النَّقْد التَّطْبيقي للقصَّة القصيرة في
سوريَّة
بقلم الكاتب:
د. عادل الفريجات*
مُقدِّمة
كتابي هذا دراسات تطبيقية في القصة السورية القصيرة، وقفت فيه عند
أربع عشرة مجموعة لأكثر من أربعة عشر قاصاً من أجيال مختلفة، فبعضهم ينتمي
إلى سن الشباب وبعضهم إلى سن الكهولة وبعضهم إلى سن الشيخوخة. وقد درست لكل
منهم مجموعة قصصية واحدة من إنتاجه، دون إغفالٍ لمجمل إنتاجه الآخر.
والمجموعات القصصية المدروسة هنا تتراوح تواريخ صدورها ما بين عامي
1989 و2001. وقد تخلل دراساتي هذه وقفتان عند مجموعتين، جماعيتي التأليف،
هما: "جنوب القصة السورية" وتضم عشرين قصة قصيرة لعشرة قاصين من محافظة
درعا. و"بروق" وتضم مئة قصة قصيرة جداً، لعشرين قاصاً سورياً. أما عدد
القصص التي دُرست في المجموعات كلها، فيربو على (350) قصة، ما بين قصة
قصيرة عادية، وقصة قصيرة جداً، هذا عدا وقفتي عند سمات الإبداع القصصي
للمرحوم (أديب نحوي) في آخر دراسة لي هنا.
وقد وقع اختياري- غالباً- على المجموعة الأخيرة للكاتب، لأن العمل
الأخير للمؤلف يمثل، على الأرجح، نضج التجربة، واكتمال التكون، وامتلاك
الميسم الفني الخاص بالمبدع، أو ينم على متابعة تعميقه، إنْ وُجد له ميسم
خاص به.
ومن الملاحظ أن المجموعات المدروسة قد تباينت من حيث جهات إصدارها،
فأربع منها صدرت عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق هي: اللصوص وعروس البحر،
لرياض نصور، والعودة إلى البحر، لأحمد زياد محبك، والترجل عن صهوة الخوف،
لزكريا شريقي، وبوح الزمن الأخير، لحنان درويش. وثلاث منها صدرت عن وزارة
الثقافة بدمشق هي: الحياة والغربة وما إليها، لوليد إخلاصي، وأحلام عامل
المطبعة، لمروان المصري، والخيول المسافرة، لجرجس حوراني. وثلاث منها صدرت
عن دور نشر خاصة هي: الحصار، لإبراهيم خريط، وجنوب القصة السورية، والنبع
الكبير للطف الله حيدر. واثنتان كان إصدارهما إصداراً خاصاً هما: همهمات
ذاكرة لأحمد جاسم الحسين، وبروق. وكانت المجموعة الوحيدة الصادرة في بيروت
هي الحصار، لزكريا تامر.
وكان من بين المجموعات ما كونته قصص قصيرة جداً، كمجموعة الحصرم، في
قسمها الأعظم، وأحلام عامل المطبعة، وهمهمات ذاكرة، وبروق. ووقفتي عند هذه
المجموعات تكشف عن موقفي من هذا النوع الحكائي الجديد القديم،الذي كثر
الجدل حوله في الآونة الأخيرة.
وواضح أن التنظير قليل، بل نادر، في كتابي هذا، وذلك لأنني أعتقد أن
الغرض الأهم للتنظير النقدي يرمي، في قسم كبير منه، إلى الوصول إلى نقد
تطبيقي موفق ومقنع للآثار الفنية، علماً بأن التطبيقات النقدية على الآثار
الفنية تعود هي بدورها لتسهم في توسيع آفاق النظرية النقدية، والمفاهيم
الأدبية على حد سواء.
وفي ضوء ما قمت به من جهد هنا، أزعم أنني حاولت، قدر الممكن، الكشف
عن هواجس القصاصين الذين درست إنتاجهم، وعن رؤاهم الفكرية والاجتماعية
والسياسية، نائياً بتحليلي عن أن تكون ممارستي للنقد الأدبي لعبة شكلية
صِرْفة.بيد أن إيماني بتضافر عنصري البنية والفحوى، أو الشكل والمضمون في
العمل الفني، لم يدعني أتخلى عن التلبث عند البنى الفنية للقصص التي
درستها، سواء أَكان الشأن يتصل باستنباط سمات عامة لبعض المجموعات، أمْ
بوقفة متأنية عند قصة واحدة اخترتها لتكون نموذجاً للتحليل والتفكيك
والإضاءة.
ولما كانت القصة القصيرة ذات طبيعة مرنة مطواعة تتخذ أكثر من شكل
للبناء والصياغة، فقد نوعتُ في طرقي للتأتي إليها وتحليلها، ورسم اتجاه
البوصلة الذي تخطه للإشارة إلى شمالها.
وبعد، فإن هذا الإسهام المتواضع في النقد التطبيقي قد يمثِّل إضافة
من الإضافات النقدية المتصلة بنقد القصة القصيرة في سورية، يكمل ما
سَبَقَهُ من جهود نقاد آخرين، ويصنع حلقة من حلقات تطوُّر النقد التطبيقي
لهذا الفن الجميل، الذي راح كتابه السوريون يتزايدون بوضوح منذ بدايته في
قطرنا في ثلاثينيات القرن العشرين، مما يرتب على النقاد متابعته بروح من
المسؤولية المنتظرة، والجدية المتوخَّاة.
دمشق في 12/12/2001د.عادل الفريجات
تمهيد
القصة القصيرة:
مفاهيم وعناصر
القصة القصيرة جنس أدبي عريق وتليد في التراث العربي والإنساني.
وربما يرجع تاريخه إلى ما قبل عهد السومريين الذين وجدوا قبل الميلاد
بثلاثة آلاف سنة ونيف. فمنذ وعى الإنسان ذاته، واحتاج إلى الاتصال بغيره،
سرد وروى، وأشرك غيره في معرفة ما جرى له ولغيره من بني جنسه.
ومنذ أن اكتشف قدراته على الابتكار الأدبي أنشأ القصة، وأبدع
الحكايات، فنقل الوقائع، وحور فيها، واختلق الأحداث وأحكم نسجها، متفنناً
في حوار الناس الذين صنعوها، واقعيين كانوا أم غير واقعيين.
وقد تفاوت الناس في حذقهم لفن السرد وطرائق القص. ومن هنا كان لكل
فرد سردياته، ونصيبها من النجاح أو الإخفاق، ومن الجذب أو الإملال، ومن
الإيحاء أو المباشرة، ومن الإيجاز أو الإطناب. وربما كان القاصون الموهوبون
هم أكثر الناس عناية وإتقاناً لفن السرد وسحر القص.
وقد كان للقص سلطان قوي على الإنسان، طفلاً ويافعاً وكهلاً وشيخاً،
فهو يستهوي الناس في كل الأعمار، وخاصة في عهد الطفولة، وذلك لما فيه من
إيهام وإمتاع، ومن قدرة على تنشيط المخيلة، ومن طاقة على الإيحاء بفكرة، أو
إيصال عبرة، أو تصوير حالة، ومن طبيعة في اختزال الزمن، والخلوص إلى نتيجة.
والإمتاع اليوم، كما في الأمس، شرط أساسي من شروط القصة القصيرة،
فهو القادر على امتلاك المتلقي، سامعاً كان أم قارئاً، وشده وجذبه كي لا
يزوَّر عما بين يديه من كلام أو سطور، يتوخى منها أن تكون منسوجة نسجاً
خاصاً يجعل منها جنساً أدبياً حائزاً جمالية أو أكثر، من جماليات الأدب
عامة، والقصة خاصة.
ويقتضي الموقف أن نشير إلى أن السرديات عامة نوعان: نوع يؤتى به
للتسلية فقط، كالقصص البوليسية أو السير الشعبية، ونوع من السرديات التي
تحتقب إمكانات للتفسير متعددة. وهو النوع الذي آلت إليه القصة القصيرة
الفنيَّة، بطبيعتها وعناصرها المختلفة، مبتعدة عن أن تكون مايشبه ضبطاً
يحرره الكاتب بالعدل، أو شرطي المرور، إثر حادث من الحوادث.
وقد نُظِرَ إلى طبيعة القصة القصيرة ذات يوم على أنها فن قولي أو
كتابي يقوم على حدث، ويتخلله وصف يطول أو يقصر، وقد يشوبه حوار أو لا
يشوبه، ويبرز فيه شخصية أو أكثر، محورية أو ثانوية، تنهض بالحدث أو ينهض
بها الحدث، والحدث له بيئة خاصة، وله سياق ثقافي واجتماعي وسياسي، لا مناص
للكاتب من أن يعيه ويستوعب تفاصيله وآدابه وتقاليده. ويرمي ذلك كله إلى ترك
انطباع واحد في نفس السامع أو القارئ، دونما شَطْح إلى ما يشتت أو يبعثر...
ولهذا لا تتعدد الشخصيات في القصة القصيرة ولا الأزمنة ولا الأصوات، إلا في
حدود ضيقة. وإذا كانت الرواية تصور النهر من المنبع إلى المصب، فإن القصة
القصيرة تصور دوامة واحدة من سطح النهر، فهي تعزف عن تقديم حالة كاملة
لقرية أو عائلة أو شخصية، مكتفية بلقطة أو موقف قصير أو لحظة مختزلة
مأزومة، لتقدم فكرة أو عبرة أو إحساساً، أو لتعزز موقفاً خلقياً يحسن أن
يَتَخَفَّى ولا يختفي، وأن يصور ولا يقرر، وأن يجسد ولا يجرد، فالمباشرة
الصريحة، والتقريرية الفجة، والوعظ الصارخ، تضعف نسيج القصة، وتهلهل
بناءها، وتصدع دعائمها، وقد تؤول إلى خلْط ما بين القصة القصيرة، وغيرها من
الأشكال السردية الأخرى.
وقد مَيَّزَ الدارسون اليوم ما بين القصة القصيرة الفنية بوصفها
جنساً سردياً، وأشكال سردية أخرى، كالأسطورة والخرافة والطرفة والمثل
والرسالة والمعجزة والحكايات المثيرة وسير القديسين... وفي تراثنا نماذج
سردية تقترب من القصة القصيرة وتشبهها، مثل تكاذيب الأعراب وقصص الحيوان
وفن الخبر وقصص الأحلام وقصص الأمثال وقصص الرحلات...
ونقع في كتاب "القصة القصيرة- النظرية والتقنية"، لإمبرت، على أشكال
من السرد تشبه القصة، ولكنها ليست هي، ومن تلك الأشكال:
1-مقال التقاليد: وهو نوع يقع بين علم الاجتماع والخيال، وبه يتم
رسم لوحات تتضمن مشاهد أصلية مأخوذة من الحياة.
2-لوحات الأخلاق: وهي نوع يقف بين علم النفس والخيال، كأن تعرض
أمامنا أخلاق جندي أو شاعر أو صعلوك أو إنسان طيب أو شرير.
3-الخبر: ويقف بين الصحافة والخيال، ومن خلاله نعرف أحداثاً
غير عادية وقعت في مسيرة الحياة اليومية.
4-الخرافة: وتقع بين الدين والخيال، والغرض منها تفسير أصل
الكون بمشاركة كائنات غامضة.
5-الأسطورة: وتقف بين التاريخ والخيال، فهي قصة غير حقيقية، وتعالج
أموراً غير مألوفة وغير متسقة مع القواعد العامة.
6-الأمثال: ويقع المثل بين التعليم والخيال، وأحياناً يقرأ
المثل على أنه عمل أدبي. والسمات الخاصة بين الشخصيات هي الفيصل بين القصة
والمثل، فحين تكون السمات فردية نكون في نطاق الأدب، وحين تكون ذات طبيعة
عامة نكون في إطار التعليم.
7-الطرفة: والطرفة قريبة من القصة القصيرة جداً، ولكن الطرفة
قد تتوقف عند مجرد سرد حدث خارجي، دون محاولة لفهم شخصية البطل ودوافعه
النفسية، ففي الطرفة يروي المرء ولا يحكي، ولا يحدث جمالية من أي نوع. أما
في القصة القصيرة فيفترض وجود حدث مختلق أكثر من الأول، ونسبة الخيال فيه
أكثر، بينما نسبة الحقيقة في الطرفة أكثر.
8-الحالة: وهي تقترب جداً من القصة القصيرة، بل من القصة
القصيرة جداً، فهي تعبر عن موقف طارئ أو جزئية حياتية، كأن يكون سوء الحظ
أو الإخفاق أو الموت. ومن كتاب هذا اللون (بورخيس) الأرجنتيني، وزكريا
تامر، وضياء قصبجي، ونجيب كيالي، ومروان المصري، من سورية.
وبعد هذا كله يبرز السؤال الأكبر، وهو: ما القصة القصيرة إذاً؟
والجواب كما يقول (امبرت): "هي عبارة عن سرد نثري موجز يعتمد على خيال قصاص
فرد، برغم ما قد يعتمد عليه الخيال من أرض الواقع، فالحدث الذي يقوم به
الإنسان، أو الحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانية، أو الجمادات، يتألف من
سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة، حيث نجد التوتر والاسترخاء في
إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ، ثم تكون النهاية مرضية
من الناحية الجمالية. (القصة القصيرة، لامبرت ص 52).
إن العبارة الأولى في التعريف السابق تصف القصة بأنها سرد نثري موجز
يعتمد على خيال قاص فرد. وهذا شأن يحتاج إلى تفصيل أوسع، فالخيال وحده غير
كاف لإنشاء قصة، إذ لا بد من ملكة تركيبية تحبك الأحداث، وتحذق سوق
المتواليات، وتُنظِّم تتابعها، لتحقيق غرض الكاتب، متخذة من البيئة والسياق
الثقافي الذي ينتمي إليه القاص مرجعية للاحتكام، وقد تتجاوز هذه المرجعية
لمصلحة ما هو قار في النفس الإنسانية في كل زمان ومكان. والقاص البارع قد
ينفذ إلى أدق التفاصيل فيما يعرضه أو يعرض إليه، بغية التنوير والنقد، أو
الكشف عن المخبوء بلغة رامزة، مستهدفاً الإشادة أو الإنكار، والمدح أو
القدح. بيد أن الإغراق في التفاصيل لا يعني الخوض في جزئيات تبدو مقحمة
إقحاماً، أو محشورة حشراً، ولا الإتيان بعناصر لا قبل لجناحي القصة القصيرة
الرهيفين بحملها. وفي هذا الصدد كتب القاص الأرجنتيني (بورخيس) يقول عن سبب
إعجابه بقصص (كيبيلنغ): إنه لا يوجد في تلك القصص كلمة واحدة لا لزوم لها،
وأنه يريد أن يتعلم منه هذه التقنية.
ثم إن الإرضاء الجمالي الذي أشير إليه في التعريف السابق قد لا
يتأخر حتى نهاية القصة، بل قد يظهر في سياق القصة من خلال مجموعة من
المسائل، كالإيقاع والسخرية والشخصية القصصية الإشكالية. والإيقاع عنصر هام
من عناصر الحركة السردية والسياق الحواري، وهو قد يتمثل بالتواتر أو
بالاختلاف أو بالتناظر، أو بغير ذلك من الوسائل. أما السخرية فهي ظاهرة
أسلوبية يختلف التعويل عليها بين كاتب وآخر. وهي- والحق يقال- من أسباب
الجذب والمتعة في أية قصة تتوافر فيها. أما الشخصية القصصية فهي عنصر سردي
بامتياز. ويقتضي الإتقان في كتابة هذا الجنس الأدبي أن يحذق كتابه التعاطي
معه. ومؤكد أن طرائق تقديم الشخصية ووصف ملامحها المختارة الخارجية
والداخلية، والسطحية والعميقة، تختلف من قاص إلى آخر. وربما تمكن بعض
القاصين من الكشف عن دخيلة شخصية من شخصيات قصصهم، وعن طباعها وسلوكها، من
خلال إنطاقها بعبارة أو أكثر من العبارات المفعمة بالدلالة، في زمان ومكان
محددين. وقد تتعدد سمات الشخصيات في المجموعة القصصية الواحدة، كما في
مجموعة "العودة إلى البحر" للدكتور أحمد زياد محبك، وقد يجمع بينها سمات
مشتركة، كما هي الحال في مجموعة "الحصار" لإبراهيم خريط، التي بدت حقاً
شخصيات محاصرة ومقموعة وبائسة، أو كما هي الحال في مجموعة "الحصرم" لزكريا
تامر، التي ظهر لنا سلوكها غير مفهوم ومستهجن وغير منطقي، بل هي شخصيات غير
نمطية ورامزة في النهاية.
وتتنوع الشخصية القصصية، من حيث انتماؤها إلى عالم من العوالم
المختلفة، فهي قد تكون إنساناً أو حيواناً، أو شيئاً جامداً أنسنه الكاتب،
أو شيئاً مجرداً خلع عليه القاص صفات الأحياء من نطق وإحساس وخيال، وقد
يؤتى بها من عالم الأموات لتقول شيئاً وتمضي، أو لتستغل جسراً لفكرة، أو
لإقامة مقارنة بين الحاضر الراهن والماضي المولي... الخ. وفي قصص مجموعة
"أحلام عامل المطبعة" لمروان المصري نماذج من هذه الشخصيات. ففي قصة بطلها
من عالم الطيور، لا البشر، كتب مروان المصري يقول:
"فُتِحَ باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات،
جاع، فبحث عن القفص"- (أحلام عامل المطبعة ص39). وهذه الأقصوصة البالغة
أربع عشرة كلمة تعبر في نظري عن فكرة فلسفية عميقة، هي فكرة الحرية
والضرورة. فالعصفور الجائع هنا قايض حريته بطعامه، أو قل: باع مجرد بقائه
حياً، بسجنه. ويا لها من مأساة حقيقية لا توجد في عالم الطيور والحيوان
فحسب، بل تلمس أيضاً في عالم البشر والإنسان أيضاً. بل إنها هي في عالم
الإنسان أولاً، وقد جيء للتعبير عنا بالرمز والإيحاء، بقصةٍ بطلها من عالم
الطير لا البشر ثانياً. وبدهي أن نشير إلى أن هذه القصة هي قصة قصيرة جداً.
ويقودنا حجم هذه الأقصوصة إلى الكلام على طول القصة القصيرة وقصرها،
فليس ضرورياً أن تكون موجزة إلى هذا الحد. وقد رأى النقاد أن القصة القصيرة
هي ما يمكن أن يقرأ في ساعة أو ساعة ونصف، فهي أقصر من الرواية. أما القصة
القصيرة جداً، فقد تكون سطراً أو سطرين أو ثلاثة، أو على أبعد حد صفحة
واحدة. وقد آل هذا القصر إلى اختزال كثير من عناصر القصة القصيرة المعهودة،
أو إلى تعديلها. ولا بأس في ذلك في نظرنا، إذ أننا نفهم طبيعة القوانين
الأدبية، إن كان للأدب من قوانين، أنها لا توجد إلا لتخرق، لكن خرقها يجب
أن يكون لمصلحة الجمال والإدهاش، وليس لصالح العبث وألعاب الصبية التي لا
نظام لها. فللأدب، أياً كان، نظام، ولكن ليس له قانون ضابط صارم يمنع
اختراقه. ومن هنا جاء اهتمامنا بنوع القصة القصيرة جداً، فدرسنا منها أربع
مجموعات قصصية في كتابنا هذا.
ومن عناصر القصة أيضاً الزمان والمكان. والزمان عنصر يستطيع الكتاب
أن يتعاملوا معه بأشكال مختلفة، فمنهم من يحن إلى الماضي ويقدمه على أنه
النموذج الأجمل والأفضل مثلاً، كما في بعض قصص أحمد زياد محبك، ومنهم من
يقيم نوعاً من الحوارية بين الماضي والحاضر، جاعلاً الماضي الجميل البهي
يدين الحاضر الباهت البائس. وقد يختار الكتابة عن الماضي ويريد الحاضر. ومن
الكتاب من يكسر أزمان السرد فينتقل نقلات مباغتة من الحاضر إلى الغابر، أو
بالعكس، لأغراض سردية ودلالية بعينها. أما المكان، فتتعدد اختيارات الكتاب
له، فهو قد يكون حديقة أو منزلاً أو قبواً أو غابة أو مشفى أو طريقاً أو
رصيفاً... الخ. وقد يراوح القاص بين أمكنة متعددة في القصة الواحدة، أو في
قصصه المختلفة، وقد يكون المكان ضيقاً أو رحباً، وقد يكون ملوثاً أو
نظيفاً. وفي كل اختيار مأرب، وذلك لوعي القاص بأن المكان يؤثر في الناس
ويصوغ مفاهيمهم وتقاليدهم وقيمهم، ويحدد مسارات الكثيرين منهم، كما يحدد
النهر مسار الماء الذي يجري فيه. ومن الكتاب من يجعل من المكان حيزاً
رمزياً، كما في قصص زكريا تامر في مجموعته "دمشق الحرائق"، فهو حارة
السعدي، أو في مجموعته الأخيرة "الحصرم"، فهو حارة قويق. والحارتان كلتاهما
مكان مجازي وجوده غير محقق. وهو عنوان موح بمعان يريدها القاص. وهي لا تخفى
على كل ذي بصيرة.
ومن عناصر القصة القصيرة البداية والنهاية. ومن زمن بعيد رأى (ادغار
آلان بو) الذي وصف بأنه أبو القصة القصيرة، أن البداية الناجحة هي التي
تحدد نجاح القصة أو إخفاقها. وكذلك كان (يحيى حقي)، وهو من هو في فن القص،
يرى أن القصة الجيدة هي ذات مقدمة جيدة محذوفة، لأن هذا الحذف يدفع بالقارئ
إلى الإحساس بأنه إزاء عمل حي وجو فني متكامل (انظر مقدمة عنتر وجولييت،
لحقي ص 4). بيد أن هذا الحكم إنْ صحَّ على بعض القصص، فقد لا يصح على قصص
أخرى، ذلك لأن للقصة مستلزمات أخرى لا بد من توافرها لتنجح وتمتع وتعني.
أما النهاية، ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة، وهي اللمسة الأخيرة التي
تمنح الكشف عن الشخصية، أو السلوك، أو المعنى. وفيها المفاجأة التي قد تثير
السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل. ومن المعروف مثلاً
أن القاص السوري زكريا تامر قد عني بنهايات قصصه، فراح يؤجل تنويرها حتى
النهاية، فهو يقول في قصته (انتصار) من مجموعته "النمور في اليوم العاشر"
ما مؤداه: أن الملك بعد أن اتفق مع وزيره على فرض ضريبة جديدة، سمع
احتجاجات الرعية على المظالم الكثيرة التي يسببها الجباة، فتأثر، وهو صاحب
القلب الرقيق، وتحنن على رعيته، فعزل الوزير، وصادر أملاكه، متهماً إياه
بأنه المسؤول عن هذه المظالم، ففرح المواطنون، غير أن الجباة في اليوم
التالي تابعوا طوافهم على البيوت والدكاكين. وهذه نهاية فاضحة وكاشفة
وساخرة من سلوك الملك، الذي يوقع المظالم على المواطنين، ثم يحمل وزيره وزر
ذلك.
وتعددت أشكال النهايات في القصة القصيرة، وأمكن للنقاد أن يروا فيها
ستة أنواع من النهايات، هي: النهاية الواضحة، وفيها تحل المشكلة دون
تعقيدات تذكر. والنهاية الإشكالية، وفيها تبقى المشكلة دون حل. والنهاية
المعضلة، وفيها يمكن أن يكون الحل من خلال مشاركة القارئ في التوقع، دون أن
يكون هذا الحل هو الحل المثالي الوحيد. والنهاية الواعدة، وفيها يتم
التنويه بمخارج كثيرة دون ذكرها صراحة. والنهاية المقلوبة، وفيها يتخذ
البطل موقفاً مناقضاً لما كان عليه في البداية، فإذا كان يكره شخصاً في
البداية، ينتهي به الأمر إلى أن يحبه في النهاية. والنهاية المفاجئة، وفيها
يفاجئ السارد القارئ بحل غير متوقع-(أنظر القصة القصيرة- النظرية والتقنية
، لامبرت ترجمة علي منوفي ص 135)...
ومن عناصر القصة القصيرة، العنوان. ويمثل العنوان عنصراً هاماً من
عناصر تشكيل الدلالة في القصة، وجزءاً من أجزاء استراتيجية أي نص أدبي.
وتتنوع العناوين، من حيث وظيفتها في القصة، فثمة عناوين تحيل إلى مضمون
القصة، أو تُسْتَمَدّ من مغزاها، وعناوين لها طبيعة إيحائية، وعناوين لها
وظيفة تناصية، وعناوين لها طبيعة استعارية، وعناوين يؤتى بها لتشوش
الأفكار. وهذه الوظيفة الأخيرة للعنوان هي التي أرادها (امبرتو ايكو). ومن
أمثلة هذا العنوان مثلاً عنوان قصة قصيرة جداً لعدنان كنفاني نصه: (مصير
العظماء)، ورد في مجموعة "بروق"، على نحو ما سنرى.
وكذلك تختلف العناوين من ناحية البناء اللغوي، فبعضها يأتي كلمة
واحدة، وبعضها كلمتين أو ثلاثة. ومن القاصين من يعول على أسماء الأمكنة،
فيتوج بها هامة قصته، ومنهم من يركز على الأزمنة، ومنهم من يختار جملة
اسمية، ومنهم من يختار جملة فعلية، ومنهم من يلجأ إلى أساليب لغوية أخرى
كالاستفهام أو التعجب أو التوكيد أو النداء أو غير ذلك... ولكل قاص غرض في
اختياره. والعنوان قراءة من المؤلف لنصِّه، وقد يكون هوية له، أو بؤرة من
بؤره، أو مفتاحاً من مفاتيحه.
ومهما يكن الشأن، فإن القصة القصيرة العادية يحسن بها أن تجمع حسن
العرض إلى نمو الحدث إلى المشهدية المسرحية، كما يتوخى من كاتبها أن يحكم
بنائه ويحذق حبكته، ويختار مفرداته دونما ترخص في الفصحى ودونما إغراق في
التقعر، مراعياً اللغة الوسطى، وذلك لأن تضحيته بما سبق، أو انحرافه إلى
لغة شاعرية مفعمة بالتأنق والزخرف والصنعة، يجعله بعيداً عن السمت المقصود،
وقريباً من فنون أخرى، قد لا تحتمل القصة أعباءها. ولا بد أخيراً من
التكثيف والتركيز اللذين يجعلان من القصة القصيرة لقطة سينمائية أو قطعة من
نسيج أو ومضة من ضوء، تكتنز المعنى والمتعة معاً.
أما القصة القصيرة جداً، وقد درست من مجموعاتها أربع مجموعات هي:
الحصرم لزكريا تامر، وأحلام عامل المطبعة لمروان المصري، وهمهمات ذاكرة
لأحمد جاسم الحسين، وبروق لعشرين قاصاً سورياً، فقد شبهتها بسبيكة الذهب،
التي لا يخلط صانعها ذهبها بما عداه من المعادن الأخرى، إلا بمقدار ما
يقويه. وهي سبيكة يكد الصائغ، مقاوماً نفاذ صبره، ليخرجها للناس لامعة
مصقولة فيها من الجمال والقيمة قدر كبير. فإذا كان لكتاب هذا اللون النثري
الحكائي الجديد القديم أن يطوروه، فلا بد لهم من أن يتخذوا من عمل ذلك
الصائغ هادياً ونموذجاً، ليخرج من بين أيديهم شيء نافع ومدهش يسحر العين
ويسر القلب ويعجب الفكر في الوقت ذاته. وما أجدر هؤلاء بأن يتذكروا ما كان
(فلوبير) يوصي به (موباسان) قائلاً: "الجمْ نفاذ صبرك، ابحثْ تجدْ، وعندما
تجد الكلمة الملائمة، اقبض عليها، ضعها في مكانها الذي وجد لها وحدها،
ووجدت له وحده".
الحصــرم
لزكريا تامر
مع إصدار (زكريا تامر) لمجموعته "الحصرم" يكون هذا الكاتب قد أنشأ
ونشر ما يربو على (300) قصة قصيرة، عدا قصص الأطفال لديه. وقد بلغ مجموع
قصص "الحصرم" وحدها (59) تسعاً وخمسين قصة. وبعض هذه القصص كان يقع في
(حارة القويق)، كما كان بعض قصص مجموعة (دمشق الحرائق) يقع في (حارة
السعدي). والحارتان كلتاهما مكان مجازي، وجوده غير محقق، ورغم ذلك فنسبة
الحارة الثانية إلى (القويق) تثير في الذهن مشاعر القرف والاشمئزاز عند
القارئ السوري، لمعرفته بأن (نهر قويق) في مدينة (حلب) يشكو قلة النظافة
وانعدام الرائحة الطيبة. فالتسمية لا تبدو مجانية البتة.
ومن الملاحظات الشكلية حول هذه المجموعة أن الأغلبية الساحقة لقصصها
كانت قصصاً قصيرة جداً لا تتجاوز الواحدة منها صفحة واحدة، أو صفحة وبعض
الصفحة. أما القصص المتوسطة الطول فلم تتجاوز ست صفحات أبداً، وهي خمس قصص:
المهارشة، ومغني الليل، ونهار وليل، ورجل كان يستغيث، والمطربش. وهذا يدل
على أن (تامراً) الذي كتب القصة القصيرة جداً، سابقاً، على نحو متقطع، قد
انحاز إليها هنا بوضوح.
ولقصر القصة المفرط علاقة بسردها، إذ تقل فيها المتواليات السردية،
وتضعف فرص نمو الحدث، وتصبح القصة أشبه ما تكون بـ(الحالة) التي مرَّ
الحديث عنها من قبل. وهذا يرتّب على القاص أن يتحلى ببراعة كبرى تتمثل
بالإيجاز الشديد والتكثيف الواضح والاقتصاد في اللغة والخبرة المميزة في
اختيار المفردة الدالة وصنع القفلة المحكمة. وهذه القفلة المحكمة هي مما
برع فيه (تامر) في قصصه عامة. وقد شبهها الكاتب (وليد إخلاصي) ببيت القصيد
الذي تتكثف فيه شاعرية الشاعر، كما هي الحال عند الشاعر عمر أبو ريشة.
(انظر مجلة الناقد، بيروت، العدد 82، ص 28). ونجد مثالاً على ما تقدم في
قصة الكاتب المعنونة بـ"التصغير الأول" فعبد النبي الصبان رجل ضخم، طويل
القامة، واسع الصدر، اعتقل يوماً ليواجه تهمة مؤداها أنه يستنشق من الهواء
أكثر من حصته المقررة، فلم ينكر، وأرجع السبب إلى كبر رئتيه، فأُحيل حالاً
إلى المشفى، ليغادره بعد أسابيع رجلاً جديداً ذا قامة قصيرة وصدر ضيق
ورئتين صغيرتين، يستهلك يومياً هواء يقل عن الحصة المخصصة له رسمياً-
(الحصرم ص 167).
ولا شك أن فضاء هذه القصة التي تفضح أداء سلطة غاشمة مجهولة توزع
الهواء على الناس على هواها، وتتحدى طبيعة الخلق وإرادة الخالق، يذكِّر
بفضاء حارة القويق الذي أشرنا إليه من قبل... كما أن القفلة المحكمة للقصة
تنطوي على سخرية مبطنة من تلك السلطة الغاشمة، فعملها الجراحي، بل
عملياتها، على عبد النبي الصبان لم تسفر عما أرادته، ومن يدري فربٍَّما
كانت تريد أن يجور الجراحون على ذلك الرجل، فيخرج من المشفى ليتنفس هواء
أقل من الحصة المخصصة له رسمياً.
وقد تكرر ما يشبه هذه القصة شكلاً، لا مضموناً، في المجموعة، وكان
ذلك في قصص (في انتظار امرأة) و(نهاية انتظار طال) و(ووعدها الرابع)
و(الحكاية الأخيرة).
وتفضي قراءة هذه القصص والقصص الأخرى في المجموعة إلى الوصول إلى أن
معرفة مظاهر السرد (التامري) يمكن أن تتم من خلال فحص ثلاثة عناصر هامة،
هي: الإيقاع، والسخرية، والشخصية القصصية، مع الإشارة الباكرة إلى أن هذه
العناصر قد نجدها في قصة واحدة جميعاً، وقد نجد واحداً منها أو اثنين، وقد
يغيب واحد أو اثنان.
وأقف أولاً عند الإيقاع، لأنه سمة الفن الأساسية وسمة الحياة من
حولنا أيضاً. ومن أمثلة الإيقاع في الحياة توالي الليل والنهار كل يوم،
وتعاقب الفصول الأربعة كل سنة، ومرور الناس كلهم، أو أكثرهم، بمراحل
متشابهة في حياتهم هي: الطفولة، فالفتوة، فالشباب، فالكهولة، فالشيخوخة،
واختبار الأشجار لتعاقب الإيراق فالإزهار فالإثمار، في كل عام. أما الإيقاع
في الفن فلا يقوم على التكرار والتشابه والتناظر فحسب، بل قد يقوم على
التباين والمفارقة والتناقض، كما يقوم على الحذف والإثبات، أو الإضمار
والإظهار، والسلوك السوي والسلوك المنحرف، وقد تجسده ردات الفعل المتشابهة،
والمعاملة بالمثل، والحركة المكافئة، والموقف النظير، وأشياء أخرى غير هذه
وتلك.
والإيقاع عنصر فني تشكله الحركة السردية بكامل تفصيلاتها، بدءاً من
اختيار العناوين، وانتهاء بأصغر جزئية تتغلغل في ثنايا السرد، مروراً
بالشخصية والحدث والحبكة والحوار والحركة... الخ.
وأول ما يلحظه الدارس في مجموعة الحصرم هو التشابه بين أثر طعم
الحصرم، وأثر قلم الكاتب في جسد مجتمع حارة القويق، فطعم الحصرم وطعم
الكتابة كلاهما مزٌّ لاذع جارح، ولكن مع الفارق، فالقصة المكتوبة بقلم كاتب
لوذعي، والتي تندد بسلوك مغلوط أو تسخر منه، ترسم على الشفاه أحياناً بسمةً
تخفف من ضرس الأسنان الذي يخلفه مذاق الحصرم.
وقد بدا لي (زكريا تامر) في مجموعته هذه، وفي مجموعاته الثماني
السابقة شغوفاً بتكريس فكرة فحواها: أن على الإنسان أن يصوغ وجوده بانسجام،
لا أن يحيا التناقض في سلوكه الظاهري والصراع في عالمه الباطني. وقد ركز
الكاتب على هذه الحقيقة الفلسفية والنفسية من خلال عرضه لشخصيات مأزومة في
الغالب، وغير منسجمة في العموم، مما يجعل قراءة قصصه في ضوء الفلسفة وعلم
النفس لها ما يُسوِّغها.
وإذا عدنا إلى مفهوم الإيقاع، فإننا نراه يطالعنا في القصة الأولى
من المجموعة، وعنوانها "المهارشة" فقد حَرَّشَ نجيب البقار من حارة قويق
السيدة (أم علي) لتحقِّر (خضر علون) وتبهدله، واستجابت أم علي، وحدث ما هو
مُخَطَّطٌ له... ولكن خضراً لم يسكت على شتمه وسبه وإهانته والهزء به، بل
اختار أن يثأر من شاب يدعى (سليمان) كانت أم علي تحبه كابن لها، وطعن خضرٌ
(سليمان) بخنجره طعنات عديدة وقتله... وبُرِّئ فيما بعد من هذه الجريمة،
واحتفل نجيب البقار ببراءة خضر، فيما راحت أم علي تستبدل بالوداعة شراسة
وبالحزن فرحاً.. وقد كثر عدد الطامعين بالزواج من ابنتها الوحيدة الجميلة،
بعد أن كانوا ينفرون منها بسبب سلوك أمها المشين.
لقد عنون تامر قصته هذه بالمهارشة. والمهارشة هي عراك الكلاب. وعليه
فإن رائحة الإزراء تفوح من العنوان، كما تفوح من الوصف الموجز لحالة حارة
القويق. ثم إن القصة تبدو هنا وقد استجمعت أشكال الإيقاع القصصي كلها،
حسبما يراها (جيرار جينيت) وهي: الحذف الزمني والوقفة الوصفية والمشهد
الدرامي والسرد الموجز. ففي الحذف الزمني يغفل السارد أزمان الأحداث
غالباً، وفي الوقفة الوصفية أوقف الكاتب سرد الأحداث ليصف بعض الأشياء
والمشاهد، وفي المشهد الدرامي لاحظنا معارضة أم علي للقاء بنجيب البقار، ثم
موافقتها على ذلك، ولاحظنا فعل التحريش على خضر، ثم فعل القتل الدموي، الذي
أعقبه سخرية مرة من تبرئة علون، ثم التحول في موقف الطامعين في خطوبة
الابنة الوحيدة الجميلة. أما الإيجاز في السرد فقد تمثل في القفز عن
تفصيلات كانت تثقل السرد لو وجدت، وذلك لمصلحة التكثيف والجذب. وقد تمثل
الإيقاع هنا بوضع (خضر) في دائرة الاتهام أولاً، ثم إخراجه منها، وبحالة
الشراسة إزاء حالة الوداعة، وبحالة الإحجام عن طلب الخطوبة، ثم الإقدام
عليها. وقد وجد الإيقاع في قصص أخرى في المجموعة، ففي قصة (الشركة) تبادل
الزوج والزوجة، كل منهما خيانة الآخر، بدأ بذلك الزوج، ثم لحقته الزوجة.
وكانت حجة الزوج هي أنه يفعل ذلك ليكتشف حبه لزوجته! وكانت حجة الزوجة
مماثلة لتلك! وقد ظهرت السخرية في القصة حين كتب تامر يقول في النهاية:
"ولم يتجرأ مصطفى على تطليقها لأن أباها غني وغير بخيل واستمرا في العيش
معاً زوجاً وزوجة يحاول كل منهما أن يثبت حبه للآخر"- (الحصرم ص 100).
وبعبارتنا نحن نقول "يحاول كل منهما أن يخون الآخر" وواضح هنا أن الكاتب
يشنع على الزوجين السلوك المنحرف فيلذع، وهو الحداد القديم، بنار كيره
جلدهما، ويقوّم بثقافهِ المنآدَ من منطق حياتهما. ومثل هذا اللذع والتقويم
والسخرية نراه يتكرر في قصص (عفاف) و(رجال) و(المستشارون).
والحق أن الكاتب لم يقتصر في لذعه ونقده على الفرد دون المجتمع، بل
تجاوز ذلك إلى التنديد بالظرف المحدق والمناخ المهيمن اللذين يفضيان إلى
الاستبداد واستلاب الإنسان وقهره وعجزه. ففي قصة (صامتون) كان الصفع هو
سيِّد الموقف، فقد صُفِع (زهير صبري) لأنه لم يبالِ بحب امرأة جميلة ولم ير
الصافع، وصُفِع لأنه قال لرجل ثري إنه أعظم رجل أنجبته البلاد ولم ير
الصافع، وصُفِع بعد أن قبَّل يد رجل ذي لحية طويلة مشعثة، ولم ير الصافع...
"وصُفِع زهير صبري كثيراً وفي كل يوم، من دون أن يرى الصافع المجهول، ولم
يكلم أحداً عن تلك الصفعات السرية حتى لا يُسْخَر منه ويتهم بالجنون، ولكنه
كان واثقاً بأن الناس أجمعين يصفعون مثلما يصفع، ويلوذون بالصمت". (الحصرم
ص 75).
فالكاتب هنا يصور ما يشبه القدر الاجتماعي والسياسي الغاشم الذي
يصفع فيه المرء، ولا يجرؤ على أن يجأر مستنكراً أو ثائراً. وهو بهذا يلامس
حقيقة نفسية تتجسد في عبارته الأخيرة التي تبدأ بكلمة (لكن)، فزهير صار يظن
أن ما يلقاه هو، يلقاه الناس كلهم، وأن صمته ليس فردياً بل جمعي أيضاً. وفي
ذلك استلاب عميق ومؤلم في الوقت نفسه.
إن رصد هذه الحالة في أقصوصة لا تتجاوز مئة كلمة يدل على أننا أمام
كاتب معني بالحركات العميقة للنفس الإنسانية، وبالآليات النفسية التي يجابه
بها المرء ما ينتابه من قهر وإذلال وهوان. وقد توصل (تامر) إلى ذلك من خلال
إيقاع سردي بسيط، وهو عملية الصفع المتواترة، ثم جهل المصفوع المتكرر
بالصافع. وهذا شأن يثبت مرة أخرى أن الإيقاع يخدم الفكرة، بل هو أداة موفقة
لكشفها وإظهارها.
وإذا كان (زهير صبري) قد تعايش مع قهره وهوانه فاستمرأ صفعه، فإن
شخصية أخرى في المجموعة كانت تفعل فعلاً معاكساً، ففي قصة (الأدغال) يقتل
(معروف السماع) زميلاً له في لعبة ورق، لأنه عيَّره بأن رجال الحارة يعرفون
من جسد أخته أكثر مما تعرف أمها، فقد أطرق معروف رأسه أولاً ولم يفهْ
بكلمة، ولكن همسات راحت تصَّاعد من أعماقه، وهي همسات الأرنب الخواف
والنعامة الجبانة من جهة، وهمسات الضبع الآكل والذئب المغير والحية اللادغة
من جهة ثانية. وانتصرت الهمسات الأخيرة فطعن (معروف) من عيَّره وقتله، وراح
يعدو مسرعاً، ولكنه، وهو في أقصى سرعة له، تنبه إلى أنه وحيد لأبويه ولا
أخت له!
وعلى الرغم من السخرية المرة من سلوك (معروف) المتهوِّر، فإننا نرى
القصة تنصرف إلى منحى آخر، هو قاع النفس الإنسانية العميقة، وقد أصابه جرح
بليغ وهزة قوية، فعبارة زميل (معروف) أذهلت معروفاً عن الحقيقة والواقع،
ففعل ما فعل، مؤكداً أن تجاوز الحدود من الخصوم له ثمنه، وعلى الباغي أن
يدفع ثمن بغيه.
إن دراسة شخصيات هذه المجموعة تبلغ بالدارس حد الاستنتاج أن تشابهاً
قوياً كان يقوم بينها وبين شخصيات (تامر) في مجموعاته الأخرى، فأبطال
(تامر) عامة ذوو طباع حادة وغريبة، أو هم ذوو صفات باردة أو جامدة لا حياة
فيها، وسلوكهم غالباً مستهجن وغير مفهوم للوهلة الأولى، وربما كان غير
منطقي البتة، وبعض هذه الشخصيات يدخل الحدث فلا يغير الحدث فيه شيئاً،
وبعضها يدخله فيتغير ويغير الحدث معه، بل قل يصنع انعطافة مفاجئة فيه.
فالشخصيات التامرية شخصيات فنية ورامزة وغير نمطية. وإذا كان بعض أبطال هذا
الكاتب يظهرون وهم في أزمة، فلأن وضع البطل في الأزمة، هو الوسيلة الأنجع
لرسم الملامح، والطريق الأقصر لإبراز الأفكار.
واللافت للانتباه أيضاً أن بعض الشخصيات التامرية تظهر مسلَّحة
بالخنجر أو بالسكين على نحو مفاجئ، والخنجر أو السكين مسخَّر للقتل أو
للتهديد به. وإذا كان هذا الملمح يذكر ببرهة تاريخية بدائية كان المرء يمشي
فيها وخنجره إلى جنبه، فإنه ها هنا يبدو موظفاً لإبراز ظاهرة، أو فرض
مفهوم، أو إيضاح فكرة، فخنجر (خضر علون) حوَّل (أم علي) من امرأة شريرة إلى
امرأة حزينة وادعة من جهة، وقدَّم تجسيداً لفكرة القدر الغاشم الذي قد يحل
بالناس، فليس لسليمان ذنب اقترفه كي يذهب ضحية شراسة خالته ( أم علي) من
جهة ثانية، وهو خنجر كشف سلوك (نجيب البقار) الذي يخطط للجريمة، ثم يسعى
لتبرئة المجرم، ويحتفل بذلك من جهة ثالثة. وأخيراً، فإن هذا الخنجر يذكر
بخناجر رجال أخر في قصص المجموعة، كما في قصص (مصرع خنجر) و(الطالق)
و(الشهادة).
وقد تنوعت شخصيات مجموعة (الحصرم) فكان منها ما هو بشري، وما هو غير
بشري، ومن أبطال القصص غير البشريين بطل قصة (الوطن المفدَّى) فهو غصن من
شجرة قوية، وقد تطاول هذا الغصن وانفرد عن أقرانه حتى وصل إلى نافذة من
نوافذ بيت ما، ومن النافذة راح الغصن يرقب ما يدور في ذاك البيت، وكان في
كل مرة يشهق متعجباً أو مذعوراً أو مدهوشاً أو متألماً أو متحسراً أو
مستنكراً... وعندما أراد أن يكلم زملاءه من الأغصان الأخرى عجز عن الكلام
ولم يستطع وصف ما رأى، ثم ضعف وذوى وشاخ باكراً ويبس. وأخيراً انفصل عن أمه
الشجرة، في حين بقيت الأغصان الأخرى خضراء طرية. ولكن- (ولنلاحظ تكرار كلمة
ولكن في نهاية القصة التامرية)- أحداً منها لم يعد يجرؤ على الاقتراب من
نوافذ ذلك البيت.
والذي يبدو للناقد أن جفاف ذلك الغصن المتطاول والمتحشر والمتطلع
إلى الكشف والمعرفة كان بفعل فاعل، ولم يكن هذا الفاعل، المسكوت عن صفاته
لغرض تشويقي، فاعلاً ذا سمات محمودة أو مزايا ممدوحة، وإلا لما شهق الغصن
متعجباً أو متألماً أو مستنكراً ما تعاينه عيناه..
وقد اختار الكاتب عنوان قصته بحذق وبراعة، وهو الخبير باختيار
العناوين، فجعله (الوطن المفدَّى) وذلك توجيهاً للقارئ ليرى البيت، وقد راح
يكبر ويكبر، حتى يصبح بيوتاً وأحياء وقرى ومدناً، بل قُلْ: وطناً. وبما
أننا بدأنا نفك رموز هذه الأقصوصة، فإننا نرى الأغصان التي دبَّ الخوف في
ثناياها وأنساغها، ولم تعد تجرؤ على الاقتراب من البيت، هي المعادل
الموضوعي للمواطنين الذين دُجِّنوا ومُورِس عليهم ما مورس على المواطن
المصفوع مراراً في قصة (صامتون). وهكذا تبدو بعض قصص زكريا تامر تتجاوب
فيما بينها، وتعين إحداها على فهم الأخريات من أخواتها. ومما يتجاوب صداه
مع صدى قصة (الوطن المفدى) قصص (المفتضح) و(المستشارون).
