شعر الانتفاضة في
البعدين الفكري والفني
بقلم الكاتب:
ناهض حسن (فائز العراقي)*
الإهداء
إلى شعب الحجارة والمستحيل الذي أعاد لأمتنا العربية بعض بريقها، ومجدها
الغابر.
إلى الطفل الفلسطيني، إلى الأم الفلسطينية الباسلة. إلى دم الشهيد الذي
سيزهر نصراً مؤزراً يكلل فلسطين وأمتنا بالمجد والخلود.
المقدمة
يلعب الأدب كأحد أشكال الوعي الاجتماعي المتميزة دوراً هاماً
وأساسياً في تعبئة وتحريض وتثوير الشعوب والأمم التي تناضل من أجل انعتاقها،
وفي صياغة الوجدان الشعبي العام، وبلورة الوعي الثوري والحضاري لدى
الجماهير، هذا بالإضافة إلى وظيفتهِ الجمالية باعتبارهِ قيمة فنية مضافة
للحياة تساهم في إعادة صياغتها وإنتاجها جمالياً.
وقد لعب الشعر بوصفه أحد الأجناس الأدبية دوراً كبيراً في تشكيل
الهوية الحضارية لأمتنا العربية على مر العصور، القديمة والحديثة، وليس أدل
على أهمية الشِعر في تاريخنا العربي من وصف أمتنا بأنها أمة شعر.
والكتاب الذي أضعه بين يدي القارئ الكريم، هو رصد لظاهرة شعرية
جديدة أطلقنا عليها اسم: (شعر الانتفاضة) وهي امتداد واستمرار لشعر
المقاومة الفلسطيني والعربي.
* الفصل الأول من الكتاب تناولنا فيه بعض النماذج الشعرية العربية
التي عبرت عن الانتفاضة الفلسطينية الباسلة التي فجرها أبطال الحجارة في
داخل الأرض المحتلة.
وقد تناول هذا النقد النص الشعري في مستوييهِ الفكري والفني.
* أما الفصل الثاني والأخير من الكتاب: "ظاهرة الشعراء الشباب/
نماذج مختارة.". فهو عبارة عن نصوص شعرية لثلاثة من الشعراء الشباب
الفلسطينيين.
وقد تم اختيار هذه النماذج باعتبارها من النصوص الشعرية الإبداعية
المتميزة التي عبرت عن هذا الحدث البطولي العظيم -الانتفاضة-.
وفي هذا المجال نود أن نؤكد على أن اختيارنا لهذه النماذج جاء بعد
قراءة العديد من النصوص الشعرية التي كتبها شعراء شباب عرب -أي التي وقعت
بين أيدينا فقط- وليس كل ماكتبه هؤلاء.
وهذا يفتح الباب أمام احتمال وجود نصوص أخرى تضاهي النصوص التي قمنا
باختيارها، أو تتجاوزها من الناحية الفنية والإبداعية.
* ثم توصلنا بعد ذلك إلى بعض الاستنتاجات النقدية العامة، والتي لا
ندعي أنها كلّية الصحة، أو أنها تحتكر الحقيقة المطلقة، بل هي وجهة نظر
نقدية استندت على رؤية معينة، وانطلقت من زاوية تناول محددة.
والقضية برمتها تخضع للاجتهاد، وتعدد الآراء والإضافات المتعددة، بل
وحتى للتقاطعات والاختلافات في الرؤية والمنهج وطريقة التناول.
في الختام، آمل أن تكون الجهود التي بذلتها في تأليف هذا الكتاب، قد
قدّمت خدمةً للحركة الشعرية العربية الحديثة، وللثقافة العربية عموماً.
فائز العراقي.
الفصل الأول
نماذج من شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني
إذا كان من المبكر الحديث عن تبلور متكامل لظاهرة أدبية حديثة
سميناها بـ "أدب الانتفاضة" وذلك ارتباطاً بالانتفاضة الفلسطينية الباسلة
التي فجرها أبناء الشعب العربي الفلسطيني داخل الأرض المحتلة في عام 1988،
وقد غدا هذا الحدث التاريخي الثوري الهام واحداً من أهم الأحداث في تاريخ
نضال أمتنا العربية المعاصر، إذا كان من المبكر الحديث عن ذلك، وخاصة فيما
يتعلق ببعض الأجناس الأدبية- كالرواية مثلاً- التي تحتاج إلى فترة زمنية
طويلة نسبياً، أو إلى فترة تاريخية كاملة أحياناً لظهورها وولادتها، فإنه
ليس من المبكر الحديث عن ظاهرة: "شعر الانتفاضة"، لأن الشعر كجنس ولون أدبي
له خصوصيات أخرى تجعله أكثر وأسرع في الاستجابة للحدث -والحديث هنا على وجه
العموم، لأن بعض الأعمال الشعرية، كالروايات الشعرية، والقصائد الملحمية
ذات الطابع الدرامي، مستثناة من حديثنا، فهي تحتاج أيضاً لكتابتها إلى فسحة
زمنية طويلة نسبياً-، من هذا المنطلق يمكن الحديث عن تبلور ظاهرة شعرية
جديدة في الشعر العربي الحديث، ألا وهي: "شعر الانتفاضة"، ونعني بها تلك
الأعمال التي تم تكريسها لإبراز الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة:
واقع الحدث ودلالاته، جذره التاريخي، عوامل التفجير، قواه المحركة، ثم
آفاقه الممكنة وتحولاته، وذلك من خلال قدرة الشاعر الرؤيوية لتَشوِّف الآتي
وقراءة المستقبل القريب والبعيد.
وبدهي أننا حينما نتحدث عن هذا الحدث لا نطالب الشاعر بعكس الواقع
فقط، أو حتى تغييره، بل إن ذلك يفترض قدرة الشاعر على الكشف والفتح
والاستشراف من خلال تمكنه من أدواته الفنية، وامتلاكه لرؤية فلسفية عميقة،
وقدرته على كتابة نص شعري إبداعي متميز يحفل بالقيم الجمالية والإبداعية
التي هي في النهاية المقياس الأهم لمدى نجاح العمل الفني وسموه.
وهذا لا ينفي طبعاً دور العامل الفكري والسياسي التحريضي للتعبير
عن مثل أحداث تاريخية كالانتفاضة، فكلا العاملين، يترابطان ترابطاً عضوياً
جدلياً، ومن محصلة تفاعلهما وتلاحمهما ككلٍ واحد نقطف ثمرة العمل الإبداعي.
إضافة إلى هذا، فإن هذه الظاهرة الجديدة لا تشكل انقطاعاً عن شعر
المقاومة الفلسطيني، بل هي امتداداً له، لكنها تمثل حالة نوعية أخرى لها
خصائصها وسماتها الخاصة.
إن مايثبت ولادة هذه الظاهرة: "شعر الانتفاضة"، هو توفر نتاجات
شعرية عربية كثيرة عكست هذا الموضوع وتفاعلت معه، وهذا لا يعني بأننا نمنح
جواز مرور لكل هذه النتاجات، وذلك من حيث قيمتها الإبداعية، والفنية
والفكرية، وكما يقال فإن -في كل كم نوع- وشعر الانتفاضة لم يخل من هذا
"النوع" الشعري المتميز إبداعياً.
كما أن بعض الشعراء العرب الذين أثبتوا حضورهم الشعري على مدى
العقود الأخيرة كانوا قد تفاعلوا مع هذا الحدث، وكتبوا عنه، ومنهم على سبيل
المثال لا الحصر: سعدي يوسف، محمود درويش، مظفر النّواب، نزار قباني، سميح
القاسم، عز الدين المناصرة... الخ، علماً أننا لانضع هؤلاء الشعراء في خانة
واحدة، فلكل منهم خصوصيته وتميزه، ومكانته الفنية في الشعر العربي الحديث.
السؤال المطروح هنا: هو إلى أي مدى استطاع هذا الشعر -حتى الآن-
الارتقاء إلى مستوى هذا الحدث التاريخي الهام؟! وهل المستوى الإبداعي
والفني لهذه الأعمال الشعرية استطاع أن يُوازيه في ضخامتهِ وحجمِ تأثيره؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، نحن لا ندعي الإحاطة الشاملة بكل ما كُتب
شعرياً عن الانتفاضة، ولكن ماتوفر لنا من نصوص شعرية يمكن أن يُسهم إلى حد
معقول في إعطاء إجابة أولية، وسنرجئ الجواب المذكور بعد إبداء الملاحظات
النقدية حول بعض النماذج الشعرية، حيث يمكن بعدها الحديث عن استنتاجات
نقدية عامة كشفت عنها هذه القصائد.
*نزار قباني / سورية:
الشاعر العربي السوري المعروف نزار قبّاني أحد الشعراء الذين كتبوا
عن الانتفاضة عدة نصوص شعرية: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر، والغاضبون،
وأطفال الحجارة". تتميز هذه القصائد الثلاث عموماً بطابعها التحريضي
والتعبوي، وبقدرتها على كشف زيف غالبية الأنظمة العربية التي تاجرت بالقضية
والثورة الفلسطينية من أجل ديمومتها واستمرارها، هذه الأنظمة التي اكتفت
بالتطبيل والزعيق ورفع الشعارات البراقة، ولكنها مارست عملياً كل مامن
شأنِه خنق الانتفاضة ووأدها خوفاً من انتقال جذوتها إلى عروشها المهترئة
وحرقها.
-1-
في قصيدته العمودية، "الغاضبون" يقول نزار:
ياتلاميذُ غزة لا تبالوا
بإذاعاتنا ولا تسمعونا
اضربوا... اضربوا بكلِ قواكمِ
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحنُ أهل الحسابِ والجمعِ والطرحِ
فخوضوا حروبَكم واتركونا
إننا الهاربونَ من خدمةِ الجيشِ
فهاتوا حبالكم واشنقونا(1)
جرأة في الطرح، ورؤية صحيحة للأحداث، وكشفٌ حقيقي للواقع الذي تمر
به أمتنا العربية.
ولكن هل الارتباط بالواقع، والتعبير عنه، ومحاولة تغييره، يكفي
للتدليل على مدى إبداعية النص الشعري والأدبي عموماً؟!
إن واحدة من أهم وظائف الشعر هي إعادة صياغة الواقع جمالياً، ويتم
ذلك بامتلاك الوسائط الفنية التي هي وحدها قادرة على الارتفاع بالنص إلى
مصاف السامي والخالد، إلى عالم الابتكار والدهشة.
من هنا، هل استطاع شاعرنا العربي الكبير نزار قبّاني في قصائده
الثلاث المذكورة نقلنا إلى عالم الفن السحري الزاخر بالقيم الجمالية لاسيما
وهو الشاعر الذي شكّل في شعرنا العربي علامة بارزة لايمكن إغفالها؟! نقول
ذلك بغض النظر عن نقاط الخلاف أو الاتفاق معه سواءً كان ذلك من الناحية
السياسية أو الفنية أو مع طريقتهِ الخاصة في التعامل مع الأحداث، المهم أنه
صاحب القصيدة "النزارّية" ذات النكهة الخاصة والمتميزة، حيث الغنائية
العذبة وسلاسة اللفظ ورشاقتهِ، ووضوح المعاني... الخ.
من الصعب إصدار حكم قيمة نقدي نهائي على قصائد نزار الجديدة، ونحن
نحاول مقاربة النص نقدياً من الناحية الجمالية، بعد أن تحدثنا عن دوره
التثويري والتحريضي.
فقصيدته: "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر(2) أدخلت من عنوانها الشعر
في عالم الكيمياء، وإن كان ذلك "كيمياء الحجر"، حيث الحجر كأداة ورمز صراعي
استخدمتْه الأجيال الفلسطينية الشابة الثائرة ضد عدو غاصب مدجج بآلة الدمار
الجهنمية.
القصيدة عموماً لم تشكل إضافة جديدة لمجمل نتاج نزار الشعري، وقد
تراوحت بين الهبوط والعلو "النسبي" من الناحية الفنية.
لغة الشعر هنا غالباً مكرورة ومُستهلكة، وهي لغة تجاوزتها الحداثة
الشعرية العربية في بعض نصوصها:
"سنبلتين، ثديين، فنجانين"، ويبدو أن شاعرنا نزار لايريد الخروج من
جلدهِ الشعري القديم، وفتح آفاق جديدة لقصيدتهِ.
كما أننا نشعر بأن التزام الشاعر بالقافية -عموماً- قد حدَّ من
انطلاقة الشاعر وقيد توهجَه الشعري "نصفين/ يدين/ عينين/ شفتين/"، حتى أننا
لانعرف هل استخدام الشاعر لاسم "الاسكندر ذي القرنين" جاء بشكل انسيابي،
وضمن السياق الشعري، أم جاء لضرورة القافية؟!
ونزار في هذه القصيدة شاعر صنعة، أكثر منه شاعر انسياب، ويبدو أن
الفكرة تملكتْهُ وأراد التعبير عنها دونما إيلاء اهتمام كبير للجانب الفني
في قصيدته، بعبارة أخرى إن الإحالة تتم هنا من الواقع -إلى الفكرة، وليس من
الواقع- إلى الصورة، أو من الفكرة- إلى الصورة، فلنقرأ له هذا المقطع:
" وينهي عصرَ الحشاشين
ويقفل سوقَ القوادين
ويقطع أيدي المرتزقين".
وكذلك قوله: "ويسقط ولدٌ/ في لحظاتٍ/ يولدُ آلافُ الصبيان/".
لسنا هنا بصدد مناقشة صحة هذه الآراء، وكذلك ضرورة كشف الزيف في
واقعنا العربي، نحن في هذا مع الشاعر في منطلقاتهِ الفكرية، ولكن مايضعف
فنية القصيدة هنا هو وقوعها في فخ الكلام العادي الذي يخلو من ألق الشعر
وومضه، وفي لغة التقرير والخطاب السياسي.
وأستاذنا نزار يستند في صنعتهِ الشعرية إلى تاريخ شعري قديم يتجاوز
الأربعين عاماً، مع طول الدِربة والمران الشعري، ولكن كل هذا لا يكفي إذا
لم يتجاوز الشاعر ذاته الفنية، ويحاول ارتياد مساحات فنية إشراقية جديدة
باستمرار.
ومع كل ماتقدم فالقصيدة لا تخلو من توهجات فنية هنا وهناك، من صور
شعرية مبتكرة وجميلة تشدنا إلى الخالد في الشعر:
"تأتي غزّةُ في أمواجِ البحرِ
تضيء القدسَ كمئذنةٍ بين الشفتين
يركب فرساً من ياقوتِ الفجرِ".
وبعض الصور المدهشة الأخرى:"تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطن في
العينين/ وقوله: ينفض عن نعليهِ الرمل/ ويدخلها في مملكة الماء.. وقوله:
تطفو عكا فوق الماء/ زجاجة عطر/ وقوله: من هو هذا الولد الطالع مثل الخوخ
الأحمر من شجر النسيان....الخ".
ثمة ملاحظة أخرى تتعلق بالتكرار غير المُستَساغ والذي يدل على عدم
استنفار ملكة الخيال وإطلاق طاقاتها الخلاقة، يقول نزار في قصيدته ذاتها:
"تظهر أرض فوق الغيم/ ويولد وطنٌ في العينين/، وفي موضع آخر من القصيدة
يقول: يدخل وطنٌ للزنزانةِ/ ويولدُ وطن في العينين/.".
الصورة الأولى جميلة وفيها يناعة الشعر وطراوته وألقه، ولكن ما الذي
يدفع الشاعر إلى تكرار الصورة نفسها مرتين: "يولد وطن في العينين"؟!.
نحن نعزو ذلك إلى الخيال -كما أسلفنا- وللتأكيد على أهمية الخيال
ودوره في الشعر باعتباره مصدر وينبوع الصورة الشعرية، نورد هذه الفقرة
لكولريدج الذي يعرّف الشاعر بقوله:
" فهو الذي يطلق روح الإنسان جميعها إلى النشاط الحي، وهو يُشيعُ
نغماً وروحاً يمزج ويصهر الملكات إحداها بالأخرى بتلك القوة السحرية التي
لا أسميها إلاّ الخيال وحده.
إن هذه القوة تكشف نفسها في توازن الصفات المتنافرة، وإشاعة
الانسجام بينها... حالة عاطفية غير عادية، وتنسيق فائق للعادة"(3).
ومع كل ذلك فإن ملاحظاتنا النقدية لا تدعي احتكارها للصواب، بل هي
وجهة نظر نقدية، ربما تأتي أخرى لتنفيها، خصوصاً ونحن نتناول قصائد أحد
أعمدة الشعر العربي الحديث، هذا الشاعر الذي ترك بصمات واضحة على مسيرة
الحداثة الشعرية العربية، ولكن صرامة النقد الموضوعي تُوجه غالباً إلى
الذين ساهموا في تأسيس الشعرية العربية الحديثة، وامتلكوا خبرة فنية
متراكمة على مدى العقود السابقة، لا إلى الشباب الذين مازالوا في بداية
الطريق.
*سعدي يوسف / العراق:
الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف كتب عن أبطال الحجارة قصيدة
بعنوان: "إنه يحيى"(4). تميزت هذه القصيدة بشدة تكثيفها، ولغتها الإشراقية
الفنية الموحية، بصورها الحسية المبتكرة، وتفاصيلها اليومية الحميمة.
"يحيى" هو رمز المناضل الفلسطيني المقاتل، المناضل- الشهيد، والفتى-
الشهيد.
وهو الرمز الحي الذي لم يمت، لقد تحول إلى طاقة ثورية فعالة تعيش في
أرواحنا وضمائرنا. وهو موجود في كل مكان:
في البراري، وفي الماء، في رايات الثوار التي تنتشر في الأرض، في
الشوارع، وفي كل بيت فلسطيني وعربي.
لنقرأ للشاعر هذا المطلع الدال:
"رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات
يحيى في البراري
في قطرة الماء التي انسكبت على قدمين
وانسربت بأفئدة الصغار
راياتُ يحيى تعبر الأنهارَ والطرقَ التي اكتظت
وتدخل في منازعنا، مضرجةَ السِرار
من بيت إبراهيم
من عبد الرحيم
وماء رام اللّه تأتينا:
أغزةُ هاشمٍ في البرقِ
أم هذي كتائبنا مدججةً تلوح مع الدراري؟!".
في المقطع الثاني يتنامى الفعل الدرامي عبر تأجج الحالة الثورية
لدى المناضل - الشهيد يحيى، ابن المخيم الذي يتمازج غضبه مع غضب الأرض
و"احتقانها". كلمة "الاحتقان" تدل هنا على تراكم القهر والقمع التاريخي
الذي أصاب الشعب الفلسطيني عبر مراحل تاريخية كاملة، إلى أن يجيء "يحيى"
ليدحو" الأرض و"يبرؤها" ثم يعدها للصراع والفعل الثوري، يعدها لكي تكون
قذيفته المضادة لنار الغزاة وقمعهم.
وترتقي حالة يحيى، ويتحول إلى مصدر لتوالد الثورة وديمومتها "يُنبت
الأحجار"، بل هو يجعل من "سواعد" المناضلين "مقاليع" ووسائل كفاحية، ومن
أصابعهم دم الثورة وزيتها المستمر.
ما يُدهشنا هنا هو أن الشاعر استعار "النبوة" للمقلاع بدلاً من
الحجر، بقوله: "يجعل من سواعدنا مقاليع النبوة"، بدلاً من أن يقول: "يجعل
من سواعدنا مقاليع للحجارة". هنا أصبحت "النبوة" رديفاً "للحجر - الثورة"
والجملة الشعرية هنا تفسح المجال لإمكانية التأويل، فيمكن القول مثلاً بأن
الشاعر استخدم الحجر كرمز كفاحي، واستخدمه أيضاً كرمز "للنبوءة"، إنها
نبوءة أبطال الحجارة الذين يكتبون لأنفسهم ولأمتهم عصراً جديداً آخر،
وفجراً جديداً يبدد حالة القمع والمعاناة السابقة، ويؤرخ لعصر الحرية-
الإنسان: "رايات يحيى، ثوبُكَ المنخوب بالطلقاتِ/ يحيى في المخيم/ يرفع
الأرض التي احتقنت/ ويدحوها، ويَبْرُؤُها، ويقذفها بوجه النار/ يحيى ينبت
الأحجار/ يجعل من سواعدنا مقاليع النبوّةِ/ من أصابعنا دم الثوار/".
ثم يصف الشاعر "يحيى"، "بالجمرة" التي لا تتوقد وتشتعل إلاّ بجمر
الثورة والكفاح: "يالفحَ الفتوةِ/ أيها الجمرُ الذي لا يغتذي إلاّ بهذا
الجمر/".
ويختتم قصيدته بحالة رائعة ينصهر فيها الـ "هو- الشهيد" بالـ "نحن-
الشهداء"، أو الـ "هو- المناضل" بالـ "نحن- المناضلون"، ثم يضفي الشاعر على
حركة يحيى "وتقدمه" الثوري صفة "القدسية". ويؤكد على أنه "الملك" الحقيقي
الذي ينبغي أن يقود "بلاد الله" التي تأتي هنا رديفة "لفلسطين"، وتنتهي
القصيدة بالفعل "خذنا"، وهي نهاية مفتوحة، إلاّ أن كامل السياق الشعري
يقودنا للقول بأن الشاعر يقصد "خذنا للكفاح، خذنا للشهادة".
فلنقرأ له خاتمة القصيدة: "ياولدي/ سلاماً أيها المتقدمُ القدّوس/
ياملكاً يسيرُ مخضب الرايات/ يايحيى/ سلاماً.../ خذ، كما تهوى، الشوارعَ/
خذ بلادَ الله مملكةً/ فلسطيناً/ وخذنا....".
الشاعر سعدي يوسف مولع بذكر الأمكنة والأسماء والتفاصيل العادية أو
الأسطورية: "إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله، غزة، هاشم......الخ"، إلاّ أن
مايميزه من الناحية الفنية هو قدرته على نقل العادي والمألوف إلى مصاف
الفني -المدهش، وقد تجسد ذلك بنقل المشهد العادي الذي شكلته هذه الأسماء
والأمكنة:
"إبراهيم، عبد الرحيم، رام الله...." إلى الفني المتألق بقوله:
"أغزّةُ هاشمٍ في البرق"، إن التصعيد الفني جاء هنا في اندغام غزة وبني
هاشم في البرق أي في حالة السطوع الثوري، حالة الإخصاب الذي يشير إليه رمز
"البرق" باعتبارهِ بشارة المطر والإخصاب والخير.
وفي جملته الشعرية: "يحيى في البراري/ في قطرة الماءِ التي انسكبت
على قدمين/ وانسربت بأفئدة الصغار". تتجسد لنا الطاقة التحولية والحركية في
النص. فالطاقة التحولية تتجلى في تحول الرمز المناضل "يحيى" وحلوله في قطرة
الماء، الماء رمز الحياة والخصب، ثم في انسرابهِ بأفئدةِ الصغار، يلعب
الماء هنا دور الشافي الذي يشفي غليل الأطفال. أما الطاقة الحركية فتتجلى
في الفعلين: "انسكب" و"انسرب"، حيث مثلا حالة الانسياب والليونة وأضفيا
حالة حركية على كامل المقطع الشعري.
ثم يتألق سعدي فنياً في صورتهِ الشعرية المبُتكرة: "يرفع الأرض التي
احتقنت/ ويدحوها/ ويبرؤها، ويقذفها بوجه النار/".
وهي صورة حسية مركبة تتمازج وتتلاقح فيها عدة ظواهر حسية هي:
"الأرض المحتقنة" و"يدحوها" و"يبرؤها" و"النار".
يستخدم الشاعر في هذه القصيدة العديد من الأساليب الفنية الشعرية:
الوصف: "رايات يحيى، ثوبك المنخوب بالطلقات"، و"المونولوج": "أغزُة هاشم في
البرق"، و"النداء": "ياملكاً يسير مخضب الرايات"، و"التصوير الحسي: "يجعل
من سواعدنا مقاليع النبوة"، وأخيراً: "التلوين": الذي يتجسد بأبهى تجلياته
في قوله: "درعُهُ كوفيّةٌ /رقطاء/ وثبتُه براقٌ أزرقٌ/ وسماؤه صفراءُ....".
تتداخل هنا وتتمازج ثلاثة ألوان في مشهد شعري واحد: المرّقط، والأزرق،
والأصفر، لتشكل لنا مشهدا حسياً- لونياً- بصرياً رائعاً وكأننا إزاء لوحة
تشكيلية تضج بالحياة والإبهار والدهشة.
*عز الدين المناصرة / فلسطين:
يمكن اعتبار قصيدة الشاعر العربي الفلسطيني عز الدين المناصرة:
"يتوهج كنعان"(5) واحدة من أهم القصائد العربية التي كتبت عن الانتفاضة
الفلسطينية، ومن أكثرها تميزاً على الصعيدين الفني والفكري.
منذ عنوانها تطالعنا هذه القصيدة بتباشير النصر المؤزر مُستندةً إلى
الرمز التاريخي الكبير "كنعان". الفلسطينيون من أصل كنعاني وينتمون إلى
جدهم الأكبر: "كنعان"، وتشير التنقيبات الأثرية، وكذلك المصادر التاريخية
المختلفة بأن الكنعانيين واليبوسيين قد سكنوا فلسطين منذ قرابة "5000" خمسة
آلاف عام. واليبوسيون هم قبيلة من الكنعانيين جاؤوا من الجزيرة العربية
واستقروا في مدينة "القدس" أرض كنعان في فلسطين، وكذلك في جنوب سورية
ولبنان. تتكون بنية القصيدة العامة من ستة مقاطع شعرية. تترابط هذه المقاطع
بشكل مدروس بعناية فائقة، وهذا يؤكد بأن شاعرنا المناصرة قد خطط وصمم
الهيكلية العامة للقصيدة وقام ببنائها بعين "المهندس" الخبير المتمكن من
أدواتِه الفنية والمستند إلى خبرة متراكمة تعود إلى حوالي ثلاثة عقود.
لم يستند الشاعر إلى عنصر "الصنعة" فقط في عملية البناء الشعري،
بل زواجَه مع عنصر "الانسياب" والتدفق الشعوري، ولولا هذا التزاوج المدهش
لفقدت القصيدة عفويتها وانسيابيتها وتدفّقها العاطفي. ويمكن القول بأن كلا
العنصرين المذكورين:"الانسياب والصنعة"، قد تزاوجا وتلاقحا بشكل فني وكلي،
وأنتجا لنا هذه القصيدة الدرامية الطويلة.
يفتتح الشاعر المقطع الأول من قصيدتهِ بالفعل المضارع "أحاول" وهو
أحد لازمتين شعريتين يرتكز عليهما البناء الشعري- كما سنبين لاحقاً-.
ويمكن أن نطلق على هذه اللازمة "أحاول" وصف: اللازمة- الفتح، أي أن
مهمتها كانت فتح الآفاق أمام القصيدة والمساعدة على نمو فعلها الدرامي من
الداخل بالتآزر مع عناصر أخرى. والفعل "أحاول" يشير إلى أن حركة القصيدة
تبدأ من الزمن الحاضر ثم تنتهي به أيضاً من خلال الفعل المضارع "يتوهج"
الذي يربط بين "الآن" و"الآتي"..
وكما يبدو فإن الشاعر أراد من خلال الفعل "أحاول" الابتعاد عن
اليقينيات الجاهزة والمطلقة، فهو يتحدث عن "الممكن" أو "الإمكان" في الفعل
الانساني بشقيه: الثوري، والإبداعي. أي الممكن الثوري والممكن الشعري.
يحاول الشاعر في مطلع قصيدته الإمساك بخاصرة "البحر" الذي رآه
وتخيله "قرمزياً" لذا فإن البحر يرمز دلالياً هنا إلى الثورة والخلاص.
"رؤيا" الشاعر أرادت ذلك، بالرغم من أنها تؤكد بأن البحر "كذات" هو رمز
للحلم والربيع والشفافية. لنقرأ له هذا المطلع البهي، بلغتهِ الفنية
المُشرقة، وصورهِ اللّماحة والمبتكرة:
"أحاولُ أن أمسكَ البحرَ من خصرهِ القرمزّي
أراهُ كذلك، لكنه يشتهي أن يكونَ ربيعاً لكي يعجب الآخرين.
بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصلُ العاشقين.
وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم
مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ.
أحاولُ يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ كالبحرِ
مريمُ أفريقيا في الفضاءِ تمد ذراعاً لوهرانَ.
يختبئون وراءكِ كي لا يروا مريمِ التلحميةِ
أو مريم الانتفاضة أو مريم المريمية
مريم أفريقيا لم تطابق بهاء الأصولْ
وكذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك ندٌ لروما
أما زلتِ يامهرةً تركضين، يتابع جريكِ
هذا المدارْ".
يحاول الشاعر في المقطع الأول أن يرسم صورة ناطقة للطبيعة، صورة
-مُتخيلة. يستدعي بحرارة البحر في فلسطين، يستدعي عكا المحاصرة، والقدس
السليبة. المشهد الطبيعي يتكون من العديد من العناصر، وأهمها: البحر
"القرمزي"، والنوارس، والأشجار، والتلة "القرمزية أيضاً!!"، والفرس الحجري،
والنجوم المسافرة، وشمس الأصيل، والتينة المقدسية، والحمام.
يسعى الشاعر من خلال تركيب هذه العناصر إلى بناء طقس شعري، إلى
إضفاء روح الشعر على هذه العناصر من خلال تآلفها وتمازجها. بعبارة أخرى
يسعى إلى شعرنة الواقع وتفاصيله الحية:"وكانت تحوم النوارسُ، تملؤني غبطة
والنجوم/ مسافرةٌ قرب شمس الأصيل".
وهو يحاول تذكر "الفرس" رمز العنفوان والجموح والثورة، ويسبغ عليها
صفة الحجر إشارة إلى الانتفاضة: "يافرساً حجرياً على التلةِ القرمزيةِ
كالبحر". ويتخيل "التلة" التي تكون مرتعاً للفرس الجامح. التلة المتخيلة
ذات لون قرمزي كالبحر، وهو رمز الثورة أيضاً.
وترد الانتفاضة مرة ثانية في هذا المقطع، وبشكل مباشر من خلال
قوله: "مريم الانتفاضة".
عملية الاستذكار لم تكن سهلة، والشاعر في عودتِه إلى الذاكرة الأولى
يعاني من هروب وفلتان العناصر الطبيعية - وخاصة البحر- بين يديه، ويشبه
هروب البحر الفلسطيني كهروب النساء بين يديه، أو مثل هروب حقول القطار.
يتذكر "صخور البحر الذي يأوي الحمام إليه"، أما أروع تصوير يبلغهُ
فهو تذّكُرُهُ "للتينة المقدسية": تشبيه حسي بارع يدل على امتلاك الشاعر
لمخيلة خصبة ومُحلقة.
سيقان التينة ناصعة كالبللور، أما شروشها فتشبه أعصاب جده.
هكذا يؤكد المناصرة عمق ارتباطهِ، وارتباط شعبه بالأرض من خلال
"أعصاب" الجد التي تتغلغل في مسامات التراب، في أعمق أعماق التربة، لتتفتح
شروشاً وأغصاناً وثمراً طيباً.
وتكون الرحلة من "التينة المقدسية" إلى "تينة قلب الشاعر" التي
حينما يتذكرها يجفل ويصيبه الذهول و"يهرب منه الكلام"، وثمة تواشج بين
التينة المقدسية وتينة القلب، إنه تواشج العام بالخاص، جدل التلاحم بين رمز
الكينونة الأول: "الطبيعة الأم" وبين ناتجها وابنها. ومن ثم يوجه الشاعر
السلام إلى "التينة المقدسية"، أي السلام من المُكوَّن إلى المُكوِّن.
لنقرأ له هذا المقطع الشعري الذي يدل على ماذهبنا إليه: " أحاول أن
أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيّ مثل حقول
القطار./ وأركضُ: أنظر حجاجاً من الصخر يأوي الحمام إليه من البحر والتينة
المقدسية: بلّور سيقانها يصل المتوسط./ أما الشروشُ فأعصاب جدّي ويهربُ مني
الكلام إذا ما اصطدمتُ بتينةِ قلبي/ عليها السلام".
ولأن استعادة البحر- الحقيقة، البحر- الوطن، غير ممكن في اللحظة
الراهنة، أي لحظة التفجر الشعري، فإن الشاعر يستنجد بالخيال، وبالذاكرة
الأولى لكي يحقق هذه الاستعادة. لذلك وكنوع من التعويض عن فقدان البحر-
الوطن، أو نوع من أنواع تحايل الخيال -إذا جاز هذا التعبير- تلجأ مخيلتهُ
إلى اختراعِ "البحر". إنه بحر مركب بشكل ذهني تنتجه مخيلة مبدعة تتمتع
بقدرة تركيبية وتجريدية عالية. فالشاعر يخترع البحر ثم يشكله كما يريد
مُدخِلاً عليه العديد من العناصر.
البحر الجديد المتخيلَ هو "البحر العربي" المتشكل من القدس والشام
وبيروت، لنقرأ هذا المقطع الدال: "سنخترع البحرَ ثم نرشُ عليه البهارَ
ونجلب من جبل الشام أقمار غوطتها ومن القدس صخرتها، من ضلوعك بيروت روشتك
القرمزية ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبك يابحرُ-/، أحجارك
المرمرية، ننشرها فوق حبل الغسيل".
ينتهي المقطع الأول، بحالة وداعية حزينة، حالة المنفيين الذين
يغادرون أرض وطنهم، يغادرون مدينة عكا وقلعتها البحرية التي صارت: "مأوى
قراصنة البحر" ولم يبقَ فيها "غير السجون"، يؤشر الشاعر بوضوح إلى استعمار
الصهاينة وسيطرتهم على مدينة عكا. ثم تكون خاتمة المقطع الأول باللازمة
الشعرية الثانية: "بطيءٌ بريدكَ ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين". ومن
الملاحظ أن هذه اللازمة تكون خاتمة المقاطع الشعرية الخمسة- عدا المقطع
السادس-، وهي لازمة ترمز لزمن الانتظار المر، زمن الخيبة الذي عانى منه
الشعب الفلسطيني طويلاً. إن عدم تكرار هذه اللازمة في المقطع الأخير من
القصيدة "السادس"، له مغزاه الفكري والفني وهذا ما سنُبينه.
