أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: محمد باقي محمد

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

سوريا - الحسكة

خريج جامعة دمشق - كلية الآداب قسم الجغرافيا + دبلوم التأهيل التربوي، يعمل حاليا مدرسا في اختصاصه، عضو اتحاد الكتاب العرب -جمعية القصة والرواية منذ عام 1989 عضو في المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في مدينة الحسكة

 

نشر الأعمال التالية:

أغنية منتهية بالرصاص -قصص 1986

عن اختفاء العامل يونس -قصص 1988

الطوفان  -  قصص  1991

فوضى الفصول - رواية 1997

 

قيد الإعداد مجموعة قصصية بعنوان:

هواجس شخصية

ينشر في الدوريات العربية والمحلية

ترجمت متفرقات من أعمالي إلى البلغارية والروسية والكردية

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

ليالي الشمال الحزين

الفجر المخضب بالدم

أغنية منتهية بالرصاص

النعاج 

موت عصافير الظهيرة

أصداء

هواجس شخصية

مأساة ممي آلان

رائحة الدم

 

النعاج

 

"إنّها لظروف صعبة تلك التي يعيش فيها القسم الأكبر من الناس في كلّ العالم ، وليس في روسيا وحدها ، بل في فرنسا وألمانيا وانكلترة والصين والهند وأفريقية ، في كلّ مكان"

ليف تولستوي

 

-1-

كانت عيون السماء تطلق نشيجاً عالياً يشارك فيه صفير الريح ، وقصف الرعد ، ووميض البرق ، والليل السرمديّ الذي لا يريد أن ينتهي .. الفجر يكاد أن ينبلج عن يوم كانونيّ آخر .. النجوم العارية ترتعد برداً خلف الغيوم الداكنة ، و" عليّ " غارق في لجّة أحزانه .

-2-

لا يزال " عليّ " يتقلّب في فراشه .. عيناه لم يغمض لهما جفن ، والليل يضغط على حواسه بثقله كلّه .. تمتم بغمغمة غير مفهومة :

- يا الله .. لقد كانت أحداث الليلة مريعة !

لقد وقف أمام الحدث لا حيلة له ولا قوّة ، نعامة تخفي رأسها في الرمال ، وهي على مرمى بندقية صيّاد ماهر .. لقد اعتاد حياته هذه .. علّمته أن يأخذ منها لأنّها لا تعطيه شيئاً من ذاتها .. لكنّها قست عليه هذه المرّة .. أبعد اللحاف عنه بعصبية ، فسرت في جسده رعدة باردة .. فكّر " لعلّ السماء هي الأخرى تشاركني حزني " أحسّ بحاجة إلى الخروج ، ولكن .. " متى يتوقّف هذا المطر اللعين عن الهطول !؟ " ابتسم بأسى " هذا المطر اللعين ! كيف سمح لنفسه بإطلاق هذه الصفة عليه ، وهو عماد حياتهم الأوّل والأخير !؟ القمح .. آه من هذه السنبلة الصفراء ، التي تبعث الحياة في قريته ، وفي كلّ القرى المجاورة .. المطر .. رمز العطاء ، ولكنّك أيّها المطر كنت هذه المرّة رمزاً للموت ! كيف !؟ كيف يمكن لشيء أ، يحمل في داخله نقيضه !؟ يجب أن أخرج " نهض .. وبعد قليل ابتلعته العتمة .. الريح تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال ، بينما زخات المطر تضربه بقسوة في كلّ مكان .. تعثّر ، وسقط ، ثمّ تعثّر وسقط .. لم يدر كم من المرات وقع .. " حتى الكلاب لا تنبح في هذه الليلة ! ترى هل هي الأخرى حزينة !؟ " عبثاً حاول أن يشعل لفافة تبغ .. تمتم بضع شتائم  ، لم يُقهَم منها سوى كلمة " اللعنة " .. ظلّ يدور بين البيوت على غير هدى ، حتى قادته قدماه إلى الجهة الشرقية من القرية ، حيث المدرسة ، فجلس القرفصاء ؛ متّكئاً إلى جدارها ، مشتملاً بفروته بشدّة ، ويمّم وجهه شطر التلة التي تبعد مسافة ألف من الأمتار عن القرية يناجي أن ..

" لماذا تغيّبك العتمة عنّي !؟ أتظنّ بأنّها قادرة على إعماء بصيرتي !؟"

 

-3-

بعد العشاء توجّه " عليّ " إلى دار " خضر حاج أحمد " ، حيث تجمّع بعض من رجال القرية :

-السلام عليكم .

-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. تفضّل يا أبا زرادشت " ورجع المتحدّث إلى حديثه " يبدو أنّ موسم هذا العام سيكون وفيراً " والتفت إلى زوجته " صبّي قدحاً من الشاي لأبي زرادشت .

وقال أحدهم :

-خيراً إن شاء الله .. والله أنا أريد أن أسافر إلى البلدة منذ شهر بلا جدوى .. ولكن ما هذا !؟ كأنّي أسمع

 صوتاً !

وأصاخ الجميع .. فجأة فُتح الباب الخشبيّ المهترىء، ودخلت كومة من اللحم المبلول ، وقد التصقت بثيابها

 بفعل المطر .. كان شعرها يغطّي وجهها ، لذلك ربّما لم يتمكّنوا من معرفتها بادىء الأمر .. وارتفع الصوت الأنثوي مستنجداً :

-أبتاه .. أخي زرادشت ! إنّه  .. إنّه يموت !

ولأنّ للوجع ألف لون، أحسّ جرحاً أكبر من حجم الخنجر في كبده ، ونهض الجميع كالمجانين .. في البيت

، وإلى جانب مدفأة الحطب ، تمدّد شاب يافع على الفراش يتأوّه ، ويجيب السائلين :

-نوبة ألم في خاصرتي كتلك المرة .. لكنّها هذه المرة أشدّ " وأمسك بيد والده " أبتي لا تدعني أموت !

لهجة التضرع ألف وجه للوجيعة ، ومئات الأذرع تسحبه نحو الأسفل ! نظر حوله بجنون .. ماذا يفعل !؟

 ماذا يفعل !؟ وصاح قاسم : 

-بسرعة يا شباب .. ليذهب اثنان منكم إلى قرية " خربة كجّي " لإحضار " تراكتور " مراد حاج

 مصطفى .. لا تنسوا أن تغطّوا " التريلاّ " ب"شادر "

" آه .. لمَ هذا التباطؤ ياربّ ! الولد يموت ، والعربة تمشي قليلاً ، وتتوقّف أكثر !" أجلسوه بعيداً عن الشاب !

-كيف هو !؟ وردّ عليه أحدهم :

-بخير .. بخير .. لا تقطع الأمل بالله يارجل .. عامودة أصبحت قريبة .. سنصلها بعد قليل .. المسافة كلّها

 خمسة وثلاثون كيلو متراً !

غبّ ثلاث ساعات سرمدية ، بدت لهم أضواء البلدة تقترب .. همس محمد حاج إبراهيم لمن حوله :

-لقد مات !

سيطر عليهم وجوم غريب .. لكنّهم لم يخبروه ، فجأة ، هجم على الجثّة ، حتى لكأنّ ألفاً من الناس أخبره أن

 وحيده قد مات ! وضع يده على قلبه " إنّه لا يخفق .. لا .. لاينبغي له أن يموت .. يجب أن يعيش " صرخ كمن يستجلب لعنة السماء :

-ولداه ..!

غير أنّهم أبعدوه عن الجثّة :

-أنت رجل يا أبا زرادشت .. وصلنا عامودة !

-عشرون عاماً فقط التي عاشها يا ناس !

 

-4 –

على التلّة التي يدفن أهل القرية موتاهم فيها ، كان ثلّة من الرجال تلفّهم العتمة ، وتضربهم الريح ، يؤازرها

المطر .. أحدهم يحفر ، وآخر يخرج التراب من الحفرة ، وثالث يحمل فانوساً ، ينير لهم الحفرة ، وكلّما تعب أحدهم ، حلّ محلّه آخر .. امرأة عجوز أكلها الدهر لحماً ، ورماها عظماً ، تئنّ أنيناً موجعاً .. مجموعة من النساء يواسينها حيناً ، ويشاركنها البكاء حيناً آخر ، بينما وقف " عليّ " مشدوهاً ذاهلاً عمّا حوله .. صوت " القزمة " بعيد .. بعيد .. كأنّه قادم من عالم آخر ، وخياله يتصفّح وجوه العذارى اللواتي كان يريد أن يختار إحداهن عروساً لولده.. وراحت حبّات المطر تسيل على وجهه مختلطة مع الدموع المنسابة على لحيته قصيدة حزن ، وعندما توقّفت المعاول ، وحاولوا إيداع الجثّة مثواها ، قفز إلى اللحد صارخاً ، لكنّ رجال القرية منعوه .

 

-5-

بانت أولى خيوط النور من خيوط الظلام ، وكانت زوجه " هاجر " أوّل من تنبّه لغيابه ، فهامت الأسرة على وجهها تبحث عنه ، وكلّما سألوا أحد الأهالي انضمّ إليهم باحثاً ، واستطاعت ابنته الصغيرة الاهتداء إلى مكانه ، فأعادوه إلى الدار من غير أن يدري .. كان كالمعتوه ذاهلاً عن كلّ شيء .. وضعوا أمامه طعام الإفطار ، وقبل أن يبتلع اللقمة الأولى هاجمته الدموع ، وألقت ابنته الصغيرة بنفسها في حضنه ، فمسح على شعرها ، ومن خلال الدموع كانت نظراته تنصبّ على الطريق الذي ضاعت ملامحه بين الأوحال وتجمّعات الماء ، وخطوط الفلاحة عبر نافذة داره ، وعلى البعد كانت شاة تركض بكلّ اتّجاه بعد أن تاهت عن القطيع !

 

 

أغنية منتهية بالرصاص

 

" للوجع ألف لون .. ألف وجه .. مثل الرياح ، مثل

العصافير ، الأزاهير ، وإنّي لأعتقد أنّه ما دامت حياة

البشر ، فستدوم كذلك الأوجاع والمحبات ووجوه الأسف

تحت أشكال متباينة ، لأنّ الإنسان ، وعى ذلك أم لم يعه

هو الوحيد الذي ينبض قلبه بالحبّ ، أو يتحمّل الوجيعة !"

 

-1-

الوقت ثقيل كحرارة الصيف .. الدقائق تمضي ببطء قاتل ، والزمن يتوقّف عن دورته .. بالنسبة له على الأقلّ .. نظر إلى ساعته .. عاد ينتظر كالعطش المدفون تحت الأرض .. في داخله تتراكض الأفكار في كلّ اتّجاه .. وتهاجمه خيالات شتّى .. اليأس ، ومع اليأس الحزن والخيبة .. الأمل ، ومع الأمل شوق بني آدم إلى الفرح المتسرّب عبر البوابات المغلقة " ترى هل ستأتي !؟" .. " لن تأتي !" المرارة تعتصر أمعاءه " لا ستأتي !" ومع الغيوم البيضاء الصيفية التي راحت تنمّش وجه السماء لاح له وجه طفوليّ باسم " ماذا لو عرف الناس بأمرهما !؟" الخوف يداخله كما يتسرّب الغبار عبر مسارب القرية ، ليتوطّن مكاناً ما في القلب " لن تأتي !" هجم الأسى عليه بقوة ، وبدأت باقات الأمل بالانهزام !

-ظننتك غير آتية !

-لماذا !؟ ألم أعدك بالمجيء !؟

الشمس بدت أكثر ضياء ، رغم أنّها كانت في طريقها إلى المغيب .. أمسك بيدها ، وغابا بين الأشجار ..

أحسّ أنّ جذوره ثابتة في الأرض ، بينما يناطح رأسه ذرى أشجار الكينا الباسقة ، ويسخر من شجيرات الزنزلخت " امسح الحزن عن أيامك .. امسح عنها صقيع الأيام التي تسبق هذه اللحظة !" نظر إلى عينيها .. كانت خيول كثيرة تركض نحو الشمس .. صفحة " الخابور " الرقراقة تعكس خيالهما إلى جانب شمس الغروب ، ومئات الكرات الذهبية تنعكس على وجه الماء .. عاوده حنين قديم إلى الارتماء على صدر ما .. أصابعه تنقل شوق السنين الشرقية إلى أصابعها .. شعر بأنّ ذلك لم يعد كافياً .. نظر إلى عينيها مرة أخرى ، وقبّلها .. وعندما التقت شفاههما ، أحسّ رقصاً غجريّاً يجتاح أطرافه .. يتجمّع كالزوبعة .. يتسرّب إلى داخله مع الدماء المتدفّقة بقوة حتى القلب ، ثمّ تنفجر عرساً بربريّاً !

" قلت لك ألف مرة أنت أصغر منّي بسنة ، وأقصر منّي بسنة يا مقصوفة العمر .. إن قلت لأمّك ماذا فعلنا خلف السياج فسأضربك على قدميك الوسختين .. أنا أحبّك يا قردة .. أنت أجمل البنات ، ومعك وحدك ألعب لعبة العريس والعروس .. تعالي نتعمشق على التينة .. نسرق رمّاناً من حاكورة جدّي أبو علي .. تعالي أقبّل فمك وأنفك وسرّتك "

سميح القاسم

" إلى الجحيم أيّها الليلك "

 

-2-

جدران الغرفة تقترب منه .. تختلط آلاف الوجوه ببعضها .. تعضّ بعضها .. تهاجمه .. تتوقّف الأحصنة عن الركض ، والشمس تختبىء خلف الغيوم السوداء الداكنة ، ثمّ خلف جبل " عبد العزيز " .. تحيط به مئات الأيدي .. يحاول دفعها بيديه .. السرير يغوص به إلى أعماق مظلمة لا قرار لها .. إلى عوالم بعيدة ومختلفة .. رأسه يدور ويدور ، ويحسّ أنّه يتدحرج إلى الأسفل ، وشيئاً فشيئاً يتلاشى ، حتى يسقط في اللحظة الميّتة من الأزمنة المنسية !

" ومبشّراً بنبيّ يأتي من بعدي اسمه أحمد "

" قرآن كريم "

خاصرته تضغط على معدته ، فتدفع بما في جوفه إلى الخارج .. يتقيّأ .. يعيد رأسه إلى الخلف .. الخدر يسري في جسده بتأثير الخمرة .. " أين أنت يا حامد بدرخان !؟ أين شعرك عن الإنسان .. عن الحبّ .. عن الفرح والحياة !؟"

"كان شعر حامد ينقله إلى عالم زوربا .. جذور السنديان الأسبانيّ ولوركا ، ثمّ في

مسار دائريّ إلى غابات التشيلي العذراء وبابلو نيرودا .. يعيده إلى جرود عفرين .. إلى

أشجار الزيتون البريّ المحيطة بتلال أعزاز "

تهاجمه صورتها الباسمة .. رائحة شعرها.. لونه الفاحم السواد .. البحة العذبة في صوتها .. سرّتها التي تذكّره بالميلاد .. يضغط براحتيه على رأسه .. يحاول إبعاد الصورة .. يصرّ الوجه على البقاء .. يرتسم على الأرضية .. على السقف .. على خيال العذراء مريم المرسوم على السجادة التركية الرخيصة .. يشم زوايا الذاكرة , ويحرق حناياه كنبيذ القرى الآشورية الغافية على شاطىء الخابور .. " قتلوها !" .. يحسّ جفافاً في حلقه " قتلها والدها !" لهاثه يعلو مع حركة تنفّسه القوية ، وحاجته إلى المزيد من الهواء .. " أختنق ! " .. لسانه يدور في فمه الجاف .. " زليخة أخرى .. زليخة الخمسون .. المئة .. المليون ! " .. تمتد يده المرتعشة إلى الطاولة الصغيرة الموضوعة بجانب سريره تتلمّس شيئاً ما .. يقع المنبّه على الأرض .. يفرغ ما بقي من آخر زجاجة خمرة في جوفه .. رأسه يكاد ينفجر ، وتعود الصورة إلى مهاجمته .. تكبر الابتسامة على الوجه .. يضرب رأسه بحافة السرير .. مرّة .. مرّة أخرى ، فتسيل الدماء على جبهته مختلطة مع بقايا الإقياء والدموع .. يمدّ يده إلى الدماء اللزجة .. ينظر إلى يده المُخضّبَة .. " دمي .. لا .. دمها ! " .. يضحك بهستريا .. تتضاءل الضحكة حتى تتحوّل إلى بكاء مرّير يحمل في ثناياه القهر الآدميّ كلّه .. يضرب الجدار بكفّه بقوّة ، فتنطبع على النيلة الزرقاء آثار يد بشرية مرسومة بالدم .. تدين الأبنية .. الشوارع .. والكلاب التي تبحث أواخر الليل عن طعامها في القمامة .. " سأبصق على قبوركم "

بقي الصوت يدور في الغرفة ، ويرتدّ إليه من غير أن يتجاوز حاجز الزمن !