وإذا رحنا نحصي الموضوعات التي سخر منها (تامر)، وسخَّر كتابته من
أجلها، فإننا نراها تتمثل برذائل الناس من خنوع وطمع وكذب وغباء ونذالة.
ولا شك أن أدباً يندد بهذه الأشياء، هو أدب يمجد البطولة والزهد والصدق
والذكاء والشهامة.
وبعد، فإننا، وإنْ توقَّفنا عند الشأن السردي في هذه المجموعة خاصة،
لم نر الصواب في الاقتصار على الشكل فحسب، فالسرد كان وما زال الوسيلة التي
نعقل العالم بها ونعقل أنفسنا، كما يرى (جوناثان كوللر)- (انظر زمن
الرواية، لجابر عصفور ص 91)، وعليه، فالسرد يبدو لنا مُتماهياً مع علم
الدلالة الذي يقيه من أن يكون لعبة شكلية فحسب. وربما ساغ لنا الزعم أننا
لم نقم ها هنا بشرح تقنيات السرد دون أن نعطيها دلالات من نوع ما، ذلك لأن
النموذج المختار من أدب (زكريا تامر) كان مثالاً على سردٍ مُفْعَم
بالمعاني، وأدب ضاجٍّ بالرموز والدلالات والإشكالات أيضاً. وهذا سر من
أسرار العظمة والخلود في الآداب كلها.
المراجع:
1- القصة القصيرة- النظرية والتقنية، لانريكي اندرسون امبرت، ترجمة
علي إبراهيم علي منوفي، القاهرة 2000.
2- نظريات السرد الحديثة، لوالاس مارتن، ترجمة حياة جاسم محمد،
القاهرة 1998.
3- الحصرم، لزكريا تامر، بيروت 2000.
4- زمن الرواية، لجابر عصفور، القاهرة 1999.
5- مجلة الناقد، بيروت، دار الريس، العدد 82، نيسان 1995.
الحياة والغربة وما إليها
لوليد إخلاصي
إن مجموعة "الحياة والغربة وما إليها" الصادرة عن وزارة الثقافة
بدمشق في العام 1998، هي آخر مجموعة قصصية للكاتب
وليد إخلاصي، بعد ثلاث
عشرة مجموعة بدأها في العام 1963 بمجموعة "قصص" التي طبعتها دار مجلة شعر
ببيروت، وأنهاها بـ"ما حدث لعنترة" الصادرة عن وزارة الثقافة بدمشق في
العام 1992. وهذا الإرث القصصي يدل على باع طويل في فنّ القصة، وعلى عطاء
كبير في ميدانها.
والمجموعة التي بين أيدينا اليوم مؤلفة من خمس عشرة قصة قصيرة،
كُتِب أغلبها في عقد التسعينيات من القرن العشرين وقد صنف الكاتب (إخلاصي)
قصصه في أربعة أقسام وضع لكل قسم منها عنواناً، فكان لدينا:
آ-قصص للحياة، وهي أربع قصص.
ب- قصص للأصدقاء، وهي ثلاث قصص.
جـ-قصص للغربة، وعددها أربع.
د-قصص للتساؤل، وعددها أربع أيضاً.
وقد رأيت أن أسجل ها هنا، بعد قراءتي لهذه المجموعة، البالغة (208)
صفحة من القطع الصغير، بعض الملاحظات حول سماتها العامة، ثم أنتقل إلى وقفة
متأنية نسبياً عند نموذج واحد منها، هو قصة (العرفي) من (قصص الغربة).
آ-السمات العامة:
أولاً- إن هذه القصص، أو أكثرها، اكتنزت أفكاراً فلسفية واجتماعية
وسياسية ونفسية كشفت عن رؤية الكاتب للحياة والفن والسياسة، وهذا بادٍ
بوضوح في القسمين الأخيرين من المجموعة، أعني (قصص الغربة) و(قصص التساؤل)
علماً بأن استطرادات مقصودة جيء بها في ثنايا القصص الأخرى لتخدم هذا الغرض
كما في القصة الأولى: (دمية عالقة على الشجرة)، إضافة إلى قصة (الهلوسة) من
(قصص الأصدقاء)، فهي على الرغم من عنوانها الموحي بالعبثية والتشتت
والهذيان، حفلت بأفكار عميقة نمَّت على عقل نير وتدبر كبير... ولم يكن
اختيار هذا العنوان للقصة: (الهلوسة) سوى حيلة فنية للإيحاء بعكس المضمون
تماماً! وقد قُدِّمت القصة بوصفها مشهداً مسرحياً حوارياً بين محقق، ورجل
نكرة لم يطلعنا الكاتب على اسمه، إمعاناً في تعميم فكره والإيحاء
بنموذجيته. فقد طرح هذا الرجل رغم "هلوساته" أفكاراً هامة تتصل بثنائيات
متعددة متقابلة، كالحلم والواقع، والعدل والظلم، والحق والباطل، والثقافة
المتحررة، والثقافة المتحجرة... ودعا إلى اكتشاف مضادات حيوية ضد التعسف
والإرهاب والجمود الفكري، وضد تناسل فيروسات الاستسلام والانشداد المجاني
إلى الماضي (المجموعة ص 94). ثم أعلن ذلك "الرجل" أن الحق في وطنه ليس
بخير، ولكنه لا يملك سوى الانتماء إلى هذا الوطن (ص 96).
ثانياً- لقد امتزج الخيال بالواقع في كثير من قصص هذه المجموعة،
وبدا ذلك بوضوح في قصة (فواز الساجر يعيد إخراج مسرحيته) ففيها ينهض
الكاتبُ المخرجَ الراحل فوازاً من قبره ليجعله يبوح بأمنياته المتعددة في
شكل ميتته، ثم يميته، ثم يحييه من جديد، ويميته. وذلك ليرسم لنا من خلال
متوالية الحياة والموت الخيالية، التي اجترحها، لوحة لمشاعر فنان، وتخطيطاً
لرؤيته للحياة، فتبدو ملامح صديق الكاتب الثقافية والفكرية والروحية ماثلة
بوضوح من خلال هذه اللعبة الخيالية التي اصطنعها الكاتب.
وقد قُدِّمت لنا بعض القصص على أنها من نسيج الذكريات، أو
من أفق الماضي البعيد، وللخيال فيها نصيب ضئيل، مثل قصتي: (في مبنى البريد)
و(المسكات الهندية) وقدمت قصص أخرى لعلها من نسج الخيال، كما في قصتي: (
سباق في المدينة) و (الحيرة). وإذا كانت قصة (المسكات الهندية) قد قصَّرت،
في نظري، عن تقديم فكرة كبيرة، أو مغزى عميق، فإن قصة (سباق في المدينة)
نجحت في تصوير أثر الكيد والحسد في مسيرة الناس وحياة البشر، فثمة سباق في
المدينة يجري للوصول إلى قمة تل صخري، وهو سباق لم يفُزْ فيه أحد، لأن الحب
والنزاهة والروح الرياضية قد فقدت بين المتسابقين، لصالح الحقد والكيد
والأنانية، فأخفق الجميع رغم بذل الجهد والعرق... ولا شك في أن هذه القصة
قصة رمزية تكبر فيها المدينة لتصبح وطناً، ويتكاثر فيها المتسابقون الأربعة
ليصبحوا ملايين المواطنين، وتجريدها الفكري: أنَّ أنانيات الناس وأمراضهم
النفسية وأحقادهم ستحول دون بلوغهم القمم أو التلال التي يتسابقون للوصول
إليها.
ثالثاً- وظَّف الكاتب الخيال العلمي في بعض قصصه، كما في قصته
(التحولات)، ففي هذه القصة ينجح مركز العقل الالكتروني للتحكم في الطبيعة
في أن يجعل العناكب الصغيرة تفرز العسل بدلاً من الخيوط الدقيقة التي تنصب
الشباك لأعدائها، وينجح في تعليم مفردات لغوية لتمساح شرس أخضر من أعماق
غابة أمازونية، وينجح أخيراً، وهنا بيت القصيد، في أن يحول (جحيشاً) إلى
كائن هجين يسميه الكاتب (الحنسان) وهو لفظ منحوت من كلمتي (حيوان)
و(إنسان). ولكن هذا (الحنسان) سيصبح أخيراً رمزاً للصبر والطاعة العمياء،
والعمل الذي لايكل ولا يمل (كذا) – ( المجموعة ص 193) وواضح هنا أن الكاتب
يقف ضد كل. ما يشوّه الطبيعة الإنسانية، حتى ولو كان وراء هذا التشويه مركز
من مراكز العقول الالكترونية.
رابعاً- لوحظ في هذه القصص المراوحة ما بين الفردي والجمعي، والذاتي
والموضوعي، والداخلي والخارجي. وقد ظهر ذلك في قصص ((الهلوسة) و(الحيرة)
و(العُرْفي). وهذه القصة الأخيرة هي التي سنتريث عندها بعد قليل.
خامساً- إن شخصيات القصص في هذه المجموعة قد تعددت وتراوحت ما بين
موظف، ومثقف، ومحقق، ومتهم، وزوجة، وأم، وابنة، ودمية، وتمساح، وزهرة،
وفكرة مجردة... فالفكرة المجردة مثلاً هي بطلة القصة الأخيرة في المجموعة
أعني قصة (الحيرة)، وفيها تم تجسيد الألم والفرح والحب في كائنات لها
أصوات، فالألم يصيح: اكتبني، والفرح يقول: اصنعني، والحب ينادي: كُنْ معي
أبداً. وحين نصل إلى الوردة نراها تتفوه بما نصه: "أنا الأجمل تأملني،
وستعرف أنني مَنْ تحب"- (المجموعة ص 204). وكذلك يتحدث الصباح والطفلة
والحصاة زاعماً أنه المحبوب المرغوب فيه..! ولكن "الأنا الساردة" تزور عن
هذه الأشياء كلها، لأنها لا تطفئ الظمأ، وتمضي فتحتضن جرة ملأى بالماء، لأن
نقطة الماء هي التي روتها، ولأن نعومة الطين المشوي الراشح بالماء هو الذي
يستهويها، فتعانقه وتضمه وتغرق في حلم حب طويل، ولا تبالي تلك "الأنا
الراوية" بالوردة الحمراء ولا بالصباح ولا بالطفلة ولا بالحصاة، لأن هذه
الأشياء في نظرها ستفلت من بين يديها يوماً ما. وتخلص إلى القول: إن الألم
والفرح سيستمران في الصراع في صحراء لا ماء فيها ولا شجر، فلا تنكسر لواحد
منهما راية! (المجموعة ص 206).
وتنفتح هذه القصة على ثلاثة آفاق مختلفة، أو تذكر بها على
نحو من الأنحاء. فهي من جهة تبدو تقطيراً لرؤية الكاتب الفكرية المركزة
التي أعلن عنها، أوعن شيء منها في العام 1981 في مجلة (الموقف الأدبي العدد
123-124-125). وحقيقتا الألم والفرح، هما لعمري، من الحقائق الكبرى التي
تميز الكائن البشري دون ريب، والحيرة إزاءهما حيرة خالدة وحية على الدوام.
والقصة من جهة أخرى توحي بتقدير الكاتب لقطرة الماء، وللطين
الذي ترشح منه، فتلك القطرة هي التي أطفأت ظمأه، والطين هو الذي حاز حبه
دون غيره من الأشياء. فهل يعني هذا انفتاحاً من القاص على سبب الحياة
الأبرز، وهو الماء انسجاماً مع الآية الكريمة القائلة: "وجعلنا من الماء كل
شيء حي"؟ وهل تعني معانقته للطين، معانقة للمادة الأولى التي كوَّنت
الإنسان في الفكر الميثولوجي الأقدم؟ إن المعروف، أسطورياً، أن الإنسان
مخلوق من طين، أو من ماء وتراب. ومعانقة الكاتب للطين ربما كانت تعبيراً عن
حب لجوهر الإنسان في فطرته الأولى، قبل أن تلوثه الدنيا بما فيها ومَنْ
فيها...
والقصة من جهة ثالثة، ذات بعد فلسفي، وتنتهي بحكمة تذكر
بالحكمة التي نظمها أبو فراس الحمداني في أبياته الثلاثة التالية:
الدهر يومان: ذا ثَبْتٌ وذا زَلَلُ والعيش طعمان: ذا صابٌ وذا عَسَلُ
كذا الزمان فما في نعمةٍ بَطَرٌ للعارفين، ولا في نقمةٍ فَشَلُ
وما الهموم، وإن حاذرتَ ثابتةٌ ولا السرور، وإنْ أمَّلتَ يتَّصِلُ
وهذا كله يعني أننا أمام قصة حمالة أوجه، فيها من الثراء
والغنى ما بسطناه قبلاً.
سادساً- إن اختصاص الكاتب (إخلاصي) بالهندسة الزراعية قد ترك أثره
في كثير من صوره وتشبيهاته، وبدا ذلك بسطوع في قوله (ص 5 و6): "مرَّ على
الشجرة ربيع استثنائي ارتوت فيه التربة، واندفع النسغ في عروق الشجر، وهاش
العشب وأزّت الحشرات". وفي قوله (ص 34): "كان كل شيء يتحرك كمزرعة للجراثيم
تحت عدسة الميكروسكوب". وقولـه (ص 49): "كانت الأعشاب البرية التي أحبها
وهي تنمو في حديقتي الصغيرة قد احترقت". وقوله (ص 67): "آه لزهرة الصبار!
أجمل أزهار الدنيا تنفتح علينا نوراً وتنغلق على نفسها سكوناً". وقوله (ص
201): "كانت الزهرة تذبل ببطء بين عيني، كأن الجفاف جدري لا يرى وقد استشرى
في أوصالها".
سابعاً- حفل الكاتب بالزمان والمكان في قصصه جميعاً، وخاصة في
بداياتها، فقلما نقع على قصة لا تشير إلى الزمن أو الحيز المكاني في
مطلعها. والزمن والحيز المكاني عنصران هامان من عناصر القصة القصيرة. وهذا
ماثل بقوة في قصص (دمية عالقة على الشجرة) و(تساؤلات) و(كلمات مكتوبة قبل
النار) و(الهلوسة) و(العرفي).
وقد لاحظت احتفاء الكاتب بطلوع الشمس وانتشار الضوء، وسطوع
النور على أمكنته، ولعل هذا أمر يتناغم جميل التناغم مع أفكار التنوير التي
يتبناها (وليد إخلاصي) ويدعو إليها.
كما لاحظت أن البيئة المدينية هي الأوفر حظاً في الحضور،
وفي احتضان أحداث القصة عند الكاتب، مما يوحي بأن (إخلاصي) كاتب مديني لا
ريفي، وهو كاتب يحرص على إشاعة نكهة مدينته (حلب) التي عاش فيها سحابة
عمره، بعد أن كان ولد في (الاسكندرونة) على ساحل البحر في العام 1934. فهو
يلح على ذكر أماكن محددة في (حلب) مثل (باب النصر) و(جامع المولوية) و(باب
الفرج) و(سوق التلل) و(المحافظة) و(السبيل)... الخ. ولا غرو في ذلك فقد كتب
(إخلاصي) ذات يومٍ يقول: "أعيش في مدينة حلب التي لعب قدمها وقلعتها دوراً
كبيراً في تفكيري التاريخي والمستقبلي أيضاً. أنا متمسك بحبي للمدينة،
وأكتشف يوماً بعد يوم أني مسؤول عنها وعن التعبير عن وجودها، وكثيراً ما
أكتشف حبي للوطن الأكبر، وللعالم بأسره من خلال هذه المدينة- "السيدة
الجميلة"- (انظر أعلام الأدب العربي المعاصر، لروبرت كامبل، بيروت 1/226).
ومن المعروف أن الكاتب قد نشر في بيروت في العام 1969 رواية
بعنوان: (أحضان السيدة الجميلة) وعنى بالسيدة الجميلة مدينته (حلب)
الشهباء.
ثامناً- إن العنوانات التي اختارها الكاتب لتصنيف قصصه إلى قصص
للحياة، وأخرى للأصدقاء، وثالثة للغربة، ورابعة للتساؤل لم تحسم مسألة
انتمائها إلى هذه الأشياء أو الأفكار؛ فالصداقة والغربة والتساؤل هي من
صميم شؤون الحياة وملابساتها ومعطياتها وعلاقاتها.
تاسعاً- تراوح طول القصص في هذه المجموعة ما بين أربع صفحات، كما في
قصة (الحيرة)، وثمان وعشرين صفحة، كما في قصة (الهلوسة). وهذا شأن ينفي عن
هذه المجموعة اهتمام صاحبها بكتابة القصة القصيرة جداً التي سبق للكاتب أن
عني بها في مجموعات أخرى.
عاشراً- إن لغة الكاتب بدت في مجموعته هذه ماسةً جميلة، لكنها لم
تصقل من جميع وجوهها، فشابها ما شوَّه شيئاً من وجهها، وكدَّر بعضاً من
ألقها. وهذا ماثل في الصفحات التالية (8 و24 و46 و53 و113 و119 و204). ومن
أمثلة ذلك:
-قال الكاتب: (كانت عيناني تجوسان...) والصواب (عيناي)- (ص 46).
-وقال: (كانت الأشجار مزهرة، والرمل ناعم) والصواب (ناعماً)-
(ص 204).
-ورسم الكاتب فعل (يُطَأْطِئ) بهمزة مطرفة على كرسي الياء، هكذا:
(يطأطأ) دون أن يكون هذا الفعل مبنياً للمجهول- (ص 53).
-ورسم همزة (براءتك) على نبرة والصواب رسمها على السطر. (ص 113).
-ولم يتّسق، أحياناً، توالي بعض الأفعال مع بعضها الآخر، كما في (ص
119) إذ جاءت هنا عبارة تقول: "ذلك أن تجري تحقيقاً مصوراً... يعني أنني
أملك الحرية في التصوير". والصواب أن يقول: "أن أجري". أو أن يترك الفعل
بزمن (المضارع) على أن يتم العبارة بما يناسبه فيقول: "يعني أنك تملك..."
ووقع ما هو قريب من هذا في (ص 8) أيضاً.
ب-دراسة النموذج قصّة (العرفي):
ونتلبَّث قليلاً عند قصة (العرفي)، لأنها قصة عنيت بظاهرة شائعة في
العالم الثالث والمتخلف، وهي ظاهرة ازدراء كرامة الإنسان، وإهدار حقوقه في
الأمن، والهزء بسلطة القانون، وتقاليد الاحتجاز والاعتقال، والتنكيل،
أخيراً، بالبراءة والنزاهة لصالح الرشوة والفساد.
فهذا (مجيد الجمل) مهندس يعمل في بلدية المدينة، وهو يحب آثار
مدينته، ويحرص على بقائها بعيدة عن الهدم والدمار... ولكن الرجل المتنفذ
(أبو همام) يناقضه في نظرته وسلوكه وقيمه، ولا يهمه سوى منافعه وتكنيز
أمواله... وحين يعرض رشوة على (مجيد) يرفض (مجيد)، فيدبر (أبو همام) له
تهمة باطلة، وتنقلب الأمور رأساً على عقب، ويصبح البريء متهماً، إذ يُرْمى
(مجيد) بأنه هو الذي عرض الرشوة على (أبو همام)، ويُزج به في السجن بحكم
عرفي لخمس سنوات، تخرج من عمره بلا معنى، ظلماً وعدواناً... خلال فترة
السجن تموت أمه، وتطلقه زوجه، وتسافر ابنته (مليحة) مع خالها إلى أمريكا...
والمؤلم أن (مجيداً) يكتشف في السجن، أن كثيراً ممن كانوا يبادلونه الود
بالود خارج السجن، هم الذين أكدوا ادعاء الراشي (أبو همام). ولكي لا تكون
الصورة قاتمة بالكامل، يُظْهر العقيد مصطفى مدير السجن قناعته ببراءة
(مجيد)، لأن قرار الحكم العرفي لم يحدد مدة الاعتقال، وهذا أمر يُثير شكاً
في التهمة...
ودون محاكمة يُفرَج عن (مجيد) بعد سنوات خمس لعدم ثبوت الأدلة. وبعد
الإفراج نراه يجلس في ساحة للسير، وقد اختلطت عليه الأمور، فيركب، وهو
المشوَّش، حافلة تقوده إلى ساحة السجن مرة أُخرى! وهكذا تنتهي القصة بمسحة
ساخرة من البراءة والغفلة على حد سواء.
وتنبع قيمة هذه القصة من كشفها فساد سلطة غاشمة أولاً، ومن تعريتها
لأساليب الغش والخداع عند المتنفذين ثانياً، ومن إعلائها، غير المباشر،
لمعنى الحق واحترام القانون ثالثاً.
كما تكتسب هذه القصة قيمة من نسجها المحكم، وحبكتها الفنية، ففيها
تم المزج بين الأزمنة الماضية والراهنة، ولعب فيها التذكر لعبته في الكشف
عن ماضي الرجل المعتقل، وفي نمو الحدث، وتشكيل اللوحة، والمشهدية المسرحية،
وتقابل الأمكنة وإفرازها لمعانٍ متعددة. ففي البداية نتوقف مع (مجيد الجمل)
في (قهوة الملخانة) وهو يشرب الشاي ويسمع الأذان من الجامع المواجه، ثم
ينقلنا الكاتب إلى رواية الراوي العارف بماضي هذا الشاب المهندس الثري،
الذي كان يعمل في دائرة هندسية في صبر يشبه صبر ابن الجمل. ويعير التفاتة
جديدة إلى المحيط حوله، ليخبرنا بأن الحديقة التي كانت قرب الجامع الأثري
قد أزيلت، وأصبح مكانها كراج للباصات الكبيرة، كما أزيلت معظم أبنية (باب
الفرج) وبقيت الساعة القديمة فيه لتخفف من الشعور بالخراب السائد.
إذن ثمة خراب وبناء، وعدوان على المدينة من خلالهما، وعلى آثارها
خاصة... وهذه المقدمة تمكنت من وضع المتلقي وسط الحدث وعقدته. وتمضي عدسة
(إخلاصي) لتصور لنا حال المهندس (مجيد) في سجنه، فها هو ذا يتذكر سجنه
بمهجعه المحتشد بالأنفاس الرتيبة والعيون الشاخصة التي لا يبدد قلقها سواد
الليل، ويتذكر الظلم الذي لحق بالآخرين مثله.
ويستثمر الكاتب مسألة المزاوجة بين الداخل والخارج ليكمل اللوحة،
ففي الوقت الذي اتهم المحيط الخارجي، ويمثله (أبو همام) (مجيداً) بالرشوة،
عرف العقيد مدير السجن براءته، وكان يلعب معه لعبة الشطرنج، ويدخل معه في
حوار ليسرِّي عنه ويسليه، رغم أنه معتقل! وعندما يسأله عمن كان وراء توقيفه
يقول (مجيد): إنه الغباء الذي دفع ثمنه، فقد عُرضتْ عليه سيارة مرسيدس
زرقاء، رشوةً، فرفضها، فحلَّ به ما حلَّ..!
وتتصف قصة (العرفي) أيضاً بلونها المحلي، فهي قصة حلبية بكاتبها
وبأمكنتها وبيئتها، وقد حرص (إخلاصي) على أن يذكر فيها أماكن مشهورة في
(حلب) أمثال (جامع المولوية) و(باب الفرج) و(قهوة الملخانة) و(سوق التلل)
وهي أمكنة يعرفها كل من زار حلب أو أقام فيها لفترة قصيرة.
كما امتازت هذه القصة بتناغم جميل ما بين بدايتها ونهايتها، تناغم
تلفه سخرية محببة، فمجيد الجمل الذي أُفرِج عنه حديثاً، بعد سنوات خمس
قضاها في العتمة يطيش صوابه، ويضيع اتجاهه، ولا يحسن التمييز بين الجهات،
لذا يركب الحافلة التي تقوده مرة ثانية إلى السجن! والحق أن التنديد هنا لا
يمكن أن يُفهم بالضحية البريئة، بل هو تنديد بالسجن الظالم، وبمن كان وراء
سنوات الاعتقال العرفي، الذي لا تسويغ له البتة في غير ظروف الوطن
الاستثنائية.
وأخيراً، فإن هذه القصة قد نجحت في كثير من عناصرها، في البداية
والنهاية الموفقتين، وفي مزج الأزمنة السائغ فيها، وفي الاحتفال بالمحلية،
كما قدَّمت في الوقت ذاته إيهاماً وإمتاعاً كبيرين هما شرطان أساسيان لنجاح
أية قصة قصيرة. ولم تتخلَّ البتة عن الاحتفال بمعنى نبيل وفكرة جديرة
بالتأمل، وذلك من خلال دوامة واحدة انتُزِعت من مجرى النهر المتدفق. إنها
بحق قصة اكتنزت المعنى والمتعة اللذين ننشدهما في فن القص. ولا غرو في ذلك
فكاتبها (وليد إخلاصي) كاتب ذو باع طويل، وتاريخ مديد في كتابة القصة
والرواية، فقد بدأ بالنشر منذ العام 1963، ولم يتوقف عنه حتى يوم الناس
هذا.
اللصوص وعروس البحر
لرياض نصّور
هذه مجموعة قصصية مكونة من ثماني قصص تقع في اثنتين وأربعين ومئة
صفحة. وطُبعت في اتحاد الكتاب العرب. وهي المجموعة الرابعة لِـ(رياض
نصّور) الذي كتب القصة القصيرة منذ خمسين عاماً. وكانت أولى مجموعاته
"أشباح المدينة"، وصدرت في الستينيّات، ثم تلتها مجموعة "في الغابة" وصدرت
عام 1986، ثم هذه المجموعة وهي من منشورات عام
1989. وكان آخر ما أصدره القاص (نصّور) مجموعته "الحب الأول ـ من
قصص البديات"، وذلك في العام 1994، وصدرت عن دار ملهم بحمص.
وكان (رياض نصّور) قد نشر ما يربو على (300) قصّة في صحف ومجلات
عربية، ولكنّه لم يجمعها كلّها. بيد أنَّ هذا الحجم الكبير من القصص يدلّ
على تمرّس في هذا الفن جدير بوقفتنا هذه.
وكاتبنا يعد من الرعيل الأول الذي مارس كتابة القصة القصيرة في
سورية. وقد كان وُلِدَ في حمص سنة 1931، وانتقل إلى اللاذقية عام 1948،
وما زال يحيا فيها حتّى اليوم.
وانطباعات قارئ هذه المجموعة تدفعه إلى القول بأنَّ هواجس الكاتب
فيها تراوحت مابين نقد للمغلوط في حياتنا، وتمجيد للصحيح فيها، ورصدٍ
لحالات التأزُّم التي تلبّسها بعض الناس في بلادنا، سواء كانت نفسية، أَمْ
اجتماعية أَمْ اقتصادية... وذلك من خلال تقنيات تعتمد على مَزْج الأحلام
بالوقائع، وتدمير الأزمنة وخلطها. والاهتمام بعنصر المسرح في القصّة للكشف
عمّا يدور في النفوس والأذهان من أحلام ورؤى.
بَيْدَ أن نَقْدَ الزَّيْف والخداع والانحراف، وهي رذائل سلوكية
شائنة، كان الطابع الأبرز في هذه المجموعة. وقد تمثَّلَ ذلك في قصص (البطل)
و(الطبل) و(صراخ) و(الصياد وليالي الفراق الطويلة)، و(اللصوص وعروس البحر).
ففي قصة (البطل) نرى الكاتب مُنْحازاً، وهو على صواب، إلى الجهد
المخلص في سبيل نيل العلم وتحقيق الرفعة، وإلى الدرب الذي يسير فيه
المُجِدّ المتفوّق الذي يرمي إلى خدمة وطنه ومواطنيه. ويمثل هذا الجانب
الطبيب (إياد)، في حين يمثل الجانب المعاكس زميله (معين) الذي راح يمتهن
الاتجار بالمهربات، ويعقد الصفقات المشبوهة، فيغتني بغيرِ وجهِ حقّ، هاهو
ذا يمتلك السيارات الفارهة، ويتجبّر ويتعجرف ويتبهنس، ويسافر إلى أوربا،
ويبحث عن تعدّد الزوجات، حتى إذا ما عَنَّ لإياد أن يزور (معين) ذات مرّة،
وجدناه يرفض عرضه عليه أنْ يوظِّف مالَهُ لديه، ويخرج من عنده مغضباً،
ويأبى أن يركب إحدى سياراته، ويُؤْثر السير على قَدَمَيْهِ على طريق طويل
طويل، ولكنه صحيح صحيح... إذن نحن مع هذه القصة أمام نموذجين من الشباب:
شاب طبيب ناجح وغير ثري، ولكنه قويّ جدَّاً، وقد لُقّب بالبطل، لأنَّه كان
متفوّقاً في المدرسة، وشاب تاجر ثري متعجرف يعب من ملذات الحياة، لا يهمّه
وطن ولا ناس ولا قيم. إذن هناك قوتان، قوة نُسِيْغها ونحييها ونُجلُّها،
وقوة نَمُجُّها وننكرها ونزدريها.
وإذا كانت هذه القصة قد قامت على عرض طَرَفَيْن متناقضَيْن، فإن قصة
(الطبل) تصوّر طرفاً واحداً هو (آغا) لا نعرف اسمه، له ثلاث زوجات، ويفكر
بالزواج من الرابعة، واسمها (سعدى). و(سعدى) شابّة مخطوبة لابن خالتها
(مروان)، ولكن لا قِبَل لمروان الفقير أن يقف في وجه (الآغا) الثري الجموح
الطاغي، وهيهات لأبي سعدى أن يرد طلب (الآغا) أن يتزوّج من ابنته الغضّة
(سعدى)، لذا نرى الأب يزفّ ابنته، ذات يوم، لتكون الزوجة الرابعة للآغا،
الذي يغتصبها كثور متوحش، ولكن الصبية تهرب منه في الصباح، لتشارك في حلبة
رقص أقامها شبان القرية الذين يهرع إليهم الآغا بسوطه. ولكن الشباب يستمرون
في قرع الطبل ليحدث إيقاعاً للرقص، ويحمون (سعدى)، إلى أن يأتي حبيبها
(مروان)، الذي كان يحمل بيده سكّيناً، وبدلاً من أن يغتال مروان (الآغا)
الذي كان يحمل (سوطاً) يسوط به الشبيبة، المبتهجة، نراه يمزق (الطبل) الذي
يشكل معادلا فنياً للآغا، قائلاً لزملائه المحتفلين: "اقتربوا لا تخافوا،
انظروا إليه إنه طبل أجوف" ـ (ص 53)، ويسقط (الآغا) متهاوياً، وتحرّر منه
(سعدى).
وحقارة الآغاوات لم تكن موضوع هذه القصّة فقط، بل كانت موضوع تشهير
في قصة للكاتب بعنوان (أصدقاء طيبون) نشرها في مجموعته: ((الحب الأول))ـ
(ص99-103)، مما يدل على أننا مع أديب يعبّر عن أصوات الفلاحين والفقراء
والنزهاء. وقصته (الأقنعة) تثبت ذلك، ففيها يعرض الكاتب لوجهين من وجوه
الحياة والناس ـ وجه مقنّع يغطّي، بقناعِهِ، زيفَهُ وغشَّه ومروقَهُ،
فيصفّق للمارق المجرم الذي في عنقه أكثر من قتيل، وللجبَّار المتربّع على
عرشٍ من جماجم الآخرين، ووجه سافر يعشق الحقيقة ويتطلع بعيونه إلى المصابيح
المُتوهِّجه بعيداً عن الأرض الوسخة، وتعرض القصة ملامح (أخطبوطٍ) صارت
البلد كلها لقمة سائغة في فمه، فجعل الناس كالصراصير تردد (عاش عاش، ويسقط
يسقط)، ويبقى حلم الكاتب في حالة صراع مع الواقع، فهو يتمنّى أنْ ترفع
الأقنعة عن الوجوه لتكون مضيئة كالنجوم في القبَّةِ الزرقاء (ص65).
وفي القصة الخامسة وعنوانها (صراخ)، يرصد الكاتب مظاهر الانحراف في
الحياة، وسلوك الناس، ويخصّ هنا بالرفض لهوَ الشباب وطيشه، فثمة علاقة حب
مرفوضة في مجتمعنا تسفر عن حملٍ لفتاةٍ لا يقبل حبيبها الزواج منها، بل
يطلب منها إسقاط الجنين! وتتم الجريمة في حضوره، وتخرج الفتاة إلى دروب
الضياع، في الوقت الذي يروح هو يلعق جراح روحه.
أما الانحراف الآخر الذي يُصَوّره في قصّته السَّادسة فتتمثّل
بانصياع صيادٍ من صيادي الميناءِ لإغراءِ رئيس الميناء بتعاطي المهربات،
وذلك طمعاً في غِنَى سريع، حتَّى إذا ما ألقى عليه خفر السواحل القبض،
أُوْدِعَ السجنَ تاركاً وراءه زوجاً وأولاداً. وبعد أن يخرج الصيَّاد من
سجنه الذي قضى فيه سنوات طويلة، يجد العالم قد تغيَّر، فقد صار بيته بناية،
وتغيرت معالم المدينة ولم يستطع اللقاء بزوجته وولديه، وراح يبحث عن لقمة
خبز يتبلّغ بها، ولكن الشرطة ظنت ـ خطأ ـ أنه يحاول السرقة، فألقت القبض
عليه من جديد، في الوقت الذي كان فيه يروم الحصول على رغيف خبز من بائع
متجول، فيلاحقه ليحصل عليه، ولكن هذا البائع اتّهمه بمحاولة سرقة سوار ذهبي
اشتراه لابنته في عيد ميلادها.. وتنتهي القصة بأنْ يُوْدَعَ الصياد السجن
من جديد!.. ويصل بائع الخبز المتجوّل إلى بيته ليحتفل بعيد ميلاد ابنته،
وبهذه المفارقة بين الرجلين تبدو قيمة العمل النظيف وسموّ الموقف الشريف.
والحقيقة أن عرض الوجه والوجه الآخر، في الحياة لم يَرِدْ في قصة
(البطل) وقصة (الصياد وليالي الفراق الطويلة ) فقط، بل وجدناه يتكرر أيضاً
في القصة السابعة، وهي القصّة الّتي عُنْوِنَتِ المجموعة بعنوانها "اللصوص
وعروس البحر"، فهذه القصة في الوقت الذي تدين الواقع إدانةً قويّةً
لحيلولته دون تحقيق الأحلام، ودون إنضاج تجربة حب نقي صافٍ لم يشوّهه مال
أو حاجة، تعرض صورتين لتجربة الحب، بوصفه ممارسة عملية في الحياة. وعلى
الرغم من أن في ثناياها ما يدين الشاب المُحِبّ بعض الإدانة، إلا أن
الكاتب، في عرضه وصوره وعباراته، وجَّه الإدانة لواقعه المرّ القاسي،
متّخذاً من حبيبته (ليلى) أداة لذلك، فقد تعرّف ذلك الشاب على ليلى، ودعاها
إلى قضاء ليلة حبّ وحنّان ولذّة معه، فلبّت النداء، وبعد أنْ أشبعا الشهوة،
طلبت الفتاة الزواج منه، فقال لها: "وهل يتزوج مَنْ كان مشرّداً مثلي
فارغاً من عطاءات الحياة، ضائعاً في منعطفات الخيبة، متخبطاً على الأرض
العارية"؟. وعندما تقول له: تزوّجني، فأُخْلِص لك، أحبك أيها العفريت
الغارق في أتون الفلسفة"، يجيبها: "أخاف منك.... أيتها الشمس الساطعة في
حياتي أحبّك وارتجف خوفاً من ألسنة المغيب القادمة إليك" ـ (ص 113).
وقد كانت عبارة "الارتجاف من ألسنة المغيب القادمة"، إرْهاصاً بما
سيقع لليلى، فقد انزلقت هذه المرأة إلى مهاوي الرذيلة، وراحت تبيع الهوى
لكل عابر طريق، للصوص والأنذال والسماسرة، ولمديرها البليد الخمول... وكانت
براثن الحاجة هي التي تدفعها إلى ذلك، مقابل حفنة من المال يتركها كل
واحد.. لهذا عندما زارها الحبيب الأول، الذي قضت معه أول ليلة حبّ وحنان
ولذّة، غادرها مُسْرعاً، ولحقت به رغم العاصفة والسيول، ولكنه رفض
استقبالها في بيته قائلاً لها: "قدماك مُعبَّأتان بالطين وعتبتي نظيفة
لامعة". وعندما عاتبها على مقايضة جسدها بالمال، بكتْ وخرجت، في حين ترامى
هو على فراشه الخالي، في الوقت الذي كانت العاصفة في أقسى درجاتها، وانتهى
حلمه الكبير وراءه بابه المغلق (ص122). وكما كان الشاب وحيداً ومُتْعَباً
يمضغ واقعه القاسي في مطلع القصة، بقي وحيداً ومتعباً ومحبطاً يشكو موت
أحلامه في نهاية القصة، فبين البداية والنهاية، إذن علاقة وثقى، فالأخيرة
تعيدنا إلى الأولى، والإيحاء فيهما واحد، فالكاتب يريد أن يركز اهتمامنا
على قسوة الواقع وبؤس الشباب، لذا يجتهد في أن يحرف إدانتنا لهم، إذ يفهمون
الحبّ ممارسة عملية حياتية، لتنصب على الزمن الأعجف الذي قال فيه الكاتب
وفي وَقْعِه على حبيب (ليلى): "يودّ التملّص منه فلا يستطيع، ويتمادى
الواقع مُتلذّذاً بِسحقه، ويتركه هباءً منثوراً على الأرصفة البالية بقايا
إنسان شِبْه مَيْت"-
(ص 109)، فالواقع المرّ الجافي الباعث للخوف والخيبة هو الذي أفسد
الحب وحطّم الأحلام، وحال دون الزواج، وهذا بالضبط ما حدث لصاحب ليلى،
ولليلى في الوقت ذاته، فالشاب رفض (ليلى)، لأنها لم تلتزم بعلاقته البريئة
من المال والحاجة، وهي اندفعت في حمأة الرذيلة، ومزالق الملذات تحت ضغط
الحاجة، ولأن حبيبها الأول لم يكن قادراً على الزواج منها، فهذه إذاً مأساة
مزدوجة التأثير، ضحاياها شابٌّ وفتاة عاجزان، والواقع المرّ القاسي هو الذي
سبَّبها وحاك خيوطها. وقد عزَّز الكاتب من وقع المأساة بإشراك الطبيعة
فيها، فجعل العاصفة تقع في أقسى درجاتها بعد أن تَخْرج ليلى من بيت حبيبها
باكيةً خائبةً مهزومة...
وفي القصة الثامنة نجد الكاتب يرصد حالة الضيق والتأزّم في الحياة
الاقتصادية والاجتماعية في أواخر الثمانينيات في قطرنا. والقصة تحكي
ظاهرياً قصة رجل فقد زوجته، ولكنها في الحقيقة ترصد واقعاً أليَمَاً
مُزْرِياً مأزوماً، كان يُلمّ بالناس والأشياء عند كتابتها، فالزوجة هربت
من بيت زوجها منذ شهرين، وراح هو يبحث عنها، وكان سبب اختفائها انعدام
المواد التموينية في البيت، وقد قدّم الكاتب لمحة عن العائلة التي تكونت
منذ ثلاثين عاماً، وفيها ثلاثة أولاد ورجل وامرأة وكان أحد الأولاد طبيباً.
أما اسم الرجل فهو (عبد الله الحافي)، واسم المرأة (بحرية). وقد خرجت
(بحرية) ومعها أساورها الذهبية... ويستغل الكاتب بحث الرجل عن المرأة
ليصور لنا حالة الناس والأسواق في مدينته وفي كل المدن آنئذٍ، فالأفران
تزدحم بطالبي الخبز الذين يمتدّ طابورهم أمتاراً، وعندما يُسْأَل طبيب
العائلة عن (بحرية) يشير إلى إمكانية فقدانها للذاكرة، وهذا يفسّر نسيانها
لمكان بيتها، وحينما تسأل (أم إياد) عن صديقتها (بحرية) تذكر أن آخر عَهْدٍ
لها بها هو رؤيتها لها ترقص في عرس (فياض العامر)، الرجل الثري جدّاً، ولكن
رقصها ينتهي بدموع غزيرة على خدَّيْها... وإذا تساءلنا عن رقص (بحرية)
الغريب المفاجئ، وعن هروبها من حلم إلى حلم، وعن سرّ تفتيشها عن شيء ضائع
تجهل حقيقته، وجدنا الفقر والحاجة والتأزم والضيق هي التي كانت وراء ذلك...
والدليل أنَّ زوجها (عبدالله الحافي) قد انتهى في آخر المطاف إلى حاوية
للقمامة يفتّش فيها عن قطعة خبز حاف تقيم أَوَدَه، وهو أب لطبيبٍ ولثلاثِ
بنات أخْريات، وينتهي به الأمر إلى أنْ يضرب هامته بجدار استند إليه،
ويتهاوى ساقطاً، حتى إذا لمحه صديق قديم له اقترب منه وأنهضه، وراحا يبحثان
من جديد عن الزوجة المفقودة (من زقاق متربٍ إلى زقاق مترب آخر)، (ص139).
دراسة النموذج – (بائع التوابيت):
أما القصة الأولى، وهي بعنوان (بائع التوابيت) وقد أخرنا الحديث
عنها لتكون القصة النموذج والمدروسة بعمق هنا، فهي قصة لا تدخل في مجال
الرصد والنقد، ورفض السلوك الخاطئ والنهج المنحرف، بل تحكي قصة انطفاء
الحلم في عَيْنَي رجلٍ يدعى (عبد الله) يعمل في بيع التوابيت، وعبد الله
هذا مثله مثل بعض عبيد الله الذين يشكلون شريحة من شرائح المجتمع، إنه
وحيد، وبائس لا بيت لـه ولا زوجة ولا أطفال، بل هو (وحيد منبوذ كقطٍّ
أسود)، وفي هذا كله إرهاص وتمهيد لما سيقع له فيما بعد، ولكن عبد الله، رغم
مآسيه، له قلب يحبّ وله روح تحلم، فهو يعشق جارته (هُدَى) هذه التي كان
يعرف عنها كل شيء، والتي صارت عنده كل شيء؛ فهي (كالهواء الذي يتنفسه
والحياة التي يعيشها) (ص19).
ولكن (عبد الله) يُفاجأَ ذات يوم بموت رجل يُدْعَى (إلياس خليل
إلياس)، وهو رجل فقير بائس، ولكنه طويل بإفراط، إلى درجة لم يجد فيها (عبد
الله) تابوتاً بطولـه، فرأى أن حلَّ هذه المشكلة هو أن يفتح مؤخرة أحد
التوابيت لتتدلّى قدما (إلياس) منها، ويمشي عبد الله في جنازة إلياس، ويحزن
كثيراً ويبكي لأول مرَّة، بعد أن كان يؤدي عمله هذا دون بكاء في مرات عديدة
سابقة....
وقد جعل الكاتب المقطعَيْنِ الأوّلين من القصة مناخاً مناسباً لحزن
بائع التوابيت، بيد أن هذا الجو النفسي الذي صوّره الكاتب قد طُوِّر في
المقطع الثالث، فقد تفجَّرت كل أحزان (عبد الله) في اللحظة التي رأى فيها
حبيبته (هدى)، من خلال نافذته، تناجي خطيباً جديداً، ضاربة عرض الحائط
بحُبِّ عبدالله لها... عندئذٍ عمَّتْ الكآبة المكان، كما عمَّت كآبة الموت
نفس عبد الله بعد قليل، إثر مشاركته في دفن (إلياس خليل إلياس)، ولا يكون
من عبد الله إلاَّ أن يختار تابوتاً من توابيت الفقراء، ويخلع سترته، ويرسم
إشارة الصليب، ويتمدَّد في التابوت الأسود، ويحلم أنه يموت، وفي حلمه هذا
يلتقي هدى، ويضع يدها في يده ويضمَّها وتضمّه... ثم يبكي للمرة الثانية في
هذا اليوم، ويصرخ ثم يصمت... و"يمدّ يده المرتجفة لتغلق غطاء التابوت"-
(ص21).
والحقيقة أن هذه القصة فيما أرى قد استوفت عَناصر القصة الفنية
بقوة، وحققتها؛ ففيها حسن العرض، وفيها نمو الحدث، وفيها العنصر المسرحي...
وقد برزت فيها مجموعة من الثنائيات التي قاد بعضها إلى بعض، فالحزن والحب
ثنائيان عالج أحدهما الآخر، فبالحب كان عبد الله ينتصر على أحزانه، وكآبة
الموت الحقيقي، قادت من خلال موقف نفسي إلى كآبة المحبّ، فكآبة المكان
ككآبة الموت تماماً، خاصة بعد أن انصرفت (هدى) إلى رجل آخر، وقتلت بُرْعُم
الحب في قلب (عبد الله)، وكذلك قاد إغلاق نافذة كوخ عبد الله، التي شكّلت
متنفّساً لضيقه وبؤسه بالتداعي، إلى أنْ يفكر عبد الله بإغلاق التابوت على
نفسه في ختام القصة...! فقد تحوّلت بهجته بالحب إلى خيبة، وصار صراخه
صمتاً، والنور ظلاماً... ولكنّه أراد أن ينتصر على هذه الوقائع القاسية
بالحلم، لذا فإن إغلاق التابوت هنا أدَّى غرضين اثنين؛ فهو من زاوية يمثّل
رغبة في الموت، ومن زاوية أخرى يمثّل رغبة في القبض على الحلم الجميل، فعبد
الله في حُلْمِهِ التقى هدى وضمَّها وضمّته، ورتَّلت لهما الملائكة
أناشيدها الجميلة المتهادية في سماء لا نهاية لها. إذاً كان إغلاق التابوت
ظاهرياً يشكّل تجسيداً لرغبة الموت والدفن والانطفاء، وبالعمق يجسّد حرْصاً
على الحياة الهانئة وأحلامها الوردية الجميلة. وكما كان الواقع قاتِلاً
للأحلام في قصة "اللصوص وعروس البحر" فإن الأحلام هنا شكّلت نقيض الواقع
وَوَجْهَهُ الآخر. وبذلك ظهر الصراع بين الأماني الرقيقة الشفّافة،
والوقائع القاتمة السوداء، خيطاً واضحاً في نسيج الإبداع القصصي عند (رياض
نصّور)، وهو دون ريب خيط خطير في كل أدب عظيم، لأن الإنسانية لا تكفُّ عن
ممارسة أَحْلاَمها، في الوقت الذي تعيش وقائع حياتها. وكم سيكون الأمر
رهيباً لو تصوّرنا حياةً لا حُلْمَ فيها؟ إن الأحلام والأماني هي الزاد
الذي نتبلّغ لنتمكّن من تقطيع أيامنا بارتياح، ونستطيع مجابهة حدثان الدهور
والأزمان.