يفتتح الشاعر مقطعه الثاني بكلمة "أحاول".... وهي اللازمة الأولى
التي أطلقنا عليها تسمية اللازمة- الفتح. هنا مارست
هذه اللازمة كسر حالة الانغلاق التي مثّلَتها اللازمة الثانية:
"بطيءٌ بريدك ياوطني...الخ". فتكون وظيفة الأولى "الفتح" والثانية
"الإغلاق" أو اختتام الكلام.
يحاول الشاعر العودة إلى الذاكرة الأولى القريبة"، إلى أيام صباه،
متذكراً وجه أبيه، وقريته، والتفاصيل اليومية التي كان يعيشها في يفاعتهِ.
يستند المناصرة في بناء خاتمة هذا المقطع إلى الحكاية الشعبية،
والتفصيل اليومي العابق بالطرافة والألفة، وهو يؤكد على إنسيابية الشاعر
وتدفقه العاطفي، كما يدل على تشبثه بعالم الطفولة حينما يتذكر تلك
"المراهنة" التي تقوم بينه وبين أبناء قريته حول اسم المطرب العراقي الراحل
"حضيري بو عزيز"، لنقرأ له هذا المقطع الدال: "أحاولُ: راهنتُ أربعةً: كان
وجه أبي في مقالع مرمر قريتنا تعباً حين غنى مواويل ذاك المغني العراقي
قيل اسمه "بوعزيز"، وقال لنا أحد الأصدقاء: / إذا لم يكن بادئاً اسمه هكذا
رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس، أقسم آخر أن لا وجود
لهذا المغني- وحين استشرنا مناديل عرّافة البحر، جادلتُها وربحتُ الرهانَ
وحتى أغيظَ الأحبةَ صحتُ بأعلى حنيني - حنانيك ياحجراً في الخليل/".
ثم ينتقل الشاعر إلى ذكر حجر الخليل الذي "سرق الصهاينة قلبه". إلا
أن هذا الحجر لم يذهب هباءً، بل استخدمه أطفال الانتفاضة ضد الغزاة
الصهاينة. هنا يستخدم الشاعر الرمز التاريخي "جالوت" إشارة إلى المعركة
الحاسمة التي انتصر فيها القائد المسلم الكبير صلاح الدين الأيوبي على
الصليبيين في موقعة:"عين جالوت" في فلسطين: "واسألوا عنه أحفاد جالوت
يرتفعون به في هواء الشوارع، يسقط طيراً أبابيل فوق رؤوس الجنود".
ثم يحرض الشاعر المنتفضين على مواصلة/ رشق الصهاينة بالحجارة التي
أرعبتهم: "أرشقوهم يخافون هذا صباح الصهيل".
ويتجدد الرمز التاريخي "كنعان" في هذه القصيدة باعتباره رمزاً لكفاح
الشعب الفلسطيني المنتفض وكأنه شبيه "النرجسة التي تنبثق من شقوق الحجر".
ثم يعود لاستخدام الذاكرة الأولى القريبة: "أحاول: دارٌ وحاكورةٌ"،
والذاكرة الأولى البعيدة والموغلة في القِدم: "أحاول أن أتتبع موال أجدادنا
الطيبين".
ثم يتذكر الشاعر أيام فتوته الأولى، ويحدد التاريخ الزمني لبدء
صهيل المنافي ومغادرة الوطن: " منذ ثلاثين كان فتىً ويغني على مهل في
الشعاب. وعاد إلينا سليلَ الجراحِ، كسيرَ الجناح يغازل ورد الصباح ويغرف من
ماء هذي البطاحِ ويغرسُ أشعارهُ في سهولِ براحٍ...... وشربتُ وهيأتُ روحي
لهوجِ المنافي/ وعسف الرياح/".
ثم تلح عليه الدار التي أصبحت حلماً من الأحلام: "منذ ثلاثين عاماً
يحاصرني الحلمُ: دار وحاكورة وضجيج".
ويختتم المقطع باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا
تصل العاشقين".
في المقطع الثالث يستخدم الشاعر عز الدين المناصرة كلمة: "سلام"
ليفتتح بها أفقاً جديداً للقصيدة وبداية لمواصلة نموها وتطورها الدرامي
"سلامٌ، سلامٌ، سليمْ/ أرق من الشعراء بدير الأسد/ أرقّ من القمح قبل هبوب
رياح السموم/.../ أرقٌ من النسوة الحاملات جرار الغيوم".
ثم يستطرد ذاكراً الحبيبة والبحر، ويوجه سلامه إلى "الراء" التي
كانت رمزاً للمطر، وبعدها تحولت وأصبحت رمزاً للحجر، ينتقل الشاعر هنا من
رمز الخصوبة إلى رمز الحجر - الثورة: (سلامٌ إلى الراء كانت مطر/ سلامٌ إلى
الراء صارت حجرْ/". ويرد مرّة أخرى ذِكْر الرمز التاريخي "كنعان" مرتبطاً
برمز الثورة "الحجر" الذي يبشر الشاعر به: "وكنعانُ في حجر نافرٍ سيطل
قريباً/ ويكثر عنه الكلام".
وعودة أخرى: "للذاكرة الأولى القريبة"، العودة بالزمن إلى ثلاثين
سنة للوراء، إلاّ أن الذاكرة سترتبط هذه المرّة بذكريات الحبيبة- الغائبة:
(كان ذلك قبل ثلاثين في ليلة البرتقال، تضاهي الفراشات، كانت جدائلها
تتشعلق في جذع زعرورةٍ".
واضح هنا أن الحبيبة تتماهى مع الأرض- الوطن، تندمج بها فيشكلان
وحدة كلية لا تنفصم عراها: اندماجِ وترابط الجدائل "رمز الحبيبة" بجذع
الزعرورة "رمز الأرض"، ثم ينتقل من الماضي إلى الزمن الحاضر، زمن كتابة
القصيدة: "وبعد ثلاثين شفتكِ في التلفزة".
ويختتم هذا المقطع كالعادة باللازمة الثانية: "بطيء بريدك ياوطني
والرسائل لا تصل العاشقين".
في المقطع الشعري الرابع تنويع آخر، "الحجر" هذه المرّة هي الكلمة
- الأداة التي يستند إليها الشاعر في مواصلة عملية الصيرورة الشعرية داخل
القصيدة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام". تتطور لغة الشاعر هنا تصبح
أكثر صدامية، وهو هنا يشحن قصيدته بطاقة تحريضية عالية تستهدف إيقاظ أبناء
الأمة، ويوكل "للحجر" هذه المهمة النبيلة: "الإيقاظ": "سوف يخطب فيكم ويوقظ
بعض النيام".
ويرى الشاعر أن "الحجر" صار وسيلة نضالية حداثية، وأن الرمز
التاريخي: "جالوت" هو "مدماك في قلب هذه الحداثة"، ونلمسُ هنا محاولة ذكية
من قبل الشاعر لربط التراث النضالي لأمتنا بالفعل النضالي المعاصر:"الحداثة
من حجرٍ صار رغم النوى مضرب الأمثلة./ لا تقل- كلما أثخنتْه الجراح انتهى-
إن جالوت مدماك هذي الحداثة في السلسلة".
واضحٌ هنا أن "جالوت" تتحول إلى عنصر في بنية الحداثة الثورية
الجديدة، ثم يختتم هذا المقطع أيضاً باللازمة الثانية: "بطيءٌ بريدك ياوطني..
الخ".
في المقطع الخامس تتشظى الذاكرة الشعرية من خلال الفعل المضارع:
"أُعدّدُ" لتعانق عشرات الأسماء والأمكنة والرموز.
ذاكرة محمومة تعانق جذرها الأول ورمز كينونتها، تعانق الأرض ويجرفها
الحنين الصاعق لمعانقة كل تفاصيلها وأسمائها وأمكنتها. وتكون البداية
المقدسة: السلام "للقدس" ثم: "الخليل، نابلس، جباليا، جنين، قلقيليا، طول
كرم، بيت لحم، بلاطة، الدهيشة، صفد، سلفيت....الخ"، حتى يمكن القول بأن
الشاعر لم يترك مدينة معروفة أو مهمة في فلسطين إلا وذكرها في قصيدته هذه،
ثم بعد ذلك السلام للشعراء والأدباء: "محمود درويش، سميح القاسم، توفيق
زياد، سعدي يوسف، بدر شاكر السيّاب...الخ".
ومن فلسطين إلى كامل الأرض العربية يجول الشاعر ويوزع سلامه "الفاو
والبصرة الصابرة، وناصر القاهرة، ونيل بيرم، وبيروت، والأردن، وكويت اللآلئ
والفقراء، ثم إلى سوريا ومدنها المعروفة: الشام، اللاذقية، حلب، حماة، حمص،
جبلة، ثم السلام للمخيمات الفلسطينية فيها: "اليرموك والنيرب،
وفلسطين...الخ".
ثم يختتم المقطع الخامس باللازمة الشعرية الثانية: "بطيء بريدك
ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، هذه اللازمة سوف لن تتكرر في المقطع
السادس كما أسلفنا لأن زمنها قد انتهى وبدأ عهد جديد.
يفتتح الشاعر المقطع السادس بجملة: "توهج كنعان بين القرى"، لتكون
الفاصلة بين زمنين في القصيدة: "زمن الخيبة والانتظار القديم، وزمن الثورة
والانتصار الجديد. فالرمز التاريخي "كنعان" الذي يتوهج في القرى الفلسطينية
ليضيء الزمن ويجدد الحياة من خلال انتفاضة أبطال الحجارة، وليبدد زمن
الخيبة والألم والانتظار الممل والطويل الذي دلت عليهِ اللازمة الثانية:
"بطيءٌ بريدك ياوطني والرسائل لا تصل العاشقين"، لذلك فإن "توهج
كنعان" جاء نفياً للازمة المتكررة وتبديداً لحالة الخيبة التي أشارت
إليها. وهكذا تختفي هذه اللازمة لتحل محلها حالة ثورية مشرقة تتمثل بانتصار
الشعب الفلسطيني المكافح من خلال رمزه التاريخي "كنعان" الذي يتجدد في
الزمن الحاضر، ويتجسد ويتجلى بشكل جديد من خلال أبطال الحجارة، لنقرأ
للشاعر هذه الخاتمة الدالة والمشرقة: "يجيئكِ كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير
اليمامُ على كتفيه/ على فرسٍ أشهبٍ،/ ليلة الاجتياح وسبحته صدفٌ تلحمي،
وجبّتُه من حرير/ يجيئكِ كنعان، كشرتُهُ من زجاجٍ وعيناهُ غاضبتان وسروالهُ
عتبٌ وابتسامته من قتام/ يجيئكَ كنعان فابتهجي يابلادَ الندى وقلاع الغمام
/عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامُ/ عليكِ السلامْ".
أما على الصعيد الفني فإن قصيدة عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان"
هي قصيدة : رؤيوية مركبة متعددة الأصوات، وذات مناخ درامي. يمتزج فيها
التفصيلي اليومي بالتاريخي، الواقعي بالحلمي، المجرد بالمحسوس، العاطفي
بالفكري، والوعي باللاوعي.
كما أنها ذات مستويات متعددة لذا يمكن قراءتها على المستوى الفكري
والسياسي، والرمزي، والتاريخي، واللغوي، والنفسي، والاجتماعي، والفني
الجمالي العام.
ومن خلال دراستنا لها، رصدنا الأصوات التالية: صوت ضمير المتكلم
"أنا"، ومايدل عليه قوله: "أحاولُ". وصوت ضمير الغائب "هو" العائد للشاعر
الفتى، ومايدل عليه قوله: "منذًُ ثلاثين كان فتى ويغني على مهلٍ في
الشعاب..... ويغرس أشعاره في سهول براحٍ". وصوت الراوي: "وقال لنا أحد
الأصدقاء". وصوت الحجر- الانتفاضة: "حجرٌ من مقالع مرمرنا وعليه القيام/
سوف يخطب فيكم ويوقظ بعض النيام".
وصوت الرمز التاريخي "كنعان": "وكنعان في حجرٍ نافرٍ سيطلُ قريباً/
ويكثر عنه الكلام". وصوت الطبيعة، ومن مفرداتها "النجمة": النجمة الجبلية
قالت: أمامكَ نهرٌ وخلفكَ بحر ومجزرة".
لكل قصيدة قانونية وآلية تنظمُ حركتها الداخلية وصيرورتها ونموها
وتطورها الحر والخلاّق، وقصيدة "يتوهج كنعان" للمناصرة تنمو وتتطور من خلال
جدلية العلاقة بين عناصرها الداخلية، وبين أصواتها المتعددة التي ذكرناها،
كما تتطور من خلال اللازمة الشعرية الثانية: "أحاولُ" إضافة إلى كلمتي
"حجر" و"سلام"، ومن خلال اتكائها على الذاكرة الأولى القريبة: "كان وجه أبي
في مقالع مرمر قريتنا تعباً"، والذاكرة الأولى البعيدة: "سلاماً لأجداثِ
أجدادنا الطاهرة"، وأخيراً تشظي الذاكرة في الزمن الحاضر حيث يقوم الشاعر
من خلال ذاكرته بمعانقة التفاصيل الواقعية الراهنة: "أسماء وأمكنة
وتواريخ"، وتكون هذه التفاصيل عنصراً هاماً في عملية تطور وتنامي مناخ
القصيدة الدرامي.
ويمكن القول إن الشاعر عز الدين المناصرة استخدم في بناء قصيدته
المركبة ذات المناخ الدرامي غالبية الأساليب الفنية التي عرفتها الحداثة
الشعرية العربية، وأهمها: الحوار: "كذلك قيل: انطروا الماء، قيل كذلك، ندٌ
لروما"، والاستذكار: "كان المدى شجراً وشجيرات عوسج هذا المدى عِشرق
البحر"، والاتكاء على الصورة الفنية: "هَيءْ جوادك للرعي في مرج ذاكرة
الغيم حيث يقيمون أندلساً في الكلام"، والمونولوج: "أمازلتِ يامهرةً
تركضين، يتابع جريكِ هذا المدار"، والأسلوب الشعبي ذي النكهة المحلية
الفلسطينية: "عتابا تعاتبني الدارُ والميجنا سأصيحُ: أيا من جنى ثم جفرا
الينابيع والنار ثم ظريف تمرُ بقامتها السرمدية كانسكاب الشعاع على
الماء".
والسرد الحكائي: "قيل اسمهُ "بوعزيز" وقال لنا أحد الأصدقاء: إذا لم
يكن بادئاً اسمه هكذا رسم الحاء فوق التراب سأجدع أنفي وأرمي به للنوارس".
الرمز هو أحد أهم العناصر التي ساهمت في تشكيل البنية الفنية
والجمالية العامة لهذه القصيدة، وكما بدا فإن شاعرنا المناصرة مغرم
باستخدام الرمز كأداة فنية هامة تساهم في عملية التطور الداخلي للقصيدة.
تتكون البنية الرمزية في قصيدة :"يتوهج كنعان"، من رموز متنوعة
ومتعددة الدلالة، وأهمها: "الرمز التاريخي: "كنعان وجالوت"، والرمز
الواقعي: أماكن مثل: الخليل، نابلس، الشام، البصرة، وهران، روما، المغرب
العربي، الأردن، النيل.....الخ، وأسماء مثل : جمال عبد الناصر، محمود
درويش، سميح القاسم، بدر شاكر السيّاب، سعدي يوسف.
والرمز الديني: مريم، الخضر. والرموز الطبيعية الواضحة والشفافة:
كالبحر، والشجر، والغيم، والنوارس، والنرجس...الخ.
ومادمنا بصدد الحديث عن الرمز هنا يمكن القول بأن الثغرة الفنية
البارزة التي لمسناها في هذه القصيدة هي في كيفية استخدام الشاعر للرمز
وتوظيفهِ توظيفاً فنياً وجمالياً وخاصة في المقطع الخامس حين قام الشاعر
بعملية تعداد الأسماء والأمكنة: "أعدد أسماءَها ثم أشجارها ثم أحجارها ثم
أبدأُ بالقدس مريام".
لسنا ضد إيراد العشرات والمئات من الأسماء والأمكنة في القصيدة كما
فعل الشاعر المناصرة، وكما حدث لذاكرته الشعرية المتشظية، لكن المهم هنا أن
إيراد الرمز لا يكون على حساب القيمة الفنية والجمالية في النص، وهو ماحدث
غالباً في المقطع الخامس حيث أغرق الشاعر جسد القصيدة بالرموز دون أن
يحولها من مصاف العادي والمألوف إلى مصاف الفني والمدهش، ودون أن يمنحها
دلالات جديدة قادرة على إضاءة النص داخلياً، ومنحه بعداً فنياً مدهشاً. إن
رأينا هذا ينصب على المقطع الشعري الخامس تحديداً، أما في باقي المقاطع
الأخرى فإن الشاعر كان ناجحاً ومتألقاً فنياً - في أغلب الأحيان- في عملية
توظيفه واستخدامِهِ للرمزِ، كقولهِ في المقطع الثاني: "كنعان يخرج فجراً
كنرجسةٍ من شقوق الحجر"، وقوله في المقطع السادس والأخير:
"يجيئك كنعان ملتحياً بالثلوج، يطير اليمام على كتفيه،.....
وسبحتُه صدفٌ تلحمي، وجبتّهُ من حرير. يجيئك كنعان كشرتُه من زجاج وعيناه
غاضبتان وسرواله عتبٌ وابتسامتهُ من قتام".
لذلك فإن الضعف الفني والجمالي في المقطع الخامس سيكون محدود
التأثير إذا ما أخذنا الحصيلة الفنية الإجمالية العامة لكافة مقاطع القصيدة
ولبنيتها الفنية العامة التي تؤكد على أنها كانت زاخرة بالقيم الفنية
الجمالية المدهشة على صعيد الرؤية والرؤيا والتخييل وبناء الصورة واستخدام
اللغة.
وحسناً يفعل شاعرنا المناصرة لو راجعَ بعين موضوعية فاحصة المقطع
الخامس، وفي كل الأحوال هذا رأينا وتذوقنا النقدي، ونحن كما أسلفنا لا
ندعي الصواب واحتكار الحقيقة، وقد يرى الشاعر والنقاد الآخرون رأياً لا
يتفق مع رأينا هذا. وفي كل الأحوال فإن المسألة قابلة للحوار وتعدد وجهات
النظر.
أما لغة الشاعر فهي "عموماً" لغة فنية موحية ومشرقة، تتخللّها
العديد من الانزياحات المدهشة كقوله: "صحتُ بأعلى حنيني"، وتدل هذه القصيدة
الطويلة على ثراء وتنوع قاموسه الشعري.
غالبية مفردات هذه القصيدة تمتاز بالوضوح والسلاسة والبساطة، إضافة
إلى نكهتها الشعبية الأخّاذة واقترابها من لغة الحياة اليومية: "شِفْتُكِ،
انطروا، مزعّتها"، إلاّ أنها في أحيان قليلة تصبح ناتئة ووحشية ونافرة
كقوله: "عِشْرق، شعلقيني، تتشعلقُ، ترغلتِ......الخ".
وتتجلى لنا مهارة الشاعر اللغوية بقدرتهِ على تطويع مفرداتهِ،
وبطريقتهِ في الاشتقاق اللغوي، وقدرته على إقامة العلاقات اللغوية المدهشة
بين المفردات، ولعل هذه السمة من السمات الفنية الهامة التي تساهم في تشكيل
فرادته وخصوصيته الفنية المتميزة.
ولعل إبداع الشاعر عز الدين المناصرة في هذه القصيدة يتجلى أكثر
مايتجلى في كيفية رسم وبناء الصورة الفنية، فهو يتمتع بطاقة تخييلية عالية
ومخيلة مبدعة أنتجت لنا العديد من الصور الشعرية المشرقة والموحية
واللماحة، ويمكن إيجاز أهم سماتها الفنية: فهي صور مبتكرة تمتاز بجدتها،
وبتماسكها الفني، كما أنها "غالباً" صور مركبة تتكون من عدة ظواهر، ويتزاوج
فيها المجرد بالمحسوس، والواقعي بالحلمي، والعاطفي بالفكري. إلا أننا نلاحظ
غلبة الطابع الحسي عليها. يقول في أحد صوره الرائعة في المقطع الأول
مستهدفاً تصوير الطبيعة: "وكانت تحومُ النوارسُ، تملؤني غبطةً والنجوم
مسافرةٌ قرب شمس الأصيلْ".
الصورة تستمد حركيتها وفاعليتها من خلال الفعل "تحوم" ومن خلال كلمة
"مسافرة" مما أضفى على المشهد الطبيعي نكهة جمالية خاصة قائمة على الحركة
النشيطة التي أضفت الحبور والبهجة على الأشياء، وقد انعكست العلاقة
المتفاعلة بين مفردات الطبيعة ذاتها: "النوارس، النجوم، وشمس الأصيل"، بشكل
إيجابي على "ذات" الشاعر التي امتلأت بالسعادة و"الغبطة". وهي صورة مركبة
من ثلاث ظواهر حسية: "النوارس" و"النجوم" و"شمس الأصيل"، أما "الغبطة" فهي
ظاهرة مجردة.
وفي المقطع الأول أيضاً نقرأ صورة أخرى يغلب عليها الطابع الحسي
أيضاً وتمتاز بشفافيتها، وجدتها، وتماسكها الفني، وبطاقتها الإيحائية التي
تفسح المجال للتأويل والتعدد الدلالي: وهي: "هِّيءْ جوادكَ للرعي في مرج
ذاكرة الغيم". الصورة هنا مركبة أيضاً وتتكون من ثلاث ظواهر حسية: "الجواد"
و"المرج" و "الغيم" وظاهرة مجردة واحدة هي "الذاكرة".
خيال جامح، وصورة تركيبية مدهشة ذات طاقة إيحائية عالية. إنها صورة
تتجاوز العادي والمألوف لتحقق انزياحها الدلالي ومن هنا يمكن القول بأنها
مبتكرة وجديدة.
أين يكمن الانزياح الدلالي والخروج على المألوف؟!...
حينما يستخدم الشاعر ضمير المخاطب:"أنت" بقوله: "هَيءْ جوادك
للرعي"، فإن ذهن المتلقي يتجه بشكل طبيعي إلى المعنى والدلالة المألوفة
والمتداولة والمتعارف عليها، وهي أن رعي الجواد سيتم في الحقول والمروج، أي
على الأرض، أما أن يقودنا خيال الشاعر إلى ماهو غير متوقع، أي الرعي في مرج
ذاكرة الغيم فهنا بالضبط يتم الانزياح الدلالي الذي يبعث على الدهشة
والغرابة، وهنا يكمن أيضاً سحر الفن وطاقته التخييلية المبدعة والفريدة.
ومما زاد في تألق هذه الصورة هو أن الشاعر لم يقل بأن رعي الجواد
سيتم في مرج الغيم بل في "ذاكرة" الغيم تحديداً، أي أنه شبه الغيم بإنسان
له ذاكرة فعالة ونشطة وحذف المشبه به وهو الإنسان؟!
وهو بذلك أيضاً أضفى نكهة المعنى، وخواص العقل والفكر على مفردات
الطبيعة غير العاقلة:" كالغيم" وذلك حينما تخيل بأن للغيم ذاكرة مفكرة،
وهي ذاكرة مُخصِبة، وكما أسلفنا فإن هذه الصورة تحتمل التأويل، وتوحي
بأفكار عديدة ومتنوعة، فنحن مثلاً يمكن أن نقرأها على النحو التالي: الجواد
يرمز للثورة والجموح، والغيم يرمز للخصب والعطاء. إذن الصورة يمكن أن توحي
بحالة فكرية قائمة على تزاوج الثورة بالخصب، وبالتالي فإنها انتفاضة وثورة
معطاء وتحمل في داخلها عوامل خصوبتها وديمومتها وانتصارها.
وبوسعنا هنا أن نذكر العديد من الصور الفنية المتألقة التي تدل على
مهارة الشاعر الفنية، وقدرته التخييلية العالية كإيراده لهذا التشبيه الحسي
الرائع في المقطع الشعري الأول: "النوارسُ تزعق مثل رضيع سيعلن رغبته في
حليب الصباح"، وتشبيهه الحسي الرائع أيضاً في المقطع الثاني: "تمر بقامتها
السرمدية حيث ضفائرها كانسكاب الشعاع على الماء"، تصوروا هذه الطاقة
الحركية المذهلة والمدهشة التي يكشف عنها الفعل: "انسكب" وتصوروا هذه
الضفائر وكأنها شلال من الضوء والشعاع ينسكب فوق الماء!!...
ونقرأ أيضاً هذه الصورة الحسية المركبة والمبتكرة في المقطع الأول:
"أحاول أن أرسم البحر لكنه كنساء الينابيع يبدو صديقاً ويهرب من بين كفيَّ
مثل حقول القطار".
كما نقرأ هذه الصورة في المقطع الأول التي تدل على مخيلة، وذهن
مرّكبَ قادر على التركيب، والتوليف، والمزج بين عدة عناصر وإشاعة روح
الانسجام الشعري فيما بينها: "سنخترّع البحر ثم نرشُ عليه البهارَ ونجلب من
جبل الشام أقمار غوطتها، ومن القدس صخرتها، ومن ضلوعك بيروت روشتك القرمزية
ثم نشوي على الفحم فوق التلال المطلة -قلبكَ يابحرَ- أحجارك المرمرية،
ننشرها فوق حبل الغسيلْ".
إن هذه القصيدة " يتوهج كنعان" تكشف عن موهبة شعرية خلاقة، وطاقة
فنية مبدعة، وتؤكد على أنها من القصائد النادرة فعلاً، التي عبرت عن هذا
الحدث الثوري الكبير بشكل فني خلاق.
*كاظم السماوّي / العراق:
الشاعر العراقي كاظم السماوّي هو أحد الشعراء العرب الذين تفاعلوا
مع هذا الحدث التاريخي الهام وكتبوا عنه.
وشاعرنا السماوي من الشعراء العراقيين المعروفين، وله خبرة متراكمة
في كتابة الشعر تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً، بين أيدينا نص شعري بعنوان:
(حجر... حجر)(6). كتبه الشاعر في 15/1/1988 عن الانتفاضة.
تتميز هذه القصيدة بكون بعض مقاطعها وجملها الشعرية تتضمن شحنات
تحريضية وتوعوية قادرة على صدم المتلقي وتوجيه وعيه صوب مكامن الخلل في
واقعنا العربي، حيث لا نعاني فقط من شراسة العدو الصهيوني والإمبريالي، بل
من خيانة بعض العرب، أنظمة وأحزاباً وأفراداً، حتى ليمكن القول إن الخطر
الثاني هو أشد تأثيراً وإيلاماً، لاسيما وأن الكثير من هؤلاء يزايدون برفع
الشعارات الوطنية والقومية ويتسترون بها، وهم من ذلك براء، شاعرنا السماوي
يحرض الجمهور على توجيه الفعل الثوري ضد هؤلاء، وضد العدو الصهيوني بآن
واحد:
" حجرٌ لهم
حجرٌ لنا
حجرٌ يشجُ رؤوسهَم.
حجرٌ يشجُ رؤوسَنا
أحرى بنا أن ترجمونا
تدفنوا تحت الحجارةِ عارَنا".
والشاعر يفتح نار غضبه باتجاه كافة أشكال الخيانة، الظاهرة
والمستترة، وكافة أشكال الاستغلال والاستبداد، داعياً إلى تحطيمها بروح
انفعالية غاضبة، وبعاطفة ثورية متأججة: "حجرٌ لمن ألقى السلاح ومن غدر/
ولمن تعرى وائتزر/ ولمن تبدّى واستترْ/ ولمن تعفن واتجر/ حجر لعصرٍ من حجر/
حجرٌ لمن لَصَ الدماءَ وما اعتصر/..... حجر لأحكام وحكام حجر/ حجر
لمؤتمر.... وما ائتمروا حجر.... حجر "لأنظمة الحجر"/ حجر "لجامعة الحجر"
/ذممٌ حجر/ شرفٌ حجر/".
وبالرغم من الروح الثورية التي تتخلل أغلب مقاطع هذه القصيدة، إلاّ
أن الشاعر تسوقه عواطفه وانفعالاته إلى إصدار أحكام إطلاقية نشم من خلالها
رائحة العدمية "أحياناً": "حجرٌ لأحزاب حجر/.... فكر حجر/".
ولو قال الشاعر هنا: حجر لأحزاب من حجر، بدلاً من قوله: حجر لأحزابٍ
حجر، لاستقام الكلام وأدى وظيفته الفكرية.
الملاحظة الهامة التي يمكن أن تؤخذ على هذه القصيدة من الناحية
الفنية، هي كثرة استخدام الشاعر لمفردة "الحجر" فيها -حيث استخدمها أكثر من
ثمانين مرّة- حتى أننا لو أحصينا عدد كلمات هذه القصيدة لوجدنا أن مفردة
"الحجر" تكاد تساوي نصف عدد هذه الكلمات!! ونحن لا نخطئ هنا إذا أطلقنا على
هذه القصيدة اسم: "القصيدة الحجرية".
بدهي نحن لا نعترض على استخدام وتكرار هذه الكلمة - الرمز حيث تحولت
هذه الأداة الصراعية إلى رمز أسطوري للكفاح الذي يخوضه الشعب الفلسطيني
المناضل ضد أعدائه المغتصبين الصهاينة، ولكن تكرار هذه الكلمة ينبغي أن
يأتي ضمن السياق الشعري بشكل طبيعي وانسيابي، لا بشكل متكلف ومثقل لجسد
القصيدة كما جاء في قصيدة السماوي، كما أن هذا التكرار يُفضل أن يأتي -
عموماً- ضمن استخدامات شعرية متنوعة تعطي نكهة فنية متميزة للجمل الشعرية
بما تستطيع توليده من صور شعرية مبتكرة تعطي لهذه المفردة "الحجر" مسوغاً
فنياً لاستخدامها وتكرارها، حيث كل استخدام لها ينقلنا إلى معنى مبتكر
وصورة شعرية ذات قيمة جمالية أخاذّة. إلاّ أن ماجرى هو عكس ماذهبنا إليه
تماماً، فتكرار كلمة "الحجر" جاء مُمِلاً وثقيلاً، ولم يستطع الشاعر
التنويع عليها وإكسابها دلالات فنية ومعنوية متميزة.
تُرى ماذا يعني تكرار الشاعر لها هنا؟!: "حجرٌ على حجرِ.... حجرْ"،
هل ثمة معنى مبتكر، صورة شعرية جميلة؟! اللّهم! إلاّ إذا جاء ورودها هنا من
باب "اللازمة الشعرية"، وهي على كل حال لازمة ضعيفة من الناحية الفنية
والفكرية معاً.
وكما يبدو لي، فإن شاعرنا كاظم السّماوي الذي سبق له وأن أتحفنا
ببعض الأعمال الفنية الشعرية الجيدة، كان متعجلاً كثيراً في كتابتهِ لهذه
القصيدة، وأن الحدث لم يكن ناضجاً في فرن روحهِ الشاعرة لذا جاءت ولادة
القصيدة ولادة قيصرية، وجاء الوليد "القصيدة" مصاباً بعاهات عديدة أضخمها
طُراً هذه العاهة:"الحجرية" التي التهمت جسد القصيدة بيباسها ونتوءاتها
الحادة.
إن كل ذلك يدعونا للتحفظ على هذه الأعمال الضعيفة فنياً، مؤكدين على
أن الانحياز للثورة والانتفاضة الفلسطينية الباسلة لا يعني إضعاف الروح
الفني، وإفساد الذائقة الفنية، وعدم الاكتراث بالقيمة الجمالية في النص
الشعري وذلك بحجة التمسك بالموقف الثوري، وعن طريق الزعيق والصراخ المتهافت
فنياً، إن أعظم خدمة نقدمها للثورة هي أن نكتب أعمالاً فنية زاخرة بقيم
جمالية وفكرية تكون بموازاة الحدث الثوري وترتقي إلى مصافه، وتكون بمثابة
المعادل الموضوعي الفني له، وكما يقول الروائي الكولومبي الشهير ماركيز:
"واجب الكاتب الجيد أن يكتب جيداً، ذلك هو التزامه".
*ممدوح عدوان / سورية:
وكما وقع الشاعر كاظم السماوّي في المطب "الحجري" فإن الشاعر
ممدوح عدوان وقع في المطب ذاته، فحفلت قصيدته المعنونة "الحجر"(7) بهذهِ
المفردة، إلاّ أن استخدامه لها كان بكثافة أقل، وبمهارة فنية أعلى
"نسبياً" من محاولة السماوي، حيث تخللت قصيدة ممدوح عدوان العديد من
الومضات الشعرية المتألقة، والصور الشعرية الأخّاذة، والمعاني العميقة
المبتكرة: "حجر الفلاسفة الذي/ سيحول العتم المرسب في مفاصلنا / إلى ضوء".
لاحظوا كلمة "المرسب" كم شحنت القصيدة أو هذه الجملة الشعرية بطاقة
إيحائية، وبمعنى مبتكر عميق الغور في دلالاته واستهدافاتهِ، فحالة العتمة
لدينا ليست حالة مؤقتة وعابرة، بل مستديمة ومكينة، إنها جزء من بنية الذات
العربية، والروح العربية، والواقع العربي الراهن.
- وحينما نتحدث عن "العتمة" أو التخلف الذي أصاب الذات العربية
فنحن نقصد عصور الانحطاط وكذلك واقعنا المعاصر، بعد أن كانت أمتنا مصدر
إشعاع أثر على الحضارة البشرية برمتها-.