 

-3-

كورنيش " الجغجغ " خال من الناس .. رذاذ خفيف يسّقط بعذوبة ، بينما راح الغروب يزحف نحو المدينة النائمة بين أحضان " الخابور " طفلة صغيرة .. "الصغار ينامون مبكّرين .. كذلك المدن الصغيرة .. تميت الإنسان فينا تحت ضغط الفراغ والملل .. لولاك لما كان لحياتي معنى .. معك وحدك تتفجّر شلاّلات فرحي " أمسك يدها ، أصابعه تداعب أصابعها ، والرذاذ يتخلل شعرها ببطء وفرح .. وضع يده على كتفها ، والتفّت يدها حول خصره ، وغابا في بدايات العتمة .. " وجودك يعيدني إلى زخم الحياة لأعبّ منها فلا تحزن .. حزنك يخيفني .. يجعلني أحسّ بالعدم .. بالقهر ، وأهوى عبر أزمنة قديمة ، منذ أن حمل المسيح صليبه ، إلى أن مات إيلوار حاملاً صليبه هو الآخر " .. قبّلها في جبينها عند مفرق الشعر " أنت بعدي الثالث !"

" أحسّ أنّه يعود إلى السفر عبر مدن تحيط بها تلال خضر يغمرها الضياء .. إلى

بلدان النخيل  والشمس الدافئة .. يحلم بالاستحمام بالنور ، تماماً كما كان قدماء الأنكا

يفعلون ! "

 

-4-

رأسه خدر ثقيل .. يعاوده إحساس الإقياء .. يحاول النهوض بجسده عن السرير بلا جدوى .. يعود إلى الدوامة .. تختلط صورة الفتاة بصورة القاضي .. قاعة المحكمة .. مقاعدها الخشبية الباردة برودة الموت ، والناس وهم ينظرون إليه بدهشة .. بفضول .. بحقد .. بحبّ .. بحسد .. الشهب تتساقط من السماء ، تتلاحق الواحدة تلو الأخرى .. لم يعد خياله يميّز من القاضي سوى شاربين يتحرّكان .ز " أنت مُتّهَم بالتغرير بقاصر " يزيد إحساسه بالعطش .. كوب الماء في الطرف الآخر من  الغرفة ، وهو عاجز عن الحركة .. " لكنّ شهادة الميلاد تثبت العكس سيّدي القاضي !" .. مجموعة كلاب تتجمّع في أزقّة البلدة آخر الليل ، والناس نيام .. " اللعنة .. الحياة تُعتَصَر من معانيها كما تُعتَصَر الثياب البالية غبّ الغسيل ! " .. و.. " قرّرت المحكمة تسليم الفتاة إلى شخص ثالث ترتئيه لحين انتهاء المحاكمة !" .. يبتسم .. يضحك .. ثمّ يتوقّف فجأة عن الضحك .. تتوطّن عينيها أسراب من طيور الأسى .. " قتلوني ! " .. يرفع رأسه .. عرق غزير بارد يتدفّق عبر مسامات جسده .. يعجز .. يعود إلى الارتماء .. " لا..لا !"

 

-5-

عندما دلف " س " المكان ، كانت طيور الملل ترفرف بأجنحة مقيتة فوق رأسه .. ظلال اليأس ، وألوان الغربة متجمّعة في ميناء عينيه من كلّ حدب ، كما يجتمع فقراء الحيّ لمشاهدة المشاحنات التي تجري بينهم .. إحساسه بأنّه دجاجة مذبوحة أقعده على أوّل مقعد صادفه في الطريق .. تفحصّ الموجودات .. صديقه .. زائر آخر له به معرفة قديمة .. امرأة .. فتاة في الثامنة عشرة من عمرها .. أحسّ أنّ وجهها مألوف لديه .. لم يدر لماذا !! أسقطها من حسابه ظنّاً منه بأنّها لن تستطيع مشاركتهم الحديث .. تكلموا كثيراً .. عن الحبّ .. عن الحرب .. عن الموت .. الثورة .. والحياة .. نظرت إليه بعمق " كلامك عن الحبّ جميل !" .. نظر إليها طويلاً .. سيطر عليه إحساس طالما عاوده .. إحساس بالانتقال إلى أعراس الغجر .. إلى طقوس الرقص في الديانات القديمة .. إلى عالم الطفولة .. عندما كان والده يصحبه إلى المسجد عند الفجر ، ليرى إلى المصلّين الخاشعين " أنا أتكلّم عن الحبّ كحالة عامة في أنانيّته وشموليّته " ردّت : " لا أوافقك الرأي .. مهما حاولنا التجرّد فإنّ الحالة الخاصة تعبّر عن نفسها عبر الحالة العامة ، التي نتحدّث عنها ونؤمن بها ، حتّى من غير أن ندري !" اهتزّ .. شدّته الإجابة .. " ليس العمر وجده هو ما يحدّد وعي المرء !" تفكّر .. رفع رأسه إلى بؤبؤ عينيها .. كانت هناك شواطىء صخرية يزبد موجها عند ارتطامه بالشاطىء ، فيتحوّل لون الماء الأزرق إلى الأبيض ، وتتطاير قطيراته في الهواء ، ثم يعود البحر إلى انكماشه .. كان صوت مارسيل خليفة يطرق الأذن بقوة ورقّة " بين ريتّا وعيوني بندقية .. والذي يعرف ريتا .. وآه ريتا .. آه ! " نظر إلى صديقه " أريد أن أسمع فيروز ! " .. أجابها عندما سألته عمّا يفضّله لفيروز " فيروز تسدّ في نفسي فراغات روحيّة .. قوس قزح يعقب ليلاً عاصفاً .. يجعلني أتحوّل طفلاً ، فأنأ إنسان عاطفيّ يكره التعامل بالأرقام !" سألته " ألا تظنّ مثلاً أنّ أغنية على هدير البوسطة هابطة !؟ أو على الأقل لا تترك في النفس أثراً !؟" .. " وسط هذه القاذورات والفساد في الذوق هناك بعد من يميّز الأغنية الجيّدة !" فكّر " أخطأت في التقدير حين أسقطتها من حسابي " بدأ بإعادة النظر فيها ، وصورة جديدة بدأت تُنحَت لها في خياله .. استغلّ انصراف الزوار . وانشغال صديقه ببعض الأمور ، وقال:

-لقد خسرت ! سألته بدهشة :

-ماذا خسرت !؟  أجاب :

ابتسمت .. كانت الابتسامة تقول " لقد بدأت تفهم "

 

-6 –

خبر صغير انتشر في الحيّ الشعبيّ انتشار النار في الهشيم !

•الخبر كما روته جارتهم " حميدة " :

" ركضت حين سمعت صرخة أمّه .. الصوت كان قادماً من غرفته .. دخلتها .. كانت أمّه تنهار ممسكة

بقدميه المتدلّيتين ، تغمر وجهها فيهما وسط عبراتها ونشيجها .. الحبل كان يتدلّى من السقف ، وعنقه كان قد دُقّ ،، وجهه كان أصفر كالشمع .. تصوّروا ! وجهه الطفولي الرائع .. عيناه المعبّرتان عن موران الحياة .. عن الفرح .. وعن الحزن أيضاً .. عن القهر .. والده كان واقفاً كحصان أشهب تحت أشعة شمس محرقة بعد أن ألجمته المصيبة .. شقيقاته كنّ يولولن .. إحداهنّ إُغمي عليها .. حتّى شقيقه الصغير كانت عيناه حمراوين ، رغم أنّه لم يكن يدري سبب تدلّي أخيه من عنقه بهذا الشكل " 

 

-7-

* تفسير لما جرى خلف الكواليس ليلتها على لسان أحدهم :

" القيامة قامت لما حدث .. المكان يعمّه الفوضى .. الجميع يتحرّكون وكأنّهم في قفير نحل .. أولو الأمر يحاولون إيجاد حلّ للمعضلة .. للكارثة التي وجدوا أنفسهم أمامها !

" وسيأتي من بعدي أنبياء كذبة فلا تصدّقوهم "

" الانجيل "

والد الفتاة كان منهاراً ، ذليل النفس " الموضوع يجب أن ينتهي بسرعة !" .. " شهادة ميلادها ليست من مشفى " .. " إذن سنشكّك في عمرها ! " .. لم يحرّك الأب ساكناً .. عقله كان قد توقّف عن التفكير منذ زمن ، وفمه مفتوح ببلاهة ، بينما يتوهّم الناظر إليه بأنّه يحدّق في نقطة ما .. سألوه " ما رأيك!؟ " انتبه .. خفض رأسه .. عانقت نظراته الصليب المتدّلي فوق صدره .. لم يجب  ، وعاد أولو الأمر إلى التداول .. لجنة الأطباء كانت مُكوَّنة من ثلاثة .. اثنان منهم أفادا بأنّ الفتاة قاصر .. لم أعد أتذكّر المبلغ الذي قبضاه .. " بقي القاضي " .. " سنضغط عليه " .. " والفتاة يجب أن تُسلَّم لأحد الآباء كشخص ثالث ، عندها سنقنعها بتغيير إفادتها ، أو ... "

" سنفهم من يكون هؤلاء الناس لأنّ الممثّلين لا يصونون سرّاً ، ويفشون بكلّ

شيىء "

وليم شيكسبير " هاملت "

انفرج الباب المؤدّي إلى الرواق المعتم عن شخص يحمل ألم العالم في خاصرته .. في داخله كانت الأضداد كلّها قد ارتطمت ببعضها ، واختلطت عليه المفاهيم والقيم .. يده المرتعشة تحمل مسدّساً للمرّة الأولى في حياته.. القاضي فعل ما قيل له ليلتها، وسلّم الفتاة لأحدهم"

 

-8-

قدماه لا تساعدانه على السير ، فراح يمشي كمن قُيّدت قدميه بسلاسل ثقيلة .. قاده مرافقه إلى الغرفة التي وضعوا فيها ابنته .. أشار عليه المرافق .. دخل الغرفة .. فوجد نفسه _ بغتة _ أمام ابنته وجهاً لوجه .. نظر إليها طويلاً .. نظرت إليه بثبات .. اختلجت أطرافه .. وتوقّفت عجلة الزمن عن الدوران ، واجتاح سيل من الذكريات خزّان الذاكرة ، انحدرت على خدّيه ساقية من الدموع ، ومن خلال دموعه ، اختصر الزمن في لحظة ، ثمانية عشر عاماً .. مئات الصور مرّت أمام مخيّلته .. وجد نفسه يداعب طفلة رضيعة تضع أصبعها في فمه وعينيه .. تركض في الأزقّة .. حقول القمح الصفراء المحيطة ببلدته على مدّ النظر تلمع تحت أشّعة الشمس الذهبية .. يحمل الطفلة على كتفيه ، ويلعب معها " عسكر وحرامية " .. " بابا .. أنا العسكر وأنت الحرامي " .. تذهب إلى المدرسة ، وطرف ثوبها الأحمر يظهر تحت " صدريتها " المدرسية الصغيرة .. بعد حول من الزمن تعود أشجار الرمان إلى حلتها الزاهية وتثمر ، ومعها تكبر الطفلة حولاً .. " بابا.. عندما أكبر سأصبح طبيبة " .. لاحظ المرافق تردّد الوالد ، فتنحنح ، وضرب خاصرته بكوعه ، ودون شعور من الأب ، استقرّت رصاصات سبع في جسد ابنته .. كانت أصبعه قد ضغطت على الزناد من غير أن يشعر .. إحدى الرصاصات كانت قد اخترقت بطنها ، بينما استقرّت البقية في رأسها ، فتناثر اللحم والمخّ والدم على الجدار ، راسماً بقعاً وأشكالاً وخطوطاً عديدة لا يربطها ببعضها شيء ، وانهار الوالد على الأرض ينشج بصوت مكتوم .. الطبيب الشرعي أخفى عن المحكمة حمل الفتاة .. الجنين كان في الشهر الثالث ، ومقتل الفتاة اعتُبر حادثة شرف !

 

 

 

الفجر المُخضَّب بالدم

 

"إلى حامد بدرخان الشاعر و الإنسان"

ماذا نفعل ؟

إذا كان ثمّة عيد واحد للقبلة

وأعياد كثيرة للقتل

ماذا نفعل !؟

"رياض الصالح الحسين"

 

1 – المخاض:

عادت الخاصرتان إلى الضغط على الكليتين ضغطاً جامداً ، والمسّ الكهربائيّ يتنقّل بين الفقرات القطنية .. صرّت أمينة على أسنانها بشدّة ، وهوى باشق إلى أسفل الخانق بعد أن علا في الجوّ .. انتشرت الآهة الآدمية بين الصخور الجرداء الحادة ، وامتدّت يدها إلى جبينها تمسح عنه عرقاً غزيراً ، ثمّ تسقّف بها جبهتها ، لتحجز عن عينيها أشعّة الشمس المحرقة ، والوحشة غول يدفع إلى الجوف الرعب والخواء .. أسندت ظهرها إلى صخرة كبيرة ، وأجالت بصرها المُتعَب في الجبال الشاهقة المحيطة بها من كلّ حدب .. الصخور حدءات جارحة تعيش استعداداً للانقضاض على الفريسة .. لسانها الجاف يحاول أن يعصر نقطة من لهاثها فوق الشفاه المُشقَّقة ، والتربة تنزّ ملحاً .. نظرت إلى الخانق العظيم ، حتى اصطدمت عيناها بحاجز من الضباب يتصاعد بخاره نحو الأعلى ، فأحسّت دواراً خفيفاً ، وتشبّثت بالصخرة بقوة .. الثيران البرية تتراكض في بطنها الناهض ، وأصابعها تضغط عليه !