وقد نما الحدث من خلال الجو النفسي الذي صنعه الكاتب، فبطل القصة
بائعُ توابيت، وبين التابوت والموت علاقة قوية، فالتابوت هو سرير الجثة
الهامدة ووسيلتها لتنقل إلى القبر. وعدم وجود تابوت لـ(إلياس) الطويل جداً،
يُفجِّر تعاطُفاً حزيناً معه، فقد لاحقه البؤس من حياته إلى مماته، وانكشفت
قدماه للناس من مؤخرة تابوته، وهذه مشكلة مأساوية سببت لعبد الله الحزنَ،
فبكا لأول مرة. والحقيقة أنَّ المشاعر المتجاورة يُعْدي بعضها بعضاً، فيفجر
النظير منها نظيره...
وكما تَفاعَلتِ المشاعر، تداخلت الأزمنة في سرد القصّة ورواية
أحداثها، فعبد الله محبّ منذ زمن، وحبُّهُ مُحْبَط لا يمكن تحقيقه، لذا
فإن اليوم الذي دُفِنَ فيه إلياس، أعاد بطل القصة إلى ماضيه، فها هي ذي
صورة هدى تُوْقِظُ في نفس عبد الله مشاعر الحب من جديد، فيستعيد ماضيه،
ويقوده تفكيره من خلال تجربة الموت الحاضرة إلى التفكير بالموت وتنفيذه
فعلاً. وهكذا فإن الحاضر ابتعث الماضي والماضي استبدَّ بالحاضر، وأطفأ شمعة
المستقبل، فوقع اليأس فالقنوط فالموت...
أما العنصر المسرحي فقد تمثّل، بالمشاهد الآتية المتتالية: عبد الله
يسير واحداً في الشارع يضرب يداً بيد، مُفتِّشاً عن شخص يبثُّ لهُ
هُمُومَه. تُطِلّ عليه امرأة من باب بيتها، هي (أم جميل)، فيحاورها ويخبرها
بموت (إلياس خليل إلياس)؛ وبما أنَّ طول هذا الرجل المُفرِط يجعل إيجاد
تابوت له ملائمٍ مُتَعذَّراً، تبكي العجوز، وتتذكر هي موتها، وتغطي
عَيْنَيْها بيدها المعروقة، وهذا الموقف يتكرر شبيهه في ختام القصة، مع
تبادل الفاعل، إذ يبكي عبد الله ويغطي تابوته بيديه.
وفي مشهد جديد يلتقي عبد الله بزوج الفقيد، ويتحاوران، ثم يعود عبد
الله إلى القبو، حيث التوابيت يعلو أحدها الآخر. يحمل واحداً منها ويضعه
في سيارة ويجلس إلى جانب السائق، ويبدأ بالثرثرة وكأنه وحيد، لأن السائق لا
يُصْغِي إليه. أما المشهد الآخر فهو عند وصول التابوت إلى البيت، حيث
يتعالى الصياح والعويل، ويدخل أناسٌ ويخرجون، ويوضع الميت في التابوت الذي
كُسرت مؤخرته ليتسع لجسد الميت. ويبكي عبد الله في الجنازة في الوقت الذي
يرقب منظر التابوت على أيدي العمال مُتّجهاً إلى مثواه الأخير.
وفي المقطع الثالث من القصة يعود عبد الله إلى بيته، حزيناً كئيباً،
يفتح نافذته ليرى (هدى) تناجي خطيبها الجديد، فيصرخ عبد الله ويتأوَّهُ،
تغلق (هدى) النافذة، وتتوارى عن الأنظار. وعندئذٍ ينزل عبد الله من غرفته
إلى قبره، ويختار تابوتاً أسودَ، ويمارس بعض طقوس ما قبل الموت ويتمدد في
التابوت، فتتوارد عليه الأحلام ويحاول القبض عليها من خلال حركة يده
المرتجفة التي تغلق الغطاء... إننا أمام قصة مرشحة إلى أن تتحول، في نظري،
إلى مشاهد تلفازية، وها نحن قد قدّمنا ملخصاً عن (السيناريو) الذي نظن أنه
يمكن لمخرج مسرحي أو تلفازي، أن يُحَوِّلَه من كلامٍ مطبوعٍ على ورقٍ، إلى
حوار ومشاهد حركية على الشاشة، مصحوبة بتأثيرات صوتية ومشهدية أخرى.
وإذا كان عبد الله يمثّل شخصية انسحابية حالمة، فإنَّ شخصيات أخرى
في قصص (رياض نصّور) كانت شخصيات فاعلة وإيجابية. إن قِيَمَ السلْب
والإيجاب قد تُدُوْلِت بين شخصيات القصص ودلالاتها. فكما صوَّر الصياد بعض
القيم السلبية في قصصة (الصياد وليالي الفراق الطويلة)، إذِ امتهن التهريب
وانتهى إلى السجن، مثَّل مروان في قصة (الطبل) قيمةٌ إيجابية، إذ مزَّق
الطبل، وكأنه يمزّق الآغا، ونادى رفاقه وفي ذهنه شَبَحُ الآغا قائلاً:
"اقتربوا لاتخافوا، إنه طبل أجوف".
وكذلك حاول الكاتب، فيما أرى، أنْ يُعمِّم النموذج الذي اختاره من
الحياة، وذلك من خلال إغفال تسمية أبطاله، فهو وإنْ سمَّى بعض الشخصيات:
(عبد الله)، و(إياد)، و(معين)، و(عبد القادر الريان)، و(مروان)، فإنَّه ترك
بعضها دون تحديد. وفي هذا تَعْميم للحالة وإِطْلاق للقيمة المبثوثة في
القصة، فنحن لم نعرف اسم (الآغا)، ويمكننا أن نفهم من سلوكه الشاذ الكريه
أنه يمثّل الآغاوات جميعهم... ونحن لم نعرف اسم (الأخطبوط) الذي قد يكون
أيَّ صاحب سلطان أو نفوذ أوجاه أو غنى، يسلك المسلك المغلوط والمدان، وفي
ذلك تنديد بأي مسلك يشبه مسلك (الأخطبوط)، وفي قصة (صراخ) التي أجهضت فيها
فتاةٌ حَمْلَها غير الشرعي، لم يذكر الكاتب اسم الشاب ولا اسم الفتاة، وذلك
ليعمّم أمثولة هذه الحادثة المأساوية الراشحة بالحزن والغضب والاستنكار
معاً.
ولكن الكاتب سَمَّى الصياد المهرب (سعيداً)، وهي تسمية ساخرة
فالسعادة لم تكن بين كفَّيْ هذا الصياد لحظة. أما الرجل الذي فقد زوجته،
فاسمُهُ (عبد الله الحافي). وفي هذا الوصف لذاك الرجل ـ (الحافي)ـ اتساقٌ
مع شقاء (عبد الله)، وعذابه، ومحنه، حين كان مع زوجته (بحرية) يبحثان عن
المواد التموينية، فلا يجدانها، فيُساطان بسياط العذاب واللوعة....
وقد مرَّ بنا بوضوح استثمار الكاتب لعنصر الأحلام في فنّه القصصي،
وخاصّة في قصتيِه (بائع التوابيت)، و(اللصوص وعروس البحر)، بيد أنَّ
الأحلام لم تكن وحدها التي حملت عبء هذا الفن، فثمَّة الوصف الدقيق والحاذق
والهادف معاً، والذي تخلله شيءٌ من الرمزية أيضاً، وشيءٌ آخر من إِشْراك
الطبيعة الحيَّة والصامتة في إِحداث الأثر المرجّو، فعندما أغلق عَبْد الله
تابوته بيده "عَمَّ الظلام، وخرجت الصراصير والعناكب من جحورها المظلمة
باتجاه التابوت الساكن في منتصف القبو المظلم". وعندما غادرت ليلى بَيْتَ
حبيبها، وكانت قدماها معبّأتين بالطين، كانت العاصفة في أقصى درجاتها. وفي
ذكْر الكاتب للطين الذي وسخ قدَمْي ليلى وذكر نظافة عتبته، إشارتان رمزيتان
للفرق بينهما، فليلى انحرفت في نظر صاحبها، وبقي هو على حبّه دونما انحراف
كما يرى الكاتب.
وكذلك حَضَرَ الحوار في مكانه وَوُزِّعَ بحكمة وحنكة عَلَى جسم
القصة، فلا إفراط ولا تفريط، وكان حواراً مركزاً هادفاً يُؤَدِّي غرضه
بنجاح، ويُتْرَكَ عندما يجب تَرْكَه، لمصلحة الوصف أو المناجاة، اللذين هما
أيضاً شكّلا لونَيْنِ من ألوان النسيج اللغوي للقصّة عند الكاتب، فبدت
غالباً حائزة مزيداً من الرشاقة وقوة الالتحام.
والحقيقة أن المفردات المختارة والعبارات المؤلفة نَمَّتْ عَلَى
لغةِ سرد لا تقعّر فيها ولا ابتذال،ولا تعقيد ولا تسطُّح، ففيها من البساطة
قَدْرٌ، ومن الشاعرية قَدْرٌ آخر، وبين هذين الحدَّيْنِ تراوح لغة القَصّ
التي نروم أن نقرأها عند كتاب القصّة في أيامنا هذه. وقد قرأناها فعلاً في
مجموعة (اللصوص وعروس البحر) لرياض نصّور.
العودة إلى البحر
لأحمد زياد محبك
مجموعة قصص " العودة إلى البحر" هي المجموعة السادسة والأخيرة للقاص
الدكتور (أحمد زياد محبك)، وقد أصدرها بعد خمس مجموعات قصصية له بدأ بنشرها
منذ العام 1986. وبين هذا العام وذاك، قام الدكتور (محبك) بنشر مجموعة
كبيرة من الحكايات الشعبية المعبرة عن وجدان الناس وثقافتهم في بلادنا، كما
أنشأ دراسات جادة حول الأجناس الأدبية المختلفة، كالمسرحية والقصة والرواية
والشعر. ومارس أيضاً كتابة المسرحية في (بدر الزمان 1996)، والرواية في
(الكوبرا تصنع العسل 1996)، واتسعت دراساته النقدية وتنوعت، وكان آخرها
كتابه: دراسات نقدية من الأسطورة إلى القصة (دمشق 2001).
وسنركز اهتمامنا هنا حول مجموعة الكاتب الأخيرة "العودة إلى البحر"
الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في العام 2001، لأن الوقوف عند الأثر
الأخير للمؤلف له مغزاه، فهو قمين أن يمثل نضج التجربة واكتمال الخبرة، كما
أن سنوات التمرس والتجربة الطويلة هي الكفيلة بامتلاك الكاتب لأسلوبه الخاص
وحيازة ميسمه الفني.
تضم هذه المجموعة إحدى عشرة قصة قصيرة، وتقع في 153 صفحة من القطع
المتوسط. وليس بين هذه القصص أية قصة قصيرة جداً تشبه مجموعة الكاتب، "لأنك
معي" (2000)، من زاوية الطول والقصر فقط. ويتراوح طول هذه القصص ما بين ست
صفحات، كما في قصة (الشرط الرابع)،و ثماني عشرة صفحة، كما في (تل أم أحمد)
و(العودة إلى البحر). والقصة الأخيرة هي التي وهبت المجموعة عنوانها، فكان
هذا العنوان مستعاراً من عناوين القصص وليس خارجاً عنها، أو ملخصاً
لوحدتها الداخلية لو وجدت، كما هي الحال في عناوين مجموعات أخرى، كمجموعة
"الحصار " لزكريا تامر، ومجموعة " بروق" لقاصين كثر. وهما عنوانان جامعان
لمآلات القصص المحتواة فيهما.
وحين لا توجد وحدة جامعة للقصص المختلفة نكون أمام تنوع في الرؤى
والمضامين وأشكال السرد المتباينة والعناوين والبدايات والنهايات والحبكات
والشخصيات وعناصر القصة الأخرى المختلفة.
ومن أجل دراسة هذا التنوع رأينا أن نمحص هذه القصص، ونستنبط مجموعة
من السمات التي تطبع هذه المجموعة، فخلصنا إثر ذلك إلى النقاط التالية:
أولاً: حضرت في هذه المجموعة القصة القومية كما في قصة (الجدار....
والقبعة الصغيرة)، التي تتحدث عن بطولات شعبنا في فلسطين في أثناء
الانتفاضة الأولى. والقصة الإنسانية كما في (وتبقى الغابة)، التي تدور حول
إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان. والقصة
الاجتماعية كما في (رزمة أوراق)، التي تتحدث عن بؤس أحد موظفي الدولة في
زماننا، بسبب ضآلة راتبه. والقصة الأخلاقية الانتقادية، كما في قصة (ذهاب
... وإياب آخر)، وهي تتمحور حول ظاهرة الرشوة وفساد أخلاق الموظفين في
العاصمة. والقصة القائمة على الموقف المفاجئ وعلى الصدفة التي جعل الكاتب
نهايتها مفتوحة، مما يفتح الباب على تأويلاتٍ مختلفة، كما في قصة (شجيرات
الورد)، وقصة (الشرط الرابع). والقصة المعتمدة على الموازنة بين ماض
وحاضر. وهي موازنة كانت تتسلل إلى كثير من ملامح السرد عند الكاتب كما في
قصصه التالية: (تل أم أحمد)، و(أمسية صيف)، و(العودة إلى البحر).
ثانياً: عول الدكتور (محبك) في سرده على تقنية المزج بين زمنين:
راهنٍ تولّد وغابر تولَّى، فالقاص في قصة (تل أم أحمد) يضع راوي القصة، وهو
مدرس، في مشهد أول، مسرحه مكتب المدرس، ثم يدخل عليه أحد تلامذته القدامى
ممن كان يعلمهم في قرية التل... ثم يكر راجعاً من خلال الحوار إلى الوراء
حيث كان يُعَلِّم في الماضي، بغية الوصول إلى الكلام عن قرية التل وبطلة
هذه القرية (أم أحمد). ويمضي مراوحاً مابين الحاضر والماضي زماناً،
والمكتب والقرية مكاناً. ومن خلال الذكريات والحوار ترتسم صورة أم أحمد
الأرملة وأم البنات الصامدة في وجه أعاصير الحياة وإغراءات الرجال،
والمشاركة لأهل القرية في كل شيء، والحكم الذي ترضى حكومته في أمور الزواج
والطلاق والبيع والشراء والأرض والإرث والموت والولادة... ثم القادرة على
سرد الحكايات. وتتكشف النهاية عن معلومة فحواها: أن اسم القرية قد تغير من
التل، ليصبح تل أم أحمد بعد وفاتها، وعن معلومة أخرى تسوغ زيارة الفتى
معلمه، وهي حَمْلُه حكايات أم أحمد لراوي القصة ليكتب لها مقدمة قبل نشرها.
وكذلك الشأن بخصوص قصة (أمسية صيف)، ففيها يوازن الكاتب، على ألسنة
شخصيات القصة مابين ماضي الحديقة وحاضرها، ومابين سوَّاس اليوم وسواس
الأمس، وبين ذوقين هما: ذوق الراوي وهو الوالد، وذوق الابن، فالأول يعشق
شرب السوس، والثاني يحب (الآيس كريم). والأمر ذاته أو ما يشبهه يتكرر في
قصة (من غير كلام). وفي وسع متتبع أدب القاص (محبك)، أن يخلص إلى أنَّ
التغيرات التي كان يخلفها الزمن ويحدثها توالي السنين شكلت هاجساً من هواجس
هذا الكاتب، وهو ما وسم العديد من قصصه في مجموعاته الأخرى. وقد كانت وقفة
الكاتب في الأغلب الأعم إلى جانب الماضي الأنقى والغابر الأصفى.
ثالثاً: كان السرد أحياناً يبدأ من منتصف القصة، ثم يكرُّ السارد
إلى الوراء، لينتهي، بعد الربط بين الأزمان إلى النهاية. وهذا ما نجده في
قصة (شجيرات الورد) وقصة (الجدار والقبعة الصغيرة). وفي أحيان أخرى قد يبدأ
السرد من النهاية، كما هي الحال في بعض تقنيات السينما (طريقة الفلاش باك)،
ثم يعود إلى النهاية، وفي أحوال ثالثة كان السرد يتم على نحو تسلسلي
تصاعدي، كما في قصة (الشرط الرابع).
وربما وفر الخيار الأول والثاني في السرد بعض الجذب والشد للمتلقي،
حيث يلقي الكاتب بالحالة الغامضة أو الموقف المجتزأ، ثم يمضي في الكشف عن
الجزئيات الأخرى، كاشفاً شيئاً فشيئاً عن ملامح الشخصيات الفاعلة في
الأحداث وعن تعاقب المتواليات السردية من خلال تقنيات أخرى كالحوار والوصف
والنجاوى. وهو ما يمثل في قصتي: (رزمة أوراق)، و(ذهاب... وإياب آخر).
إن محفزات السرد عند الكاتب كانت تتمثل بالكشف عن سمات الشخصية
المحورية التي تقوم بالحدث أو يقوم بها الحدث، ففي قصة (ذهاب وغياب آخر)،
يتصاعد الحدث ليكشف عن فساد موظفي المؤسسة في العاصمة التي اضطر بطل القصة
لمراجعتهم، فاكتشف أنهم جميعاً فاسدون يرتشون أو يشجعون على الرشوة. وقد
يمضي السردُ مُحفزّاً بصنع المفارقة، وصياغة المفاجأة وعدم التوقع، كما في
قصتي: (الشرط الرابع)، و(شجيرات الورد). ففي القصة الثانية هنا يفاجأ
القارئ بأن الفتى الأمين الذي يعمل أجيراً في بقالية، والذي يهبط خلسة إلى
شقة رجل ثري ليستطلع ما فيها من خيرات، ولم يقطف وردة واحدة من ورودها،
يفاجأ بأن صاحب هذه الشقة الفخمة أراد أن يترك مفتاح شقته عند البقال،
ليعطيه بدوره إلى ذاك الأجير الفقير الأمين، الذي دخل شقته خلسة ليسقي له
شجيرات الورد، وسيترك له الثلاجة ملأى بالطعام ليأكل. ويتوقف السرد عند
اللحظة التي يدخل فيها الرجل الثري باب البناية، واللحظة التي يكون فيها
الفتى الفقير في شقته يحاور نفسه. وهي نهاية مفتوحة أراد الكاتب في ظني أن
نشاركه في الاحتمالات المتوقعة لختامها، بعد أن سكت عن الكلام وترك الأمور
معلقة.
رابعاً: بدت بعض القصص تشكو من الإطالة غير المسوغة، فقد كانت
القصة، أحياناً، تنتهي ولا ينتهي السرد، وفي أحيان أخرى ينتهي السرد ولا
تنتهي القصة. وإذا كنا اجتهدنا في فهم الحالة الثانية أعني انتهاء السرد
قبل انتهاء القصة، فإننا لا نرى تسويغاً للحالة الأولى، وهي الحالة التي
أجد مثالاً عليها في قصة (تل أم أحمد)، فقد كان الأولى، في نظري، أن ينهي
القاص سرده عند استلام راوي القصة لحكايات أم أحمد، وموافقته على كتابة
مقدمة لها، دونما استطرادٍ للسؤال عن مختار القرية وعن التل والكتابات
العربية المسطورة على بعض سفوحه، لأن ذلك يشوش وحدة الأثر المتوخى أن تحدثه
القصة القصيرة. ومما شوش وحدة الأثر في هذه القصة استطرادات أخرى ما كان
لها حاجة، حتى أنني أزعم أنه كان بالإمكان أن تكتب هذه القصة بحجم نصف
صفحاتها الثماني عشرة.
ولو أن الكاتب الذي حذق الإثبات قد حذق الحذف، لبدا عمله أكثر
صقلاً، ولدفع عنه بعض الحشو و المط الآيلين إلى الإملال. وإني لأزعم أن
الكاتب نفسه لو أعاد كتابة قصة (قط من فخار)، لحررها من كثير من الحشو غير
النافع والاستطراد غير الموظف، وكذلك الشأن بخصوص قصة (العودة إلى البحر)،
التي حوت تفاصيل لا قبل لجناحي القصة القصيرة الرشيقين بحملها. ويحضرني هنا
ما قاله الكاتب الأرجنتيني (بورخيس) عن سبب إعجابه بقصص (كيبيلنغ) وهو :
أنه لا يوجد في تلك القصص كلمة واحدة لا لزوم لها. وأنه يريد أن يتعلم منه
هذه التقنية.
إن الحبكة التي تتمثل في انتقاء تفاصيل ذات مغزى، بطريقة ماهرة لم
تقوَ في قصة (العودة إلى البحر)، في نظري، على أن تبعد عن سياقها لمحات من
السرد غير مقنعة، فالحجر البحري الأبيض الذي أهدته زوجة الراوي إلى سائق
سيارة الشحن لا يعقل أن يكون سبباً لمعرفته الاتجاه الصحيح، وتبديل نهجه في
العمل ونقل الحجارة. يقول: الراوي للسائق بعد أن التقاه مرة ثانية: "عرفت
إذن الاتجاه الصحيح". فيجيبه: أجل. ويقول الراوي: وكيف؟، فيجيبه السائق:
"الفضل لزوجتك، هي التي أهدتني هذا الحجر، منه تعلمت أن حجراً عن حجر
يختلف، صرت أسأل إلى أين هذا الحجر وإلى أي غرض أنا به ذاهب؟.. إذا كان
لبناء مشفى أو معبد أو مدرسة أو مصنع فأهلاً وسهلاً، أحمله بنصف الأجرة،
إذا كان لردم مستنقع أو صد طوفان أو بناء سد ربما من غير أجر. أما إذا
كان لبناء سجن أو ملهى، فلا وألف لا، ولو دفعوا لي أضعاف ما أتوقع، حتى لقد
أصبحت عبرة بين السائقين، شاحنتي وحدها أصبحت المميزة" ـ (العودة إلى البحر
ص 144-145).
والحق أن المرء ليتساءل: أي سحرٍ في هذا الحجر البحري الأبيض؟..
وماهي مفاعيله، ليتحوّل سائق يعتاش من سيارته إلى رجل ذي رسالة إنسانية
سامية وجليلة، يضحي بجهده وقوت أطفاله بسبب هذا الحجر، ويتبدل من رجل لا
يتحمل مسؤولية مصير الحجارة التي ينقل، إلى رجل يتجاوز حدود عمله، فيحشر
نفسه في أغراض مستخدمي حجارته، ليعرف أهي أغراض خيرة أم شريرة؟ إن نبل مقصد
الكاتب وسعيه لبث قيم نبيلة لا يسوغان له إقحام جزئيات في سرده لا إقناع
فيها، ولم يحملها جناح الفن الخالص، بل حملها جناح الوعظ والإرشاد. والشيء
ذاته يصدق على استطرادات أخرى في القصة ذاتها كما في حديث الكاتب عن مهنة
التعليم لبطلي القصة: الزوج والزوجة، فقد بدا الكلام هنا مفصولاً عن الحدث
وقريباً من التنظير المجرد الذي أخطأ مكان وجوده.
خامساً: إن البطل الإيجابي قد حضر وغاب في هذه المجموعة، فأم أحمد
في القصة الأولى بطلة إيجابية تمثل نموذجاً للمرأة الصامدة والمتفانية
والطيبة، وكذلك أبو صخر وأبو خالد في قصة (الجدار والقبعة الصغيرة) بطلان
عظيمان كلاهما مناضل عنيد يقاوم المحتل الغاشم بجسده العاري، ويجابه
بعينيه مخرز العدو الباغي -إسرائيل، شأنهما شأن أبطال الانتفاضة اليوم.
وكذلك كان بطل قصة (ذهاب وإياب آخر) الذي لم يدفع الرشوة لطالبيها، ولم
يسهم في نشر الفساد وتشجيعه، وهو صاحب مبدأ، وليس دافع مبلغ. ولكن رغم
القيمة الوطنية التي تنافح عنها هذه القصة، وهي مكافحة الرشوة والفساد عند
موظفي الدولة، فإن نهايتها بدت لي غير موفقة، فهي تنتهي بالعبارة التالية
التي تلفظ بها أحد زملاء طالب الرشوة: "في كل الأحوال أنصح لك أن تدفع" ـ
(المجموعة ـ ص 82). وهي عبارة تُبْقِي صوت الفاسد والمفسد هو الأعلى،
والأخير، بدلاً من أن تجعل الصوت الصالح هو الأعلى، وهو الذي يبقى دويُّهُ
في الآذان.
بيد أن نهاية قصة (الجدار والقبعة الصغيرة)، كانت أكثر توفيقاً، فقد
انطوت على عبارات تشجيع على المضي في طريق الكفاح وصولاً إلى النصر
المرتقب، وفيها يقول الكاتب بعد أن أطلق جنود العدو الرصاص على أبي صخر
وأبي خالد: "الحجارة في إثرهم ترجمهم، وعلى الجدار ما تزال بقع الدم وكلمات
تنبض: فلسطين عربية، فلسطين حرة، فلسطين دولة". (المجموعة ص 92). وكذلك وفق
القاص في اختيار اسمي البطلين إذ جعل لهما نَسَبَاً مع الصخر الصلد ومع
الخلود المتوخى للشهداء.
وخلاصة القول في أبطال هذه القصص أن بعضها بدا يكافح قوى أكبر من
قدراته، كما في قصة (رزمة أوراق)، وبعضها بدا يكافح ضد شخصيات أخرى، ولكنه
لا ينهزم أ مامها كما في قصة (الجدار والقبعة الصغيرة)، وقصة (ذهاب وإياب
آخر)، وبعضها بدا يكافح ضد قوى تهزها من الداخل، ولكنه ينتصر عليها كما في
القصة (شجيرات الورد)، فالفتى الفقير الأمين، رغم حاله البائسة لم يقطف
وردة ليست لـه، وما كان نزوله إلى بيت الرجل الثري إلا بدافع الفضول وحب
المعرفة.
سادساً: تعددت أشكال النهايات في القصة القصيرة، وأمكن للنقاد اليوم
أن يروا ستة أنواع منها، هي: النهاية الواضحة، وفيها تحل المشكلة في القصة
دون تعقيدات تذكر. والنهاية الإشكالية، وفيها تبقى المشكلة دون حل.
والنهاية المعضلة، وفيها يمكن أن يكون الحل من خلال مشاركة القارئ في
التوقع دون أن يكون هذا الحل هو الحل المثالي الوحيد. والنهاية الواعدة،
وفيها يتم التنويه بمخارج كثيرة دون ذكرها بصراحة. والنهاية المقلوبة،
وفيها يتخذ البطل موقفاً مناقضاً لما كان عليه في البداية، فإذا كان يكره
شخصاً في البداية، ينتهي به الأمر إلى أن يحبه في النهاية. والنهاية
المفاجئة، وفيها يفاجئ السارد القارئ بحل غير متوقع.
والتدقيق في نهايات قصص الدكتور (محبك) يُفْضي إلى استبعاد النهاية
المقلوبة والنهاية المفاجئة من بين نهايات قصص هذه المجموعة، في حين تتوافر
النهايات الأخرى الأربع فيها.
فالنهاية الواضحة بدت بسطوع في قصة (تل أم أحمد) فالراوي يوافق على
كتابة مقدمة حكايات أم أحمد التي حملها له تلميذه، كما يوافق أيضاً على
جزئية إضافية كانَت موضع انتقادنا، وهي زيارة قرية التل في وقت قريب.
والنهاية الإشكالية تلحظ في قصة الكاتب (الشرط الرابع)، فالمحامي
الذي تحدثه ابنته ـ طالبة الطب عن خطيبها، يُفاجأ بشخص لم يكن يتوقعه، شخص
دميم الخلقة شاحب الوجه ناتئ عظم الوجه، شعر رأسه مرفوع إلى فوق مثل قنفذ
يزكم الوالد بَخْرُ فيه، وقميصه أحمر مخطط بالأخضر، وأسنانه نخرة وشفتاه
غليظتان، كما يفاجأ بصوت ابنته على الهاتف يقول له: إن هذا الذي أمامك
خطيبي! وهنا تنشأ أسئلة عديدة: فهل سيقبل الوالد المحامي بهذا الخطيب
لابنته ويرحب به؟ أم يرفضه ويطرده من مكتبه؟ أم سيقول قولاً وسطاً بين بين؟
وهل سيعود إلى ابنته بهجوم عنيف عليها وعلى خيارها غير المناسب؟ أم سيعود
إليها ليحاورها بهدوء وتعقل ليقنعها بخطأ خيارها؟ إنها حقاًً نهاية إشكالية
أبقت المشكلة دون حل وتركت الموقف معلقاً لا مخرج منه.
والنهاية المعضلة تبدت في ختام قصة (شجيرات الورد)، إذ بقيت الدائرة
غير مغلقة، رسم الكاتب لها قوساً من هنا وقوساً من هناك، ولم يدعهما
يلتقيان، فتركنا في مكانين، يفصل بينهما درج البناية، فالأجير الفقير
(أحمد) يقبع في داخل شقة الثري (ماجد) بعد أن دخلها من غير بابها خلسةً.
والثري (ماجد) يفكر في وضع مفتاح الشقة بين يدي (أحمد) ليسقي (شجيرات
الورد) ظناً منه بحسن أمانته...! فماذا لو دخل (ماجد) على (أحمد) وهو في
الشقة؟؟ بل قد لا يكون هذا السؤال الوحيد المطروح إزاء هذا الموقف؛
والاحتمالات المطروحة: هل يلتقي (ماجد) و(أحمد) على درج البناية؟ أو هل
يخرج (أحمد)، ويدخل (ماجد)؟.. وأخيراً هل يتسلم (أحمد) المفتاح من (ماجد)
ليأكل من طعام ثلاجته ويسقي شجيرات ورده؟..
إن الأمانة المتحققة في (أحمد) الفقير مهددة بظن الخيانة من (ماجد)
بأنها قد تكون موضع لبس وسوء ظن. وليس لهذه المعضلة من حل مثالي في نظري.
أما النهاية الواعدة، فتتمثل في ختام قصة (الجدار والقبعة الصغيرة)،
ففيها يتلامح وعدّه بانتصار فلسطين، وقيام دولتها، رغم مقتل أبي صخر الذي
كان يكتب بدمه: ((فلسطين دولة...))..
سابعاً ـ وتبقى سمة سابعة تتمثل في اختيار عناوين القصص. والمعروف
أن العنوان يمثل عنصراً من عناصر تشكيل الدلالة في النص، وجزءاً من
استراتيجيته. وقد تنزلت العناوين منازل من حيث دقتها وفنيّتها وإيحاؤها.
وكانت جميعاً تتكون من كلمتين فأكثر. وليس ثمة عنوان من كلمة واحدة.
والكاتب فيها آثر الجملة الاسمية على الجملة الفعلية. فمن بين أحد
عشر عنواناً هناك عنوان واحد مكون من جملة فعلية هو: ((وتبقى الغابة))
وعنوان واحد من شبه جملة هو ((من غير كلام)).
وعول الكاتب أحياناً على المكان، فجعله عنواناً، كما في (تل أم
أحمد)، وعلى الزمان أحياناً، كما في (أمسية صيف)، وعلى الموقف الماثل في
ختام القصة، أو بعض منه، كما في (قط من فخار)، أو على ما يوحي بمضمون
القصة، كما في العنوان (رزمة أوراق) و(تبقى الغابة).
واختار عنوانات أخرى تشوّش الأفكار، ولا تتساوق مع المضمون، كما في
عنوان قصة (الشرط الرابع)، فالقصة الموسومة به لم تحوِ شروطاً ثلاثة ليكون
عنوانها (الشرط الرابع)، ومن هنا جاء هذا العنوان متساوقاً، من حيث الغموض
والتشويش، مع نهاية القصة الإشكالية، كما مر بنا من قبل.
وما تقدم يفضي إلى القول: إن الدكتور (محبك) لم يكن ليختار عناوينه
جزافاً، بل كان يفكر بها، ويتدبرها، ثم يضعها تاجاً على هامة القصة لأغراض
مختلفة.
ولسنا هنا لنطالب (د.محبك) بتسمية، الأشياء بأسمائها، لأن تسمية
الشيء تلغي 70% من متعة قراءته، كما يقول (مالارميه). ولهذا فإن عدم تسمية
الأشياء بأسمائها من شأنه أن يحض الفكر على التأمل والتفكير، وهذه مهمة من
مهمات الفن محمودة.
وبعد، فإن هذه سبع السمات الواسمة لقصص مجموعة "العودة إلى البحر"
للدكتور(أحمد زياد محبك)، لا نراها تقتصر على هذا العمل الفني فحسب، بل
تتجاوزه إلى بعض تجارب هذا الكاتب القصصية. وهي تجارب بدأت منذ خمس عشرة
سنة، ونظن أنها ستستمر في الصعود إلى الأعلى حيث السرد الأجمل والإدهاش
الأمثل.
الترجُّل عن صهوة الخوف
لزكريا شريقي
زكريا شريقي قاص سوري معروف ولد في اللاذقية عام 1940. وهو يحمل
إجازة في الحقوق، وقد عمل سفيراً لسورية في الصين وبولونيا. وكان عضواً في
هيئة تحرير مجلة الموقف الأدبي. ومارس كتابة القصة والرواية. ومن مجموعاته
القصصية "غبار الإسمنت"، دمشق 1977، و"الضوء من الباب" دمشق 1978، و"آخر
أخبار قرية العُلَّيق"، دمشق 1979، و"قل يا بحر"، دمشق 1981،.... الخ. ومن
رواياته "يقظان حياً"، اللاذقية 1987. وكانت مجموعته الأخيرة هي هذه التي
نقف عندها "الترجُّل عن صهوة الخوف". وقد صدرت عن اتحاد الكتاب العرب عام
1995.
والمعروف أيضاً عن هذا الكاتب أنه فنّان تشكيلي، أقام ثمانية معارض
شخصية، كان آخرها بدمشق عام 1989، وعنوانه: رؤية من الصين.
وقارئ مجموعة (زكريا الشريقي) "الترجُّل عن صهوة الخوف"، المكوّنة
من عشر قصص، يشعر للوهلة الأولى بأن صاحبها مسكونٌ بهاجسِ الجرأةِ
والانتفاضة، بل والثورة على البالي والمهترئ والمغلوط في الوطن والحياة.
فهو كاتب يقدّس الكرامة الإنسانية ويعشق الحقيقة والمعرفة والقدوة الحسنة،
ويبشر بالمستقبل المشرق، ويتبنَّى مفاهيم العدل، واحترام القانون،
والإخلاص للوطن، والانحياز إلى الفقراء.... فهذه هي القيم التي رسمت للقصص
مسارها، وشكلَّتْ الأضواء الهادية لاتِّساق تصميمها، وأطّرت مساعي شخوصها،
وأفكار أبطالها وأقوالهم.
وقد كان الراوي في قصص المجموعة، باستثناء اثنتين منها، هما: (هجرة
السنونو) و(الزمن الآخر)، هو ضمير المتكلم، ولعل ضمير (الأنا) يدل، فيما
يدل، على حميميّة خاصة مابين الكاتب وشخوصه التي تتقمَّص أفكاره. فكأن
هناك شيئاً يؤرّق الكاتب ويريد قوله، والتصريح به، فيدفعه إلى أن يماهي
مابينه وبين أبطال قصصه.
وعلى الرغم من مداراة الكاتب لخطر التصريح والتبشير والمباشرة، فقد
بدا (الراوي) عنده عارفاً بكل شيء، وظهر في بعض الأحيان، كأنه أستاذ في
قاعة درس يشرح ويخطب، أو يعظ ويأمر... وها هو ذا بطل قصّة (قصة حب) يقول
مخاطباً البحر: "اقتل الأشرار الذين يزرعون الفقر في عيون الناس، والجوع في
بطون الأطفال، انتصِبْ ضدّ القوانين التي تحمي الأغنياء، والسَّفلة
والأوغاد". ـ (ص79).وإذا كانت (قصة حب) تقوم على مناجاة مدينة الكاتب
(اللاذقية) وتنهض على ذكريات الماضي وحوار الحاضر، وأماني المستقبل، فإن
القصص الأخرى شكَّلها العديد من النقائض، وتفاعل الكثير من العناصر
المتنافرة: كالفقر والغنى، والخنوع والانتفاضة، والجهل والعلم، والعبودية
والحرية، والاستبداد والديمقراطية... وبإيجاز، فإن الخطاب السائد في فترة
مابعد نكسة الخامس من حزيران 1967 وإعلامه، وثقافته، هو الذي استبدَّ
بمضامين المجموعة الفكرية والسياسية والاجتماعية. ولا غرو في ذلك فإن آثار
نكسة حزيران، ومعالم التخلف العربي، ومناخ القهر والاستبداد، ما زالت سمات
هذه المرحلة التي نحياها اليوم.
آ ـ العنوان والمضمون:
ولا أدلَّ على ما أقول من عنوان المجموعة ذاتها، "الترجُّل عن صهوة
الخوف"، فقد أراد الكاتب أن يكافح الحياة ونتنها وأمراضها وعيوبها بالجرأة
والجسارة.... وإذا كان مضمون المجموعة لا ينسجم انسجاماً كاملاً مع هذا
الهدف، فإن المَيْسَم الغالب عليها هو كُرْه الخوف وتمجيد الجرأة. وقد ظهر
هذا بوضوح في قصة (شمس منتصف الليل)، فالشمس هنا بنورها ترمز للثورة التي
تبدد الظلمة، وبنارها تقضي على النتن المنبعث من أرض الوطن الهامدة
والباردة... وقد رأى الكاتب أن رائحة النتن الكريهة تنتج عن العبث بمقومات
الحياة، فهو يقول عن الوطن الذي يريده ناهضاً نقياً نظيفاً: "هو كل شيء
بالنسبة للإنسان، ولا يجوز السكوت عن الذين يقايضون بمقومات الحياة فيه" ـ
(ص34). وفي هذه القصة يطلعنا الكاتب على أن بطلها قد تعلم من جدِّه أن
الرمادي مرفوض، "فإما أحمر أو اسود"، وإذا فَكَكْنا الرموز هنا، قلنا:
"إِمَّا الثورة أو الموت".
أما قصة (هجرة السنونو) فتومئ إلى فكرة فحواها: أن سماء الوطن لا
ترحب بالنماء والتكاثر والتوالد في ظروف الموت والعدوان والجريمة. فقد
هاجرت طيور السنونو من البلاد حاملة بيوضها معها، لأن طقس القتل صار شائعاً
فيها. وقد رمز الكاتب إلى ذلك بمقتل بغل لرجلٍ بائسٍ وسط المدينة، فهاجرت
السنونو احتجاجاً على ذلك... وقد أوقع الكاتب القتل على البغل، في عملية
إزاحة واضحة، فهو يريد القول، إن القتل أصاب الناس لا البغال في وطنه...
وفي قصة (انتباه)، يرمز الكاتب إلى غياب الأمل والجهل بالحقيقة بموت
طيور النوارس، والنوارس، كما يعرف الناس، هي رموز الهداية، ورموز الأمل
بالوصول إلى مرفأ الأمان، فهي التي تهدي البحارة في عرض اليم إلى الشاطئ،
ومرَّ ذكر النوارس في قصة (قصة حب)، وكانت تؤدي غرضاً مشابهاً. وقد ظهر في
هذه القصة الأخيرة هجوم الكاتب بوضوح على ظاهرة التردد والخوف فهو يقول:
"فهمت وأنا أشعر بالخجل ماكان قد استعصى عليَّ فهمه، المسؤولية في الخطأ
حينما ينأى الحب، هي ذلك الخوف الذي يجرف كل شيء إلى وهاد الصمت" ـ (ص95).
ونقرأ في قصة (الزمن الآخر) بيتاً من القصيدة التي كتبها (عارف
المدني)ـ بطل القصة يقول: "وهكذا تظّل زوارقنا تخبط ضد التيار". وفي القصة
ذاتها نطالع على لسان البطل قوله: "ومع ذلك لن أومن إلا بإله يرفض" ـ
(ص110). أما (الصليب) وهو عنوان إحدى القصص فهو يوحي، دون ريب، بمقاومة
السائد الفاسد وبعذاب أصحاب الرسالات، ويؤكّد ذلك ما فاهَ به بطل هذه القصة
من قول مؤدَّاه: "وكانت ذاكرتي في اللحظة ذاتها تنتصب وجهاً لوجه أمام
الخوف، لتستخلص منه الأبعاد الحقيقية لمعنى الوجود ومفهوم أن يكون الإنسان
حيَّاً" ـ (ص114). وتتمثَّل الجرأة المدعو إليها هنا في معرفة الحقيقة، هذه
القيمة التي ضحى الكثيرون بحيواتهم على مذابحها، لأنهم ساروا ضد التيار،
وحملوا (صلبانهم)، وبسطوا أيديهم عليها، ليكونوا شهداء في سبيل ما اعتقدوه
صواباً. وفي هذه الفكرة يقول راوي القصة: "عرفت أن النبوءة التي حملت قوة
الحقيقة إلى نفسي تكمن في أنني حملت صليبي، ومجّدت الحقيقة من أجل
الإنسان" ـ (ص119). وهكذا يبدو (زكريا شريقي) مؤمناً بما قاله
(بللوتيه)، ومآله: "ينبغي للفن أن يصنع المتمردين".
وفي قصة (حكاية لم تنته) يتمنى الكاتب أن يتحول وطنه إلى فرن كبير
تصهر حرارته العالية إيمان غالبية أبنائه بالمستقبل الأفضل للجميع....
فيتوحد فيهم الأمل وفي خطواتهم الطريق بعد أن تستبعد عنه الشوائب،
وتُنَقَّى الأشواك، كما يفعل الفرن العالي في كتلة المعدن الخام ـ (ص141).
أما القصة الأخيرة (بلا عنوان) فليس فيها إشارة إلى الخوف أو نقيضه
(الجرأة)، إلا إذا فهمْنا من تعرية مهنة التهريب وجمع المال الحرام، وكشف
تجاوزات أولي الأمر، لوناً من ألوان الجرأة في الكتابة. (فحاتم زمانه)ـ
محور القصة، ولا أقول بطلها، رجل مُهرِّب يخشى افتضاح أموره. وقد شكل دولة
داخل دولة، وراحت عيونه وجلاوزته ينكلّون بجيرانه على الشاطئ ممن عرفوا
أسرار عمله، فقتل (أبا ذر)، ثم عَذَّبَ عذاباً مبرحاً راوي القصّة ـ
(ضمير المتكلم) لأنه عرف سرَّ موت (أبا ذر). فكلتا المعرفتين اسْتوجبت
العقوبة هنا.... وإذا كان معنى الجرأة بعيداً، نسبياً، عن مجريات أحداث
القصة العاشرة (بلا عنوان)، فإنه كان بعيداً أيضاً عن مجريات القصة الأولى
(مخاض في الشارع)، فراوي القصة هنا يجلد ذاته لأنها لجأت إلى ممارسة
الصَّدَقة وفعْلَ الإحسان نحو امرأة بائسة تحمل وليدها وتسير في الشارع
وتستصرخ أهل الخير.... وفي نظر الكاتب لا يحلُّ الإحسان المسألة، بل ينبغي
أن تكافح هذه الظاهرة من جذورها.
وإذا كانت معالجة التسوّل والفقر مهماز هذه القصة، فإنَّ الفقر
أيضاً كان خيطاً واضحاً في نسيج القصة التي حملت المجموعة عنوانها. ففيها
يبوح الراوي: بأن السؤال المِلْحاح الذي يهاجم ذاكرته دوماً هو: "متى يأتي
الزمن الذي يرتاح فيه الفقراء؟".. ونرجئ الخوض في تفاصيل هذه القصة التي
يوجهنا الكاتب إلى الاهتمام بها، بوصفها عنواناً للمجموعة، إلى مكان آخر،
وذلك لتكون نموذجاً من النماذج المدروسة بعمق وشمول.
وإذا كنت أحاول فَهْمَ تغليب الأعمّ على الأندر في عنوان المجموعة،
أعني تعميم مفهوم الخوف والجرأة على ما عداه من المفاهيم، فإني لا أرى في
عبارة العنوان اتّساقاً مع مرامي الكاتب ومقاصده. فلست أسيغ إضافة الصهوة
إلى الخوف في هذه العبارة: "الترجُّل عن صهوة الخوف". فالصهوة تقترن غالباً
بالجياد وعزِّها ورهافتها، ولا بأس باستعارتها لغيرها، ولكن شرط أن يكون
المستعار لـه مشاكلاً للمستعار منه، فـ(الصهوة) أو أطيافها، تقترن بمعاني
الأنفة والعزة والفخار، ولكنها إذا أضيفت إلى الخوف غادرت هذه المعاني إلى
معاني الذل والقهر والاحتقار، فبينما كانت (صهوة الجياد) توحي بأَطْياف
إيجابية، إذا بها تصير مع (صهوة الخوف) توحي بأطياف سلبية. وهذا مما لا
يريده الكاتب من وراء إبداعه القصصي... ولو أنه بدّل عنوانه إلى ما يفيد
امتطاء صهوة الجرأة، لكان أكثر انسجاماً مع مرامي كتابته وأدبه، ولاسيما
أنه من دعاة الحرية والعدل والأمل والكرامة والنقاء... وهذه كلها قيم
إيجابية تحتاج إلى فعل إيجابي، وإلى عمل ونضال وانطلاقة وفروسية، ولا ينهض
بها عملٌ سلبي يتمثل بالترجُّل أو التردُّد أو النزول عن صهوة الخوف إلى
موقف لا نعرف ما بعده...!.
وكذلك لا نجد في (مخاض في الشارع)، وهو عنوان القصة الأولى، شيئاً
من المخاض، وليس في الإحسان، ولا في الندم عليه، ولا في تقريع مَنْ
يمارسونه شيء من معاني المخاض. ولكن التوفيق إذا خالف الكاتب في عنوان
القصة الأولى، فقد حالفه في عنوان القصة الأخيرة (بلا عنوان). فهذا عنوان
مراوغ وذاهب في الفن إلى مداه... وهو كثير الإيحاء لأنه يشير إلى دولة بلا
عَلَمْ وبلا قِيَم، أقامها المهرّبون والخارجون عن القانون في وطنٍ له علم
وله قِيمَ، ومن الصواب القول أنَّ مَنْ لا قِيَمَ لـه، لا عنوان له.
ب ـ السمات العامة:
وقد يلوح مما تقدّم، ومن المقبوسات التي استشهدنا بها، أننا أمام
قاسم مشترك في القصص جميعها، يتمثل بسيطرة الفكرة على قصص (زكريا شريقي).