هنا- مثلاً تتحقق المعادلة الشعرية الصعبة: العمق في الرؤية
والتفكير، مع الأصالة والابتكار والإدهاش في الفن من خلال رسم وتشكيل
الصورة الشعرية المتألقة، هذا بالإضافة إلى صور جميلة أخرى كقوله:
"يُرمي حجرٌ
وتجيئه الطلقاتُ تنبحُ
يستحيلُ إلى قمرٍ
ويعود مُنهمراً بأحجارٍ
تعلم رميها من هجمة الطير الأبابيلِ
التي من صوتها ترهبْ"
التركيز في الكثافة الشعرية الإيحائية جاءت في هذه الجملة الشعرية
بالذات "وتجيئه الطلقات تنبحُ" حيث أعطى الشاعر فعل النباح للطلقة، والذي
أسبغ على الطلقة وهي "جماد صفة من صفات الكائن الحي "الحيوان" هنا تتجلى
أيضاً القدرة التحويلية في الشعر من خلال تشبيهات صورية مبتكرة والربط بين
المجرد والمحسوس، كما حاول الشاعر في هذا المقطع بالذات استخدام وتوظيف
الرمز التاريخي القديم الذي ورد في القرآن الكريم "طير أبابيل": "تعلم
رميها من هجمة الطير الأبابيل"، وقد أكسب هذا الاستخدام الواقع معاني
ودلالات جديدة تخدم عصرنا الراهن وتطوراته الثورية.
ومن الصور الجميلة والمبتكرة أيضاً:
"مطرٌ تيبس في شتاءٍ قاحلٍ
للغيم جلد صار ينغرُ كالإبر
ورق تحجر في الشجر
والريحُ تخجل حيث تأتي دونما مطر".
وبالرغم من هذه التألقات الفنية المتناثرة هنا وهناك في جسد القصيدة
وبنائها، إلا أنها عموماً تراوحت بين الهبوط والعلو "النسبي" ولم تأخذ
منحىً فنياً تطورياً متصاعداً، ولم تكن كل أجزائها بمستوى واحد، أو بمعنى
أدق بمستوى متقارب من الناحية الفنية، فسقطت "أحياناً" في الشعار
والتقريرية والمباشرة: " إن القلوب تجف رحمتها.. وتصبح من حجر/ لم يبق شيءٌ
للخسارةِ... كن حجر/ لم يبق وجه لم يمرغ... كن حجر...".
كما أن اللجوء إلى التفسير والتعليل والشرح قد أضعف انسيابية
القصيدة وأدى إلى أن يخبو بريقها ووهجها الفني، بالرغم من الجمال الفني في
الجمل الشعرية السابقة: "حجر وينكسر الزجاج عن الدفيئات/ التي حضنت بيوضاً/
كي تفقس في هزائمنا/ ولاة نيئين/". وقوله: "ولد يشرشُ في الزواريب
العتيقةِ/ كي يلقح بالعناد".
أنظروا كم ترتاح النفس وتسعد وتدهش لهذه الصور "ينكسر الزجاج عن
الدفيئات.../ ولاةً نيئين"، وبشكل يدعو أكثر للغبطة قوله: "ولدٌ يشرشُ في
الزواريب العتيقة"، لكن مجيء "كي" مرتين:"كي تفقس في هزائمنا، وكي يلقح
بالعناد"، أضعف الطاقة الإيحائية في الشعر وذلك باللجوء إلى التفسير
والتعليل والشرح، وكما يبدو لي، فإن الشاعرممدوح عدوان حينما يترك نفسه على
سجيتها وانسيابيتها الشعرية فإنه يبدع ويتألق ولكنه مجرد أن يغمس ريشته
بمحبرة الصنعة والتكلف يقع في فخاخ المباشرة والتقريرية حيث يصبح الشعر
محاولة فكرية مقحمة من الخارج على الداخل، أي على نبض القصيدة الداخلي،
وسياقها الشعري المنساب، المتطور، والمتنامي داخلياً.
القصيدة ككائن حي لها قانونية داخلية، ولها آلية تحكم تطورها،
وتُحكم الترابط العضوي بين أجزائها، وهي تنمو من داخلها، وأية محاولة قسرية
من الخارج عليها ستكون منبوذة، ولا تنسجم مع روحها الداخلي في تناسقه
وتناميه وتطوره.
وقصيدة ممدوح عدوان تتميز من الناحية الفكرية "عموماً" كسابقاتها من
قصائد الشعراء العرب الآخرين بطابعها وجوِّها التحريضي والتعبوي الداعي إلى
تنظيف جسد هذه الأمة من الأوحال والقذارات العالقة به، ويلتحم في هذه
القصيدة البعد الطبقي بالبعد الوطني:
هذا خسيسٌ كان يسرق قوتنا...... فاضرب حجر
هذا عدو قادم...... فاضرب حجر
هذا عدو حاكم ...... فاضرب حجر
لم يبق عندك من سلاحٍ نافعٍ: فاحمل حجر
لم يبقَ صمتٌ ساترٌ...... فاضرب حجر
إلاّ أن القصيدة وقعت في إشكال "فكري" ينبغي التوقف عنده قليلاً،
والذي تجسد بقول الشاعر:"هذا زمان من حجر/ إن شئت أن تحيا عزيزاً/ كن حجر".
هنا جاء التركيز على الأداة "الحجر" وليس على الإنسان الذي يخلق أو
يحمل الأداة، ويسخرها لأهدافه ومصالحه، أغلب الظن أن الشاعر ممدوح وقد
ساقته انفعالاته الثورية التي نحترمها ونقف معها لم يفطن لهذا الانفلات
الزائد في المشاعر، ولم يستطع أن يكبحه أو يوجههُ بالمعنى الأدق.
*محمد خالد رمضان / سورية:
الشاعر السوري محمد خالد رمضان من الشعراء الذين تأثروا بهذا الحدث
التاريخي الكبير، وكتبوا عنه.
والأستاذ رمضان هو قاص وكاتب تراثي بالإضافة إلى كونهِ شاعراً. منذ
بداية قصيدته: "زمن من دماء" يحاول الشاعر رمضان أن ينأى بلغتهِ الشعرية عن
التقريرية والمباشرة، مُستنداً على الرمز الشفاف الواضح والبسيط:
"زمانٌ يفتحُ للبحرِ أبوابَه
لنابلس بوح الأصابع
والأغنيات".
فينجح في مسعاه هذا إلى حد ما، أو على وجه الدقة إلى الحد الذي يقيه
-عموماً- من الوقوع في بعض "المطبات الفنية" التي وقع فيها العديد من
الشعراء العرب، إلاّ أننا نجد بعض الاعتلالات في القصيدة، كطغيان الرابطة
المنطقية في بعض جملها الشعرية: "عميق، عميق نداء التراب/ ويمتد عصف
الأيادي"، فعصف الأيادي جاء نتيجة منطقية لنداء التراب العميق، هذا
بالإضافة إلى أننا نشعر بطغيان الخارج على الداخل هنا، أي أن القصيدة لا
تنمو مِن الداخل نمواً طبيعياً مما يخلخل بنيتها ويجعلها كتلاً متباعدة غير
متناسقة وغير مترابطة الأجزاء، كما أن تقيد الشاعر بالقافية في أكثر من
موضع في القصيدة حَدَّ من مخيلتهِ وبالتالي حال ذلك دون توهجها الفني:
"فاسمع رقص الشجر/ وتقفز غزة في المد تعلو/ وتعلو تعالي المطر".
وبعيداً عن الصراخ، ولغة الخطاب السياسي، تجيء قصيدة محمد خالد
رمضان مسربلةً بأجواء التفاؤل الثوري، ومؤكدةً على حتمية اندحار الظلام:
"تفتح رؤىً في لهيب الشوارعِ
حرفاً يجن وينقف لمحاً يفارع
وقع باسم اللهيب
وباسم السهام وباسم اليمام
على القلب والصدرِ والذاكرةِ
وفي عمق مرآةِ نبعٍ يغني
وفي الباصرة
فترنو البلاد سؤالاً
يذيب الظلام".
والشاعر يدعو ويحرض على العمل من أجل إنضاج بدر الثورة، وذلك من
خلال استخدامه لرمز شفاف وبسيط هو رمز الأم: "ورش الوليد ورش الفطيم/ ورش
الصبي البذار على/ وجه أمي فياوجه أمي البدار".
* حبيب صادق / لبنان:
الأستاذ حبيب صادق من القطر اللبناني الشقيق، كتب عن الانتفاضة
"قصيدة" أو بمعنى أدق محاولة شعرية أطلق عليها اسم "آية الحجر"(8).
وفيما يتعلق بالناحية المضمونية والفكرية ليس لدينا أدنى شك بنبل
مشاعر الكاتب وثورية أفكاره التي طرحها في محاولته الشعرية المذكورة، إلا
أننا حينما نتناول هذه المحاولة -أو المقالة- من الناحية الفنية لا يمكن أن
نقول عنها سوى أنها مثال صارخ لمدى التهافت والضعف الفني لأدعياء الشعر
الذين حاولوا التعكز على الموضوع "الانتفاضة" من أجل تمرير كتاباتهم
الهابطة فنياً، متوهمين أنهم بذلك يمنحون لمحاولاتهم قيمة إبداعية ما،
ومتناسين بأنه من دون امتلاك الموهبة الحقيقية، أو امتلاك الأداة الفنية،
لا يمكن لنا أن ننتج نصاً شعرياً يتوفر فيه عنصر الخلق والإبداع الذي هو
جوهر العمل الفني.
فنقرأ للأستاذ حبيب صادق: قوله:
وفي غبار الرحيلِ قرأتُ مالم يقلْه صاحبي
قرأتُ:
"الآن، الآن، لا قبل ولابعد،
فمن آمن بالفعل المبدع
فليرمِ الزمن العاقر بحجر
ولينتصب في مهب السواعدِ والينابيع"
وقوله: "في البدء كان الحجر/ قال صاحبي/ وقبل أن يمضي بعيداً /
انحنى انحناءة السيد المطاع/ واحتضن بأهداب العين/ حجراً من نبات أرضهِ
الغضوب/ ثم راح مُصعداً باتجاه الصواب، والفعل المبدع، راح مُصعداً باتجاه
فلسطين".
أُركز هنا على: "راح مصعداً باتجاه الصواب، والفعل المبدع"، أما
كان الأجدر بالأستاذ حبيب صادق أن يكتب مشاعره الطيبة هذه على هيئة مقالة
سياسية: "وكفى الله المؤمنين شر القتال"!!، وبذلك سيكون قد خدم أفكاره
وتعاطفه مع فلسطين، وحافظ على الذائقة الشعرية لدى القراء في الوقت ذاته.
* محمود درويش / فلسطين:
إزاء هذا الكم الكبير من القصائد، أو المحاولات الشعرية بشكل أدق،
والتي تناولنا البعض منها بالنقد والتحليل، والبعض الآخر قرأناه في الصحف
والمجلات العربية- وقد تجاوز المئات من القصائد- إزاء هذا، برزت بعض
النتاجات الشعرية التي نجت من شرك التقريرية والهتاف والتعكز على
"الانتفاضة"، واستطاعت -عموماً- أن تجمع بين القيمة الفكرية والقيمة
الجمالية في النص الشعري، ومنها: قصيدة الشاعر العراقي سعدي يوسف: "إنه
يحيى"، وقصيدة الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة: "يتوهج كنعان"، وقصيدة
الشاعر الفلسطيني صالح هواري:"أناديك من جمرة الذاكرة". وقصيدة الشاعر
العراقي فاضل السلطاني: "الولادة الثانية"، وقصيدة الشاعر العراقي هاشم
شفيق: "مزامير لبحر مريام"، وقصيدة الشاعر السوري ميخائيل عيد: "نجمة
الصبح"، وقصيدة الشاعر السوري جلال قضيماتي: " جحيم الحجارة"، وقصيدة
الشاعر الفلسطيني محمود علي السعيد: "مواقد الحجارة"، وقصيدة الشاعر السوري
محمد خالد رمضان: "زمنٌ من دماء".
والقصائد التي ذكرناها متباينة من حيث مستواها الفني والفكري إلاّ
أنها -وعلى وجه العموم- من النماذج التي لم تتكئ على الصراخ والزعيق
والمباشرة، واستخدمت لغة شعرية فنية موحية ومتميزة مما وفر لها عوامل
النجاح الفني، بالإضافة إلى رؤيتها الفكرية المتقدمة.
أما قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "مأساة النرجس وملهاة
الفضة"(9)، فتعتبر من أهم القصائد العربية التي حاولت أن تشكل المعادل
الموضوعي الفني للحدث التاريخي -الانتفاضة- والارتقاء إلى مستواه، وهي من
بين القصائد المتفردة والمتميزة من الناحية الإبداعية، وقد اعتبرها بعض
النقاد والكتّاب: "قصيدة الانتفاضة"، ومنهم الأستاذ عبده وازن الذي قال
عنها: "قد تكون قصيدة: مأساة النرجس وملهاة الفضة، قصيدة الانتفاضة بحق،
فهي تغني الانتفاضة من دون أن تسميها، وتتغنى بالحجر من دون أن تدل عليه،
بل هي تتحاشى المنزلق الخطر الذي يهدد الكلام عن ثورة أهل الأرض، وتبتعد
كثيراً عن النبرة الخطابية التي وسمت غالب القصائد التي استوحت الانتفاضة.
فالشاعر يعبر عن الواقع العميق الذي رسخته ثورة الحجارة، لا عن الواقع
العابر والزائل الذي جذب عدداً من الشعراء وأوقعهم في شرك السهولة
والمنبرية والانفعال السطحي.
كما أنه يتجاوز الظاهر العارض للانتفاضة متوجهاً نحو الجوهر الخفي
ويتخطى ما يُسمى عادة ردة الفعل نحو فعل آخر هو المعادل الشعري واللغوي
والرمزي للحدث التاريخي والواقعي العظيم...."(10).
ولولا بعض الثغرات الفنية التي ظهرت فيها لشاركْنا عبده وازن رأيه،
وقلنا: بأنها قصيدة الانتفاضة. بحق. ومع كل هذا سنركز على هذا النموذج
الفني بالتحليل والنقد، وهذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال التقليل من أهمية
بعض النماذج الجيدة المذكورة الأخرى.
يُمكن أن نعتبر قصيدة درويش :"مأساة النرجس وملهاة الفضة"، امتداداً
للقفزة النوعية التي حققها في مسيرته الشعرية في مطلع السبعينات، حينما أطل
علينا بقصيدتهِ، الشهيرة: "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا".
في ذلك الوقت انتقل درويش من كتابة القصيدة الغنائية القصيرة ذات
الصوت الواحد، وذات المسحة الثورية الرومانسية إلى القصيدة الطويلة المركبة
التي تزاوج بين الغنائي والملحمي.
بعدها تتالت إنجازاته الشعرية، ومنها: أحمد الزعتر، ومديح الظل
العالي، وأخيراً: "مأساة النرجس وملهاة الفضة".
يمكن قرءاة القصيدة بمستوياتها المتعددة: الفكري- السياسي،
التاريخي- الأسطوري، الرمزي، واللغوي- الجمالي.
وهي تعبر في جوهرها عن تحقيق حلم الفلسطيني بالعودة إلى أرضه بعد
طول عناء وتشرد في المنافي العديدة، إنها باختصار رؤيا ترتكز على فكرة
العودة- النصر، وإن هذا النصر المتوقع سيجيء نتيجة للانتفاضة التي فجرها
أبطال الحجارة داخل الأرض المحتلة- فلسطين، وبدهي القول هنا بأن هذا الفعل
الثوري لم يكن معزولاً عما سبقه من أفعال ثورية ونضالات متراكمة، بل شكل
حلقة في سلسلتِها المترابطة، وجاء تتويجاً لها.
ومحمود درويش هنا يستبق الأحداث، يستشرفها، إنها الرؤيا- النبوءة،
فمنطق خطابه الشعري يتحدث عن تحقق فعل العودة، لا عن إمكانية تحققه، والفعل
"عادوا" هو الذي يجسد ذلك، وهو اللازمة الشعرية المتكررة في القصيدة.
تبدأ القصيدة بداية فنية متواضعة: تفاصيل يومية يتحدث عنها الشاعر
بلغة الماضي البعيد، لغة واقعية شفافة أقرب إلى لغة الكلام العادي، إلاّ
أنها سرعان ماترتقي فنياً وتسمو إلى مصاف لغة الشعر الموحية، هذه التفاصيل
تتحدث عن حياة.
البيت الفلسطيني اليومية بكل بساطتها وإنسيابيتها وعذوبتها: "بصل،
ثوم، ماعز....الخ، كما أنها تتحدث عن تحقيق فعل العودة:
"عادوا....
من آخر النفق الطويل إلى مراياهم... وعادوا
حين استعادو ملح أخوتهم، فرادى أو جماعات وعادوا
من أساطير الدفاع عن القلاع إلى البسيط من الكلام
لن يرفعوا من بعد، أيديهم ولا راياتهم للمعجزات إذا أرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم، ويرتبوا هذا الهواء
ويزوجوا أبناءهم لبناتهم، ويرقصوا جسداً توارى في الرخام
ويعلقوا بسقوفهم بصلاً... وبامية.. وثوماً للشتاء.
وليحلبوا أثداء ماعزهم... وغيماً سالَ من ريشِ الحمام
عادوا على أطراف هاجسهم إلى جغرافيا السحر الإلهي.
ثم يستطرد الشاعر مؤكداً على أن البلاد -فلسطين- هي هي "لم تصب بأي
سوء"، بالرغم من تعاقب العديد من الغزاة عليها، وفي مراحل تاريخية متباينة،
كلهم رحلوا وظلت الأرض في تجددها وعنفوانها وخصبها وعطائها:"هبت رياح
الخيل، والهكسوس هبُّوا/ وخلدوا أسماءهم بالرمح أوبالمنجنيق.... وسافروا/
لم يحرموا إبريل من عاداته: يلدُ الزهور من الصخور/ ولزهرة الليمون أجراسٌ،
ولم يُصب الترابُ بأي سوءٍ -أي سوء/ أيِّ سوءٍ بعدهم/ والأرضُ تُورَثُ
كاللغة".
في استطراداته الواقعية، والأسطورية، والتاريخية، يأخذ المنفى حيزاً
كبيراً من ذاكرته الشعرية المشتتة والمتشعبة والمتفجرة. لقد كان الوصول
المُتخيل إلى الهدف- العودة، إلى الأرض مُكلفاً وباهظاً: منافٍ شاسعة، دماء
وشهداء، بدايات متكررة وكل نهاية ليست إلى بداية جديدة لرحلة نضالية جديدة
صوب الوطن، لم يكن الطريق سالكاً، بل متعرجاً وشائكاً، ولم يتحقق فعل
العودة -حسب المنطق الحُلمي للقصيدة- إلا بعد حركة صراعية هائلة، صراع مرير
يتناهبه القلق، والألم، والأمل، ولوعة المنافي، فلنقرأ للشاعر هذا الفيض من
الحنين المدمر الذي يجول في أرواح المنفيين: "..... وكلما مروا بنهرٍ...
مزقوه وأحرقوه من الحنين/ وكلما مرّوا بسوسنةٍ بكوا وتساءلوا: هل نحن شعب
أم نبيذ للقرابين الجديدة؟".
وأيضاً فلنقرأ مايعبر عن الشك في الوصول، وعن تجديد البدايات، وعن
ذوبان زمن البطل الفردي في زمن البطل الجماعي "الشعب" الذي سيواصل المسيرة
إلى نهايتها الظافرة: "لم يذهبوا أبداً ولم يصلوا/... كلما قالوا: وصلنا..
خَرَّ أولهُم على قوس البداية: أيها البطل ابتعد عنا لنمشي فيك نحو نهاية
أخرى فتباً للبداية/ أيها البطل المضرج بالبدايات الطويلة قل لنا: كم مرةً
ستكون رحلتنا البداية؟!".
وفي إطار هذه الحركة الصراعية لتحطيم الهوة الفاصلة بين الواقع
المعيش "المنفى" والواقع الحلم: "الوطن" بين مرارة النفي والتوق لاحتضان
الوطن، لا يخلو المشهد من عنصر عبثي سيزيفي، لكنه يتجلى بشكل آخر-حركة
الأحصنة وفعلها-....:"في التيه متسعٌ لأحصنةٍ تشبُ من السفوح إلى الأعالي/
ومن السفوح تخرُ صوب القاع".
في القصيدة يعبر درويش عن مفهومهِ للمنفى، ولكن بتلوينات شعرية فنية
موحية ومتعددة، غاية في الجمال والإدهاش، وهي لا تخلو هنا من إشارة عابثة،
لكن العبث ليس عبث النضال، عبث الوصول، بل عبث المنافي، كماهية ووجود طارئ،
ومعنى منافٍ لمعنى الاستقرار والطمأنينة: "الوطن"، هذا المعنى:"المنفى"
يقودنا إلى اللامعنى ولا يطل بنا على شيء: ".... أما المنافي، فهي أمكنة
وأزمنة تغير أهلها/ وهي المساء إذا تدلى من نوافذ لا تطلُ على أحد/ وهي
الوصول إلى السواحل فوق مركبة أضاعت خيلها/ وهي الطيور إذا تمادت في مديح
غنائها، وهي البلد/ وقد انتهى للعرش.... واختصر الطبيعة في جسد/"، ومرة
أخرى ترد الإشارة إلى عبث المنافي، لكن هذه المرة من خلال النشيد، نشيد
الخلاص الجماعي الذي يستنفر الشاعر فيه كل عناصر الحياة، وقوى التغيير
الثورية من أجل الوصول وتجاوز اللامعنى، ويكاد يتحول هذا النشيد الذي يتكرر
في القصيدة ثلاث مرات إلى لازمة شعرية توازي اللازمة الأولى: الفعل
"عادوا"، إلاّ أن تكراره يأتي بتلوينات فنية متعددة،/ ومعانٍ متجددة
ومختلفة، وهنا تبرز أيضاً مقدرة الشاعر الفنية، وتمكنّهِ من أدواتهِ،
ويتجلى بوضوح عامل الخبرة المتراكمة وطول الدربة، والتمكن من الصنعة
الفنية:
"...... يانشيدُ! خذ العناصرَ كلَها
واصعد بنا دهراً فدهراً
كي نرى من سيرةِ الإنسان ماسيعيدنا
من رحلةِ العبث الطويل إلى المكان- مكاننا
واصعد بنا قمم الحرابِ لكي نطل على المدينة
أنت أدرى بالمكان، وقوة الأشياء فينا
أنت أدرى بالزمان....".
مفردة الحجر كرمز صراعي، وأداة قتالية استخدمها المنتفضون داخل
الأرض المحتلة لا ترد في القصيدة إلاّ لماماً، فدرويش يطل علينا من داخل
الحالة الثورية نفسها، ومن ثم من داخل العملية الشعرية ذاتها، أي أن الفكرة
الثورية تذوب في داخل النسيج الفني العضوي للقصيدة وتتغلغل في مساماتها
فتصبح أحد عناصرها الداخلية المكونة، فينأى الشاعر هنا بقصيدتهِ عن الصراخِ
والخطابية الفجة التي أوقعت بحبائلها غالبية القصائد التي كرست للانتفاضة:
"بالحجرِ المدمى ص 89، ونشيدهم حجر يحك الشمس ص 90....، وخذني إلى حجر ص
93".
قصيدة درويش لا تنطلق من بؤرة مركزية واحدة تستقطب أفكار الشاعر
ورؤاه وأخيلته وصوره، أي ليس هناك ثمة انتظام وسياق واحد مُحدَد لها، إنه
السياق الشعوري الكلي لذاكرة كلية مزدحمة بالألوان والصور والأفكار
والأزمان المتداخلة، المتناقضة، والمتناثرة على سطح الزمن في أبعاده
الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، لذا فهي تتطور بشكل انفجاري،
وباتجاهات عديدة، وعبر مستويات وتقنيات متنوعة.
وبالرغم من هذا التشظي فإن دورة القصيدة وحركيتها الداخلية تمر عبر
عناصر أساسية تتمثل في هذه الحركة: (المنفى.... الفعل الثوري... الانتصار
والعودة إلى الوطن).
لقد قلنا إن الانتصار لم يتحقق -نعني على مستوى الحلم- إلاّ عبر
حركية صراعية، إلاّ أن التنامي الدرامي للقصيدة لم يكن متسقاً ومتناسقاً من
خلال فعل درامي واضح وعبر حركة وتناقض المتضادات، وقد لاحظنا مراراً أن
الشاعر يتدخل في مرات عديدة لإقحام رؤاهُ من الخارج لتجاوز مأزق القصيدة
الداخلي، وقد تجسد ذلك باستخدامه لحرف العطف (الواو) من أجل تمطيط القصيدة
وإيهامنا بأنها تتنامى ضمن قانونية وآلية داخلية محددة، وهذه برأيي إحدى
أبرز الثغرات الفنية فيها، ومن ذلك قوله: "وأنت أدرى بالزمان......، وفي
الممرات استعدوا للحصار، وتذكروا في فضة الزيتون".
والحركة الصراعية التي تحدثنا عنها تتمحور حول فكرة الثقة بالوصول
إلى الهدف -الذي هو العودة للوطن المستلب-، والخوف والقلق من عدم الوصول،
وقد تجسد هذا الصراع في العديد من المواضع الشعرية في القصيدة: "هانحن نحن،
فمن يغيرنا؟! نعود ولا نعودْ"، وقوله: مازال فيهم نرجس رخو يخاف من الجفاف/
مازال فيهم مايغيرهم إذا عادوا ولم يجدوا: الشقائق ذاتها/ وبر السفرجلة
العنيدة ذاتها، والأقحوانة ذاتها، والأكيدنيا ذاتها/"، وقوله: "ويحلمون
بربيع هاجسهم يجيءُ ولا يجيءُ".
إلاّ أن هذا الصراع يتكلل أخيراً بالعودة والنصر، وذلك من خلال حركة
الأفعال الثلاثة: "يعرفون، ويحلمون، ويرجعون"، التي تتبادل المواقع فيما
بينها، وتتداخل أيضاً، إلاّ أن الضربة النهائية في القصيدة تكون الفعل:
"ويرجعون" وهذا لم يأتِ اعتباطاً بل جاء مدروساً بالرغم من تداخل الأفعال
المضارعة المذكورة، وتبادل المواقع فيما بينها، وهذا يؤكد على تحقيق العودة
والنصر النهائي للشعب الفلسطيني وثورته: "يعرفون، ويحلمون، ويرجعون،
ويحلمون،ويعرفون، ويرجعون، ويرجعون، ويحلمون، ويحلمون، ويرجعون".
أما من الناحية الفنية فقصيدة درويش هي قصيدة رؤيوية مركبة متعددة
الأصوات يتزاوج فيها الملحمي بالغنائي، المجرد بالمحسوس، الأسطوري
بالواقعي، والجزئي بالكلي.
وإن كان الطابع الشمولي والكلي هو السائد في بنيتها وذلك على حساب
التفاصيل اليومية والوقائع الحياتية الجزئية.
تعدد أصوات القصيدة تجسد باستخدام الشاعر لضمائر عديدة ومتنوعة
فثمة: ضمير الجماعة الغائب: "هم" "كانوا معاً/ كانوا معاً يتحاربون
ويغلبون، ويُغلبون"، وضمير الجماعة: "نحن" "أين نحن الآن"، وثمة صوت البطل
الفردي: "الشهيد" وهو ضمير المفرد المخاطب "أنت": "الآن سدّدْ آخر الخطوات
نحو الباب..... واختتمْ المسيرة"، وثمة صوت الشاعر: "يانشيد! خذ العناصرَ
كلَّها".
إن تعدد وتنوع الأصوات في القصيدة، بالإضافة إلى الحركة الصراعية
داخلها أضفى عليها طابعاً درامياً ملحمياً مُمتزجاً بالغنائية العذبة التي
عرف بها درويش في كامل تجربته الشعرية، ونحن هنا نخالف الزميلة الناقدة
فاطمة المُحسن التي حاولت أن تنزع عنها الطابع الملحمي، وأن تنسبها إلى
الشعر الغنائي، بقولها: "ومع أن القصيدة تتوخى في منحاها العام خلق جو
ملحمي، بطولي، إلاّ أنها تفيض بعاطفة ورهافة وجدانية تنسبها إلى الشعر
الغنائي، وتجعلها على مسافة من دراما الملاحم الكبيرة"(11).
والشاعر محمود درويش أكد الرأي الذي ذهبنا إليه حينما تحدث عن هذه
القصيدة وغيرها من قصائده الأخيرة، بقوله: "أتمسك بغنائية تطل على تخوم
الغنائية الملحمية"(12).
وفي قصيدته هذه حاول درويش إظهار براعته الفنية عن طريق تنويعه في
استخدام الأساليب الشعرية الحديثة: فقد استخدم المونولوج: "ماذا صنعنا
بالقرنفل كي نكون بعيده؟!/ ماذا صنعنا بالنوارس؟!". و"هل للروح أرداف
وخاصرة وظل؟!"، و"من عاد من سفرٍ إلى حبقِ الطفولة؟!"، و"يابحر إيجه عّد
بنا يابحر.....".
كما استخدم أسلوب الاستذكار "الفلاش باك": "كانت الساحاتُ أوسع من
سماء لا تغطيهم، وكان البحر ينساهم، وكانوا يعرفون شمالهم وجنوبهم، ويطيرون
حمائم الذكرى إلى أبراجها الأولى".
بالإضافة إلى استخدامه للرمز والأسطورة التاريخية بشكل ملفت للنظر
وربما لأول مرة بهذه الكثافة في أشعاره.
واستخدام درويش للرمز جاء بأشكال متباينة، فهناك الرمز الشفاف
الواضح: "الزهور، القرنفل، الرخام، اللوز، غزالة، البخور...الخ". وهناك
الرمز الواقعي التاريخي:"صلاح الدين، الهكسوس، التتار، روما، صور، جلجامش"،
والرمز الديني:"آدم، المسيح، قابيل، هابيل، اسحق، واسماعيل....الخ".
والسؤال المطروح هنا: هو إلى أي حد نجح درويش في توظيف الرمز
والأسطورة في قصيدته هذه؟!
كما يبدو لي فإن درويش أثقل جسد قصيدته "مأساة النرجس وملهاة
الفضة"، بحشد هائل من الرموز الأسطورية والدينية دون أن يتحول الرمز في
أحيان عديدة إلى عنصر فاعل داخل بنية القصيدة، وإلى عنصر متفاعل مع بقية
العناصر الأخرى يساهم في نمو القصيدة، وتصاعدها الدرامي وفي تطوير حركتها
الداخلية المتأتية من تفاعل وتمازج كافة عناصرها المكونة لها، وبالتالي
فنحن نشعر أن أغلب الرموز التي استخدمها درويش في هذه القصيدة جاءت مُقحَمة
من الخارج ولم تتحول إلى جزء من النسيج العضوي للقصيدة، ولهذا فإنه لم
يتمكن "غالباً"، من إكساب الواقع معاني ودلالات جديدة عن طريق استخدام
الرمز، أي أنه جاء بالرمز وانتزعه من سياق تاريخي- اجتماعي محدد وحشرهُ في
سياق آخر دون أن يساهم ذلك في تعميق البنية الدلالية للرمز، أو أن يمنحه
-للرمز- وهجاً دلالياً جديداً، وهذا واحد من أهم أسباب توظيف واستخدام
الرمز.
إن استخدام درويش للرمز والأسطورة بهذه الكيفية والمبالغة في ذلك
يقودنا إلى القول بأننا إزاء محاولة "درويشية" لعرض العضلات الثقافية
والمعرفية وهذه هي واحدة من أهم الثغرات الفنية في القصيدة، إلاّ أن ذلك لا
يعني أبداً التقليل من أهمية الجوانب الجمالية والفنية الأخرى التي كشف
عنها النص المذكور.
وكمثال حي على ماذهبنا إليه سنورد لكم هذا المقطع من القصيدة، وهو
نفسه الذي أشارت إليه بصواب الزميلة الناقدة فاطمة المُحسن والتي قالت عن
هذا الإغراق في استخدام الرمز:"ولو قيض لنا أن نجمع كل رموزه الأسطورية
والدينية، لما أبقينا لكتاب عن تاريخ الحضارات والمعتقدات في المنطقة
شيئاً"(13).
..... "عادوا إلى ماكان فيهم من منازل واستعادوا/ قدم الحرير على
البحيرات المضيئة، واستعادوا/ ماضاع من قاموسهم: زيتون، روما في مخيلة
الجنوب/ توراة كنعان الدفينة تحت أنقاض الهياكل بين صور وأورشليم/ وطريق
رائحة البخور إلى قريش تهب من شام الورود/ وغزالة الأبد التي زُفت إلى
النيل الشمالي الصعود/ وإلى فحولة دجلة الوحشي وهو يزف سومر للخلود...".
لغة القصيدة هي استمرار للغة درويش الشعرية ذاتها، حيث البساطة
والوضوح والشفافية، لغة منسابة ورقيقة، فيها انسيابية الماء ورقة الهواء.
إن براعة درويش الفنية وتميزه عن الغالبية العظمى من الشعراء العرب
تكمن في طريقة استخدامه للغة، طريقة تعامله معها، كيفية تكوين العلاقة بين
المفردات مما يكسبها ألقها، وينقلها من مصاف العادي إلى مصاف السحري
والمدهش في الفن، إن هذه الطريقة في التعامل الحي مع اللغة، وبالاقتران مع
مخيلة رحبة، مُحلقة، وخصبة، هو السر في إبداع درويش الشعري. وفي القصيدة
التي نتحدث عنها:" مأساة النرجس وملهاة الفضة"، نقرأ العديد من التألقات
الفنية الناتجة عن هذا التزاوج. حيث نلمس بوضوح قدرة فنية هائلة على
المزاوجة بين المجرد والمحسوس، وقدرة كبيرة على رسم الصورة المركبة القادرة
على توليد المعاني المبتكرة والجديدة، فلنقرأ له: "وليحلبوا أثداء
ماعزهم... وغيماً سالَ من ريشِ الحمام/ عادوا على أطراف هاجسهم إلى جغرافيا
السحر الإلهي".
هنا تزاوج مدهش بين المجرد والمحسوس، "فالأثداء" و"الغيم" و"الريش"
هي مفردات حسية، وبراعة الشاعر تكمن في تكوين العلاقة بين هذه المفردات،
وبخاصة العلاقة الحركية بين "الغيم" و"ريش الحمام"، والفعل سال هو الذي ربط
بين ظاهرتين حسيتين: "الغيم" و"ريش الحمام"، كما أنه هو الذي أعطى للصورة
حركيتها، أما عنصر الإدهاش والابتكار فقد أتى من هذا الاستخدام المجازي
لسيلان الغيم، هذه المباغتة الجميلة للتوقع، تجاوز العادي والمألوف، هي
السر السحري في الشعر، فالوعي يتجه بشكل تقليدي إلى صورة سيلان الغيم أو
سيلان ماء الغيم من السماء، أما أن يسيل الغيم من ريش الحمام فهذا هو ماليس
متوقعاً، وهذا هو من فِعل المُخيلة المُحلِقَة والخالقة لكل ماهو مبتكر
ومدهش.