 

2 – عند الفجر:

والفجر لون رماديّ تحته ارتفعت صدى الانفجارات .. الأرض تترنّح وتميد تحت الأقدام ، ثمّ تُسحَب ، والرعب كابوس مخيف ، تحته خرج الفلاحون من دورهم ، وبقايا النوم المُغتال ينسحب على زوايا المقل .. الناس تتقاذف .. تتبعثر .. تنكمش .. تصطدم عبر الاتجاهات الأربعة ، والأجساد تبدأ بالتساقط .. عينا أمينة تحوّلتا إلى " كاميرا " مذهولة تسجّل في اللاشعور الخوف والموت والدمار ، والرشاش كلب مسعور يعوي فوق الصخرة ، يعزف لحناً جنائزياً ، أوتاره قزقزة الأوردة والشرايين تحت الضغط .. القطيع يتموّج ويتصادم ، والأطفال تدهسهم الأقدام " والأطفال في عرف اللّه – سبحانه – طيور للجنّة " أو يحصدهم الرصاص .. الصوت الآدميّ المتألّم يصطدم بالصخور ، ويرتدّ إلى ذؤابات الأشجار ، فأنقاض المنازل ، ثمّ يتزوبع في الفضاء العابق برائحة الغبار والنار .. الطلقات تئزّ حول الأهالي .. تشقّ طريقها عبر اللحم .. تفلح الأرض المُتربَة .. أغصان الأشجار، وتزمجر غضباً حين تصطدم بالصخور، تريد أن تحصد الحجارة والتراب والشجر والبشر، والقطط تتابع الركض حين تهاجمها الكلاب.. الدم ينبثق .. يشخب .. يشخب بغزارة على التراب والشجر .. على الصخور والأبواب الخشبية.. وفي مفارق الطرق والدروب الضيقة .. عبر الساحات ومساربها الموحشة .. المنازل تتقوّض وتنهار .. بدأت الدائرة المُغلقَة تضيق ، وكلّ شيء يظلم .. يخرج عن المألوف ، ويدخل جسد الغرابة !

 

3- النداء:

كان نداء "هجار " حنوناً ، وأحسّت أمينة بأنّها لا تستطيع مقاومة هذا النداء ، فآدم وحواء طُردا من الجنة .. تسلّقت يداه ردفيها ، فشعرت برعشة تتنقّل في أعماق الحوض ، والماء يتنقّل في حقلهم الصغير .. امتصّ نهداها رحيق اليدين وهما في طريقهما إلى العنق، وغابت في الرائحة المنتشرة من أرجاء صدره، تخترق جغرافية جسدها.. الأشجار مُثقلَة بالثمار ، والنهدان غصنان ينوءان بحملهما ، والسماء إناء مقلوب يلتالأرض ، ومن خلال عينيها نصف المُغمَضتين ، كان الفضاء الرحب يلتمع بالضياء .. يدها تتحسّس ظهره ؛ بعد أن أضحت بين صدره ويديه ، وحلمتها تتحسّس الغابة .. يضغط ، فيتوحّد إحساسها بالأرض ، وتتغلغل الحشرات في جذور الشجر ، والخدر يتسلّق الساقين .. يلج بين فخذيها .. يزداد ضغطه على الصدر ، فتصرخ مسام الجسد ، تطلب المزيد .. يتحطّم شيء ما في داخلها ، ويتوحّد العرق برطوبة الأرض ، تفقد الإحساس بالزمن ، والدم توهّجات تتوحّد بحبات التراب الملتمعة بالضوء القادم عبر أوراق الشجر ، تسقسق بضراوة في الشرايين ، تريد الانفلات منها .. الحقول ترتوي بالماء ، والعرق يتوحّد فوق الساحات ، ويتّجه نحو مسيل الصدر ، ليسقي الزيزان والخزامى!

 

4 – الرشاش يكمل حكايته:

ذهنها يعيد تشكيل الصور ، رشقة ، ويتوقّف حسين أومري عن الركض .. ذراعاه تلوّحان في الهواء ، ترسمان دائرة من الهلع الدهش .. الدم ينفر من عينيه، ثمّ يسقط، وفوقه تسقط شجرة فستق.. الكلّ طيور بريّة تثب من مكان إلى آخر، والصيّاد وحش يطارد الفريسة، يريد منبع الدم.. تمزّق الرصاصات صدر فاطمة حيدري ، فتلتفّ حول نفسها كالزوبعة ، ثمّ تهوي بفم مفتوح ، وخيط من الدم يسيل داخل الفم مع الحشرجة ، يختلط مع التراب ليرويه .. الطلقات شياطين محبوسة تتدافع للخروج ، والدخان والغبار سحب داكنة فوق سماء " هكّاري " .. نفرت دمعة من العينين تبكي الأطفال تغتال أمانيهم الرصاص !

تدفّقت موجة الأهالي نحو المغارة تدفّق مياه السدود الحبيسة .. طوفانهم حاول الوصول إليها .. البعض وصلها ودخل ، والبعض تلقّاه الرصاص بفرح وحشيّ - والرصاصة في اللحم لا تتساءل من أين جاءت ، لكن في جثّة القتيل دوماً تسكن الحقيقة – فسقط على الطريق ، والماء يهرب في شقوق الأرض وأغوارها ، كان عسكر الترك قد دخلوا القرية من جهاتها الأربعين ؛ ينثرون الموت فوق ساحات الوطن ، لعلعة الرصاص تتابع الهاربين فوق الصخور ، وبين الأحراج " يجب ألاّ يبقى منهم أحد .. كلّ شيء يجب أن يُطمَر معهم !"

والآلة حلّت محلّ الإنسان ، كانت الآلة غريبة من نوعها ، ولم تكُ أمينة قد رأت لها مثيلاً ، زمجرت الآلة بقسوة ، وهي تدفع أمامها الحجر والجثث والتراب والصخور والشجر وأنقاض المنازل .. اتّسعت حدقتا العينين، وشهقت واضعة يدها على فمها ، حين راحت الآلة تهيل التراب على مدخل المغارة لتسدّها .. " ربّاه .. سيُخنَقون!"

 

5 – منارات:

الدم يتدافع في وجنتيها ، والخجل صفة للمرأة .. حادت عيناها عن شعاع عينيه .. " أمينة أحبّك " .. شيء ما يسحب قلبها نحو الأسفل ، والركبتان تيبّستا .. نبتتا في الأرض ، وتحولّت أمينة إلى شجرة لوز .. " في موسم الكرمة أخطبك " .. سرح خيالها في الرقصة الإيقاعية الجماعية ، وعادت إلى خزّان الذاكرة تنبش ذكرياتها عن الأعراس ، لتتوّج بها جبين هجار ، وعندما قبّلها للمرّة الأولى ؛ شعرت أنّها ورقة في مهبّ الريح .. كلّ شيء فيها ارتجف، وطارت العصافير من صدرها تزقزق في كلّ اتّجاه !

 

6 – الرنين:

على الصخور آثار أقدام بشريّة مرسومة بالدم ، وفي نهايتها امرأة حامل تستند إلى صخرة كبيرة .. عادت الأدوات الحادة تعمل تقطيعاً في جوفها .. فتحت عينيها .. كانت السماء عميقة الزرقة.. أبعدت خصلة الشعر المتجمّدة فوق جبهتها بفعل العرق المالح، والشمس سياط تلهب ظهر الصخور بعد أن علت كبد السماء.. بدا الوادي أكثر عمقاً بعد انقشاع الضباب .. تحاملت أمينة على نفسها ، وبدأت السير فوق أرض تترنّح تحتها سكرى ، وسماء متماوجة .. كل ّشيء يهتز .. يتراقص ، وعيناها لم تعد تميّزان الأشياء .. الصخور تتداخل بدغول البلاّن، وأشجار الفستق، وأجمّ الجوز واللوز والسنديان، وشجيرات الخرّوب البريّ، والطريق يميد .. يتلوّى، ويتشعّب .. يتلافى الوهاد .. يضيق إلى حدّ انعدام الملامح، وتهجم عليه أغصان الشجيرات بضراوة، لتغتال الباقي منه، وتمزّق الثياب عن كتفها أو ردفيها، وتدميهما.. الجبين عاد ينضح عرقاً .. قضمت بعض الأعشاب، فالتهب جوفها أكثر، وتعثّرت ! 

وحين أشرفت أمينة على السفح الجنوبي، هبّت عليها ريح رطبة مُفعمَة بالعذوبة، وابتعدت قبّة السماء عن أمّنا الأرض " سننجو .. سننجو ياولدي ! " .. سهول الجزيرة تمتدّ على طول الأفق، تموج تحت الضوء، وتملأ السموات بالأريج والأمل .. قوة سحرية تتسرّب إلى داخلها، تحيي ما بقي فيها من نسغ، رغم المخاض .. أحسّت بالرخاء، وقلّ تغضّن الجبين، والطريق ينحدر بها " أبشر يابنيّ .. الحدود أضحت قريبة .. فقط يجب أن نتخلّص من المرصد التركي!" .. ربتت على الجنين، وقوّست ظهرها، وهي تنتقل من صخرة إلى صخرة .. الألم يمزّق رحمها مع كلّ انحناءة تدفعه للتّقلّص أو التمدّد، الألم أو الموت .. لكنّها يجب أن تصل .. الحدود أضحت على بعد أمتار! فجأة .. سمعت أمينة بكاء طفل وليد .. نظرت إلى بطنها بهلع .. كان البطن قد فقد ارتفاعه .. فرّت الطيور من عينيها ، وهبط قلبها إلى الأرض .. نظرت إلى الوراء .. كان الجنين على بعد أمتار .. " بنيّ ! " .. عادت تركض .. لكنّ زخّة رصاص من المرصد التركيّ حوّلت الجنين والمشيمة  إلى كتلة من اللحم والدم .. شهقت أمينة، وغطّى أفق عينيها لون أحمر.. أحمر طغى على الجبال والأشجار والصخور .. على الأرض والسماء وطيور الحنّ الفزعة، التي راحت تفرّ من صوت الرصاص .. أحمر يتصاعد من أخمص القدمين نحو قمّة الرأس .. يفيض .. يفيض، والشهب لعنات تنصبّ على الأرض .. تحجّر الدمع في عينيها .. نظرت إلى الكتلة بذعر .. اختطفتها بسرعة، ثمّ ارتدّت على أعقابها لتجتاز الحدّ، فاستقبلتها رصاصة من الجانب الآخر للحدود، أحدثت ثقباً صغيراً تحت ثديها الأيسر .. تباطأت حركتها، وتفجّر الدم يصبغ شاهدة الحدّ .. سقطت على ركبتها .. ابتسمت .. أطياف الأطفال تركض نحو الشمس، ثمّ توحّدت مع الشاهدة الحجريّة، وأظلم كلّ شيء !

هامش: الخميس 12 أيلول، أفاقت تركيا على أصوات البنادق،

تدقّ الأرصفة معلنة استلام العسكر للسلطة !

" الحرية " العدد 983

 

7- قرار:

أنا أمينة علي .. وُلدت من رحم القهر، وعلى يديه رحلت، وأنا الشاهد الوحيد على ما جرى في قريتنا، وعملاً بوثيقة حقوق الإنسان، وحيث أنّ ما حدث يجب أن يصل إلى أسماع العالم، وحيث أنّني متّ قبل إيصاله، أقرّر ما يلي :

" أيّها الجسد الفاني، الذي سقط على شاهد حجريّ أصبح رمزاً لقبرك، تفاعل مع عوامل الطبيعة.. مع الشمس .. مع الريح .. مع الليل .. مع الماء، علّ العالم يسمع ويرى .. علّم الطريق بأظافرك .. بيديك .. بأسنانك .. بالحجر !

 

8 – هملت يستيقظ مُتأخّراً:

هنا إذاعة مونتي كارلو .. هنا إذاعة صوت فرنسا الحرة .. هنا موسكو .. هنا واشنطن .. نشمّ رائحة تعكّر صفو احتفالنا بأعياد السلام عام ألفين و... ! من أين تأتي هذه الرائحة !؟ من أين !؟ من أي ! من أ ! م !!!؟

 

 

ليالي الشمال الحزين

إنّي ألاحقك أيّها الفقر

أترقّبك

أحاصرك

أصوّب عليك، أعزلك

أقضم اظافرك

أحطّم أسنانك الباقية

بابلو نيرودا

 

1-هوية:

الاسم: أبو حذاوة                                                                                                         

العمر: إثنان وأربعون عاماً

المهنة: ...

العنوان: قرية البكعة – ناحية تل حميس ، تبعد عن الحدود العراقية مسيرة نصف ساعة على الأقدام .

السمات المميّزة : سوء التغذية – الأميّة – صفار في الوجه يومي إلى إصابة صاحبه بالسلّ .

الحالة الاجتماعية : متزوّج باثنتين ، الأولى تقيم مع ابنها يوسف في دار مستقلّة ، والصغيرة تقيم معه ، هي

 وولدها الصغير ، وبناتها الأربع .

 

2 – إطار:

شاربان أسودان تحت أنف مستقيم ، تحيط بهما كتلة عظام غير مُنتَظَمَة ، مُغطّاة بجلد أسمر يميل إلى الصفرة ، أمامه على الأرض " منقلة " مليئة بروث الحيوانات ، يحرّكها بعصاه حتى لا تنطفىء نارها ، وتقوم بدورها بملء الغرفة بالدخان والرماد الناعم .

على بعد مترين منه يجلس صغير على الأرض ، وإلى جانبه بضع حبّات من التمر ، بينما يغطّي رأسه غطاء من " الشيفون " الخمريّ المهترىء ، كالح اللون ، خاطته يد الأم عند الولادة ، تعلوه حزمة من ريش الدجاج تشبيهاً له بالتاج .  يقابله شقّ في الحائط يدّعي أنّه باب ، مُغطَّى بستارة غريبة .. مزيج من الألوان ، وعديد من الأقمشة المهترئة التي فقدت ألوانها .. بقايا أكياس خيش ، مع بقايا عباءة ، وقليل من صوف الغنم المنسوج مع شال ، لعله البقية الباقية من ثوب قديم ، خلف الباب تمتدّ غرفة طويلة تحتوي تقسيمات العالم الحديث كلّه للبيوت .. في إحدى الزوايا وُضع موقد " الكاز " وصحون صدئة ، تريد أن تدلّ على المطبخ ، إلى جانبها دكّة وُضعت عليها بضع مخدّات ، وثلاث فرشات ، ولحافان علاهما الغبار المتساقط من السقف الترابي ، ودخان الموقد .. إنّها – لاشكّ – تمثّل غرفة النوم ، تليها غرفة الجلوس ، التي يُستدَلّ عليها من البساط المُكوَّن من التراب وصوف الغنم الممزوج بشعر الماعز . أخيراً يكتمل الإطار بالباب الخشبيّ القديم ، يكاد أن يتداعى كشيخ مسنّ .

 

3-مجتمع:

رفعت المرأة يدها من العجين ، وعلى فمها ابتسامة عريضة :

-أهلاً اسداد !

-نهض أبو حذاوة من غرفته الداخلية بفرح ، وإحساس بالاعتزاز يسيطر عليه " لمَ لا ! الأستاذ بنفسه

 يزوره ! ومن غير دعوة حتى ! "

-يا هلا .. يا هلا .. تفضّل يااسداد .. الله محييك .. البيت بيتك " ولمّا رأى أنّ الأستاذ سيجلس بعيداً عن

 النار " لا والله .. هين .. هين .. جنب النار .. الدنيا باردة .. يا أمّ محمود حطي الشاي عالببور .

