحلم الوردي المسافر نحو الغيب.. باقة من الأمنيات والفرح والدهشة قدمتها
تلك الأنامل السحرية بعطاء القديسين وكرم إيمانهم لرجل من عالم منسي ومظلم
وكافر.. تحوّلت عنده الحياة إلى.. ساق امرأة!! "أيتها القديسة.." انبعثت من
أعماق روحي وهي تخبئ في ثناياها كومة الحلم.. وهدية السماء الطيبة.. كانت
روحي تطوي ذاك البياض بأوراق حريرية شفافة، دون أن تلامسه مخافة أن تترك
عليه بصمة معدنيةً بلهاء."أبعد رأسك القذر عن النافذة" كان (الجنزير) يمنع
اللحية الرقطاء عن الحركة.. إلا أن فحيحه يهدر مع ارتفاع حرارة المعدن
المتنقل. الطابور العظيم تقدم بطيئاً.. وعيناي ما زالتا تلتقطان ذاك البياض
بخشوع وخوف.. كما صلاة العذارى والأطفال.. أصوات الأبواق ترتفع.. والفم
الواسع ينفرج عن قلب يقطنه أنبياء الرحمة والحب.. وعبر الزجاج كانت هناك
أنامل قدسية ترتفع مودعة.. بعد أن نثرت على الكون غلالة خضراء مزينة برائحة
القرنفل والحبق وعبق زهرة الخشخاش. تلاشى صوت الطبول الأفريقية.. وغاب
اللحم البرونزي المتعرق داخل البذلة "المقلمة" بالأزرق والأبيض.. اللحية
الرقطاء تحصد العيون المنكسرة، والآهات الغامضة، ووحوش العتمة. أصواتٌ
مبهمة تنبعث مثل الهمهمة من صدور تتآكل بفعل الصدأ.. وسحل الرغبة.. والحلم.
كانت حرارة (الجنزير) قد ارتفعت، وبدأت تحز بقسوة على الأيدي المستسلمة..
والغرفة المعدنية القاتمة، كجثةٍ مشوّهة.. تحوّلت جدرانها آنذاك إلى غرف
لحرق الصلصال.. والأجساد الكاسدة!!
الجـنـرال!!
كل صباح أذهب إلى الجريدة ، بأقدام متثاقلة تجر خلفها روحي.. عبر شوارع
عريضة و أزقة ضيقة تخترق جسد المدينة العريقة ..وأحزانها . أصنع قهوتي
بنفسي و حملها عبر صف طويل من الغرف المتشابهة.. أجلس في مكتبي الضيق أتأمل
ركام العالم .. أوراق نعي ، وأشباح خراب ووجوه قبيحة ..(بورصة) ورايات
متقاطعة و شعوب تسعى خيوط نمل طويلة ..(بانوراما) موحدة لعالمٍ يسير بخطاً
حثيثة نحو (طروادة) الحزينة .
صورة كبيرة للجنرال .. عابسـاً و متأملاً !! أسمع جرس (المكتب الكبير)
فأهرول مرتجفاً نحو قاعة الإعدام .. ينزع صفارته من بين شفتيه , ويضع
هراوته فوق مكتبه الفخم .. يسألني مبتسماً عن زوجتي و أطفالي , ثم يطمئن عن
صحة أمي العجوز .. وإن كنت قد أخذت القطة الصغيرة إلى (مركز الرعاية)
لإعطائها اللقاحات .. أطمئنه أن كل شيء على ما يرام .. يحمد الله و يشكره
على نعمه و بركاته , ثم يردف بلهجة "مثقفة" مسؤولة : ماذا فعلت اليوم ؟!