وسيطرة الفكرة على القصة القصيرة، واستبدادها بثناياها وحواراتها وأقوال
شخوصها قد تفقدها حيويتها وحرارتها وتدفّقها وإمتاعها، فمع الجدل النظرى
والمناقشات المنطقية والمماحكات الفلسفية يخبو الصراع الدرامي في القصة أو
يكاد...
وقد لاحظنا ارتفاع صوت المفكر، والعاقل، والعالم، والراوي العارف
بكل شيء. وثمة بطلان لقصّتين سُمِّيا بـ(عارف). وسمعنا بِنَبْرة الراوي في
السرد والحوار والتعليق، على حساب الحدث، وقرأنا العبارة التي تذكّر
بالمقالة الصحفية والبيان السياسي. وقد بدا الراوي، وهو صنو الكاتب، في
إهاب خطيب جماهيري، يقف أمام جَمْعٍ جاهل من الناس ويرى من واجبهِ توعيته
وتثويره، وها هو ذا يقول مرة: "أراكم ولا أسمع صوتاً، نأمة، حركة، كأنني
وإياكم كومة هَمِّ مُخبّأة في قمقم فولاذي، وكأني بكم لا ترون أبعد من
أنوفكم، وكأن الخوف والتردُّد والاستسلام شكَّل سدادة محكمة لفوهة
القمقم الذي حشرتم أنفسكم طوعاً في داخله، يجب أن تعرفوا حقيقتكم:
جبناء، اتّكاليون، عميان، وأوغاد، وأن تعرفوا أكثر من ذلك أني أمقتكم"ـ
(ص18).
وهذا خطاب موجه إلى الذين يُحْسِنون ويتصَّدقون، ولا يجدون حلاً
لظاهرة التسوُّل والفقر والوطن، وللذين يرون أن الصدقة تجلو صدأ النفوس، في
حين أن الحل كامن في غير هذا السلوك.
ولم يكتفِ الكاتب بهذه الخطابية، بل راح في بعض مطالع قصصه يُكثْر
من الشرح والمناقشات المنطقية والفلسفية التي تثقل فن القصة، وتشكّل نغماً
نشازاً في (سمفونيتها) الجميلة، ففي بداية قصة (حكاية لم تنتهِ). يقول:
"تلك ملاحظة لابد من ذِكْرها مادامت المسألة لا تمُّس أحداً على نحو
مباشر. وهي أننا عندما نستأنف الحديث عن زمن في الزمن الذي يليه، لن نجد
من يحاسبنا، أو يقول لنا أن نكف عن الكلام" ـ (ص122).
والحقيقة أن هذه المقدمة تبدو واهية الصلة بما بعدها، وما كان شيء
يضير القصة لو حُذِفَتْ. وحبَّذا لو آثر الكاتب الاختزالَ على الإطالة،
والحذفَ على الإثبات، فقد أرهق تطويل القصة الفنَّ فيها، وكاد يدفع
بقارئِها إلى حافة الملل والضَّجر، لأنه لم يجد، أحياناً، قوة التحام بين
الأجزاء، ولا شدة اتساق، فانخفضت درجة الإيهام فيها. وقد كان (يحيى حقي)،
وهو من هو في فَنِّ القصة، يرى أن القصة الجيدة هي ذات مقدمة جيّدة محذوفة،
لأن هذا الحذف يدفع القارئ إلى الإحساس منذ السطر الأول بأنه إزاء عمل
حَيٍّ، وجوٍّ فني متكامل(مقدمة عنترة وجولييت ص4)، ومقدمة القصة المذكورة
سابقاً ليست موفقة، فالكاتب يروم إسقاط اختصاص زميلٍ له بالأفران العالمية
على حاضرِ بلادهِ المشوَّه، لعلَّ إيمان المواطنين بوطنهم يصهر آلام الشعب
وآماله وينقيها من الشوائب... فما العلاقة بين فكرة الحديث عن الماضي وعدم
المسؤولية عنه، وفكرة القصة التي بدا الحدث فيها أيضاً حدثاً تركيبياً
أثارته فكرة الإسقاط وفكرة الصهر؟... فالأفران العالية هنا تستعار لصهر
مشاعر الشعب، وتُُسَخَّر لتطهير أخلاقه وليس لصهر المعادن وتنقيتها من
الشوائب. إن نُبْلَ المقصد لم يشفع لشرود القص وتشتُّت الحكاية، فإذا
تأمَّلنا، بعمق في القصة لا نرى مسؤولية على الراوي، لأن حديثه عن الماضي
ليس فيه اقتداح، بل فيه امتداح، ولا خوف عليه، لأن حُرَّاسَ الماضي قد
وَلَّوا... وبالتالي لا وَجْهَ لهذا المطلع في نظرنا. ولاسيما أن الكاتب
يتحدث هنا عن المجتمع الفاسد، وليس عن سلطة المجتمع الفاسدة.
ونظير ذلك، لم نعثر على صلة قوية مابين مقدمة قصة (مخاض في الشارع)،
ومجمل أحداث القصة وفنِّ السرد فيها. ولكن القاص بدا وكأنه تذكَّر هذه
الحقيقة، فراح في القصة الأخيرة من المجموعة يكتب في السطور الأولى ما يلي:
"حتى لا تأخذ أحدكم الأفكار بعيداً، سأكون واضحاً منذ البداية، فأقول: إن
(حاتم زمانه) المقصود هنا، إنَّما هو النزيل الجديد في البناء الضخم الذي
يفصله عن بيتي عرض الطريق العام فقط.... الخ"ـ (ص177).
فالكاتب إذاً يخشى أن نشرد أو نذهب بعيداً، دون أن تكون يدُهُ في
أيدِيْنا، فهو يرى أنه يحمل البوصلة التي تدل على الطريق، وتشير إلى
الاتجاه. وهذا ما نراه نحن أيضاً، مع الأخذ بعين الاعتبار ثراء الأثر
الفني وتعدّد قراءاته. ولكن ما نراه هو أن يقوم الكاتب بهذه المهمّة دون
إفصاح منه عن ذلك، لأنّ بيننا وبينه عقداً مضمراً، بأننا سنقرأ فنَّاً له
مضمونه، أو لنقل بيننا وبين أدبه أُفْقَ التوقُّع الذي يمليه تاريخ الجنس
الأدبي وخصائصه، حسبما تقول نظرية التلقي المعاصرة.
وإذا ما تركنا مقدمات القصص وانتقلنا إلى خواتيمها، فإننا نراها
تتمثل، أحياناً، بسؤال تحريضي أو تنويري، كما في القصة الأولى، وأحياناً
بعبارة رامزة لا تخطئ العين البصيرة دلالتها، لأنها تنسجم مع اتجاه الحدث
في القصة ولا تخالفه، وقد تتمثل بعبارة فيها وعد بمتابعة السير للبطل رغم
العقبات والعوارض، رغم العذاب والمعاناة اللذين يلقاهما المناضل، كما في
قصة (الترجُّل عن صهوة الخوف). أو قد تنتهي، أحياناً، بعبارة ساخرة وكاشفة
تثير الهزء والسخرية ممن يقولون عكس ما يفعلون، فدُعاة العدل والحقوق هم
ذاتهم الجلاّدون والمجرمون، كما في قصة (بلا عنوان).
وقد مازج الرمز، أحياناً، نهايات قصص المجموعة، كما في قصة (شمس
منتصف الليل)، وكان ذلك الرمز مُتَّسِقاً مع اللغة الرمزية التي شاعت في
القصة، وهذا ما نلاحظه بوضوح في ختام قصة (انتباه)، فكل شيء أخيراً يأخذ
مكانه بين الأصفر والأحمر، أو بعبارة أحرى بين الموت والثورة.
وإذا تركْنا البديات والنهايات، ووقفنا عند الصراع في هذه المجموعة
وجدناه نوعَيْن: صراعاً داخلياً وصراعاً خارجياً. والمعروف أن الصراع، بما
ينطوي عليه من حوار أيضاً، يكشف عن صفات الأبطال، ويعرِّي نفوسهم، ويفضح
ممارساتهم، وذلك لأنه يتيح للقارئ أن يرى الأمور من أكثر من وجه: من الأمام
ومن الخلف، من الأعلى ومن الأسفل، من اليمين ومن اليسار، فالصراع هو العمود
الفقري للقصة لِمَا يُضْفِيْه عليها من حيوية وحرارة، وعلى الحدث من واقعية
ودرامية.
ويتجلَّى الصراع الداخلي في ما بين الراوي وذاته. وقد لاحظنا ذلك
عند زكريا شريقي في قصة (انتباه) و(قصة حب) و(الصليب)، فالكاتب يقول مثلاً
في قصة الصليب (ص119): "ودار نقاش داخلي أسجّل بعض فقراته، وأنا أحاول أن
أحفر خنادق في الماضي من أجل دعائم الحاضر وبناء المستقبل:
قالوا: إنك وُجُوْدِي الضائع (كذا). (ولعلََّّها: ضائع).
قلت: لماذا؟...
قالوا: لأنك تُشكِّك بإمكانية وجود السعادة.
قلت: أنا لا أُشكّك بإمكانية وجودها، بل أشكك بوجودها الآن".وهذا
الحوار، أو الصراع الداخلي، يكشف عن رؤية الكاتب، ويحدِّدها، ويوضِّحها،
ويربطها بالزمان والمكان، ويجعلها نسبية لا مطلقة. أما الصراع الخارجي،
فقد بدا بوضوح في قصة (التّرجُّل عن صهوة الخوف) وقصَّة (بلا عنوان)، ومن
خلاله عرفنا صفات أدوات القمع والتعذيب، وملامح عملاء المهرِّب الأكبر في
الجرف. وماذا يدور في ذهن الرجل الخفي القابع هناك، والذي يعمل الناس
لفائدته بِمَنْ فيهم (حاتم زمانه). فهذا يريد مَسْحَ ما في دماغ الراوي من
هلوسات العدالة والديمقراطية، ولكنه يخفق في ذلك.
وعرفنا من خلال الحوار بين رجال (حاتم زمانه) أن القائمين على لعبة
المال الحرام لا يريدون قتل خصومهم، لأن في قتلهم فضيحةً لهم، بل يريدون
تأديبهم، فهم يؤدّبون ولا يقتلون. وهذا، بحق، حوار كاشف وماتع وهادف في
الوقت نفسه.
وإذا كان الحوار والصراع قد كشفا شيئاً من جوانب شخصية (الرجل
المَكْروش)، و(حاتم زمانه)، فإنهما قدّما أيضاً ملامح شخصيات، محورية أخرى
في المجموعة... وقد أشرنا إلى أن (أنا الراوي)، أو ضمير المُتكلِّم، كان
بطل ثماني قصص من القصص العشر. وقد بدت تلك (الأنا) شخصية ذات قِيَم
تُبّشر بها، ولا تتردد في التضحية من أجلها، وهي تدعو إلى الثبات على
المبدأ، كما في القصتين الأخيرتين.
وثمة شخصيات أخرى حاورها الراوي، فانكشفت بعض صفاتها، فهناك عالم
بالأفران العالية، وآخر يمتهن التهريب، ويتحدّى القوانين، ويلعب لعبة
المال، وأناس غامضون مثَّلوا الرأي السائد، وعرفنا أفكارهم فحسب، ولعلَّهم
الأغنياء الذين يمارسون الصدقة، كما في قصة (مخاض في الشارع). وشخوص أخر،
هُمْ: الجدَّ، والأب، والجار، والعامل البائس، والمرأة المُتسوِّلة،
والزوجة، والأولاد. ومن الشخصيات غير البشرية طيور السنونو، والنوارس،
والبغل، وأشنيات البحر، وهي نباتات هلامية، أرادنا الكاتب أن ننظر إليها
بازْدراء، لأنها معادلٌ موضوعي لأدوات القمع والتنكيل.
ولم تجترح الشخصيات البشرية معجزات كبيرة، بل مثّل بعضها دورَ
البطولة المقلوبة، فكانت كالمسيح على الجلجلة، فهي تتألم وتعاني. ومن أولئك
المرأة المُتسوّلة، وسائق العربة، وعارف المدني، وراوي قصة (الترجُّل عن
صهوة الخوف)، وأبو ذر، وراوي قصة (بلا عنوان).
وكان بعض تلك الشخصيات مُفْعَماً بالأمل وقادراً على مواصلة السير
غير يائس ولا مهزوم، يقول مثلاً بطل قصة (الترجل عن صهوة الخوف): "سوف
أرتاح الليلة وسأبدا مع الفجر في الصباح" ـ (ص 176). ومرَّ بنا أن بعض
الابطال قد مارس دور الواعظ الناصح أو المُقرِّع أو المُحرِّض على الثورة
والانتفاضة.
واتصف (أنا الراوي) غالباً بظهور الحاسة السادسة لديه، وأعني بها
حاسة الشعور بالزمان والمكان، ففي (ص50)، يقول:
"المكان خارجنا يحاصر الإنسان والزمان يغتصبه". وفي (ص66)، يقول:
"ودفعة واحدة انتفى من بين الأفواه والعيون، مفهوم المكان والزمان". وفي
قصة الصليب يقول الراوي(ص112): "وفي تلك اللحظة شعرت أن شيئاً آخر مات في
داخلي. وبدأ الزمان والمكان ينزفان من عيني صديداً مُوْحِلاً". والاهتمام
بالزمان والإحساس به هو سمة من سمات أدب القرن العشرين، وفي ذلك يقول سمير
الحاج شاهين في كتابِهِ (لحظة الأبدية): "إنَّ الزمانَ "حاضر في أدب بروست
وجويس ومان وفرجينيا وولف وفولكنر وسارتر. إنه كامِنٌ في شِعْر فاليري
وريلكه وريفردي. كما أنه مرتكز جمالية سترافنسكي، إنه القاسم المشترك الذي
يجمع بين ممثلي حضارة هذا القرن، مؤكّداً أن عباقرة عصرٍ ما، مهما تباينت
آراؤهم واتجاهاتهم وتنوّعت مشاربهم ومذاهبهم، يظّلون أبناء جيل واحد".
(لحظة الأبدية، ص64).
وإذا دَقَّقْنا في الأمكنة التي احتوت الحدث، أو كانت مسرحاً
للقصَّة، فإننا نراها تتراوح مابين شارعٍ في المدينة (ق1)، و(ق2)، و(ق3)،
وقبو للتعذيب (ق9)، وفيلا على الشاطئ (ق10). وهي أماكن أثّرت في مجرى
القصة، كما أثَّر مجرى القصَّة فيها. وهذا ما سنراه بوضوح في وقفتنا عند
أحد نماذج القصص وهو (الترجُّل عن صَهْوَةِ الخوف) بعد قليل.
وتبقى مسألة أخيرة ينبغي أن نلفت النظر إليها، وهي طول القصة
وقصرها، فالمجموعة التي بين أيدينا تتألف من عشر قصص، وعدد صفحاتها
(222) صفحة، وأَقْصَر قصة فيها هي (12)، صفحة، وهي (الزمن الآخر)،
وأطولها (45) صفحة، وهي (بلا عنوان). أما متوسط القصة في المجموعة فهو (22)
صفحة من القطع الصغير.
وهذه ملاحظة تُظْهِر القاصَّ مؤثراً للقصة الطويلة، نسبياً. ولهذا
الإيثار مشكلة، إذ قد ينحرف بالكاتب إلى أن يضحّي بمبدأ التركيز والتكثيف،
وعدم استئصال الزوائد. وقد مرَّ بنا نماذج من ذلك.
ج ـ دراسة النموذج (الترجُّل عن صهوة الخوف):
إن قصة (الترجُّل عن صَهْوَةِ الخوف) تبلغ (22) صفحة، فهي من حيث
الحجم تمثل نموذج هذه المجموعة. ونحن إِذْ نقف عندها، نكون قد استجبنا
لتوجيه الكاتب، الذي يبدو أنه أضمره عندما اختار عنوانَ هذه القصة، عنواناً
للمجموعة على ما فيه من قابلية للنقاش كما سبق.
والحق أن هذه القصة قد حازت مزايا جيدة جعلتها دُرَّة التاج في
المجموعة، وتمثَّلتْ هذه المزايا بما يلي:
أولاً: إنَّها مثلت رؤية الكاتب للحياة، أو لِنقُلْ بؤرة تلك
الرؤية، فالهاجس الملحاح على الكاتب هو السؤال التقليدي الذي ما فتئ يهاجم
ذاكرته ودماغه، وهو: متى يأتي الزمن الذي يرتاح فيه الفقراء؟ وأن هلوسات
الديمقراطية والعدالة الإنسانية هي التي يهذي بها دماغه، الذي انتزعته
أدوات القمع من رأسه، وأدوات محو هذه الأفكار منه.
ثانياً: إنَّ هذه القصة اكتنزت رموزاً طيبة كان الكاتب فيها يضفي
الخارج على الداخل، أو يجعل "الداخل" يتجسَّد "خارجاً" في عملية تناوبية
إسقاطية فنية. فالطبيعة كالمجتمع، فيها جرف وصخرة فوقه... أو هبوط وإسفاف
من جهة، وقيم رفيعة عالية من جهة أخرى. والجرْف لا يرمز للهبوط فقط، بل
للفساد والشرور في العالم. وهو إذ يزوره ذات ليلة يقف أولاً على صخرة فوقه،
والصخرة لا ترمز إلى العلو فقط، بل إلى الشرف والرفعة، وما يرافقهما من
وَعْي وإِيْمانِ بالحرية والعدل. أما أشنيات البحر، وهي نباتاتٌ هُلامية
قليلة النفْع و الفائدة، فهي معادل فنِّي ومَوْضوعي لأدوات تنفيذ الاستبداد
والقَهْر... فهي تُطْبِق على الراوي، حين يكون فوقَ الصخرة، لأنها تشك
بكشفه لأسرارها، وفَضْحِهِ لأمورها.
ومن الرموز في القصة أن الكاتب سينقل إلى قرب (الجرف)، في الغدِ،
المطرقة والإزميل والأشياء الأخرى، استعداداً للمستقبل، أو للثورة على رموز
الشر والجشع وخيانة الوطن.... وهناك الليل والصباح. ففي الليل كان السواد
والعذاب في حضرة رجال الرجل المكروش، أما في الصباح، فسيكون الموعد مع
بداية الانتفاضة وإقامة العدل وإحْقاق الحق. وفي هذه المقابلة يكمن إيقاع
القصة الذي يهبها الجدارة الفنية المتوخَّاة... ومن أشكال الإيقاع بين
أحداث القصة علاقة الحدث بالطبيعة... فبعد الإفراج عن راوي القصة أو بطلها،
لاَحَظْنا ابتهاج النوارس به، فهي ترقص فرحاً، والفراغ يبدو رائعاً، بعد أن
كان ثقيلاً قاسياً وكريهاً... وكذلك كانت ألوان الشفق شفَّافة جميلة،
وكانت أصوات تَتَسَّرب إلى آذان الراوي بحنين وشوق، ما عهدهما من قبل (انظر
ص173). فأفراح الحرية تشمل الإنسان والطبيعة بنوارسها، وأمكنتها، وألوانها،
وأصواتها.
ولأنَّ الكاتب فنَّان تشكيلي لم ينسَ أن يؤطّر قصته بابتسامة كانت
تُطِلّ من لوحة تشكيلية لتشي غيفارا الثائر البوليفي الذي آمن بإقامة العدل
بالقوة، فتخلَّى عن منصب الوزارة في حكومة (كاسترو) ليرافق الثوار في
نضالهم في (بوليفيا)، حيث لقي حتفه هناك. وهذه الابتسامة، تتناغم دون ريب،
مع أحلام الثورة الرومانسية التي يشنّها الفقراء ضد رجال المال
والمستغلِّين والخارجين عن القانون وأعداء الحق والإنسان. وقد تركت تلك
الابتسامة أثرها في (راوي القصة) فجعلته يشعر بالسعادة والأمل كلما فتح
الباب ليخرج، أو ليدخل، وهذا مما يقوي العزيمة ويؤكد الثبات على المبدأ،
في الوقت الذي يشكل إيقاعاً آخر بدأ في أول القصة، ثم غاب ليطالعنا في
آخرها.
ثالثاً: حفلت هذه القصة بلونٍ من ألوان التجديد في فنِّ القص،
ويتمثل بإدماج شيء من معطيات الخيال العلمي فيها، فدماغ الراوي انْتُزِعَ
من رأسه ووضع في مَحْلول وكُشِطَ بفرشاة، لعلَّ هلوسات الديمقراطية
والعدالة الإنسانية تُمْحَى منه، ولكنَّ النتيجة كانت معكوسة!، وكذلك راح
أحد رجال القمع، بعد أن جاءت الأوامر بأن يَبْقى أسيرهم حيَّاً، راح يعيد
أجزاء بطل القصة إلى أمكنتها، فقد أمسك بيده المرمية جانباً وبدأ يثبتها
بتحريكها قليلاً قليلاً ثم ينظر إليها، كما يفعل المهندس حين يريد أنْ
يتأكد من سقوط رأس الشاقول في النقطة التي يريد وعالج الكتْف بإعادته إلى
مكانه فوراً... ثم عالج كسور فقرات الرقبة. وقبل أن يعيد الدماغ إلى موضعه
قلّبه بين يديه، وهزَّ رأسه عدّة مرَّات، ثم أعاده إلى مكانه في الرأس،
وبدأ يضّمد المكان بمزق من القماش" ـ (ص170)، وهذا هو الخيال العلمي الذي
يتجاوز فيه الكاتب حدود الإمكان ليصوّر ما هو غَيْر معقول، بغية إثبات موقف
إنساني، أو إنكاره.
وقد ساعد الوصف الموظَّفْ فنيَّاً على الكشف عن ملامح المكان، فغرفة
البطل تضمّ رسماً لـ(تشي غيفارا) على أحد جدرانها، وعلى الجدار الثاني
نافذةٌ كبيرةٌ بلا ستائر، وثلاثة أصص فيها أزهار وحشائش برّية، وعلى
الجدار الثالث قصائد مختلفةِ عن الحب والثورة والقمع والرفض، وعلى الرابع
وجانب المدخل تتكدَّس بضعة صناديق محشوَّة بالكتب، وبعض الأوراق الخاصة
التي تحرضه ليتخطَّى اللحظة الحاضرة إلى المستقبل.
إذنْ، نحن في مكان تُسْتَغلُّ أشياؤه لتوحي بصفات بَطَل القصة،
فالراوي رجل فنَّان ومثَّقف وفقير وفطري وصادق، فنَّان بدليل أنه يحتفظ
بلوحة لـ(تشي غيفارا)، ومثَّقف بدليل صناديق الكتب المسنودة إلى الجدار
الرابع في الغرفة، وفقير لأن نوافذ غرفته بلا ستائر، وفطري صادق لم
يُفْسِدْهُ زَيْفُ المدينة، بدليل أنَّ الأزهار والحشائش طبيعية وبرية
وليست صنعية مزيفة.
وقد تناغم مع هذا الوصف وثقافة الراوي أن العقوبة التي أُوْقِعت
عليه كانت بسبب معرفته أكثر من غيره، أو لأنَّ الأعداء شكّوا بمعرفته
أسرارهم. وقد كانت المعرفة ـ كما ذكرنا ـ سبباً للعقوبة التي أوقعت على بطل
قصة (بلا عنوان)، وذلك لأنه عرف أن (الرجل ذا الندبة) المجدولة على خدّه
الأيمن وتحت الأذن مباشرة هو قاتل (أبي ذ ر).
رابعاً: كان البطل هنا مثل بطل قصة (بلا عنوان) بطلاً جُلْجلياً
عانى العذاب والتنكيل في سبيل مبادئه وأفكاره، ولكنه مؤمنٌ بفكرةٍ، صَلْبٌ
في الدفاع عنها، لا يثنيه شيء عن متابعة السير، وهو بعذابه يكشف جَشَعَ
الأغنياء، ويصون كرامة الإنسان، ويعلي شأن العدل، ويفضح أساليب
المستبدين، مؤكّداً أنَّ ما قاله من قبل على لسان أبطال القصص الآخرين من
أنه لا يؤمن إلا بإله الرفض، وأنَّ زوارقه ستظل تخبط ضدَّ التيار، وأنَّ
الخوف الذي يجرف كل شيء إلى وهاد الصمت لا محلَّ له في فكره وقلبه. إنَّ
التحريض واجب على الدعاة والثائرين، وقدوة (ابن هرمز)، الذي خرج مع
المقاتلين يحمل سيفاً ويده ترتعش لكبر سنّه، وقال: "يراني غيري فيقتدي
بي"(ابن هرمز) هذا، هو أيضاً قدوة الكاتب، ويريده قدوةً لقرّاءِ أدبه.
بيد أن هذه القصة، ولسوء الحظ، شابها زيادات واستطالات ماكان أغناها
عنها. وهذه ظاهرة لازمت، بعض قصص الكاتب الذي لاحظنا إيثاره للتطويل على
حساب القصر، وتفضيله للاستطراد، على حساب التركيز، وحبَّه للمطمطة على حساب
الاختزال والتكثيف.
خامساً: بقي شيء أخير في لغة الكاتب القصصية، بل شيئان لابدَّ من
الإشارة إليهما:
الأول: هو إِثْقال هذه اللغة بصور وتشبيهات كثيرة، بدا فيها الكاتب
وكأنه يُعْدِي لغة القص بعدوى الفن التشكيلي، فيريدها جميلة مزدانة ملونة.
وهي لا تقوى على هذا المسعى، فلغة القصة تراوح بين لغة الإبلاغ ولغة الشعر،
وتقع في منطقة وسطى بين السائد والشعري... وها هي ذي هنا تتنازل عن وظيفتها
التعبيرية لمصلحة وظيفة شعرية، وهو تنازل لا ينفع القصة دوماً.
الثاني: هو تَسَلُّل بعض الأخطاء النحوية والإملائية التي شوهت هذه
الوجه الذي حرص الكاتب على زينته، بل بالغ فيها، ومن تلك الأخطاء على سبيل
المثال لا الحصر:
1 ـ جاء في (ص11): (يتسائل). والصواب (يتساءل) فالهمزة على السطر
وليست على النبرة.
2 ـ جاء في (ص17): (الكأبة) والصوَّاب (الكآبة) بالمد لا بالهمز.
3 ـ جاء في (ص40): (في عيني والدي كلاماً)، والصواب (كلامٌ) لأنه
مبتدأ مرفوع.
4 ـ جاء في (ص51): (هل تبعه لي)، والصواب (تبيعه) إذْ لا وجه لجزم
(تبيعه).
5 ـ جاء في (ص64): (إنَّ مَنْ يقل: أنا موجوع ينسى الآخرين).
والصواب (يقول) فلا وجه للجزم البتَّة.
6 ـ جاء في (ص102): (صار بيدر جثث كبير). والصواب (... كبيراً) لأنه
صفة لمنصوب، وهو نكرة يجب تنوينها.
7 ـ جاء في (ص145): (ها أنذا وحيداً)، والصواب (وحيد) بالرفع، ولا
وجه للنصب.
8 ـ جاء في (ص164): (كانا ينظران إلى بعضهما)، والصواب (كانا ينظر
أحدهما إلى الآخر).
9 ـ جاء في (ص168): (يجعلني إمَّا أبلها أو في الطرف الآخر)،
والصواب (إمّا ابله)، بدون تنوين لأنه ممنوع من الصرف.
10 ـ جاء في (ص174): (تلى ذلك مباشرةً)، والصواب (تلا) بالألف
الممدودة.
11 ـ جاء في (ص191) : (شعرتُ أنَّ لدى العجوز توق) والصواب. (..
تَوْقاً) لأنها اسم أنَّ، واسم (أنَّ منصوب).
ورغم ما تقدَّم، فإن هذه المجموعة التي تمثَّلَتْ خَلْقَاً سوّياً
كانت "كالحسناء التي لا تعدم ذاما" فهي تشكّل معماراً فنياً صادراً عن كاتب
مارس فن القصة نحو عشرين عاماً. ولكن الحركة الأدبية في كل زمان ومكان لا
تقوم قطُّ، إلاَّ بجناحيَ الإبداع والنقد معاً، وإذا كان (شريقي) قد صنع
الجناح الأول، فإنَّ ما صنعناه نحن هو الجناح الثاني، وماكان غرضنا هنا سوى
أن يتمكن طائر الأدب من التحليق بجناحين، مُتحرِّراً من العوائق و الموانع.
أحلام عامل المطبعة
لمــروان المصـري
مروان المصري قاص سوري دمشقي معروف صدر له من المجموعات القصصية:
التغريبة اليمانية، وأقاصيص دمشقية، وما حدث لعبد الله، وهذه المجموعة
الرابعة والأخيرة (أحلام عامل المطبعة). وصدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام
1994، واحتلَّت الرقم /42/ ضمن سلسلة قصص وروايات عربية.
وقد صُدِّرت هذه المجموعة بمقدمة نقديَّة تحدَّث فيها الكاتب عن
همومه الفنيّة التي لخَّصها بفضح القهر والاستلاب، وكشف النفاق الفكري
والسياسي، وإدانة الزيف والخداع، في كثير من مظاهر حياتنا العربية الراهنة.
ويبلغ عدد قصص هذه المجموعة التي لها عنوانات /64/ أربعاً وستين
قصَّة، نُثِرت على /91/ صفحة من القطع الصغير، فكان متوسط القصّة الواحدة
حوالي صفحة ونصف.
وثمَّة قصص لا تربو على سطرين أو ثلاثة. وهذا الشكل الفني الحجمي
ينمُّ على قوّة تركيز وطاقة تكثيف عظيمتين توفَّر عليهما الكاتب، مُحقّقاً
بذلك شرطين من شروط إبداع الأقصوصة، وهما الإيجاز والتكثيف، اللذين يُضاف
إليهما لمسة الخيال الإبداعي. والحقّ أنّ التعبير عن فكرةٍ، أو موقفٍ، أو
إحساس، أو لحظة حياتية هاربة لها معنى، لشيء يُحْمَد في زماننا- زمان
السرعة والاختزال. وهكذا يبدو (مروان المصري) وكأنه قد استجاب لنصيحةٍ لـ
(برنارد شو) وجَّهها إلى أديبٍ سأله عن أفضل طريقةٍ لكتابة قصّة ناجحة،
فقال له: "اقرأ القصَّة بعد أن تكتبها وافترضْ أنك سترسلها برقيةً، فإذا
وجدتَ كلمةً لا تستحقُّ الإبْراق، فاحذفْها، وستكون القصّة حينئذٍ ناجحةً".
والذي يبدو لي أنَّ كثيراً من قصص "أحلام عامل المطبعة" يصحّ أن
تكون برقيات مختزلة. لغةً، لكنَّها مكثّفة ومشحونة، دلالةً، فهي برقيات غير
مجانية، يتيح النظر فيها للمرء أن يقطف جنىً فكريّاً، ونقداً سياسياً
واجتماعياً، وثمرات نفسيّة وروحية معاً، كما يتيح ذلك النظر، من زاوية
أخرى، أن يعقد الدارس مشابهةً بين الأقصوصة ذات المغزى في هذه المجموعة،
والقصيدة ذات الومضة، لأن كلتيهما تترك الأثر اللاذع ذاته، وكلتيهما
تُصْنَع بتقنيات متقاربة، بخلافٍ بسيطٍ في مستوى اللغة التي تسعى للفْت
الاهتمام لذاتها في الشعر، في حين تقع في الأقصوصة، في برزخٍ ما، ما بين
لغة النثر ولغة الشعر.
ومن الأدلَّة على ما نذهب إليه ما رواه القاص في حكاية (التنوّرة)،
فثمة صبيّة تلبس تنّورة جديدة، وتمرّ أمام السمّان، فيسألها: مَنْ صنع لك
هذه التنّورة العجيبة؟ فتجيبه: الريح وأبواي، فقد أسقطت الريح الكثير من
اللافتات، فأحضر أبي واحدة منها، خاطَتْها أمّي تنورة لي... ولما كانت
الشعارات تبدو من الخارج، قال السمان للصبيّة: ألم يكن بوسْع أمك جعل
الشعارات من الداخل، فأجابته: نعم، لكن أمي لا تعرف القراءة، وتتابع
الصبيّة سيرها، فيقول لها السمَّان: "لا تهتمي يا ابنتي، سرعان ما تمحو
الشمس والمطر هذه الشعارات!".
وبهذا القدر من الإيجاز والتكثيف يحدّثنا الكاتب عن مصير الشعارات
الكبرى، التي تمّحي وتتلاشى مع مرور الزمن، وطلوع الشمس وغروبها، وفعل
الريح والعواصف فيها.
وما أكثر شعاراتنا الجميلة التي رفعناها وتغنَّيْنا بها، ثم امّحت
وتلاشتْ..!. ونلاحظ هنا بُعداً آخر لجواب الصبية بأن أمها لا تعرف القراءة
فهي أميّة، ومآل هذا البعد أن الأُمّي يرفع شعارات طنَّانه ويعلنها للناس
ويكشف عن أهدافه بالصراخ والزعيق، ثم لا يقوى على تحقيقها، فتتلاشى؟! أمّا
المتعلّم، فبمقدوره أن يجعل شعاراته مضمرة، وضمنية، ومستورة، ثم يعوّل على
العمل، دون ضجيج، ليحقق ما يريد، ويصل إلى مبتغاه؟
وفي أقصوصة بعنوان (المثقّف) يسأل رجل فتاة: لمن هذه المكتبة؟
فتجيبه: لأخي. وبعد شهر يصادف الرجل الفتاة، وقد هشّمت ذراعها،
وامتلأ وجهها بالكدمات! فيسألها عن الفاعل والسبب، فتجيب: شاهدني (أي
أخوها) أكلّم شاباً غريباً، بعد ذلك رأى الرجل (أخاها) لأول مرَّة، فكان
وجهه محروقاً ومُشوَّهاً..!
إن "الحرق والتشويه" هنا، هما، بلا شكّ،َ حرقان وتشويهان مجازيان.
وقد ألحقهما الكاتب بوجه كل (مثقّف) مزيَّف لم تفعل الثقافة فعلها فيه،
فبقي على عنجهيته وجاهليته وبداوته، ولم يَسْمُ إلى مصافِّ العقلاء
الناضجين المتنورين الذين يفيدون من كتبهم ومكتباتهم كنوزاً ونصائح نفسيَّة
واجتماعية وتحرريَّة. ويعملون بها، فتتحول الثقافة عندهم إلى سلوك فعلي،
ولا تبقى قشوراً خارجيةً سرعان ما تتلاشى عند أول محكّ حقيقي لها، فتنكشّف
العورات والحروق والتشوّهات.
وفي قصة (تجربة) مثلاً يلخّص لنا الكاتب فكرة "الحرية والضرورة" من
خلال سطرين فقط، يكتب بالنص الحرفي: "فُتِح باب القفص، فارتعش العصفور،
وخرج للتحرّي، وبعد بضع جولات، جاع، فبحث عن قفصه".
لقد تخلّى العصفور المسكين المُحْبَط الجائع عن حرّيته، لمصلحة ما
يقيم به أوده، وقايض حريته، بلقمة عيشه التي يلقاها في قفصه! وفي هذا
الموقف مأساة حقيقية، يمكن أن يحبّر فيها الفلاسفة والمفكرون عشرات
الصفحات، وأعني بها "الحريّة والضرورة". ولكن الكاتب (المصري) رسمها لنا
وكثّفها وجسّدها من خلال حَدَثٍ بسيط مفعم بالدلالة، وبالألم معاً، وقد كان
بالإمكان ألاّ نحسّ بالألم لو لم يُنْهِ الكاتب قصّته بعبارة الكشف الأخيرة
القائلة: "فبحث عن قفصه". وهي العبارة التي تحكي لمسة الخيال الإبداعي
القادر على إعطاء معنىً لحدث بسيط بسيط.
وفي قصّة (جمركي)، ولنلاحظ أنّ العنوان جاءت بصيغة التنكير، لنفهم
منه كل جمركي، وكل من يشبه عمله عمل هذا الموظف، يقول الكاتب: "رصد الموظف
واقعة تهريبٍ مشينة. وفي المساء سهر في الملهى بصحبة تاجرٍ، وتحاورا حول
أنجح السُّبُل لتنشيط الاقتصاد الوطني". فأي نفاقٍ سياسي هذا؟ وأيّة
ازدواجيّة في السلوك والعمل، تلك التي تتحدّث عنها هذه الأقصوصة التي ترسم
على شفاهنا، بعد الفراغ من قراءتها، ابتسامة ساخرةً، في الوقت الذي تولّد
في نفوسنا احتجاجاً قويّاً على تلك الوطنية المشوَّهة والمزيّفة. ومعنى
القصّة يتناغم مع فحوى قصة (التنورة) التي تنتقد ظاهرة الانفصام ما بين
القول والفعل، حين يرفع المرء شعاراً، ثم لا يعمل على تحقيقه.
وفي قصَّة طويلة، نسبيَّاً، عنوانها (مشاهد من شارع رأيته غداً)
نقرأ مجموعةً من اللحظات الحكائية المبنية على أساس التتابع التوليدي،
وتتحدث كلها عن معاني الحرية والانطلاق وآفاقهما (ص42-43)، فالشارع الذي
يهفو القاص إلى السير فيه، هو ومواطنوه، شارع يسير فيه جنود بلا بنادق،
وشارع يُرَى فيه السُّعاة يحرسون الفراغ، إذ لم يعد لديهم بوابات يمنعون
الناس عنها. وشارع فيه تلبس الفتيات لباس البحر، كما لو كُنَّ على شارع
محاذٍ للبحر، فيُطْلِقْن مرحهنَّ من عقال الخوف. وفيه يتعلّم الصبية علماً
حقيقياً، لأنَّ عيونهم مغموسة في مياه الينبوع، وهم لا يأخذون أسماءهم بسبب
ارتداء مراييلهم فقط.
وفي مدينة ذلك الشارع يُرى الناس يتفجّرون حريَّة وصحة وسلامة، إذ
لا يوجد فيها اسم لطبيب، ولا عيادة واحدة للمرضى. أما المدينة، بأسرها،
فرغم وداعها للربيع، فإن زهورها لم تذبل، لأن سوراً ما لم يعد يفصلها عن
المستقبل، كما لم يعد فرق يفرّق بينها وبين بهجة الريف ونقائه.
فهذه ست حالات تلخّص رؤية الكاتب للغدِ المشرق الذي ليس فيه قَهْرٌ
، ولا حجَّاب، ولا علم مزيف، ولا خريف، ولا ارتهان للماضي البائد، ولا
مدينة ملوّثة، بل صحَّة، وانطلاق، وطيب، ومعرفة حقيقية نافعة، ونظر إلى
الأمام، واندماج ما بين مدن الوطن وأريافه، حيث البراءة والنقاء والبهجة
والانتعاش.
ومما يتجاوب مع دعوة الكاتب إلى العلم الحقيقي الذي يشرب فيه المرء
من رأس النبع لا من الساقية، السخرية المرّة التي نطالعها من خلال نقد
الكاتب لخزعبلات العامة والخرافات التي تحشو أذهانها. وقد طالعتنا هذه
السخرية في قصّة لا تتجاوز ثماني كلمات، عنوانها (عين الحاسد) تقول بالحرف:
"صَدَمَتْها السيّارة، فتحسَّستْ ألمها ورعبها، وتفقَّدت حذوة الحصان".
فهذه الحذوة إذن لم تقها البتَّة من مفاجآت الحياة ومن ألم صدْم السيارة.
لذا لا وَجْه لأن نتوقّع نَفْعاً من حجابٍ أو تعويذة، أو نعتقد بقدرةٍ أيّ
منهما على منْع الأخطار أو دَفْع الأقدار...
ولم يكن خُلُق بعض المسؤولين في معزل عن نقد الكاتب، فهو ينعى على
الفقراء الطيّبين سلوكهم عندما يتولّون المناصب، ويرتقون في الوظائف، فبعض
هؤلاء سرعان ما يصابون، بعد الجلوس على الكرسي، بمرضٍ يأسف له الجميع، إنه
الصَّمَم والمزيد من التجهُّم والهموم- (انظر ص 36).
أما المال، مُفْسِد كل الأحياء، فقد كان للكاتب معه وقفة، فقد
تحدَّث ساخراً أيضاً عن عجز من انغمس حتى عمق أعماق المستنقع، عن أن (يغطي
عماواته بسماواته)، وأن يجعل المال يزيَّن الوجه الأشوه، فهذا (روبير) كان
يود أن يعرف بنظافة الوجه واليد، وأن يُوْصَف بالعفاف والنزاهة. ولكن الناس
قالوا له: لم يعد من الممكن إخفاء قباحاتكَ، أو تَبْييِض اسمك المنغمس
بالشرّ، فردّ: بلْ يمكن. ليس في حياتنا مستحيل... وطلب من أحدهم كتابه اسمه
على امتداد ساحة عامة، ثم نثر فوقه كميات كبيرة من الليرات الذهبية، وسأل
الناس: ما الذي ترونه الآن؟ فضحكوا وقالوا: اسمكَ المخفيَّ بالنقود!.
***
وربما يطول بنا المطاف إذا شئْنا أن نسوق كل المعاني والقيم
والمواقف التي نستخلصها من أقاصيص هذا الكاتب، فما سبق هو ملامح من مضامين
تلك القصص الماتعة. أما التقنيات التي لجأ إليها (مروان المصري) في إنشائه
فقد كانت كثيرة، منها الحوار والوصف والنجوى، ومنها اللغة المركزة المنحوتة
بعناية، والعبارة الرشيقة الموجزة الدالة، ومنها الشخصيات التي لا يظهر إلا
جزء ومنها ويختفي الباقي، ومنها الإفادة من الإرث القصصي العربي القديم،
كما هي الحال في قصص الحيوان التي نطالعها في كتاب "كليلة ودمنة". ومنها
استلهام قصص التراث وتوظيفها توظيفاً معاصراً... الخ.
وسوف نتوقّف عند ثلاث نقاط مما سبق هي: اللغة، والشخصيات، والتراث.
فلغة الكاتب، كما سبق أنْ أَلْمَعْنا، وكما يتوقع منها أن تكون في
فن الأقصوصة، لغةٌ مركَّزةٌ صيغت بريشةٍ صناع، لم يسمح فيها الكاتب لتسلل
أي مظهر من مظاهر التراخي، أو الاستطراد، أو تعدّد المسارات، ولم يثقلها
بأيّة عبارة زائدة أو مكرورة، ناهيك عن عزوفه عن الإيضاحات الممجوجة أو
الزاعقة، بغية أن يتيح لقارئه مشاركته في التصوّر والفَهم والإدراك.
وإذا كانت لغة الأقصوصة، هي أكثر الأشكال قرْباً من لغة الشعر
المكثّفة، فإنها تفترق عنها بأنها لم تكن لتُعْنَى بنفسها إلى حد جذب
الاهتمام بها. ولو فعلت ذلك لانزلقت إلى مهاو لا يحمد عليها الكاتب الذي
يتوخى منه أن يركّز همّه في تنسيق كافة العناصر التي بين يديه، ليحقق
انطباعاً وحيداً وأثراً فريداً. وهذه معادلة حلّها (المصري) بنجاح.
وقد وعى الكاتب أن القصّة، أو الأقصوصة، هي عيّنة، وليْست الشيء
كله، لذا فقد توخّى من قطعة الفسيفساء التي يعرضها علينا أن يجعلنا ندرك
الزخرف كله. وقد مرَّت بنا نماذج تبرهن على ذلك.
ومما يلفت انتباهنا هنا أن كثيراً من العناوين جاء بصيغة التنكير،
ليكون أكثر تعريفاً من المعارف. فحين يعنون (المصري) بعض قصصه بكلمات من
أمثال:
(ضيف) و (تجربة) و (جمركي) و (معركة) و (هدف) و (غطاء) و (استقبال)،
فإنما هو يريد أن يُعمِّم هذا المفرد، فالجمركي، مثلاً، هو أيَّ موظف
منافق. و (التجربة) هي التجربة التي قد يمر بها كل كائن حي -(لا العصفور
فقط)- تُضطرّه ظروفه إلى مقايضة قيمة من قيم الحياة الكبرى بلقمة العيش. و
(الغطاء) هو كل شيءٍ، نقوداً وغير نقود، يخفي وجه الحقيقة ويزيف الواقع
المعروف... وحتَّى العنوانات التي حُلّيت بـ (أل التعريف)، فإنها كانت
تتحدث عن نموذج غير محدّد، وليس عن شخْصٍ بعينه، أو مجسَّدٍ بذاته. وكثيراً
ما عادت الضمائر في القصص إلى غائبٍ لم يجرِ لـه ذكْر في القصّة من قبل.
ولكن الجميل في ذلك أن له وجوداً في حياتنا التي نعيش، الأمر الذي يجعل هذه
القصص تحيل إلى واقع ملموس وليس إلى واقع موهوم مبتوت الصلة بالناس.
أما الشخصيات التي تخيَّرها الكاتب، فكثير منها كان لا اسم له، بل
له وصْف، مثل (الجمركي) و (الوالي) و (العاشقان) و (الجلاد) و (المثقف) و
(المرأة صاحبة حذوة الحصان) و (الديكتاتور)... الخ، وكثيراً ما كان بطل
القصّة فاعلاً مستتراً غير معروف، أو بطلاً مُتوهَّماً لا نعرف قسمات وجهه،
ولا خصائص جسمه، ولا طوله ولا قصره، ولا جماله ولا قبحه...
وفي هذا تعميم محبوب يجعل من القطعة نسيجاً، ومن النموذج حالاً.
وقد كان من أبطال القصص حيوانات محدّدة استلهمها الكاتب من قصص
"كليلة ودمنة"، وربما من كتب القصَّاصين العالميين الأُخر، فالحيوان موجود
في بناء الأقصوصة، وربّما كان بطلاً من أبطالها، فهو موجود في قصص (ماركيز)
و (غي دي موباسان) و (كافكا) و (لافونتين) وغيرهم.
ومن أمثلة تلك القصص التي جاءت على ألسنة الحيوانات (الفيل والنملة)
و (الأرنب والسلحفاة) و (الثعلب والشحرور) و (الدجاجة الذهبية).
وكان من أبطال القصص أيضاً (أنا المتكلّم)، وشيء مجرّد غير محسوس
مثل (الكذبة)، وطفل بريء مثل (صبية التنورة) وبعض تلاميذ (الشارع الذي رآه
الكاتب غداً). وكان البطل ظافراً أحياناً، وخائباً أحياناً أخرى. ومطيَّةً
لفكرةٍ ما في أحيانٍ ثالثة.