أما المجرد هنا فهي كلمة "هاجسهم"، إلاّ أن مُخيلة الشاعر خلقت لنا
من هذا المجرد محسوساً تابعاً له وهو "الأطراف" فبدلاً من أن يقول الشاعر:
"عادوا على أطراف أصابعهم مثلاً"، وهو كلام عادي، قال: "عادوا على أطراف
هاجسهم"، ليُنتجَ لنا صورة مركبة جمعت في جملتين شعريتين ثلاث ظواهر حسية،
وظاهرة مجردة.
القصيدة تزخر بالعديد من هذه الصور المركبة التي يتزاوج فيها
المجرد بالمحسوس، والتي تدل على علو الكعب الفني لهذا الشاعر المبدع
والكبير، وسنشير إشارة سريعة فقط إلى بعض هذه التألقات الفنية المدهشة:
"ويغافل الصوفي امرأةً ليغزل صوف عتمتها بلحيته، ويعلو جسداً من البلّلور /
هل للروح أرداف وخاصرة وظلُّ"، وقوله: "خذني إلى قمر/ لأعرفَ ماتبقى من
شرودي"، وقوله: "هل كان في الزيتون مايكفي من المعنى... لنملأ راحتيه/
سكينةً، وجروحه حبقاً، وندلق روحنا ألقاً عليه؟/".
وقوله: "حلبوا السراب ليشربوا لبن النبوءة من مخيلة الجنوب"، وقوله:
"سوف نعلم الأعداء تربية الحمام إذا استطعنا أن نعلمهم. وسوف ننام بعد
الظهر تحت عريشة العنب الظليلة، حولنا قطط تنام على رذاذ الضوء/ أحصنة تنام
على انحناء شرودها".
إن ذكرنا لهذه التألقات الفنية ليس من أجل تبضيع القصيدة، فالقصيدة
كما هو معروف يتم تناولها ككل شامل، وبنية متكاملة، وهذا ماحاولناه أثناء
تعرضنا لمستوييها: الفكري والفني، إلاّ أننا الآن نحاول المرور على أهم
تألقاتها المتميزة ضمن إطار البنية الفنية العامة للقصيدة.
وبعض صور درويش تستمد قدرتها على الإدهاش من المفارقة والتناقض
كقوله: "ويصطادون من شهدائهم نجماً يسيرهم إلى وحش الطفولة".
المفارقة في هذه الصورة المركبة تأتي من الجمع بين النقيضين، وهما:
الوحش والطفولة. فالطفولة كما هومعروف رمز للبراءة والوداعة، أما أن
نَصِفُها بالوحشية والخشونة، فهنا تكمن المفارقة، وهنا تتم أيضاً المزاوجة
بين الضدين في صورة واحدة، ومن هنا أيضاً تستمد الصورة قدرتها على الإدهاش
وصدم مخيلة المتلقي.
من جهة أخرى، سقطت القصيدة في بعض مواضعها وأمكنتها بعادية الكلام،
والرتابة المُمِلة، كقوله: "ولأنهم لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما
تقدمها الحياة"، إلاّ أن الضعف الفني تجسد في المقطع التالي بشكل صارخ:"يا
أيها البطل الذي فينا... تمّهل!/ عِش ليلةً أخرى لنبلغ آخر العمر المكلل/
ببداية لم تكتمل/ عِش ليلةً أخرى لنكمل رحلة الحلم المضرج/ ياتاج شوكتنا،
وياشفق الأساطير المتوج/ ببداية لا تنتهي/ يا أيها البطل الذي فينا....
تمهل/ عِش ساعة أخرى لنبدأ رقصة النصر المُنزَّل/ لم ننتصر بعد، انتظر....
يا أيها البطل انتظر/... فعلامَ ترحل/.. قبل الوصول بساعة؟! يا أيها
البطل.".
باطمئنان نقول إن هذا الكلام ليس فيه من روح الشعر شيء، إنه كلام
عادي مُمل جرى صَفّهُ على هيئة الشعر، وتوهم شاعرنا درويش أنه بالتزامه
القافية، أو بالنبرة الإيقاعية المتجسدة فيه، قادر على التعويض عن الشاعرية
المفقودة هنا.
نحن هنا إزاء فكرة معدة مسبقاً، فكرت تقحم من الخارج على سياق
القصيدة وتطورها الداخلي، فكرة تكبح انسيابيتها وتدفقها وعفويتها، وكذلك
إزاء قافية تحد من توهج المخيلة ولا تقودنا إلاّ إلى رتابة الكلام وهندسيته
الفجة.
ومن ثغرات القصيدة أيضاً انفلات اللا وعي في بعض جملها الشعرية إلى
درجة تصل إلى حد الهذيان اللا شعري، كقوله:"النصر موت كالهزيمة، والجريمة
قد تقود إلى الفضيلة"!!
صحيح أن الشعر فيه مسحة من الجنون، لكنه كما يقول أدونيس:"إذا كان
الشعر جنون العالم، فهو أيضاً بصيرته"، تُرى أية جريمة قادرة على أن تقودنا
إلى الفضيلة!!؟ سؤال للشاعر الكبير محمود درويش.
صحيح أننا لا نستطيع أن نحاكم الشاعر بمنطق عقلي صارم، لأن الشعر
عملية إبداعية مركبة ومعقدة تتداخل فيها عدة عناصر، أهمها: الوعي،
واللاوعي، الواقع، الموسيقى، الصورة، العاطفة، الخيال، واللغة....الخ. إلا
أن هناك خيطاً فاصلاً ودقيقاً وحاداً أيضاً يفصل في النهاية بين مانسميه
شعراً، وبين الهذيان المطلق!!
يقيناً أن شاعرنا درويش لو دقق في قصيدته هذه جيداً لنقحها، وأبعد
منها بعض شطحات اللاوعي التي لم تكن ضرورية للقصيدة، ولأبعد الحشو
والاستطالات الزائدة التي أرهقت جسد النص.
ومع كل ماتقدم، وبالرغم من بعض الثغرات الفنية والفكرية التي
احتوتها هذه القصيدة، تبقى في المعيار الكلي والشمولي واحدة من أهم القصائد
التي كتبها محمود درويش وهي من أهم القصائد العربية التي حاولت أن تعبر عن
هذا الحدث النضالي الكبير "الانتفاضة"، وأن تشكل المعادل الموضوعي الفني
له.
*محمود علي السعيد / فلسطين:
بنكهتهِ الفنية المتميزة، ونقدهِ اللاذع الساخر والمميز، يطل علينا
الشاعر العربي الفلسطيني محمود علي السعيد بقصيدتِه: ((مواقد الحجارة))
التي كرسّها لتمجيد الانتفاضة وتمجيد مُفَجّريها، والتي نأى بها عموماً-ولا
أقول في كل مقاطعها- عن التقريرية والمباشرة، فلنقرأ له مطلع هذه القصيدة
الذي تَمّيز بتألقه الفني وَحديتهِ الجارحة:
((صفقّي يا جراحَ اليدينْ
حجرٌ تبدى
مثل قرص الشمس في ألقِ الضحى
طفلٌ تشظّى
قطعاً من راجماتِ العرشِ
في صحن الوطن
طائر شقّ صدرَ الحصارِ
انتشت مِن شقوقِ الأرضِ زنبقةٌ
وَحطّت فوق غصنِ الشجن)).
استخدم الشاعر هنا: "الحجر" كرمز للثورة والإشعاع، وشَبَّه ظهوره
وتبدّيه كبزوغ قرص الشمس، وهو تشبيهٌ حسيٌ بارع، ومنذ عنوان قصيدتهِ:
((مواقد الحجارة)) نلمسُ ذات الدلالة: أي الحجارة هي رديفة للنار التي هي
رمز الإضاءة والثورة، بل هي حاضنة لها: "الموقد". وفي جملتهِ الشعرية:
((صفقّي يا جراح اليدين" استعار الجراح بدلاًمن أصابع اليدين وَشَبّه
الجراح بـ"الأصابع" بعد أن حذف المُشَبه به: "الأصابع"، وأعطى فعل
التصفيق"للجراح"، وهي صورة حسية تختزن داخلها حالة إيحائية وفكرية مدهشة
تربط الألم"الجراح" بالفرح الذي يعبر عنه"فعل التصفيق".
- وهذا المعنى المبتكر يدل على حالة التجاوز التي يمتاز بها الإنسان
الثوري الذي يغني للفرح والثورة على أنقاض ألمهِ وجراحهِ!!.
أما البطل هنا، فهو الطفل- الفادي، الطفل- الشهيد الذي((يتشظى
قطعاً)) من أجل تحرير الوطن وإنقاذهِ. لنلاحظ هنا في هذه الجملة
الشعرية:((طفل تشظى/ قطعاً من راجماتِ العرشِ/ في صحن الوطن)) الطاقة
التحولية التي يختزنها النص، فالطفل المتشظي تتحول شظاياه إلى"راجمات" تدك
وترجم"عرش" الصهاينة، وتعمل على تفكيك وتصديع بنيانهم القائم على الظلم
والاحتلال ومحاولة إجلاء الآخر"العربي الفلسطيني" واستباحته. إلاّ أن
هذه"القطع المتشظية" والمتحولة إلى"راجمات" لا تتشتت في مهاوي العدم، ولا
تصبح هباءً منثوراً في فضاء الفوضى، بل إن صحن"الوطن" هو الذي يحتويها
ويحتضنها ويحافظ عليها من التبدد والتشتت.
الوطن"فلسطين" هنا هو الملاذ والملجأ الآمن الذي يحافظ ليس على
ديمومة الأحياء، بل وحتى على ديمومة ذرات جسد الشهيد المبارك، وهي ذرات
انبعثت من تراب الوطن وعادت إليه لتبثَ الحياة في نسغه وخلاياه. ثم ينوّع
الشاعر في دلالة الرمز، حيث يتحول الطفل- الفادي إلى "طائر" يشق"صدر
الحصار" من أجل حرية الوطن، ونلمس هنا ذات الدلالة المعنوية التي قرأناها
في مطلع القصدة في هذه الجملة الشعرية: "طائرٌ شقّ صدر الحصار/ انتشت من
شقوق الأرض زنبقة/ وحطت فوق غصن الشجن" أي مرافقة الفرح للحزن، والشاعر هنا
يستخدم هذه الثنائية: الفرح والحزن، لتعميق وتطوير البنية الدرامية في
قصيدتهِ.
ثم تتعدد الدلالة، ويستخدم الشاعر رموزاً عديدة ترمز إلى النضال
والكفاح من أجل فلسطين ومن أجل الحرية، ففي هذا المقطع الشعري يستخدم بدلاً
من"الطفل" و"الطائر" الرموز التالية: "الجثة"، "الساعد"، "الصوت"،
و"الشهيد":
((جثةٌ تشعلُ القميصَ احتجاجاً
ساعدٌ شبَّ على طوق الحديد
من حشرجاتِ السابلة
مِن مِكسر الجسد المعطّل في تضاريس الجبل
مِن رقصة الموتِ المسجّى
في تقاطيع الوجوه
من بسملاتِ القافلة
صوتٌ تحدّى
طلقةَ الجلادِ في حربِ الإقامة
ماجت المنعطفات بالجرحى
وأغلقت النوافذ
سقط السّهيدُ على الشهيدِ
إنه عرس القيامة)).
ونلاحظ في هذا المقطع أيضاً أن الشاعر ربط النضال من أجل الحرية
بالبعد الاجتماعي والطبقي. فالمناضلون هم الناس البسطاء، الكادحون
والمنتجون. هؤلاء هم الذين يدفعون ضريبة الحرية وهم الذين يشيدون الوطن على
كواهلهم: "السابلة" و"العامل": "مِن مِكسر الجسد المعطّل...."، وهم الذين
نقرأ في تقاطيع وجوههم علامات الذبول والاصفرار والموت، إلاّ أن ما يُدهش
هنا هو أن الشاعر أعطى للموت حركية هائلة، إنها الحركة على أنقاض الهمود،
الفعل على أنقاض التلاشي والتحلل،: "من رقصة الموت المسجّى/ في تقاطيع
الوجوه/".
صحيح إن الموت كامن في تقاطيع هذه الوجوه الكادحة والمناضلة، إلا أن
هؤلاء البشر قادرون على التجاوز والعطاء رغم مرارات الموت وعذابات الحياة
فهم يرقصون على أشلاء موتهم من أجل الحرية ومن أجل انبعاث الحياة، وهم
يتحدون"طلقة الجلاد" ويقيمون: "عرس القيامة". ثم يستطرد الشاعر محمود علي
السعيد مُشيداً بشعبه العربي الفلسطيني المكافح، داعياً إلى تحرير المسجد
الأقصى من رجس الصهاينة، مؤكداً على التآخي والتآزر الإسلامي- المسيحي ضد
العدو الصهيوني الغاصب:
(( شعبٌ سرى
ياليلةَ التحريرِ جئتُ أدقّ أروقة المساجدِ
ليطلَّ مِن قضبانها الأقصى
أدقُ ناقوسَ الكنائسِ
كي أصافحَ في الأناجيلِ القداسةَ
وجه الفدائي المسيحِ)).
ثم ينتقد الشاعر بلغتهِ الحادة، وسخريته المعروفة الأنظمة العربية
التي تعاني غالبيتها مِن التشتت والضياع وانعدام الفعل، مؤكداً على أنها لا
تجيد سوى تدبيج الكلام في إعلامها المزيف، والركض وراء إشباع الرغبات
والنزوات الذاتية، والتفاخر بالنياشين والأوسمة: ((ومِن الجدار إلى الجدار/
يروق طقسُ الأنظمة/ كأس معتقةٌ/ صبيّةٌ فيها من السحر الحلال/ وضجيج أعلام
تُرى/ بالعين-لا بالمجهر العصريِّ- عورتُه/ وعلى جناحِ الصدرِ- معتداً برخص
الموقف الرسميِّ تبرق أوسمة)).
بعد هذا المقطع الشعري يتجسد لنا البعد السياسي- الفكري للقصيدة في
أسطع تجلياته، حيث ينتقد الشاعر محمود علي السعيد التيارات السياسية التي
تبرقعت بالمبادئ والشعارات ولم تكن جادة في طروحاتها وبرامجها الفكرية
والسياسية ، مُعرّياً دعاة اليسار واليمين والوسط، ومؤكداً على أن حصيلة
أفعال هؤلاء: الثرثرة وخداع المواطن العربي والركض وراء المصالح، كاشفاً أن
جوهر ما قام به هؤلاء هو تحويل القضية: "قضية تحرير فلسطين" إلى عملية
تجارية بحتة.
ونلاحظ أن الشاعر هنا يستند على المناضل المجرّب: "ضمير الغائب: هو"
الذي خَبَر زيف هذه التيارات السياسية والفكرية التي لم تطبق ما دعت إليه
من مُثل ومبادئ، ولم يشاهد في النهاية سوى: "صيارفة الكلام" و"تجّار
الورق"!!.
بدهي هنا أن الشاعر السعيد يقصد من وراء هجومه الحاد ونقده اللاذع،
المنافقين الذين ادعوا النضال زيفاً وبهتاناً، وهو لا يقصد جوهر المبادئ
العامة أو المناضلين الحقيقيين الذين تشبثوا بمبادئهم، بل قدموا أرواحهم
فداءً من أجل انتصار القضية الفلسطينية، باعتبارها جوهر النضال القومي
العربي التحرري. فلنقرأ له هذا المقطع الذي يدل على ما ذهبنا إليه:
((جرّب من المدن اليسارَ
أخصّها: مدنَ العربْ
ومن العواصم من يبيع ويشتري
ويعدّ أرقاماً فقط
تلق على صدرِ الشواطئِ
قاطرات النفط تعبق من معاطفها الجديدةْ
جرّب من المدنِ اليمينَ
ومن الرجالات العقيدةْ
جرّب أباريقَ الوسطْ
تلق صيارفة الكلامِ
وتلق تجار الورقْ
ومن الدماءِ بقيةً فوق القميص))
إلاّ أن هذا المناضل المحنك والخبير لم تطحنه قيود النفاق والدجل
السياسي، بل تعلمّ من الحياة ومن خبرته المتراكمة، ومن خلال بؤسه وفقره
فجّر ثورته منطلقاً صوب ضياء الحرية، ناشداً الخلاص لشعبه وأمته: "فجّر
صناديق القمامة وانطلق/ صوب الألق/". ثم يلجأ الشاعر في المقطع الأخير من
القصيدة إلى وصف الانتفاضة بـ"الوردة الجورية" التي"تشب على صدر الحقول"
مطالباً الفدائي بأن يشد أزرها وينظف وجهها من الظلام: "أشدُدْ بها أزر
الشذى/ نظّف من الوجه الظلام/ ومِن التضاريس الشفق/" وإذا كنا نتفق مع
محاولة المناضل في تنظيف الوجه من"الظلام"، وهذا ما يكشفه المنطق الفكري
لخطابه الشعري: "نظّف من الوجه الظلام"، إلا أننا نُباغت في هذه الجملة
الشعرية المعطوفة على ما قبلها وهي: "ومن التضاريس الشفقْ"، فالشفق هو رمز
الانبلاج والنور وبداية الإشعاع، وإذا كان طبيعياً أن ننظف الوجه من الظلام
فلماذا ننظف"التضاريس: مِن الشفق؟. أقول إن هذه الفكرة خاطئة، وربما جاءت
مُستعجَلة من قِبل الشاعر وفرضَتْها حالة اللاوعي، وهي فكرة لا تنسجم مع
سياق القصيدة العام، ولا مع كامل خطابها ومستواها الفكري. وربما كان الشاعر
يهدف إلى فكرة أخرى، إلا أننا لم نستطع قراءتها إلاّ بهذه الكيفية، ونرى
بأنها تدلُ على ما ذهبنا إليه.
بعد ذلك يستند الشاعر على الرمز التاريخي العظيم: "صلاح الدين
الأيوبي" داعياً إلى انبعاث أمثولته من جديد لكي يحررنا من الوهن والتقاعس
الذي أصاب"فرساننا"، ومؤكداً على أن العدو لا يفقه سوى لغة العنف والرصاص
التي ينبغي تعميمها: "قم يا صلاح ولا فتى إلاّك عَممِّ/ نهجَ البلاغةِ في
الرصاص/".
ثم تكشف لنا"رؤيا" الشاعر في خاتمة القصيدة بأن الجماهير عرفت طريق
الخلاص، وهو طريق العنف الثوري الذي سيفضي إلى النصر على الصهاينة
الغاصبين، ومؤكداً على أن عين"القلب" هي وحدها التي تبصر بحدسها الروحي
والجواني حتمية انتصار"شمس الأبجدية"، أما"العيون المستعارة" فإنها قاصرة
عن ذلك: ((النصر شمس الأبجدية/ نعم لعين القلب تبصرها/ ولا....... لا/
للعيون المستعارة)).
أما على المستوى الفني فهي قصيدة رؤيوية متعددة الأصوات: فنقرأ صوت
الطفل- المقاتل: "طفل تشظى/ قطعاً من راجمات العرش"، وصوت الشاعر المناضل:
((ياليلية التحرير جئتُ أدقّ أروقة المساجدِ))، وصوت الشعب: "شعبٌ سرى".
وصوت المناضل المجرَّب والمحنك الذي يشير إليه الضمير المغرد الغائب"هو":
((جَرَّبَ من المدنِ اليسارَ/ أخصها: مدنَ العرب/)).
واستخدم الشاعر محمود علي السعيد في قصيدته هذه العديد من الأساليب
الفنية: المونولوج: "ماذا أقول: الانتفاضة وردة جورية/ شبّت على صدر
الحقول"، والاستذكار: ((جرّب أباريق الوسط/ تلقَ صيارفةَ الكلامِ/ وتلق
تجار الورق/)). والنداء: "آه يا وطني الحبيب"، والوصف: "حجرٌ تبدّى/ مثل
قرص الشمس في ألق الضحى"، والسرد: "جثةٌ تشعل القميص احتجاجا/ ساعدٌ شبّ
على طوق الحديدْ/ مِن حشرجات السابلة"، والتلوين"بيِّض بريشتكَ الحضارهْ/
في كل منعطف وحاره"، واستخدم الرمز التاريخي"صلاح الدين الأيوبي" : "قُم يا
صلاح ولا فتى إلاّكَ عمِّم/ نهج البلاغةِ في الرصاصِ".
قصيدة محمود علي السعيد: "مواقد الحجارة" متماسكة البناء من الناحية
الفنية والفكرية، وهناك رابطة منطقية ووحدة موضوعية تربط بين أجزاء القصيدة
من بدايتها وحتى نهايتها، فالسابق سبب لِلاحق، واللاحق نتيجة منطقية لما
سبقه، مثال على ذلك، قوله: ((طائر شقّ صدر الحصارِ/ انتشت مِن شقوق الأرض
زنبقة/ وحطت فوق غصن الشَجنْ/)) إن فعل الانتشاء هنا وهو"اللاحق" جاء نتيجة
منطقية لأن الطائر وهو"السابق" "شق صدر الحصار"، تتجسد هنا الرابطة
المنطقية والوحدة الموضوعية بأبهى تجلياتها، فليس هناك ثمةِ كلام مجاني،
ولا ترهلات في جسد القصيدة، إنما عمل مُحكَم ومتماسك البناء وهذا دليل على
تمكن الشاعر من صنعتهِ وسيطرتهِ على أدواتهِ الفنية.
وقد تمكّن الشاعر في هاتين الجملتين الشعريتين: "انتشت مِن شقوق
الأرض زنبقة/ وحطّت فوق غصن الشجن"مِن بناء صورة مركبة تزاوج فيها الحسي
بالمجرد"فالأرض" و"الزنبقة" و"الغصن" ثلاث ظواهر حسية، أما"الشجن" فظاهرة
مجردة، وكما تبين لنا فإن الطابع الحسي هو الغالب في بناء هذه الصورة
المركبة.
كما نقرأ في هذه القصيدة العديد من الصور المركبة الأخرى التي تدل
على فرادة الشاعر في بناء صور فنية مدهشة تتسم بالجدة والابتكار، وتتخللها
العديد من الانزياحات الدلالية، بالإضافة إلى المفارقات المدهشة التي
تقربنا من عالم الشعر السحري حيث المباغتة والخروج على المألوف: وكمثال على
الانزياح الدلالي قوله في هذه الصورة: "جثة تشعل القميص احتجاجاً"، فالشاعر
هنا أعطى فعل"الحياة" و"الاحتجاج" للجثة التي أشعلت القميص احتجاجاً، وهو
عكس الطبيعي والمتوقع والمألوف، لأن هذه الأفعال: "الإشعال"، و"الاحتجاج"
لا يقوم بها إلاّ الكائن الحي-والعاقل تحديداً- فكيف استطاعت"الجثة" أن
تقوم بها؟.
لقد منح الشاعر بمخيلتهِ الرحبة طاقة حركية للصورة، ومنح"الجثة"
قدرة على الحياة والحركة والفعل على سبيل الانزياح الدلالي، ولعل هذه
الصورة، وهذا الانزياح تحديداً، يختزن في داخله طاقة فكرية خلاّقة، وشحنة
تحريضية هائلة، فالشاعر حينما أعطى فعل الاحتجاج والتمرد"للجثة"، فكأنه
أراد أن يقول لنا نحن الأحياء: لقد كان قمع الصهاينة وعسفهم وظلمهم مؤلماً
وقاسياً إلى درجة أن"الجثة" تحركت وتمردت واحتجت، فما بالنا نحن الأحياء لا
نحرك ساكناً!!؟. والشاعر لو لم يرد هذا المعنى لقال مثلاً: طفلٌ يُشعل
القميص احتجاجاً- إلا أنه أعطى هذا الفعل"الاحتجاج" للجثة لكي يخز الأرواح
الهامدة والنفوس المتقاعسة.
وهناك مثال آخر على الانزياح الدلالي، وهو قوله: ((جفّف من القلب
الجراحَ/ بما تيسرّ من عصير الحمضِ))، فالمعنى الطبيعي والمألوف هو أن
الضماد والأدوية الطبية هي التي تجفف جراح القلب، وليس"عصير الحمض" الذي
يُشعل الألم في هذه الجراح!!، وكأن الشاعر أراد أن يقول، ومن خلال هذا
الانزياح الدلالي، إن الألم هو وقود الثورة، وينبغي أن تظل جراحنا مشتعلة
ومستَفَزة دائماً لكي نستمر في مقاومة العدو الصهيوني الغاصب، وقد بنى
الشاعر بعض صوره مُستفيداً من أسلوب المفارقة والجمع بين المتناقضات مما
يمنح الشعر إمكانية الإدهاش وتجاوز المألوف والمتوقع، كقوله: "والناس خلف
جنازة الأفراح". وبالرغم من هذه التألقات الفنية الواضحة، إلاّ أن الشاعر
لم يحالفه الحظ من الناحية الفنية في المقطع الشعري الأخير للقصيدة، حيث
وقعَ في نفس المطب الذي وقع فيه غيره من الشعراء العرب، لنقرأ له هذا
المقطع الأخير من القصيدة:
((النصرُ يومئُ للجماهير التي امتشقت
زجاجاتِ الحريقِ
وأشعلت حطب المسالك
في فلسطين القضية
النصرُ شمسُ الأبجدية
نعم لعين القلب تبصرها
ولا...... لا
للعيونِ المستعارة))
واضحٌ في هذا الكلام التقريرية والمباشرة والخطابية مما أدى إلى خبو
الوهج الفني في هذا المقطع بالذات، ومن الملاحظ هنا غلبة الفكري على
العاطفي، والسياسي على الفني، كقوله: "فلسطين القضية" وهي عبارة أقرب إلى
السياسة منها إلى الفن، ثم هذه الشعاراتية الطاغية والنافرة: ((نعم،
ولا..... لا...)) وكأننا أمام حملة انتخابية لتحقيق أهداف سياسية مباشرة!!.
إن الجوانب السلبية، والثغرات الفنية التي برزت في المقطع الأخير من
قصيدته لا يُقلل من أهمية هذه القصيدة على المستوى الفني، وهي قصيدة ناحجة"عموماً"
من الناحيتين الفنية والفكرية كما بَيّنا سابقاً، ومما لا شكَ فيه أن
شاعرنا السعيد هو صوت فني متميز، ويتجسد لنا تَميزه بطريقة تعاملهِ مع
اللغة، وفي تراكيبه اللغوية المدهشة تحديداً، وفي بناء صورهِ الفنية
المدهشة والمبتكرة، وفي طريقة رؤيتهِ وتعاملهِ مع الحياة والأشياء.
*فاضل السلطاني / العراق
الشاعر العربي العراقي فاضل السلطاني يكتب قصيدة عن الانتفاضة
الفلسطينية الباسلة بعنوان: "الولادة الثانية".
منذ عنوان القصيدة يبشرنا الشاعر بحالة الانبعاث من الموت، وانتصار
الانتفاضة. يمكن القول بأن هذه القصيدة تتكئ في بنائها وفي تطورها منذ
البدء وحتى الخاتمة على حالة التناص التي تجسدت بينها وبين النص القرآني
الكريم. وهي تستند بشكل أساسي في تطور بنيتها على قصة سيدنا موسى في القرآن
الكريم ورحلته من مصر إلى فلسطين، وينجح الشاعر بالاتكاء على هذه القصة
بإكساب الواقع المعاصر دلالات جديدة.
فالشاعر يفتتح قصيدته بالنص القرآني: ((واسئلهم عن القرية التي كانت
حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا
يسبتون لا تأتيهم كذلك"قرآن كريم")).
ثم يرمز إلى الانتفاضة بضمير المخاطب"أنتِ" مؤكداً في خطابهِ الشعري
على أن الانتفاضة تنبعث مجدداً من رمادها بواسطة كفاح أبنائها المنتفضين
الذين ينبعثون من موتهم ويقيمون مملكتهم على الأرض، ونلاحظ هنا الحالة
الجماعية التي يجسدها نهوض الشعب الفلسطيني المنتفض، حيث يركز الشاعر على
طابعها الشمولي العميق الذي يشمل"كل البيوت"، لنقرأ له هذا المقطع الشعري
الذي يدل على ما ذهبنا إليه:
((بعد عشرين موتْ
ينهض الآنَ موتاكِ
من كلِّ بيتْ
يبدأونَ الحياةْ
لهم الملكُ في الأرضِ
حتى تقومَ القيامةُ
من ضفة النيلِ حتّى الفراتْ
فاعدّي العددْ
أنت لستِ أرمْ
ولا أنت ذات العمادْ
كي يهيلَ الإلهُ عليكِ الترابَ
ولستِ السفينةْ
تهربينَ من الماءِ، أنتِ المياه)).
حسب تأويلنا يمكن القول بأن الشاعر استخدم العدد: "عشرين" هنا على
سبيل المجاز وليس الحقيقة، ومن خلالهِ أراد أن يؤكد على دلالة معنوية وهي
تكرار وتعدد حالات الموت والألم التي أصابت الشعب الفلسطيني خلال نضاله
التاريخي المتراكم والطويل. والشاعر هنا لم يتطرق إلى حالة نهوض الشعب
الفلسطيني المنتفض، بل طالب المنتفضين بأن يعدوا العدة لمواصلة الكفاح
والصمود حتى تحقيق النصر النهائي على المغتصبين الصهاينة مستنداً إلى حقائق
التاريخ والجغرافية واللغة والاقتصاد والأرث والتقاليد المشتركة التي تؤكد
على الوجود القومي لهذا الشعب على أرض فلسطين منذ فجر التاريخ الإنساني.
فالوجود الفلسطيني الذي يمثله الجد الأول، الرمز؛"كنعان" لم يكن طارئاً،
ولا يمكن أن يكون في المستقبل كذلك، إنه وجود ومعطى تاريخي ثابت راسخ في
جذور الأرض، وقد أكد الشاعر السلطاني على هذه الحقيقة بقوله: ((أنت لستِ
أرمْ/ ولا أنت ذات العماد)).
أي أنه استخدم الرمز التاريخي"أرم، ذات العماد" مُسقطاً إياه على
واقعنا المعاصر: "واقع الانتفاضة الفلسطينية" للتأكيد على الوجود الثابت
للشعب الفلسطيني من خلال نفيهِ أن يكون مصير فلسطين: "كأرض وشعب وتاريخ
وبعد قومي أصيل" شبيهاً بالمصير التاريخي الذي آلت إليه الدول أو المدن
البائدة والمنقرضة المعروفة في التاريخ وهي هنا: "أرم، وذات العمادْ".
وقد استند الشاعر على تشبيه حسي رائع لكي يؤكد على ذات الدلالة
المعنوية، عن طريق حالة المقابلة بين ما تمثله"السفينة" كوجود طارئ ومتحول،
وما يمثله "الماء" كوجود ثابت باعتباره رمزاً للحياة: ((ولستِ السفينةْ/
تهربينَ مِن الماء/ أنتِ المياه)).
ثم تتطور البنية الفكرية للقصيدة وتأخذ بالنمو التصاعد حينما يطالب
الشاعر المنتفضين بضرورة سلوك الطريق النضالي المستقيم والواضح متجنبين كل
ما يسيء إلى الانتفاضة باعتبارها رمزاً مضيئاً وساطعاً، ومؤكداً بأن المكر
والخداع والجشع هي من صفات الصهاينة التي ينبغي عدم التلوث بها. ثم يطالب
المنتفضين بالمزيد من الكفاح: "واضربي ..... فعصاك الحياهْ" مستفيداً من
النص القرآني الكريم الذي تطرق إلى"وظائف" الحجارة.
الشاعر هنا يستعير المفهوم القرآني عن الحجارة ووظائفها، ومن بينها
وظيفة"الهبوط" أي ضرب الغاصبين الصهاينة بالحجارة وهو ما يؤكده السياق
ومنطق الخطاب الشعري في القصيدة، لنقرأ له هذا المقطع الذي يدل على ما
ذهبنا إليه:
((علمّي الأرض علمَ السماواتِ
لا تلبسي الحقّ بالبُطلِ
لا تستعيني بمكرهمُ
واضربي .......
فعصاك الحياه
(وان من الحجارةِ لما يتفجرّ
منه الأنهرُ، وإن منها لما
يشقق منه الماء، وإن منها
لما يهبط .... قرآن كريم)
....)) .
ثم بعد ذلك، تتكئ القصيدة في تتطور بنيتها الفنية والفكرية على قصة
النبي موسى الواردة في القرآن الكريم ورحلته من مصر إلى فلسطين:
((ها أنا أركبُ البحرَ وحدي وربي
وحيدين نبحرُ
من مصر نحو الفراتْ
وهم فوقنا مبحرونْ
طيرّونا وناموا
(إلاّ أن طيرهم عند الله.... قرآن كريم)
يصعدُ الآن طيرك .......
يصعد....
نصعد نحوك
نصعد .....))
وينجح الشاعر بالاتكاء على هذه القصة لإكساب الواقع المعاصر دلالات
مشابهة لما جرى لسيدنا موسى حيث"يبحر وحيداً وربّه". وكذلك أبطال الانتفاضة
فهم يخوضون الحرب مع الصهاينة أمام مرأى ومسمع غالبية الأنظمة العربية التي
لا تحرك ساكناً!!.
إن تطور القصيدة وتنامي سياقها الفكري والشعوري يشير ويومئ إلى حالة
الوحدة والعزلة التي يعانيها المقاتل الفلسطيني المنتفض، وقد تحقق ذلك ليس
بشكل مباشر بل عن طريق الإسقاط الدلالي لقصة النبي موسى على واقعنا العربي
الراهن ومن خلال عملية التناص التي لجأ إليها الشاعر:
((ها أنا أدخلُ الحربَ وحدي وربيّ
وحيدين مثل السماءْ
نركبُ البحرَ..... والليلُ يغشى النهارْ
والسماواتُ ترقبُ...... موجاً فموجاً
من البحر للبحر نبحرُ نحو البلاد البعيدةِ
لا أمم معنا.
فلكنا الماء والطيرُ ساريةٌ
يتناسلُ أجدادنا فوقنا
يتناسلُ أحفادنا فوقنا
نحمل الخبز فوق الرؤوس)).