أبحث في جيوب صدري , وأقدم له قصيدةً .. رفضت أن تنتحر !! يلتقطها بأصابعه
الغليظة محدقاً بجسدها الناعم و قد ضاقت ملامحه و انكمشت أساريره .. في
حين كانت القصيدة تتلوى بين يديه بصمت . ينزع عنها أرديتها الصوفية
المتداخلة بصنارة تعشق خيوط الغيب .. وخيوط الرغبة الغامضة , تلك الخيوط
التي تحير صفارته و أصابعه الغليظة . ينظر خلفه بوجل و هيبة نحو صورة
الجنرال العابس .. المتأمل على الدوام !! ثم ينقل نظره نحوي ساخراً من
دهشتي و قشعريرة روحي!! تصطك أقدامي أمام ارتجاف القصيدة و هي شبه عارية..
ترتعش أطرافها الرقيقة , خجلاً و خوفاً , وقد تحوّلت إلى طفلة يركض دمها ..
ولا يصل . يمد يده و يمزق شفافها الأبيض.. لا يلبث أن يفض كلماتها بنشوة
وظفر , ويرميها في سلة المهملات .. وقد فقدت عذريتها . يضع صفارته في فمه ,
ويهر بهراوته البلهاء .. تتراكض نساؤه نحوي , ويمتلىء جسدي بشتى العطور
الرخيصة و (الدانتيلات) المضمخة بأحمر الشفاه السميك . ترشح أوراقي آنذاك
قطرات من العرق الأسود .. تسـير فوق الصفحات حروفاً نشيطة و لامعة .. نحـو
قـلاع (طروادة) . أغادر مكتبي , مع الصفارة الأخيرة , مكللاً بنظرات
الصورة الكبيرة وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة أبوية مطمئنـــة !!
ذاكرة ..
قال له النادل بعينين ناعستين هزمهما النوم والملل: "أقفلت الأعراس
أحزانها.. فامض"!! نظر إليه بعيون ثملة..تحلق مع فراشات الليل.. "ما زال
ضوء النهار بعيداً.." لملم أصابعه عن الطاولة وحشرها في جيوبه.. وشرب ما
تبقى في كأسه من عصر سحيق.. حمل ذاكرته المكوّمة في لفافة ورق قديم.. ومضى
يمضغ سيجارته بين الأزقة الخاوية.. قدماه وقطط شاردة بعيون دائرية.. ومواء
رغبات متوحشة.. فتح لفافته وراح يرسم ذاكرته على الجدران.. فرشحت غربة
وقضبان.. وصراخ أحلام في لحظة احتضار.. كان الشارع يسير بأقدامه.. ويعرض له
صور من رحلوا.. ومن ماتوا.. كلهم شهداء هوىً.. وقضية.. كان الشهداء ينبتون
من بلاط الأرصفة، وأعمدة النور الباهت.. ومواء القطط المزواجة في ليالي
البرد.. سقط إصبع من جيبه، فنهض شهيد من موته وناوله إياه.. بتحية الصباح
المملة.. نزفت أعراس النادل من عينيه، فسقط نظره وأصبحت الدنيا جناح غراب
أسود.. فنهض شهيدٌ آخرٌ .. حملها بروحه وأعادها إلى العينين.. فعاد النظر
يشتعل حزناً.. ورغبات!! طرق باباً خشبياً، تسيل على جوانبه أنات أنثى..
وحنين جسد متعرق.. فتحت له امرأة ناهدة.. بعينيها الذابلتين راقصت روحه
المترنحة أنغاماً بعيدةً.. تعلق بنهديها، نبع حياة ورغبة.. وأغمض عينيه
لينام.. كان الشهداء مكومين على النوافذ.. أرواحاً هائمةً.. وعيوناً
يجتاحها الشوق لرائحة امرأة بين ذراعي رجل. سحب رغبته غير المكتملة وجرّها
بأقدامه.. نحو الأرصفة الخاوية.. ومضى يرسم ذاكرته على الجدران!! رأى
عاطفته تسبح في نهاية الزقاق.. وتراقص أضغاث حلم ملوّن.. مراهقةٌ بيضاء
تعانق الألوان الساحرة بفرح نادر.. وعتيق.