أما التراث، فقد استغلَّ الكاتب رموزه استغلالاً حسناً، وذلك ليبثّ
رؤاه ومقولاته الحديثة، فاستغلَّ ذكْر السندباد، وعلي بابا، وابن مقلة،
والسنمّار. وأدار حولها حكايات شائقة تعبّر كل واحدة منها عن معنىً، أو هم،
أو إحساس، أو موقف.. ولكن تحريفات واضحة كانت تمازج أصل القصّة. والتحريف،
أو الانزياح إذا صحَّ التعبير، شرط من شروط كل عملٍ فنّي، فكما أن الكاتب
لا يصوّر الواقع تصويراً (فتوكوبيّاً) كذلك لا ينقل القاص حكايا التراث
نقلاً حرفياً، بل مُحرَّفاً... ففي حديث الكاتب عن (السنمّار) وتحت عنوان
(ما بعد السنمّار) يروي أن النعمان ندم على قتْله (السنمّار) الذي بنى له
قصر (الخورنق)، وذلك لأنه نُمِيَ إلى علمه أن المهندس البنّاء وضع فخاخاً
سريّة عديدة يمكنها تقويض (الخورنق).. ولم يفلحْ مهندسو الملك الآخرون
باكتشافها، فأمر جلالته بهدْم القصر لكشف ما فعله (السنمّار) اللعين!(
ص88).
وهكذا أراد القاص أن يوحي لنا بأن الخطأ يجرُّ أخطاء، وأن الشكوك
الزائدة عن حدّها، والمصحوبة بازدراء العلم والعلماء، تؤول إلى تقويض كل
شيءٍ. والنتيجة: أن القتْل يؤول إلى الهدم. وهذه فكرة كبرى لم ترد في قصة
(السنمّار) القديمة –باني قصر (الخورنق) للنعمان بن المنذر.
وأخيراً، فإننا إذا حاولنا أنْ نطبّق على هذه المجموعة القصصية فحوى
ما قاله القاص (غي دي موباسان) من أن هدف الفن هو إعطاء صورة حقيقية عن
الحياة، وجدناها تستجيب لهذا الهدف، وتحقق قدراً كبيراً منه، ولاسيَّماأن
للحياة واقعاً موضوعياً خارجياً، وواقعاً ذاتياً داخلياً.
ووجدناها أيضاً تحقق، أكثر من ذلك، شرط الأقصوصة الأبرز، وهي إحداث
الأثر الفرد والانطباع الواحد، غير غافلة عن لحظة الكشف التي تتوّج
النهاية، لتقدَّم النكتة، أو السخرية، أو المثل، أو الحكمة، كما تحقق فكره
إحياء التراث القصصي من خلال بنية جديدة تنتمي إلى هذا العصر، وتنمُّ على
عيوبه وثغراته ومخازيه، كما ترسم له أحلاماً ليست هي (أحلام عامل المطبعة)،
وقد كان القاص يعمل بهذا العمل فعلاً، بل أحلام كثير من أبناء الشعب
الشرفاء، وقد دبَّجتْها يراع كاتب خبير، وكثَّفتْها رؤية أديب بصير،
مكَّننا أداؤه من أن نصنّفه أخيراً مع كتّاب الأقصوصة، الذين برز منهم
الجاحظ قديماً، وزكريا تامر حديثاً، على سبيل المثال لا الحصر.
مجموعة الحصار
لإبراهيم خريط
إنَّ قراءة مجموعة الكاتب (إبراهيم خريط) القصصية التي وسمها بـ
"الحصار"، والصادرة عن (دار الينابيع) بدمشق عام 1994. والتي تحوي سبع قصص
قصيرة، تفضي إلى الخلوص إلى أنها تحتوي على سبع قضايا من قضايا الحياة
والناس، صاغها الكاتب على جناح لغةٍ سلسلة سهلة لا إسفافٍ فيها ولا تقعُّر،
مُحققاً شرطَيْن هما: الإمتاع والإيهام، اللذين لا يصح لقصّة تدعي جدارة
فنيَّة أنْ تتنزَّل عاطلةًً منهما. ولكن انهماك الكاتب فيما سبق ربّما جعله
يُضحّي ببعض ما يتوخاه الناقد في القصّة القصيرة من مزايا أخرى كما سنرى.
والذي يبدو لي أنَّ اهتمام الكاتب، وعمله المهني، وهو أستاذ للفلسفة
في محافظة دير الزور، قد انعكسا في فنّه، وفي رؤيته للناس والكون. وهذا ليس
بعيبٍ يُؤَاخذ عليه، فَهمُّ الفيلسوف وعالم النفس، حين يمسّه لهب الفن،
يُحوّله إلى نظرٍ مقطَّر، كما يحوّل الحرُّ بخار الماء إلى ماءٍ سائغ يروي
الظماء.
وفي كثير من هذه القصص اجتهد الكاتب في أن يجسّد لنا حقائق الحياة
وغرائبها ومفارقاتها في قطعة فسيفساء، نقرأها، فندرك من خلالها رقعة الزخرف
كلها، بخطوطها الطويلة والعريضة، وألوانها البهيّة والباهتة، وإطارها
الجميل أو القبيح... ففي قصة (التوأم)، وقد صيغتْ بالأفعال المُسندة إلى
(أنا المتكلم) لتكون أكثر حرارةً وتأثيراً، يحدّثنا الكاتب عن توأمه الذي
وُلد معه، ورافقه كل لحظات عمره، وشاركه هواجسه، وأمانيه، وذكرياته،
وماضيه، وحاضره. ولكنَّ الكره، لا الحبّ، كان هو العاطفةَ التي تربط بطل
القصة بتوأمه! وإذا تساءلنا ولمَ هذا؟ كان الجواب: لأنَّ التوأم هو الخوف
الذي يلازم الإنسان منذ ولادته وحتَّى وفاته. ولكنَّ للخوف أسباباً عديدة،
فنحن نخاف الطبيعة، ونخاف الناس، ونخاف الأقدار، ونخاف المجهول، وأشياء
أخرى كثيرة، فأي الأشياء اختار الكاتب أنْ يكون مدعاة لخوفه؟ إنه اختار
الناس أولاً بوصفهم مصدراً لكل تكدير في اعتقاده، بدليل أنّه عندما تخلّص
من (توأمه)، أو (خوفه)، بإغراقه في الماء، عاد الناس به إليه، وأيُّ أناسٍ
هؤلاء؟ إنهم أولئك الذين يرصدون كل حركة ونأمة يقوم بها المرء... وهاك
الحوارية القصيرة التي تكشف عن ذلك:
"ولكن ماذا؟ لقد أنقذناه من الغرق وعُدْنا به إليك- سكتُّ ولم أنطق
بكلمة، تكلَّمَ آخر.. قال بلهجةٍ متوعّدة: وتقولون إننا لا نبالي بالناس!
أضاف ثالث: إن مؤسساتنا قائمة من أجلهم... إننا نسْهر الليل على سلامتهم
وراحتهم، عقّب الأول: لا تَنْسَ، انتبهْ له جيّداً، وإيّاك إيَّاكَ، ورفع
إصبعه في وجهي حتى كاد أن يفقأ عيني، دفعوه إليَّ ثم تسلّلوا من البيت،
فأغلقتُ البابَ وراءهم"
(الحصار ص21).
ولكن الكاتب يعلن موقفاً جريْئاً إزاء الخوف حين ينهي قصّته بقوله
على لسان بطلها: "مع هذا سوف أقتلك" (الحصار 22). وبهذه العبارة يخبرنا
إبراهيم خريط أنه يرنو إلى حياة آمنة خالية من الخوف، وصافية من الشوائب
والمنغصات. ولكن هيهات أن يتحقق ذلك...
ففي القصّة الثانية التي مَنَحتِ المجموعة عنوانها (الحصار) تصوير
جديد لشوائب الحياة ومُنغِّصاتها. وفي وسع الدارس أن يعدّ هذه القصّة
تنويعاً على القصة الأولى (التوأم)، أو عزفاً آخر على الوتر نفسه، فكما كان
(التوأم) يلازم توأمه في القصّة الأولى ويحاصره، كذلك كان الناس الآن
يحاصرون بطل القصة الثانية. وقد أريد بالناس هنا مَن لا يقيمون لحرية الفرد
حرمة، ولا يرعون لأمنه وكرامته ذمّة. فقد بُوغِتَ بطل هذه القصة، في ليلة
ظلماء، بسائق سيارة يطالبه بالصعود إلى سيارته، فتردّد أولاً، ثم خاف،
وصعد. وبعد صعوده وتعرُّفه وجه السائق، على نار عود ثقاب، خاف من جديد،
فرمى بنفسه من السيارة، وفرَّ هارباً ليدخل إلى كهفٍ يلتقي فيه جماعة كان
السائق يرمي إلى أخْذه إليهم! ويبدأ معهم بحوارٍ نشعر من خلاله أن هؤلاء
الرجال يعرفون عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه. ومهمتهم أن يحموه من نفسه ومن
أفكاره ومما يدور في رأسه..! وينتهي الأمر بالإفراج عنه. ولكن صوت أحد رجال
الكهف ظلَّ يقرع مسامعه ويطارده ويحاصره... وينتقل الرجل المطارد المسكين
من هذا الحصار إلى حصار آخر يشارك فيه المكان، لا الناس فقط، فقد "احتواه
ظلام الأزقّة وأطبق عليه صمتها"- (الحصار ص 38). ولكن الغرابة تبدو أكبر
عندما يذهب إلى جارٍ له ليحدّثه بما جرى له في الليلة الفائتة، فيُفاجأ
بأنَّ جاره –صاحب الدكّان التي لا يفتحها إلاّ ليلاً، هو أحد الذين انهالوا
عليه بالاستجواب في الكهف قبل لحظات..! فالحصار إذن ممتّد من الأزقة
الواسعة إلى الحارة الضيقة، ومن سطح الأرض إلى كهوفها، ومن الغرباء إلى
الجيران، إنَّه حصار في كل مكان وزمان... وأدواته الأهم، هي الناس أيضاً.
أما القصَّة الثالثة، وعنوانها (الأمل)، فهي وإنْ أفادتْ من قصص
التراث التي تحفل بالأشباح والعفاريت والغيلان، ودخلت في نطاق الخرافة، ولا
تثريب على الكاتب في ذلك، فإنها تشير إلى أن الأمل معقود على الجيل الطالع،
وعلى الصبيّة الجريئة والبريئة معاً: فثّمة فتاة تدْعى (حُسْن) تُبْتَلى
بغولٍ يمصُّ دمها، فتنحل وتضعف، وتكاد تموت، ثم تبوح بسرّها لذويها، فتدبّ
النخوة الكاذبة في أخويها الكبيرين، وابنْ عمٍّ لها، ويعدونها بقتْل الغول،
ولكنهم يخفقون في ما ندبوا أنفسهم لـه، في حين ينجح في ذلك أخوها الصغير،
الذي راح يضرب رأس الغول بالحجارة، فيُدْميها، ويلاحقه بالضربة تلو الضربة،
إلى أن يجبره على الهزيمة والفرار "وفي الصباح عندما استيقظت الفتاة كانت
وجنتاها متوردتان (كذا جاءت والصواب متوردتين) وبريق الأمل يشعّ من
عينيها"- (الحصار 53).
وفي قصّة (الجدار)، وهي الرابعة في هذه المجموعة، تتجلّى لنا حقيقة
نفسيّة جسّدتها شخصية الجار "الطيّب!" (عبد الستّار) الذي لم يحتمل صنيع
جاره ليلة البارحة المتمثّل بإقامة جدارٍ مستقيم عالٍ لبُستانه الذي طالما
أكل هو من ثمارِه، فبات ليلته قلقاً حاسداً تتأكله نيران الغيرة، حتى إذا
حل الصباح، تسلل إلى مَقهى القرية، وهناك وشى به متذرّعاً بأنه لم يحصل على
رخصة من البلدية، ليقيم جداره العالي المستقيم. وما فعل الجار ذلك إلا
هروباً من (الروتين) والعذاب في المعاملات الإدارية. وما هي إلا سويعات
حتَّى كانت المعاول تهدم الجدار الجميل المستقيم..! إنه الحَسَد
المُسْتَنكر هذا الذي تلبَّس نفس (عبد الستّار) الشريرة. وإنها الوشاية
الكريهة التي تؤكّد مقولة تجري على لسان العامة، فحواها: "أنّ الناس بلى
الناس" ولنتذكر أن الناس هم كذلك في القصّتين السابقتين.
أما قصّة (الحلم) وهي القصة الخامسة في المجموعة، فترمي إلى تأكيد
حقيقة نفسية وفلسفية معاً، مآلها أن الإنسان الذي لا يقوى على الحلم، ولا
يتمكن من امتلاك الأماني، التي يقطّع بها أيامه سعياً لتحقيقها، هو إنسان
ميتٌ لا حياة فيه. فليست الحقائق هي سرُّ الحياة الأوحد، بل الأحلام أيضاً
سرٌّ قوي ثانٍ، أو شرط آخر من شروط الحياة. ولا شك في أنَّ الأحلام تستدعي
بعث الهمم، واستنفار العزائم لتحقيقها. ومن لا حلْمَ له لا همَّة لديه ولا
عزيمة. إنه كالميت حقّاً، وإنْ كانت له رجلان تدبان على الأرض، أو قلْب
يضخُّ دماً في العروق. يقول الكاتب في ثنايا هذه القصة: "وعندما تنقطع
الأحلام ينسلخ المرء عن عالم البشر ويفقد صفته الإنسانية، وينحدر إلى عالم
الحيوان، بل قد يهوي إلى ما دون ذلك بكثير"- (الحصار 70).
وقد توفَّر في هذه القصّة ملمح هام لا يسوغ للمرء أن يمرّ به على
عجل، لأنه ملمح كاشف عن جوانب من رؤية الكاتب للحياة، فالكاتب، من زاوية من
الزوايا، يروم أن يكون مسار الحياة في خط مستقيم لا التواء فيه، والدليل أن
بطل قصّة (الحلم) ينعى على محاوريه التسلّل والالتفاف حول الأشياء، ثم يقول
عن ذاته: "إنه سيفتح منفذاً في الجدار الذي يواجهه ويحاصره، لينطلق بخط
مستقيم (الحصار ص 74). وهذه الاستقامة تذكّرنا باستقامة الجدار الذي بناه
جار (عبد الستّار) في القصّة السابقة، فأغضب البناء المستقيم (عبد الستار)
فسعى لهدمه.. فكأنَّ الاستقامة، هنا وهناك، تعبير غير مباشر عن شوق دفين
لدى الكاتب في أن تكون مسيرة الحياة مستقيمة سليمة نظيفة خالية من
الاعوجاج، والميل، والالتفاف، والفساد، والحسد...
وفي القصة السادسة وعنوانها (النهر) يسرد إبراهيم خريط قصَّة
مأساوية فيها تفقد أمُّ ولدها في النهر، الذي ربما أراد الكاتب أن نفهم منه
نهر الزمن السرمدي، أو صنوّ القدر الغاشم الذي يغضب بين الفينة والأخرى،
ولا يعود إلى صفائه حتى يأخذ ضحيَّة من الضحايا البشرية. ولكنَّ هذه القصة،
في اعتقادي تنتقد لا مبالاة الناس، وتواكلهم، وإعراضهم عن النخوة والعون،
في الوقت الذي كان يجب أن يتخذوا الموقف النقيض بعد أن عاينوا النهر، وهو
يقذف جثَّة الفتى الوحيد لأمّه العجوز، وقد غرق فيه بالأمس، ولكنهم كما
يقول القاص: "ولّوا الأدبار غير آبهين للأشواك التي تخز أقدامهم والحجارة
التي تعثّروا بها". وعلى الرغم من صفاء ماء النهر في اليوم الثاني "بقي في
الذاكرة صورة قاتمة، وعلى البال سؤال: ترى... من الضحيّة في المرة القادمة؟
هل هو أحد منا؟ مَنْ يدري؟". وكأني بالكاتب هنا يحذّر وينبّه على أن الموت
بالمرصاد، ولا تسويغ للإعراض عمن ينكبهم بسهامه، ولا فهم للشعور بالراحة
والطمأنينة إذا حلَّ في غير ديارنا، فقد نكون من ضحاياه في المرة القادمة.
ويخبرنا الكاتب من بعيد بعيد أن الموت في داخل القصة، هو كالموت في خارجها،
وانه يتناغم مع صورة الغربان السود التي تنذر بالشؤم، وقد حطت الغربان في
بداية القصة على شجرة توت كبيرة جفّت فروعها، ثم عادت للظهور في ختام
القصة، وعلى شجرة التوت ذاتها كانت ترقب الناس بصمت.
(ص88). فالموت والغربان كلاها يرقبان الناس ثم يفاجآنهم باختطاف
واحدٍ منهم في لحظة من اللحظات لا يعرفونها.
وفي آخر حكاية من هذه المجموعة. وهي بعنوان (الغريب) تُسْتثار شفقة
القارئ على طالب هندسة في السنة الثالثة، اسمه (عمر)، قضى في غياهب السجن
ستة عشر عاماً. وكان قبلها قد خطب ابنة خاله، وأبقى على خاتم الخطوبة في
بنصره إلى حين الإفراج عنه. ولما عاد إلى مدينته (دير الزور) وجد الدنيا قد
تَبدّلتْ من حال إلى حال، تبدّلت أولاً في دمشق، فقد طلب (عمر) من بائع
شطيرة الفلافل أن يعيد له قسْماً من الليرة التي دفعها ثمناً للشطيرة، وعجب
حين طلب منه بائع الفلافل أن يكمل له ثمن الشطيرة ليصبح عشر ليرات، لا ليرة
واحدة..! ووجد التبدُّل قد حصل في بيته ثانياً، فقد تخلّت عنه خطيبته،
وتزوّجت من أخيه (سعد) هذا الذي أحسن استقباله في بيته مع زوجه وولده
الأكبر، الذي سمّاه (عمر)، على اسم أخيه، ظنّاً منه أنه مات ولن يعود...
ولكن (سعداً) هذا يعمل الآن بالتجارة. وأيّة تجارة؟ إنها تجارة المهربات
والممنوعات. وبسبب ما فوجئ به السجين الطليق من تغيّر وتبدّل وخيبات أملٍ،
تمثّلت بموت أمه، وتجارة أخيه، وزواج خطيبته، حمل حقيبته وغادر منزل أخيه
إلى مكان مجهول، ليبقى غريباً في سجنه الكبير، كما كان غريباً ومحاصراً في
سجنه الصغير...
وبعد، فلو بحثنا عن قاسم مشترك بين هذه القصص السبع، لوقعْنا عليه
بشيء من التلطُّف وحُسْن التأني؛ (فالحصار) الذي عَنْوَن به الكاتب مجموعته
هو معنى موزّع في ثنايا القصص السبع تقريباً، أو قل هو إطار يؤطر أحداثها
وشخصياتها كلها. فالكاتب أو (أنا الراوي) محاصر بالخوف في القصة الأولى:
(التوأم)، وهو محاصر بالناس في القصة الثانية: (الحصار). و (حُسْن) محاصرة
بالغول في قصة (الأمل). وصاحب الجدار- الجار الطيب، محاصر بجاره اللعين
(عبد الستّار)، وبالناس الواشين من بعده. والمرء عامةً، كبطل قصة (الحلم)،
محوطٌ بالحواجز، وبينه وبين تحقيق أهدافه أسوار وموانع، وشمسه توشك على
الاختفاء، والليل يزحف عليه، وهذه كلها مفردات الكاتب، أو مرادفاتها، في
قصة (الحلم). وكذلك تطالعنا في حكاية (النهر) الأغربةُ السود، والأقدار
الغاشمة، والعجوز الشمطاء، وشجرة التوت العارية التي راحت الأغربة من فوقها
ترقب الناس بصمت، وإذا شئت قلت راحت الأقدار الظالمة تترصد ضحاياها، ليكون
مصيرهم كمصير الابن الوحيد للمرأة العجوز... أما (الغريب) فهو المحاصر
بامتياز، إنه سجين لستة عشر عاماً. وجدران السجن الأربعة تبعث فيه الضيق
والألم والقنوط، حتى إذا ما خرج ليتنسَّم نسيم الحريّة، وجد نفسه من جديد
محوطاً بتقلبات كثيرة في أسعار السِّلع، وعلاقات الناس، وتصرفاتهم،
ومفاهيمهم، فآثر الغربة من جديد في سجن الحياة الكبير، وكأنه يحتجّ على هذه
المفاجآت التي صدمته. وعلى ذلك، فإنَّ همَّ القاص الأول كان نقداً للحصار،
سواء أكان سياسياً، أم اجتماعياً، أم فكرياً، تمهيداً لأن يصل الناس إلى
فسْحة الحياة الأرحب. ولهذا فإنه لم يشأ أن يسجل لحظة انتشاء أو ابتهاج
واحدة. وكأني به يرى العالم بنظّارة سوداء قاتمة. وإني، وإن كنتُ لا أوافق
الكاتب على هذه الرؤية تمام الموافقة، فلسْت أنكر على الفنّ مهمته في نعي
القهر والفساد، وكشف الغش والهشاشة، ونقد الالتواء والالتفاف، فهذه كلها
مهمَّات كبيرة نطالب الكُتَّاب بحملها. ولكن نقاط الضوء المنبعثة من بين
الركام والحطام بحاجة أيضاً إلى التركيز عليها وإبرازها وامتداحها. وربما
كان انهماك الكاتب في تجسيد همومه الفلسفية وتعريه النفوس الشوهاء من
أقنعتها، والأنظمة الفاسدة من حجبها وحُجَّابها، وراء انصرافه عن تخليص بعض
قصصه من زوائد أثقلتها، فأبهظتها، ومن نوافل لحقتها، فأتعبتها. فالكاتب
مطالب بالقدرة على الحذف، كما هو مطالب بالقدرة على الإثبات. ومن المعروف
أن القصَّة القصيرة تتوخّى أن تترك في نفس القارئ انطباعاً واحداً، وأثراً
فرداً، من خلال مجموعة العناصر المتشابكة فيها من سرد ووصف وأشخاص وحوار
ونجوى وزمان ومكان. ولكن قصتين من قصص هذه المجموعة لم يتوفر فيهما هذا
المتوخَّى، وهما القصتان الأخيرتان، وربّما لهذا السبب كان ترتيبهما أخيراً
في المجموعة. وأريد بهما قصة (النهر) وقصة (الغريب) فقد اجتهدت أن أرى في
(النهر) معادلاً فنيّاً للزمن، أو القدر الذي يتربص بالأحياء ويتخطفهم على
حين غرّة، مثله مثل الغراب الأسود الذي يرقب الناس من فوق شجرة التوت
العارية. واجتهدت أن أرى في إعراض الناس عن الوقوف إلى جانب الضحية،
ومواساة الأم العجوز بوحيدها، معادلاً لموقف اللا مبالاة في المجتمع خارج
القصة، ولكنَّ قارئاً آخر يمكن أن يخرج بانطباع ثالث ربّما تفرزه القصّة.
وهذا مما لا ينسجم مع وحدة الانطباع، والأثر الفرد الذي ينبغي للقصّة
القصيرة أن تتركه في قارئها.
والأمر ذاته يصدق على قصة (الغريب)، فعلى الرغم من إثارة مشاعر
التعاطف مع بطل هذه القصة، فإن الكاتب قد قدَّم لخطيبته مسوّغات انصرافها
عنه، فهو يقول على لسان طالب الهندسة في نجوى من نجاواه العديدة:
"عيناها تحدثانك بصمت، لقد اختفيتَ، لم تتركْ أثراً، لكنّ الزمان
الذي يفتّت الحجر قادر على تبديل البشر، أنت تدرك هذا وتتفهّمه جيداً-
(الحصار ص 100). إن هذا الحوار الداخلي يجعل القارئ يعذر الخطيبة غير
الوفيَّة، وكذلك الحوار الذي جرى ما بين السجين (عمر) وأخيه سعد، يُسدي
للأخ الطليق عذراً. وهو عذرٌ قد لا يكون قويّاً، ولكنه عذرٌ على أيّة حال،
يقول عمر:
"أنتَ تتاجر بالمواد المهرّبة والممنوعة!
-يا أخي لماذا تُعقَّد الأمور دائماً؟ لقد تغيَّرت المفاهيم
والمصطلحات، العالم كله تبدَّل".
وهنا يتساءل الدارس: أما كان بالإمكان أن يُحْذَف هذا الحوار كي لا
يشوّش على القارئ انطباعه، ويخفف من غضبه على الاتجار بالمهربات
والممنوعات؟ وإذا كان الكاتب قد قدَّم صورة الأخ التاجر لتكون صورة نقيضة
للأخ السجين، فإنه لم يحدّثنا من قبل عن صفات هذا السجين، وإن قدَّم لنا ما
مكننا من أن نستنتج أنه سجين سياسي. وقد كان في عناصر هذه القصّة ما يمكن
أنْ يُسْتغل استغلالاً أغنى وأجود، بيد أن القاصّ لم يستغلَّها على النحو
المرجو. ومن أمثلة ذلك مثلاً أننا لم نقنع في ضوء عملية السرد، و
(المنولوج) الداخلي، والأحداث، بالخيار الذي اختاره السجين، وهو مغادرة
منزل أخيه، ولا سيَّما أن أعذاراً قد قدِّمت للتصرّفات المغلوطة التي بدا
(عمر) محتجّاً عليها في النهاية، وشتّان بين الحديث عن السجن السياسي هنا،
وحديث عبد الرحمن منيف عنه في بعض رواياته، مع وعْي الفرق ما بين القصَّة
القصيرة والرواية، إذ لكل منهما طريقته في التناول.
وفي الوقت الذي وُفِّق فيه الكاتب بصنع حبكة قصصية موفقة في قصصه
الخمس، وشدَّ القارئ إلى مطالعة مجموعته بشوق، مُحقَّقاً شرطيْ الإيهام
والإمتاع، غاب عن قصصه جميعاً ما يمكن للناقد أنْ يسميّه "النبوءة في
الفن". وهو شيء مطلوب ومرغوب، لو أولاه الكاتب عنايته، ولا شك لدينا في أن
بصيرة الفيلسوف وعالم النفس أقدر على قراءة ما تحت الحجب، ورؤية ما خلف
النقب... وهذا ما يتوقّعه المرء من كاتب كإبراهيم خريط رسخت قدمه في فنّ
القص، بعد أن أصدر أربع مجموعات قصصية هي (القافلة والصحراء) دمشق 1989، و
(قصص ريفية) دمشق 1993، و (الحصار) دمشق 1994، و (الاغتيال) دمشق 1997، كما
يزمع إصدار رواية بعنوان (أنهار بلا شطآنٍ). ولا يمكن لمنشئ قصص (التوأم) و
(الحصار) و (الجدار) و (الأمل) و (الحلم) الجميلة الماتعة، وقصّة (حفلة
تنكريّة) الممتازة، المنشورة في مجلة الموقف الأدبي (العدد 312)، أن يوحي
في إبداعه، الذي اطَّلعتُ على بعضه، وليس عليه كله، بأنه يزورُّ عن استشراف
المستقبل، أو يعرض عن رصد ملامح الآتي من وراء الحجب الكثيفة... إننا
نتوقّع منه في قابل الأيام أن يفعل كما فعل قصّاصون أُخَر أوْلوا هذه
المسألة عنايتهم، أمثال نجيب محفوظ في روايته: (ميرامار) وزكريا تامر في
مجموعته: (النمور في اليوم العاشر) وعبد الكريم ناصيف في روايته:
(المخطوفون).
بَوْح الزمن الأخير
لحنان درويش
صدرت مجموعة "بوح الزمن الأخير" للكاتبة حنان درويش عن اتحاد
الكتّاب العرب في العام 1997، وبين دفتيها عشرون قصّة قصيرة، وقعت في
(110) مئة وعشر صفحات. مما يدل على أن متوسط القصة الواحدة يكاد
يكون خمس صفحات من القطع الصغير. وهذا ملمح أول من ملامح هذه المجموعة التي
جاءت بعد مجموعتين قصصيتين للكاتبة هما: (ذلك الصدى) و(فضاء آخر لطائر
النار).
وقد أهدت الكاتبة مجموعتها هذه إلى مدينتها (مصياف) الغافية على كتف
المحبة والدفء والجمال.
والحقيقة أن هذه القضايا الثلاث أعني: المحبة والدفء والجمال شكلت،
مع أمور أخرى غيرها، القبّة الكبرى التي أظلت أكثر قصص هذه الكاتبة،
وبعبارة أخرى كانت الجداول التي انسربت في ثناياها، فوهبتها الحياة وقوّة
التأثير، وأكسبتها جدارة الولوج في محراب هذا الفن الجميل، أعني "القصة
القصيرة". بَيْد أن قصصاً أخرى في هذه المجموعة قدِّمت دون احتفاء بما وراء
الحدث، ودونما اكتراث قوي بملامسة معنى عميق، أو فكرة كلية أو جزئية، أمثال
قصة (زائر مع سبق الإصْرار) التي تحكي قَتْل صرصور في بيت..! وقصة "غرفة
رقم 13" التي تتناول حالة سوء تفاهم، أو غلطاً غير مقصود وقع مع امرأة في
فندق، فانتابتها الشكوى والوساوس التي لم تفضِ إلى أي معنى أو مغزى، ولم
تنجح المفاجأة التي وقعت لها في أن تنهض هذه القصة على قدميها، إذ اكتشفت
أن من طرق باب غرفتها ليلاً لم يكن هو الرجل الذي ظنّت به الظنون.. بل كان
شاعراً قدم تواً من مكان بعيد، فقرأ رقم الغرفة (31) بدلاً من (13)..!
ومثل شكوك هذه المرأة، كانت شكوك المعلم- معتمد الرواتب –الذي
حدّثته نفسه، وقد استلم زيادات جديدة في رواتب زملائه، حدّثته بالانحراف عن
الطريق القويم، وبالتضحية بالأمانة التي لازمته سنين طويلة، وذلك بسبب ضغوط
الحياة عليه وحجم المسؤوليات الشهرية الملقاة على عاتقه، بوصفه رباً لأسرة
من سبعة أشخاص... ولكن صوت زوجه الهامس في أذنه من بعيد: أن اصمدْ ولا
تسقط، عصمه من الانجراف في درب الخيانة والسرقة... ولم توضح الكاتبة ما إذا
كان لتفوّهات زملاء هذا المعلم بعبارات تقول: إن زيادة رواتبهم هذه ستحل
لهم بعض مشكلاتهم... أثر في إخماد ثورة الطمع لدى هذا المعلم، رغم أنها
يمكن أن تُحْدِث ذلك الأثر... وفي اعتقادي أن الكاتبة لو أضافت هنا أو
هناك، عبارات أخرى في أعطاف هذه القصة، لجعلتها أكثر إقناعاً، وأوفر
اتّساقاً.
ولكن ما تقدَّم لا يمنعني من إعلان إعجابي بعدد وفير من قصص هذه
المجموعة شعرت بأنها كتبت بيدٍ خبيرة. فقد كثّف بعضها حقائق كبرى في سطور
قليلة، حقائق تتصل بجوهر الحياة الإنسانية، وبعالم القيم والمثل، وبقضايا
الناس والمجتمع. ومن هذه القصص (بوح الزمن الأخير) التي سنرجئ الحديث عنها
هنا، و(معادلة)، و(أزرق.. أحمر)، و(مفاتيح العتمة)، و(مات الياسمين)،
و(القصيدة الفائزة)، و(قلق)، و(بنت الدهشة)، و(ثم عاد).
فمن القصص الناجحة قصة (معادلة) وهي تحكي حقيقة العلاقة ما بين
الرجل والمرأة. من خلال أربعة أزمان هي: "الأول" و "الخامس" و "ما بعد
العاشر" و "الأزمنة اللاحقة" ففي الزمن الأول كان الرجل على قمة الجبل
مزهوّاً برجولته، فلمح المرأة في الوادي، تتوضأ بفيض الألق، وتلوّن قلبها
بلون قوس قزح، وتلملم زهور الأقحوان"، ناداها، فلم ترفع الطرف إليه أولاً،
تابع النداء ثانية قائلاً: أيتها الأنثى أنتِ مني ومن ضلعي وُلدِتِ، فاصعدي
إليَّ، فأفزعتها الصرخة الأنسية الآمرة، ولم تستجب لها.. وفي الزمن الخامس
نزل الرجل إلى منتصف الجبل، وكان كل شيء يشدّه نحو الوادي، وصار يرى المرأة
بوضوح أكثر، وصارت هي تسمعه بوضوح أكثر، فناداها: يا دفق الأنوثة، أيتها
التحفة النادرة، ها أنذا نزلتُ إليك تركت جبروتي وقوتي وأتيتك طائعاً
مُسْتسلماً.. ما أسعدني اليوم بلقياكِ، وأنا أتنسّم طيب أنفاسك... عندئذٍ
استدارت المرأة صوبه، ورقصت رقصة معيّنة أذابت ثلوج التمنّع، وعادت تواصل
الطيران، رأسها باتجاهه وجناحاها إلى الأمام... وفي الزمن ما بعد العاشر
تكثف الشعور بينهما، فالتقيا، وقد رقَّت المناجاة، فلانت المرأة للحب
الحقيقي، وكفَّت عن الطيران بعيداً عن الرجل... ثم في الأزمنة اللاحقة شاهد
الناس الرجل يطير والمرأة تركض خلفه...
إنها قصة رمزية خيالية تكثف جوهر العلاقة الإنسانية بين الرجل
والمرأة، وهي علاقة تقوم أساساً على الحب، أو ينبغي أن تقوم على هذا
الأساس. فالمرأة لا تطير نحو الرجل إلاّ إذا أحسَّت بحبه لها، وبلين ندائه،
وجميل غزله.. ولقد أصرّت الكاتبة على إغفال اسم الرجل، واسم المرأة، لتوسع
دائرة الرمز، وليكون هذا الرجل هو أي رجل يحاول الاقتراب من أية مرأة،
ولتكون هذه المرأة هي أية مرأة في كل الدهور والمصور... وهنا ملامسة جميلة
لحقيقة ثابتة تشهد الحياة الإنسانية بخلودها.
ويتناغم مع هذه القصة، قصة أخرى، فتتعانق فكرتاهما، لتؤكدا أن الحب
هو أساس التجاذب بين الجنسين، وهو أهم من أي شيء آخر. ففي قصة (أزرق..
أحمر) يتواعد رجل وامرأة على اللقاء دون سابق تعارُف، وقد سرى تيّار
الاستلطاف والشوق بينهما من خلال أسلاك الهاتف فحسب.. ويتفق (أسامة)
و(فاتن) على اللقاء عند (حديقة المحبة) في المدينة، على أن تكون شارة
التعارف بينهما فستاناً أزرق تلبسه (فاتن) وقرنفلة حمراء يحملها (أسامة).
وتشاء الأقدار أن يخفق كل منهما في العثور على شارة التعارف المتّفق عليها،
ولكلّ أسبابه، ورغم ذلك يذهبان إلى الموعد المحدد، فيجدان نفسيهما عند
بوابة (حديقة المحبة) الساعة السابعة، ويسلّم كل منهما على صاحبه باسمه دون
شارتي التعارف أعني: (الفستان الأزرق)، و(القرنفلة الحمراء)! (ص79).
إنه رسيس العشق وكيمياء الحب، اللذان ينبتان للمحبين بصيرة لا تخيب،
وهما الرسيس والكيمياء اللذان جعلا المرأة تلاحق الرجل في القصة السابقة،
وهما أخيراً الخيط الذي لابد من وجوده في أية علاقة بين رجل ومرأة. ومن هنا
كانت هاتان القصتان تلامسان سراً عميقاً من أسرار الوجود الخالدة.
وإذا كان الحب، هو حقيقة إنسانية خالدة، قد أوحى للكاتبة بالقصتين
السابقتين، فإن الحلم، بما فيه من أمانٍ وآمال، كان هو الآخر حقيقة غذّت
قصة من قصص هذه المجموعة، وهي قصة (مفاتيح العتمة)، فها هنا نحن أمام فتاة
تدعى (زينب) تصرَّ على أن تكون حياتها أحلاماً، فهي تبني أعشاشاً لآلاف
القبَّرات وعرائش متوهجة بنسائم الحب، (ولنتأمل في عبارة نسائم الحب) وذرى
مشرعة تغري بالصعود، وأمنياتها صغيرة وكبيرة ومتوسطة القامات، ولكن هذه
الأحلام تفاجأ بغضب الطبيعة وغدر الناس، الطبيعة تحمل الزلازل والعواصف
الرملية والأعاصير والسيول، والناس يبثون سمومهم ويخربون ويفسدون، فتحزن
زينب لأنها طيبة إلى درجة المرض... ورغم ذلك تستمر في الحلم الذي يبدّد
سحائب الأرق، وهاهي ذي تنزع الحبق الذي هدّه الصقيع لتغرس بدلاً منه حبقاً
أكثر نضارة، وتقلب صفحة لتفتح صفحة جديدة، ويدها جاهزة دائماً للرسم. وهي
تعيش حالة ألق متطوّرة. وتفاجأ من جديد بجوائح الصقور تملأ المكان، وتقتحم
عليها هدوءها، فتسرق أمنياتها وتعطيها مفاتيح العتْمة..!
إن (زينب) هنا رمز مكثّف يفلسف أهمية الحلم في الحياة، وهي تكبر
وتكبر لتصبح حالة إنسانية سوية، فالنفس البشرية ستحل عليها العتمة واللعنة
معاً، إنْ هي كفّت عن الحلم، وسيهرب النور من عيني الناس، إنْ لم يحفلوا
بقدس الأماني، فما أتعس الذين لا أحلام لهم، وما أضيق عيشهم. إن قصة
الكاتبة (حنان درويش) هذه لتذكرنا بقول الشاعر القديم:
أعلِّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ومن هنا كانت هذه القصة، كالقصتين السابقتين تقترب فنياً من حقائق
الوجود الكبرى، التي أرّقت الناس في كل العصور والمصور.
ولم يقتصر الاحتفاء بالحياة البهيّة العطرة المضمّخة بالحلم والورد
على قصّة (مفاتيح العتمة)، بل نجده ماثلاً في قصة (مات الياسمين) فها هنا
علاقة نسيجها الود والعطف والحنان تنشأ ما بين (رجل) و (ياسمينة) في بيته،
هو يعدّ لها سلال الندى، وهي تهديه جرار العطر، في الوقت الذي تقدّم
الطبيعة للياسمينة النور والصداقة والمطر. ولتكريس قيمة الحنان والرقة في
الوجود تُنْطِق الكاتبة الياسمينة بهذا السؤال الموجّه إلى صاحبها: "هل
باستطاعة لمسة حنان أن تغسل دهراً من الألم؟" فيجيبها دون تردد "نعم". وذات
يوم تنقلب الدنيا، ويزمجر الوجود، فتحتضر الياسمينة، ويصير بياضها الناصع
أصفر، وتذبل، وتموت، فيبكيها الرجل بدمع جم... ولكنه في غمرة حزنه يتذكر
قولها له: إن حياتك تذبل دون ياسمين" فيُسارع إلى تنفيذ وصيتها هذه، ويزرع
ياسمينة أخرى، لتسرع بدورها في إرسال أول هجائيات بوحها في الأيام
التالية...
إنها قصة ماتعة تحتفي بالحياة والحنان والورد والرائحة الذكية، وكما
كرر الرجل زراعة الياسمين بعد عدوان الطبيعة عليه وموته، كانت (زينب) في
القصة السابقة تكرر زراعة الحبق الذي هدّه الصقيع وأماته، وذلك لينبت من
جديد حبقاً أكثر نضارة. فاليأس إذاً لا وجود له عند أبطال قصص حنان درويش.
والموت المفاجئ لابد أن يجابه بالحياة المستمرة، كما لابد أن يكافئ الزرعُ
الاقتلاعَ، والحنان الغضب، فلمسة الحنان كما جاء في القصة الأخيرة تستطيع
أن تغسل دهراً من الألم!
وقد استتبع الاحتفاء بقيم المحبة والدفء والحنان اهتمامٌ بمعاني
أصالة الإبداع، وحقيقة الفن والجمال. وفي المجموعة ثلاث قصص أولت عناية
بالفكرتين السابقتين وهي: قصة (القصيدة الفائزة) و (قلق) و(بنت الدهشة).
ففي "القصيدة الفائزة" تسخر الكاتبة من شاعر فازت قصيدته بالجائزة
الأولى في إحدى المسابقات، وعندما جاء ليلقيها في إحدى القاعات، بدأ الناس
بالخروج واحداً إثر واحد، احتجاجاً على كلامه الذي لا معنى فيه ولا إيقاع
ولا جمال، حتى إذا وصل إلى نهاية القصيدة فوجئ بخلو القاعة، ولم يجد مَنْ
يصفّق لـه البتّة، فصفّق لنفسه، ونزل عن المنبر بالثقة ذاتها التي اعتلاه
بها! (ص22).
إنها السخرية المرة من ادِّعاء الشاعرية، وزيف الإبداع، وسقوط
المجانية واللامعنى في قصائد اليوم الفائزة. وهي سخرية تنطوي على موقف من
الفن العدمي الخاوي، والخالي من الجمال والتأثير والدلالة.
أما قصة (قلق) فتنتقل فيها الكاتبة من حالة الشعر إلى حالة الرسم،
فهذا الفنان التشكيلي (ربيع) يتلبسه شجنٌ يعانيه في نهاراته ولياليه، ويقضّ
مضجعه قلقٌ يعذبه ويشقيه لأنه يريد رسم مشهد يهزُّ الروح، ولكنه من الضخامة
على قدر لا يمكن للخيال تصوره... ويأتيه علاج هذه الحالة مع (سلوى)، أو من
الكاتبة إذا شئنا، التي تقول له: "ليس المطلوب من الفنان أو الأديب أن يمخر
عباب البحار كلها، أو يخوض التجارب الحياتية جميعها كي يحقق إبداعاً،
بإمكانك أن تتخيل مثلي، أن تعيش الحالات بينك وبين ذاتك، ثم تخرجها للنور
صحيحة معاناة". وقد استجاب (ربيع) لهذه النصيحة، فبعد أن وقف على ذروة
الجبل ونظر إلى المدينة ببساتينها ومنعطفاتها وأزقتها ووجوهها المتعبة
وزنود عمالها السمر وإشراقة وجوه المحبين فيها، وإلى الآبدة العملاقة، توغل
صدر التاريخ واكتفى برسم سيف صلاح الدين، وشخّص المدينة ببعض الرموز،
فاكتملت اللوحة، (ص54).
وقد أصابت القاصة فيما أنطقت به (سلوى)، فالفن التشكيلي، مثله مثل
القصة القصيرة، ومثل القصيدة أيضاً، يكفيه، أحياناً، أن يعبر عن الجزء
الدال الثري، ويرمز إلى الكل برموز مختصرة، فيحقق الشأو المرتجى. فالمطلوب
من الفنان، كالمطلوب من القاص، هو الإيجاز والتكثيف، والتقاط الواسم
والمعبّر عن الجوهر. إن النصف لديه أهم من الواحد الكامل، والمعروف أن
الناس عامة، والنقاد وخاصة، لا ينتظرون أكثر، ويكفيهم، في الفن، أن يمتثلوا
لقول القائل: " يكفيك من القلادة ما يحيط بالعنق".
أمّا قصة (بنت الدهشة) فهي قصة تنفذ إلى عمق الأشياء من زاوية أخرى،
ويتمثل عمق الأشياء هنا بالجمال الأنثوي، فثمة رجل يدعى (أحمد) أحب فتاة
تدعى (غادة) واستولى حبها على قلبه، وأضاء أيامه، وأغلق دون قلبه كل
الأبواب، ثم راح يحلم بالزواج منها، فهي العروس الجميلة التي تفوق الوصف،
والتي تصعقه لمسة منها، ويذيبه طرف حديث لها، وتصيبه الخلوة بها بالمسّ...
وفي القصة تتحقق الأمنية، فيتزوّج (أحمد) من (غادة). وبعد ثلاثة
شهور يلتقي أصحابه في أحد المقاهي، فيلاحظون في عينيه اختفاء أي انتظار
لحلمٍ أو دهشة ما.
إن العين في هذه القصة وبريقها في قصص أخرى كانت وسيلة الكاتبة
للتعبير عن فكرة أو شعور أو موقف، وهذا ما لمحناه في قصة (بوح الزمن
الأخير) وفي قصة (أحزان عبد الرحمن). وفكرة القصة التي نقف عندها تقول: إن
الكائن البشري لا يمكن له أن يقبض على حلمه كاملاً، وأن الدهشة القائمة على
عدم الاختبار، سرعان ما يخفّ بريقها، أو بريق صاحبها، بعد أن تكشف المعاشرة
أشياء أخرى، أو بعد حياة يومية ما بين زوج وزوجة قد تكون ملأى بالحوار
والشجار وكدر العيش وهموم الحياة، وكل أولئك يسلم إلى القول: إن المظهر قد
يخدع، والعبرة في المخبر، أو إلى القول: لنهتم بالأعماق، ولنهزأ بالمظاهر..
ولقد سكتت الكاتبة عن شرح أسباب اختفاء الدهشة من عيني (أحمد) لتتيح
للمتلقي أن يفهم بنفسه هذه الأسباب، فيشاركها في كتابة القصة وقراءتها...
وهذه النهاية المفتوحة للقصة تكررت في قصة الكاتبة (ثم عاد) فثمة
رجل هجر زوجه، وتركها تُعالج شأن أبنائه، وتكد وتكدح لتلبية مطالبهم، وغاب
عمراً مديداً عنها، فتعلمت الخياطة، وعانت كربة الحياة وشقاءها وإعراض
الأقارب وجفاءهم... ثم فوجئت بعد زمن مديد ببرقيةٍ من الزوج الهارب من
مسؤولياته تقول: سآتي بعد أسبوع. وفعلاً عاد ذاك الرجل، مريضاً مشلولاً
محمولاً على نقّالة لابد لـه من خادمة وممرضة... وهنا تترك الكاتبة سردها
الخيطي المتصاعد، وتلتفت إلى جمهورها، كأنها ممثل مسرحي نسي دوره في
التمثيل، وتسأل: "هل تستقبل فاطمة زوجها أم ترفضه؟ ما رأيكم". والحق أنني
أستهجن هذا السؤال يصدر عن الكاتبة، وقد انتزع من الشخصية الساردة قفَّازها
السردي، وعرّى لعبتها الفنية، لجهة مباشرة مستهجنة لا يسيغها منطق القصّة.
ولو أنها اختارت خاتمة أخرى لا تنطوي على هذه العبارة، لكانت أكثر توفيقاً
في نظري، ولحافظت على مبدأ الإيهام الذي لا مناص للقصّة الناجحة من
الامتثال إليه.