ثم تقودنا"رؤيا" الشاعر في خاتمة القصيدة إلى حالة النصر النهائي
التي يحققها أبطال الانتفاضة على أعدائنا الصهاينة.
ويلجأ الشاعر فاضل السلطاني إلى الرمز الشفاف الواضح لتعميق البنية
الدلالية للنص، وصولاً إلى ذروة التنامي الدرامي حيث النصر النهائي، فالريح
ترمز إلى الثورة: "خفقة الريح تنفخُ في الماءِ" و"الطير" يرمز إلى المقاتل
العربي الفلسطيني، و"الصعود" يدل على تحقق النصر، وفي خاتمة هذه القصيدة
تتوحد الأنا من خلال الفعل المضارع: "يصعد" بالكل من خلال الفعل المضارع:
"نصعد" في عملية مستقبلية التحامية شاملة، لنقرأ خاتمة القصيدة:
((خفقةُ الريح تنفخُ في الماء
كي لا يشقّ. السماءُ بناءٌ له
ولهُ الربّ عرشُ
ولهُ الأرضُ فرشُ
فانظري!
يصعدُ الآنَ طيركِ
يصعدُ .........
نصعدُ الآن نحوكِ......
نصعدُ.......
مِن ضفّةِ النيل حتى الفرات)).
امتازت قصيدة فاضل السلطاني: "الولادة الثانية" بتماسكها الفني
والرؤيوي، وبوحدتها الموضوعية، فلا ترهلٌ ولا كلام مجاّني، مما يدل على أن
الشاعر متمكن من صنعتهِ ومن أدواته الفنية. وقد ابتعد الشاعر عن التقريرية
والمباشرة والشعار في عملية بنائه الشعري. ولجأ إلى استخدام الرمز
التاريخي، والرمز الواضح والشفاف، وإلى التناص، والاستعارة، والصورة ......
وغيرها من الأدوات الفنية التي منحت نصه قيمة جمالية وفنية أخاذّة ومدهشة.
أما لغته الشعرية فقد تميزت بجزالتها ومتانتها إضافة إلى وضوحها
وانسيابيتها، ومحاكاتها للغة القرآن الكريم: ("المُلك، القيامة، علم
السماوات، الحق، البُطل، قوم موسى، أهل الكتاب، الضلال، الهدى، البينات
الصدوق، الكتب المنزلات، الفلك....") مما منح لغتَهُ طاقة إيحائية عالية.
وقد دلَّ ذلك أيضاً على حرص الشاعر في تأصيل نصه، وفي ربط التراث
بالمعاصرة ربطاً جدلياً، خلاّقاً ومبدعاً.
*جلال قضيماتي / سورية:
الشاعر العربي السوري جلال قضيماتي يكتب قصيدته عن الانتفاضة وهي
بعنوان: "جحيم الحجارة".
تبدأ القصيدة بداية فكرة وفنية جميلة حيث يُشبه الشاعر بطل الحجارة
بالنسر الذي يتزود بالحجر الجهنمي"السقري" لمواجهة أعدائه الصهاينة.
البطل هنا يتماهى مع الطائر باعتباره رمزاً للحرية والانطلاق
وتحديداً: "النسر" الذي هو رمز القوة والشموخ. زوادة هذا النسر"المقاتل"
الحجر الجهنمي، والعنفوان، والأحلام الثورية: "المشرئبة نحو الضياء".
بهذه الزوادة يقتحم قلاع عدوه، ويجابهُ نارَهُ غير آبهٍ بالمخاطر
والصعاب، وذلك من أجل الوصول إلى تحقيق أحلامهِ المتمثلة بتحرير تراب أرضه
من دنس الصهاينة، ومعانقة شمس الحرية. فلنقرأ له مطلع هذه القصيدة التي تدل
على ما ذهبنا إليه:
((تَزَوَّدَ بالحجرِ السَّقَريِّ
وأفردَ جناحيهِ للعاصفاتِ
وحَطَّ كنسرٍ
على مَفْرِقِ القحط والسنبلةْ
هتوناً تنفَّسهُ الصخرُ
فانساب عبرَ اندحاره
وارتدَّ ..........
يقتحمُ النارَ بالعنفوانِ
بإصرار أحلامِهِ المشرئّبةِ نحو الضياءِ
تُضمِّدُ آلامَهُ الجلجلهْ))
ثم يؤكد الشاعر بأن بطل الحجارة يختزن في داخل ذاتهِ طاقة نضالية
كبيرة مُشبِهاً إياها بالعيون التي يتطاير منها"اللهب القدسي" حارقاً
أعداء الحياة، وكل الذين يغتالون الحلم الإنساني الشفيف، والنور الذي
يجسده"الصباح": ((كأن انفجار المسافات من ساعديه/ عيون تقاتلُ باللهب
القدسي/ رموز اغتيال الصباح/)).
ثم يستفيد الشاعر هنا من النص القرآني الكريم: ((وأرسل عليهم طيراً
أبابيل، ترميهم بحجارةٍ من سجِّيل))، عن طريق حالة التناص التي تمت بين
نصهِ والنص القرآني، مؤكداً من خلال"نبوءة" العيون التي تقاتل باللهب
القدسي بأن الطريق إلى الخلاص والحرية هو نفس الطريق الذي رسمته"الأبابيلُ"
في القرآن الكريم، والشاعر يريد أن يؤكد هنا على أن الإيمان هو طريق الخلاص
والنصر: ((وتنبئ أن الطريق إلى الفتح/ قد رسمتهُ الأبابيلُ)). ثم يؤكد على
أن من يريد حياة حرة وكريمة عليه أن يبدأ"الآن حرب الحجر" ويرى الشاعر أن
ثورة الحجارة تبدأ من آلام المقاتلين، لنقرأ له هذا المقطع الدال:
((ليبدأ من ها هنا
من جحيم الحجارةِ
من ساعدٍ كسَّرتْهُ (الهراوةُ)
فامتد في التُّراب نبضاً
وأقسمت الشمسُ بالواقعهْ:
إذا الدمُ أورقَ غصناً رطيباً
وفاءتْ بأندائِهِ القنبلهْ
وأعلنت الأرضُ
أن التراب تحوّلَ في لحظة مقصلهْ))
نستطيع أن نتلمس الطاقة التحولية في هذا المقطع الشعري في أكثر من
جملة شعرية، كقوله: ((من ساعدٍ كسَّرتْهُ(الهراوةُ)/ فامتد في الترب
نبضاً)).
الساعد هنا رمز القوة والمقاومة، إنه ساعد المقاتل، أما (الهراوة)
فهي رمز القمع والعنف. والعلاقة الحسية بين الطرفين تدل على تمكن"الهراوة"
من كسر"الساعد". إلا أن الهراوة وما ترمز إليه من قمع وبطش لم تستطع رغم
ضراوتها أن تلغي مقاومة الساعد نهائياً، أو أن تعدمه كلياً، فقد تحول
هذا"الساعد" إلى نبض حي يمتد ويتغلغل عميقاً في التراب باعتباره رمزاً
للخصب والحياة.
كما نتلمس أيضاً هذه الطاقة التحولية بقوله: ((إذا الدمُ أورق غصناً
رطيباً)). الدم هنا رمز الثورة، وإن المناضل الذي يسفحه من أجل الحرية يؤمن
بأن هذا الدم المسفوح لن يذهب عبثاً، بل إنه سيتحول إلى وقود دائم للثورة
والعطاء، "الدم" هنا باعتباره طاقة متجددة، وباعتباره مثالاُ ملهماً يمنح
الديمومة والاستمرار في عروق النضال والمقاومة، أما في النص، فيتحول
هذا"الدم" إلى "غصن رطيب مورق"، وفي هذه الجملة يضفي الشاعر على الثورة
والنضال صفة التجدد والاستمرار من خلال جدلية الشهادة والانبعاث.
ثم يفتح لنا الشاعر في ختام قصيدته كوةً للأمل والخلاص مُبشراً
إياناً بالنصر المؤكد بعد طول المعاناة وبعد النضال الشاق والمرير.
ونلاحظ هنا أن الشاعر ينتقل بذكاء وعمق من الخاص إلى العام، أي من
ضمير المفرد الغائب"هو" الذي افتتح به قصيدته: ((تَزَوَّدَ بالحجرِ
السَّقَريِّ))، إلى ضمير الجماعة"نحن" الذي برز في خاتمة القصيدة، . لقد
أراد الشاعر أن يؤكد لنا- وهو مُصيب في رأيه هذا- أن فاعلية الجماعة ودورهم
تتجاوز فاعلية الفرد مهما بلغ من قوة ومن قدرة على العطاء، لذا فإن الذي
حقق فعل الخلاص والنصر وإنهاء"المهزلة" عن طريق ثورة الحجارة هم الجماعة،
لنقرأ له هذه الخاتمة الدالة:
((إذن فلتقل للطغاةِ البغاث
وقد جاوزت حربُها المرحلهْ
أتيناكم بعد عَسْفٍ وقمْعٍ
لتنهي حجارتُنا المهزلَهْ))
تمتاز هذه القصيدة: "جحيم الحجارة" للشاعر جلال قضيماتي بوضوحها،
وبساطتها الفنية -من حيث البناء والتركيب- بإيقاعها الضخم والمُجلجِل الذي
يتحول إلى عنصر فاعل ومؤثر في البنية العامة للقصيدة، عنصر يعمق التوتر
الدرامي والفكري في القصيدة منذ بدايتها وحتى نهايتها. إضافة إلى أن هذا
الإيقاع بَثَّ في ثنايا النص شحنة تحريضية وحماسية واضحة ساهمت في تعميق
بنيتهِ الدلالية. كما تميزت بالعديد من التألقات الفنية على مستوى التخييل
والرؤية وبناء الصورة، كقوله: ((كأن انفجار المسافات من ساعديه/ عيون
تقاتلٌ باللهب القدسي/)): تشبيه حسي رائع، حيث شبهَ"انفجار المسافة"
بـ"العيون المقاتلة"إلاّ أن ما يمنح لهذه الصورة عنصر الدهشة والفرادة هي
هذه المباغتة الجميلة الخارجة عن المألوف، هي اختزانها لهذهِ"الطاقة
الفكرية الخلاّقة": حيث انفجار المسافة من"الساعد"، هنا انزياح دلالي مدهش،
حيث ربط الشاعر"المسافة" وهي رمز الحلم والوصول للهدف وكذلك التحمل والصبر
في القوة الداخلية للإنسان، وليس في القوى الخارجية الموضوعية، كالطبيعة،
والزمن، والشروط الموضوعية عموماً، وكأنه أراد أن يقول لنا بأن ساعد
المناضل، ساعد الطفل المنتفض، هو مصدر وينبوع الثورة، هو الأمل في الخلاص،
وفي الوصول إلى الحلم الإنساني وتحقيق الأهداف الإنسانية النبيلة، أي أن
هذا الساعد هو الذي يختزن الطاقة المُحررَة للإنسان، وهو الذي يحتضن القوى
الموضوعية ويسخرها من أجل غاياتهِ العادلة.
كما نقرأ له هذه الصورة الحسية والمركبة التي جمعت ظاهرتين حسيتين:
"التراب" و"المقصلة": "أن التراب تحوَّلَ في لحظة مقصلهْ))، والتي اختزنت
طاقة فكرية ودلالية فريدة حيث يتحول التراب وهو رمز الخصب إلى معنى نقيض
تماماً، إلى الموت الذي تجسدُهُ: "المقصلة"، لقد تحول التراب في داخل
الخطاب الشعري إلى مقصلة تُزهق أرواح الصهاينة المعتدين.
أما لغة الشاعر، فهي على وجه العموم، لغة فنية موحية، ولعل ما يُميز
الشاعر جلال قضيماتي في عموم تجربتهِ الشعرية الطويلة، وفي قصيدته هذه
أيضاً، هو وَلَعه بانتقاء المفردات التي تدل على فرادته وتميزه: "السقري،
هتوناً، المُيمِّم، البغاث ...... الخ"، وكذلك محاولته لتطويع اللغة
واستخدامها استخداماً فنياً موحياً، ونلاحظ في هذه القصيدة استفادته من لغة
القرآن الكريم ومحاولة محاكاتها: "الزلزلة، آياتها المُنزلة، الواقعهْ،
جحيم، القدر".
إلاّ أن الثغرة الفنية في هذه القصيدة هو لجوء الشاعر"أحياناً" إلى
الشرح والتفسير، وكذلك التقريرية مما يؤدي إلى خبو الألق الشعري، وإضعاف
الطاقة الإيحائية في النص، كقوله: ((وإن شاءَ/ فليبدأ الآن حرب الحجر))،
وقوله في خاتمة القصيدة: ((إذنْ فلْتقلْ للطغاة البغاث/ وقد جاوزت حربُها
المرحلهْ: أتيناكم بعد عَسْفٍ وقمعٍ/ لتنهي حجارتُنا المهزلَهْ/)).
واضح هنا أن قولَهُ: "بعد عَسْفٍ وقمْعٍ" قد نقل بنية الخطاب الشعري
التي ينبغي أن تستند في تجليها على الإيحاء والإيماء والترميز إلى بنية
أخرى هي أقرب إلى لغة الخطاب السياسي- الفكري العام المتسم بالتقريرية
والمباشرة: "العسف، القمع، المهزلهْ".
إن تخلص الشاعر من هذه النقطة-السلبية- تحديداً سيمنحه قدرة في
الارتقاء والتطور الفني لا سيما وإنه يملك كافة الأدوات الفنية، بالإضافة
إلى حساسيتهِ البالغة الرهافة، وعمق تجربتهِ الحياتية، التي تؤهله لكي
يمنحنا شعراً مُبدعاً ومدهشاً.
*هاشم شفيق / العراق:
الشاعر العربي العراقي، هاشم شفيق، كتب قصيدته الرؤيوية عن
الانتفاضة الفلسطينية بعنوان: "مزامير لبحر مريام" في نيقوسيا - آذار-
عام1988.
القصيدة مكتوبة بعناية ودقة بالغة، ويمكن القول بأن عامل الصنعة
والتخطيط يلعب دوراً رئيسياً في بناء القصيدة منذ ولادتها وتناميها وتطورها
حتى بلوغ خاتمتها النهائية، وهذا العامل يوازي من حيث الأهمية عملية
الانسياب والتدفق الشعوري فيها، فالعاملان: "الصنعة والانسياب"، يتكاملان
ويتظافران في عملية جدلية متلاحمة لتحقيق جوهر العملية الشعرية باعتبارها
فعلاً إبداعياً خالقاً مستوفياً لكافة العوامل والعناصر التي تساهم في
البناء الشعري: التخييل، الصورة، اللغة، العاطفة، الموسيقى، الفكر، الرمز،
الأسطورة، الرؤيا، والرؤية.
تتألف بنية القصيدة من ستة مقاطع شعرية، وكل مقطع شعري يتضمن
"مزموراً" له وظيفة وأبعاد دلالية وفكرية ورؤيوية. القصيدة ترتكز في بنيتها
الشاملة على موضوع "البحر" باعتبارها المحور الرئيسي الرابط بين كافة
مقاطعها ومزاميرها، أي أنه المادة الرئيسية المتغلغلة في كافة مسامات
وخلايا النسيج العضوي الفني للقصيدة، وتتجسد هذه الفاعلية -المرتكز على
المستويات الفكرية والفنية والرؤيوية.
ويؤكد ذلك أيضاً عنوان القصيدة:"مزامير لبحر مريام"، و"مريام" هي
بلاد فلسطين كما ترد في الأسطورة الكنعانية، والمقصود هنا البحر في فلسطين
تحديداً.
ومما يؤكد على ماذهبنا إليه، أي أن "البحر" هو مرتكز القصيدة
ومحورها الرئيسي، أي لحمها وسداتها، والذي استثمره الشاعر كرمز كلي، وشامل
للتعبير عن الانتفاضة، وعن القضية الفلسطينية بأبعادها الشاملة التاريخية
والواقعية المعاصرة، والحلمية أيضاً، هو أن الشاعر افتتح مقاطعه الستة
بكلمة "البحر" أو بما يدل عليهِ، ففي المقطع الأول، نقرأ "يلد البحرُ
أبناءه"، وفي المقطع الثاني نقرأ:"إنه البحر"، وفي الثالث نقرأ مايدل عليه:
"السفائن في الريح تبرقُ"، وفي الرابع نقرأ: "بحرنا هادئٌ"، وفي الخامس
نقرأ مايدل عليه: "السفينةُ تكتظُ بالآلهاتِ"، وفي السادس نقرأ: "ينشق
البحر".
هنا بالذات يتجسد بوضوح عامل الصنعة والتخطيط المدروس بذكاء، وسعة
أفق، ولا يمكن القول -حسب وجهة نظرنا- بإن هذا البناء جاء اعتباطياً أو
صدفة. إلاّ أن إبداع الشاعر، وذهنه الحيوي الشمولي والديناميكي يتجلى في
التنويع الدلالي لمفردة "البحر"، مما أبعد هذه المفردة "البحر" عن
الاستخدام الروتيني الجامد، ففي المقطع الأول يرد "البحر" باعتباره رمزاً
للحياة:"يلد البحرُ أبناءه في صدف ملكيٍّ على ساحل المتوسط، وفي المقطع
الثاني يرد بمعنى: "الحاضنة والملجأ والمستقبل"، وكذلك رمز الكينونة
الأولى: "إنه البحر، يستقبل الآن في ولهٍ سفن المجد، أبناء هذي المياه على
الرمل يندلقون"، وفي المقطع الثالث يرد بمعنى: "الثورة"، "السفائن في الريح
تبرق، محمولة فوق ريش الطيور، ثياب المحارب تعلو على الموج ساريةً من هديل
ومناقير"، وفي المقطع الرابع نقرأ: "البحر-الحلم": "القباطنة الساحرون لهم
قسمات المرايا". وفي المقطع الخامس نقرأ:"البحر-الأسطورة، والبحر- الخصب":
"السفينةُ تكتظُ بالآلهات، عناة تزوج نافورة من حشائشها للصحارى"، وفي
المقطع السادس والأخير نقرأ: "البحر-الضوء- البحر- الممالك": "ينشق
البحر...../ في التوِّ تنبثق ممالكٌ من ضوءٍ".
والتخطيط المدروس يتجسد أيضاً في كامل البنية الفكرية للنص، ويتجلى
ذلك بشكل دقيق في حركية القصيدة، في تركيبها وبنائها الجزئي والعام، فكل
مقطع من المقاطع الستة له استقلالية "نسبية" إلاّ أن هناك وحدة موضوعية-
فكرية وفنية تنتظم فيها هذه المقاطع كلها، بتعبير آخر هناك خيط دقيق
وفولاذي مرسوم بعناية فائقة-يربط بين كل هذه المقاطع ربطاً محكماً ومتيناً
مما يضفي على البنيتين: الفكرية والفنية للقصيدة سمة التماسك، أما الخيط
الفكري الناظم والموحد لها فهو يستند إلى التاريخ-الفكر، وينبثق من خلال
العملية الجدلية بين هذين العنصريين الحيويين، فلنقرأ المخطط الفكري
للقصيدة وحركيتها الداخلية:-حسب اجتهادنا ورأينا-: البحر الفلسطيني يلد
أبناءه.... ثم التشرد:
"النهار السجين"، ثم الوطن: "البحر -الحاضنة"، يستقبل أبناءه
العائدين... ثم عودة المحاربين المنفيين وانتصارهم: "راية كنعان".... ثم
تأسيس الوطن-الحلم، ..... و"الوطن- الأسطورة والخصب"، .... ثم الزمن
المستقبلي الذهبي. زمن الحلم والضوء، وزمن انتصار الإنسان.
فلنقرأ له المقطع الأول الذي يركز فيه الشاعر على "دلالة" البحر
باعتباره رمزاً لولادة الحياة وولادة الكائنات الحية، وهذا المفهود يدعمه
ماورد في القرآن الكريم: "وجَعَلْنا من الماء كل شيء حي"، كما يدعمه العلم
الذي يؤكد بأن الكائنات الأولى ذات الخلية الواحدة وُلدت في الماء قبل
حوالي "400" مليون سنة، وهو المعنى العام، والشاعر أراد التخصيص هنا حينما
أكد على ولادة الفلسطيني: "على ساحل المتوسط": "يلد البحرُ أبناءه في صدفٍ
ملكيٍّ على ساحل المتوسط، ماءُ العمادةِ يغسل أطرافهم، والرياح الحبيسة في
الصخر تمشي إليهم ككاهنةٍ، لتبارك خطوهمو، تلك شمس حريرية في الشجيرات،
والبحر في حالة الطلق يدفع أبناءه باتجاه الصخيراتِ، منتشرين كرفِّ يمامٍ
على ضفة تنحني للهتاف الذي سوف يكشف سحنة هذا النهار السجين.
هذا المقطع، بل القصيدة في مقاطعها الستة، قابلة للتأويل والتعدد
الدلالي، وهذا دليل على أنها غنية بالمعاني والصور والأخيلة، وإذا ماعدنا
للمقطع الأول فإن الشاعر حينما عبر عن حالة ولادة الفلسطيني من البحر أشار
إلى أن الولادة أعقبتها حالة التشرد والحزن، ومايدل على هذا المعنى قوله في
خاتمة المقطع: "يكشف سحنة هذا النهار السجين" فالنهار هو رمز للضوء والحياة
والفرح والحيوية والفاعلية، والخطاب الشعري أكد بأن النهار "مسجون" وإن
سحنته تدل عليه، وهذه دلالة على حالة الحزن والتشرد وتَبَدُدْ الفرح التي
أصابت الإنسان الفلسطيني، هذا هو تأويلنا لها، ربما يأتي ناقد آخر ويكون له
عكس هذا الموقف أو الرؤية أو التأويل أو القراءة والأمر في نهاية المطاف
خاضع للاجتهاد.
أما المزمور الذي تضمنه هذا المقطع فقد بَشّر بحالة الخصب: "الغيم"،
التي ستعم هذه الأرض: "داغون، مريام، حلبا". ومن خلال "رؤيا" الشاعر هنا
يتم التأكيد على أن مستقبل هذه المنطقة هي النور والضوء والحرية التي
ستنتصر على أنقاض حالات الظلام والقمع والمحل التي عرفتها، فلنقرأ له هذه
المزمور الدالّ:
"سينبتُ في الأرض غيمٌ
ويغسل داغونْ
وأبعادَ مريامَ
أو حَلَبا
سيزهرُ نهرٌ
على كتفِ الطفلِ
كي يرضعَ الضوءَ والعِنبا
هذه الأرضُ
إن أنبتت عتمةً في السنين الخوالي
ستورقُ مستقبلاً ذَهَبا".
لقد وظف الشاعر هاشم شفيق مزاميره ببراعة واضحة، وأصبحت جزءاً
جوهرياً من النسيج العضوي الفني للقصيدة، بل إن القصيدة تتكئ- إلى حد كبير-
في بنيتها الدرامية عليها، وإن خيطها الدرامي يتنامى ويتطور ويتصاعد بواسطة
هذه المزامير، حين يمكن القول بإن حذف أي "مزمور" سيؤدي إلى خلل واضح في
كامل البنية الفكرية والفنية للقصيدة، وإن أي "مزمور" تربطه علاقة حسية
متينة بمقطعهِ، وذلك لتعميق بنيتهِ الدلالية والرؤيوية ولاكتمال صورتهِ
الفنية، والعلاقة الحسية التي ربطت "المزمور" المذكور أعلاه بالمقطع الأول
هي حالة الخصب والضوء التي جاءت على أنقاض حالة التشرد والعتمة التي أشارت
إليها دلالة الرمز المستخدم "النهار السجين".
وفي المقطع الثاني يؤكد الشاعر على الزمن الحاضر: "الآن"، إنه زمن
عودة الفلسطينيين المشردين إلى وطنهم الأم مريام، أي "بلاد فلسطين" كما ترد
في "الأسطورة الكنعانية"، حيث يستقبلهم بشغف البحر-الوطن، والبحر- الحاضنة،
يستقبل سفنهم المكللة بالمجد، وقد وفق الشاعر باستخدام صورة حسية تنبئ
بالتمهيد لحالة الغليان الثوري:؛ "الوجوه ملثمة بالرعود"، وهذه الحالة يدل
عليها بوضوح الرمز المستخدم هنا: "الرعود"، ثم تفوح ثنايا القصيدة بالنكهة
الشعبية العربية الفلسطينية، وبتقاليد هذا الشعب المتوارثة- حيث يهال الرز
على رؤوس الأبناء القادمين المكللين بالظفر، وتقابل هذه الصورة صورة أخرى،
نقيضة تماماً تؤكد على هزيمة المحتل العسكري وتشظيه من خلال التأكيد على
نسف قبعة المارشال الصهيوني، فلنقرأ له مايدل على هذه الدلالة: "إنه
البحرُ، يستقبل الآن في ولهٍ سفن المجد، أبناء هذي المياه على الرمل
يندلقونَ- الوجوه ملثمة بالرعود- ومريام تنتظر القادمين إلى قادشٍ، قُبلٌ
في المناديل، رزٌ على سَمْتِ أشرعةٍ سيهالُ، وثمة أوسمة سوف تسّاقطُ من
قامة الليل، قبعةُ المارشال على العشب منسوفةً بالزجاج المشظى، وهذا
الهديرُ المباغتُ للبحر، يملأ آفاقنا بالعناقِ......". واضح هنا مدى
استخدام الشاعر لطاقته التخييلية، وواضح أيضاً هنا كيف تعمل "الذاكرة
البصرية" في ربط هذه التفاصيل الحسية في مشهد حسي كلي، وكأننا إزاء شريط
سينمائي بعثته إلى النور أنامل مخرج سينمائي بارع استطاع ليس فقط كشف
الحالات الداخلية للإنسان- تداخل حالات الترقب والغضب والفرح- بل حالات
التماهي بين الإنسان: "أبناء هذي المياه" وبين الوطن-الحاضنة: "ومريام
تنتظر القادمين"، وحالات التماهي بينة- أي بين الإنسان- وبين الطبيعة:"وهذا
الهدير المباغت للبحر، يملأ آفاقنا بالعناق".
ثم يأتي دور "المزمور" ليعمق البنية الدلالية والفكرية والرؤيوية
للنص، عن طريق استخدامهِ لضمير الجمع "نحن"، وليؤكد من خلاله الشاعر على
تحرير البحر-الوطن من أدعية "التلمود"، ومن خرافات الصهاينة المعروفة: "شعب
الله المختار" وغيرها من المقولات التي تفوح منها رائحة العنصرية البغيضة،
وينجح الشاعر باستخدام رمز دال وواضح: "القرصان" وهو رديف هنا لمفهوم
"الصهيوني" ككائن عنصري استيطاني إجلائي سارق لأراضي الغير، مؤكداً على
تنظيف هذا البحر- الوطن من رجس الصهيوني السارق: "القرصان".
يمكن أن نتوقف هنا قليلاً أمام مسألة هامة، ألا وهي: لغة الشعر. لقد
أكدنا أكثر من مرّة بأن لغة الشعر هي لغة الإيحاء والإيماء والترميز وليست
لغة التقرير والمباشرة، وأعتقد أن القارئ الكريم سَيُميَز هنا بين بعض
الشعراء العرب الذين استخدموا بشكل صريح ومباشر مفردة "الصهيوني"، أو
"الصهاينة" مثلاً، في القصائد التي كتبوها عن الانتفاضة، وبين الذين
استخدموا مفردات أخرى تدل على ذات الدلالة، أو تقاربها من الناحية المعنوية
والفكرية، ومنهم الشاعر هاشم شفيق الذي استخدم رمز "القرصان" للدلالة على
اغتصاب أرض فلسطين من قبل الصهاينة. في المقطع المذكور أعلاه انتقل الشاعر
من الزمن الحاضر "الآن" إلى الزمن المستقبلي مستخدماً حرف الاستقبال "سين":
"سنحررُ" في مزموره المذكور.
أما العلاقة الحسية والفكرية التي ربطت "المزمور" والمقطع فهي أن
تحرير فلسطين من رجس وأدعية الصهاينة "المزمور" جاء بعد عودة الفلسطينيين
إلى ديارهم، وبعد حالة المخاض الثوري التي شهدتها البلاد "فلسطين".
وفي المقطع الثالث نقرأ "البحر- الثورة" وهذه الدلالة ترمز إليها
هذه الجملة الشعرية :"ثياب المحارب تعلو على الموج ساريةً....." حيث يؤكد
الشاعر فيه على عودة المقاتلين من "بطون" المنافي، تخفق راياتهم بالنصر
والظفر، ويوفق الشاعر في رسم المشهد الحسي لهذه العودة الظافرة وانعكاسها
على مفردات الحياة والطبيعة حيث تسود حالات البهجة والفرح والحلم إيذاناً
باستقبال: "المرافئ، والسفائن، والنساء، وإله الندى". لهؤلاء المنفيين
العائدين والذين تسربلوا طويلاً. بحالات الألم والحزن "الكمد" ثم دقت ساعة
العودة والنصر التي انتظروها طويلاً، لنقرأ له هذا المقطع الدال: "السفائن
في الريح تبرق، محمولةً فوق ريش الطيور، ثياب المحارب تعلو علي الموج
ساريةً من هديل ومناقير، كلُ المرافئ تفتح زرقتها للذي آب من كمدٍ نائم في
بطون المنافي- السفائن في الريح تعلن دقاتها الخمس، مؤذنة بالرحيل إلى قبة
البرتقالِ- النساءُ تمدّدن في غيمة كي يخطن الجراح البليغة للسموات.....".
أما المزمور فتكون وظيفته تعميق البنية الدلالية والفكرية للنص حيث
تصعيد حالة النصر إلى ذروتها الطبيعية المتمثلة بارتفاع العَلم الفلسطيني
فوق الأرض السليبة، وانتصار راية "كنعان"، وقد أعطى الشاعر صفة الديمومة
لهذا النصر المؤزر بقوله: "ذات ضحى مستديم"، أما العلاقة الحسية بين
المزمور والمقطع فهي أن ارتفاع راية كنعان جاء بعد عودة المحاربين
وانتصارهم على عدوهم التاريخي. لنقرأ له هذا "المزمور" الدالّ:
"عَلَمُ في أعالي الجبالِ
سيهبطُ فجراً
على أورشيلم
فراية كنعانَ
من خضرةٍ ونجومٍ
ستبلغُ فاتحةَ المشتهى
وتقيمُ على الأرضِ
عاصمةً للسفائنِ
ذات ضحى مستديمْ".
أما في المقطع الرابع فنقرأ "البحر-الحلم"، حيث يعم الهدوء أرض
الوطن، ويبدأ المنتصرون بثورة البناء بعد ثورة التحرير: "بحرنا هادئ
والسفائن تدهن حيزومها بالزيوت....". ثم يتداخل زمن الحلم: "القباطنة
الساحرون لهم قسماتُ المرايا"، بزمن الحركة والحياة، والحيوية والفاعلية:
"لهم عضلٌ يتهدل فوق الشواطئ، حيث الأصابيع مفتولة كالمراسي، تعدُّ
السفائنَ للموج........".
ثم يأتي المزمور ليعمق الحالة الحلمية في كامل المقطع الشعري
الرابع حيث الشمنس تعجنها أصابع الكرز:" للبحر خزائنه/ فيها شمسٌ/ يعجنها
كرزٌ/ فيها رملٌ ذهبيٌ/....".
ثم ينتقل الشاعر في المقطع الخامس إلى دلالة أخرى للبحر".
"البحر-الأسطورة، والبحر-الخصب"، مستنداً إلى الرمز الأسطوري "عناة"
وهي من الآلهة الكنعانية، ثم بعد أن يوضح لنا الشاعر دور الآلهة في الإخصاب
يكشف لنا عن الحركة الدائبة في البحر، عن العمل الإنساني وأهميته في
البناء: "السفينة تكتظ بالآلهاتِ، عناةٌ تزوِّج نافورة من حشائشها
للصحارى...... والكل منغمرون بهدهدةٍ للرذاذ الذي سوف يلقي ملاءته
الزبدَّية للبرِّ....". ثم يركز على جدلية تلاحم العمل والحب في بناء
الحياة:"فبارك لنا البرَّ ياسفرُ/ قدِّس الحبَ فينا/"، ثم يأتي المزمور
ليعمق البعد الدلالي لكامل المقطع الشعري، حيث يكشف لنا أن هدف السفر هو
الانتقال إلى الزمن المستقبلي، زمن الحرية والحلم والنور: "ماجت الأرض/
بالسفر الأولِ/ فتحرك رهطٌ صفيٌّ/ من المنتأى/ وأضاءت مشاعلٌ/ ومشت مركباتُ
الأضاحي/ لتتبعها سفن الذاهبينَ/ إلى زمنٍ مقبلٍ/".
ثم نقرأ المقطع الأخير "السادس" ويعبر فيه الشاعر عن دلالة أخرى
للبحر:"البحر-الضوء، والبحر- الممالك، حيث يؤرخ لبداية زمن انتصار الإنسان
في الأرض، بداية تأسيس المجتمع الإنساني القائم على العدل والحرية وذلك بعد
معاناة طويلة ومريرة راح ضحيتها ملايين الناس: "ينشق البحرُ......، في
التوِّ تنبثق ممالكٌ من ضوءٍ، تعلوها نصبٌ وعمادٌ، لتؤرخ صوت الإنسان على
الأرض المثكولة بالقتلى".
ثم نقرأ "المزمور" الأخير الذي يعبر عن زمن الحلم والسلام
والطمأنينة، وفيه نقرأ مدى ارتباط الإنسان بأرضه، بذاكرته الأولى، بجذره
الأول. إنها صورة حسية رائعة تكشف عن مدى تولّه الإنسان وعشقه لمنزله
الأول، المنزل- الملاذ، والمنزل- الأمان، والمنزل- الحرية: لنقرأ: له هذه
المزمور الرائع:
"بيتي على البحر هناكَ
فيهِ سماءٌ مِنْ حبقْ
تدلي ضفيرةً طويلةً
من عطرها فوق الشبابيكِ
وتمسح الآفاق
بالغصون والورق
يامنزلي
يازارع البستانَ في طبق
تاللهِ زحّافاً إليكَ سوف آتي
ظاهراً في ركبتيَّ مطلعُ الغسقْ".