أصوات أقدام ثقيلة وقرقعة جنازير.. قبض عليها شرطي بائس وهو يدعك عيوناً،
أزعج تثاؤبها، حنين عاطفة إلى الضوء.. واقتادها من شعرها الأسود الطويل..
تكوّم في أسفل الجدار.. صامتاً. نظر إليه الشرطي، وألقى عليه تحية الصباح
المملة.. نهض وجمع ذاكرته عن الجدران.. أعادها إلى لفافة الورق القديم
ورماها في حاوية القمامة.. ومضت أقدامه ثكلى.. تنتعل جسده ببؤس نحو ضوء
النهار.
أبو محلوقة..*
لم يكن يدري من أين أتاه هذا اللقب (أبو محلوقة)!!
هو يحب مدينته وحجارتها السوداء حتى العظم..
وفي لحيته الكثة يختزن أحزان فقراء تلك المدينة الريفية وهمومهم..
يختزن غبار الأرصفة الحبيبة ورائحة خبزها ودوابها.
قرأ أشياء عن (الثورة ال! عالمية) وأشياء عن (البروليتاريا)..
أحب كوبا وموسكو حتى العبادة.. وانتظر مهللاً لأفق أحمر.. ومناجل
ومطارق وغدٍ يحمل له خبزاً وحرية.
لكن لقب (أبو محلوقة) يعكر عليه حبه للأشياء الحمراء.. والحلم
الأحمر!!
وأغلب الظن أن لقب (أبو محلوقة) كان يتعلق بلحية أبيه.. الذي لم يكن
يضبط (البارومتر) الحراري داخل سراويله، فيردعه (المشايخ) بتقليم لحيته
عقاباً له على زلاته و (ولدنته)!!.
طالما رفض الهجرة.. وعاند، مثل صخور بلاده أية فكرة للرحيل يوسوس له
بها أحد (البرجوازيين الصغار) هؤلاء (الشياطين الجبناء) و(الحشرات الطفيلية
على الثورة) كما يحب أن يسميهم.. ويردف باعتزاز: (هل سمعت يوماً أن صخرة قد
هاجرت من منبتها.. فقط الحساسين الضعيفة هي التي تهاجر)!!.
لم يكن يأبه لفقر وغلاء معيشة وانعدام فرص العمل.. وفرص الحياة.
إن الزخم النضالي والقطاع العام والمنظمات الشعبية و(التحولات
الثورية!!) نحو (التقدم والاشتراكية!!) كل ذلك كان يشعره بنشوة النصر
والارتياح.. ويعانق الجنرالات العظام بنياشينهم وأوسمتهم، وتتحول المدن
الرثة الثياب إلى (بطرسبورغ) و(سايغون) و(هافانا) وغالباً ما كانت يده تمتد
إلى لحيته باعتزاز فيلامس فيها لحية "كاسترو" الفدائي.. وينبع! ث من طياتها
الكثيفة رائحة "الفكر المناضل" عند لينين وستالين.. المشكلة فقط آنذاك هو
"أبو محلوقة" حين يخطر في باله هذا اللقب البغيض "الذي لا حول به ولا قوة "
ترتجف أصابعه وتبتعد عن ذقنه هاربة!!.
لم يكن لديه مشكلة إلا بهذا اللقب (اللعين)!!
فطالعه البرجي يتعلق بالمشتري.. كوكب الانتصارات وتحقيق الآمال
والطموحات.. وهذا سر من أسرار "أبو محلوقة" كان يملؤه ثقة بالمستقبل الثوري
للبلاد.. رغم أن ضميره كان يبكته من هذا الإيمان بالأبراج وبعض الغيبيات
ويجعله يشعر وكأنه يرتكب خيانة للمجلدات الحمراء والزرقاء المصفوفة على
رفوف غرفته الفقيرة..