وعلى الرغم من واقعية هذه القصّة، ومن لحظة التأزم التي حوتها، ومن
المشكلة التي طرحتها، فإن عبارة "ما رأيكم" فيها قد مثلت نشازاً حبّذا لو
ابتعدت عنه الكاتبة. والحقيقة أن الحيرة التي تلبّست الزوجة عند قدوم زوجها
كافية لتقيم القصة على قدميها، فهي موحية ومربكة وذات وجوه، فهي إنْ طردت
زوجها تكنْ قد عاملته بالمثل، وكافأته بفعْلٍ من جنس فعله، فبعد أن تركها
ريشة في مهب ريح الحياة، أو سفينة في خضم يمّ متلاطم لا ربّان لها، بعد ذلك
لا مشاحة على سلوكها، إنْ هي طردته... وهي إنْ قبلت به تكنْ قد سجّلت نبلاً
إنسانياً عظيماً، وعملتْ وفق منطق غفراني لا حدود لعظمته، وفي هذا الموقف
توبيخ عميق وقاسٍ لكل الهاربين من المسؤولية، والمتنكرين لحقوق الزوجة
والأبناء. وفيه أيضاً طيف من حبٍّ حقيقي للأبناء ينسحب على أبيهم، فقبول
الأب هو قبول للأولاد، وكل ما يتصل بهم من أبوّة مخلصة أو غادرة، ناجحة أم
خائبة. وتلخيص القول في المشكلة التي تطرحها هذه القصة، هو أن موقف الزوجة
في الرفض أو القبول محكوم بتربيتها الأسرية، وبقيم المجتمع الذي تعيش،
وبظروف اجتماعية أخرى مختلفة.
القصة النموذج
ونتوقف عند القصَّة الأولى التي اختارت الكاتبة عنوانها ليكون
عنواناً للمجموعة كلها وهي "بوح الزمن الأخير". وهي قصة وجدتها تستوفي شروط
القصة الناجحة، من حيث الاتساق والمشهدية المسرحية ووحدة التأثير.
إنها قصة ألم يجمع مابين "أُمٍّ" غدر بها بنوها من جهة، و أحد بنيها
من جهة ثانية، وفيها تُفْتَح الستارة على مشهد الأم، وقد قسا عليها البنون
والناس والزمن، فتشرّدت وصارت بلا مأوى، وهاهي ذي تبيت في خيمة تعصف بها
الريح والبرد والمطر، ويناظر هذا المشهد مشهد آخر لابنها، وقد أودع السجن
وألصقت به تهمة القتْل (ظلماً). وقبل أن يُنفَّذ به حكم الإعدام يتمنى
اللقاء بامرأة، وتشاء الأقدار الغريبة أن يقوم رجلان بقراءة الإعلان المتصل
بأمنية الابن السجين والمحكوم، فيعرضان الأمر على المرأة البائسة النائمة
في تلك الخيمة، وبعد صراع وتردّد، ترضى..! وهناك في الزنزانة تلتقي بابنها
البائس (البريء) وتحدث المفاجأة، ويسيل نزيف كل منهما نحو الآخر،
فيتعارفان، ويفصح كل منهما عن همومه وأحزانه وخيباته، وتقول الأم لابنها:
"تعالَ نتجاوز كوابيس هذه اللعبة" فيسألها: "وماذا بالنسبة إلى الغد؟"
عندئذٍ تشعّ عيناها ببريق ليس له شكل أو طبيعة أو ديمومة، ويشع مثله بريق
في عينيه يشبه الأمل...
ولم تفصح الكاتبة عن لغز هذا الأمل، بل تركت الأمر غامضاً، كما في
قصتيها السابقتين (ثم عاد) و (بنت الدهشة). ولعلّ الأمل هنا قد تولَّد من
لقاء الحنان، ومن إمكانية البراءة بعد اللقاء بالأم... ومن يدري فلعلَّ
التهمة كانت قتْل الأم ذاتها... ثم هاهي ذي تبعث حيّة، فيشعّ الأمل في عيني
ولدها..! إن القتل المجازي هنا يعانق القتل الحقيقي، فتهمة القتل الموجّهة
إلى الولد العاق، وهو بريء منها، تتلبّسه حين يقدّم بوصفه غادراً بروح
الأمومة وحقوقها، ومُتنكرَّاً لواجباته إزاء أم تركت تجابه محن الحياة
ونوبها.. ولقد وفقت الكاتبة، في نظري، حين جعلت جريمة الشاب الملصقة به،
وهو بريء منها، تتماهى مع جريمته غير المتهم بها، وهو غير بريء منها! كما
أحسنت صنعاً حين جعلت من حنان الأم الغامر، سبباً للبراءة أو للأمل
بالبراءة.... وفي القصة أيضاً تساوق واضحٌ ما بين قسوتين وقعتا على الأم
المسكينة هما: قسْوة الأبناء والحياة، وقسوة الطبيعة. فهؤلاء الغادرون
العاقون الأجلاف يغدرون بأمهم ويتركونها نهباً للفقر والحاجة والمصائب
وقسوة الدهر، وهذه الطبيعة تهدر بعواصفها ومطرها وبردها، حتى لتكاد تقتلع
الخيمة التي لجأت إليها الأم في تلك الليلة، ويبلغ التأزم مداه حين يأتيها
ما هو أدهى من الداهيتين السابقتين، وهو قضاء ليلة شرسة مع مجرمٍ في
زنزانة... فتدور في رأسها أفكار متصارعة وتجد الحل في الهروب من البرد
والمطر والعراء... وهناك تحدث المفاجأة وتكتمل القصة، دون أن تنغلق
انغلاقاً يقضي على دهشة القارئ، بل بالعكس تكون النهاية محملة باحتمالات
عدّة بسطناها فيما مضى.
حضور المرأة في المجموعة:
وإذا كانت المرأة تحضر بقوة ومأسوية في هذه القصة، فإن شخصيتها لم
تغب عن قصص أخرى في المجموعة، مما يوحي بأن هذا الصوت النسوي القصصي، قد
احتفى بأبناء جنسه بوضوح؛ فالمرأة حضرت بقوة في قصّة (حكاية كل شهر) وكان
صوتها عاصماً للزوج –معتمد الرواتب- من السقوط، وحضرت بقوة في قصة (ثم عاد)
وفيها حملت المرأة مسؤولية الأبناء بإخلاص وثبات. وحضرت في قصص (الشمس لا
تشرق كل حين) و(معادلة) و (قلق) و (مفاتيح العتمة) و (خلف الزجاج) و
(أزرق... أحمر) و (حالة غضب) و (بنت الدهشة) و (آخر الهدايا).
إذن، هي حاضرة في أكثر قصص هذه المجموعة، وتكاد تكون الشخصية
المحورية في اثنتي عشرة قصة، مما يوحي بأن (حنان درويش) عوَّلت على جعل
المرأة عنصراً هاماً من عناصر التكوين القصصي لديها... وقد كانت تلك النساء
بطلات إيجابيات أحيانا،ً وبطلات سلبيات أحياناً أخرى. فهي مثلاً بطلة
إيجابية في (ثم عاد) و (حكاية كل شهر) و (مفاتيح العتمة)، وهي سلبية أو
ضحيّة في (بوح الزمن الأخير) و(خلف الزجاج)، وهي تتسم بعدم الصبر والحكمة
في قصة (حالة غضب)، وهي أخيراً تمثل حالة، أو تجسّد حقيقة، حين تكون طرفاً
في علاقتها مع الرجل، كما في قصة (معادلة).
أما شخصيات القصص الأخرى، فقد تراوحت ما بين (عامل) و (معلم) و
(موظف) و (شاعر دعي) و (فنان تشكيلي) و (رجل ذو مركز اجتماعي). وبدأ بعض
هؤلاء بائساً مقهوراً تبهظه تكاليف الحياة، أو فناناً أخطأ دربه، فكان موضع
سخرية، أو نصح رشيد، أو شخصاً يهتم بالسطح دون العمق، حتى إذا دار الزمن
دورته تكشفت له حقائق الأشياء.
أما الشخصيات غير الإنسانية في المجموعة، فقد تراوحت ما بين (حمار)
و (جرذ) و (ياسمينة) و (عصفور). واستغلَّ حضور بعض هذه الشخصيات استغلالاً
حسناً، فأُنْسِن، كما في قصة (تمرُّد)، حيث تمرَّد الحمار على (حذوه)
بالحديد، لأن هذا الفعل يجافي منطق الأشياء، فالحذاء الحديدي يخصُّ الحصان
لا الحمار. ولم يحسن استغلال بعضها الآخر كما في قصة (زائر مع سبق
الإصْرار)حيث تعاون أهل البيت على قتل (جُرذ) لأنه مثّل دور زائر غير مرغوب
فيه..! ولكن الرمز الذي كان وراء قصص الحيوان عند بعض القصّاصين الأخر، لم
نجد له أثراً واضحاً هنا، باستثناء ما أوحت به قصة (مات الياسمين)من دعوة
إلى الإصرار على الحياة المشفوعة بالحب والعطف والحنان، ومن تعبير مآله أن
الرقة هي علاج العنف، وأن الجمال هو عدو القبح، وأن الحنان يغسل دهراً من
الألم.
أما الأمكنة المختارة مسرحاً للحدث، فقد تراوحت ما بين (خيمة) و
(زنزانة) و (حديقة) و (مقهى) و (منزل عتيق) و (فندق) و (وادٍ) و (محطة سفر)
و (شرفة منزل) و (سوق) و (قاعة لإلقاء الشعر) و (ذروة جبل). وقد استغلت هذه
الأمكنة، في نظري، استغلالاً حسناً، من حيث تناغمها مع السرد، ودلالاتها
على بعض الأفكار، ومساعدتها على تكوين الحالة النفسية، وتأزيم الحدث، ومن
حيث انعكاسها على مجمل أحداث القصة، وعلاقاتها الداخلية والخارجية.
ومن تقنيات قصص هذه الكاتبة اللجوء إلى السخرية، وقد حضرت في ثلاث
قصص هي (القصيدة الفائزة) و (تهيؤات حمود) و (مركز اجتماعي) إضافة إلى
العناية بالحدث عناية واضحة، فلم تقتصر قصة من القصص العشرين على حوارية
موجزة، أو وصف مجرد من وقائع وحركات ومواقف... وقد اتصّف سرد الكاتبة
بالسرد الخطي الصاعد، ولكنها كانت تكسره أحياناً لجهة عودة إلى الوراء،
رابطة بين الحاضر والماضي، كما في قصتيها: (بوح الزمن الأخير) و (حكاية كل
شهر) في توليفة سائغة ومقبولة. كما لم نعدم نجاوى النفس وحوارها الداخلي،
كما في قصة: (أزرق... أحمر) و(حالة غضب).
أما لغة هذه القصص، فقد تبدت جامعة ما بين شعرية القصّ، ووظيفة
الإبلاغ، ولم تتوانَ (حنان درويش) في كثير من المواطن عن حشد الأسباب
اللازمة لجعل لغتها لغةً أدبية بامتياز، فالشحن الجمالي حاضرٌ بقوّة في
كثير من الصفحات، وأمثّل على جمالية اللغة القصصية عند الكاتبة بقولها في
قصة "معادلة":
"وقف الرجل على قمة الجبل، يعانق السماء، ويمسك بذؤابات الأفق،
وتمتدّ يداه تفتحان نافذة مغلقة، فتهطل مزن لم تتقن التهطال من قبل".
وقولها في المرأة: "كانت المرأة تتوضأ بفيض الألق، وتوشي جناحيها
بطهر النهار، وتلوّن قلبها ببهاء قوس قزح، وتواري مفاتنها بظلال السكينة
الوارفة وتلملم زهور الأقحوان لتصنع منها وسادة للميت" –(ص35).
وقد جاءت هذه اللغة خالية، في الأغلب الأعم من الحشو الضار، أو
العبارات الشاردة التي قد تسيء إلى التركيز والتكثيف، أو إلى الوصف الدقيق
للخارج والداخل، والذاتي والموضوعي، والنفسي والاجتماعي...
وكل أولئك كان سبباً من أسباب نجاح أكثر قصص هذه المجموعة، كما كان
من أسباب حظوة هذه المجموعة بعنايتنا. ونحن إذْ نقول (أكثر) ولا نقول
(جميع)، لا نسيء إلى الكاتبة في شيء، فكما أنه لا يمكن للقصيدة، يوماً ما،
أن تكون شعراً كلها، فكذلك لا يمكن لمجموعة من عشرين قصة، أن تكون في مستوى
واحد من النجاح وقوّة التأثير.
الخيول المسافرة لجرجس حوراني
جرجس حوراني طبيب قاص لم يصدر حتى اليوم سوى مجموعة قصصية واحدة هي
التي نقف عندها، وعنوانها "الخيول المسافرة". وقد صدرت عن وزارة الثقافة
بدمشق في العام 1996. وضمت بين دفتيها (11) إحدى عشرة قصة قصيرة، شغلت
(132) صفحة من القطع الصغير، فكان متوسط صفحات القصة الواحدة (12) صفحة،
علماً بأن في المجموعة قصة واحدة يبلغ طولها (25) صفحة، هي قصة: (أعترف
لكِ). وهي التي سنتريّث عندها لتكون النموذج المدروس بتوسُّع نسبي.
وقد رأينا أن نتقرب من هذه المجموعة، بعد قراءتها، من خلال ثلاث
نقاط رئيسية هي:
آ-هواجس كاتبها.
ب-دراسة، نموذج منها بتوسع نسبي.
ج-القواسم الموجودة والسمات المفقودة فيها.
آ-هواجس الكاتب:
لم نكن بحاجة إلى أن نصل إلى القصة الأخيرة في المجموعة (تحت المطر)
لنعرف أن الوطن والحب والمرأة، هي الأقاليم الثلاثة التي شكلت محاورها،
وكونت هواجس كاتبها. ولئن جاء التصريح بهذه الأشياء صوتاً هامساً في أذن
المرأة –راوية القصة، وصادراً عن الرجل الذي تحبه، فقد جاء صوتاً جهيراً في
كثير من قصص المجموعة... فقد قال الرجل للمرأة: "الوطن. الحب. المرأة:
ثلاثة أقانيم هي الأصدق في حياتي"- (ص 124). ولما كان هذا الرجل معادلاً
موضوعياً للكاتب، استنتجنا أن هواجسه هي هواجس المؤلّف ذاته.
إن المرأة والحب حضرا بقوة في القصة الأولى، وقد بدت المرأة هنا
وفية مخلصة لزوجها الذي خان الحب، فاتسع فراشه، وقصرت يده، وزاد لهاثه،
وأصيب بالعجز. وذلك كله لأنه غيَّر جلْدَه، واختار الأسوأ. والأسوأ في الحب
هو الغدر بمن نحب، لذا قال: لابد أن أموت... ولقد كان الرحيل علاجاً لهذا
الغدر، فرحل الرجل، ولكنه بقي ملاحقاً بذكريات الماضي، التي كانت تصهل
كالخيول في أعماقه. ومن هنا منح الكاتب اسم (الخيول المسافرة) عنواناً
لقصته. فكانت الخيول هنا ترمز إلى الماضي بكل بهائه وعنفوانه وجماله
وأفراحه.
والحب والمرأة حضرا أيضاً في القصة الثانية، فالرجل الذي كتب، ومحا،
كلمات محددة على نافذة سيارته: كالأحلام، والسيارة، والليرات، والشمس،
والنساء، والأم، والحلم الجديد، لم يشعر أنه إنسان حقيقي، إلا عندما كتب
كلمة (أحبك)، عندها فقط أحسّ أنه حيٌّ، وأن قلبه ينبض.
والمرأة والحب هما أيضاً طرفا علاقة قامت عليها القصة الرابعة، (هم
يشعلون النار... وأنا أحبك) فالراوي يرسم اسم حبيبته بالياسمين، لأنها تشبه
الياسمين، ويرسم حروفها على شجرة السنديان، لأنه ثابت راسخ. ويرسمها على
قبر الشهيد لأنه مقدس وغني بالدلالة. ولكن رجالاً سوداً يطلقون الرصاص
عليه، فيصيبون ساعده الذي كان يكتب بواسطته اسم الحبيبة. ولكنه يبقى مصمماً
على رسم اسم الحبيبة على حبات المطر، وعلى الطرقات، وفي عيون الأولاد، وعلى
بسمة الصباح، وهمسة البحر، ورحيق الزهر –(ص38).
إن المحبوبة هاهنا تتخذ شكلاً آخر غير نسوي، تتخذ شكل فكرة، أو
أرضاً، أو ضيعة، أو حلماً، أو ذكرى، أو أغنية، إنها تتحرر من كينونتها
المادية، لتصبح كينونة فكرية أو روحية. والدليل أن راوي القصة يقول مقارناً
بين عمله وعمل الأعداء:
"عندما كانوا يحرقون الضيعة كنت أركض حافياً، أبحث عنك، أحاول أن
أنقذ ضيعتي الثانية التي بنيناها معاً. في عينيك شيء واحد متأكِّد منه
الآن: أنني أحبك... شيء آخر متأكد منه. لقد أحرقوا الضيعة لأنهم أفلسوا،
نعم حبيبتي، لقد أدركوا أنني سأجد في كل لحظة مكاناً أرسم عليه اسمك الرائع
لقد فشلوا، لكنني الآن يهمني أن أنقذ ضيعتي الثانية التي بنيناها معاً...
ذكريات.. أحلام.. أغانٍ.. أمان)"– (ص38-39).
إِنَّ الحب هنا حبٌّ بانٍ مرتبط بوطن الذكريات والأحلام وبنشوة
الحياة، ومعنى الفداء فيها... والدليل أن اسم الحبيبة يرسم على الياسمين
الجميل الفواح، وعلى السنديان الراسخ الجذور، وعلى قبر الشهيد العظيم
العظيم.
وكما يتكشف شكل الحب وجوهره شيئاً فشيئاً، يتكشف شكل الحبيبة
وحقيقتها شيئاً فشيئاً، فهي في القصة الخامسة: (بين الزحام) فتاة تحب
السباحة ضد التيار، لذا فهي صديقة حميمة لشجرة الصنوبر يجمعها بها الثبات
والرسوخ والشموخ... ولابد أن نتذكر أن الشموخ والرسوخ اللذين تجرَّد منهما
بطل القصة الأولى الذي غيَّر جلده، كانا السبب في رحيله وفي رغبته في أن
يموت! فالتغيُّر والتقلّب ليسا من سمات الحب عند أبطال هذه المجموعة. لذا
نجد راوي القصة يتمنى أن ينهال بالضرب على حبيبته، عندما غيرت لون عينيها
من العسلي إلى الأزرق... ولقد كان تغير لون العينين سبباً لابتلاع الزحام
للمحبوبة...
وتتماهى صورة الوطن مع صورة المرأة في القصة السادسة بوضوح. والمرأة
هنا، كما هي في تمهيد الكاتب للقصة، ليست كأية امرأة في القصص السابقة،
إنها خرافة أو أسطورة أو أكذوبة أو خيال أو مدينة جديدة...
وفي القصة رجل مغترب يدعى (صلاح) عاد إلى قريته وفي نفسه رغبة في
تدميرها بقنبلة ذرية جاء بها من بلاد (الواق واق). وقد اشترط على الناس،
لينقذهم من الموت، أن يعيدوا إليه تلك الفتاة السمراء التي أحبها، وقتلوها
بعبثهم...
وإذا تساءلنا عن هذه الفتاة السمراء، جاءنا الجواب أن ثلثها (سهير)
والثلثين الباقيين (الضيعة) و (الحب). وبذلك نعود من جديد إلى الأقانيم
الثلاثة: المرأة والوطن والحب، التي تشكل هواجس الكاتب... ومن خلال هذا
التهديد تتكشف أخلاق بعض رجال القرية الفاسدين... فعندما تحين الساعة
لتفجير القنبلة وإحداث الكارثة، يحاول (صادق) أن ينهب بيوت القرية التي لم
يبقَ فيها سوى النساء والأطفال، ويحاول (ممدوح) أن يطفئ عطشه إلى الجنس في
بيت (أبي زهور)! وفي لحظة التأزم يهرب المختار ويترك النار (الموهومة) تأكل
بيوت القرية، في حين لم يبقَ في القرية إلا شاب يدعى (عزيز) اتهم بالجنون،
ولكن عزيزاً بعد أن هرب الناس، حمل فأسه ومضى إلى حقله، فكان جنونه في نظر
الناس، هو العقل بعينه في نظرنا.
لقد استطاع (جرجس حوراني) من خلال الإيهام بالخطر –(تفجير القنبلة)-
أن ينزع القناع عن وجوه رجال القرية، وأن يكشف عن ألوان الفساد فيها،
مستغلاً تقنيات مختلفة سنعرض لها في البند الأخير من هذه الدراسة. ولعل
المفارقات في جنون (عزيز) شكل من أشكالها: فهو مجنون في نظر أولئك، وعاقل
في نظر الكاتب ونظرنا.
وإذا وقفنا برهة عند القصة السابعة (هل تشتهي خبزاً وخمراً) نجد
الوطن والمرأة والحب أركاناً ثلاثة تقوم عليها هذه القصة أيضاً، فبعد أن
يجاهد الرجل للحصول على (الفيزا) إلى أمريكا، ويحصل عليها، يمزق ورقةً، من
جواز سفره، ليصنع منها كيساً يضع فيه ياسمينة من عاصمة وطنه. وتكون هذه
الورقة هي التي تحمل (الفيزا) إلى أمريكا... وتبدو اللعبة وكأنها مقايضة ما
بين ياسمينة من العاصمة، وتأشيرة دخول إلى أمريكا... والدليل تلك الحوارية
التي تدور ما بين ذاك الرجل الذي كان يريد (فيزا) إلى عيني الحبيبة، فهي
أخيراً، تسأله: "هل تشتهي الليلة خبزاً وخمراً؟" فيجيبها: "بل أشتهي
وطناً"!
وفي القصة التاسعة أيضاً (ذاك النشيد) يعقد القاص مقارنة ما بين
الحب في الغربة ممثلاً بباريس، والحب في الوطن، ممثلاً بالضيعة.
وعندما تسأل الحبيبة الباريسية (الرجل السارد) عن طريقة نظرهم إلى
الحب، يجيبها (الحب عندنا كالخبز نحمله في جعبتنا ونرحل) ويضيف : "عندما
يغدو الوطن جريحاً يغدو الإنسان جريحاً"- (ص107). وتصرخ الذكريات في وجدان
هذا الرجل الهارب إلى باريس فيترك حبيبته الفرنسية، وهي في قمة التوتر...
متذكراً ما قالته حبيبته في الوطن قبل مجيئه: "ماذا ستفعل هناك، في بلاد
الغربة، كيف يهون عليك هذا التراب؟" –(ص109). ويعود راجعاً.
ب-دراسة النموذج: (ماذا سيقع غداً):
هذه القصة هي أطول قصة في المجموعة، ولعلها درّة التاج فيها، لما
اكتنزته من غنى في الشخصيات. ولما حوته من رموز، ولما أكّدته من علاقة قوية
بين الأقانيم الثلاثة التي قدسها الكاتب: الوطن والمرأة والحب.
وشخصيات هذه القصة كثيرة يمثلها (إبراهيم) بطل القصة (وأبو ماجد)
الجد المناضل الرامز للماضي البهي الباسل، (ونادية)- حبيبة إبراهيم، التي
كانت تريده رجلاً مختلفاً عن كل الرجال.ثم تأتي (الأم) و (المعلم وهيب)
والفنان التشكيلي (الياس) و(أبو عدنان الخياط) و (أبو راتب المختار) و (عبد
الله الزين).
وقد جيء في القصة بعبارات موجزة تتصل بكل شخصية لتكشف شيئاً عنها،
فأبو ماجد مثلاً يقول لإبراهيم: "لقد قدمنا لكم الوطن الجميل، فعبثتم بجسده
وروحه، وقدمنا لكم الطيور المفردة، فسلبتموها فن الغناء، وهبناكم حدائق
الزهر والثمر، لكنكم جعلتم الشجر عقيماً..."-(ص76).
أما المرأة هنا، ممثلة بنادية، فقد أعربت عن رغبتها في أن يكون
حبيبها رجلاً متفرداً ليس ككل الرجال. وقد كانت الوسيلة إلى ذلك مغامرة
عشقية في زاوية شارع، قلبت (إبراهيم) رأساً على عقب! فقرر الرحلة إلى لبنان
حيث تاريخ (أبو ماجد).
إن رحلة (إبراهيم) إلى لبنان (ولعل الكاتب أراد جنوبي لبنان حيث
المقاومة والبطولات والمآثر) هي رمز لرحلة الجيل الطالع إلى الجيل القديم،
الذي صنع التاريخ بنضاله، ورحلة الحاضر إلى الماضي، أو رحلة الشباب إلى
الأجداد. فقد استجاب إبراهيم لنصيحة (أبو ماجد) التي قال له فيها: "إنه لا
يريد له أن يكون واحداً من جيل يعشق المسافات القصيرة، ويحب الأشياء
الجاهزة" (ص79).
وقد حضرت في هذه القصة شخصيات أخرى غير بشرية لتكمل الصورة، ولتسعف
في قراءة ما بين سطورها، وهي المطر، والسنديانة، والنهر. فالمطر، هنا، كان،
كما هو في قصص أخرى، طقساً متكرراً، فقد استثمر في قصة (الخيول المسافرة)
وقصة (بين الزحام) وقصة (تحت المطر).
وهو هنا يشكل طرفاً في علاقة بين حي وجماد، أعني (أبو ماجد) من جهة،
و(المطر) من جهة أخرى. يقول أبو ماجد: "العلاقة بيني وبين المطر حميمة،
حميمة جداً، إنه صديق وفي، عبره رأيت لأول مرة عيني أم ماجد، وسحرتني
وقتها، وكم حكيت لها عن مشاعري" -(ص80) فالمطر إذن حامل مشاعر، وجسر عبور
إلى أشياء كثيرة.
أما السنديانة، فهي واحدة من أشجار تكرَّر ذكرها، فقد ذُكرت شجرة
السنديان في قصة: (هم يشعلون النار... وأنا أحبك). وشجرة الصنوبر في قصة
(بين الزحام) وشجرة الرمان في: (هل تشتهي خبزاً وخمراً؟). وكلها كانت ترمز
إلى الرسوخ، أو الحب، أو الوطن. وسنديانة هذه القصة كانت في لبنان، وكان
الأطفال يلعبون حولها، والياس الفنان واحد منهم، ويرسمون على صدرها أحلامهم
وآمالهم، ويحفر كل منهم عليها اسم حبيبته. وهاهي ذي تقطع بعنف ووحشية غير
مسوَّغين، ليكون قطعها رمزاً لازدراء معاني البراءة والفن والجمال والأمل
والحب...
أما النهر الذي كان (الياس) ورفاقه يلعبون فيه ويسبحون، ويرسلون
رسائل لبنان إلى العالم من خلاله. فلم يعد وسيماً، بل شوهوه..! أو قل:
شوهوا رسالة لبنان إلى العالم، وشوهوا فرح أطفاله، ومرحهم.
لقد نجح (جرجس حوراني) في هذه القصة في تأثيث غرفته بأثاث متناسق
جيد، إذ وُفِّق في جدل ضفيرة متناسقة ما بين مواقف متناوحة تتمثل بالحاضر
والماضي، والبناء والهدم، والحلم واليأس، والإقدام والإحجام، والشباب
والشيوخ، والنصر والهزيمة... وقد قرر بطل قصته أن يسافر إلى لبنان، وألا
يعود قبل أن يعرف كيف يرسم صورة (أبو ماجد)، هذا الذي بساعدِهِ، وسواعد
جيله "قدَّم الوطن الجميل، والطيور المغردة، وحدائق الزهر والثمر".
إن إيجاد العلائق بين عناصر متباعدة هو سر من أسرار بناء القصة
القصيرة الناجحة. وفي هذا الصدد يقول (يوسف إدريس) –شيخ القصة القصيرة
العربية: "لقد اخترع بيكاسو مرة لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة. هذه
الدقيقة هي القصة القصيرة، هي اقتناص لحظة اكتشاف خارقة.. في قصتي المرتبة
المقعرة، هناك عروسة، وامرأة تنظر إلى الشارع، ورجل يسأل عن الدنيا هل
تغيرت أم لا؟ وحياة تتغير، أشياء لا يبدو بينها علاقة، وإيجاد علاقة بين
هذه الأشياء في لحظة، هو القصة القصيرة. هذه اللحظة معادل ما نسميه
الاكتشاف العلمي" –(صحيفة أخبار الأدب ع 335/12 ديسمبر 1999 ص32).
ولكن السؤال الذي يبقى: هل يمثل اكتشاف هذه العلاقة وحده سمات القصة
القصيرة عامة، وسمات قصص هذه المجموعة خاصة؟ هذا ما سنجيب عنه في الفقرة
التالية:
ج-القواسم الموجودة والسمات المفقودة:
1)-لعل أول قاسم مشترك بين هذه القصص هو الإشكال المطروح في
بداياتها، ففي فواتح كثير منها أمنية لا تتحقق، أو مشكلة، أو غموض، أو سؤال
يطرحه الكاتب، ثم يمضي في الكشف عنه، أو بيان ملابساته. وثمة قصتان جاء
عنوان كل منهما على صيغة سؤال مثير، وهما: (ماذا سيقع غداً؟) و(هل تشتهي
خبزاً وخمراً؟) و في قصة (الخيول المسافرة) تنطوي المقدمة على أمنية عصية
على التحقق، فالكاتب يقول: "منذ أن تهجم الشمس على غرفته ينظر إلى عينيها
يتمنَّى أن يقبلها، أن يضمها إلى صدره... ولكنه لا يقدر". –ص(9). وكذلك في
القصة الثانية (أحبك) يقول الكاتب "تتمنى أن يحتويك الفراش، لكن النوم قد
هرب منك. لم يعد الفراش رحيماً، لم يعد يشعر بحزنك، قتلت المصباح بعصبية...
سادت ظُلْمة" –(ص17). وكذلك في قصة (هل تشتهي خبزاً وخمراً) يصور الكاتب
شيئاً ناقصاً، وحالة مأزومة، كما في مقدمات القصص السابقة، فيقول أولاً:
"نعم شوارع بلا أرصفة" ويضيف: "عشتُ ليال موحشة، "ليال بلا أضواء".
(والصواب ليالي). وفي قصة (أعترف لك) يقول: "أحببتُكَ جداً يا أبا ماجد،
وكرهتكَ جداً يا أبا ماجد". إذن ثمة تناقض داخلي في المشاعر والأحاسيس يحكي
تناقضاً خارجياً ما بين الحاضر والماضي، والإقدام والإحجام، والبناء
والهدم، والحلم واليأس.
ولكن هذا الإشكال، أو الغموض، الذي افتُتحت به القصص، أو أكثرها، لم
يكن ليُتابَع دوماً بالطريقة التشويقية المتوخاة، من خلال مسألتي البحث
والكشف، ومن خلال التوسُّل إلى ذلك بعبارات موجزة مركزة لا يداخلها فضول أو
مطمطة... فقد كنتُ أحس أن فضولاً من الكلام قد مازج طريقة السرد، وأن أشياء
أُقْحِمتْ على القصة، ما أغناها عنها! أو أنها لم تستغل الاستغلال الملائم.
وأُمثّل على ذلك بقصة (ذاك النشيد)، فإني وجدتُ فيها استطالات لا تغني
شيئاً، وعبارات لو حذفت ما ضرَّت بالبناء، ولا بالدلالة، فالمقارنة بين
النشيدين الفرنسي والعربي أعوزها الإحكام وفن الصنعة، ولم تؤدِّ، لسوء
الحظ، الشأْوَ المرتجى. وكذلك العبارة التي قيلت في لحظة الوداع لتلك
المرأة الباريسية، لم تخدم القصة البتة بالشكل الذي صيغت به، بل أحدثت
تشويشاً من خلال (بسمتها الملائكية) التي لم تنسجم مع سياق النص ومغزاه.
2) أَتْقَنَ الكاتب في قصصه لعبة الزمن، فكان يزاوج، غالباً، ما بين
الماضي والحاضر، فهو في الوقت الذي يُنْطِق شخوصه بحوار حيِّ حار، يدع
للذكريات مجرىً إلى الذات الراوية، وينصص عليها، ويصنع (مونولوجاً)
داخلياً، قوامه طرف واحد، في الوقت الذي يقيم حواراً خارجياً، قوامه طرفان.
وقد انبنى على ذلك أن حاور الماضي الحاضرَ، وخاطب الميتُ الحيَّ، وردَّ
الغائبُ على الماثل أمام العيان. كما حاورت الشخوص بعضها بعضاً، لأن مساحة
الذكرى شاسعة، وتتسع لأشياء كثيرة، وهذا باد بوضوح في قصة (ماذا سيقع غداً)
وقصة (هل تشتهي خبزاً وخمراً) و (ذاك النشيد).
3)-إن الجنس في هذه المجموعة قد جِِيْءَ به موظفاً توظيفاً حسناً،
فهو في قصة من القصص مؤشر على الرجولة ومُسْتَتْبَع بالبطولة، والعجز عنه
في قصة أخرى، مؤشّر على الغدر والخيانة، وهو في قصة ثالثة مسخَّر للكشف عن
الفرق بين نساء الوطن ونساء الغربة، فنساء الوطن للجنس عندهن معنى، فهنَّ
لا يحتوين بين أحضانهن رجالاً، عندما يكون الوطن خلف الأبواب، ولكن
الباريسيات مختلفات، فالجسد هو الأساس، ولا معنى للروح عندهن البتة.
4)-حضرت المفارقات في كثير من القصص. والمفارقة تعد لمحة الفن
الخالصة، لما تكشفه من جوانب خفية، وما تعقده من موازنات بعيدة، ومن تلك
المفارقات جنون (عزيز) في نظر أهل القرية، وتعقله الشديد في نظر الكاتب
ونظرنا، كما ذكرنا من قبل، فهو يحمل فأسه ويذهب إلى حقله، في الوقت الذي
يهرب فيه مختار القرية ورجاله، وتستيقظ نزوات الشر عند أهلها! وحضرت
المفارقات من خلال صورتي (أبو ماجد) المتناقضتين في ذهني (المعلم وهيب) و
(أبو عدنان الخياط)، فهو عند الأول "مهرب قد يكون فيه طيبة"، وهو عند
الثاني "صخرة الضيعة وكل من ينكر ذلك لص قذر"- (ص93).
ويقترب من المفارقة المقارنة بين موقفين متضادين، كما هي الحال
المقارنة بين حب الباريسية الجسدي الخالي من الهم والروح، وحب ابنة الضيعة،
والممزوج بشأن الوطن، والمشفوع بالهم والروح، كما في (ذاك النشيد).
5)-لوحظ في المجموعة ميل شديد إلى تقريب القصة من الرسالة، حتى أن
بعض سمات الخطابات بين المحبين كادت تطغى على سمات السرد، وصَوْغ الحدث.
وذلك أمر ظاهر للعيان في قصص (بين الزحام) و (تحت المطر) و (ذاك النشيد).
6)-غاب عن المجموعة أي لون من ألوان السخرية، باستثناء ما جاء في
ثنايا قصة (الفأر). والسخرية تقنية جاذبة من تقنيات القصة القصيرة. وكما
غابت السخرية غاب التناص مع مجالات ثقافية كثيرة، كالشعر والرواية والتاريخ
والفلسفة والطب...الخ.
7)-لم نعثر في المجموعة على ما يشي بالهم الاجتماعي، أو يوحي بالبؤس
البشري الذي يلقاه المرء في قاع المدن والريف. نعم قُدّمت الأم أحياناً
بوصفها عاملة على "ماكينة الخياطة"، ولكن هذا الملمح بقي فردياً وجزئياً
وضعيف الدلالة على ما تعانيه الطبقات البائسة في مجتمعنا من عوز وفقر
وحرمان. ولئن هاجم الكاتب مفاهيم عتيقة تمثَّلت في قَتْل حبيبته التي خرجت
على قانون القبيلة في قصة (ماذا سيقع غداً) فإن مفاهيم أخرى كثيرة تقف وراء
مواقف مغلوطة في حياتنا، وتمثلها شخصيات كئيبة بائسة، يمكن أن تشكل محاور
قصص كثيرة، أو قوام خطابات فنية على نحو من الأنحاء، قد غابت ولم يُشَرْ
إليها.
8)-إنَّ الكاتب هنا عزف عن تقنية استنطاق الجماد، أو أنسنة الأشياء،
أو بعث الحياة فيها، كأن يجعل الطريق أو الرصيف أو الجدار أو المكتب أو
القلم أو الشجرة، تنطق وتحاور من حولها، لتكشف شيئاً قد لا يقدر عليه
الأحياء، أو تصنع حواراً مثيراً يغني القصة، وبوسع الرؤية فيها، وهو شأن
لجأ إليه قاصون أخر مثل (زكريا تامر) وغيره.
وإذا كان الكاتب حراً فيما يختار من محاور وموضوعات، وما يقدم من
رؤى ومواقف، وما يرسم من شخصيات، وما يلجأ إليه من طرائق في السرد، وتقنيات
في القص، فإن عين الناقد المقارنة التي ترى ما تحتها، ترى أيضاً ما حولها.
ولعل تنقيل البصر ما بين الجهات المختلفة، ووضع اليد على ماهو موجود، وماهو
مفقود، وتبصير الناس بأن "في بعض الزوايا خبايا" يمكن العثور عليها،
والإمساك بها، شؤون ذات جدوى للأدب وكتابه، ولقرائه ونقاده، على حد سواء.
ولا يمكن لنا في النهاية إلا أن نعلن، رغم كل ما تقدم، أن هنا قاصاً
يسعى لأن يرسخ قدمه على ساحة الإبداع بقوة، وأن يترك بصمات إصبعه على صفحات
تاريخ القصة القصيرة في سورية بوضوح.
همهمات ذاكرة
لأحمد جاسم الحسين
"همهمات ذاكرة" مجموعة من مجموعات القصص القصيرة جداً، التي راحت
تتكاثر بوضوح في العقد الأخير من القرن العشرين. وهي مطبوعة بدمشق في العام
1996، وقد بلغ عدد قصص هذه المجموعة (53) ثلاثاً وخمسين أقصوصة، توزعت على
(55) خمس وخمسين صفحة. فكانت كل قصة تختص بصفحة واحدة، ولكنها لا تملؤها،
عدا ثلاث قصص تجاوزت الصفحة الصغيرة، وهي:
1-بصراحة-2- حساسية-3- حيرة.
ولم تزد بعض الأقصوصات على أربعة أسطر
تكاد كلماتها لا تربو على عشرين كلمة. فنحن إذن إزاء قصص قصيرة جداً
بامتياز، من حيث الحجم الطباعي. وربما كانت قصة (غباء) نموذجاً للقصر
الشديد، ففيها يفتح الستار على راع يسأل أغنامه من ربها؟ فتشير إلى السماء،
فيبدأ هو بقص رؤوسها لأنها لا تستحق الحياة لغبائها – (ص21).
وبهذه العبارات الموجزة المكثفة عبر الكاتب أحمد جاسم الحسين عن
فكرة سياسية عميقة كبيرة، وهي استبداد الحكام وطغيانهم، ففي اعتقاد هؤلاء
كل الرعايا جديرون بالذبح، إن لم يعرفوا من ربهم. ولا شك أن الرب هنا أرضي
لا سماوي..!
ويقودنا الهزء بالاستبداد إلى التساؤل عن هواجس كاتب هذه المجموعة.
وقد حاولت أن أتقرى القيم والهموم والخواطر التي اختار الكاتب أن يعنى بها،
فوجدت الحرية تحتلّ حيزاً كبيراً بينها. ولا أدلَّ على ذلك من تصدير
المجموعة بأشعار لـ (لوركا) تعبر عن استحالة الحب دون حرية، وأضيف أنا
استحالة الحياة أيضاً.. وبما أن الشرطة هي رمز القمع والعسف، خصَّها الكاتب
بستِّ أقصوصات كانت تفضح تفكيرها البليد، وتسخر باستبدادها وتسلّطها، ففي
قصة (بكاء) مثلاً يشاهد شرطي فتاة تبكي، حين تسمع اعتراف حبيبها بحبه لها،
فلا يهون على الشرطي ذلك، فيقود الفتى إلى مخفره، لأنه المسؤول عن الأمن
ويجبره على الاعتراف، ولكن الفتاة بقيت تبكي...! والشأن ذاته يصدق على قصص
(سياح) و(سكارى) و(عناد).
ومن القيم التي حَِفِيَ بها الكاتب: العمل، والحب، والتضامن،
والصدق، والوطنية، والتواضع، والإخلاص، والألفة، والغيرية، وكان سبيل
الكاتب إلى مراميه فيها ثلاث تقنيات بارزة هي: المفارقة، والسخرية،
والنهاية المباغتة. وهذه كلها توفر للمتلقي حداً جيداً من الإمتاع والإدهاش
اللذين يعدان شرطين أساسيين من شروط القصة القصيرة جداً. ففي قصة (مهارة)
يتوهم صياد أنه ظفر (بشيخة السمك)، ولكن ظفره وفرحته يتبددان حينما يفاجأ
بأن هذه الشيخة لم تنهزم أو تَسْتسلِم، بل بالعكس، فبدلاً من أن تستجيب
لجرّه لها إلى اليابسة، تجرّه هي بقوّة، فينكبُّ علي وجهه وسط الماء...
وإذا كانت السمكة تنتمي إلى عالم الحيوان، فإن أبطالاً أخر في القصص انتموا
إلى عوالم مختلفة، وتفصيل ذلك: أن أكثرهم انتمى إلى عالم الإنسان، وبعضهم
إلى عالم النبات، وبعضهم إلى عالم الجماد، وبعضهم إلى عالم الروح والفكرة
المجردة... وقد أحصَيْنا هذه الانتماءات، فكان لدينا (31) أقصوصة أبطالها
آدميون. وهذا شأن شائع، ولا مزية فيه، وثماني أقصوصات أبطالها من عالم
الجماد، كالحذاء، والبيت، والحديقة، والجبال، والشوارب، والعيون، والمنشرة،
والأبواب، والكرسي الدوار. وفي هذه الأخيرة يروي الكاتب أن كرسيين دوارين
أحدهما للمدير والآخر لمعاونه، تجادلا في أيهما الأعلى، وراحا يتسابقان في
نِسبة العلو إلى كل منهما، وبعد دوار طويل أصيبا بالصداع، وسقطا أرضاً
(ص51). وفي هذه الأقصوصة تعريض رمزي بالغرور البشري الذي يقود إلى الهاوية،
فإذا ماسكر المرء بخمرة الشهرة والعلو المفتعل، أصيب بالصداع وسقط..! وهذا
شَأْن يعني أن المسائل الإنسانية كانت المآل الأخير للقصص التي كان محورها
جماداً. فبمسحة الفن الخالص ينطق الجماد، ويتفلسف، ويقدم المعاني العميقة.
والحق أن كثيرين من كتاب القصة القصيرة جداً أنطقوا الجماد، وبعثوا فيه
الحياة، بدءاً من الروّاد، ومروراً بالمرسِّخين، وانتهاء بالمحتذين. أما
أبطال الأقصوصات المنتمين إلى عالم الحيوان، فقد تراوحوا ما بين سمكة عرفنا
شأنها، وديك، وخفاش، وعصفور... وهذا العصفور نراه في مشهد يتمرد فيه على
واقعه، فيرى أن مكانه في السماء فقط، لذا يدور في الفضاء، ثم يجوع ويتعب
ويعطش، فترتخي أجنحته ويهوي وهو يصيح: إن مكانه في السماء، ولكنه مع صيحته
هذه يهمس لنا أن مَنْ يتمرد على واقعه، يُفاجأ بأن طبائع الأشياء الأشياء
لا تلبث أن تشدّه إلى حقيقتها وشروطها. ومن المعروف أن العصفور رمزٌ هام من
رموز القصّة القصيرة جداً، لجأ إليه كتّابها ليُعبروا من خلاله عن أفكار
ومواقف كبيرة في الحياة الإنسانية. وهذا ما فعله مروان المصري مثلاً وغيره
أيضاً. ومما انتمى إلى عالم الروح والفكرة المجردة: الضمير، والكابوس
والحلم، فالضمير الذي قرر أن يستيقظ يوماً واحداً، قتلوه ودفنوه دون كفن،
وكتبوا على قبره، "ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل ..." ولم يُتمَّ الكاتب
العبارة لنفهم مِنَ الفراغ والبياض أن الضمير ذهب ضحية مصالح أنانية
مُنْكرة، ومطامح مادية ضيقة...
وإذا تركنا الأبطال، والتفتنا إلى البيئة، أو المكان خاصة، وجدناه
هو الآخر يسخر لتقديم فكرة...
فرحابه الحديقة الفسيحة القابعة على سفح جبل قاسيون، وهي (حديقة
تشرين)، تتيح للشاب أن يبوح بحبه، في حين ضاقت حديقة كلية الآداب بهذا
البوح لسنين طويلة... وكذلك كان انتماء بيت ما إلى حيّ (باب السريجة) يوفر
الألفة والإخاء بين الناس، في حين عجز عنها بيت يقبع في (حي المزة)!
ولكن هذه المقارنة بين البيتين الدمشقيين لم تتنزل موشاة بأثواب
الفن أو مزدانة بإكليله البديع.. إذ لا خيال فيها، ولا مفاجأة، ولا إدهاش.
وحتى القوسين ( )، بوصفهما علامة من علامات الترقيم، تؤشر إلى التناظر بين
الحيين، لم يُوضعا في مكانهما المناسب. فهما يحيطان بـ (باب السريجة)، ثم
يحيطان بكلمة (فيلتنا)، بدلاً من كلمة (المزة). فتختلُّ المقارنة هنا،
لأنها بدلاً من أن تتم بين حيي (باب السريجة) و (المزة)، تتم بين حيٍّ من
جهة، ومنزلٍ من جهة أخرى. وهذا ما لا يريده الكاتب البتة. ومن هنا فقد
خانته كتابته.
وإذا كان الكاتب هنا قد أخفق في بث حرارة نتوخاها في فنه، فأهبط
بعضاً منه بارداً لا حياة فيه، فإنه في مكان آخر نجح بوضوح، إذ قدم في قصة
(بكاء) فناً قصصياً خالصاً. وقد مر بنا أن (أحمد جاسم الحسين) قد صور
(غباء) الشرطة في هذه القصة، ساخراً من أحد عناصرها سخرية مرة، وأتقن صنع
مفارقة لطيفة بين لفظتين اثنتين هما (الاعتراف) و(البكاء). فالحبيب اعترف
لفتاته بحبه، فبكت تأثراً، وشاهدهما الشرطي، فلم يهن عليه بكاء الفتاة،
فقاد الشاب إلى المخفر، وأجبره على (الاعتراف)، ولكن الفتاة بقيتْ تبكي..!
وذلك كله يحقق إدهاشاً.