أما على صعيد المستوى الفني فيمكن القول عن قصيدة هاشم شفيق:
"مزامير لبحر مريام"، بأنها قصيدة رؤيوية تركيبية متعددة الأصوات: حيث نقرأ
صوت "البحر": "إنه البحرُ، يستقبلُ الآن في ولهٍ سفن المجد"، وصوت
"المزمور": "علمٌ في أعالي الجبالِ/ سيهبط فجراً على أورشيلم"، وصوت
"الشاعر" الذي يتداخل بصوت "المنفي" العائد: "بيتي على البحر هناك/ فيه
سماءٌ من حبقْ...../ يامنزلي/ يازارع البستان في طبق/"، وصوت "المناضل
-المقاتل":"ثياب المحارب تعلو على الموج ساريةً من هديلٍ ومناقير". وصوت
المجموع "الشعب المقاتل": "سنحرر هذا البحر الذاهل/ من أدعية التلمود".
ويمكن قراءة القصيدة بمستوياتها المتعددة :الفكري، واللغوي، والفني-
الجمالي، والرمزي، والأسطوري، والتاريخي، والرؤيوي.
أما لغة الشاعر، فهي لغة فنية مجازية موحية، تمتاز "عموماً"
بطراوتها وانسيابيتها المائية العذبة، وكذلك بجزالتها ومتانتها، إضافة إلى
أنها مضمخة برائحة التاريخ والأسطورة: "كاهنة، داغون، مريام، قادش،
التلمود، ثمود......الخ".
يمكن القول بأن واحدة من أهم السمات الفنية التي تؤشر على تميز
شخصيتهِ الفنية هي فرادته في التعامل مع اللغة، وفي تطويعها، وفرداته في
انتقاء المفردات اللغوية التي تساهم في تشكيل قاموسه الشعري الخاص وبالتالي
تشكيل عالمه الشعري، ومن هذه المفردات الواردة في قصيدته:" مزامير لبحر
مريام":" سمت، كمد، الترائب، نجل، يندلقون، مستديم، زقو، جداجد، التهاليل،
هدهدة، التعازيم، نيلوفرة، ربلة،.....الخ". ويمكن أن نَصِفَ لغة هذه
القصيدة بأنها:"لغة بحرية" بامتياز، أي تطغى عليها مفردات عالم البحر بكل
كائناته وزخمه وتناقضاته وجموحه واندفاعاته اللا متناهية، لنقرأ هذه
المفردات التي تؤكد على ماذهبنا إليه:"السفائن، القباطنة، الأصابيع مفتولة،
المراسي، الرّبان، الإسفنج، الأمواه، الرذاذ، طحلب، ملح، المحار، الموج،
مركبات، صدف، ضفة، نهر، الرمل، أشرعة، الهدير، القرصان، المرافئ، القاع،
قمرة، الفنارات، زبد، سابح، الحوت".
وبقدر مايمكن أن نصف هذه اللغة بالواقعية، أي بانتماء مفرداتها إلى
الواقع الملموس الذي نعيشه، حيث نلمس حرارة هذا الواقع ونكهته المميزة من
خلال مفردات القصيدة، فهي لغةُ حُلمية وأسطورية أيضاً، أي أن هناك توازناً
"نسبياً" بين النكهة الواقعية والنكهة الحُلمية في البناء اللغوي لهذه
القصيدة، ومما يدل على طابعها الحلمي، نذكر على سبيل المثال: "السفائن في
الريح تبرق، محمولة فوق ريش الطيور"، وقوله: "القباطنة
الساحرون".......الخ.
إلا أنه يمكن أن نلمس بعض التأثر، أو شكل من أشكال المحاكاة للغة
سان جون بيرس، وخاصة لغته الشعرية في قصيدته: "ضيّقة هي المراكب"، وهو تأثر
لا يدخل في باب التقليد لأن الشاعر هاشم شفيق يمتلك شخصيتَهُ الفنية
وتجربَته الشعرية المتميزة التي بناها بدأب ومثابرة طيلة حوالي ثلاثة عقود،
وأركز في هذا المجال على المقطع الرابع، كقوله: "بحرنا هادئٌ والسفائن تدهن
حيزومها بالزيوتِ"، ومادمنا بصدد الحديث عن لغة الشاعر فيمكن القول في هذا
المجال إن الثغرة الفنية التي رصدناها في هذه القصيدة هي إيغال الشاعر
ومبالغتهِ في استخدام بعض المفردات اللغوية الرديفة لمفردة "الحجر"،
وهي:"تسميات قديمة للحجارة في العصور القبميلادية". حيث تفتقد هذه
المفردات للنسغ الواقعي الحي، ويغلب عليها الطابع القاموسي المحنط
والغرائبي، حتى ليبدو لنا أن انتقاء هذه المفردات:"برطيل،ظِرٌ، إرْمٌ،
منليثٌ"، جاء كشكل من أشكال المغالاة في الصنعة والتكلف، وهذا أثرّ بدوره
على الانسياب والتدفق الشعري في القصيدة، نقول ذلك بالرغم من أن الشاعر
حاول التنويع في الاستخدام الدلالي والفني لهذه المفدرات بما يمنحها بعداً
إدهاشياً وجمالياً: "برطيلٌ أخضرٌ، ظِرٌ أملسٌ، إرمٌ ممشوقٌ، منليثٌ سحريٌ،
والمسألة تتعلق بالذائقة النقدية، وهي مسألة قابلة للاجتهاد وتعدد الآراء،
وقد تأتي قراءة نقدية أخرى وترى عكس مارأيناه.
استخدم الشاعر في قصيدته هذه العديد من الأساليب الفنية المعروفة،
ومنها: الوصف: كقوله في المقطع الأول: "تلك شمس حريريةٌ في الشجيرات"،
والسرد الحكائي، كقوله في المقطع الثاني: "إنه البحرُ، يستقبلُ الآنَ في
ولهٍ سفن المجد، أبناء هذي المياه على الرمل يندلقون- الوجوه ملثمة
بالرعود...."، والتلوين كقوله في "مزمور" المقطع الثاني:"ونمسح عن لحيته
الزرقاءَ رماد القرصانِ"، وكذلك قوله في "مزمور" المقطع الثالث: "فراية
كنعان من خضرةٍ ونجومٍ،/ ستبلغ خاتمة المشتهى/". والاستذكار كقوله في
"مزمور" المقطع الخامس:"ماجتِ الأرضُ/ بالسفرِ الأول/ فتحرك رهطٌ صفيٌ/ من
المنتأى/".
ولعل أهم مايميز الشاعر هاشم شفيق من الناحية الفنية هو امتلاكه
لطاقة تخييلية عالية ومدهشة، بل وساحرة أحياناً، ولا يكفي أن نَصِفَ
"مخيلتَهُ" بأنها مُحَلِقة أو مُجنَحة فحسب، بل هي مخيلة تمتلك القدرة على
"الخلق" و"التحويل" وإعادة رسم وصياغة الواقع والأشياء والكائنات صياغة
جمالية مُبهِرَة ومدهشة تنقلنا إلى عالم الفن السحري الزاخر بالقيم
الجمالية الفريدة والمتميزة، وهذا يتجسد بوضوح في قدرته على بناء وتشكيل
الصورة الشعرية، وذلك باعتبار "الخيال" أحد أهم المصادر والينابيع التي
تنبثق وتتفجر وتتوالد منها الصور الشعرية.
إن من يقرأ هذه القصيدة: "مزامير لبحر مريام"، سيجد دونما مشقة أو
صعوبة عشرات الصور الفنية المتألقة والمدهشة التي تثبت صحة ماذهبنا إليه:
أما أهم السمات الفنية التي تُميز صور الشاعر في هذه القصيدة فهي: إنها
تمتاز بالجدة والابتكار، وهو مايمنح الشاعر عنصراً آخر في بناء شخصيته
الفنية المتميزة، كونه شاعراً مبدعاً وليس مُقلداً أو اتباعياً، كما أنها
صور مركبة -في الغالب- استطاع الشاعر فيها أن يخلق توازناً "نسبياً" مدهشاً
بين المجرد والمحسوس، الواقعي والخيالي، العاطفي والفكري، وتمتاز أيضاً
بتماسكها الفني، وبطاقتها الإيحائية العالية التي تمنحنا الدهشة وتنقلنا
إلى عالم الشعر الإشراقي وتجلياته المدهشة والساحرة. لنقرأ له هذه الصورة
الفنية الموحية والمشرقة والمبتكرة في المقطع الثالث من قصيدته، والتي يمكن
القول عنها بأنها الأكثر تميزاً وإبهاراً وتحليقاً: "النساءُ تمدّدن في
غيمة كي يخطن الجراح البليغة للسموات".
تتسم هذه الصورة بطابعها الحسي، وهي صورة مركبة تتزاوج فيها أربع
ظواهر حسية: "النساء"، "الغيمة"، "الجراح"، "السموات، كما أنها صورة مبتكرة
وجديدة تمتاز بنضارتها وألقها، وتختزن داخلها طاقة فكرية ورؤيوية عالية.
وحسب -تذوقنا النقدي- فإنها ترتكز في جوهر بنيتها على ثنائية الألم-
المعافاة، فالجرح يرمز "للألم"، أما الفعل يخطن فيرمز "للمعافاة"، مايمنحنا
الدهشة هو أن الشاعر ينقلنا من الأرضي إلى السماوي، فهو لم يقل بأن النساء
تمددنَ في "الأرض"، وهو المعنى الطبيعي المتوقع أوالواقعي، بل في "غيمة"
وهو المعنى المجازي. أما الفعلان: "تمددن" و"يخطن" فقد منحا للصورة حركيتها
المدهشة، وقد جاء استخدام الشاعر لكلمة :"السماوات" لكي يعطي "للجرح" صفة
الانتشار والرحابة. إن هذه الصورة تختزن في داخلها فكرتين هامتين:
الأولى:وهي عمق الألم الإنساني واتساعه الهائل، المُعَبر عنه بقوله:
"الجراح البليغة للسماوات"، والثانية قدرة الإنسان الذي يمتلك الإرادة
والقوة على العطاء والتجاوز المُعَبر عنها بقوله: "كي يخطنَ". ولم يكن صدفة
أن ينسب الشاعر فعل العطاء للمرأة بالذات فهي رمز التحمل والعطاء
والاحتضان، وإذا ثبتنا موقع هذه الصورة ضمن كامل السياق الشعري للقصيدة،
وللمقطع الثالث سنجد أن الشاعر أراد أن يعبر عن عمق معاناة الإنسان العربي
الفلسطيني، ومدى فداحة التضحيات التي قدمها الشهداء والمقاتلون
الفلسطينيون: "ثياب المحارب تعلو على الموج ساريةً من هديل ومناقير" وفي
ذات الوقت قدرته الهائلة على الصمود والصبر والتجاوز والعطاء، وهذه القدرة
تمثلت بالأم الفلسطينية المانحة والعظيمة: "كي يخطن الجراح البليغة
للسماوات"، وفي الحقيقة فإن المقصود بالجراح،هي جراح المقاتلين والمنتفضين،
إلاّ أن استعارة المعنى المجازي الذي تولده "السماوات" يعطي لهذا الجرح كما
أسلفنا صفة العمق والانتشار على المستويين: "العمودي والأفقي". ولنقرأ له
أيضاً الصورة الفنية المتألقة في المقطع الثالث: "السفائن في الريح تبرقُ،
محمولة فوق ريش الطيور"، فهي صورة مركبة، ذات طابع حسي إشراقي، تتكون من
ثلاث ظواهر حسية: "السفائن"، "الريح" ، و"ريش الطيور": وتمتاز بالجدة
والابتكار الذي يمنحنا الدهشة وطعم النضارة الأولى، أو نكهة الأشياء وهي في
بواكيرها الأولى، وفي مذاقها الأول الذي لم يكتشف بعد، إنه الشيء النضر،
الجميل، المتألق، المضيء، الذي لم تمسسه يد بعد، والذي يمنحنا شعوراً
بالغبطة المسربلة بنكهة الأشياء الطازجة، والجديدة وتمتاز هذه الصورة أيضاً
بحالة المزاوجة الرائعة بين الأرضي والسماوي: "فالسفائن" تشير إلى الأرضي،
أما "الريح" و"ريش الطيور" فتشيران إلى السماوي، إلاّ أنّ الطابع الحُلمي
المدهش في هذه الصورة هو العنصر السائد. ومما زاد في تألقها، وزاد من
مساحتها الإشراقية هو أن الشاعر أعطى صفة الإضاءة من خلال الفعل المضارع
"تبرق" للسفائن، تصوروا أية دهشة ستخالجنا ونحن نطلق العنان لمخيلتنا لكي
تأخذ مداها ورحابتها في عملية التخييل وتأمل هذه الصورة المدهشة حيث
السفائن تطير في الريح وهي تضيء "تبرق" محمولة فوق "ريش الطيور"، وكأنها
البساط السحري الذي طالما عانق مخيلتنا وراود أحلامنا، ولعل الأروع في هذه
الصورة هي أن تمنحنا فسحة كبيرة لإمكانية التأويل، والتعدد الدلالي،
بالإضافة إلى طاقتها الإيحائية، وشحنتها الفكرية والرؤيوية والحُلمية
العالية، "فالسفائن" وهي رمز السفر والانطلاق والحرية واكتشاف المجهول تطير
في السموات لتكتشف مدياتها وعوالمها الرحيبة اللامتناهية، ليس ذلك فقط، بل
إنها تطير محمولة فوق "ريش الطيور". إنها شفافية مذهلة: الخفيف وهو "ريش
الطيور"، يحمل الثقيل وهي "السفائن"!!.
هنا يتجلى عامل المبالغة في الشعر، لكنها ليست المبالغة الفجة أو
الممجوجة، إنها مبالغة حُلمية تمنح الدهشة والرشاقة وكأننا نتذكر الآن
المعنى الإشراقي والشفافية الهائلة التي اختزَنَتْها صورة رامبو في قصيدته
الشهيرة: "المركب السكران"، حينما تخيَّل نفسه "فلينةً" تطفو فوق الموج،
بالرغم من أن الصورة الثانية تختزن في ثناياها حالة معاكسة لصورة الشاعر
هاشم شفيق، إذ أن الخفيف وهو "الفلين" يحمله الثقيل -نسبياً- وهو "الموج،
إلاّ أن هاتين الصورتين تلتقيان في البعد الإشراقي وتحديداً في الشفافية
العالية التي هي ليست إلا "شفافية الشعر" وهو يمنحنا الطاقة القصوى في
التخييل والحلم الإنساني الرفيع.
وبوسعنا أن نقرأ في هذه القصيدة العديدة من الصور المشرقة الأخرى،
إلا أن الفسحة المتوفرة لنا -الآن- تجعلنا نكتفي بذكرها وعدم التوغل النقدي
في داخل بنيتها، فمثلاً نقرأ هاتين الصورتين التشبيهيتين الرائعتين في
المقطع الأول واللتين يطغى عليهما الطابع الحسي: ("والرياح" الحبيسةُ في
الصخر تمشي إليهم "ككاهنة"، وقوله: ("والبحر" في حالة الطلق يدفع أبناءه
باتجاه الصخيرات، منتشرين "كرفِّ يمام"). وكذلك نقرأ هذه الصورة المركبة
ذات الطابع الحسي أيضاً في "مزمور" المقطع الثاني: "سنحرر هذا البحر
الذاهل..../ ونمسح عن لحيته الزرقاء رمادُ القرصان".
ونقرأ أيضاً هذه الصورة المركبة ذات الطابع الحسي في المقطع الثاني:
"وثمة أوسمةٌ سوف تسّاقط من قامة الليل". كما نقرأ هذه الصورة المركبة
والحسية في المقطع الرابع:"قمرية...../ وعلى جنحها حفنة من تراب النجوم
يضيئه قمر العائدين". وهذه الصورة المركبة الحسية في "مزمور" المقطع
السادس: "بيتي على البحر هناك/ فيه سماءٌ من حبق/ ندلي ضفيرة طويلةً/ من
عطرها فوق الشبابيك".
أما البنية الرمزية- الأسطورية في هذه القصيدة، فتستند إلى عنصرين
رئيسيين: الرمز الشفاف الواضح والبسيط: البحر، الغيم، القرصان، الريح،
السفن، النهار، الليل....... بالإضافة إلى الرمز التاريخي: "كنعان".
وثانياً: الرموز الأسطورية، وخاصة تلك الواردة في الأسطورة
الكنعانية تحديداً، كـ "عناة": وهي آلهة النصح والإرشاد وعقد القران في
الأسطورة الكنعانية، و"إلات": وهي آلهة كنعانية. بالإضافة إلى الأماكن
التاريخية الموغلة في قدمها والواردة تحديداً في الأسطورة الكنعانية. كـ
"مريام" وهي بلاد فلسطين.
و"داغون" وهي دمشق، و"حلبا" وهكذا تكتب بالألف في الأسطورة
الكنعانية، و"قادش" وهي القدس.
أما على المستوى العاطفي أو الشعوري فمن المعروف أن هذا العنصر
"العاطفة أو الشعور"، هو واحد من أهم العناصر التي ينبغي أن تساهم في
البناء العام لأية قصيدة، وقد قلنا إن الشاعر هاشم شفيق نجح في إيجاد توازن
"نسبي" بين العاطفي والفكري في قصيدته : "مزامير لبحر مريام"، ويمكن القول
بأن العاطفة الجيّاشة والنبيلة تظهر في هذه القصيدة بأسطع تجلياتها في
المزمور الأخير في المقطع السادس، ولم يكن عبثاً اختيار هذا "المزمور"
بالذات كخاتمة للقصيدة، لقد وصفنا هذه العاطفة بـ "النبل" لأنها ترتكز على
إثارة وإيقاظ العواطف والمشاعر الإنسانية المتشبثة بالأرض، بالوطن، بالجذر
والكينونة الأولى، حيث الانتقال البهي من الخاص إلى العام: "من المنزل إلى
الوطن"، حيث الحنين والوجد العاصف للمنزل الأول: "بيتي على البحر هناك/ فيه
سماءٌ من حبق....../ يامنزلي يازارع البستان في طبق/ تاالله زحّافاً إليكَ
سوف آتي/ ظاهراً في ركبتيَّ مطلعُ الغسقْ/".
هنا بالذات في هذه الجملة الشعرية: "تااللهِ زحّافاً إليك سوف آتي"،
في هذا القسم "تاالله"، اجترح الشاعر مأثرته "العاطفية" -إذا جاز التعبير-،
حيث أن العناق الذي سيتم مستقبلاً بين الغائب: "المنفي الفلسطيني"، وبين
تراب وطنه هو عناق بهي ومؤثر، وجارح، بل إن هذه الصورة ستدخل أعمق أعماق
الذاكرة الوجدانية للإنسان، لأن العناق لن يكون طبيعياً أو عادياً في كل
المقاييس، وذلك كأن يكون شكل العناق: "أن يعانق العائد أرض بلاده وهو في
حالة الركض مثلاً، بل إنه يزحف زحفاً للعناق تصوروا هذا التقديس الهائل
للأرض، إنها قيمة مقدسة، بل إن الأرض هي قدس الأقداس.
أما من حيث "الرؤيا" فإن أهمية هذه القصيدة وتميزها عن غالبية
القصائد الأخرى، تكمن ليس في كشفها للواقع الفلسطيني الراهن فحسب، بل في
انفتاحها على المستقبل، في طاقتها التشوّفية والاستشرافية العالية. وإذا
كانت مرجعية العديد من القصائد التي تناولناها في هذه الدراسة النقدية
تستند إلى الواقع أو إلى التاريخ: "الذاكرة القريبة أو البعيدة"، فإن هذه
القصيدة تستند في مرجعيتها إلىالواقع والتاريخ، مضافاً إليهما "المستقبل"،
حيث تتجلى قدرة الشاعر في قراءة الواقع والأحداث واستشراف المستقبل من خلال
هذه القراءة، حيث يبشرنا بانتصار القضية الفلسطينية وعودة الشعب الفلسطيني
المنفي إلى أرضه والقضاء على الصهاينة "القرصان"، وقد تجسدت هذه الطاقة
الرؤيوية بوضوح في المزمور الأول: "سينبت في الأرض غيمٌ"، وفي المزمور
الثاني: "سنحرر هذا البحر الذاهلَ/ ونمسح عن لحيته الزرقاء رمادُ
القرصان/"، وفي المزمور الثالث: "عَلَمٌ في أعالي الجبالِ/ سيهبط فجراً"،
وفي المزمور الخامس حيث تنفتح القصيدة على الزمن المستقبلي: "لتتبعها سفنُ
الذاهبين/ إلى زمن من مقبلٍ"، وفي المقطع السادس الذي تؤكد فيه "رؤيا"
الشاعر المستقبلية على انتصار زمن الحُلم والضوء، وانتصار الإنسان رغم كل
أشكال الدمار والخراب والموت التي اعترضت مسيرته: "......... في التوِّ
تنبثق ممالكٌ من ضوءٍ، تعلوها نصبٌ وعمادٌ، لتؤرخ صوت الإنسان على الأرض
المثكولةِ بالقتلى".
*ميخائيل عيد / سورية:
الشاعر العربي السوري ميخائيل عيد كتب قصيدة عن الانتفاضة بعنوان:
"نجمة الصبح".
يبشرنا الشاعر من عنوان القصيدة بأجواء التفاؤل والإشراق الثوري
وانتصار القضية:
"أدركتني نجمة الصبح
ومدت لي يداً
كنتُ قد أوغلتُ
في العتم
وضيعتُ الأثر
***
مرحباً - قالت
وكانت في المدى
زهرات من دمي
فوق الطريق".
استخدم الشاعر رمزاً شفافاً واضحاً وبسيطاً للدلالة على الانتفاضة
الفلسطينية الباسلة، إنها "النجمة" باعتبارها رمزاً للإضاءة والتنوير
والوضوح، إلاّ أن طريق الوصول إلى النصر لم يكن سهلاً، بل كان مكلفاً
وشاقاً ومُعبّداً بالدماء. أي أن الانتصار على الأعداء الصهاينة جاء بعد
مخاض ثوري عسير وطويل، وسقوط آلاف الشهداء، ويتضح من المقطع الأول المذكور
أن الشاعر يتكئ على ثنائية النور والظلام، أو الإضاءة والعتم لتنمية الخيط
الدرامي داخل القصيدة، فالشاعر يصل إلى معانقة الضوء بعد توغل عميق "في
العتم"،وبعد ضياع مرير استنزف قواه: "وضيعتُ الأثر".
في المقطع الثاني يخاطب الشاعر- المناضل "الدرب" أي درب النضال،
والسبيل الموصل إلى انتصار القضية، وبعد هذا النداء الحميم والحار يحقق
المناضل "مأربه" وهدفه المتجسد بتحرير الأرض، وذلك عن طريق أبطال الحجارة
المنتفضين الذين تتحول "النجمة" بين أيديهم إلى "حجر"، وهنا يمنح الشاعر
صفة الإضاءة للحجر، فلنقرأ له هذا المقطع الدال:
" أيها الدرب!
وندّ عن فمي
شهقة المدلج
لاقى مأربه
أيها الدرب!
وما ارتد الصدى
كنتمُ.......
أنتمْ
وكانت نجمتي بين أيديكم
على الدرب
حجر....".
ثم يتخيل الشاعر سيل الانفتاضة "طوفاناً" يجرف الأعداء الصهاينة وكل
المتخاذلين والانهزاميين، ونلاحظ أنه في المقطع الجديد يتكئ على ثنائية
أخرى لتطوير البنية الدرامية للقصيدة، ألا وهي ثنائية الألم والفرح،
أوالحزن والفرح، مؤكداً على فكرة جدلية معروفة وهي انبثاق الفرح والخصب من
أحشاء الحزن والموت، وبعد هذه العملية الصراعية بين الحزن والفرح ينتصر
الخصب الذي يرمز إليه "المطر" والذي "يثلج صدر الأرض"، فيؤدي إلى استفاقة
"نجمة الصبح" وهي رمز الانتفاضة كما أسلفنا، ثم ننتقل إلى حالة الغناء
كحالة من حالات الفرح والتفاؤل الإنساني، ويلجأ الشاعر بعد ذلك إلى رمز
تقليدي استخدمه الشعراء كثيراً، وهو "الديك" باعتباره رمزاً للإيقاظ،
وصياحه كما هو معروف مؤشر واضح على بزوغ الفجر، والمراد هنا بزوغ فجر
الحرية والشعب المنتصر، لنقرأ له هذا المقطع الدال: "إنه الطوفان/ يمحو كل
أصناف القذارة......." وقوله:
"مطر
يهطل كالحلم
كأفراح البشارة
مطر
من غيمة الأحزان
والآلامِ
من نار المرارة
مطرٌ
أثلج صدرَ الأرضِ
بالنجوى
فغنت
وأفاقت نجمةُ الصبحِ
استراحت
عند شط الحلم
ياديك المطر!
أيقظ التاريخَ
أيقظه
بأغنية الحجر".
ثم يلجأ الشاعر إلى استخدام الرمز التاريخي الذي يأخذ أبعاداً
أسطورية في تطوير البنية الدرامية للقصيدة، وينجح الشاعر في عملية التنويع
الدلالي لمفردة الحجر، فإذا كان "الحجر" رمزاً للثورة والانتفاضة كما تبينَ
لنا في المقاطع الأولى من القصيدةِ، فإنه يمنحه وظيفة دلالية أخرى، حيث
يصبح من خلال الاتكاء على الرمز التاريخي "مدياس" رمزاً للغناء والفرح
الإنساني. و"مدياس" هو أحد أشهر النحاتين اليونايين القدامى. ثم يكشف
الشاعر عن وظيفة دلالية أخرى، وهي قسوة القدر والزمن وظلم الطغاة وطغيانهم
واستباحتهم للقوى المنتجة والبانية عبر التاريخ، وذلك من خلال الاتكاء على
الرمز التاريخي "سنمار". تقول هذه الأسطورة إن "سنمار" بنى قصراً من أروع
القصور في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وقد "كوفئ" جزاء عمله هذا من قبل
الحكام الطغاة بأن قطعت يمناه، وقيل: "ألقي من أعلى القصر، وقيل أيضاً:
"إنه قتل لأن القصر مرتكز إلى حجر أساسي إذا أخذ من مكانه انهار القصر كله-
أي أنه كان يمتلك السر-، ولأن الملك -الطاغية معروف بفردانيته واستبداده
فإنه لا يريد لأحد أن يشاركه في معرفة الأسرار، لذا لجأ إلى قتل الباني
والمنتج" سنمار".
من المؤكد أن الشاعر هنا أراد من خلال استخدام الرمز "سنمار" التوصل
إلى إسقاط هذه الدلالة على واقعنا المعاصر، وحسب قراءتنا فإنه أراد
المزاوجة بين "الغدر" الذي تعرض له "سنمار" قديماً، مع عملية الغدر
"المعاصرة" التي مارسها بعض العرب ضد أبطال الحجارة المنتفضين، حيث تركوهم
وحيدين في صراعهم ضد العدو الصهيوني الغاصب، بل إن بعض الأنظمة العربية
تآمرت فعلاً مع الصهاينة لغدر الانتفاضة وإجهاضها والحيلولة دون تناميها
وذلك خوفاً على عروشهم المهترئة.
ثم يتطرق الشاعر إلى بعض الوظائف الأخرى للحجر، ومنها: إنه الملاذ
والمأوى الذي نلجأ إليه في الحر وفي البرد، ثم يعود إلى ذكر الدلالة الأولى
باعتباره رمزاً للثورة والكفاح والمقاومة، لنقرأ له هذا المقطع الذي يدل
على ماذهبنا إليه:
"حجر
غنى به مدياس
أشواق البشر
حجر
غنى به سنمار
أغنية القدر
حجر
نأوي إلى نعمائهِ
في الحر
نأوي في المطر.....
حجر
ما أمطرت يوماً
سماءُ الكون
أندى منك
يا هذا الحجر!
تتلظى
في يد الفتيانِ
محتدماً
وقد حاق الخطر".
وأخيراً تبشرنا "رؤيا" الشاعر وطاقته التشوفية بانتصار المنتفضين
على أعدائهم الصهاينة، مؤكداً على أن بلوغ هذه الغاية "النصر والتحرير" جاء
من خلال إهراق الدم الطهور، ومن خلال الآلام والمعاناة والجراح: "يبحر
الفتيان/ في الجرح/ إلى الصبح الجميل/ الدم المِشعَلُ يهديهم/ ويختال/
النخيل.....".
تضيء نجمة الصبح، نجمة الانتفاضة الباسلة، أما الشاعر - المقاتل
فإنه يبارك "الجراح" لأنها الوسيلة التي جعلت النصر ممكناً، ومعانقة
"الشفق" أملاً واقعياً:
"أدركتني نجمةُ الصبحِ
فباركتُ
الجراحَ
وترقبتُ الشفق".
أما على المستوى الفني، فيمكن القول بأن هذه القصيدة "نجمة الصبح"
تميزت بشفافيتها، وبساطتها، وعذوبتها المنسابة، كما تخللتها بعض الصور
التشبيهية الجميلة كقولهِ: "مطر/ يهطل كالحلم/ كأفراح البشارة"، وبعض الصور
المركبة ذات الطابع الحسي، كقوله :"يبحر الفتيان/ في الجرح/ إلى الصبح
الجميل/".
وبالرغم من أن الشاعر ميخائيل عيد اتكأ على الرمز التاريخي والصورة
والمجاز في بناء قصيدته، وابتعد -في أغلب الأحيان- عن التقريرية والمباشرة،
إلاّ أنه وقع بهذا المطب في بعض مواضع قصيدته المذكورة، كقوله: "إنه
الطوفان/ يمحو كل أصناف القذارة"، وقوله: "أيها الفتيان/ ماشأن الحجر/ أنتم
البانون/ والحامون/ والعزم الأغر!/ ". من الواضح إن هذه المباشرة
والتقريرية أدت إلى خبو الوهج الإشراقي -نسبياً- في هذه القصيدة، وأضعفت من
طاقتها الفنية الإيحائية، إلاّ أنها -عموماً- وكما أسلفنا من القصائد
الناجحة على المستوى التخييلي والرؤيوي والفني.
استخدم الشاعر في هذه القصيدة العديد من الأساليب الفنية:
الاستذكار: "الفلاش باك" كقوله: "كنتُ قد أوغلتُ /في العتم/ وضيعتُ الأثر/،
والنداء، كقوله: "يانهر دم/ حر يسيل/ ياجراحاً/ من ألق....."، والحوار،
"مرحباً- قالت/ وكانت في المدى/ زهرات من دمي/ فوق الطريق".
أما لغة الشاعر ميخائيل عيد فقد تميزت ببساطتها، وعذوبتها ووضوحها،
وابتعادها عن التراكيب اللغوية المعقدة، والمفردات القاموسية المحنطة، إنها
باختصار لغة الحياة اليومية المعاصرة وقد ارتفعت قليلاً عنها مُحاوِلة بلوغ
الفني الموحي والمُشرق.
*عبد الكريم الناعم / سورية:
الشاعر العربي السوري عبد الكريم الناعم كتب قصيدة عن الانتفاضة
بعنوان: "لأركان عرشها" في عام 1988، أي في بداية انطلاق الانتفاضة وفي غز
عنفوانها وتأججها.
تميزت هذه القصيدة بفنيتها العالية، وعمقها الفكري والرؤيوي وموقفها
النضالي المتقدم الذي يدعو إلى التشبث بالأرض، وبالقيم الثورية، والإصرار
على المقاومة والتحدي.
عنوان القصيدة يكشف بأن الشاعر يُشبه الانتفاضة بـ"الملكة": "عرشها"
التي تستمد بقاءها من النسغ الحي للمنتفضين، من شعلة دمائهم الثائرة، فَهُم
أركانها، وهم رمز ديمومتها. يستند الشاعر في بناء قصيدتهِ على حدثٍ واقعي
من أحداث الانتفاضة، ويتكئ عليه في كامل بنيانهِ الشعري، منذ ولادة القصيدة
وتناميها وتطورها وحتى خاتمتها، والحدث المتفرد هذا هو استشهاد أربعة من
المنتفضين الأبطال، ويهدي الشاعر القصيدة لهم: ((لأربعةٍ مِن يافعي
الانتفاضة دفنوا أحياء واقفين)).
في هذه القصيدة تتضح لنا المهارة والخبرة الفنية العالية التي
يمتلكها شاعرنا الناعم، فهو يبني قصيدته بعين الصانع الماهر والحاذق،
ويتجسد لنا ذلك بقدرتهِ على نقل الحدث وتفاصيله المؤلمة من المستوى الواقعي
إلى المستوى الفني والجمالي المدهش. وإذا كان الحدث يمتاز بطابعه المتفرد
والمأساوي العميق، وهو ليس حدثاً عادياً أو مألوفاً في كل المقاييس، لأن
دفن الناس وهم أحياء هي قمة البربرية والسادية المجرمة، وهو فعل وحشي لا
يمت بصلة إلى القيم الإنسانية المعروفة، ناهيكم عن التحضر والرُقي
الإنساني، وبالتالي فإن هذا الحدث قادر على استفزاز وصدم مخيلة وذاكرة أي
شاعر يتفاعل معه، إلاّ أن براعة شاعرنا الناعم وتميزه هي التي ساعدت على
تجسيم الحدث وتصويره تصويراً حسياً بارعاً ومدهشاً، وكأننا أمام مشهد
سينمائي متحرك، رسمتْهُ ذاكرة الفنان البصرية بمزيد من الإتقان والمهارة
المسربلة باللوعة، والأسى، والنقمة والتحدي أيضاً.
لنقرأ له مطلع القصيدة:
((أربعةٌ تحتَ عراءِ اللهِ موثقونَ،
ريحُ ربِّ الكونْ: طلقةٌ،
وأمنياتُ برقِ القلبِ،
والمطرْ)).
ثم تتوالى المشاهد، ويتطور الحدث مُتخذاً أبعاداً درامية ذات طابع
مأساوي، ويأخذ الشاعر دور الراوي الذي يقص لنا هذه الحكاية.