نهض أبو حذاوة ثانية ، وأخذ يروح ويجيىء .. ماذا يفعل !؟ هو يجب أن يقدّم لضيفه عشاء دسماً يليق به ، ولكن من أين !؟ تمور بداخله إرهاصات حزن كليث جريح لا يستطيع التوقّف عن الحركة .. يفرك يديه بحيرة " لو كانت الحدود العراقية مفتوحة ، إذن لما أحسّ بهذا الإحساس المهين " وأخيراً ، وبالتشاور مع زوجته هداه تفكيره إلى " الدكانجي " .. " نعم ليس هناك في القرية كلّها من يستطيع إقراضه بضع ليرات سوى أبي سعيد ، فهو يعلم بأحوال أهل قريته .. أوليست الحدود مُقفَلَة بوجوههم جميعاً !؟ "

" إيه عالأيام الخوالي " .. الديك الهندي يصيح بين يديه ، وهو غير آبه بصياحه ، وخياله لا يستقرّ على شيء .. إنّه لا يرى ما حوله .. البيوت تختفي .. الأولاد يبتعدون ، لكنّ النساء يبقين .. صادفه بضع منهن يقدن حميراً مُحمَّلة ببراميل فارغة لجلب المياه من القرية المجاورة .. " آه لو كانت ( سبّاية ) الماء بقريتهم ، إذن لما اضطرّت النسوة إلى قطع هذه المسافة ! " .. " لو كانت الحدود العراقية مفتوحة ، إذن لدخل المحطّة ، واشترى كيساً من التمر ، ونقله إلى قرية تل معروف .. يشتريه بخمس عشرة ليرة سورية ، ثمّ يبيعه بخمس وعشرين .. لا .. التبغ يدرّ ربحاً أكبر .. ولكنّه لا يملك ما يكفي لشراء الأنواع الجيّدة .. لا بأس .. سيشتري كمية من التبغ الرديء ، ويبيعه في قرية فارسوك ، وسيربح مبلغاً محترَماً " .. تنهّد بحرقة .. " بضع غزوات ليلية تجعل العيد المقبل عليهم بعد شهر عيداً حقيقياً .. ولكن كيف !؟ إنّ محصول عام سبعة وسبعين وتسعمائة وألف كان من أسوأ المحاصيل التي مرّت عليه خلال الاثنين والأربعين حولاً التي عاشها .. البارحة أمسكوا بحميد العبد الله داخل المحطة ، ولا أحد يدري عنه شيئاً "

-لماذا التكليف يا أبا حذاوة !؟

نظر أبو حذاوة إلى الأستاذ مشدوهاً ! ( هل يمكن أن يخرج من بيته دون ذبيحة !؟ إنّه لا يستطيع أن يتصوّر

 ذلك!! "

 

4- مونولوج داخلي:

الخيالات تمرّ سريعاً بخيال أبي حذاوة كشلال تتناثر مياهه بلا انتظام ، وهو مُتمَدّد في فراشه .. " أه من هذا

الليل الطويل .. ده .. ده أيّها الحمار ، أوشكنا أن نصل إلى البيت ، سنتعشّى ، ثمّ نكمل طريقنا لأبيع حملك " تعود به الذاكرة إلى المحطة العراقية " كاد أمره أن ينكشف من قبل رجل الأمن العراقي ! " أضواء المحطة تبتعد وهو في طريق العودة .. زوجته وأولاده يستقبلونه بفرح استقبال البطل العائد من معركة كُتب له النصر فيها .. التفت إلى زوجته النائمة إلى جانبه بطمأنينة غبّ يوم مرهق .. " ترى كيف ، وبأيّ حال من القلق كانت تنتظره ليالي اجتيازه للحدود !؟ لا شكّ أنّ الخوف كان يهدّها " .. " لا .. لن أبيع بأقلّ من ثلاثين .. لستم الوحيدين الذين تشترون التمر يا أهالي فارسوك !" ظلّ يتقلّب شطراً كبيراً من الليل .. " ربّاه .. إلى متى ستستمرّ هذه الحال !؟ إنّ الغطاء ينكشف شيئاً فشيئاً .. أولاد الكلب .. لقد أصبح حمل الأفيون أسهل من اجتياز الحدود .. ترى لماذا لم يجبني الأستاذ عن سبب إغلاق الحدود ، وادّعى الجهل!؟ كيف يكون أستاذاً ولا يعرف السبب !؟" وأخيراً أغلق عينيه على قرار خطير.

 

5 – الموت يأتي آجلاً:

امتزج عرقه بالتراب الذي عفّره .. طعم التراب في فمه " لا .. لن يترك حماره الذي ظلّ طوال حياته ذراعه الأيمن في العمل ، فهل يتركه وقت الضيق للعراقيين !؟ " .. "  يالله ..! ماهذا الرصاص الذي ينهمر عليه كالمطر !؟ " نظر وراءه بصعوبة .. أشباح تتحرّك من بعيد على أضواء المحطة .. " ماذا يريدون منه !؟ " أصابت إحدى الرصاصات من الحمار مقتلاً .. استلقى خلفه ، والرصاص يتناثر حوله .. سقط كيس التمر على الأرض .. نظر إلى حماره بحزن " يجب أن يهرب قبل أن ينالوه هو الآخر " تحفّز للنهوض .. نهض ، وقبل أن يخطو اخترقت رصاصة غادرة كتفه الأيمن .. شهق ، وأمسك بكتفه .. نظر وراءه بحزن ، ثمّ مدّ قدمه ، وقبل أن تصل الأرض ، اخترقت رصاصة أخرى ظهره .. سقط على الأرض يلهث " لماذا يقتلونه !؟ إنّه لم يفعل بهم شيئاً ! " عقله يعمل بسرعة " القرية .. ابنه يوسف .. ابنه محمود .. زوجته .. الكبيرة .. الصغيرة .. ضفائر بناته .. المحطة .. حماره .. حبات التمر بين يديه ! " ثمّ انتهى كلّ شيء.

أضيفت في 31/05/2005 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

موت عصافير الظهيرة

 

دوت الصرخة في فضاء الغرفة ، فانتفض النائمون مداهمين بحسّ الانخطاف ، وامتدّت يد " نيجان " إلى زرّ النور ، لينتشر ضوء أصفر شاحب في المكان ، اتّجهت العيون إلى " برهان " الغارق في عرقه ، كان شعره قد تشعّث بفعل التّقلّب على المخدة ، وصدغاه ينبضان بقوة ، بينما بدت عيناه مزروعتين بالخوف والانكسار ، وراح وجهه يعبّر عن رعب مريع يعصف ببقاع النفس ، ويلقي بها في ظلال التصدّع .

وبين دهشة الجميع وذهولهم ، أسرعت زوجته لتحضر كأساً من الماء ..

-خذ ، اشرب قليلاً من الماء .

ذاهلاً وغائصًا في عالم ناء وبعيد همس :

-عيناهما ! عينا الصغيرين يا نيجان !

اعتقلها الاستغراب :

-أيّ صغيرين يا برهان !؟

وكمن استعيد من أرض الرجعى ؛ تلفّت حوله ، كانت الوجوه تتطلّع إليه مترقّبة متعاطفة ، ، تنهّد بقوة،

وامتدّت يده إلى كأس الماء ، ثمّ وضع رأسه بين يديه ..

-هل تشكو من شيء!؟

لكنّه لم يجب ، فربتت على كتفه ..

-تمدّد يا عزيزي ! اللّه أعلم بالمصاعب التي تواجهك في الطريق !

وفي سرّها راح السؤال يحفر في النفس .ز

" ترى ما الذي أوصله إلى البيت على تلك الحال !؟"

تمدّد ، كانت عيناه مفتوحتين في الظلام ، وأنشأ الحدث يعيد نفسه على شاشة الذاكرة .. الفوّهات مصوّبة إليه  

خلل الزجاج الأمامي ، والوجوه الصامتة ترتدي وحشية ضارية ، بينما يفصح صمتها عن عزمها الأكيد على تنفيذ تهديدها ! 

جليّة كانت الصور ، ضاغطة ، مخرّشة للذاكرة ، فعاد العرق ينشع عبر الجلد ، وأخذ وجهه يعكس تشنّجاً حاداً ، شفتاه انفتحتا على آخرهما آن عجزت فتحتا الأنف عن تأمين الهواء اللازم ..

" أختنق " !

همس من بين شفتيه ، امتدّت كفّه إلى عنقه مغيثة ، ثمّ هبطت إلى صدره المدفدف ، وأنشأت اللحظة الثقيلة تقترب ، ارتفعت العجلتان الأماميتان ، وشعر أنّ اللحم والعظم الآدميين يٍٍُِِمعسان ، اندفع جالسا في فراشه ، وتجمّدت الصرخة الخرساء فوق شفتيه ، تلفّت حوله ، لم يكن الظلام محكما ، إذ كان ثمّة نور باهت يتخلّل من خصاص الباب والنافذة ، كان الموات يشمل الموجودات ، وعادت الذاكرة تضغط .. الشاحنة تحفر الطريق الجبليّ الضيّق ؛ تاركة مدينة " العمادية " وراءها ، بينما تسحب أشعة الشمس ذيل ردائها الغارب على السفوح والقمم وذرا الأشجار ، موقظة في النفس استعداداً غامضاً لليلة باردة ، مستمّداً - ربّما – من القمم العارية المغطاة بالثلوج ، وربّما كان قفر المكان وانعدام البشر فيه سبباً في إحساس كهذا ، أخذ " برهان " يستعيد وجوه أطفاله ، ويمنّي النفس بليلة مريحة في بيته ، علّ الوحشة الضاربة في منابت النفس تخفّف ضغطها ، وعلى مدّ النظر راحت الخضرة تعلن نفسها ملكة متوّجة ..

انقطع انتظام الصور ، وهرولت الذاكرة بلا سياق ..

الفوهات المصوّبة إليه تكشف عن تعطّشها إلى القتل ، ومن خلفها كانت الوجوه الرعناء تهدّد ، ثمّ تحرّكت الشاحنة ، وارتفعت العجلتان الأماميتان تمعسان اللحم الآدميّ ..

انتفض جسمه بقوة ، كان عرقه غزيراً وبارداً ، ومن حوله كان السكون شاملاً ، بيد أنّ هدوء المحيط لم يكن يعنيه في شيء أمام البركان الداخليّ الذي راح يعصف به ، ويعيده إلى أحضان اللحظة الماضية بكلّ حدّتها وألمها ..

الشاحنة تمضي في طريقها لاتلوي على شيء ، لم يعد يدري من أين طلعت أمامه بغتة ، فامتدّت قدمه - لاإراديّاً – إلى المكبح ..

" أيّ شيطان ألقى بها في هذه البقعة الحدودية النائية !؟"

بصعوبة بالغة استطاع أن يتفادى المرأة التي ألقت بنفسها على مقدّمة الشاحنة ، وهبط بسرعة يريد أن يطمئنّ إلى أنّه لم يصدمها ..

-ولكن ماذا تفعلين هنا بحقّ الشيطان !؟

وأخذت المرأة تبربر بكلام غير مفهوم ، بينما كانت يداها تتحرّكان في محاولة لتأكيد ما تقول ، فأسقط في يده ..

" والآن ! كيف تفهم منها ما تريد ؛ وأنت تجهل الكردية السورانية !؟"

وحتّى تكتمل دارة الدهشة برز طفلان صغيران من خلف الأشجار ، تأمّلهما متعجباً ، بينما راحت المرأة تكمل كلامها ، ولم يكن بحاجة إلى كثير تمعّن حتّى يتواصل مع الفجيعة القابعة في أعماق عينيها ، كما لم تغب عنه لهجة التوسّل المنبعثة من كلامها ، فتساءل مرّة أخرى :

" باللّه عليك كيف تفهم ما تريد !؟"

-يااللّه ! ماذا تريدين ؟ الطفلين ؟ مابهما !؟

 بالحركة أقرن سؤاله ، فجذبت الصغيرين من يديهما ، ووضعتهما في يده ..

-آخذهما !؟

 استفسر مستغرباً ؛ موضّحاً سؤاله بالإشارة ، فهزّت رأسها بالإيجاب ..

-ولكن !؟

انكبت المرأة على يديه تقبّلهما ، وتلألأت دموع ضارعة في المقلتين ..

" ربّاه ! هل لأمّ أن تتخلّى عن أولادها في أيّ ظرف كان !؟"

تساءل ، وراحت هي تهزّ كمّه بإلحاح ، فربت على كتفها علامة الموافقة ، ثمّ التفت إلى

الصغيرين ، وقادهما نحو الشاحنة ، كان الأول في الثانية ، بينما بدا الثاني في الرابعة من عمره .. اندفعت المرأة خلفهم ملتاعة ، كان التمزّق يشم كلّ حركة من حركاتها ، وهرباً من الأسى العميق المرتسم في البؤبؤين ؛ انطلق " برهان" بالشاحنة مسرعاً ، بيد أنّ عينيه لم تستطيعا الفرار من صورتها المنعكسة في المرآة الجانبية ، ويدها الملوّحة كغصن يابس تعبث به الريح وسط الطريق .

-لقد أسلمتهما إليك ! لقد أسلمتهما إليك !

ارتفع صوته متّهماًّ ، فأفاقت زوجته على صوته ، واقتربت منه حيرى ، ربتت على

 كتفه،فأسند رأسه إلى صدرها ، وانخرط في نشيج مرير .

-حول أن تهدأ ! كلّ شيء – بإذن اللّه – يمكن إصلاحه ، فقط انتظر حتى الصباح !

فضجّ صارخاً :

-أنت لاتدركين شيئاً ! ما حدث لايمكن إصلاحه أبداً .. أ أبداً !

-حسناً ! إهدأ والصباح رباح !

وألقى بجسده المنهك على الفراش ..

" كيف يمكن إصلاح ما حدث ، كيف !؟"

أخذته قشعريرة باردة ، وأخذ يرتجف كورقة في هبوب ريح ، وعادت الوجوه الصامتة إلى

مهاجمته ثانية ، الفوّهات مصوّبة إليه تماماً ، جاهزة للإطلاق ، العجلتان الأماميتان ترتفعان ، واللحم والعظم يمعسان ، والدم يشخب على الطريق المعبّد .

انتفض فاتحاً عينيه ، للحظات كان النوم قد سرقه ، لم يكن نوماً بالمعنى المفهوم ، بل كان نوعاً من الانهيار العضويّ والعصبيّ الناجم عن اشتعال الأعصاب حتى آخر مدى لها ، لكنّ اليقظة لم تكن أكثر رحمة من النوم ، كلّ شيء كان جليّاً لعينيه ، وكأنّه يحدث للتوّ .. كانت الشاحنة تقترب من الحدود ، حينما فاجأته الدورية المتحرّكة ..

-أوراقك .

تأمّل رئيس الدورية الأوراق والأختام ، وكادت الأمور أن تنتهي بسلام ، لولا حدوث ما لم

يكن في الحسبان ، إذ رفع أحد الطفلين رأسه ، فأبصر به واحد من رجال الشرطة ، وأشار إليه ، التفت الآخرون نحو جهة الإشارة ..

-من يكون !؟

-ابني ( وأشارإلى صدره )

تحرّك رئيس الدورية نحو العربة ، فلاح له الطفل الثاني ..

-تعالا .. تعالا .. من أنتما !؟ ومن أين أتيتما !؟

-لقد أعطتنا أمّنا لهذا الرجل ، و ....

شعر أنّ البساط قد سحب من تحت قدميه ، وقال رئيس الدورية :

-الآن !

 توجّهت فوهات البنادق نحوه ، وأنزل أحدهم الصغيرين ، تراجع " برهان" إلى الخلف

مذعوراً ، كانت إشارة رئيس الدورية واضحة ! إنّه يطلب إليه أن يدهس الصغيرين !!

-ولكن ياربّ الأكوان ! إنّهما صغيران ، فما ذنبهما !؟

 لقّم رجال الشرطة بنادقهم ..

-والآن .. هيّا !

وأشار برأسه الآمر نحو الصغيرين ، جامدة كانت الوجوه ، صلدة وعازمة ، إذّاك راح هذا

الجزء من الزمن يتّخذ معنى لايرحم ، فاستوى خلف المقود ذاهلاًً ، ألف فكرة أبرقت في الذهن ، ألف هاجس ، ألقى نظرة أخيرة على الجنود ، لكنّه لم يجد في عيونهم سوى الوحشية والصلف والتصميم ، وأنشأ الزمن يتناقص ويضمحلّ ويدقّ ..

أمّا كيف تناقصت المسافة بين الشاحنة والصغيرين ، وكيف راحت قامتهما تختفي خلف

مقدّمتها شيئاً فشيئاّ ، ثمّ كيف ارتفعت العجلتان مهشّمة الجسدين الغضّين ! وكيف انفجرت الشمس وتأوّهت الجبال ، وتسمّر الزمن ! فهو لايدري ! إذ كان يريد شيئاً واحداً ، أن يبتعد ، ويبتعد فقط !