وحين يقرأ شيئاً عن الأبراج كان ينظر إلى تلك المجلدات البراقة نظرة
خجل واستحياء من تلك اللحى المفكرة التي تركت هذه النصوص "الخالدة"!!، ولا
يلبث أن يخفي تلك النسخ القديمة من (الأبراج واعرف بختك وتنبؤات فلكية
وغيرها) داخل كرتونة قديمة قريبة من الأحذية.. ويرفع نظره آنذاك إلى
المجلدات التي زالت عنها تكشيرتها وغضبها منه وعادت منشرحة القسمات
والثنايا.
وحين تزوج "أبو محلوقة" كان (المشتري) يرقد بكل ثقله في بيت
أحلامه.. لم يقبل إلا زواجاً بروليتاريا (على سن ورمح) إنها تلميذته
النجيبة، كتلة حماس وثورة، مليئة بالرفض والعناد لكل ما يسميه عادات
وتقاليد موروثة. إنها "روزا" العرب بقامتها القصيرة، ووجهها الدائري
وعينيها اللتين تدوران بمحجريهما مثل عيون الصقر!!
(هكذا الرجل المبدئي.. لا يفصل بين حياته العامة والخاصة).
كعادته حدث نفسه منتشياً بهذا الإنجاز الأحمر.. رغماً عن الهمسات
(البرجوازية الصغيرة) حول سيقانها المربعة و(عنطزتها) عليه. ولسانها
السليط.
لكنها كما يقول الأعشاكوف بن قيسخوف:
هركولة فنق درم مرافقها كأن أخمصها بالشوك ينتعل
أحب قامتها القصيرة كما أحب سراويل "لينين" المنكمشة على الغسي! ل..
أما (عنطزتها) ولسانها السليط فهو سوط يلهب ظهر الإمبريالية والطبقات
الرجعية..!! وبئساً لسقراط حين قال (لا يُظلمُ قصير..).
كل الأشياء كانت تترك وقعاً طيباً في نفسه.. حياة منظمة وثورية
(اللبن غذاء كامل!!) واللعنة على كل الرفاه الغذائي طبقياً (الحمراء
الطويلة، أشرف من مارلبورو شيكاغو.. سيجارة!!).
(روزا العرب.. أحلى من ستين مادونا)
النضال.. الحس الشعبي.. التحرك الجماهيري.. البروليتاريا الوطنية..
القطاع العام.. الإرشاد الزراعي.. الارتباط بالثورة العالمية..).
هكذا الحياة وإلا فإنها لا تستحق أن تعاش!!
صحيح أن (زحل) يقترب من برجه وقريباً سيدخل بكل متاعبه وتعقيداته
وهزائمه ليرقد في بيته.. ولكن (كذب المنجمون ولو صدقوا).. وصحيح أن لقبه
اللعين يؤرقه.. فيترك في اللبن طعماً غير مستساغ.. وتغدو الحمراء الطويلة
رثة الصنع يتبعثر رمادها ذات اليمين وذات الشمال.. ومع روزا، يترك هذا
اللقب نشازاً عاطفياً وجمالياً، تصبح سيقانها قصيرة جداً.. وجسدها مدعبلاً
مثل (القفة) فضلاً عن أنها يحن ينتابها (العصبي) وتترك للسانها حرية (الإنمغاط)
فإنها تتحول بقدرة قادر من روزا العرب إلى (براقش) العرب والعياذ بالله،
ويهمهم قولاً ماثوراً (شرّكم أقربكم إلى الأرض) إن زُحل بدأ يفعل فعله!!.
وأولى الرؤى السوداء كانت حين حطموا له جدار برلين (هؤلاء المنحرفون
قومياً).. حطموا له قلبه وهو يرى الجدار يتهاوى على شاشات التلفزيون.. صرخ
من أعماقه (خونة.. شوفينيون)!! جدار برلين.. أين منه جدار الصين!! وتحطم!!.
وحين دب التفكك والضعضعة داخل (المنظومة) المدللة والمحببة إلى
قلبه. استعاذ بكل الآلهة من كوكب زحل (الله يجيرنا منه.. آه لو كان زحل
رجلاً لانتزعت قلبه بأظافري.. إنه يخرب العالم)!!.