المنتفضون الأربعة يعانقون مصيرهم بثبات الإنسان المؤمن بعدالة
قضيته وانتصارها. الغزاة البرابرة يعدون القبر، والمنتفضون الأربعة يقابلون
ذلك بشموخ وشمم، لا خوف ولا ضعف، بل تصميم وقدرة ثابتة على التحدي الجارح:
((عينٌ على القبر الذي يُعَدُّ))، فلنقرأ هذه المشاهد بكافة
تفاصيلها التي تكشف عن فكرتين أساسيتين وهما: مدى انحطاط وفاشية الغزاة
الصهاينة، تقابلها قوة الرفض والصمود والتحدي الذي يختزنه المقاومون
والمنتفضون:
((أيديهمو شُدَّت إلى الوراءْ
حَفّارةٌ إلى الأمامْ
وستةٌ أظافرٌ لكلِ نجمةٍ
- "إحفِرْ هنا"
وأطلق الغمامْ
صُراخَه،
وغَلَّ في السماءْ
- "تقدّموا"
- "نموتُ واقفينَ"
ضربةٌ على صيوانِ رأسه،
فَأَنَّ طائرٌ حاصرَه انكسار صوتِهِ
طَمرّه بالترابِ حتى الذَّقنِ واقفاً،
للسيفِ غمدُهُ))
ثم تتجلى لنا براعة الشاعر في استخدام الطاقة التحولية في النص، وفي
التنويع الدلالي لفكرة الشهداء الأربعة، الذين يتحولون إلى جهات، عقود،
قناديل مضيئة، أربعة ورود، أربعة أقمار، أربعة أطيار. إن هذا التنويع
الدلالي دليل على عمق الرؤية الشمولية التي يمتلكها الشاعر، كما أنه أنقذ
النص من رتابة الفكرة وبثَّ فيه عنصر التجديد، لنقرأ له هذا المقطع الدال:
((ها أربعٌ من الجهاتْ
أربعة من العقود دائراتْ
أربعةٌ من الرؤوس مثلما تطفو
قناديلُ الحكايا....))
ما يدهشنا هنا حقاً هو حالة التماهي الحسية الرائعة بين الإنسان
وبين الطبيعة، وقدرة الشاعر على بث روح الحركة والحياة في مفاصل الطبيعة:
"الوردة، الحقل.... الخ"، بل إنه يمنحها حساسية مرهفة تقارب حساسية
الإنسان، إن إسباغ العاطفي المرهف على الموجودات والكائنات غير العاقلة:
"الوردة مثلاً" يُعَدُ بمثابة"استنجاد" -إذا جاز التعبير- بقوى الطبيعة
الأخرى- غير العاقلة تحديداً- لمشاركة الإنسان في مصيره الوجودي، ومشاركته
في حالة العزاء، وفي الحساسية المرهفة والعالية، والشاعر هنا يلجأ إلى
التخصيص، حينما يؤكد على عمق الحزن الذي ينتاب الأرض الفلسطينية وهي تشهد
مأساة أبنائها الورود- الشهيدة!! لنقرأ له هذا المقطع الدال:
((ها وردةٌ تَلفَتَتْ
فاجأها الحقلُ بأربعٍ تفورُ بالشذى
فما الذي تصنعه أرضُ فلسطينَ
لهذا الفصيلِ جَهرةً؟!)).
بعد ذلك يجسد لنا الشاعر عبد الكريم الناعم الحالة الداخلية للشهيد-
البطل المتمثلة بالإصرار والمقاومة والتشبث بالأرض حتى اللحظة الأخيرة من
حياتهِ من خلال اشتهائهِ لعصير البرتقالة:
((الأولُ/ الأخيرُ قال وهو يشتهي
عصير برتقالة:
"نموت هكذا وعيننا على البلاد"))
يتحول هذا الإصرار المدهش الذي تمثله هذه الجملة الشعرية: "نموت
هكذا وعيننا على البلادْ" إلى لازمة شعرية تتكرر في المقاطع الأخرى، وتكون
هي خاتمة القصيدة، إلاّ أن براعة الشاعر تتجلى لنا في التنويع الدلالي لهذه
اللازمة، وتحديداً في المزاوجة بين البصر والبصيرة، بين الرؤية والعاطفة،
فبينما تكشف الأولى والثانية عن الرؤية البصرية: "عيننا على البلاد".
- أما الثالثة والأخيرة فتكشف عن قوة البصيرة التي مصدرها القلب
باعتباره رمزاً للشعور والعاطفة الإنسانية: "قلبنا على البلاد".
ثم تتطور القصيدة حينما يستخدم الشاعر فكرة الشهداء الأربعة
مُنوِعاً في الدلالة وفي الرؤية، فهم يتحولون تارةً إلى أقمار- وتارة إلى
طيور"تُعرج" إلى السماء، كما يتحول الشهداء إلى طاقة حيوية متجددة تبث
الحياة ولهب الحرية في نسغ الانتفاضة، في شمسها المتجددة: ((أربعةٌ من تلكم
الأقمارْ/أربعة لشمسها، لعرشها/ لأفقها الممتد خلف رحاة الأطيار/ أربعةٌ
على تفتح السَّرار/ أربعةٌ/ لكلِ طائرٍ عُروجُه/)).
ثم يختتم الشاعر قصيدته باللازمة- النشيد، اللازمة التي تفتح أفقاً
للإشراق الثوري، أفقاً للخلاص والنصر، اللازمة التي تؤكد على أن الشهيد-
الطائر، والطائر- الزنبقة، يغذُ السير باتجاه الهدف، وهو تحرير القدس من
رجس الصهاينة، ويجعل من موتهِ بداية الانبعاث والتحرر والحياة لبلادهِ:
((أربعةٌ
لكلِ رأس طائرٍ/ زنبقةٌ
أربعةٌ من تلكمُ الأطيار هيأّت متونَها
وباتجاه القدس أغدقت لحونَها
وابتدأ الإنشاد:
"نموتُ هكذا
وقلبنا مع البلاد")).
أما على المستوى الفني، فإن قصيدة الناعم، هي قصيدة رؤيوية متعددة
الأصوات، حيث نقرأ صوت الراوي الذي يتداخل مع صوت الشاعر: ((أربعةٌ تحت
عراءِ اللهِ موثقون))، وصوت الغزاة: ((إحفِرْ هنا))، وصوت الشهداء: ((نموت
واقفين))، وصوت النشيد الجماعي: "نموت هكذا/ وقلبنا مع البلادْ)).
يستفيد الشاعر هنا من تقنيات القصة الحديثة وقد تجسد ذلك في كيفية
وصف الحدث وتناميه وتطوره، وكيفية رسم المشاهد الحسية المتتالية، وفي السرد
الحكائي، إضافة إلى اتكائهِ أحياناً على عنصر الحوار لتعميق البناء الدرامي
في نصهِ الشعري كقوله: ((- تقدموا"، / -"نموت واقفين")). أما أسلوب التساؤل
فقد ساهم هو الآخر في عملية التنامي الدرامي للقصيدة كقوله: ((فما الذي
تصنعه أرض فلسطينَ/ لهذا الفصيل جهرةً؟))، وقوله: "ووردةٌ أم رأس صاحبي/ في
زورق الضحى))؟.
تمتاز هذه القصيدة أيضاً بتماسكها الفني، وترابطها الموضوعي،
فالأجزاء مُحكَمةُ البناء، وإن حذف أيّ جزءٍ سيؤدي إلى خلل واضح في كامل
البناء الشعري على الصعيد الفكري والفني والرؤيوي، كما أن اللاحق هو نتيجة
للسابق، والشاعر يستفيد هنا بوضوح من مقولة السببية، أي ترابط السبب
والنتيجة، كقوله: (("إحفِرْ هنا”/ وأطلقَ الغمامْ/ صراخَه/ وغلَّ في
السماء/"، واضح هنا إن إطلاق الغمام للصراخ جاء نتيجة منطقية لعملية الحفر.
نلمس في هذه القصيدة أيضاً توازناً"نسبياً" مدهشاً بين الواقعي والحلمي،
الأرضي والسماوي، وكذلك بين العاطفي والفكري، وعملية التحويل هنا
تتم"غالباً" من الحدث- إلى الصورة، ومن الواقع- إلى الصورة، و"أحياناً" من
الواقع- إلى الفكرة، وحسب قراءتنا هنا فإننا نستنتج بأن الشاعر يتكئ في
غالبية الأحيان على الصورة كأداة فنية جوهرية وأساسية في بناء نصه الشعري،
وهذه الأداة هي التي تتضمن طاقته التشوفيّة والفكرية في أغلب الأحيان، إلا
أنه في أحيان قليلة يلجأ إلى الانتقال من الواقع إلى الفكرة بدون الاتكاء
على الصورة أو المجاز أو الرمز في بنائهِ الشعري.
أما قدرة الشاعر التخييلية العالية فتتجلى لنا بمهارته الفنية في
رسم وبناء الصورة الشعرية الاستعارية والتشبيهية الأخّاذة والمدهشة. ومن
أهم سماتها الفنية: إنها صور تختزن في داخلها طاقات إيحائية وفكرية خلاّقة
وعميقة تفسح المجال لإمكانية التأويل والتعدد الدلالي، وهذا دليل على عمق
الشاعر الرؤيوي وثقافته الشمولية العميقة التي انعكست بوضوح على ثراء صوره
واكتنازها بالمعنى، فهي ليست صور"خلبيّة" - كما نلمس ذلك عند بعض الشعراء
المحدثين- تتوخى الدهشة من أجل الدهشة، والمفارقة من أجل المفارقة، ويكون
هَمُ هؤلاء اللعب والاشتغال على الصورة واللغة فقط دون الاكتراث بالتجربة
والمعنى والصدق الفني وغيرها من العناصر الأساسية التي بدونها يستحيل نجاح
العمل الفني المُبدِع، إنها-أي صور الناعم- صورٌ لها وظيفة دلالية وفنية
ورؤيوية واضحة، صورٌ تثري الفكر والشعور القائم على تجربة صادقة ومعاناة
حقيقية في الحياة. كما نلمس أن الشاعر عبد الكريم الناعم حاول إيجاد
توازن"نسبي" بين المجرد والمحسوس في بناء صوره- مع غلبة للطابع الحسي- فلا
إيغال في التجريد يصل بنا إلى حد التهويمات والابتعاد الكلي عن الواقع
والحياة، ولا ذوبان في المحسوس يؤدي إلى الارتهان الكلي للواقع بصورة جامدة
تؤدي إلى إضعاف الجانب التخييلي في الفن ومن ثم إضعاف"الروح المبدع"
باعتباره طاقة فنية وجمالية خلاّقة ومبدعة تنقلنا إلى مصاف المدهش والسامي
في الفن، نعم، إن الواقع هو المرجعية الأولى لهذا النص الشعري الذي نتناوله
نقدياً، لكنهُ الواقع المعاد صياغته جمالياً وفنياً بواسطة الأدوات الفنية
التي يمتلكها الشاعر وأهمها: الصورة واللغة والخيال والمجاز، ومن أهم
السمات الفنية الأخرى لصوره الشعرية، هي تماسكها الفني، وطابعها الابتكاري
المدهش والخلاّق، وهي غالباً صور مركبة وليست بسيطة. فلنقرأ له هذه الصورة
المركبة: ((والكلامُ: طائرٌ تقطعت بروقُه/ فراحَ ينقر الحجر/)). صورة
إشراقية مركبة يطغى عليها الجانب الحسي، وتتكون من ظاهرة مجرد وثلاث ظواهر
حسية: "فالكلام" ظاهرة مجردة، و"الطائر"، و"البروق" و"الحجر" ظواهر حسية.
عنصر التحويل أو الطاقة التحولية في النص واضحة هنا تماماً، حيث
يتحول"الكلام" إلى "طائر"، حي يمارس وظيفة دلالية ورؤيوية معينة، ما يدهشنا
هنا في هذه الصورة هو شحنتها الفكرية والعاطفية العالية، فهي تختزن طاقة
إيحائية مدهشة تفسح المجال للتأويل، والتعدد الدلالي، وإمكانية القراءة
المتعددة والمتنوعة، وحسب قراءتنا وتأويلنا لها، فإننا نرى بأن هذه الصورة
مرتبطة فكرياً وشعورياً بالجملة الشعرية التي سبقتها، وهي نتيجة لها: "عينٌ
على القبر الذي يُعَدُ" فالصهاينة كانوا يعدون القبر للشهداء الأربعة،
أما"العين" هنا فيمكن تأويلها بأشكال متعددة، حيث يمكن أن ترمز إلى"عين
الشهيد" التي تراقب عن كثب التمهيد لعملية الموت المُعَدة له، ويمكن أن
تكون"عين الراوي"- ويمكن أن تكون-لاحقاً- "عين المتلقي، "باعتباره متفاعلاً
ومنتجاً للنص، أما جوهر الفكرة- حسب اجتهادنا وتذوقنا النقدي- فإنها تعبير
عن شدة الألم الإنساني الذي يعصف بالإنسان، وينعكس ذلك على الكلام باعتباره
وسيلة للتخاطب ووسيلة للإنسان لتفريغ شحناته العاطفية والفكرية. إنها وسيلة
البوح الأرقى للإنسان حينما تعصف فيه حالات الألم، إلا أن عظمة الفن هنا هو
أن الكلام يتحول إلى طائر لا حول ولا قوة له إزاء هذا المصير الكارثي،
طائر"تتقطع بروقه" حسب تعبير الشاعر، البروق رمز للإضاءة والإشراق، وتقطعها
يعني حلول الموت والظلام التدريجي، وليس الفجائي والكلي، لأن الشاعر لو
قال: تمحي بروقه مثلاً لوردَ إلى ذهننا بأن الظلام سيحل بشكل كلي، ولكن
الفعل الذي استخدمه"تتقطع" أعطي حركية هائلة للصورة، كما بيّن لنا أن حلول
الموت سيكون تدريجياً وليس بشكل كلي وسريع، وهذا التدرج يعطي معنى"الثقل"
الذي تكتظ به اللحظة، أو الزمن، إنه الزمن الثقيل المكتظ بالمرارة والمشحون
بالقلق والألم الإنساني، وإزاء هذا الزمن المأساوي لا يستطيع الكلام-
الطائر أن يمنع حدوث عملية الموت وطغيان الظلام فيضطر من شدة ألمهِ إلى"نقر
الحجر"، تصوروا هذا المشهد الحسي البارع، الأخّاذ، الجديد، النضر والمبتكر:
الكلام يتحول إلى طائر ينقر الحجر من شدة ألمه، لأنه لا يستطيع أن يقوم
بفعل آخر لتغيير الطابع المأساوي للمشهد، أو المصير الوجودي المؤلم للشهداء
الأربعة، وتختزن هذه الصورة في داخلها شحنة عاطفية متأججة، ورهافة لا حدود
لها، فالكلام الطائر -حسب الطاقة الإيحائية في النص وهو الهدف الذي توخاه
الشاعر من بناء هذه الصورة حسب رأينا- يمكن أن يتحول إلى إنسان تعصف بروحه
الآلام فيضطر إلى نقر الحجر المعروف بشدة صلادتهِ وصلابته من شدة الهول
الكارثي.
لنقرأ له، بل لنتذوق هذه الصورة المدهشة والمبتكرة: ((أفكرةٌ، أم
نجمةٌ لها جناحا نحلةٍ حزينةٍ؟)).
إنها صورة مركبة تتكون من ظاهرة مجردة: "فكرة"، وظاهرتين حسيتين:
"النجمة، والنحلة". أول ما يلفت انتباهنا في هذه الصورة هو أنها لا تتصف
بالثبات والتحديد، بل بالتحول والصيرورة، والذي جعلها قابلة للتحول هو
التساؤل الذي طرحه الشاعر وهو ما منحها إمكانية التأويل والتعدد الدلالي.
كما أن الطاقة التحولية تتجسد أيضاً بأن الفكرة تتحول إلى نجمة أو
نحلة،. ما يدهش هنا ليس تحول الفكرة إلى نجمة أو نحلة فحسب، بل إن الشاعر
بمقدرتهِ التخييلية المبدعة استطاع أن"يخلق" لها جناحين تطير بواسطتهما،
إنها الفكرة- المُجنحة، الفكرة- الطائرة، أو النجمة- الطائرة، واستخدام
النجمة هنا منحها صفة الإضاءة، فهذهِ الفكرة إذن مُحَلِقَة ومضيئة أيضاً في
ذات الوقت. وهذه النجمة"لها جناحا نحلة حزينة"، الشحنة العاطفية هنا تتجسد
بصفة"الحزن" تحديداً، أي أن الشاعر منح الجماد"النجمة" صفة"الحزن" وهي من
صفات الكائن العاقل الشعورية- الإنسان- الذي يتأمل ويحزن.
إذن فالفكرة- النجمة مضيئة ومُحلِقة وحزينة في ذات الوقت. يرتكز
الشاعر في لا شعوره هنا إلى فكرة عميقة وهي إن الحزن ينبثق من الضوء، أو أن
الحزن يترافق أو يتلازم مع التوهج، ففي أحشاء الضوء ينبض الحزن، وفي ثنايا
الحزن ينبض التوهج والفرح، فكرة جدلية تكشف عن رؤية شمولية ومعمقة لتحليل
ماهية الأشياء وجوهرها الدفين. ومن السمات الفنية الأخرى لهذه الصورة هي
تماسكها الفني، وطابعها الابتكاري المدهش الذي يدل على فرادة الشاعر وتميز
شخصيتهِ الفنية. القصيدة زاخرة بالعديد من الصور الشعرية الاستعارية
والتشبيهية المشرقة والمتألقة، وسنذكر في الفُسحة المتوفرة لنا هنا بعض هذه
الصور. يقول في هذه"الاستعارة" المدهشة: ((-"إحفِرْ هنا"/ وأطلق الغمامْ/
صُراخَه/ وغلَّ في السماء)). شبه الشاعر الغمام بإنسان يصرخ، وحذف المشبه
به"الإنسان" وأبقى ما يدل عليه"الصراخ". كما نقرأ هذه الاستعارة الرائعة
أيضاً: "ها وردةٌ تلفتتْ/ فاجأها الحقل بأربعٍ تفور بالشذى"، شبه
الشاعر"الوردة" بإنسان"يتلفت"، وحذف المشبه به"الإنسان" وأبقى
المشبه"الوردة".
كما نقرأ العديد من الصور التشبيهية المدهشة والمبتكرة كقوله: "كما
الفراش غيمةٌ من الزهور، غيمةٌ من الشذى" وقوله: "أربعة من الرؤوس مثلما
تطفو/ قناديل الحكايا... " وبالرغم من تأكيدنا على المستوى الفني الإبداعي
المتميز في قصيدة الناعم هذه: "لأركان عرشها"، إلاّ أننا نقرأ بعض الجمل
التقريرية والمباشرة- ولكنها نادرة وقليلة- كقولهِ: ((أيديهمو شُدَّت إلى
الوراء))، وقوله: ((وباتجاه القدس أغدقت لحونها/ وابتدأ الإنشاد.....))،
ويمكننا القول في هذا المجال أن استخدام الشاعر للمباشرة في بعض مواضع
قصيدتهِ لم يؤثر سلباً على القيمة الجمالية والفنية في نصه، أي أن استخدام
المباشرة أو الشرح التفصيلي كان ضرورياً- في أغلب الأحيان- لتعميق الفكرة
وجعلها أكثر وضوحاً، ومن أجل اكتمال المعنى والتمهيد لبناء الصورة، فمثلاً
الشرح الذي لجأ إليه هنا: "ضربةً على صيوان رأسهِ" جاء ضرورياً جداً لبناء
الصورة اللاحقة: "فَأَنَّ طائرٌ حاصرَهُ انكسارُ صوتِه" حيث أن الصورة جاءت
نتيجة منطقية لسبب"الضرب" ولولا الشرح التمهيدي هذا لما استطاع الشاعر أن
يُبدع هذه الصورة أساساً. إن الشاعر ما أن يضطر للشرح والتفسير أو المباشرة
-وهو سبب للهبوط الفني- حتى يرتفع بالكلام من العادي إلى الفني والمدهش
بالاستناد إلى الصورة، والخيال، والمجاز عموماً.
أما لغة الشاعر عبد الكريم الناعم، فهي لغة فنية مجازية، موحية
ومُشرقة، عذبة ومنسابة، تمتاز بجزالة ومتانة مفرداتها وألفاظها، وهو في هذه
القصيدة، كما في عموم تجربتِه الشعرية التي تجاوزت الثلاثين عاماً، يمتاز
بقدرته على تطويع اللغة وإقامة العلاقات المدهشة بين مفرداتها، وهذه واحدة
من أهم السمات الفنية التي تدل على تميز تجربته، كما تميزت لغة هذه القصيدة
بشدة التكثيف، والاقتصاد اللغوي، فالشاعر يختار مفردته بعناية بالغة ويضعها
في الموضع الصحيح، أي أن موقعها يلعب فاعليته الصحيحة ضمن الجملة الشعرية،
وضمن السياق الشعري العام للقصيدة، ويبقى أن نقول إن هذه القصيدة هي من بين
القصائد المتميزة من الناحية الفكرية والرؤيوية والجمالية التي كتبت عن
الانتفاضة الفلسطينية.
*أحمد مشوّل / سورية:
الشاعر العربي السوري أحمد مشوّل كتب قصيدةً عن الانتفاضة بعنوان:
"أمطار الرمل القرمزي".
القصيدة تكشف عن حساسية جديدة، ورؤية جديدة في التعامل مع الأحداث،
والأشياء، والموجودات. فهي تباغتنا بالدهشة منذ قراءتنا الأولى لعنوانها:
((أمطار الرمل القرمزي)). فالشاعر يستند في اختيار عنوانه هذا على أسلوب
المفارقة- الدهشة، وهذا الأسلوب يتكرر في العديد من مقاطع القصيدة. فالرمل
هو أحد المواد التي تدخل في تكوين الحجر، لكنه أيضاً من ناحية أخرى رمز
للجدب، أما المطر فهو رمز للخصب والحياة كما هو معروف. المفارقة هنا هي
هطول المطر من الرمل، أو انبثاق الخصب والحياة من الجدب والموت، وواضح أن
الشاعر يرتكز هنا على جدلية الحياة والموت وتداخلهما، أما الرمل فهو مضرّج
باللون القرمزي باعتباره رمزاً للثورة والإشعاع.
تتكون بنية القصيدة العامة من عشرة مقاطع. الانتفاضة هي الرابط
الموضوعي لهذه المقاطع، أو الخيط الدقيق الذي يمنح بنيتها التماسك الفكري
والفني.
لم يخاطب الشاعر الانتفاضة بشكل مباشر، بل خاطبها بصيغة الأنثى
الحبيبة"أنتِ"، إذن نقرأ الانتفاضة- المرأة، الانتفاضة- الحبيبة، وقد أسبغ
استخدام رمز"المرأة" صفة الديمومة والخصب على الانتفاضة.
الانتفاضة خصبة ومتجددة، وهي في حالة عطاء وولادة دائمة كما الغيم،
وهي لا تنبض فينا في حالات اليقظة والصحو والواقع، بل هي في أعمق أعماق
ذاكرتنا، ووجداننا، وهي تراودنا حتى في أحلامنا، وحينما تهطل كالمطر على
رؤوس الأعداء الصهاينة فإن فراشات أحلامنا تطير، بل تتحول عسلاً ورصاص، هذا
ما يكشفه الشاعر في مقطعه الشعري الأول، وهو أيضاً يجمع هنا بين النقيضين:
العسل والرصاص، أي أن الانتفاضة مصدر مزدوج للعسل والرصاص، العسل للمنتفضين
وبناة الحياة، والرصاص"الموت" للغزاة وأعداء الحياة، لنقرأ له هذا المقطع
الدال:
((غيمٌ من الحجارةِ
ينسلُ من أحلامنا
وفراشات صدركِ
تطيرُ عسلاً ورصاص)).
في المقطع الثاني يخاطب الشاعر"العصافير" باعتبارها رمزاً للحلم
والشفافية والحرية، ويدعوها لكي تمارس فعاليتها في نثر البهجة والفرح
والحياة، كما يدعو الطرق- في حركة تدل على جذريتها الثورية- إلى أن تنتفض
على ذاتها و"تخلع أرصفتها" تمهيداً لانطلاق النشيد العام، نشيد المنتفضين:
((ودع العصافير/ تنثر براعمها/ والطرق تخلع أرصفتها/ ليبدأ النشيد/)).
في المقطع الثالث نقرأ حالة المزاوجة بين النقيضين: الهواء والنار،
اللطف والحياة، والثورة والتأجج واللهيب، كما نلمس الطاقة التحولية في النص
حيث تتحول جثث الأحياء إلى قرنفل وهدايا: ((هذا الهواء يراقص النار/ وجثث
الأحياء/ تتساقط قرنفلاً وهدايا/)).
كل شيء من أجل الانتفاضة، ومن أجل ديمومتها تذوب أرواحنا، أما الحجر
هنا فهو يراقص: "خفافيش الضوء"، الحجر هذا اللاعب الماهر الذي يطارد
الخفافيش، يلجأ الشاعر هنا مرّة أخرى إلى أسلوب المفارقة- الدهشة فالمعنى
المتوقع هو أن يضرب الحجر خفافيش الليل، أما المعنى المجازي وغير المتوقع
فإن فعل الضرب يقع على خفافيش الضوء، وهنا أراد الشاعر العلانية والوضوح من
استخدامه لمفردة"الضوء" أي أن الصدام يقع في وضح النهار وأمام الملأ، هذا
ما يكشف عنه المقطع الرابع:
((لعينيها تذوب أصابع الشفتين
حجر يراقص خفافيش الضوء
في بهاء اللوحة الأخيرة))
ثم تتنوع الدلالة، وتغدو الانتفاضة في المقطع الخامس مصدراً لحالة
البهجة والفرح التي يعبر عنها العازفون:
((خرج العازفون/ من مرمر صدرها/ لغواية الرغبة الجديدة)). أما في
المقطع السادس فيتكئ الشاعر على فكرة الأحياء- الموتى في بنائه، وهي محاولة
لصدم العرب الجامدين أو المتقاعسين الذين لم يتحركوا أو يهّبوا لنجدة
المنتفضين، إلا أننا يمكن أن نقرأ هذه الفكرة قراءة مغايرة ونقيضة، لأن
النص هنا يفسح المجال للتأويل، كأن نقول بأنه أراد من جملتهِ الشعرية هذه:
"نمضي لقبور أحيائنا" القول بأن ذهابنا لزيارة قبور الشهداء من"الأحياء" في
ضمائرنا ووجداننا: ((نمضي لقبور أحيائنا/ دماء نارنا/ تملأ الشوارع/ فرحاً
وأهازيج)).
ثم ينتقل الشاعر في المقطعين السابع والثامن من العام إلى
الخاص((عصافير روحي/ معلقة على مشجب الصدر/ ... المقطع السابع)) و"أغلق
نوافذ جسدك.... المقطع الثامن"، إلاّ أنه لا يلبث أن يزاوج بين الخاص
والعام في المقطع الثامن:
((أغلق نوافذ جسدك
بأزهار أحلامنا
وأنتظر الجرحى
والعائدين من حصاد الرؤوس))
أما في المقطع التاسع فيؤكد الشاعر على فكرة: "التناسل" تعبيراً عن
تجدد الانتفاضة الدائم: ((عذراء وأطفالك/ يتناسلون من الجدران)).
وأخيراً يفتح لنا الشاعر كوة للأمل والخلاص وانتصار الحياة وتفتحها
من جديد:
((الرمل رايتنا وحجارتنا
تفاجئنا الأشجار
ونوافير الخضرة
نودع صباح قهوتنا- ونبدأ التفتح من جديد))
ما يمكننا القول هنا هو أن القصيدة لا تتنامى أو تتطور بشكل عضوي
قائم على الرابطة المنطقية، فكل مقطع له استقلالية"نسبية"، وليس هناك علاقة
مباشرة بين اللاحق والسابق، إننا إزاء القصيدة- الحالة، أو الحالات-
المتناثرة والمتشظية والمستقلة"نسبياً"، إلاّ أن ما يوحدها في نهاية المطاف
هو تمجيد الانتفاضة، وهو الخيط الرابط بين مقاطعها كما أسلفنا القول.
كما يمكن القول بأن الشاعر أحمد مشوّل يتكئ على الصورة في بناء
معماره الشعري، أي أنها الأداة الفنية الأساسية التي يستند إليها في بناء
قصيدته، ويسعفه في ذلك طاقة تخييلية منتجة ومدهشة.
وفي قصيدته هذه: "أمطار الرمل القرمزي" نقرأ العديد من الصور
الإشراقية المدهشة والمبتكرة والتي تختزن داخلها طاقة إيحائية عالية، ومن
هذه الصور: ((غيم من الحجارةِ/ ينسلُ من أحلامنا)) وهي صورة مركبة يغلب
عليها الطابع الحسي، ما يُعطي لهذهِ الصورة حركيتها المدهشة، هو
الفعل"ينسلُ"، فالانسلال تعبير عن حركة رشيقة هادئة وبطيئة عادة، تصوروا أن
غيماً من الحجارة وهو في حالة انسلال، ومِن ماذا؟. مِن أحلامنا وليس من
ظاهرة واقعية مباشرة!!. إنها صورة موحية ومشرقة تؤكد بأن الانتفاضة أصبحت
مرتبطة حتى في أحلامنا!! وهذا ما يبعث على الدهشة. لنقرأ له هذه الصورة
أيضاً: ((هذا الهواء يراقص النار/ وجثث الأحياء/ تتساقط قرنفلاً وهدايا/))
فهي صورة مركبة ذات طابع حسي: "فالنار والجثث والقرنفل والهدايا ظواهر
حسية". مراقصة الهواء للنار يعطي لهذه الصورة حركية مدهشة، إضافة إلى طاقة
إيحائية تنبثق من جمع النقيضين، الهواء والنار. كما أنها صورة مباغتة تفاجئ
مخيلتنا وذاكرتنا بانزياحها الدلالي، فكيف يمكن أن يتساقط القرنفل أو
الهدايا من الجثة؟. هنا بالضبط تباغتنا الأشياء غير المتوقعة، ومن هنا
أيضاً تنبثق الدهشة التي تقودنا إلى فُسحة جديدة من الابتكار والتجديد،
فسحة لم نتلمسها سابقاً، أو ليس الشعر في إحدى أهم تجلياته ووظائفه كشفاً
للمجهول، وارتياداً للعوالم التي نعرفها سابقاً؟.
لنقرأ له هذه الصورة المدهشة أيضاً: ((لعينيها تذوب أصابع
الشفتين)). فهي صورة مركبة من ثلاث ظواهر حسية: "العين، الأصابع، الشفتين".
ما يُبهِر هنا هو غرائبية الصورة. فنحن لا نتوقع أن تتدلى الأصابع من
الشفتين، ولو قال الشاعر: "تذوب الشفتان" مثلاً، لما منحنا الدهشة، ولما
شَعَرْنا بنكهة المغايرة والتعجب.
الصورة تمتاز بغرائبيتها وسورياليتها وجدتها، إلاّ أن تذوقها قد
يختلف من متلقي إلى آخر. وأنا شخصياً لم أرتح كثيراً من الناحية الذوقية
والنفسية والجمالية لهذه الصورة النافرة: أن يكون"للشفتين أصابع"!!،
فبالرغم من أنها تمنحنا الدهشة والتعجب إلاّ أن منظر الأصابع وهي تنبثق أو
تلتصق بالشفتين -حسب تذوقي الخاص- يبعث على عدم الراحة، ولو قال الشاعر
مثلاً: تذوبُ"أغصان الشفتين" أو"وردةُ الشفتين" لأعطى لهذه الصورة بعداً
جمالياً نضراً، مستساغاً، شفافاً. إذن ليس كلُ غرائبي، أو ليس كلُّ ما
يدهشُ يمكن أن يكون جميلاً، وللموضوعية أقول هنا: إن هذا تذوقي الخاص ولا
ينبغي لي أن أُعمِمُهُ، فربما يأتي متذوق آخر ويرى عكس ما رأيته، بل ربما
تخلب هذه الصورة لبَّهُ وينحاز إلى غرائبيتها المدهشة. المسألة ذوقية ولا
تتعلق بقوانين ومعايير مُعَدة سلفاً.
وبالرغم من أن الشاعر اعتمد كما أسلفنا -غالباً- على الصورة كأداة
جوهرية وأساسية في بناء النص، إلاّ أنه في أحيان-قليلة- وقع في مطب
الشعاراتية والتقريرية والمباشرة، وخاصة في المقطع العاشر حيث نرى أنه أضعف
المقاطع من الناحية الفنية، كقوله: "الرمل رايتنا وحجارتنا" و"تبدأ التفتح
مِن جديد".
رموز الشاعر في هذه القصيدة تمتاز بشفافيتها، وبساطتها، ووضوحها:
"الفراشة، الهواء، النار، العصافير، العازفون، المرمر، البلابل...... الخ".
أما لغتُه فهي لغة إشراقية، فنية موحية، تعتمد على شدة التكثيف
والتركيز، وعلى الإيماء والترميز والإيحاء-غالباً-، كما أنها لغة واضحة
وبسيطة وعذبة تبتعد عن التكلف والتعقيد، ويتجلى إبداع الشاعر في كيفية بناء
العلاقات المدهشة والجديدة بين مفرداتها.
الفصل الثاني
ظاهرة الشعراء الشباب / نماذج مختارة:
انعكس هذا الحدث التاريخي النضالي الكبير -الانتفاضة- أيضاً في
إبداعات العديد من الشعراء الشباب، وإن من يقرأ بتمعن وتأمل وتجرد بعض هذه
الإبداعات الشعرية الشابة، يشعر بفرح غامر لمدى النضج الفني الذي بلغتْهُ
القصيدة عند عدد منهم، وسنذكر على سبيل المثال: محمد سلاّم، محمود سرساوي،
فجر يعقوب، عبد الله عيسى....الخ، وهم من الشعراء الشباب الفلسطينيين.
إن هذه الظاهرة تُبشر بولادة أسماء شعرية سيكون لها شأنها وحضورها
في المستقبل على المستويين الفلسطيني والعربي، وذلك إن واصلت هذه الأسماء
-أو بعضها- مسيرتها الشعرية، وطورت تجربتها وأدواتها الفنية، وعَمقت من
رؤيتها الفلسفية، والفكرية للحياة بدأب ومثابرة وَجِد حقيقي.