بقوة شعر بأنّ معدته معلّقة في الفراغ , وأنّها – من كلّ بدّ – تروم تقيّؤ ما بجوفها ، كانت مقدّمات الفجر تتمطّى في صلب الظلام البهيم ..

" كان يجب أن ترفض تهديدهم ! كإنسان وككرديّ كان عليك أن ترفض ! "

ضرب يده على المخدة ، بينما كان جسده يتّقد بالحمّى ، وأنشأ ألم حارق ومبهم ينتشر من أسفل الجمجمة نحو العنق ، فأعلى الظهر ، مترافقاً بتصلّب لايطاق ، جمجمته فارغة تماماً ، فارغة لدرجة ما عاد يتذكّر معها كيف عبر نقطة الحدود إلى " قزالتبة" داخل الأراضي التركية ، ولا كيف اعتسف المسافة إلى بيته ، ضباب كثيف هبط على العينين ، وضريم اشتعل في الروح ، ذريرات الوعي انصعقت ، وأغلق عينيه للمرة الألف هرباً من يد الأمّ الملوّحة عبر المرآة العاكسة ، فداهمت الفوّهات المصوّبة إليه خلل الزجاج الأمامي الذاكرة ، أسند رأسه إلى حافة النافذة ؛ علّ الطاحون الدائرة في رأسه تتوقّف قليلاً ، ومن كلّ الجهات كانت عيون الصغيرين تجتاحه إمّا تلفّت ، وإمّا تلفّت كانت يداهما الصغيرتان تلوّحان له ..

نهض من فراشه !

-أنا قادم إليكما !

أغلق الباب الخارجيّ خلفه ، واندفع أهل الدار في إثره ..

-لن أسمح لأحد بإيذائكما ، لاتخافا !

تعثّر ، تمزّقت منامته عند الركبة ، وتعفّر وجهه بالتراب ، الأيدي الصغيرة تلوّح له ، نهض ، الصغيران يبتسمان له ، ابتسم ، ارتفعت العجلتان الأماميتان ، بكى ، امتدت يده المرتجفة مستنكرة ، واندفع خلف صورة الصغيرين إلى الأمام !

أضيفت في 05/03/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

                                     

 

 

أصداء

 

-1- 

وكان أنْ جاءت كتب التاريخ في متونها على ؛ أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) استفاق من قبره  البسيط ، المجهول  ربما ، فنفض التراب و الغبار عن شعره ولحيته !

 

لم يكن ثمّة وجه للشبه بين الرجل ذي الكفن الرثّ ، الذي اشتهر عنه ميله إلى الزهد في مأكله  و ملبسه؛ مذْ تسنّم سدّة الخلافة ، غداة أن توفّي أبا بكر الصدّيق ( رضي الله عنه ) ، و الرجل الذي كان ذات يوم من رؤوس القوم في بني عديّ ؛ إذْ كان ذاك لايقرب من اللباس إلا الخزّ و الحرير ، و لايخرج إلى الناس إنْ لم يتطيّب بالمسك أو العود أو العنبر ، ما يليق بموفد قريش المفوّض إلى امبراطوريتي الروم و الفرس .

 

كانت الحرب الضروس بين الدولتين تقطع الطريق على تجارة المشرق و المغرب ، فأخذ سفير مكّة – ذاك – يعمل على إبرام اتّفاقيات ؛ تيسّر السبل أمام قوافلها التجارية ، فتلعب دور الوسيط بينهما ، بما يضع حرير الصين وخزفها ، وتوابل الهند وبهارها بين يدي الفرنجة ، و ذلك عبر جزيرة العرب ؛ بعد أن تكون قد قطعت بحر الروم .

 

وراحت خزائن قريش تمتلىء بالبضائع من كلّ صقع ، و هيمنت قوافلها علىتجارة الشتاء مع اليمن السعيد ، وما يليه من طرق بحرية ، تصله بالهند و ما ورائها ، و تجارة الصيف الذاهبة جهات بلاد الشام ، فبلاد الروم و الفرنجة . وما كان الأمر بعيدا عن دور شخصيّ لرجل من مستوى ابن الخطاب .

 

وكان الخليفة الراشدي الثاني قد غادر المسلمين إلى الملأ الأعلى ، و هم بأحسن حال ، فلقد خلق من حفنة أعراب ؛لايحسب لها حساب ، كانت  قد اجتمعت  تحت راية محمد بن عبد الله ( صلّى اللّه عليه و سلّم ) ، دولة مرهوبة الجانب ؛ فقضى عل دولة الفرس ، وعمل على ضمّ العراق و أرمينّية وأذربيجان إلى الدولة الإسلامية الوليدة !

 

وجاء في التفاصيل : وكان التوفيق حليفه إذْ نجح في انتزاع بلاد الشام من أيدي الرومان ؛ غبّ المعركة الفاصلة ، التي وقعت عند ضفاف اليرموك ،  فكان أن وقف هرقل عظيم الروم يخاطب برّ سورية بأسى ما بعده أسى " الوداع ياسورية وداعا لالقاء بعده "!

 

ولمّا رفض أهل بيت المقدس من النصارى ، أن يسلّموا مفاتيح مدينتهم لأحد خلا الخليفة ، وذلك لما سمعوه عن حلمه و عدله ، ركب ابن الخطّاب إليهم ملبيّا، و كان ما كان من أمر الوثيقة التي تؤمّنهم على أرواحهم و أموالهم وعقيدتهم .

 

ثمّ أنّه استجاب لإلحاح ا بن العاص  ، ليقوم بضمّ بلاد الفسطاط ، بعد أن طرد الرومان منها أيضا!

 

هذا ما كان من أمر الخليفة ؛ الذي أحدث ديوانا للجند ؛ بعد تفكّر وتدبّر ، لكي ينظّم أمور الجيش ، و ذلك لإدراك منه بأنّ هذا الجيش هو ركن الدولة و حرزها ، ثمّ عمد إلى الأرجاء المترامية ؛ يقسّمهاعلى أصابعه إلى ولايات ، و يتخيّر من الصحابة من يراه أهلا لإدارة شؤونها ، فيوليه عليها!

 

كان العدل يهاجسه ، ومع العدل الرخاء و الأمان، فانتدب لكلّ مصر قاضيا مشهودا له ؛ بأنّه لايخاف في الله لومة لائم ، فيحقّ الحقّ ، و يبتّ في الخصومات ، ومن بعدها بثّ في ليل المسلمين العسس ، ليأمنوا على أموالهم و أرواحهم!

ولهذا نهض الرجل من موته مطمئنّا ، خلي البال ، فلم يكن ثمّة ما يشغل تفكيره – اللّهمّ – خلا سؤال صغير مؤرق ؛ يحوم حول السبب الذي حدا بأبي لؤلؤة إلى الغدر به ! سؤال آخر كان يلحّ عليه يتعلّق بظروف انتحار أبي لؤلؤة ! هل انتحر الرجل – حقا- خوفا من ابنه عبيد الله !؟لقد كان ابنه – ذاك - غائبا عن المسجد في شأن من شؤونه ، فمن أنبأ ه - و هو المعروف برعونته - بالخبر !، وكيف حضر ، ولمصلحة من دفنت الحقيقة مع جثّة القاتل !؟

واختتمت الكتب أخبارها بالقول : و على حافة قبره جلس الخليفة الجليل يعمل تفكيره في دلالات ما حدث !مغضبا كان وحزينا ؛ آن تقدّم منه فارسان ، تبدو على سيمائهما المهابة ، و كان أن بادراه بالتحية :

-السلام عليكم يا أمير المؤمنين !

ورفع الصحابي ّ الجليل عينين أسيّتين ، ثمّ تحامل على نفسه مرحّبا :

- من !الرشيد ، أنت !و أنت يا صلاح الدين ! وعليكما سلام الله و بركاته

 

-2 –

و أتت كتب التاريخ في معرض ما أتت عليه :

أنّ الرشيد كان أعرف الناس بشهوة السلطة على النفس البشرية ! فلقد اكتوى بنارها ، إذْ حاول شقيقه الهادي أن يخلعه عن ولاية العهد لمصلحة ابنه    ، و كان بخبرته الطويلة ، ودرايته بخفايا النفوس ، و مراكز القوى المحتجبة خلف مصالحها ؛ متدارية بلبوس الوصاية الدينية  ، أوبلبوس العصبية القبلية ، أو عبر استفاقة الحسّ الأقوامي  ، أدرى الناس بلعبة التوازنات الخفيّة ، فنفض عن جسده غبار الموت ، و اندفع خارج قبره الفاره ؛ المكسو بالرخام المجزّع ، و كان جلّ ما يشغل باله هو أمر تلك  الصحيفة ؛ التي عهد فيها بالخلافة – من بعده– لأبنائه الأمين فالمأمون فالمؤتمن  ، و أشهد عليها الفقهاء و القضاة وأكابر بني هاشم  وأمراء الجند ، ثمّ علّقها على جدار الكعبة ! 

وانسلّ نحو دار الخلافة ؛ يتسقّط الأخبار ،كانت بغداد قد تغيّرت كثيرا ، حتى كاد أن ينكرها ، و سرعان ما وقع بين يدي البصّاصين المنتشرين في كلّ مكان ، فاقتادوه إلى القصر ، و هم يسخرون من ادّعاء الغريب بأنّه الخليفة الرشيد ، فلقد توفيّ الرجل ، ودفنوه في باطن الأرض بأيديهم ! و ما إنْ وقعت عينا الابن – أعزّه الله – على أبيه ؛ حتى أخذته رعدة ، وأنشأ يرتجف كورقة في مهبّ الريح ، و نهض متعثّرا :  

-أ..أبتا..ا..ه !

و بصوت جهوري مستنكر سأله الأب :

-ماذا فعلت بشقيقك أيها الأمير !؟

وأدار ظهره لمجلس المأمون يروم الخروج ، فلحقه الابن موضّحا مستعطفا :

- أقسم أنّه هو الذي بدأالخلاف يا أبت ! لقد أراد عزلي ! لم أكن أريد قتله ، و لكنها إرادة الله ....لقد أراد  أن يعهد بالخلافة لابنه ! أنت نفسك عانيت من هذا ، و ...

وأمعن الأب النظر في ابنه ، ثمّ هزّ رأسه بأسى  قائلا :

-ولكنني لم أقتل شقيقي ! ثمّ  دعك من هذا كلّه ، فهل ستترك أمر الخلافة من بعدك لأخيك المؤتمن !؟ انّك تتدبّر أمر إسناد ولاية العهد إلى شقيقك المعتصم ، أليس كذلك!؟

فوقف المأمون مأخوذا ، فيما تابع الرشيد خروجه ؛ إلى أن استعاد الابن روح المبادهة ، فلحق بأبيه :

-إلى أين يا أبي !؟

و مرّة أخرى هزّ الرشيد رأسه ، بعد أن نظر في ابنه مطوّلا :

-وهل للميت إلا قبره !؟هذه ليست دنياي ، فانس الأمر ياولدي ! انّه القدر ...

و وقف المأمون في منتصف المسافة مذهولا ، بينما كان ظل ّ الأب المتطاول ينأى بابتعاده عن مصدر النور ، و يتلاشى !

 

-3 –

وجاء ت الكتب ذي الأوراق الصفراء في متونها ، أنّ الناصر صلاح الدين ، غبّ مقتل أسد الدين شيركوه  ، ووفاة نور الدين الزنكي ، أدرك – بحسّه الحصيف - أنّ المصاب جلل ، وأنّ  اللحظة الحاسمة للملمة شمل الأمة  قد أزفت ، فإمّا أن يلتقطها ، وعندها يكون لكلّ حادث حديث , وإمّا أن….! ذلك أنّ الدولة الفاطمية كانت تحتضر  ، و كان لابدّ من جبهة إسلامية عريضة تتصدى لهجمات الفرنجة ، الذين كانوا قد زرعوا أسافين أربعة على ساحل بلاد الشام ، كان آخرها أمارة بيت المقدس ، فلم يتردّد في القضاء على الفاطميين ؛ ليتسنّى له أن يوحّد برّ مصر وبلاد الشام في كيان واحد ، وليضمّ إليها – من ثمّ –الحجاز الشريف وبلاد اليمن ! 

وهكذا قيّض له أن يسترد أمارة بيت المقدس، وأن يثبت عبقرية عسكرية فذّة في موقعة حطين!  صحيح أنّ أولاده ماكانوا في مستوى الأخطار الجسيمة ، التي كانت تحيق بالمنطقة من كلّ حدب ، ولكنّ شقيقه العادل وأولاد شقيقه من بعده ، حملوا الراية ، وأقاموا دولة عظيمة الشأن ، بعد أن أجهزوا على ما تبقّى من الأمارات الصليبية ،  دولة سيظلّ صيتها شائعا على مرّ الأزمان!

وإذن ، فانّ الهواجس التي أبت أن تفارقه ؛ متمحورة في تفاصيل لاأهمية لهل ربّما  ، دفعته لأن يتخفّف من قبره ،  وينهض من رقدته خفيفا ؛ على أمل البحث عن أجوبة للأسئلة المزدحمة في الرأس كقفير نحل ، لاسيما بعد أن نأت تلك الأيام التي كانت تترافق بتأنيب في الضمير ؛ كان يساوره نحو بشر اجتثّ أحلامهم لحساب حلمه الخاص !

وعند الصباح حطّت راحلتة  رحالها عند إحدى بوابات القدس ، بيد أنّه بوغت بالتفتيش الدقيق الذي أخضع له على يد جنود غريبي الملبس والسحنة ، يعتمرون خوذا لم يألفها ، ويتنكبون أسلحة لم تقع عينه على مثيل لها!

" ولكنّهم لايتكلمون العربية !"- قال الناصر لنفسه – " فهل جاءت العرب بجنود من خارج الديار بقصد الحماية !؟ عجيب !  متى كان الغريب على استعداد لأن يبذل روحه رخيصة في سبيل بلد لا يربطه به أيّ رابط !؟"  تفكّر.." ما الذي يحدث !؟ وكيف !؟ حماس .. الجهاد الإسلامي ، وفتح ، وهذا الجدار الملعون الذي يفضّ من الأرض بكارتها ! ثمّ أين هم العرب من هذا كلّه ، وكيف تفرقوا في جهات البلاد شيعا ومللا !؟ لماذا لم يتعظوا من تأريخهم ، من تجربة محمد علي باشا مثلا ، أو من خيبات الشريف حسين المتكررة !؟ ولماذاخدعت الحكومات شعوبها ، وتحايلت  على هزيمتها في حزيران تحت مسمّيات عجيبة كالنكسة  ! أو أنّ الانكسار في  معركة لايعني خسارة حرب !؟ لقد استرددنا الأرض ، فكيف فرّطوا بالجولان  وجنوب لبنان والضفّة الغربية !؟ ولماذا تماهوا بالآخر هذا التماهي كلّه!؟"

الأسئلة تلو الأسئلة كانت تجتاح الكيان المبهظ بالوقائع،  الكيان الذي أعلن يوما بأنّه لم ينتصر بسيوف جنوده ، بل بعقول علماء الأمة ومفكّريها !

كان الإسرائيليون قد أطلقوا سراحه ، بعد أن تحقّقوا من أنّه لاينتمي إلى أي جهة ! فهام على وجهه في الأزقة ، كلّ ماحوله كان موغلا في جسد الغرابة ! الأزقة التي تفصح عن بؤسها بلا استحياء ، الوجوه المتشحة بشجن عميق ، والنفوس المنطوية على هواجسها وأسرارها الدفينة! " من قال أنّ الأمر ليس دائرة مغلقة ، متأبية على الفهم ، ملغزة من كلّ بدّ ! " تفكّر ،  وعلى حين غرة اجتاحته الجموع الهاربة ، كان الرصاص يئزّ من حولها ، ولا سلاح إلا الحجارة ، ذاهلا عن نفسه كان ، غريبا عمّا يجري ! عندما أمسك طفل بذيل ثوبه  ..