وحين بدأ الجنرالات العظام يتحدثون بلهجة أممهم ومصالحها القومية
شعر بالخيانة أيضاً (إن الجنرالات يخضعون لتأثير زحل.. أمر لا شك فيه..
ويخونون أسلافهم العظام إنهم يخونون (أبو محلوقة) شخصياً!!.
(إن الثورة في حالة ارتداد) هكذا همهم بعد أن لعن أخت وأم (زحل)..
أين آماله العريضة؟! أين التغيير الذي يحلم به.. بل أين القطاع العام..
والمنظمات الشعبية.. ولماذا يرى الشارع جائعاً تعلوه قيم الانتهازية
والاستهلاك والرغبة في النوم؟!..
إن (زحل) يجعل من التخلف كائناً عملاقاً يتقدم نحو العصر والحضارة
والثورة.. يتقدم وهو يحمل معه كل (عفنة القديم) بقمعه وجهله ومحاكم التفتيش
القيصرية.. ويسحق في طريقه كل (اليوتوبيات) التي تكوّنت تاريخياً منارات
للتقدم والتغيير.. فضلاً عن "روزا" التي أصبحت متطلبة مع تأثيرات (زحل)
اللئيمة..
أصبحت تنتهره كثيراً حتى أنها بدأت تسخر من مبادئه (المشرشحة)
وأفكاره (المرقعة) ونضالاته (النورية) وحين ضاقت بإيجار البيت المتراكم
ومشكلة أصحاب (الدكاكين) الذين وحدوا جهودهم وركزوا مراقبتهم على الطرق
الملتوية التي يسلكها "أبو محلوقة" و"روزا" للوصول إلى منزلهما بعيداً عن
عيونهم، وحين لم تعد تجدي معها كل الحيل التي يستخدمها "أبو محلوقة" لتزجية
الوقت من (طرنيب كبة) وأحلام بكنز دفين.. فضلاً عن (البروليتاريا) والثورة
التي (تهل) بشائرها!! كل ذلك لم يعد يجدي مع "روزا".. إن نجمها الخفيف يجعل
منها لقمة سهلة بي فكي (زحل) هكذا همس لنفسه معزياً.
ولكن (الجوع أبو الكفار) فحين أضحت معدتها خاوية.. تحولت آنذاك إلى
قطة تعض وتخمش.
كان "أبو محلوقة" يرى كل ذلك ويعض على جرحه.. لكنه ما زال يلعن
الإمبريالية والارتداد الثوري وبالطبع! (الطامة الكبرى) زحل.. وحين أتاها
بكيس (اللبن) على أنه الغذاء الكامل..
لم تتورع عن (بصقه) واسعة من فمها الفضفاض ملأت له ذقنه.. امتدت يده
إلى لحيته مذعوراً.. تلك اللحية التي لم تعد تشبه لحية (كاسترو) أبداً..
مسحها بقلبه.. وانهمرت دمعة كبيرة من عينيه.. هو الذي لم يهزمه الفقر ولا
العوز.. لم يركع لمركز شرطة أو غيره.. هو الذي قضى سنين عمره مكافحاً، يأتي
عليه اليوم الذي لم يعد يعرف فيه نفسه.. أفكاره.. مبادئه.. الناس الذين
أحبهم.. روزا تبصق عليه!!
إذاً ماذا ستفعل معه الإمبريالية؟!.. إن زحل عميل إمبريالي.. مؤامرة
فلكية إمبريالية.. تتعلق بخلو المسار لتضرب الإمبريالية آنذاك البلدان
الضعيفة وتقضي على أي مخاض ثوري اشتراكي.. (آه.. وألف آه من زحل!!).
*((القصة
الفائزة بالمركز الأول في مهرجان المزرعة الأدبي والفني في سوريا _2002))
|