*محمد سلاّم:
الشاعر الفلسطيني الشاب محمد سلاّم بدأ كتابة الشعر في أوائل
الثمانينات، له ديوان شعر: "في الموت متسع".
يقول في قصيدتهِ: "الحجارة".
"صرخة يحتلها ظل تفاحة
وزعت ذاكرتي على قبضة النار
قال: أرى وساماً
وإكليلَ ضحكٍ فوق قبري
قال: يخفق بين أوردتي الزعتر البري
أو يستحيل وشم النزيف منارة".
منذ البدء تبدو المقدرة الفنية المدهشة لهذا الشاعر، فلا زعيق
ولاصراخ مجاني، بل قصيدة شعرٍ تحتضن الثورة وفلسطين من الداخل، حيث القصيدة
تتنامى تنامياً درامياً واضحاً من خلال استخدام العديد من الأساليب
الشعرية: المونولوج، الاستذكار، الاتكاء على رسم الصورة الشعرية المبتكرة
لإضاءة الحدث، إنها باختصار قصيدة رؤيوية ذات طابع درامي، وتتجلى لنا
تركيبيتها بتعدد أصواتها: الضمير الغائب: "قال: أرى وساماً"، ضمير المخاطب:
"كيف عضتك يا أمي الشظية"، وضمير الجماعة الغائب: "صلينا لأجل فزاعات حزنك/
وقت غاب الموت عن أجفاننا"، فلنقرأ للشاعر هذه الأبيات:
"كيف عضتك يا أمي الشظية
كيف خبأكِ الحنين
بين أجنحة التمني
واعترتكِ ملامحُ القدسِ
أسماء معارة
كيف لا يتشيطن الأطفال في باحةِ حزنكِ، حين دقت ساعة الأموت في قبر
الدعارة".
انسيابية شعرية واضحة، وتدفق شعري جميل يتنامى عبر إثارة العديد من
الأسئلة الحارة التي تتمحور حول الأم الفلسطينية المقاتلة التي ترمي نفسها
بين أتون الشظايا القاتلة وأتون الحنين المتوثب الذي يحرق جوانح الروح رغبة
في معانقة تراب وأرض فلسطين. معانقة القدس التي ألبسها الصهاينة عنوة اسماً
مستعاراً.
إنها قصيدة تبعث على الكشف والتأمل، وكذلك على التحريض ولكن الضمني
وليس المكشوف، أي من خلال الصورة الشعرية والسياق الشعري حيث تتفجر الطاقة
الإيحائية في الشعر من خلال مخيلة مبدعة، ومفردة شعرية، يجيد الشاعر في
أحيان كثيرة استخدامها-، انظروا إلى كلمة: "يتشيطن" أما يحس المرء بنكهة
وطراوة عذبة لهذه الكلمة، هنا تكمن أيضاًفرادة الشاعر وخصوصيته في انتقاء
مفرداته الشعرية وقاموسه الشعري.
وبالرغم من هذا العلو الفني -عموماً- فإن الشاعر يجنح أحياناً إلى "الشكلانية"،
وبالمناسبة فإن هذا العيب الفني والفكري هو واحد من أهم النواقص لدى شاعرنا
محمد سلاّم، لو استّطاع التخلص منه لحلق بعيداً في قصائده، وقدم لنا الأنضج
والأبهى، وبدهي أن ذلك لن يتحقق له بدون تعميق رؤيته الفلسفية وتطوير
مداركهِ النقدية، وبالإضافة إلى الاستناد إلى صدق التجربة الفنية باعتبارها
عنصراً هاماً وأساسياً لنجاح أي عمل فني.
إن "الشكلانية" هي نقيض الصدق الفني وذلك من الناحيتين الفكرية
والفنية معاً، لنقرأ مثلاً قوله: "استأجرتُ سرباً من حريق النوارسِ/ شلو
أقنعة احتراقك"، تُرى لماذا أتت هنا مفردة: "شلو"؟، وماهو دورها هنا
وعلاقتها ببقية الكلمات في الجملة الشعرية المذكورة؟!
من الواضح أنها حُشرت حشراً في هذه الجملة مما أضعف بنيتها الفنية
وأوقعها في مطب "الشكلانية" علماً أن الجملة الشعرية التي سبقتها هي غاية
في الروعة والجمال الفني المدهش.
محمد سلاّم استخدم في قصيدته مفردة:"الحجارة" غير مرة، لكنه وظفها
"عموماً" بشكل فني ماهر وداخل السياق الشعري:
"أدركتُ صبحاً يعبأ في لفافة تبغنا
نبض عنيف في ضفائر اليُتم
مبخرة الجسارة
هذه معادلة الحجارة".
وقوله: "تغير الحجارة كأنثى، أرجوحتي خشخشةُ الدم في مشهد مستحيل،
ألا أيها الجوع/ يا أبهاء مافقد النخيل/ دمنا حجارة"، وقوله: "يخرجك من
فراشك البحر أعلى من دمي/ أنفي التقزز في اشتهائكِ/ خاتم الخطبة يجأر/ هل
تزوجت الحجارة".
وقوله: "قالت: البحر نرجسي المبعثر بين كرم الأصدقاء/ أريد منبتاً
لشهوة النقش/ سماءٌ مسقوفة بالحجارة". إن نجاح الشاعر هنا في استخدام مفردة
"الحجارة" هو في تنويعه عليها، أي في استخداماته الفنية والفكرية المتنوعة
لها، لا كما أرهقنا العديد من الشعراء العرب بسيول حجارتهم التي شجت
أرواحنا وأبعدتنا عن سحر الشعر وعوالمه الخالدة.
*إياد عاطف حياتلة:
الشاعر الفلسطيني الشاب إياد عاطف حياتلة مِن الأسماء الشابة
الجديدة، لم تتح لي الفرصة سابقاً الوقوف جيداً على تجربتهِ الشعرية، غير
أن قراءة مجموعة من قصائده التي كتبها عن الانتفاضة تُنبئ بميلاد موهبة
شعرية لو أتيحت لها الرعاية، ولو دأب الشاعر على صقلها وتنميتها وتطويرها
لأعطت شعراً جيداً وجميلاً، وهذا متروك للمستقبل، ولمدى إخلاص الشاعر لقضية
الشعر.
بين أيدينا ثلاث قصائد كتبها الشاعر عن الانتفاضة: "أحجار كريمة،
وردة للرام.... قبلة للعروس، وابتهالات إلى قرية بيتا".
وفي قصيدته: "أحجار كريمة"(14)، وخاصة في مطلعها تبدو هذه الشاعرية
واضحة:
" أكليلُ غار، ياسمين، وزنبقة
وردٌ على الشرفاتِ يبكي/ المآذن تستجيرُ بربها
طيرٌ يغرد صوته مبحوح
وحمامةٌ ترنو إلى كل الجهاتِ ولا أحد/
فتعود تدفن رأسها وتنوح
ليلٌ خرافيٌ يخيم، المداخل مغلقة
ودمٌ على الجدرانِ يرسم صورتي
الموتُ عرس/ القيامة قائمة
البحر أسود، والمخيم يونس في بطن حوت
وعروبةٌ دفنتْ مروءتها ومافي حلقها
إلاّ البيانات التي إما تندد أو تندد والسكوت".
روح شاعرية منسابة دونما تكلف ومشقة، لغة شاعرية تتكئ على رموز
شفافة فيساعدها ذلك على رسم صور شعرية جميلة: "ورد، المآذن، طير،
حمامة......الخ.
من الرموز"، غير أن هذه الشاعرية سرعان مايطقطق الحص في خلجانها
وأنهارها، وذلك حينما يضع الشاعر بنفسهِ قيوداً ثم يكبل روحه بها، وأعني
قيد القافية والموسيقى الخارجية، هنا يجري لجم المخيلة، فيخبو الوهج
الشعري، ويتعكر الانسياب الشعري، لنرى ماذا فعل قيد القافية: "حجرٌ لمن خبز
المخيم يسرقون/ ولمن على دمنا همو يتفرجون، وقوله: حجرٌ لهم شبحاً سيجعل
بالهم أبداً قلق/ ناراً ستحرقهم وأنظمة الورق".
تُرى ألا يمكن التمييز بين هذه الجمل الشعرية: "وردٌ على الشرفات
يبكي، ودم على الجدران يرسم صورتي"، وقوله: " حجرٌ لمن خبز المخيم
يسرقون"؟!
في الأولى يتضح لنا جيداً مدى العلو الفني الذي بَلَغَهُ الشاعر من
خلال ابتكاره للصور الشعرية المتألقة، وفي الثانية سقوط واضح في الكلام
العادي الذي يخلو من بريق الشعر ولغته المدهشة.
ويستمر الشاعر في هبوطه الفني في المقاطع التالية، حيث تسود
التقريرية والمباشرة: " يا أيها الجبناء لا تتفاءلوا/ هذا الزمان طويل/ نحن
وراءكم/ لن نستريح...". هذا الكلام لا تربطُه أية رابطة بالشعر، وهو خطاب
سياسي ليس إلاّ...
وفجأة يرتقي بنا الشاعر من خلال مقطع شعري آخر إلى المدهش والسحري
في الفن: "حجرٌ يُهيئ شمعتين إلى الصباح/ تهتزُ من خوف له العتمات/ ترتعد
الرياح/ ويجيء في وجل إليه الله، ويقبل الكف التي ألقت به قمراً/ لخاتمة
الجراح". بقي أن لا ننسى أن استخدام الشاعر للقافية لم يكن مُضراً من
الناحية الفنية بشكل مطلق، بل أحياناً ساعده ذلك على الإضاءة الشعرية،
كقوله: "لدماه رائحة البنفسج والحبق/ للنور في عينيه معجزة الكواكب
والشفق".
من هنا، نحن لسنا ضد استخدام القافية -بشكل مطلق- شريطة أن يأتي
استخدامها ضمن السياق الشعري ولا يعكر انسيابية الشعر ويحد من جموح
المخيلة، ومن انبساط الفكرة الشعرية.
أما على الصعيد الفكري، فإن قصيدة إياد: "أحجار كريمة"، جاءت
مشحونة بالتحريض وإدانة صمت: "الأنظمة الورقية"، وتعرية زيفها، هذه الأنظمة
التي اكتفت بالتطبيل والتزمير في إذاعاتها، ولجأت إلى تدبيج المقالات ورصف
العبارات الثورية والبيانات الصارخة التي تندد بالعدو... ولكن كل ذلك سرعان
مايتمزق على أرضية الفعل والواقع، حيث لا نرى سوى فقاقيع إعلامية تتفجر في
الهواء: "وعروبة دفنت مروءتها، ومافي حلقها إلاّ البيانات التي إما تندد أو
تندد.... والسكوت".
*محمود سرساوي:
الشاعر الفلسطيني الشاب محمود سرساوي بدأ كتابة الشعر في مطلع
الثمانينات، له ديوان شعر مطبوع -1982- بعنوان: "تنهدات الجفاف"، أزعم
بأنني تابعتُ هذا الشاعر وشعرهُ في تحولاتهِ وتطوراتهِ، وإذا كان في البدء
موزعاً ومشتتاً بين عدة أصوات شعرية، وإذا كان في السابق قد حاول أن يستظل
بالخيمة "الدرويشية" والخيمة "السيّابية"، فإنّه الآن - ومنذ سبع سنوات
تقريباً- بدأ يُكوّن أناه الشعرية وصوته الشعري المتميز، وهو مازال في
بداية الطريق أي في بداية التبلور المتميز.
وأنتَ تقرأ قصيدته الجديدة: "قمر الوقت المكسور" منذ بدايتها وحتى
نهايتها تشعر بانبهار الشعر وطقسه السحري الحالم، يأخذك الشاعر صوب سماوات
الحلم القصية، ولكنه مايلبث أن يصدمك وينزل بك إلى الأرض لكي تغتسل بعبقها
ونكهتها وخوفها ومرارتها أيضاً: "حُلم- صدمة، صدمة- حلم، حلم- واقع، واقع-
حُلم، هكذا يجري التناوب في القصيدة وأنتَ المأخوذ بدهشتها وطعم نضارتها
الأولى:
"سأبحث عمن يحملُ عسلَ الأرض ورائي
يرمي اللحظة سهماً آخر/
يقطفها كالخوخ الأبيض بين الدمع
يسيلُ صداهُ على النافذةِ/ يجنُ
يشربُ سحرَ الظل المائل،
رغبة أقدامٍ جائعةٍ
جرح البوح
تخاذل قمري قليلاً وأصحو
مُدَّ الشهقة والسيف المذعورَ.... فنحن
نحن خرجنا من المرآة الشكِّ.... خرجنا
لم نتعب من تفتيش الحنطة.....لم
نطحنها بدهشة صورتنا العائدة".
هو ذا الشعر الحقيقي كلما حاولتَ الإمساك به تزحلق بين أناملك
كالماء وطار صوب سماواته العليا، لكنه يترك بين جوانح روحكَ نكهته الباردة
المنعشة أحياناً، أو لسعته النارية الدافئة أحياناً أخرى، تتوهم للحظة أنك
أمسكت برقبتهِ ولن يستطيع الفكاك منك، لكنه سرعان مايتملص منك، بخفة
القِطة، ووداعة الضوء، ويتركك مدهوشاً، مبهوراً، هائماً، فلنقرأ أيضاً
لسرساوي: "كان الجرس على الأعناق، يبدأ أغنية خائفة، ويتوب البحر...../
ظلان نحيفان، وشجر يكتب سورة عاصفة/ تتعرى فوق النهر الشارد/ تمتمنا.... ما
أقسى الأرض/ مشطت الأوحال التيه، جذور الروح.... وقال الريح سنرحل عنا/
كسّرنا الأبوابَ الذئبةَ....".
مخيلة سماوية جامحة ورحبة تنتج صوراً غاية في الدهشة والابتكار، لغة
شعرية بسيطة- ومركبة في آن واحد معاً، إنها لغة تعتمد على البوح الداخلي،
على الرمز والإيماء والتلميح، فلا صراخ ولا صخب، ولا شيء يعلو على صوت
الشعر الذي هو من أجل الثورة والإنسان، ومن أجل فلسطين.
تزاوج مدهش بين المجرد والمحسوس، انظروا ماذا قال الشاعر: "يشربُ
سحرَ الظل المائل"، الظل يخضع لملكة الحواس، الحاسة البصرية، أما السحر فهو
مجرد، هذا التزاوج، والفعل "يشرب": أعطى رونقاً وبهاءً للشعر، وحركية هائلة
للصورة الشعرية: "نحن خرجنا من المرأةِ الشكِ، خرجنا..... كسرنا الأبوابَ
الذئبةَ".
نعم، لقد خرج الفلسطيني الثائر، والمناضل، من الشك إلى اليقين، إلى
يقين الثورة وانتفاضتها العارمة، كسَّر أبواب الهزيمة وحطمها، وحطم معها كل
ماهو زائف ومراوغ، إنه توق لمعانقة الثورة والحلم عبر أسلوب شعري يبتعد عن
لغة الخطاب السياسي، داخلاً في لغة الخطاب الشعري، معتمداً على تفجير
الطاقة الإيحائية المذابة داخل النسيج العضوي في القصيدة، أي من خلال
مفرداتها وجملها ومقاطعها، وبالتالي بنيتها العامة.
قصيدة السرساوي عموماً، هي قصيدة رؤيوية تركيبية يغلب عليها الطابع
الملحمي الدرامي، تتداخل فيها الأصوات وتتنوع، وتتزاوج فيها الصور البسيطة
بالمركبة، فثمة صوت الشاعر أي ضمير المتكلم -والشاعر هنا هو مادة احتمالية،
فيمكن أن يكون المناضل، والحبيب، والفادي... الخ.. : "سأبحث عمن يحمل عسل
الأرض.... ستقرأ عني آية عطفي"، وثمة ضمير الجماعة الغائب:"لم نتعب...../
كسرنا الأبواب......كيف سنجمع بين البحر...... وبين البحر"، وثمة صوت
الراوي الذي يتدخل أحياناً لإضاءة الحدث: "كان الأفق بليداً، كان وصوتي
بعيد"، كما نلمس بعض عناصر القصة، والمسرح: السرد الوصفي، والحوار المسرحي.
ثمة أيضاً صوت الحبيبة.
أحياناً يتنامى الفعل الدرامي في القصيدة عبر الحوار بين صوتين
فيها: صوت الحبيب، وصوت الحبيبة:
" سأبحث عمن ينقل عنكِ هديرَ البحر
هذا الصيف المسكون... المجنون
يعربد داخل تنورتك، يفيض
وقوله: كنتَ تريد اللمسةَ أعمق من أسئلتي
كنتَ تحدد بدءَ النار وطعم اللوز
وكنتُ أراكْ
يهدكَ صيفي على خطوتكَ
يمسح عنكَ غبارَ الجمر
غرورَ الغيم".
وأحياناً يتنامى الفعل الدرامي عبر الحوار الداخلي "المونولوج" أو
العلاقة الجدلية بين الشاعر وبين أبطال شعبه المنتفضين في الأرض المحتلة،
أي بين الـ "أنا" والـ"هُم":
"ما أجملكم بين دموعي...... بين ضلوعي
لن أسرق من كرمتكم فرحي
سأكتب إني رأيتُ البحر على خطوتكم
ينثر آسه فوق أساي لكي تقتربوا......
هل تقتربوا؟!
أثناء قراءتي لهذه القصيدة لم أعثر على كلمة "الحجر" ولو لمرة
واحدة، لقد قلت سابقاً أنني لستُ ضد استخدام هذه المفردة، ولكن كيف
نستخدمها ونوظفها بإبداع فني، تلك هي المسألة-، علماً أن كل شيء في قصيدة
السرساوي يشير إلى الإنسان- إلى الانتفاضة، إلى فلسطين، وإذا لم يذكر
الشاعر هذه المفردة- الرمز "الحجر" فإنهُ ذكر حاملها: "الولد الفلسطيني"
الثائر الذي استخدمها ضد الصهاينة الغزاة:
"أهذا الولدُ الحاملُ روحي في نهدتك
أهذا الظمأ اللاهث جمراً
في رعشتك....
ما أجملنا ..... ماأحلاك
هذي الفضة ذائبة في ذنب غروبك
هذا الطير كلامُ الليل على غفوتك
هذا القمر سينشر دَمَهُ
يأتي.... يأتي... يأتي
الجميل والرائع هنا، هو هذا التزاوج بين الصبي الفلسطيني المقاتل
الذي يحمل روح الشاعر، ولكنه يحملها في تنهيدة الحبيبة، هنا تداخل الخاص
والعام الذي يتجسد أيضاً بقوله: "ما أجملنا.... ماأحلاك".
الشاعر محمود سرساوي يدافع عن ثورته وعن فلسطين، لكن دون أن يتكئ
عليها لبناء شاعرية مزيفة، أو ليس القمر هو الرمز الشفاف الذي يدل على
الانتفاضة؟! أو لم يتنبأ الشاعر بانتصار الانتفاضة من خلال هذا القمر الذي
سيأتي مخضباً وناشراً دمه في ساحات النضال؟!
ماذا يقول الشعراء الذين قتلوا الفن باسم الثورة!!؟ سأترك للقارئ
اللبيب، وللناقد الحصيف حرية الإجابة، وحرية التلذذ بهذه القصيدة، وجوها
البهي، ولكن من حقي أن أقول: "فلنحتكم للنص أولاً، لقانونيتهِ وبنيتهِ
الداخلية، وليس للأحكام الجاهزة المفروضة على النص من الخارج، والتي غالباً
ماتتحكم بها الأمزجة والأهواء والرغبات والعلاقات الشخصية، وقد أضر ذلك
كثيراً بحركة وسوّية النقد العربي المعاصر في العقود الأخيرة.
ختاماً، يمكنني القول بأن محمود سرساوي هو طاقة شعرية، وموهبة خلاقة
ستعطي الكثير للشعر الفلسطيني والعربي عموماً، هذا إذا ما واصل الشاعر دأبه
وإخلاصه لقضية الشعر، واعتراضي الوحيد على قصيدته المذكورة، هو على
عنوانها: " قمر الوقت المكسور"، حيث أن السياق الشعري، ونهاية القصيدة"
وقفلتها على وجه التحديد فتحت أفقاً لانتصار الانتفاضة: "يأتي.... يأتي..."
وهو ما يتناقض مع "كسر القمر" أي يتناقض مع عنوانها.
استنتاجات عامة
- لقد قلنا في بدء دراستنا هذه بأننا لا ندعي الإحاطة والشمول، وإن
بعض الاستنتاجات والآراء والأحكام التي توصلنا لها، هي أحكام نسبية وليست
مطلقة، وهي لا تدعي احتكارها للحقيقة، أو للصواب دائماً، بل هي ليست إلاّ
وجهة نظر نقدية حاولت مقاربة النصوص الشعرية المذكورة في المستويين الفكري
والفني، ولذلك فإن الأبواب ستبقى مشرعة لكل الذين يحاولون أن يدلوا بدلوهم
في هذا الموضوع.
الاستنتاج الأول هو جواب عن سؤال سبق وأن طرحناه في بدء دراستنا،
وهو :"إلى أي مدى استطاع هذا الشعر -حتى الآن- الارتقاء إلى مستوى هذا
الحدث التاريخي الهام؟! وهل أن المستوى الإبداعي والفني لهذه الأعمال
الشعرية استطاعت أن توازيه في ضخامتهِ وحجم تاثيره؟!".
نستطيع أن نقول باطمئنان أن الغالبية المطلقة من هذه النصوص الشعرية
لم ترتفع إلى مستوى هذا الحدث، وبخاصة من الناحية الفنية.
إن حدثاً تاريخياً كهذا يُفترض أن يكون باعثاً ومُحفزاً ودافعاً
لولادة أعمال إبداعية هامة توازيه في ضخامتهِ، وتُشكل المعادل الموضوعي
الفني له.
إلاّ أن الطّامة الكبرى لا تتعلق بعدم ارتقاء غالبية هذه النصوص
لمستوى الحدث المذكور، بل إنه جرى بحجة الانحياز للثورة والتهليل للانتفاضة
إضعاف الروح الفني، والذائقة الفنية، وبحجة هذا الشعار طفت العديد من
الأسماء التي لا تربطها بالشعر رابطة حقيقية ومتينة على السطح، والأنكى من
ذلك أن العديد من الأسماء الشعرية العربية المعروفة والتي نكن لها احتراماً
عميقاً، ونعترف بدورها الهام في تطوير الشعر العربي الحديث، ساهمت في عملية
التردي الشعري، حيث تحولت -الحجارة هذا الرمز الكفاحي- إلى مشجب علقَّ عليه
غالبية هؤلاء الشعراء ترديهم الفني، فيا أيتها الحجارة ساعدكِ الله على
كثرة الهموم والمصائب التي ابتُليتِ بها!!
تُرى ما الذي سيقوله النقد، وتاريخ الأدب مستقبلاً في هذا المقطع
الشعري لنزار قباني مثلاً: "يخلع أبوابَ التاريخ/ وينهي عصر الحشاشين/
ويُقفل سوق القوادين/ ويقطع أيدي المرتزقين"؟!
إن نقدنا لما كتبه الشاعر الكبير نزار قباني عن الانتفاضة -ونركز
على الجانب الفني- لا ينفي حقيقة أن شاعرنا نزار هو واحد من ألمع الشعراء
العرب الذين عرفتهم الساحة الشعرية طيلة الخمسين سنة الماضية. إلاّ أن ذلك
لا يبرر له الوقوع في عملية الاستسهال الكتابي، بل يرفع من درجة مسؤوليته
لكونهِ أحد أعلام هذه الأمة!!
ولم يتوقف التردي على مستوى كتابة النص الشعري، بل تعداه ليشمل
"التنظير الأدبي"، حيث دعا بعض الأدباء والشعراء إلى ضرورة الكتابة عن
الانتفاضة حتى ولو كان هذا الشعر رديئاً من الناحية الفنية!!
المهم حسب منطق هؤلاء التضامن مع الانتفاضة متعكزين على مبررات
وذرائع واهية لا يجمعها أي جامع مع جوهر العملية الإبداعية الفنية ولا مع
الفكر العميق المُتَبصر.
لقد تصدى بعض الكتّابْ لمثل هذه الطروحات الخاطئة، ومنهم الشاعر
محمد لافي في مقالته التي نشرها في مجلة فتح -الانتفاضة حيث حفلت هذه
المقالة بالعديد من الملاحظات والاستنتاجات النقدية الصحيحة التي عرّت جوهر
الطروحات السابقة، يقول لا في: "وهذا مايشطب المبررات التي تنطحت للدفاع عن
هذا السيل من النظم المرصوف بالحجارة تحت يافطة التضامن مع الانتفاضة خاصة،
والالتزام عامة، حتى وصل الأمر ببعضهم وفي معرض تبريرهِ لقصيدتهِ الرديئة
ولشعرهِ الرديء عموماً والمتلطي تحت جدار الإلتزام، إلى دعوة الشعراء
لكتابة الشعر السيء(15).
كما حفلت مقالة لافي بالعديد من الملاحظات النقدية الجريئة، ومنها
دور بعض المؤسسات في تفريخ "الشعراء" ومن ثم التطبيل والتزمير لهم حتى يتم
إيصالهم إلى مستوى "النجومية الزائفة" التي سرعان مايخبو بريقها ووهجها
أمام أي وعي نقدي عميق ومتقدم: "ومن هنا يمكن تفسير انطفاء أسماء كثيرة من
الأدباء والشعراء والفنانين الذين تألقت أسماؤهم لاعتبارات سياسية
وتنظيمية، أي لارتباطهم التنظيمي أو الحزبي لا من كونهم مبدعين حقيقيين،
ومن البدهي في مثل هكذا حالة أن تغادر هذه الأسماء سجل الفن بمغادرتها
حزبها أو تنظيمها..."(16).
إن هذا التردي والإسفاف على مستوى الشعر والنقد معاً، يستلزم ضرورة
الدعوة إلى تغيير الذوق السائد، وكذلك الثقافة السائدة، وإلى تأسيس وعي
نقدي جديد، وذائقة نقدية جديدة لدى الجماهير تستطيع فرز وغربلة النتاجات
والتمييز بين الغث والسمين فيها، ويقيناً إن توصلنا إلى تأسيس مثل هكذا وعي
وذائقة نقدية كفيل بإعادة تقييم بعض الأسماء النجومية اللامعة ووضعها في
حجمها الحقيقي في سياق العملية الإبداعية، كما أن ذلك كفيل بتجاوز العديد
من المسلّمات والبدهيات التي يعتبرها الذوق الجماهيري السائد وكأنها حقائق
مطلقة، ولعل ماكتبه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في هذا المجال
يُغني القارئ اللبيب: "حين نتحدث عن نكهة جماهيرية فنحن لا نعني الابتذال
الجماهيري، بل نعني حركة التفاعل بين القارئ والنص وهي نكهة في الأرض لا في
السماء، لكن أيضاً لا ينبغي تحويل "الذوق العام" إلى اصطلاح غامض مثل
الإلهام والموهبة حتى لا يتستر بهذا الذوق العام الشعر الرديء..."(17).
وبدهي هنا التأكيد على أن هذا الذوق الجماهيري السائد جاء نتيجة
لشيوع وسيادة الثقافة الرجعية البرجوازية الاستهلاكية في غالبية أقطار
الوطن العربي، وتراجع وانكفاء الثقافة القومية التقدمية والثقافة العلمية
الجادة والرصينة والمنتجة. مما يستلزم البحث في هذا الموضوع في مجال آخر.
وبالرغم من الإسفاف الشعري الذي تحدثنا عنه إلاّ أن هذا لا يدفعنا
إلى الإطلاق، حيث قرأنا بعض النتاجات الشعرية المتميزة والمعقولة فنياً،
والتي حاولت مقاربة هذا الحدث التاريخي الكبير "الانتفاضة" والتعبير عنه،
وقد ذكرنا في موضع آخر من هذه الدراسة بعض هذه النتاجات وأسماء مبدعيها من
الشعراء.
هذا بالإضافة إلى ضرورة الإشارة إلى أن بروز العديد من الأسماء
الشعرية الشابة: محمود سرساوي، محمد سلاّم، وعبد الله عيسى....الخ، هو
أيضاً دليل على حيوية الشعر العربي وغناه، وقدرته على تجاوز كافة العراقيل
والسلبيات التي تحول دون تطوره، مما يستلزم من نقادنا الجادين ومن الشعراء
العرب المتقدمين من ناحية التجربة والإبداع والخبرة، أن يأخذوا بيد هؤلاء
ويقدموا لهم العون اللازم لتطوير تجربتهم وموهبتهم الشعرية.
أما من ناحية الخصائص الفنية فإن غالبية النصوص الشعرية التي جرى
تناولها، أو قرأناها، قد تعكزت على التقريرية والمباشرة والصراخ مُبتعدةً
بذلك عن لغة الخطاب الشعري التي هي لغة الإيحاء والإيماء والرمز، وقديماً
قال البحتري: "والشعر لمحٌ تكفي إشارته"، كما كشفت العديد من هذه النصوص
الشعرية عن لغة شعرية مكرورة ومُستهلكة.
إن لغة الشعر هي لغة انبثاق وتفجر، لغة توليد وابتكار لا لغة
المومياء المحنطة، والقواميس الجامدة، باختصار إنها لغة الحياة بكل غناها
وتعقدها وتطورها.
وفي هذا المجال نود أن نختم كلامنا عن علاقة الشعر باللغة بمقولة
لباشلار: "إن الصورة الشعرية هي انبثاق من اللغة، فهي على الدوام تعلو
قليلاً على لغة التواصل العادية.
ولهذا، حين نعيش الأشعار التي نقرؤها فإننا نعيش تجربة الانبثاق
المنعشة، ولكن أفعال الانبثاق تتكرر، وبهذا يضع الشعر اللغة في حالة انبثاق
حيث تبدو الحياة مرئية عبر حيوية اللغة المنبثقة...."(18).
الهوامش
1- نُشرت هذه القصيدة "الغاضبون" في جريدة القبس الكويتية،
وألقاها الشاعرنزار قباني في معرض الكتاب الدولي المقام في القاهرة في
4/2/1988.
2- نُشرت هذه القصيدة : "دكتوراه شرف في كيمياء الحجر"،
لنزار قبّاني في جريدة القبس الكويتية بتاريخ 30/2/1988.
3- الشعر والتجربة /مكليش/ ص 53.
4- نُشرت هذه القصيدة: "إنه يحيى" للشاعر العراقي سعدي يوسف
في مجموعتهِ الشعرية: "محاولات" الصادرة عن دار الآداب- بيروت - الطبعة
الأولى- 1990- ص39.
5- نُشرت هذه القصيدة: "يتوهج كنعان" للشاعر الفلسطيني عز
الدين المناصرة في مجلة الحرية الفلسطينية- العدد 267-1988 في 26 حزيران.
6- نُشرت هذه القصيدة: "حجر....حجر" للشاعر العراقي كاظم
السماوي في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 13/2/1988.
7- نُشرت هذه القصيدة: "الحجر" للشاعر السوري ممدوح عدوان
في صحيفة الوطن الكويتية بتاريخ 21/2/1988.
8- نُشرت هذه القصيدة: "آية الحجر" للشاعر اللبناني حبيب
صادق في صحيفة النداء اللبنانية بتاريخ 7/2/1988.
9- نُشرت هذه القصيدة: مأساة النرجس وملهاة الفضة"، للشاعر
الفلسطيني محمود درويش في مجلة الكرمل العدد - 32-1989.
10- عبده وازن- صحيفة البيان الخليجية- صفحة منوعات
11ديسمبر 1989.
11- فاطمة المحسن- أنظر مقالتها: "رحلة في متاهة الأسطورة"-
مجلة الحرية- العدد 329- 1-7 تشرين الأول 1989. ص 46.
12- مجلة الكرمل - العدد 33- 1989، حوار مع محمود درويش-ص
167.
13- فاطمة المحسن- مجلة الحرية- العدد 329/ 1-7 تشرين
الأول- 1989، ص 46.
14- نُشرت هذه القصيدة للشاعر الفلسطيني الشاب إياد عاطف
حياتلة في مجلة الهدف الفلسطينية- العدد 912 بتاريخ 29-5-1988.
15- محمد لافي - مجلة فتح - الانتفاضة- العدد 175، تاريخ
31/12/1988، أنظر مقالته: "الانتفاضة، المثقفون والشعر"- ص 82.
16- محمد لافي - المصدر السابق- ص84.
17- عز الدين المناصرة- مجلة الحرية الفلسطينية- العدد 288،
27 تشرين الثاني 1988، أنظر دراسته "جنازة النص" الشعر العربي الحديث "جدل
الثمانينات" ص 45.
18- غاستون باشلار- جماليات المكان - ص 25.
==============================
*الأديب
: ناهض حسن "فائز العراقي" في سطور
ـ من مواليد بغداد ـ 1952.
ـ بكالوريوس من كلية الآداب ـ قسم اللغة العربية ـ جامعة بغداد ـ
1974.
ـ يعمل في الصحافة .
ـ يكتب في مجال الفكر السياسي وله العديد من المقالات والدراسات
السياسية المنشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، ومنها: جريدة "
الوطن" العراقية، وطريق الشعب " العراقية،"وصوت الرافدين" العراقية.
و"التحرير" العراقية. وجريدة " الأسبوع الأدبي" العربية السورية. وجريدة "
الحياة" العربية الصادر في لندن. ومجلة "الثقافة الجديدة" العراقية، ومجلة
" الفكر السياسي " الصادرة في سورية.
ـ صدر لـه في الشعر:
1ـ الينابيع ـ دمشق ـ 1984.
2ـ أناشيد الأبدية ـ دمشق 1986.
3 ـ كريفونة الغياب ـ دمشق ـ 1989.
4ـ مدارات ليزا ـ دمشق 1996.
5ـ بوح لبغداد ، نافذة للمطلق ـ دمشق ـ 1999.
ـ صدر لـه في النقد الأدبي:
ـ شعر الانتفاضة: في البعدين الفكري والفني، اتحاد الكتاب العرب ـ
دمشق ـ 1998.
ـ نشر دراساته ومقالاته النقدية في الصحف والمجلات العراقية
والعربية.
أضيفت في 10/04/2006/ خاص القصة السورية / عن اتحاد الكتاب العرب
|