-يللا ياعم .. هذول الصهاينة ممكن يكتلوك !

-لماذا!؟

-معاهم فش اشي اسمه ليش ، يللا ياعم .. يللا بسرعة !      

وانقاد الناصر لمنطق الطفولة البريء ، أمّا مصطلحات من مثل التطبيع وعرب أوسلو أو عرب أمريكا أو الأرض مقابل السلام أو السلام " العادل "  ، كامب ديفيد وطابا ومحادثات الكيلو مئة وواحد، فلم يسمع بها إلا من ذوي الصغير ، وبمقدار ماأغضبه موقف العرب ؛ بمقدارما أعياه الفهم ، كان ما يدور من حوله يفوق طاقته على الاستيعاب ، فاستأذنهم في الرحيل مع هبوط الظلام !

-ولكن التجوّل محذور ياعم !

 

-سأجد وسيلة ما للتخفي !

ونظر في عيني الطفل طويلا ، كان الرجاء الحار يلوب في بؤبؤي الصغير ، فمرّ بيديه على وجنتيه الغضّتين؛ تمسحان دمعتين عزيزتين على قلبه ، وسأله :

-لم تقل لي اسمك يابن أخي !؟

-عرفة .. بكولولي عرفة ياعم !

 

-4-

ثمّ أنّ غيمة من التسآل لفّت الرجال الثلاثة ، كانت وجوههم المتجهمة تشي بتفكير عميق ، وكانت الهواجس تحوم فوق رؤوسهم جارحة وحادة أن : "كيف وصل الحال إلى ما وصل إليه !؟ ".."أين أخطأنا !؟ وماهو الخطأ ، وما هو الصواب !؟ ومن الذي يحدّد هذا من ذاك ، وما المرجعية ، أو – حتى – المنطق في التحديد !؟

 مستغرقين في بحران حيرتهم كانوا ، فما تنبّهوا إلى الراجل المهيب الذي راح يدنو منهم على عجل ، وهو يمسح عرقه قائلا :

- أتسمحون لي يا أمير المؤمنين _ من بعد السلام _أن أشير إلى أنّ السبب يكمن ربما في أنّ العرب افتقدت العصبية ، فتفكّكت الأمة ...

-ابن خلدون!

-ابن خلدون !؟

-ثمّ أنّ العرب....

-على رسلك يابن خلدون – ورفع ابن الخطاب يده – ولاتنس أنّ التاريخ لم يقل كلمته فيك ، ذلك أنّ اللغط الذي أثير حول دورك في تسليم مفاتيح دمشق إلى الخان تيمورلنك ما يزال قائما ! صحيح أنّك هربت منه غربا في ما بعد ، بيد أنّ الصحيح – أيضا – أنّك وافقت على أن ترسم له مسالك المغرب وممالكه ، إن محنتك هي محنة العالم ياصاح !

وهيمن صمت ثقيل على اللحظة ! ساهما كان الناصر صلاح الدين كما الرشيد ، إلى أن همس الأول كالحالم ، من غير أن يتّضح ما إذا كان يسرّ للآخرين بسرّ شخصي ، أم أنّه يشي به لنفسه ..

- أيّها السادة .. لقد انتهى دورنا .. إنّه زمن عرفة ربما .. ربما !

أضيفت في 13/01/2006 /خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

هواجس شخصية

                                     

 قصص قصيرة

(أغامر بتفسير : الكتابة هي الملاذ الأخير لمـن خـان)   جان جينيه

(ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرحٍ أو علاجه ، وإنما إعطاؤه معنىً وقيمةً ، وجعله في النهاية لا يُنسى ) آني إرنو

 

 

بداية النهاية

إذن فهي النهاية يا حسن ! وها أنت تقف في حضرة الموت عجوزاً متداعياً و سقيماً ، فيا لها من نهاية  ! سبعون عاماً ! سبعون عاماً تشكّل خطاً مستقيماً  بين قطبي الولادة والموت ، وعلى حواف هذا الخط تناثرت الرغبات والأحلام المنكسرات ، فيماتناهبت الخط نفسه الهواجس والأحزان الصغيرة ، سبعون عاماً من الإقدام الإحجام ، من الاندفاع والانتظار والترقب ! وهاأنتذا بعد سبعين عاماً ‘تفاجأ بأكثر الحقائق ثباتاً في حياتك :

الموت !

ردح مديد من الزمن ليكتشف المرء – في آخر المطاف – أن النصر ترب الهزيمة في معركة كهذه !

أية حماقة يا رجل ، وأية عذابات ! ؟ فأن تحمل صليبك من سـورية إلى فلسطين ، ومن فلسطين إلى العراق ، إلى ايران ، لتعود في النهاية إلى سورية ، من غير أن تنسى المرور بتركيا ، حماقة ما بعدها حماقة ! وإلاّ فما الاسم الذي تقترحه لمعركة تستمر سـبعين عاماً في سبيل رغيف من الخبز ، وينأى ! ؟ أن تشتد قامتك للنهوض مع بداية قرن ، وهاهي تكاد تناطح نهايته ، ثّم ربي كما خلقتني  !

حسناً ! بمَ تجيب السائل عن هذه الرحلة !؟

أتقول : في واحدة من  لحظات الغفلة تكاثر الأولاد ، وانفتح عليك ألف باب !

رباه ! وأي أولاد !؟ في الدراسة وما أفلحوا ، ولم يثبت أحدهم في عمل أكثر من أشهر معدودات ، وحين انكسرت فقرات العمر ، وألجأتك الحاجة إليهم ، ما وجـدت فيهم معيناً ! حتى الوحيد الذي نجح في الدراسة ، حمل شهادته ، ومضى بعيداً ! بينما لم توفر – أنت – عملاً من أجلهم ! فكم مرةٍ خاطرت فيها بحياتك أيام ( العصمنلي ) مع تبغٍ مهرّب ! وكم تحملت برود الإنكليز وجشع اليهود عتالاً في حيفا ! وكم مر بك عرب وعجم لتخدمهم في فنادق حلب ودمشق وبيروت ! وكم فجرٍ نديّ آنَسَك على الدروب (حواجاً) وضيعاً ! ثمّ لا تسل عن مسح الأحذية في بيروت وبغداد ودمشق ! و .. أوه … ماذا تتذكر لتتذكر !

أم تقول : خذلني زمني !

وهل انتصر أحد على الزمن !؟

حتى الذين خالوا أنهم انتصروا ، اكتشفوا – في النهاية – بأنهم واهمون !

وتردف بمرارة :

هاتوا دلّوني في أي جذرٍ النخر يكمن !؟

وسيقول لك البعض :

هكذا كُتب عليك وقُدّر !

وسيقول لك آخرون :

أخذت الأمور بجدّ فأخذتك بهزلٍ !

أخذتها بجدّ فأعطتك فرطاً في التوتر الشرياني ، وتضخماً في القلب ، والتهاباً في البروستات ، وقصوراً في الكليتين ، وارتفاعاً في نسبة السكر و ( الكوليسترول ) ، وقرحة في المعي الغليظ ، وأولاداً كثراً ، وخلافه ! وأخيراً ، هاهي النهاية تأزف ، وزهد الشيخوخة التي تستعد للموت يحلّ ، ولا أحد ! الأصدقاء تفرقوا – فرادى -  على مراحل ! الذين كانوا يحيونك امتنعوا عن التحية ، والذين التقوا على مائدتك مراراً يجدونك اليوم مبذراً ، كلّ نقائصك تجلّت  للعيون اليواقظ المفترسة ، وأكثرهم بلاهة كان يتنبأ لك بهذه النهاية ، فلقد أفلست ، وآنَ للجحود النافذ الصبر أن ينكأ الجراح ! ثم إذا كان أولادك الذين تحدروا من صلبك يتصرفون على هذا النحو ، فما الذي تتوقعه من الآخرين !؟

أي فوات !؟

أن يخسر المرء معركة فلا بأس ، ولكن أن يخسر حياة كاملة ، ولا يشعر بتلك الخسارة إلاّ بعد فوات الأوان ، فتلك مصيبة ! والآن ! لمن تترك هذه الزوجة التي رافقتك زمناً يربو على نصف قرن !؟ هذه الصابرة التي جاعت كي يشبع الأولاد ، وعرت كي يلبسوا ، وسهرت كي يناموا ! أي صمتٍ سيرين على غرفتها !؟ وأية لقمة مغموسة بالذل والهوان تنتظرها فيما أنت عاجز وأعزل !؟

 

 

 

انكسار الحلم

أية حياة هذه التي نحياها !؟

طفولة موسومة بالنقص والحرمان !

وشباب مترنح بين مقاعد الدراسة الباردة ، وقصور الأهل الأبدي وفرص العمل النادرة ، فهل هذه حياة !؟

ثم – يا أخي – ماذا ترك لنا أهلونا !؟

وحيدين تركونا في هذا التيه القاتم والعدواني المسمى مدينة ، حيث كل فرد يحمل مؤشره الخاص ، ولا أحد يشعر بمن حوله ، أو يدري من أين تأتي الأشياء ، وإلى أين تذهب ! وها سنوات العمر تتبدّد من غير منفرج ، فيما لم يورثني أبي من الدار وقطعة الأرض الصغيرة إلاّ فراشاً ولحافاً !

لماذا !!!؟؟

لقد أكملت دراستك – قالوا – ولست بحاجة إلى شيء سواها ! طبعاً أنا أستطيع أن أطعن في وصيته ، بيد أن الموضوع كلهّ ليس بذي جدوى !

ولكن هل تظن بأن أشـقائي كانوا عوناً لأمهم بقية أيامها !؟ حتى شقيقي الأصغر الذي انتقل للعيش معها ، عاملها بدءاً بالحسنى ، بيد أن عيوبها تكشّفت دفعة واحدة لزوجتـه ، مع آخر قرش نهباه منها ! فهل حرّك البقيـة ساكناً  !؟ واليوم ! هاهي العيون المعاتبة تطالعني بالسؤال :

لِمَ لا تحضر أمك لتعيش معك !؟

حسناً ! أليس من حقي أن أتساءل ، بأي منطق يطالبونني بذلك !؟ بمنطق أنني درست ، وان أشـقائي لم يفعلوا !؟ اللعنة ! لقد سرقت هذه الدراسة خمساً وعشرين سنة من عمري ، بينما استولت خدمة العلم على ثلاث سـنوات أخرى ! وها أنا بعد ثمانية و عشرين عاماً لا أملك من هذه الدنيا شيئاً خَلا هذا الراتب الذي يكاد لا ينهض بأعباء الأيام العشرة الأولى من الشهر !

فمتى يكون لي بيت مثلاً !؟

ومتى أتزوج مثل بقية الناس !؟

أنت تعلم أن أية فتاة – في هذه المدينة – لا تقبل بأقل من طبيب زوجاً ، أو مهندس ، ولا تسل عن أحلامها في بيت كامل الأثاث ، وسيارة ! فماذا نملك نحن من كل هذا !؟ ما الذي لنا في هذه المدينة الملعونة غير الحسرة والأحلام التي لا تجد لنفسها سنداً في الواقع !؟ كتباً ! أشعاراً ! أمسيات من الثرثرة حول الوطن والثورة والثقافة والتجارة ،لنكتشف في النهاية أننا حالمون ! مهزومون من قبل أن نبدأ ! وأن حياتنا مُختزلَة إلى مجرد انتظار للإخفاقات المتكررة !؟

يا للأهل الذين أمضوا حياتهم في التراب ! في التراب وُلدوا ! وفي التراب عاشوا حياتهم ، وقضوا في التراب ، من غير أن يتفكّروا – يوماً – في مستقبل الأبناء الذين أنجبوهم ! فإذا داهمهم الكبر من قبل أن يحسبوا له حساباً ، أنشأوا يذكرونك بما صرفوه في تربيتك من عرق ودموع ونقود ! متناسين أنهم هم الذين أنجبوك !

ثم أن المشكلة – أساساً – تكمن في المسافة بيني وبين أمي ، في الطريقة التي ينظر كل واحد مناّ بها إلى الأمور ، وهي – في وهمي – مسافة غير قابلة للتخطي ! فأنا أحاول أن أقتنص من هذه الحياة الملعونة ما يتاح لي من لحظات ، كأن أسافر قليلاً ، أو أقرأ شيئاً من الشعر ، وقد يعن في البال قدح من الخمر ، فتكفهر الأجواء بيننا ، وتظل تذكّرني بالحلال والحرام ! وربما زارتني صديقة ، لكن أمي امرأة متزمتة ، تشكل عبئاً على حركتي ! كنت أتمنى أن تكون المشكلة (محض) مادية ، إذن لكنت أسهمت مع أشقائي في مصروفها ، على ما يشكله هذا الإسهام لي من عنت ، إلا أن هذه الأمنية -كغيرها من أمنياتي -لن تتحقق !

 

الشاهدة

هل هانت عليك العشـرة حتى تركتني هكـذا وحيدة و مهجورة !؟ ولمن !؟ الأولاد وتفرقّوا من قبل وفاتك ! ليتهم  -فقط – حضروا جنازتك ! ليتهم اجتمعوا من حولي معلنين – ولو كذباً- أن لا شيء في حياتي سيتبدل بعد موتك ! أو تساءلوا عنّي بين الفينة والفينة !

فهل كان ثمة تقصير منّي في تربيتهم !؟

أما حملتهم على صدري أطفالاً صغاراً !؟

أما سهرت الليـالي الطويلة بجانب أسرّتهم ، أسقيهم الدواء ، وأغطيهم إن تكشفّوا كي لا يطالهم البرد !؟

إذن ! فهل لك أن تفسر لي صمت ابننا الأصغر حيال تذمّر زوجته من عيوبي ! أنت تذكر ولا شكّ أن ابننا – هذا – تأخر في المشي ، وأنني بذلت في العناية به أضعاف ما بذلته لأشقائه ! ولو أن الأمر اقتصر عليه لهان ! طبعاً أنت لن  تصدّق بأن ابنتنا الكبرى اعتذرت عن عيادتي متذرعة بأطفالها وزوجها ، بينما ادعت الصغرى بأنها مريضة أكثر منّي ، وأنها تحتاج إلى من يعتني بها ، فكيف لها أن تعتني بالآخرين ! تصّورْ ! الآن فقط أصبحنا آخرين !

قالوا : القسوة من سمات الذكورة !

ولكن ماذا عن البنات !؟

قالوا : لا بأس !

ولم نكن نملك إلاّ أن نهزّ رؤوسنا بأسى !

وقالوا : إنهم جهلة ، فماذا نقول لهم !؟

ولكن هل كناّ نفك الحرف يوماً !؟ ثم هل اختلفت الحال مع المتعلّم فيهم !؟ ستكذّبني إن قلت لك ، إنه يتهمنا بالجهل والتخلف ! ويدّعي أننا لم نكن نفكّر فيهم ، ولم نترك لهم شيئاً يواجهون به العالم ! فهل كان علينا أن نلتفت إلى أنفسنا حتى ننفي عناّ صفة التخلف !؟ لقد ضحينا في سبيله بلقمتنا ، فكيف نسي ليالي الشتاء التي كان يفاجئنا فيها ، ليمتص ما في جيوبنا من نقود ، ويسافر في صبيحة اليوم التالي ، فإذا طلبنا إليه البقاء يوماً أو بعض يوم كي نشبع من رؤيته ، احتج بدروسه !؟

إنه يشعر بالعار من انتمائه إلينا يا حسن ! فهل ثمة ما هو أقسى من شعور كهذا !؟ أهناك ما يجبره على الإقامة في المدينة ، في حين أنه يُعلمّ في قريته !؟ أنت لن تصدقني إذا قلت لك بأنه يضّن عليّ بلحظات يزورني فيها بعد دوامه !