وسر الإدهاش في هذه الأقصوصة هو المزج بين فضاءين متضادين للفظتي
(الاعتراف) و (البكاء) وإحداث المناوحة بين سببيهما.
(فالاعتراف) الأول حرٌّ سائغٌ وآيلٌ إلى تأثرٍ جميل، فبكاء. أما
(الاعتراف) الثاني فجبريٌّ ومرفوضٌ ومستنكر وآيل إلى تأثر حزين، فبؤس..
وكذلك (البكاء)، فقد جاء في البداية، بسبب قوة التأثير بفعل برهة الابتهاج،
وجاء في النهاية، بسبب القهر الذي أوقعه الشرطي على الحبيب، ولعله أيضاً-
وهذا وجه آخر له - بسبب الحزن على غباء الشرطي وغفلته وعسفه في الوقت نفسه.
والحق أنني أحصيت القصص الناجحة التي تشبه قصة (بكاء) المتوهجة
الموفقة، فوجدتها تزيد كثيراً على نظائر قصة (بيت) الباهتة المخفقة، مما
يجعل أجزاء هذه المجموعة الصغيرة يحمل بعضها بعضاً، فتقف على قدميها بثبات.
وهنا موضع القول: إنه كما يستحيل أن يكون الشعر كله "شعراً"، يندر أن تكون
قصص مجموعة قصصية، جميعها، قصصاً ناجحة.
ولكن ما سبق لا يمنعنا من الإشارة إلى أن بعض الأقصوصات قد جاء
ناقصاً وغير مكتمل، وغير ذي مغزى، وكأن عبارةً ما كان يبحث عنها الكاتب فلم
يجدها، فأدى فَقْدها، إلى إرباك القارئ، ووثوب سؤال منه لم يجد لـه جواباً
في ثنايا الكلام الموجز المكثف.
ففي الأقصوصة الأولى، وعنوانها (دعوة) يدعو الديك الدجاجات إلى
المائدة التي أعدتها صاحبة البيت، ويأمرهن بعدم الأكل إلا بعد أن يشبع،
تقترب منه صاحبة المنزل، والسكين في يدها، فلا يأبه بها، وعندما تحاول
ذبحه، يذكرها بأنها أنثى..
والسؤال الحائر على الشفاه هنا، هل ذبحته أم لا؟ إن الكاتب لم يحسم
الأمر في الوقت الذي كان حسمه وجيهاً، وليس بالضرورة أن يكون الحسم بالذبح؛
فنحن لا نعرف بدقة، هل يريد الكاتب التنديد بأنانية الديك، أم بذكوريته، أم
بصاحبة البيت التي أعدت الطعام، ثم جاءت لذبح الآكلين، أو بعضهم... ومن هنا
فإن عبارة ناقصة في القصة، كان العثور عليها، ينقذها من تشتت أثرها، ويقيها
من تلاشي وحدة الانطباع الذي تروم إحداثه.
وبإيجاز شديد فإن القصة هنا أنجزت كتابة، ولم تنجز مغزاها دلالة.
وفي قصة (طموح) تثني المرأة المطلقة على ولديها اللذين يرغبان في أن
يكون كل منهما رئيساً للمخفر، وثناؤها كان بسبب أن العمل الأول لولديها
سيكون سجْنَ الأبِ المُطَلِّق. والحق أن كون المرأة مطلقة لا يكفي للثناء
على عزم الولدين على سجن أبيهما. وعلى الرغم من أن الطلاق "هو أبغض الحلال
إلى الله" فقد كان في وسع الكاتب أن يضيف مثلاً كلمة "المُطلَّقة ظلماً"
ليسوغ عمل الولدين الباكر. أو أن يعلل الطلاق بزواج الأب من فتاة أصغر من
الأم، أو أن يقول: إن الأب شيخ في السبعين، ويريد الزواج بفتاة في
العشرين... فلو فعل شيئاً من هذا القبيل، لكان إطراء الأم لولديها أكثر
استساغة وقبولاً.
وكذلك في قصة (مغامر) نجد الحذاء يطير إلى رؤوس الناس، ثم يعود إلى
قواعده سالماً، لأنه وجدها محشوَّة بالتفاهة. وهنا يعمم الكاتب التفاهة على
الناس، ولو أنه وقفها على بعضهم، لكان أكثر إقناعاً وتوفيقاً.
ولم تكن السخرية مكتملة في قصة (سباح)، فالشرطة هنا تحتجز رجلاً في
نهر الفرات دون سبب وجيه. وهذا عمل مدان، دون ريب. ولكن الكاتب قد يكون
أكثر توفيقاً في سخريته لو أنه قدم لقصته بما يشي بمخالفة الشرطة للنظام
الذي تحميه أولاً، كأن تغضُّ الطرْفَ عن مسؤول يلوث ماء النهر بفضلات
معمله، ثم تقدم على اعتقال سباح فقير بريء يغوص في مياهه...
وكذلك شعرت أن كلمة ناقصة، أو عبارة محذوفة، لم تجعل السخرية سائغة
من ((المدير العام)) في قصة (مجانا) فهاهنا تتالى برقيات شكر على مدير
وحَّد ما بين الصرف الصحي والمياه، كما يقول الكاتب حرفياً. وذلك لأن
التوحُّد قوة.. وقد جاءت البرقيات له، لأنه المدير الوحيد الذي قدم للبيوت
المياه المالحة والعطور مجاناً –(ص46).
وقد كانت السخرية أكثر تمكناً لو قال الكاتب: إنَّ المدير العام
"وحّد بين مياه الصرف الصحي ومياه الشرب" وليس لأنه "وحّد... الصرف الصحي
والمياه" فقط. أو "لأنه المدير العام الوحيد الذي وحّد بين المياه الصالحة
والعطور مجانا" ولو وَضع الكاتب قوسين حول كلمة العطور لأعطاها فضاءً
دلالياً معاكساً لظاهر اللفظ. وهنا تكون السخرية قد نبعت من السياق الهازئ،
لأن العطور أدّت عكس معناها. أما إذا اجتمع المعنى المعكوس هنا مع المياه
المالحة، فلا توحيد بين شيئين متناقضين. وبالتالي لا دهشة من مسعى المدير
السيئ...
وكما قادنا التأمل في بعض تقنيات قصص الكاتب إلى اكتشاف حاجتها إلى
مراجعة وتجويد، فإن تأملاً آخر في لغتها يؤول إلى الخلوص أنها كانت بحاجة
إلى صقل أكثر وتنقيح أوفر. ومن سوء الطالع أن يقع المرء على بعض الهنات
النحوية فيها، فقد قال الكاتب مثلاً: "كانت الأشجار كثيرة، والبشر قليلون،
والأفق ممتد، وقاسيون شامخ" (ص10) والصواب: (قليلين) و(ممتداً) و(شامخاً).
وقال الكاتب: "قليلون الذين يستقبلوني" (ص37) والصواب (يستقبلونني).
وقال: ((خفت أن يكتشفوا أمري فيخبرون الشرطة)) (ص38) والصواب
((فيخبروا)).
وقال: "أعرفُ أنكِ تحبيني" (ص48) والصواب "تحبينني".
وبعبارات موجزة. فإن الكاتب في هذه المجموعة التي كانت أصغر مجموعة
قصصية أقرأها حتى اليوم، قد بدّل جواده الإبداعي بين الفينة والفينة، ولكن
هذا الجواد الذي حرن بفارسه في مواطن مختلفة، قد أوصله إلى نهاية الشوط،
وبر الأمان، ومحجَّة الفن. وإذا كان الفنّي لا يكمن في قول كل ما يخطر على
البال، ولا في تقنيات تحرك زمن القص، ولا في استعارات لهياكل بشرية نفرغ
بها خطاباتنا، بل هو يكمن –كما تقول (يمنى العيد)- في مواقع رؤية لهذه
الشخصيات، ولغاتها المختلفة، ونطْق مافي دواخلها، فإن هذا الفني بهذا
المعنى قد حضر هنا حضوراً حسناً. ويبقى شيء في النفس يهمنا ألاّ نهمهم به،
ونحن في حضرة "همهمات ذاكرة"، وأعني به عنوان المجموعة. والحق أن الكاتب
أحمد جاسم الحسين وفّق في اختيار هذا العنوان، إذ وفر من خلاله مفارقتين
اثنتين، كانت المفارقة الأولى كامنة في لفظة الهمهمة ذاتها، فهي تعني شيئين
متضادين، إنها من جهة، الصوت الخفي الذي يكاد لا يُسْمع، ومن جهة ثانية،
الصوت الجهير ذو الدويّ. ففي (اللسان): همهم الرجل إذا لم يبيّن كلامه.
وهَمْهَمَ الرعدُ، أو الأسد، إذا سمع لصوت كل منهما دويّ. فالكلمة إذاً
تعني الضدين...
أما المفارقة الثانية، فتتمثل في أن هذه القصص التي يدل عنوانها، في
وجه من وجوهه، على ما يتردد في الصدر من أصوات خفيّة، نراها تفصح وتعبّر
بجرأة وجسارة، فهي إذاً تتدابر مع معنى العنوان ولا تتكامل. وهذا ما
لاحظناه من قبل في قصة (غباء) التي يذبح فيها الراعي أغنامه لأنها لا تعرف
أنه هو ربها وبيده مسيرها ومصيرها. وعلى الرغم من أنها اتخذت الغباء
عنواناً لها، فإن الذكاء تسلل في ثناياها...
وهكذا فإن البهيّ والباهت، والحار والبارد، والسمين والغثّ، كلها قد
حضرت في هذه المجموعة، فكان فيها صوت للرعد، وصوت للأسد، وأصوات أخرى
مماثلة، وكذلك كان فيها أصوات ثانية خفية وخافتة لم تطلقها طاقات الكاتب
الكامنة، التي يتوقع أن تتفجر على نحو آخر في محاولات قادمة منتظرة.
بروق
مئة قصة، لعشرين قاصاً
"بروق" مجموعة قصصية تقع في مئة قصة قصيرة جداً، كتبها عشرون قاصاً
سورياً. وقد أعدها للنشر الدكتور يوسف حطيني، وطبعها بدمشق عام 2001، فجاءت
في ثمانين صفحة.
وهذا اللون من النشر الجماعي عاينا نظائر له سابقة، تمثلت بكتاب
"جنوب القصة السورية"، الصادر في العام 1998. وهو يحوي عشرين قصة لعشرة
قصاصين من محافظة درعا، وسنتريث عنده لاحقاً، وبكتاب "قصة التسعينات في
سورية" الصادر في العام 1999، وقد أعده للنشر الدكتور أحمد جاسم الحسين،
ويضم اثنتي عشرة قصة لاثني عشر قاصاً.
ومن الجدير بالذكر أن مجموعة "بروق" هذه التي ندرسها هنا، جاءت بعد
الملتقى الأول للقصة القصيرة جداً، المنعقد بدمشق في شهر أيار من العام
2000. وبعض قصص ذاك الملتقى، الذي شاركت فيه بوصفي ناقداً، هي ضمن هذه
المجموعة، التي صدرت بعد مجموعات كثيرة من مجموعات القصص القصيرة جداً.
وقد تراوحت أعمار المشاركين في هذا الكتاب الجمعي التأليف بين من هو
في الثلاثينيات من عمره، ومن هو في الستينيات منه، مثل أحمد جاسم الحسين،
وعدنان كنفاني، على التوالي والتناسب. وكان مؤلفو "بروق" من الجنسين، فهم
ثلاثة عشر قاصاً وسبع قاصات.
وكل أولئك يعني أن جيلاً كاملاً من الكتاب في سورية راح يمارس كتابة
هذا اللون القصصي، ومضى يساهم في ترسيخه، وطفق يشارك، ضمناً ومن خلال
العطاء، في الجدل الدائر حول مشروعيته وجدارته وفنيته.
ولم تكن تجارب المشاركين في "بروق" تجارب بكراً لا سوابق لها،
فالقاصون المشاركون نشروا ما بين مجموعة واحدة للواحد منهم، مثل أسامة حويج
العمر، وأيمن الحسن، وروزا ياسين الحسن، ويوسف حطيني، وثلاث مجموعات، كما
هي الحال عند ابتسام شاكوش، وأحمد جاسم الحسين، وباسم عبدو، وعدنان
كنفاني.. كما أن بعض أصحاب هذا الكتاب لهم إسهاماتهم في كتابة القصة
القصيرة، وفي نظم الشعر، وفي مجال البحث العلمي والدراسة الأدبية والنقد
الأدبي.
أما القصة القصيرة جداً، فقد سبق أن نشر فيها مجموعة كاملة كلّ من
الكتاب أحمد جميل حسن في (منمنمات) وأحمد جاسم الحسين في (همهمات ذاكرة)،
وأسامة حويج العمر في (أيها الإنسان)، وعدنان كنفاني في (على هامش
المزامير)، ومحمد توفيق السهلي في (أحلام محرمة)، ويوسف حطيني في (ذماء).
وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
وقد مكنني السؤال والبحث من الخلوص إلى أن كتاب "بروق" ينتمون إلى
أكثر من محافظة من محافظات القطر العربي السوري. وإذا أخذنا بالحسبان عدد
القاصين المشاركين في الملتقى الثاني للقصة القصيرة جداً في العام 2001،
تأكد لدينا انتشار الاهتمام بكتابة هذا اللون من الإبداع القصصي في الأنحاء
السورية المختلفة.
أما عنوان المجموعة التي كتب مقدمتها د. يوسف حطيني، فهو عنوان
مختار من خارج عنوانات القصص المئة، إذ لم أجد قصة بينها تحمل هذا العنوان
"بروق". ولعل هذا العنوان كان من اختيار د. حطيني نفسه. وهو عنوان أريد به
الإشارة إلى سمة من سمات القصة القصيرة جداً، التي تلمع كالبرق، فتضيء
السماء، ثم يتبعها الرعد فالمطر فالنبت فالثمر.. بيد أنني، والحق يقال، لم
أجد هذه السمة تطبع قصص المجموعة كلها، فثمة قصص لا ضوء فيها ولا مطر ولا
ثمر، أو قل جاء ضوؤها باهتاً وماؤها قليلاً لا ينبت زرعاً ولا ينتج ثمراً،
بل كان حال الملتقي فيها كحال النار التي أُشْعِلتْ في شجر الغابة، ثم
سرعان ما أخمدها المطر القوي الذي يتبع الرعد، كما عبر عن ذلك أسامة حويج
العمر في قصته (البرق والرعد) مستهدفاً الهزء بالغرور مستثمراً صفات عناصر
الطبيعة.
ولكن بعض القصص كانت تبرق حقاً، وتترك في النفس والفكر أثراً له فعل
الضوء والمطر والثمر.. والحق أن العنوان الذي نتلبث عنده هنا ليس حلية
لفظية، بل هو عنصر هام من عناصر تشكيل الدلالة، وجزء هام من أجزاء
استراتيجية النص، كما سنرى.
إن الهم الإبداعي، والهاجس الكتابي اللذين ألحا على كتاب هذه
المجموعة كانا من فضاءات السياسة، والمجتمع، والفكر، والسلوك المنحرف،
والمفارقة ما بين القول والفعل، وكشف الحالات النفسية المضطربة، وإضاءة
الأفكار الكبرى، من خلال موقف ظاهر البساطة عميق الدلالة، يومي المظهر دهري
الفحوى، بحيث يمكن للمرء أن يزعم أن بعض القصص القصيرة جدا اختزلت بنجاح
أفكاراً يمكن للمرء أن يدبج فيها المئين من الصفحات... وقد تنزلت بعض القصص
هنا ثرية موحية اندغم فيها السياسي بالاجتماعي، والفكري بالنفسي، خدمةً
لقيمٍ رفيعة ومثل سامية.
ومن الأمثلة على ما سبق قصة ابتسام شاكوش (تراث) وفيها يستيقظ الجد
من القبر، فيرى ماذا حل بميراثه، وحين يقف على الحقيقة ينتحر على الفور.
وهذا يعني أن الأحفاد (سادة ورعايا) قد خانوا إرث الأجداد، وقصروا في
متابعة طريق المجد، أو هم نكثوا بالعهود، وخانوا الأمانات، فحق للأسلاف أن
يعودوا إلى الموت انتحاراً، لأن الحاضر فجعهم بما لم يتوقعوه، وأخجلت
المخازي الراهنة المآثر الغابرة.
وكان الهزء من الطغيان وسخف السلطان موضوعاً لقصة أحمد جاسم الحسين
(الحق على البعوضة). وفيها يعدم السلطان حراسه لأن بعوضة دخلت قصره،
وأزعجته، ثم يأتي بحراس أخر، ويتوعدهم (وليس يعدهم – كما يكتب القاص فشتان
بين الوعد والوعيد) بالإعدام إنْ تكرر الذنب الأول. فَهَمُّ السلطان هنا
تقزم جداً، إلى الحد الذي انحصر بالاهتمام بطنين بعوضة، في حين تضخمت
(أناه) إلى الحد الذي نسي فيه هموم الأمة الكبرى وقضايا الوطن العظمى..
إِنْ (الحسين) لم يشرح ذلك شرحاً، ولكنه أوحى به إيحاء، وهذا شرط من شروط
نجاح القصة القصيرة جداً. أقول هذا وفي نفسي شيء من عنوان هذه القصة، الذي
أرى غيره ربما كان أجود منه، ولا سيما أنه يحمل سيمياء العامية حين يقول:
(الحق على البعوضة). فلو قال: "بعوضة السلطان" مثلاً، أو "إعدام وجيه"،
لبدا الأمر أكثر توفيقا.
أما أحمد جميل الحسن، فيكتب عن القهر الذي يلقاه المواطن، فهناك رجل
لم يبصق الدم الذي ملأ فاه، لأن وقّع صكا بالصمت قبل بالإفراج عنه، ونظراً
لشدة الفزع والهلع، تحول صمته إلى إطباق كامل للشفتين وسكوت شامل للسان.
وقد وفق هذا القاص، حين جعل عنوان قصته (ثرثار). وهو عنوان يشكل مع مضمون
القصة استعارة تنافرية، مثله مثل بعض العناوين الأخرى، التي صارت هوية آثار
أخرى مثل (ثلج الصيف) و(حليب أسود) وما شاكل ذلك. وحالة الإحباط التي صورها
أحمد جميل الحسن من قبل، تلبس لبوساً آخر عند أيمن الحسن فبطل قصته
(الأصابع) حين يوقع صك إذلاله وهوانه، تروح أصابعه تسّاقط الواحدة تلو
الأخرى.. وهذه الأصابع التي تساقطت هنا، بسبب قيامها بفعل تخاذلي، صنعت
نقيض هذا الفعل في قصة للكاتب عدنان كنفاني، فقد أمسكت بخناق جندي من جنود
الأعداء كان قد وضع فوهة مسدسه في فم بطل القصة المعنونة بـ (اكتموا
الأنفاس). وذلك لتأكيد إمكانية مقاومة الأصابع العزلاء للمسدس المحشو، وهي
المقاومة التي نشهد لها نظائر كل يوم في فلسطين المحتلة، حيث تقاوم عيون
الأبطال مخارز الغاصبين المجرمين من الصهاينة.
وتستأثر قضية الحرية، أعني حرية القول، باهتمام القاص عبد الرزاق
صبح، ففي قصته (كلاب المقفع) نعاين كيف ينتزع لسان معارض شتام من فمه ويطعم
للكلاب، فتنتقل عدوى ذلك المعارض إلى الكلاب، التي تروح تشتم السلطان
بالعربية الفصحى. وعليه فإن القمع خاب هنا، والشتم، وإن تلاشى من على ألسنة
الناس، فإنه تتابع على ألسنة الكلاب. وفي وسعنا أن نفهم، ونحن ما زلنا في
محراب الفن، أن الكائنات كلها تتوارث المواقف، وإن لم تكن من جنس واحد.
وذلك كله من أجل فكرة حرية التعبير التي قد لا يطيقها الحكام غالباً.
واهتم (علي صقر) بالتعبير الفني عن الموقف العربي الراهن، فسخر من
مسيرات تزعم أنها تروم التضامن مع شهيد الانتفاضة الباسلة في فلسطين، فحول
أصوات الناس المتظاهرين المتضامنين، إلى أصوات تشبه أصوات الغنم، فهي بدلاً
من أن تقول إنها (مع) محمد الدرة، راحت تمط الميم في حرف ال (مع) تدريجياً
لتصبح الكلمة (ماع)... وقد وفق الكاتب في أدائه هنا لأن المطمطة والتثاؤب
والنعاس وكلها من واد واحد، هي ما يميز خطاب المتخاذلين، الذين لا يملكون
لنصرة الانتفاضة الراهنة سوى هذا الثغاء المخجل والمحزن معا.
أما فرحان المطر فقد حلم بفكرة لبطل من أبطاله تتحول إلى طلقات
ثلاث، واحدة للعتمة من أجل النور، وثانية لعدو جرب عهره فينا، وثالثة لرأس
وغد خائن من أجل النصر.
ولم يكن الحلم في القصة السابقة هو الوحيد الذي يطالعنا في هذه
المجموعة، بل وجدناه عند محمد توفيق السهلي، الذي سخره للسخرية من مهمات
جنود الاحتلال في فلسطين الباسلة، فقد ألقى أولئك الجنود القبض على رجل لا
ذنب له سوى أنه شوهد متلبساً في حالة من الحلم العميق. ولا شك أن الكاتب
هنا يقدم ملمحاً واحداً من ملامح العدو الإسرائيلي، الذي يرى أن العربي
الجيد هو العربي الميت.. ولما كان الحلم هو عنوان الحياة، فلا بأس بأن
يعتقل الحالمون من الخصوم. ولو ساوينا ما بين الحالمين والثائرين، لساغ لنا
ذلك، لأن الحالمين هم أشدُّ الناس إقبالاً على الحياة.
وكذلك يطالعنا الحلم في قصة من قصص نور الدين الهاشمي الناجحة،
وأكثرها كذلك، فتحت عنوان (طاغية وحلم) نقرأ أن الطاغية قد حول مملكته إلى
مقبرة، لأنه كان يقتل في كل يوم رجلاً له رأس وساقان ويدان وعينان وقحتان،
لأنه حلم أن رجلاً ما لا يعرفه كان يبصق في وجهه ويشتمه، ولهذا فهو يقتل
على الشبهة رجلاً لم يشتمه من رجال مملكته.. وقد تكرر الحلم، وتكرر القتل،
فتحولت المملكة إلى مقبرة. ولا شك أن العقل الباطن لذاك الطاغية، كان يظن
أن الناس كلهم يشتمونه، لذا لم يتورع عن قتلهم أجمعين، مازجاً الحلم
بالواقع، تماماً، كما فعل الكاتب نفسه الذي لجأ إلى الحلم ليعبر عن بعض
ملامح الفكر والحقيقة والواقع، فأنتج لنا قصة ترمي إلى استنكار كبير
للطغيان ورموزه، فضلاً عن السخرية السوداء من ظلم السلطان الجائر ومن
هواجسه المريضة.
ويمضي القاصون في التشنيع على الواقع العربي المر، فنلتقي عند يوسف
حطيني بعصفور يعود إلى قفصه، لأنه لم يجد بعد الإفراج عنه، سماء، ولو ضيقة،
ما بين المحيط إلى الخليج.. فكل سماء صارت سجناً، وكل رحابة صارت ضيقاً،
وكل فسحة تحولت قيداً. إِن الهواء والنور والدفء، وهي من معطيات السماء
ومزايا الفضاء الرحب، قد فقدت وتلاشت، فصار السجن الصغير، أعني القفص،
كالسجن الكبير أعني الحياة، بل ربما كان القفص أكثر رحمة ورحابة، ولهذا عاد
العصفور إليه...
إن القفص، بوصفه مكاناً للقهر والسجن والاحتجاز، قد تكرر ذكره ثلاث
مرات في قصص المجموعة، فعند علي صقر بعد أن زج الرجل الصقر في قفص زمناً،
ثم أفرج عنه، فوجئ به صقراً نبت على جلده ريش عصفور. وكذلك كتبت ندى الدانا
أن طائر الفرح لما خاب مسعاه في العثور على رائحة الزعتر البري ورؤية
النخيل وأمواج البحر، حزن، وعاد إلى قفصه.. وفي مجموعة "أحلام عامل
المطبعة" كتب مروان مصري، وهو من كتاب القصة القصيرة جداً، أن العصفور
المفرج عنه، جال في الفضاء جولات، فلم يجد ما يسد جوعه، فعاد إلى قفصه...
وفي كل ما تقدم أفكار كبرى، ففي القصة الأولى يرمز العصفور إلى حال
الناس ما بين المحيط إلى الخليج وانعدام الحرية في حياتهم، وفي الثانية
يؤتى بالعصفور ليكون معادلاً موضوعياً لأناس يؤثرون السجن على حياةٍ تخلو
من كل ما يجملها ويحليها في العيون والنفوس. وفي الثالثة يرمز العصفور إلى
المواطن الذي حوله القهر والاستبداد إلى طائر ضعيف يسهل افتراسه، على نحو
يذكرنا بتحول النمر عند زكريا تامر في مجموعته "النمور في اليوم العاشر"
إلى مواطن، وذلك بعد أن تحول النمر أولاً إلى حيوان آكل للأعشاب، وفقد أهم
مزية من مزاياه، وهي الجسارة وافتراس الحيوانات الأخرى. وفي قصة المصري
يقايض العصفور حريته بطعامه. ويا لها من مأساة عظيمة، حين نراها تتحول من
الحيوان إلى الإنسان الذي لا يحيا بالخبز وحده...
وإذا كانت القصة القصيرة جداً قادرة على أن ترسخ موقفاً نضالياً
تحررياً بإيجاز شديد، وتستنكر موقفاً قهرياً ظالماً، من خلال سطر أو سطرين
أو ثلاثة، فهي أيضاً قادرة على أن توظف نفسها لتنتقد مجتمعاً متخلفاً
ومنافقاً، يقول فيه الناس شيئاً ويفعلون شيئاً آخر، وأناساً يرون الصواب
ولا يفعلونه البتة. وهذا كله ينبت لهذا اللون الإبداعي الجديد جناحين يحلق
بهما عالياً إلى جوار الأجناس الأدبية الراسخة ذوات التاريخ المديد. بيد
أنني أرى أن تلك الأجناس المستتبة قد تؤدي وظائفها من خلال أعمال جراحية
معقدة وطويلة، في حين تعالج القصة القصيرة جداً أمراض المجتمع، وانحرافات
النفوس، وجنف الأفكار، بالوخز بالأبر، أو بالصدمة الكهربائية، إن ساغ لنا
التعبير.
وفي مجموعة "بروق" نلتقي قصتين تتحدثان عن موقف الرجال من النساء،
الأولى لابتسام شاكوش، والثانية لجمانة طه. ففي قصة (المظلة) تستنكر
الكاتبة الأولى موقف من يرى في المرأة مظلة تدرأ عنهم الشمس المحرقة
والأمطار الغزيرة، ثم في اللحظة ذاتها يحرمونها من أبسط حقوقها، فأي تباين
هذا ما بين الأخذ والحرمان...
وكذلك تسخر الكاتبة الثانية من التناقض ما بين القول والعمل عند
الرجال حين يعاملون المرأة، فبطلة القصة سخر الناس أولاً من براءتها، فتخلت
هي عما يسخرون منه فيها، لصالح الحنكة والانطلاق، فرجموها بالحجارة!!.
وقد منحت جمانة طه قصتها عنوان (ذوبان)، لتوحي بمضمونها، ذلك أن
المرأة تكاد تذوب حقاً من غياب الانسجام والصدق في مواقف بعض الرجال منها
في بلادنا.
وكذلك ندد كل من أيمن الحسن وباسم عبدو بغياب الحب في النفوس
والناس، فعند الكاتب الأول جف القلم، حين قرر الإقلاع عن عادة الحب، وعند
الثاني خرج دماغ الأنا الساردة من رأسها، وصار الرأس جمجمة فارغة، عندما
تفتق عشقها فوجد الطرقات ضيقة والسحاب ثقيلاً. والراوي يقول أنه لما عصر
قلبه خرج دماغه من رأسه، وهذا يعني أن القلب حين يخلو من الحب يفرغ الرأس
من الدماغ. فأيَّةُ علاقة هذه التي تقبع ما بين الحب والفكر؟!
وفي حين أخفق بعض كتاب هذه المجموعة في أن يقدموا أفكاراً عميقة أو
رؤى دقيقة نافذة، من خلال ومضة بارقة، فجاءت قصصهم باهتة اللون، ساذجة
المضمون في بنيتها ودلالتها، نجح آخرون في معالجة أفكار كبرى، فيها السلب
والإيجاب، ومواقف نفسية فيها الصحة والمرض. فقد انتقد عدنان كنفاني حالة
التمركز على الذات في قصة (أنا) حين صور هذه الذات، وقد تحولت إلى مظلة
تحرف مسار المطر الهاطل على المدينة إلى مسار آخر يخدم فرداً بعينه. وهي
قصة تذكرنا بالموقف المناقض الذي جسده أبو العلاء المعري في قوله:
فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا
وصورت وفاء خرما في قصتها (انتقام) مقولة أن يكون العقاب من جنس
الفعل، فقد أشارت إلى مجرمين انتزعوا عين رجل مسكين فقير وزرعوا لـه بدلاً
منها عين كلب، ولما رفعوا الضماد عن العين البديلة، رآهم الرجل المسكين على
هيئة كلاب، فأغار عليهم، وقرقشهم الواحد تلو الآخر!!. إِنه الثأر المشروع
الذي تتلوه شماتة بالمعتدين، ووخز بالإبر لضمائر تخامرها جرائم مماثلة.
ومن أشكال التنديد بالسلوك المغلوط والفعل المنكر ما نستخلصه من قصة
وفيق أسعد (على التتابع) فثمة رجل يسابق أربع نساء، فيسبق الأولى، ويتخطى
الثانية، ويتعادل مع الثالثة, ويخسر مع الرابعة، فيطعن الأخيرة، ويفكر في
أن يعود إلى الأولى، فيسقط. وهو سقوط يحاكي سقوط من لا يتصف بالروح
الرياضية أولاً، ولا يتقبل الإخفاق في مباريات الحياة بالروح ذاتها، والقصة
ثانياً مَحْدوَّةٌ بالسخرية المرة، لأن الرجل يسابق نساء، وهن لسنا من
أبناء جنسه، فهناك خلل في شروط المسابقة أفضى إلى خلل في نتيجتها، ثم أسفر
عن سقوط من هو الأقوى في السباق. ولعل مصير هذا الرجل هو مصير كل الرجال
الذين يشبهونه، فالقصة لا تحكي قصة فرد بعينه، بل تحكي قصة نموذج بعينه.
وهذه حال الكثير من القصص القصيرة جداً، وخاصة تلك التي سمت بطل كل منها
(عبد الله)، فعبد الله ليس اسماً حقيقياً دالاً على فرد يدرج في الحياة،
ولـه هويته المدنية، بل واحد من عبيد الله الكثيرين، الذين نلقاهم حيثما
وجدنا وأينما تلفتنا.
ولجأ د. يوسف حطيني إلى تقنية المرآة، ليكشف لنا من خلالها قاع ذات
مشوهة ما كانت ترى العيب في نفسها، بل في الناس الآخرين، ولكنها حين نظرت
في المرآة حطمتها، مستنتجة أنها هي المنفرة، وليس غيرها.
وبعد هذا العرض لهموم المبدعين وهواجسهم في مجموعة "بروق" نخلص إلى
سمات عامة تطبع قصص هذه المجموعة، وهي:
1- إن هذه القصص، أو بعضها، عالج قضايا كبرى، اختلط فيها الراهن
بالدائم، واليومي بالخالد، والشخصي بالعام، فكراً وسياسة واجتماعاً وسلوكاً
ومفاهيم. وقد سخر مبدعوها، أو بعضهم، من سلوك الحربائيين، وأفعال
المخادعين، وأقوال المتقلبين الكاذبين، الذين أخفقوا في أن يصوغوا وجودهم
بانسجام، سواء كان أولئك سلاطين أم رعايا، وعلماء أم سوقة، وأغنياء أم
فقراء.
2- تشابهت بعض القصص من حيث الفكرة التي تناولتها، ومن الأفكار
المكررة فكرة الكسل والبطالة والهامشية. وكلها ذات أفق واحد. وهو ما
لاحظناه في قصص لكل من أحمد جاسم الحسين (خمسون عاماً)، وأيمن الحسن
(مشوار)، وسعاد مكارم (بطالة). وكذلك الشأن بخصوص الموقف من المرأة، كما هي
الحال عند ابتسام شاكوش وجمانة طه.
3- تنوعت طرق السرد وتقنياته، فكان لدينا قصة المكان، كما في قصة
(أيها النكرة) لأسامة حويج العمر، وقصص الواقعية السحرية، كما في قصة
(الصدى) لباسم عبدو، وقصص الخيال العلمي، كما في قصة (كالمستجير من..)
لأحمد جاسم الحسين، وقصة (كلاب المقفع) لعبد الرزاق صبح.
4- اتخذ بعض القاصين من الحيوان والنبات أبطالاً لقصصهم، أو محاور
لكتابتهم، وأنسنوها، فكان لدينا العصفور والصقر والكلب والحمار والثعلب
والنملة وحبة البندورة وحبة القمح والشجرة، وذلك في قصص لكل من علي صقر
وعدنان كنفاني ومحمد توفيق السهلي وابتسام شاكوش وجمانة طه وعبد الرزاق صبح
ووفاء خرما. والقصة القصيرة جداً تشترك في هذا مع القصة القصيرة، التي
يكتبها كبار الكتاب في قطرنا.
5- إن القصص المئة تنوعت من حيث الشكل والحجم، فتراوحت ما بين الخبر
البسيط ذي المرمى القريب الذي يقع في سطر واحد، كما في قصة (اعتقال) لعلي
صقر، وحوارية قصيرة لا تتجاوز السطرين، كما في قصة يوسف حطيني (وجهات نظر)،
وسرد مختزل جداً كما في قصة (الديك) لمحمد توفيق السهلي، أو سرد أطول
قليلاً تخلله وصف مكثف، ومواجهة مباشرة للبطل مع الأزمة، وانعدام للنجوى
أحياناً، أو تعويل عليها في أحيان أخرى. وفي كل ذلك لم تتجاوز القصة صفحة
صغيرة واحدة، إلا فيما ندر.
6- أفاد بعض الكتاب من سمات الظواهر الطبيعية، وخصائص عناصرها، كما
في قصص (قصر من الضعف) و(البرق والرعد) و(صفح) و(حرب أهلية). ولكن المرمى
كان فضاء الإنسان و آفاق المجتمع.
7- لم تغب المفارقة عن بعض قصص المجموعة. وكانت مفارقة تكشف زيف
الناس والمفاهيم والعلاقات، أو تسخر من المظاهر الغريبة والمواقف
المستهجنة. وشواهد ذلك تكمن في قصص لكل من ابتسام شاكوش وأحمد جميل الحسن
وعلي صقر ويوسف حطيني وغيرهم وغيرهم.
8- اشتغل القاصون على العنوان، بوصفه عنصراً مهماً من عناصر تشكيل
الدلالة في النص وجزءاً من أجزاء استراتيجيته وبؤرة من بؤره. وكانت
العناوين المختارة تتنزل منازل من حيث دقتها وفنيتها وإيحاؤها.
وقد تنوعت عنوانات القصص المدروسة ما بين المفردة الواحدة مرة،
والصفة والموصوف ثانية، والمضاف والمضاف إليه ثالثة، والمعطوف والمعطوف
عليه رابعة، والجملة الفعلية خامسة، والجملة الإسمية سادسة. وقد أحصيت
العنوانات المفردة، فوجدتها ثمانية وخمسين عنواناً، وما عداها يتوزع على
العنوانات الأخرى. وربما كان العنوان المفرد، المختار بحذق وتدبر، أكثر
تكثيفاً وملاءمة للقصة القصيرة جداً من غيره، في أغلب الأحيان.
وقد تنوعت وظائف العنوان عند الكتاب، فكانت لدينا عناوين تحيل إلى
مضمون القصة، وعناوين لها إيحاؤها الخاص، وعناوين لها وظيفة تناصية. وبعضها
جاء يشوش الأفكار ولا يساوق المضمون بوضوح، وهي الوظيفة التي أرادها
(امبرتوايكو) للعنوان.. ومن الأمثلة على ذلك عنوان قصة (مصير العظماء)
للكنفاني، فقد أدرج الكاتب تحت (مصير العظماء) قصة جمع من النمل يتعاون على
سحب شيء قاس إلى بيته أو مخزن طعامه، ولما كان فرد منه يعجز عن إتمام
المهمة، أعانه كثيرون من أبناء جنسه، وفي هذه الأثناء يأتي طفل لم يتجاوز
العاشرة من عمره، ويدوس هذا النمل.
والحقيقة أنني لم أجد صلة ما بين (مصير النمل) ومصير العظماء،
فالنمل ليس عنواناً للعظمة، بل هو عنوان للتعاون والمثابرة والتحوط لدرء
جوع الشتاء. وهذه أمور قد يقوم بها العظيم والوضيع، وصانع الخير وصانع
الشر. وعليه، لا صلة وثقى ما بين العنوان ومضمون النص. بيد أن الكاتب ربما
أراد أن يشير إلى مفهوم رمزي بعيد محتجب، كأن يكون عمل النمل موازياً لعمل
ولي أمر، يحرص على بناء مستقبل أمته، بالتعاون والمثابرة والإلحاح، ثم
يخلفه أولو أمر آخرون، يوازي فعلهم فعل الصبي في القصة، فيدوسون بأرجلهم
جهود الآخرين السابقين إمعاناً في الهدم والتخريب.
9- حوت هذه المجموعة قصصاً قصيرة جداً هي أشبه ما تكون بالكلام
العادي الذي لا فن فيه ولا مغزى ولا جمال ولا شغل فني، فجاءت أقوالاً سطحية
مبتذلة غير جديرة بالمكث عندها أو تذوقها. وقد كان الأجدر بها أن تلقى
بعيداً عن جواهر أخرى لمعت وستلمع زمناً طويلاً. وأمثل على ذلك ببعض قصص
السيدة روزا ياسين الحسن.
10- بيد أن ما يجب الإقرار به هو أن الضد يظهر حسنه الضد، وأن جبل
الإبداع الضخم الشاهق لا يمكن أن يكون كله قمماً، فله سفوحه وقواعده
السفلية، وقد يكون فيه قمة أو اثنتان أو ثلاثة، وما خلا ذلك فهو سفح أو
قاعدة سفلى. ولكننا مع حالة الإبداع ثمة فرق ما بين الطبيعة والفن، فالكل
قابل للتأثر والتبدل والتطور، وعلى النقد الأدبي أن يشرع الأبواب، نسبياً،
لأكثر التجارب تنوعاً، على أن ينبه على أقلها نجاحاً، ويشيد بأكثرها
تألقاً.
11- إن لغة القاصين تراوحت ما بين الصفاء والكدر، والقوة والضعف،
وقد صقل بعض الكتاب عباراتهم، وتركها آخرون سبهللا تعاني من الكدر والتغضن
والقساوة، وتنم على قليل من الخبرة والشغل الفني. ويخامرني خاطر مؤداه أن
أُشبِّهَ القصة القصيرة جداً بقطعة الذهب المصقول، الذي لا يخلط فيه صانعه
الذهب بما عداه من المعادن الأخرى، إلا بقدر ما يقويه، ويصنع منه سبيكة
سائغة. وهي سبيكة يكد الصائغ ليخرجها للناس مستوية لامعة ثمينة، فيها من
الجمال والقيمة قدر كبير ... فإذا كان لكتاب هذا اللون النثري الحكائي صبوة
لأن يطوروه، فلا بد لهم من أن يتخذوا من عمل صانع الذهب هادياً ونموذجاً،
ليخرج مما بين أيديهم شيء نافع ومدهش ومتألق يسحر العين ويسر القلب ويدهش
الفكر في الوقت ذاته.
جنوب القصّة السورية
عشرون قصة وعشرة قصاصين
إن المجموعة المعنونة بـ "جنوب القصة السورية" هي نشر جماعي لعشرين
قصّة كتبها عشرة قصاصين من محافظة درعا. وكان نصيب الواحد منهم في النشر
متساوياً، فلكل كاتب قصتان فحسب. وقد نُشرت هذه المجموعة بدار الأهالي
بدمشق في العام 1998.
وتطرح هذه المجموعة أسئلة كثيرة، لعلّ أهمها العنوان المختار، فهل
كانت هذه القصص تمثل حقاً الإنتاج القصصي في محافظة درعا كله؟ أم كانت
تمثّل بعضه؟ وهل كان عشرة قصاصين من (درعا)، هم قصاصو هذه المحافظة جميعهم،
أم أن ثمّة آخرين لم ينشروا نتاجهم هنا؟.
وفي الإجابة نقول: إن العنوان غير دقيق، وغير شاعري، وغير موفق.
وكان بالإمكان اختيار ما هو أفضل منه. ثم إننا لا نشك في أن قصاصين أخر لهم
نتاج قصصي لم يُنْشَرْ هاهنا، وبالتالي فتمثيل الواقع الحقيقي في هذا الباب
غير كامل.
ومما يلاحظ أن كُتّاب هذه المجموعة قد تركوا أنفسهم غفلاً، لم
يُعرِّف أي منهم بنفسه، ولو ببضعة أسطر، على الرغم من نفع هذا التعريف..
الأمر الذي يجعلنا في جهالة من أمر إنتاجه القصصي، وإرثه الإبداعي. ويبدو
لي وأنا على غير يقين، أنّ أغلبهم لم ينشر حتى اليوم مجموعة قصصية كاملة
بتوقيعه باستثناء (خلف الرزور) و( زرياف المقداد) وهذا ملمح لا يعيب أيّ
كاتب من كتاب المجموعة، فالراسخون في هذا الجنس الأدبي كان لهم في البداية
قصة أو قصتان، ثم طوّروا أنفسهم، وصاروا أعلاماً، بيدَ أن لغة بعض الكتاب
هنا لا تنمّ على خبرة وتمرّس كبيرين، فقد شابها شوائب شوّهت جمالها وخففت
من ألقها، وهذا ما سنعاينه بعد قليل.
وثمّة سؤال ملح آخر يطرح نفسه، وهو: هل مثّلت هذه القصص العشرون
البيئة المحلية (جنوبي سورية): موضوعات وقيماً وفناً؟ أم أنها كانت، مثلها
مثل أي قصص أخرى نشرت في قطرنا، بمحافظاته الخمس عشرة، تتناول الشأن الأشمل
والهمّ الأعمّ في وطننا أولاً، وفي العالم من حولنا ثانياً؟
لقد وجدتُ هذه القصص ضربت في اتجاهات أربعة: المحلية من جهة،
والقومية من جهة ثانية، والاجتماعية من جهة ثالثة، والإنسانية من جهة
رابعة، فهذه هي الهواجس التي أرقت هؤلاء القصاصين، فكتبوا في آفاقها.
ومن القصص ذات النكهة المحلية قصة الكاتب (موسى المسالمة) "كلانا
على جانب الطريق" وهي قصة تفوح منها رائحة (درعا) وريفها في الخمسينيات،
حيث الكتّاب، والخيزرانة، والبؤس والتزاحم على بيضة مسلوقة ما بين الأخ
وأخته. وحيث الإحساس الأخوي النقي الجميل الذي يفجرّه افتراق الأخت
المنافسة في طفولتها، عن أخيها بالزواج المفاجئ... مما يدل على أن العوز
والفقر والحاجة لم يكن لها أن تعبث بمشاعر الأخوة، ومما يشي بعلاقات أسرية
قوية العُرَى لم توهنها الأيام، أو يضعفها التطوّر الزائف.
ومنها قصّة (حمدي البصيري) "كيف ضاع العمر" التي تحكي أصالة الحب
الريفي وصموده أمام إغراءات الغرباء الممثلين بالخادمة (ناتاشا) فالرجل
الخمسيني الذي كان يعمل في (زحلة) في لبنان، لم تفارقه صورة زوجته (فاطمة)
في جنوبي سورية، حين دعته (ناتاشا) إلى الخيانة، فخارت قواه وعجزت رجولته،
لأن صورة (فاطمة) الفلاحة تلاحقه، وتشوش ذاكرته، ولأنّ عطرها مزيج من رائحة
الأرض الملقحة تواً بالمطر، والخبز الساخن، والعرق الذي يتلألأ على جبينها
كلما خبزت- (ص101). ومنها أيضاً قصة (عبد الرزاق صبح): "مقتل القمر" التي
جاء في مطلعها عبارات مستمدة من اللهجة الحورانية المعروفة "يا أمي طالع
شوية وراجع.. بَسْ بدّي أكمل اللعبة". بيد أن الموضوع القومي والاجتماعي لم
يغب عن هموم قصاصي درعا العشرة، فقد طرقه (حسين الكراد) في قصته "عجوز
القلب" و(عبد الرزاق صبح) في "الزوجة العاشقة" و(إبراهيم النجار) في
"العقدة الزرقاء". (فالكراد) يروي قصة الأستاذ (الراضي) الذي ثأر من (عسكر
اليهود) بعد أن آذوه وضربوه، رغم وداعته ورقته، مما اضطره إلى أن ينقضَّ
على جنودهم ويمسك بيديه عنق واحد منهم ويضغط ويضغط حتى الخنق (المجموعة
ص60). وكذلك يفعل (صبح) حين يبرز إيثار زوجته لفلسطين عليه وعشقها لها،
الذي يفوق أي عشق آخر.. وها هي ذي الزوجة أمام صائغ ذهب تطلب منه أن يصنع
لها من الذهب الخالص قطعة أو (خريطة) يحدّها شمالاً الجليل، وجنوباً سيناء،
وغرباً البحر الأبيض المتوسط، وشرقاً النهر، إنها (فلسطين) التي صارت
معشوقة الرجال والنساء معاً- (المجموعة ص30).
أما (إبراهيم النجار) فيتحدث في قصته "العقدة الزرقاء" عن مجزرة
(قانا) التي ارتكبها الصهاينة في جنوبي لبنان في العام 1996. والتي قتلت
فيها الصبية ذات العقدة الزرقاء، وقُتل معها كثيرون من الشهداء الذين يقول
عنهم على لسان أحد الآباء: "سنراهم يقبلون يحملون رايات النصر، يقبلون
عندما تشتد الظلمات وتعظم المصائب" (المجموعة ص78).