ولكن بالله عليك لماذا لا ترد عليّ !؟ أنت لم تُفاجأ كلياً بما أنبأتك به ، أليس كذلك !؟ إنهم أولادك ، وأنت تعرفهم جيداً ، فإذا تفكّرت قليلاً أمكنك التنبؤ بشيء من هـذا القبيل ! ربما تساءلت مستنكراً : أإلى هذه الدرجة !؟

إذن مـاذا لو خبرتك عن البرد الذي ينخر عظامي ويفتّتها !؟ ماذا لو كلمتك عن الصمت الذي يجلّل أيامي بالوحشة !؟ ماذا لو حدثتك عن الوحدة التي ترين على لياليّ الطويلة ، وتشيع فيها المرارة والخواء !؟

ولكن أي جدوى !؟ فلقد فات الأوان ! نعم ،  فات !

 5/4/1995

 

 

مأساة ((ممّي آلان))

 

الليلة الأولى

أنّ الراوي قال :

فلما نأى ذلك اليوم البعيد – الذي قـاد فيه العسكر ( ممّي آلان ) إلى ( السفربرلك ) – عن الذاكرة الواهنة لأمٍ أضناها الفراق ، جفاها النوم ، وهجرتها الطمأنينة ، وعلى قلبها والعينين ران تأرّق عنيد ، فخرجت إلى صحن الدار تناجي طيف وحيدها الغائب ..

أيتها الذرى الذاهبة – بعيداً- في السماء ، أيْنَهُ !؟

لا تهزي أكتافك المتدثرة بالخضرة ، لتقولي لي – من ثمّ – بأنك لا تعرفين ! فلقد خالسَني يوماً ، وانحدر نحو أقدامك على صهوة جواده الكميت !

أيتها الشعاب والغيران الغائصة في ضباب الصباح ، بالله عليك دلّيني ، أين أخفيت (ممّ) ، ولا تنكري على أمٍ ملوّعة سندها الوحيد وفلذة كبدها !

أيتها اللغة  التي تفيء إلى الصمت ، ألست شاهدة على أنك كنت قد أعرته  أجنحتك الشفيفه لحظة أن رحل ، فإذا تغافلت عن توسطك في ما بيننا آنئذ ، فلا تذهبي إلى أنك ما كنت الكلمات الغميسة بالأسى ، حين قال : ولكنني سأعود يا أماه !

وأنت أيها ( السفر برلك ) ! أما آنَ أوان أوبته !؟ لكم أنت كتوم أيها (السفر برلك) كليل داج ! لكم أنت مؤلم مثلما خراج – في الجوف- ينـزّ !

آه أيها ( السفر برلك) ! هي الشـيخوخة تخلخل العمر ، مبعثرة سنواته المثقلة بلوعة الانتظار ، وتبحث عن يدٍ حانية تفيض بين أصابعها الروح !

 

مقدمات الليلة الأولى :

وقال الراوي : وكانت الأم تجهل أن (ممّوها) قد عاد ، غبّ أن دخل الليل نصفه الأكثر صمتاً ، وأسبلت المساكن جفونها !

أما لمَ لمْ يسع (ممّ) إلى أمه أولاً !؟

وما الذي دفعه لأن يتسلل إلى الدار من الباب الخلفي ، ويندسّ في فراش زوجته ؟!

هل كانت الزوجة تعرف بأنّ حماتها جالسة في صحن الدار ، تناجي صورة ابنها   البعيد !؟

أم أنّ (ممّ) كان يدفع الأقدار حتى ترتسم بالطريقة التي اتفق وقوعها بها !؟

فإنّ الراوي لم يكن يملك إجابات شافية لهذه الأسئلة ، لذلك فإنه تجاهلها ، وعاد يسهب في الكلام عمّا يعرفه ، مردفاً :

وكان به شوق عارم لرؤية والدته وزوجته ، لكنه آثر أن يؤجل لقاء أمه إشفاقاً على عمرها ، فهل كان (ممّ) يعلم أنّه بذلك يحرف ليلته الأولى – هذه – عن مسارها ، لتتّخذ سمتها باتجاه أن تكون ليلته الأخيرة !؟

 

تفاصيل الليلة الأولى :

أما الزوجة ، فتقول في معرض ما وقع من تفاصيل في الليلة الأخيرة :

ما إن دخل (ممّ) عليّ ، حتى شعرت بأن ليلاً غامراً – ظلّ ينيخ بثقله على الأعماق لسنوات سبع – ينـزاح عنها ، وأن غصناً – كنت قد توهمت بأنه يبسَ – شرع يزهر فيها !

الليالي  الطويلات المتقلّبة بين قطبي القلق الممضّ والحنين ، تراجعت إلى حجمها وزمنها الموضوعيْين ،

والجسد الذي ثار على الفوات والخسران آناء الليل وأطراف النهار هدأ واستكنّ !

والأشواق التي بثثتها له مع خفقات الأجنحة والرسائل ، اجتمعت  إلى بعضها جذلى ، حتى لكأنها كانت – حقاً – السبب في عودته !

شيئاً فشيئاً ، كانت المفاجأة المذهلة تلج سياقها ، ومعها كانت الألسنة التي رمتني بالسوء في غيابه ، والمحاولات التي رامت زعزعة علاقتي به ترتد إلى أصحابها مدحورةً !

قمت !

إلى أين !؟ قال ، فقلت :

أزف البشرى إلى أمك !

لكنه قال :

هي امرأة طاعنة في السنّ ، فدعي البشرى إلى أن يستيقظ الصباح !

زهرة دانية للقطوف كنت ، وكان (ممّ) نحلة تطوف بفوافيّ ! وكصحراء قاحلة تفاجأت بالمطر أنشأت  أرتشف الهتون الزاخر الأعطاف بما اختزنه من توق دافق !

كان يكرّ ، فأجاريه بشغف شهوي وأفرّ ، ثم يناله التعب ، فيتراجع مفسحاً لي المجال لأداور وأناور وأكرّ !

وكانت ليلة سكرى بالأشواق وعبيق القبل ، حتى إذا أخذ الإرهاق منه كل مأخذ ، انقلب على ظهره ،وراح في نوم عميق !

 

إضافات على الليلة الأخيرة :

بينما أضاف (ممّ) نفسه ما يمكن أن يعدّه الراوي إضافات تضيء ما قبل الليلة الأخيرة ، وليس ما بعدها ، إذْ قال :

كانت السنوات تمرّ ثقيلة ، بطيئة ، ومضنية ، كنت خلالها رهين إحساس مرمض بأنني عود أصابه اليباس ، أما عدوي الأكبر – إذا استثنيت الذاكرة – فكان يتلخّص في كلمة واحدة هي ( الزمن ) !

صيف أحمق ، يليه شتاء أرعن ، وخريف أعجف ، يليه ربيع لا يشبه الربيع في شيء ! فلا تسلني عن البلدان الكثيرة التي قادتني قدماي إليها ! ولا تسلني عن قطعات (الانكشـاريـة) المختلفـة التي قاتلت معها في (البوسنة ) و ( اليونان ) و ( كريت ) و (قونيـة) !

يا الله !كم مرةٍ اكتسى الموت فيها شحماً ولحماً ، وواجهني ، ولكنني لا أعرف كيف أفلتّ منه ! وكم فجرٍ مكحّل بالغبشة تفكّرت بأنه الفجر الأخير الذي أشهده ! وكم شاقني توق لا يحدّ إلى أمي وزوجتي ! وكم هزني القلق عليهما في غيابي ، فيما الذاكرة تنشق عن إدراك حادٍ ، بأن لا أحد لهما يعتمدان عليه من بعدي ، فيتضاعف قلقي ، وتروح الأسئلة تقضّ مضجعي متمحورةً في متى ، وكيف !؟

كلّ شيء كان يناديني ! حجارة الوادي الصماء التي ألفتني لكثرة ما اعتليتها ، قزعات الغيوم التي كانت تظلّل كوخنا كل حين ، الثلج الناصع البياض الذي كان يجلّل هامات الجبال من حولنا ، حقلي الصغير ، وقطيعي ، وقبضة محراثي القديم ، أنسام الروابي الوانية ، وكنت قد يئست من العودة !

ولكن الفرج أعقب اليأس على غير موعد ، فرحت أسابق النَفَس إلى أهلي !أن أفوق العين في رؤيتها ، أو أستعير من الطير جناحيه ، وأحمّل الريح البشرى ، تلك كانت – لحظتها – أمنيتي الأولى والأخيرة ، إلى أن وصلت ، فأية فرحة !

 

خاتمة الليلة الأخيرة :

ثم أن الفجر أخذ يتوّغل في جسد الليل البهيم ، وما من مجيب إلاّ الصدى ، ما دفع بالعجوز إلى أحضان إحباط ضاغط ، كان البرد قد فعل فعله في الجسد المتهدّم ، فاستدارت نحو الباب لتدخل ، لكنها تفاجأت بما رابها !

أيتها الآلهة صبّي غضبك على هذا الكون المُدنّس !

فمن هذا النائم في فراش (ممّ) !؟

رباه ! أية امرأة تستطيع أن تخون رجلاً كمثله !؟

وقال الراوي : ثمّ أنها انتضت خنجراً ، كان (ممّ) قد تركه بحوزتها ، وتقدمّت من الفراش تقدم مرجل يغلي بحقد دفين .كان شعر الزوجة يغطي وجهه ، فلم تتمكن العجوز من معرفة ابنها ! كل شيء من حولها كان ينضح برائحة الخيانة ، يغوص في مستنقع القذارة ، ويدفع إلى أعتاب الهذيان ، بله الجنون ! عالياً رفعت الخنجر ، مستمدة من سنوات الانتظار والقلق قوة لا تعرف من أين واتتها ، وهوت به على صدر الرجل مرة ، لكنّ الأتون المتقدّ في أحشائها لم ينطفىء ، ولم يسمح لأذنيها الموشكتين على الصمم بالتقاط حمحمة حصانه ، فهوت بالخنجر ثانية وثالثة ، مدفوعة بغضب أهوج يسوط الأعصاب ويفتّتها ، ثم التفتت نحو المرأة الشابة ، ورفعت الخنجر بكرب ، بيد أنّ الصهيل المتألم تمكن – أخيراً – من اختراق أذنيها ، فتوقفت اليد في منتصف المسافة ، وخفت إلى الباب بتعثّر …

رباه ! لو أنّ هذا العالم الداعر ينفجر !

لو أنّ هذا الزمن الموبوء يتشظىّ !

لو أنّ هذه اليمين المخضبّة بالدم تُشلّ !

ترنحت الأرض ، ومادت ، وغامت الدنيا في عينيها ، فتهاوت على ركبتيها جاثية !

آه أيها العالم ! أي خواء يملؤك !؟ وأي جدوى !؟ أي رجاء يُنتظر بعد !؟

كان جواد (ممّ) يرفع قائمتيه الأماميتين محمحماً بغضب ، كمن يعتزم أن يتسلق حبال الهواء ، ويضرب بسنابكه الأرض ، يحفرها محاولاً التخلصّ من لجامه ، ومن كلّ موضع في جسده كان العرق ينـزّ ، بينما كان صهيله يشقّ عنان السماء !

وا ا ا ا  ممّو و و و ه ه  ه  !

سقط الخنجر على الأرض ، وانتشرت صرخة العجوز التي هوت فوق الثرى  في الجهات الأربع

 

 

 

 

رائحة الدم

 

1-إحـالات:

والآن ! هل للبكاء كبداية احتجاج جدوى ، ليحكي- من ثمّ – حكاية تلك الأمسية الصيفية الحزينة! ؟

أية لحظات راشحة بالحزن ورائحة الدم راحت تنـزّ على الحواف آنئذٍ !؟ وأية بدائية وحشية نجحت في الإفلات من قمقمها الثاوي تحت طبقات من التهذيب الُمدجّن والكاذب ؟!

هل كان لحرارة آب ثمة علاقة بخروج الأعصاب عن مدارها الهادئ ، وولوجها مدار الجنون  !؟ أم هو الليل يوقظ في الروح أحزاناً  بلون البنفسج ، ويهيّج حنيناً إلى القتل كان غافياً تحت ستار من التماسك الهش والمخادع!؟

هل كان ثمة حبل سري بين فورة الدم تلك ، وبين ما يُسمّى بالعرق أو الوراثة !؟                                                                       

المنظر الماثل أمام عيني ليس حلماً ، لكّنه أكثر رعباً من أن يكون حقيقة للذاكرة المتشظية ، وكّل ما يبدو كلوحة فانتازية لفنان مهـووس  ، يلوح كثيفاً ، لزجاً لزوجة دمٍ فاسد ، وها العودة إلى ما قبل الخراب العميم ، إلى ما قبل اختـلاط المحيـط الممعـن في استثـارة الأعصـاب الموتورة ، تبدو مستحيلة !

2- الأسئلة :

كيف وصلنا إلى المفترق الصعب !؟ ومتى احتكمت اللغة بيننا إلى الصمت النفور !؟ كيف انهار كل شــيء في وضح النهار ، وبلا استئذان !؟ 

شيء ما في محيط العمر كان يضمحل ويموت ، لانقسام في الخلايا ، أو تلوث في الدم الموروث ، وكل المؤشرات كانت تشي بفجيعة أكيدة ، فكيف لم أنتبه إلى أنه كان – هذه المرة – مختلفاً !؟

كان جو الغرفة مشحوناً بالتوتر ، وما كان بالإمكان إعادة الأعصاب المشتعلة  إلى سـابق هدوئها ! وحين تقدّم مني كان ثمة إحساس ُمبهم بأن الأوان قد فات ! كان هذا واضحاً في شرايين العينين النابضتين بالاحمرار والغضب ، في الارتجاف الغريب الذي سيطر على اليدين ، وفي الصمت المريب المرهص بنشوب عاصفة !

فُجأة غام كل شيء ،  حسّ المباغتة سبق حسّ الألم ، فترنّحت ، ومن الوريدين المنفغرين للتـّو على جرح عميق ، انبجس الدم ملطخاً الجدران والأرائك والأرضية ، ثم أخذت الموجودات تغيب عن بصري !

 

3- في الذاكرة المنقسمة:

حين وقعت عيناي عليها ، انساب في القلب جدول خلتُ أنه قد جف !

قلت :

( سيكون بيني وبينها شأن ) !

وكان !

في الأيام التي تلت لقاءنا الأول ، استفاقت الأحلام الهاجعة  في قرارة من الذاكرة ،  عن فتـاة شبيهة بحقل عشب ، فتاةٍ حلم  لطالما استعادتها المخيلة  توقاً مفعماً بالمسرات الغامضة والسرية ! واختتم الزواج خطبةً  قصيرة تمّت على عجل ، تخلّلها حفيف ثمل يشع بجذوة لذيذة وآثمة ، تحت ضغط من التربية الزميتة .

هادئاً ، كتوماً ، وربماً مسرعاً بعض الشيء راح الزمن يخب ، وما كان التكهن – بأن هذا الهدوء  هو ذاك الذي يسبق العاصفة – في مدى الرؤية أو الإدراك  ، إذْ سرعان ما تبخرت الصورة المورقة عن امرأة مُضوّأة بالنور والعنبر ، سيُكتب لها أن تندغم بفقرات العمر لحساب اليومي المقيت والمعاد !