وجاء في بعض هذه القصص العشرين احتفاء بالبعد الاجتماعي أيضا،ً وكان
ممن أولى البعد الاجتماعي عناية خاصة القاص (خلف الزرزور) في قصة "الخيار
القاتل"، بعد أن تحدث في قصته "حلم على أنقاض الحذاء" عن أطياف السجن
السياسي التي بدت مثل كابوس أبهظ بطل هذه القصة.. أما في "الخيار القاتل"
فقد جعل الكاتب بطله اليائس المظلوم (أبو عبد الله) يهجم على الدكتور
المستغلّ السافل (عبد السلام)، ويطعنه بمديته ممزّقاً أوصاله .. وقد بسط
الزرزور لقارئه كل التسويغات والمقدمات اللازمة لتفهُّم هذا العمل الصادر
عن (أبو عبد الله)، فقد كان (عبد السلام) يسرق عرقه عنوة، ويجعل القهر
يسربل قلبه، وهو الأب لعشرة أولاد.. كما نجح الكاتب في إحداث مشهدية مسرحية
موفّقة لأحداث قصته وحواريتها. وقد استقر في نقد القصة القصيرة أن تنمية
الأحداث وإقامة المشهدية المسرحية عنصران هامان من عناصر القصة الناجحة،
على ألا يداخل ذلك تعسّف أو افتعال أو تصنّع أو خلخلة...
وكذلك فعلت (سعاد القادري) في قصتها "مدرّس الموسيقى".. ففي هذه
القصّة يقوم هذا المدرس الحيي الخجول بضرب طالبةٍ مِغْناج تأخرت عن درسه
عشرين دقيقة..! فيُفاجئ ذلك الطلبة والطالبات! وقد أرادت الكاتبة من وراء
هذه القصة أن تستنكر فظاظة الرجل، وأن تسخر من بدائيته التي قد يظن بعد
الناس أنّه تخلص منها..! وفي هذا الملمح غَمْزٌ رقيق من مفهوم الرجولة
العنيفة، التي تلجأ لاستخدام اليد بدلاً من اللسان.. وتلجأ إلى العنف، رغم
وجود مندوحة لها عنه.
ولم نعدم في هذه المجموعة قصصاً تتحدث عن قيم أخرى إنسانية تتصل
بالأصالة أو بمفهوم "الفطري" و"الصنعي"، وهذا ما عوّل عليه القاص (ميلاد
قندلفت) في قصته "الكلب الأدرد"، فقد رُكّبتْ لهذا الكلب بدلة أسنان صنعية
فأخفق بسببها في عض الذئاب التي هاجمت منزل صاحبه.. وعندما راح صاحب المنزل
يخاطب كلبه هذا قائلاً: اهجمْ يا (ريكس)، عضهم، أجابه (ريكس) وقد أخرج
أسنانه الصناعية من فمه، ورمى بها نحوه: خُذْ سلاحك الذي أعطيتني إياه،
وعضّهم أنت (المجموعة ص86). وفي العبارة الأخيرة سخرية مرة مما هو غير
طبيعي وغير أصيل، ومما يناقض حقيقة الأشياء وفطرتها. وإذا وسّعنا تحليلنا
قلنا: لعل في الأمر سخرية من سلاح يُجْلَب جَلْباً، ويوضع في حوزة المرء،
في الوقت الذي يُتوخى منه أن يملك سلاحه بذاته، وأن تكون قوته من نسيج
جسده، تنمو وتتطوّر دون عون خارجي قد يكون مآله الضعف لا القوة، والعجز لا
الإنجاز، وخاصة حين تهجم الذئاب على المنازل والديار. وواضح هنا أن الرمز
جاء رمزاً شفيفاً لا كثيفاً. وهو شأن يختلف عن كثافة الرمز عند الكاتب
(جهاد الخطيب) في قصته "مدينة الشياطين" أو عند الكاتبة (زرياف المقداد) في
"الكل يحترق" ففي "مدينة الشياطين" ينشئ (الخطيب) قصّة رمزية فيها تنبت
ذيولٌ لأهل مدينةٍ لا نعرف اسمها ولا شيئاً عن سماتها، إمعاناً في توسيع
دلالتها، ولكن واحداً من رجالها لم ينبت له ذيل هو (شقي أفندي). وعندما
تستشار العرافة في هذه الحالة تقول لشقي أفندي: إنّ سرّ لعنتك كامن في
صندوق كتبك، وتقترح حرقه! ولكن هذا الحرق لا يفيد، ولا يُنبت ذيلاً لذلك
(الشقي) الذي استشرت فيه لعنة الكتب.. إنّ الكاتب يعبّر بهذه الأقصوصة التي
لم تتجاوز صفحتين صغيرتين عن مناعة المثقف ضد الجنون، على الرغم من أن
شقياً بدا مجنوناً وشاذاً في نظر أهل مدينته المجنونة حقاً! و(الخطيب) –كما
لاحظت في قصته الثانية- وعنوانها "مجنون يتحدث عن نفسه"- يستغل "الجنون"
وصلته بالأدب قويّة جداً، ليقول أشياء لا يقولها العقلاء، فمتى كانت الكتب
"لعنة"؟؟ إنها سرّ التعقل والتطوّر والتحضّر. ولكن حين يجنّ الناس حقاً،
تنقلب الأمور رأساً على عقب، فيظنون العاقل مجنوناً والعالم مخبولاً.. فيا
لها من مأساة حقيقية فعلاً!
أما (زرياف المقداد) فقد بدتْ في قصتها "الكل يحترق" قاصة محترفة
تراعي تناظر العلاقات الداخلية في قصتها، وتمزج الواقع بالأسطورة، وتربط ما
بين الفردي والجمعي، وتماهي ما بين الهم الشخصي والهم الوطني، وتصطنع علاقة
من نوع ما بين المرأة (أم محمود) التي سجن ولدها، والأرض العطشى للخصب
والنماء.. ولقد بدت (المقداد) هنا مشغوفةً بالمطر والشمس والتراب. وهي
ثلاثة عناصر من عناصر الكون الأربعة وفقاً للفكر الإغريقي القديم. ولكنها
لم تنسَ العنصر الرابع فيها وهو "النار"، فقد ألقى بطل قصتها تلك برسوم
تلامذته في المدفأة ولكنها لم تحترق، بل تحوّلت إلى فراش ملوّن لا يخاف
اللهب... وإذا ساغ لنا أن نرى في رسوم التلامذة تمثيلاً لأحلامهم أولاً،
ولأحلام الناس ثانياً، في الريّ والشبع والدفء والخصب، ساغ لنا القول: إن
أحلام الناس لا تحترق، ولا يجوز لها أن تنطفئ... وهذا تفسير يدعمه قول
المعلّم لتلامذته: "أنا الأخضر في النار" بمعنى أنا الذي لا يحترق. وعلى
الرغم من أنه رسم لطلابه من قبل مدفأة، رؤوس لهبها كرؤوس أناس تحترق، فإنه
لم يتبنّ الاحتراق، ولم يكن يرسم سوى ما يستنكره فعلاً، إنه يمزج ها هنا ما
بين الواقع والرؤية، فالواقع يحرق الأشياء والأفكار والقيم، ولكن الكاتب لا
يحترق، ولا تحترق أشياؤه ولا أفكاره ولا قيمه. وعليه فرسم المدفأة هو رسم
للخارج، وعدم رسم له في الوقت ذاته... وها هو ذا بطل القصة يقول في عبارة
كاشفة: "أصبح الآن خارج خارطة جسده وداخله واحداً... لا فرق بينهما...
تماماً كداخل الغرفة وخارجها، أو كداخل المدفأة وخارجها.. أحسّ أنه يحترق
ولا نار ولا دخان، بل إن الكل يحترق ولا نار ولا دخان" (المجموعة ص93)
وتحضر في القصة صورة (أم محمود) التي تكاد تحترق شوقاً لرؤية ابنها
القابع في المعتقل حيث "يمسحون هناك ذاكرة الإنسان"(ص94)، لتتناغم مع خطاب
الحريق في القصة. وفي الوقت الذي نرى معلم الرسم يروم أن يشرح لطلابه فكرة
مزج الألوان، نرى الكاتبة تمزج الألوان في كتابتها، فتختلط عندها صورة
المدفأة، بصورة السجن، وصورة ابن أم محمود الغائب، بصورة صديقه راوي القصة
الحاضر، كما تتماهى صورة النافذة مع صورة الحرية، وصورة اللهب مع صورة
النور، وصورة الخائف من النار، مع صورة عاشق النار. وقد مثَّل الطرف الأول
في المعادلة الأخيرة (أم محمود) ومثل الطرف الثاني (الفراش الملون) الذي لا
يخاف اللهب.
إن قصة "الكل يحترق" قصة معجونة عجناً تفاعل فيها الداخل مع الخارج،
والذاتي مع الموضوعي، من خلال نقلات ما بين الخيال والواقع، فجاءت أثراً
ثرياً وكثيفاً. وإذا تأملنا من جديد في عنوانها "الكل يحترق" فهمنا من كلمة
"الكل" الناس والأشياء والأفكار والقيم. وعرفنا أن ناقوس خطر يدق، فلنحذر
ولننتبه. ومن مزايا بنية هذه القصة أنها بنية مفتوحة تتيح للمتلقي أن يشارك
في إنشائها وأن يعيد إنتاجها من جديد.
وإذا كانت قصة (المقداد) السابقة قد عنيت بشخصيتين اثنتين رئيسيتين
هما: (المعلم) و(أم محمود)، فإن قصصاً أخرى في المجموعة قد حملت أحداثها
ونهضت بها شخصيات أخرى تراوحت ما بين عامل مغبون، ومثقف بائس، وفتاة، وجدة،
وأب، وجنود، وشهداء.. إضافة إلى شخصيات أخذت من عالم الحيوان، كما في قصص
(ميلاد قندلفت).. وقلما استنطق كُتَّاب هذه القصص أشياء جامدة كالرصيف أو
الطريق أو المقهى أو البحر أو النهر.. الخ.
وقد بدا بعض الأبطال والشخصيات أناساً إيجابيين ثائرين منتفضين، كما
في قصّة (خلف الزرزور) "الخيار القاتل" وبدا بعضهم أناساً ضعافاً مستلبين،
كما في قصة (الخطيب) "مجنون يتحدث عن نفسه" وقصة (إبراهيم النجار) (شواء
على نار نزقة" وقصّة (حسين الكراد): "قردة الأحلام".
وبدت لي بعض هذه القصص وقد أثقلت بتفاصيل أبهظت كاهلها. وما كان
يضيرها حذفها، كما هي الحال في قصة "مقتل القمر" والتي أرى أنها يمكن أن
تكتب بأسطر أقل، فتكون أكثر كثافة، وأقوى تأثيراً، فعلى الرغم من أن الكاتب
وشَّى مطلعها بعبارات عامية محلية أضفت عليها شيئاً من الحميمية، فإن هذا
لم يشفع لما اعترى بنيتها من خلخلة ومجانية، إذ لم نجد أي تسويغ لقتل القمر
الذي مثّله الشاب (علي) الذي أحبّ (نجمة)، فهل يكون ثمن الحب البريء قتلاً
يقترفه صبية ثلاثة يتآمرون على موتٍ لا معنى له ولا غاية، وبعيدٍ عن أيّ
قيمة نبيلة، أو أيّ موقف شريف؟ نعم تمكن (فيصل) من كشف الجريمة، ولكن هذا
الكشف لم يهب القصة معنى كبيراً، أو مغزىً حقيقياً، فهو ابن الصدفة، وإذا
كان هؤلاء القتلة الثلاثة أبناء (فلان) الزعيم، قد أُلْقي القبض عليهم
وسجنوا بسبب جريمتهم كما في القصة، فإن الكاتب لم يقدّم لاستنكار فعلتهم
هذه، من الأحداث والأقوال ما يكفي، ولم يُدِرْ حواراً بينهم يظهر سبباً
مقنعاً من زاويتهم، وغير مقنع من زاويتنا، لهذا القتل المجاني، فارتطمت
القصة بالمجانية، وارتضت أن تقصر متعتها على كشفٍ للجريمة جلبته الصدفة،
ولم تدخل القبّة التي تجمع الأدب والقيم الكبرى في صعيدٍ واحد.
بقي لي، قبل أن أترك القلم، أن أشير إلى لغة هذه القصص، فقد لاحظت
أن بعضها قد صيغ بيد صناع ملكت ناصية اللغة وصرّفتها في أنحائها الصحيحة
تراكيب ومفردات، ولاحظت أن بعضها دلّ على أن كتّابها ضحّوا بسلامة اللغة
ونحوها. ومن أمثلة هذا الملمح الأخير أخطاء وردت في الصفحات التالية: (8،
10، 11، 17، 18، 19، 41، 48، 66، 74، 75، 94،
133). ومن شواهدها: قول أحدهم: "وحده اليمني عمر بن كرب الزبيدي"
والصواب: "عمرو بن معد يكرب الزبيدي". وقوله: "كنا كذبة متملقون" والصواب
"متملقين". وكذلك وردت في (ص17) عبارة قاصرة غير مكتملة. وذلك في السطور
الثلاثة الأولى من القصة. وفي (ص41) قال الكاتب "ما زال شعره أشقراً"
والصواب "أشقر"، وتكرر تنوين اسم التفصيل هذا في (ص48) و(ص66). وجاء في
(ص74) قول الكاتب "يتحدث بعضهم إلى البعض" والصواب بعضهم إلى بعض. وفي
(ص75) ورد: " تمركز سائقوا السيارات" والصواب " سائقو" بلا ألف. وجاء في
(ص94) قول الكاتب: "وتذكر إحدى رسوم الأولاد.." والصواب "أحد رسوم" لأن
مفرد (رسوم) مذكر، وليس مؤنثاً! وورد في (ص133) قول الكاتب "هم قالوا
لبعضهم" وهذا تعبير مغلوط وصوابه: "كان واحدهم يقول للآخر". وثمة هنات
لغوية أخرى نعزف عن الوقوف عندها.
ورغم ما سبق، فإن بعض قصص (جنوبي سورية) قد أصاب حظاً من النجاح
كبيراً، وبعضها لم يصب هذا الحظ، وقد بدا على قسم منها ملامح خبرة وتمرّس
توحي بأن بعض الكتّاب أنشأوا قصصاً أخرى غير المنشورة ها هنا، ولم يخرجوها
للناس، أو أنهم أخرجوها، ولم نقف عليها كلّها.. ولكن قسماً آخر أوحى بأنه
ربما كان يكتب للمرَّة الأولى أو الثانية، وأن كتّابه ما زالوا في خطواتهم
الأولى في هذا الجنس الأدبي، لم يتصلّب عودهم، ولم ترسخ أقدامهم بعد، لذا
شاب نتاجهم صدوع فنية كثيرةً، كالوصف النافل الذي يخلّ بمبدأ التكثيف،
والحوار الممطوط الزائد عن حدّه، وعدم استغلال النهايات استغلالاً حسناً
لتكون لحظة تنوير وكشف. كما هي الحال في قصص الكاتب (زكريا تامر)، وغيره من
القصاصين، والإسراف في وضع عنوانات داخل القصة لا تخدم حبكتها، أو تواليها
السردي، فبدت نوافل يمكن الاستغناء عنها بسهولة دون ضير.
بَيْدَ أن ما يستحق التحية والإكبار هو الروح الجماعية الطيبّة التي
كانت وراء نشر هذه المجموعة، والتي أرست قاعدة للتعاون والتفاهم بين أدباء
طالعين، في الوقت الذي بذرت بذرة أولى يعتمد عليها النقاد، فيما بعد، حين
يأتون ليؤرخوا كتابة القصة القصيرة في محافظة درعا، في قابل الأيام، أو
ليؤرخوا للحركة الأدبية عامة في جنوبي سورية، التي لا يمكن النظر إليها،
لغير غرض الدراسة، على أنها في معزل عن حركة التأثر والتأثير بمجمل إنتاج
القطر، في مجال القصة القصيرة.
النبـــع الكــبير
للطف الله حيدر
نحن مع مجموعة (لطف الله حيدر): "النبع الكبير" إزاء خمس عشرة قصة
قصيرة تقع في /92/ اثنتين وتسعين صفحة، ويتراوح طول هذه القصص ما بين عشر
صفحات وصفحتين من القطع المتوسط.
ويبدو أن هواجس كاتبها كانت واسعة ومتنوعة، ففيها مراوحة ما بين
عالميَ الحياة والموت، كما في قصص "الثوب الأبيض" و"المواجهة" و"انتحار
تقليدي" و"حلقة مفرغة" وفيها خبرة بالنفس البشرية الموّارة بمشاعر الفرح
والحزن، والقهر، والانتشاء، والشهوة، والقمع، والحلم، والسخرية، وفيها
النقد اللاذع للسلوك الإنساني المغلوط. وفي المجموعة قصص تفوح منها رائحة
المأساة، حيث مثّل فيها الانتحار ذروة الحدث. وقصص أخرى يبدو فيها الانحياز
الفني إلى جانب قيم الحق والعدل والحرية والكرامة، كما في القصة التي وهبت
المجموعة عنوانها، وأعني بها قصة "النبع الكبير". وقصص جعلت للموت معنى
خاصاً وفلسفة معينة.
وقد تنوّع أبطال هذه القصص، فكان منهم الصبية والشبان والرجال
والكهول والمسنون والنسوة وأناس لم تعرف أسماؤهم، فكانت أفكارهم هي أبطال
القصة، كما هي الحال في القصة الأخيرة في هذه المجموعة، وعنوانها: "علاقة
ما".
وكذلك تنوّع المكان، واتخذ أشكالاً مختلفة، فكان مرّة ساحة الحي،
ومرة كوخاً بائساً، فطبيعة ساحرة، فمنزلاً فخماً، فحديقة، فمقهى، فطائرة،
فنبعا كبيراً.. وقد وظفّت هذه الأمكنة، لتخدم الغرض وتشكل خلفية الحدث
والحوار.. ولم تكن الطبيعة الصامتة، وخاصة الأشجار والأنهار والبحار، في
معزل عن أجواء هذه القصص، بل كانت، أحياناً، مرايا للإنسان، ومشابَهَ له،
كما في قصة "المواجهة"، فشجرة السنديان هي صنو (حسن مقصود) في العزّة
والإباء والخلود، لذا نجده يناجيها لأنه يراها صورة خالدة عنه، بعد أن
يقرّر الانتحار احتجاجاً على عجزه وعقوق ولده، فيرحل عنه، وتبقى هي لتذكّر
به. وربما كان في عنوان المجموعة، وهو اسم لمكان أيضاً، دلالة لا تخفى على
بصير، "فالنبع الكبير"، حقيقة ومجازاً، هو نبع للقيم والأحلام والسلوك
السليم، الذي يعد الكفاح ضد الظلم ركناً من أركانه.
وفي قصة "النبع الكبير" تجري الأحداث في قرية (حصين البحر). وهي
قرية الكاتب الحقيقية. وسواء كانت الأحداث واقعية تماماً أم محوّرة عن
الواقع، فإن ما يهمنا منها هو مآلها وفنيتّها.
فالعم (مصطفى) الشخصية المحورية هنا، شيخ في الخامسة والسبعين من
عمره، وهو رجل بسيط وفلاح شهم كريم يأبى الضيم.. وقد كان أحد أبطال ثورة
(النبع الكبير)، الواقع قرب قرية (حصين البحر). وهي ثورة شبّت زمن
الفرنسيين، وكان هدفها مقاومة الإقطاع وعسفه ورموزه، والسبب المباشر لها
منع أزلام الإقطاعي ماء النبع من أن يتدفق إلى أراضي الفلاحين ليروي
أراضيهم ومواشيهم، ويسقي عطاشهم، ويضمن لهم الحياة الكريمة. وقد أسفرت
انتفاضة الفلاحين حول هذا النبع عن مقتل والد راوي القصّة، وعن جرح صديقه
الحميم العم (مصطفى). ولم تهدأ هذه الثورة إلا عندما جاء فصيل فرنسي بقيادة
ضابط اسمه (ديغول) –فتقرر عندها قسمة المياه بين الناس.
وتمضي القصة على نحو رمزي لتتركنا أمام الراوي، وقد ورث عن عمه
(مصطفى) بطحة عرق طبيعي، وبعض لفافات تبغ سماه "تبغ العاشق" كان يفركه هو
بيده، فالقاص إذن يشرب من بطحة العم مصطفى التاريخية، ويدخن من تبغه، الذي
لا يضمّه غلاف جميل مزركش.
إن هذه القصة، رغم ما داخلها من تشعيث الأثر الوحيد المتوخى إحداثه
منها، وما مازجها من حوارات أخرى أضعفت تركيزها، وخففت من كثافتها، تبدو
منحازة إلى الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم، والفطرة ضد الزيف، والطبيعة
ضد المدنية. إنها قصة في نهاية المطاف، تمجد الكرامة وتعلي شأن الإباء. وهي
القيم التي تشربها القاص –الراوي في اللحظة التي كان يشرب فيها عرق العم
(مصطفى) الطبيعي، ويدخن من لفافاته اليدوية التي لم تفسدها آلات هذا العصر
الفاسد المزيف، فبدا كأنه يستجيب لما دعا إليه الشاعر في بيته:
خذ الخلق الرفيع من الصحارى فإن النفس يفسدها الزحام
وقد وفّر لنا عمل المؤلف، وهو دبلوماسي، يتنقل من بلد إلى آخر، أن
نقرأ قصصاً ذوات طوابع مختلفة لم تجر أحداثها في بلادنا. ولا غرو في ذلك،
فالانتقال من مكان إلى مكان لا يثني الكاتب عن اقتناص لقطات من الحياة لها
دلالة أو انطباع، أو معنى حقيق بالتسجيل.. ومن القصص التي تمثل هذا الملمح
قصة "الأمل" وهي فيما يبدو قصة واقعية تحكي ما جرى مع ضابط ألماني صار عام
1971 طاعناً في السن، وقد كان في شبابه ضابطاً في جيش (هتلر) الغازي
لروسيا. وقد شاءت الأقدار أن يقترن بفتاة أوكرانية من مدينة (كييف) وأن
ينجب منها بنتاً لم تمكنه الظروف أن يراها، بعد أن اضطر للرحيل والخروج من
تلك المدينة.. وها هو ذا يبحث عنها بعد ثلاثين عاماً. وقد روى حكايته لفتاة
غريبة التقاها في إحدى المدن الألمانية، وكانت تلك الفتاة تعرف الروسية بعض
الشيء، وطلب منها مساعدته لعله يلقى حلمه المفقود وأمله الضائع.. ولكن
الفتاة قالت له، مُخادعة، إنها من مواليد 1947، وهذا يعني أنها لم تولد في
الزمن الذي كان فيه هو في (كييف)، ورغم أنها أسفتْ لعدم قدرتها على مساعدته
"أحست بدمعتين تتكثفان في مقلتيها"... وقد تركنا الكاتب هنا بين الشك
واليقين، فهل كانت الصبية (المخادعة) (الباكية) في الوقت ذاته، ابنة الضابط
البائس، ولم تعترف به أباً لكونه كان غازياً لوطنها، أم لم تكن كذلك، وما
بكاؤهما إلاّ بسبب الشفقة التي استبدت بها، وهي تودع ذلك الرجل العجوز؟
ومن القصص الأخرى قصة "الملل" وقد جرت في (لندن)، وفيها تطلق زوجة
زوجها لفهمه القاصر حقيقة الحياة، فهو يراها نظاماً صارماً، وكينونة جامدة،
ونهجاً آلياً لا تجديد فيه ولا تنويع ولا تغيير، مما يفقدها حقيقتها وحلاوة
العيش فيها، والغريب في ذلك الرجل الزميت أنه عندما كان يحضر جلسة المحكمة
التي سيتقرر فيها التفريق بينه وبين زوجته، نظر في ساعته فوجد أنه لم يبق
له سوى ربع ساعة على موعد ممارسته لهوايته في لعبة التنس، فغادر المحكمة
مهرولاً نحو الملعب، وكأن شيئاً خطيراً لن يحدث بعد دقائق.. وقد أتاح هذا
التصرف الأخير منه أن نفهم جوهر سلوكه وحقيقة تفكيره الجامد الممل، وأن
نسوِّغ لامرأته دعوى التفريق التي أقامتها عليه. فاللمحة الأخيرة لحظة كشف
ماتعة وساخرة في الوقت ذاته. وهي تمثل ختاماً يتكرّر في القصة القصيرة
ليضيء ويكشف، ويثير الهزء، ويبعث الابتسام.
وثمة قصة رواها فلاح صيني تحكي حقيقة نفسية ما تلبث أن تتردّد
نماذجها في بعض الإبداعات الأدبية ومآلها، من أحد الوجوه، أن عدوى العادة
والسلوك تتنقل من نفس إلى نفس، وأن من يتلقى الظلم قد يتحول إلى ظالم ذات
يوم، فالضحية قد ينقلب جلاداً! ولكن هذا السلوك غير البصير آل في هذه القصة
إلى تدمير صاحبه. والقصة من وجه آخر تدين المسؤول الباغي وتندّد بالقمع
والغبن والتعسف. فثمة فلاح صيني جنى على زوجين من طيور السنونو اختارا أن
يصنعا عشاً لهما على شجرة في داره، فخرّب لهما العش أولاً دون تسويغ، ولما
أعادا بناءه ثانية، خرَّبه ثانية! فغضب الطيران الزوجان وحزنا، ولكن لم
ييأسا، فقررا صنع العش مرة ثالثة، وراحا يرقبان مَنِ الغريم، ولما اكتشفا
الحقيقة، وقفا أمام بابه، ونظر كل منهما في صاحبه، وانقضا في وقت واحد
كقذيفة قوية على باب الفلاح المعتدي، وضرباه بقوة، وسقطا ميتين، أما الفلاح
نفسه الذي كان رئيسه يمارس عليه ألواناً من العسف والقمع والقهر، رغم عدم
استحقاقه لذلك، فقد استبد به حسّ الندم ، فوضع حسامه تحت إبطه، وهناك عند
باب الرئيس، رفع صوته عالياً محتجاً على مصيره، ثم امتشق سيفه، وطعن به
نفسه، وهوى ميتاً، مقلدّاً صنيع زوجي السنونو اللذين سبق أن انتحرا أمام
بابه.
والحقيقة أن شبح الموت كان يلوح بين فينة وأخرى في هذه المجموعة
القصصية، فقد ماتت أولاً صبية في أول قصة في المجموعة، ومات (حسن مقصود)
احتجاجاً على العجز والعقوق، ومات هذا الفلاح الصيني احتجاجاً على الظلم
والعدوان، ومات العم (مصطفى) ليتيح للراوي أن يؤكد معنى الوفاء والانتماء
لسلوك هذا الرجل وقيمه. وهذا كله يعني أن (الموت)، وهو حدث عظيم في دنيانا،
قد وظف وظائف مختلفة، وفلسف فلسفات متنوعة، وكانت دلالته وأجواؤه وسياقاته
تتباين بين قصة وقصة، فتقدم فكرة أو معنى أو عاطفة تدل على غنى هذا الحدث،
رغم ما يورثه من ألم وأسى في بعض النفوس، الأمر الذي ينمّ على تعدّد الرؤى،
وتنوّع زوايا النظر واختلاف تقنيات التناول عند الكاتب.
ولا عجب في أن تتعدّد الرؤى، وتتنوع زوايا النظر، وتختلف تقنيات
التناول، لأن هذه القصص، وإنْ نشرت في العالم (1997)، فإنها كُتبت خلال ربع
قرن، فالقصة الأولى أنشئت في (موسكو) سنة 1971، والأخيرة في (دمشق) عام
1996. ومن حسن التصرف أن الكاتب قد راعى تاريخ الكتابة، وذكر مكانها، وهو
يرتب قصصه لتطبع. وإذا جاز لنا أن نفهم أن هذا الترتيب يؤدي غرضاً فنياً،
فإننا نرى أن (لطف الله حيدر) في قصصه الثلاث الأخير بدأ ينحو منحى القصة
القصيرة جداً، أو الأقصوصة، فالقصص الثلاثة الأخيرة قصيرة نسبياً، كما أنها
تبدو أغنى وأكثف، وأعمق جاذبية من قصص المجموعة الأخرى. والحقيقة أن
الأقصوصة فن صعب وجميل في آن واحد، لما يحتقبه من حرارة وتبئير وتكثيف
وإدهاش، ولما يتطلبه من خصوصة النظرة، والقدرة على إعطاء المعنى للحظة
عابرة من نهر الحياة الدائب الجريان.
إن ميزة هذه المجموعة أخيراً، لا تكمن فقط في كونها تعبيراً صادقاً
عن رحلة كاتب بين شرق وغرب، وإقامة واغتراب، أو في أنها أبنية فنية لها
نوافذ على العالم الشاسع، في الوقت الذي كانت لها جذور في تربة الوطن.. بل
تكمن ميزتها أيضاً في لغة القصّ العذبة السلسة التي لم تكبلها قيود التكلف،
ولم تربكها أسباب الترهل، أو تشوهها سمات التعقيد والتقعَّر، مما يدل على
أن الكاتب كان يمكن أن يصبح كاتب قصة ناجحاً، لو أنه أخلص لهذا الفن، ولم
تشغله مشاغل أخرى عن تطويره وتشذيبه، وتحصينه من بعض الصدوع، التي أصابت
بعض القصص، وخلصت منها قصص أخرى.
أديب نحوي.. قاصاً
((سمات عامة))
أديب نحوي كاتب لـه موقف، دون ريب، ويملك رؤية بلا شك. وقد نذر
إبداعه كله لخدمة قضايا أمته ووطنه، وقضايا مجتمعه وطبقته. وكان الهمّ
القومي والاجتماعي يطالعنا في كثير من قصصه ورواياته، إنه هَمّ التحرير،
وهمّ الحرية، التحرير من العدو الخارجي، والحرية من قيود الواقع ومفاسد
المجتمع، وصولاً إلى سيادة الإخاء والمساواة، وانتفاء الفروق الطبقية،
وشيوع العدل بين الناس.
وشخوصه وأبطاله، رجالاً أو نساء، نذورا نفوسهم لقيمٍ رفيعة،
ولمفاهيم أخلاقية جديرة بالتضحية، وخليقة بالفداء.. وقد كان يختارهم من بين
صفوف الشعب الكادح، ومن بين طبقاته المسحوقة، وأحياناً من رجال البورجوازية
الصغيرة من المثقفين الثوريين، الذين حملوا مشاعل النور ليبدّدوا الظلمة
والظلام، أو حملوا بنادق النضال ليمحوا آثار الغصب والعدوان، وينتصروا
للوطن والأمة والقومية.
وقد خلصتُ من مطالعة ما أتيح لي من آثار أديب نحوي القصصية
والروائية إلى مجموعة من السمات التي وجدتُها تميّز عطاءه، ورأيت أنَّها
يمكن أن تحصر في النقاط التالية:
1- الحرص على إثارة دهشة القارئ من خلال المفاجأة التي يصطنعها
الكاتب في كثير من قصصه القصيرة. وبما أن فن القصة القصيرة هو فنّ الإدهاش،
فإن هذا الملمح يُعَدّ سرّاً من أسرار الإجادة، وربما لهذا السبب رحنا نقرأ
لبعض النقاد إشادة عريضة بفن أديب نحوي، فهذا أحمد كمال زكي يقول:
"يُعَدُّ أديب نحوي في رأيّي أخطر كُتّاب العربية في قصة اليوم
القصيرة ويستطيع وهو يغرقنا في دقائق بيئته المحلية – وهو سوري- أن ينفتح
على العالم كله، مستشرفاً آفاقاً يعجز قصاصونا المصريون من الشباب عن
التحليق فيها طويلاً، بل إنه يستطيع وهو يناقش المصير العربي- بلا خطابية
طبعاً- أن يقدم الآية على أن القصة القصيرة تكون أعظم من أية قصيدة شعر
جيدة" –"انظر مقابلة د. عبد الله أبو هيف مع القاص النحوي في مجلة الموقف
الأدبي (العدد 129-130 ص173).
والحقيقة أن هذه الشهادة يمكن أن تناقش، وخاصة الإشارة إلى مسألة
الخطابية في فنه،و هذا ما سنراه بعد قليل.
2- استخدم الكاتب القصّة كما استخدمها من قبل (أندريه جيد) و(ايليا
اهرنبرغ) وغيرهما، ليصل بها إلى شيء عميق ودقيق في كيان الإنسان، فهو لم
يجعلها قفازاً للمتعة فقط، بل قفاز جرّاح يتقرّى الداء مُشخّصاً ومعالجاً،
ويبدو هذا واضحاً في قصص "حكاية للحزن" وخاصة في قصص (الحديقة)، و(مواكب
الشتاء)، و(جميل الأيادي).
3- خلْق الرمز المعتمد على واقعة محددة، فبعض قصص النحوي مزيج من
واقع ورمز، وذلك يتمثل في إشراك الطبيعة في الإيحاء، ففي قصة (مواكب
الشتاء) من مجموعته "من دم القلب" نجد الطبيعة تشارك في أحداث القصة، وتوحي
بوقائعها، وتعكس مشاعر بطلتها (ناهد خانم) هذه التي فرّ من بين يديها
عريسها الذي اشترته بمالها، بعد أن أوشكت على الدخول في خريف عمرها، ولكنها
خابت وصدمت عندما فُوْجئت بأن هذا العريس المُشْتَرى قد هرب مع خادمتها
(فاطمة)، ليصبح زوجاً لها، غير عابئ بثروة (ناهد خانم)، ومستهتراً بكل
أفكارها المشوهة عن الحياة والحب والزواج...
4- محاولة أسطرة الواقع. وهذه لعبة مقبولة في فن القصة. ونجد مثالاً
عليها في قصة (جميل الأيادي) من مجموعة الكاتب "حكايا للحزن" حيث يذبح هذا
الرجل الحلاق ابنته (سامية) البارعة الجمال، خلاصاً من الذل والفقر والعار،
وفراراً من ظلم المجتمع ونوائب الدهر وعوادي الأيام، التي قد تكون لـه
بالمرصاد في بيئة متخلفة فاسدة، ومجتمع مفعم بالجهل والعنجهية والظلم،
مُصوّراً، من خلال هذه القصة، برهة إنسانية محتدمة يعزّ نظيرها،
ومُحْتَجّاً على العسف والقهر، وكأن لسان حاله يقول: إن الجمال لا يصح له
أن يبقى وينمو ويستمر في بيئة قاهرة ظالمة منكرة، فهي ليست خليقة به، وهو
غريب بين ظهرانيها.
5- السخرية، وهي سمة وجدتُها تشيع في ثنايا العديد من القصص
والروايات، فقد سخر الكاتب من (ناهد خانم) كما رأينا من قبل، سخر من
عجرفتها ومن غناها ومن تفكيرها.. وسخر كثيراً من مخابرات العدو الإسرائيلي
في روايته الأخيرة "آخر مَنْ شُبّه لهم" إذ جعل الإسرائيليين يقتلون بطل
الطائرة الشراعية أكثر من مرة، وحين جعل بطل الشراعية الثانية يبدو للأعداء
في كل مكان، لأنه كان يرمز إلى كل شاب وكل رجل من فلسطين. ولهذا لا نجد
غرابة في أن يدرج (خطيب بدله) في كتابه "الساخرون" (أديب نحوي) في أول
قائمة الكتاب القصصيين الساخرين في سورية، جاعلاً من قصته (مجلس الرحمة) من
مجموعة "مقصد العاصي" نموذجاً على ذلك.
6- تقنية التذكّر، وهذه ميزة يستخلصها القارئ بوضوح من مطالعة رواية
"متى يعود المطر" فعن طريق التذكر نعرف الكثير من أوضاع الفلاحين في قرية
(التل الأسود)الذين كانوا تحت حكم الإقطاع، ونعرف كيف كان يعيش أولئك، وما
هي آمالهم وطموحاتهم، حتى إذا صدرت قرارات الإصلاح الزراعي في زمن الوحدة،
وجدوا فيها الخلاص من مأزقهم. أما انحباس المطر لسنوات بعد ذلك، فقد كان
حلّه، عند الكاتب، العمل في حفر الآبار لاستخراج الماء من باطن الأرض،
بدلاً من انتظارها لتهبط من السماء.
7- السرد القائم على معرفة الراوي بكل شيء، حتى معرفته بما تقول
الشخصيات القصصية لنفسها، فهو مثلاً يقول في روايته "متى يعود المطر":
"وفكر عمر النعسان قائلاً لنفسه". فهو إذاً على بينة بما يدور في خواطر
أبطاله.
8- تكرار الكثير من الملامح الفنية، والحيل الروائية في قصصه
ورواياته. وهذه سمة ملحوظة بوضوح في ظاهرة ساطعة تتمثل باستغلال الكاتب
لعلاقات القربى بين شخوصه. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً ففي مجموعته
القصصية الأولى "من دم القلب" نلاحظ أن الفتى المدعو (فتحي)، في القصة التي
أخذت المجموعة عنوانها منها، يستشهد برصاص الفرنسيين، في الوقت الذي تكون
أمه هي المدرسة التي تحرض الطالبات على التظاهر والهتاف بسقوط الفرنسيين،
وكذلك فإن (أبا مصطفى) التلميذ المشاكس في مدرسة محو الأمية، هو والد
الأستاذ (مصطفى) الذي كانت له علاقة صداقة مع أبيه!
وقد غيرت هذه العلاقة من سلوك الأب، وقلبته رأساً على عقب.. ويُفاجأ
القارئ أيضاً بأن الشاب القتيل برصاص الانفصال في قصة (جومبي)، واسمه
(إبراهيم)، هو ابنٌ للمؤذن الحاج إسماعيل أبو عفان. وقبل ذلك كان المحامي
(إبراهيم العمر)، وهو أحد أبطال رواية "متى يعود المطر"، بل بطلها الرئيس،
هو ابن للفلاح النابه والنادر والذكي (عمر النعسان)، وبما أن سمات الأب قد
يرثها الابن، فإنّ من شابه أباه فما ظلم.. وفي قصة (أبو علوان) من "حكايا
للحزن". نعرف في نهاية القصة أنّ جدّة الحفيد التي تروي القصة، واسمها
(أمينة)، هي الجدّة الحقيقية للطفل (أحمد)! وقد كانت هي المرأة التي أحبها
حمدان – والد أحمد، وضحّى (أبو علوان) لأجل حبهما وزواجهما، فكلفته تضحيتُه
تلك إمضاء سبع سنوات في السجن، فما كان من الجدّة إلا أنْ ترعاه، وتؤمن لـه
طعامه، وفاءً وتقديراً، بعد أن مات زوجها (حمدان)- صديقه الحميم.
وفي رواية "عرس فلسطيني" نلاحظ أن هدية (فهد البصاوي)- بطل الرواية
لعروسه (فاطمة)، كانت بندقيةً، وكذلك كانت هدية والد فتحي لابنه حسان في
قصة (من دم القلب) بندقية أيضاً.
9- كانت الشخصيات الروائية التي يبدعها الكاتب، في الغالب، رموزاً
لأفكار. وقلّما يحسُّ فيها القارئ بنبض الإنسان المختصم مع ذاته، المتصارع
مع وجوده، ليصوغه من جديد بانسجام، ويندر أن تخرج تلك الشخصيات عن تخطيط
المهمات التي أوكلها إليها الكاتب، فتبقى شخصيات على ورق.. صحيح أن
الشخصيات القصصية ليست من لحم وعظم ودم، ولها هوية شخصية وقيد مدني، ولكنها
تحمل قسمات كقسمات الشخوص التي تنضوي في شبكة علاقات اجتماعية معقدة،
وتتنازعها تيارات ومواقف وأفكار وأحلام غاية في التعقيد.
وأكتفي هنا بشخصية الحلاق (جميل الأيادي) من مجموعة "حكايا للحزن"،
هذا الذي أقدم على قتْل ابنته الجميلة والبريئة ببرودة، كما ارتضت هي أن
تذبح كغنمة، ودون أي تمنّع أو تعلّق بالحياة، ودون أن يدير الكاتب صراعاً
عنيفاً بين حب الأب لابنته، الذي ينبغي أن يكون حبّاً جارفاً من جهة، وحرصه
على الخلاص من العيب والعار المحتملين، وهو حرص قوي جارف أيضاً من جهة
أخرى. وهذا كله أمر لافت للنظر في بناء الشخصية القصصية عند كاتبنا أديب
نحوي. والشيء ذاته، أوْ قريب منه، يمكن أن يقال في بطل رواية "عرسٌ
فلسطيني" - (فهد البصاوي) هذا الذي قام بعملية بطولية ليلة عرسه، فقُتِل
برصاص الأعداء، ليقام لـه مأتم، بل عرس، على الطريقة البصاوية، لا على
الطريقة اللاجئية.
والحقيقة أنّ مثل هذه الملامح في قصص كاتبنا تدفع بالدارس لأن يذكّر
بأنّ نُبْلَ المقصد لا يسوّغ التضحية بأخص خصائص الفن القصصي، التي تجعل
منه كياناً أكثر إقناعاً وأعمق إمتاعاً.
10- غياب النبوءة، أو ما يمكن أن يسمّى الاستشراف في الفن، على نحو
ما هي عليه الحال مثلاً في بعض قصص نجيب محفوظ، هذا الذي كتب رواية (ميرامار)
متنبئاً فيها بهزيمة عام 1967، ثم عاد وكتب رواية "حب تحت المطر" مُرهصاً
بها بحرب تشرين التحريرية عام 1973. وعلى نحو ما في رواية "المخطوفون" لعبد
الكريم ناصيف التي استشرف فيها اشتعال نار الانتفاضة ضد العدو الصهيوني عام
1987.
11- الاهتمام باللغة المحكية، والإكثار النسبي من اللهجة العامية في
الإبداعات المبكرة. والحق أن الكاتب قد تحرّر من هذه الظاهرة في رواياته
المتأخرة وقصصه اللاحقة. ومن المعروف أن تخلل العامية في الإبداع القصصي
أمرٌ غير مُسْتَنْكَر، من حيث المبدأ، ولكن الإكثار منه هو الذي ربما يثير
الملاحظة، ثم الاحتجاج. فليس من الواقعية في شيء أن ينطق الكاتب شخوصه
باللغة المحلية المحكية، وخاصة أنه كاتب قومي يتعاطى مع موضوع يهمُّ العرب
أجمعين. فهو، إنْ فعل ذلك، سيحدُّ من نطاق الدائرة التي يقرأ فيها أدبه.
والعربي في المغرب العربي، وفي بعض الأقطار الأخرى، قد لا يفهم بدقة كل
اللهجات العامية في الأقطار العربية الأخرى، ولا يعرف سياقاتها، ولا
مدلولات الأمثال فيها، الأمر الذي يحول دون عمق التواصل مع الإبداع، ودون
الفهم الأشمل والأعمق لدقائق القصة وجزئيات الحوار.
وإني لأرى أن القاعدة في هذا الباب هي ألا تزيد نسبة العامية إلى
الفصحى عن نسبة الملح إلى الطعام.
12- الخطابية وهي سمة نطالعها بوضوح مثلاً في رواية "متى يعود
المطر" وفي رواية "عرس فلسطيني" وفي "آخر مَنْ شُبّهَ لهم" والأمثلة على
ذلك كثيرة، نسوق منها مثلاً واحداً من الرواية الأخيرة للكاتب، ففي (مخيم
جباليا) يقف الخطيب الفلسطيني الذي يبشر بالانتفاضة ليقول (ص222):
"يا أهل جباليا يا شعب فلسطين الصامد في معركة التحرير منتصراً بإذن
الله، على عصابة الصهيونية الباغية، إن لم يكن قد اتسع جامع مخيم جباليا من
أجل أدائكم صلاة جمعةِ هذا اليوم الفضيل من رمضان فيه، فاخترتم لأدائها
ساحة الشهيد غسان كنفاني الواسعة، فإني مُسْتَبْشِر بذلك ومُهلّل ومكبّر،
الله أكبر الله أكبر، وما ذلك إلا لأني إذْ أراكم وقد ملأتم هذه الساحة
كلها، فلم يبق فيها شبر واحد إلا وهو عامر بإرادة التحرير، أشاهد من
المستقبل يوماً لا يبقى فيه من كل أرض فلسطين، مقدار شبرٍ واحدٍ إلا وقد
حررتموه من احتلال الصهاينة الغاصبين".
ثم نسمع من الكاتب (النحوي) قوله على لسان مجهول فلسطين المارد
العملاق قوله:
"يا شعبنا الصابر على المصائب يداً تمسك بالجرح النازف، ويداً تقاتل
العدو الغاصب، إني أرى من هذه المنصة شهداء فلسطين يحيطون بهذه الساحة من
كل جانب- (آخر مَنْ شُبّهَ لهم ص333) (وانظر أيضاً إشارة شكري الماضي إلى
هذه الظاهرة في مقالته عن الكاتب في مجلة المعرفة السورية العدد 265).
وبعد فإن ملاحظاتي السابقة حصيلة قراءة غير طويلة لإبداع هذا
الكاتب. وما هي إلاّ نقاط قابلة للنقاش، ولعلّ مناقشتها تُفْضي إلى تركيزها
أو تعديلها. وفي كل ذلك خير للنقد، وخير للإبداع، اللذين لا نريد لهما إلا
أن يكونا في أحسن حال وأفضل مآل.
*المؤلِّف
في سطور
- د. عادل الفريجات: ولد في خبب بمحافظة درعا عام 1949.
- مدرس بجامعة دمشق، وعضو في اتحاد الكتّاب العرب.
- ناقد أدبي، وباحث في التراث العربي.
- مُقرِّر جمعية النقد الأدبي في اتحاد الكتاب العرب للعام 2002.
- لـه عشرة كتب مطبوعة، وثلاثة مخطوطة.
- نشر ما يربو على أربعمئة بحث علمي ودراسة ومقالة صحفية.
- شارك في العديد من المؤتمرات النقدية والندوات الأدبية والعلمية
داخل القطر العربي السوري وخارجه.
صـدر للمؤلف
1-إضاءات في النقد الأدبي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب. 1980/ ط1،
دمشق دار أسامة 1985/ ط2.
2-الأوائل، لأبي بكر تقي الدين بن زيد الجراعي الحنبلي، دمشق
وبيروت، دار الإيمان 1988 (تحقيق).
3-خمسة إشكالات نقدية، دمشق، دار دانية 1989.
4-بشر بن أبي خازم الأسدي، بيروت، دار الجيل 1991.
5-الشعراء الجاهليُّون الأوائل، بيروت، دار المشرق 1994.
6-دراسات في المكتبة العربية التراثية، دمشق، دار النمير 1997/ ط1،
ودمشق دار علاء الدين 1999/ ط2.
7-مرايا الرواية- دراسات تطبيقية في الفن الروائي، دمشق، اتحاد
الكتاب العرب 2000.
8-وللكتابة وَجْهٌ آخر، دمشق، دار طلاس 2000.
9-قرية من حوران: خبب- سكاناً وعمراناً وثقافةً، دمشق, دار نينوى
2001.
10-النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سورية- مجموعات وكتَّاب، دمشق
اتحاد الكتاب العرب 2002.
|