واليوم  ، فإن تحري الملالة التي انسربت – في الخفاء – إلى مكامن النفس ، تبدو مهمّة عصية على الاستقصاء المتأني والهادئ ، إلا أنّ خراجاً صغيراً في العمق أنشأ يكبر ويتقيح ! بسبب من التكرار الممجوج ربما ، وربما بسب من القصور العام في الأشياء ، أو لأن نمط الحياة انقلب كلياً  إثر الارتباط بكائن آخـر ، فتدافع الخلل إلى نبض الدم ، واستيقظت جرثومة السأم وسوء الفهم والتحول ، لتبعثر رموزي وتاريخي الشخصي المحكوم بالرتابة ، ولتغتال – من ثم – طقوس الوفاء والأحاسيس الحارة ، ما كسـر الصبوة ! فهل لليقين بأنها أضحت ملك يميني دور في ما آلت إليه الأمور  ، أم هُمُ الأولاد تأخروا في المجيء ، فانكمشت المشاعر منطوية على عجزها بانكسار  !؟ ذلك أن الإنسان يظل – في النهاية -   إنساناً ، وهذا كل شيء !؟

ولكن لماذا أخذت زوجتي تثقل عليّ بمطالبها !؟ تفكرّت بمرارة ، أهو الغلاء الذي ما فتئ يستاف دخلنا بلا رحمة  !؟ داخل مدار الصدمة أخذت أتساءل ؛ إن كان لأجرينا اللذين بديا عاجزين عن تلبية احتياجاتنا – غب الأيام الأولى من الشهر – أثر في تداعي ركننا الوادع ؟ بيد أن الأمور اختلطت عليّ ، وفي لجة التخبط تلك ما  عدت قادراً على التفكّر أو التمييز !

المهم في المسألة أن أحداً ما كان معك ، ثم لم يعد ، تخلف أو خان ! ممّا دفع موجعات الحزن لأن تتنامى !  طبعاً أنا لم آبه كثيراً بالبنطال البالي الذي ما عدت قادراً على استبداله ، ولا بالجوارب المرفوة في أكثر من مكان ، ولأكثر من مرة ، لكّن أكثر ما جرحني في العمق تبدّى في عجزي عن التحصل على علبة من لفافات التبغ أحياناً ، أو غياب فنجان القهوة أو كأس الشراب عن منضدتي ، شبيهاً بأن تحشر امرؤاً في مضيق الموت كان الأمر ، ففقدت مقدرتي على الرسم ، وبقيت اللوحة المعلقة على حالها عند تخوم التأسيس !

أما متى ضربتها لأول مرة ، فأنا لم أعد أتذكر على وجه التحديد ، مستثاراً كنت ، جاهزاً للانفجار كقنبلة موقوتة  عند أي مطلب أو كلمة أو – حتى – إيماءة ! بعد أن توالج الشجار بحياتنا ، وعشّش فيها كطحالب ضارة !

وبكت ليلتها كما لم تبكِ من قبل ، فاعتسفني الندم ! كان الخيط الرفيع الذي يجمعنا قد تقطّع أو وهى ، وتمنيت لو أن يدي شُلت أو قُطعت من قبل أن تمتد لضربها ، غير أن الأمر – بمرور الأيام - تكرّر ثانية وثالثة ، ليدخل في باب العادة ، من غير أن يترافق بالأسى الحارق الذي ساورني في المرة الأولى ، ثم غدا  - شيئاً فشيئاً  - تعبيراً عن إسقاط مبهم أو تشفّ !

ربما كنا على شيء من الاختلاف في المشارب ، إذْ أنني – على نحو ما - كنت مهموماً بالشأن العام ، فيما لم تكن هي تأبه إلا بالخاص والعارض ، مما زاد الـهوة التي تفصل بيننا ! طبعاً أنا لا أنكر بأنها كانت أقدر مني على اقتناص لحظات الفرح البسيط ، ربما لأنها كانت أصغر  في السن ، بيد أنّ الضرب المستمر كسر روحها المتوثبة ، كسر فيها الإنسان !

وإذا كانت الذاكرة قد رسمت في حلمها عشــاً حميماً للزوجية ، قائماً على ثنائية الزوج والزوجة ، فلقد تفاجأت  بأنّه لم يعد كذلك ، إذْ في اللحظة التي كانت علاقتنا تعبر  – فيها – مفازة جحيمها ، انبثق الأهلون ولكن لا لكي يعملوا على حّل خلافاتنا ، بل لكي يسهموا في تأجيج الصراع اليومي ، المعاش بعريه الصفيق  ! وبذلت ما بوسعي لأنأى بحياتنا عن تدخّل الآخرين الفظّ والجارح ، إلا أنني اصطدمت بجدار صلب من قبل أهلها ، فهل كان أهلي أكثر حياداً !؟

ثم ماذا عن الآخرين ، الذين تفاجأنا بهم عند كل منعطف ! لدرجة شعرت  - معها – بأننا عراة أمامهم ! مكشوفون حتى أعمق أعماقنا !؟ وكان أن تساءلت بغضب ؛ لماذا تسمح زوجتي بهذا كله !؟ ولماذا يكون ثمة امرأة تخدع دائماً رجلاً في حضوره أو غيابه !؟ أليس في الأمر خيانة من نوع ما !؟

هكذا – على ما أظن – تداخلت الحلقات موقظة مشاعر العداء والقسوة ، المتدارية بمظاهر المصاهرة والمودة المزيفة بين عائلتين ، ولم يفلح غيابي المستمر عن البيت في إيقاف الانهيار !

 

4- في انكسار الحلم:

كريح تعبر منعطفاً بدأت علاقتنا بالخروج عن مدارها الهادئ  لانحراف في البوصلة ! وعلى السطح طفا السؤال ؛ عّما إذا كان هذا الرجل الذي  يقاسمني الفراش اليوم ، هو ذاته الفتى الذي حلمت به عمراً ، ممتطياً صهوة حصانه الأبيض  ، وقادماً من البعيد ليختطفني  إلى حيث حقول الغبطة السارحة !؟

سؤال ممرض يفثأ الدم تنامى كفطر سام ، ملقياً بظله الثقيل على الأحاديث الهادئة ، التي غابت لمصلحة صمت قاس أخذ يحفر في أعصابنا ، فاستسلم عالمنا لوجوم واخز وأصمّ !

وفي جوّ التوتر – هذا -  أضحت كل خطوة مجازفة ، وكلّ عبارة فخاً ، ربما لأنها خضعت للإرث البطريركي ، أو الديني ، الانتقائي والمُجتزأ  ، إذْ غابت الآية الكريمة ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء  ولو حرصتم  فلا تميلوا كل الميل .. )  لحساب الآية ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث وربع .. ) ، فجاءت المعادلة مختلة  لصالح الذكورة المهيمنة ! وتساءلت بحرقة ولوعة عن مكمن الخلل ، لكن الحبل الذي يربطنا كان قد انقطع !

مهجورة كنت ، ومنكسرة ، منذورة للتشتت ، أركض بين البيت والدائرة لأعمل وأكنس وأطبخ ، فلا يتبقّى لي  وقت حتى ألتقط أنفاسي ! ولكن ما الفائدة ، إذْ لم يبق  لي في غيابه الذي غدا  يفوق حضوره ، إلا أن أترك أحاسيسي للنوء  !

هذا لا يعني بأنني لم أحاول أن أضمّد العطب المحسوس ، لكن غير المُدرك كنهه ، وفي لحظات الهدوء التي أنشأت تعزّ ، كنت أتجرأ على السؤال ؛ لتحري ما بين السطور ! كان ذلك في أوقات معينة أستشعرها بحسي الأنثوي ، بيد أن الابتسامة الصامتة ، المحايدة ، التي كانت تجبه سؤالي ، جامعة سخرية غامضة إلى التسليم ، كانت تشير إلى أن لا جدوى !

أما في أي فجٍّ غار عالمنا المسكون بالفرح ، فهذا ما استغلق على فهمي تماماً ، تاركاً محله السؤال ؛ أن ما الذنب الذي اقترفته !؟ ألا أتقاسم معه المسؤولية ، فلماذا يعمد إلى افتعال الشجار بداعٍ ،  ومن غير داع !؟ صحيح أن الأسعار اشتعلت ، ولكن ما دخلي أنا في ذلك ؟ أنا لم أطالبه إلا بالضروري من حاجات البيت متجاوزة عن الطلاء الذي تساقط عن الجدران هنا أو هناك ، على ما يسبّبه لنا من حرج أثناء زيارة المعارف والأصدقاء ، وصرفت النظر عن تخلخل الأرائك ، لأنّني – مثله – كنت على دراية بوضعنا ، ومن غير أن ينتبه أخذ الصنف تلو الآخر يغيب عن لائحة الطعام ،  لكنني آثرت ألا ألفت نظره إلى الأمر ،  وبادرت إلى التخفيف عنه ما استطعت ، إذْ كم من ثوب مهلهل غيّرت فيه ليوحي بأنه ثوب آخر ، وكم رغبة صغيرة كبحتها حتى لا تنغص علينا ! حتى في ما يخص موضوعة الأطفال ، تحاشيت الخوض فيها ، على شـغفي العارم بهم ، لكي لا أجرح فيه حسّ الرجولة ، إلا أنه يعرف بأنني سليمة ، وأنه يشكو ضعفاً في السائل المنوي، يضع مسألة الإنجاب في خانة ( الممكنات ) الصعبة !

أمّا أن يصل الأمر بنا إلى الضرب ، فهذا ما باغتني تماماً ، وجرحني ! مهانة كنت وُمشوّشة ، فالتجأت إلى عبّ الصمت ، فيما كل شيء يتهاوى جهاراً لخلاف الأضداد!  في ما بعد ، ومع التكـرار ربما ، أخذ الضـرب الذي كنت أتلقاه منحى آخر ، إذْ تحوّل - بالنسبة لي – إلى نوع من التحدي المُضمر ، ممّا زاد في غضبه وحيرته !

بقي أن أقول بأنني لا أستطيع أن أتبرأ من أهلي – هكذا - ببساطة ، بسبب من الخجل ، ناهيك عن الوفاء والاعتراف بالجميل ، رغم  أنني لا أنكر دورهم السلبي – أحياناً – في خلافاتنا ، ربما لأن ثقافتنا لا تعفينا من واجباتنا نحوهم ، ولا تمنحنا الحق في إيذاء مشاعرهم عند أول كبوة !

ثم ماذا عن أهله !؟ ألا يدخلون بيننا وبين جلدنا !؟ في الصغيرة قبل الكبيرة !؟ متوهمين بأنني أصل المشكلة في تأخرنا بالإنجاب ، على جهل منهم بأننا عاجزون حتى عن مراجعة طبيبنا ! فلمَ كل هذ!؟ ألأنني الأنثى !؟ الجناح المهيض كما يقولون !؟ ولكن أين المنطق  في هذا كله !؟

إلى الجحيم  بكل شيء ! إذْ من يتفكر في المنطق هذه الأيام ،  فأنتِ الضلع القاصر ، الجارية المطالبة بالطاعة والخضوع ، بعيداً عن مُثُل الحق أو العدل ، وما عليك سوى الاستجابة لنـزوات السيد ذي السلطة المطلقة ، بغض النظر عن مشاعرك وأحاسيسك ! لِمَ لا ؟ ألست الأنثى ، المعادل الموضوعي – في الشرق - للبغي !؟ ألست – سلفاً – على لائحة الاتهام ، المطالبة دوماً بإثبات العكس !؟

ولكن مرة أخرى ما الجدوى بعد أن انقطعت بيننا السبل ، وأضحى الصمت ملاذنا الأخير !؟ فقط لو غادر مُعتكفه النفسي قليلاً ، لو تخلّى عن شرنقته ، وسمح للّغة بأن تمتد بيننا ، عندها لأقنعته بأنه مخطئ ، وأنني مثله لا أريد لأحد أن يتطفل على حياتنا ، لأنها لا تخلو من الخاص والمخجل الذي ينبغي أن يظل سراً ! ولعبّرت له عن حاجتي إليه ، عن تحرّقي للمساته الراعشة على جسدي ، وعن توقي المشحون بالرغبة إلى كلمة ناعمة مُنداة تشـعرني بكينونتي ، بأنني ما أزال تلك الأنثى المحبوبة والمشتهاة !

وبعـد ! أين أذهب بـهذا الجسد الثائر كبركان  حبيس !؟ هذا الجسد الذي ما يفتأ يلحّ على مطالبـه كل حين ، مهتبلاً أي ثغرة لكي يعبر منها ، ويئن محتجاً على الإهمال والفوات ، فأستيقظ عند غبشة الفجر على ندائه ، لأتفاجأ به حاراً ندياً ، مواراً بالرغبة ! وأتفكر متسائلة باستغراب وألم ؛ من أين يمتح هذا الصراع كل تلك القسوة والشراسة !؟ 

 

5 - تراتيل للمرثية الناقصة:

المنظر الرهيب حقيقي إذن ! والمرأة الحبيبة التي كانت إلى ما قبل لحظات تعج بالحياة ، أضحت جثة هامدة !

أنت لا تعرف كم من الوقت مرّ إثر ذلك الإعصار ، لأنّ حالة شبيهة بالتشقق في الزمن كانت تمور في الجوف ! حالة  تقع في العمر مرة ربّما ! حتى ذريرات الهواء استكنّت لها بفزع شديد  ! وها أنت كفنان تعامَلَ مع الموت على أنه الوجه الآخر للحياة تشعر بالخوف ، بالخوف والعجز معاً ! ذلك أنك ما إن بدأت تعي هول ما اقترفته يداك ، حتى صرخت بلوعة وألم كمن تلقّى طعنة سكين في خاصرته ، ومع الصرخة امتلأت كفاك بخصلات من شعرك اقتلعتها من غير أن تشعر ! أما كيف سمحت لأعصابك بأن تفلت ، وكيف تفاقم الشجار بينكما إلى أن أطلّت اللحظة الطائشة برأسها ! ثم كيف سعت الذاكرة المنقسمة إلى أن تضع يدها على السبب ! فأنت عاجز عن الإجابة ، إذْ خارج العناد الأرعن والموروث المرمض لم يكن ثمة داع لنذير الدم ذاك ! ومثلما ارتفعت الصرخة كدوي رعد ، غمر المكان _ كله ثانية _ صمت حاد !

كيف انقضى الليل ! ومتى دخل الفجر بغبشته !؟ هل كنت تتمعّن في ملامحها قبل أن توارى طيّ التراب !؟ فأنت أيضاً لا تدري ، إذْ أن الموت بمعناه المادي ، الكلّي الحضور كان يملأ المكان ، ويغلق الأمداء برائحته الخاصة !

آه ، أيها المأفون ، هل تدرك بأنك قتلت المرأة التي تحب ، فكيف لك أن تمضي في العيش بعد !؟ كيف استطعت _ وأنت الفنان المُرهف _ أن تقدم على ما أقدمت عليه !؟ ولكن هل حقاً أنت كذلك !؟ إذن لِمَ لمْ تستطع يوماً أن تعّرف الرسم _ ببساطة _ على أنه خطوط مستقيمة ومنكسرة !؟ ألم تخدع نفسك من قبل أن تخدع الآخرين عندما تطفّلت على التكعيبية ، وأنت تجهل من الرسـم المنظور !؟ وهل كنت حقاً على صلة بالشأن العام  !؟ لماذا – إذن - لم تدرك أن أسّ المشكلة لم يكن بينك وبين زوجتك ، بل كان في مكان آخر !؟  أما كنت _ كغيرك _ دعياً ، تنادي بالحرية والمساواة شريطة ألا يتسللا إلى بيتك !؟ لندع الشأن العام جانباً ، أما كنت ترى في نفسك رجلاً !؟ حسناً ، لماذا كانت رجولتك تلك تظهر فقط على من هم أضعف منك ، وتغيب أمام رجال الشرطة والأمن ، الذين كنت تخافهم خوفاً يمسخك إلى شخص مسكين ودارج !؟ هل خرجت _ أبداً _ عن إرث الأسلاف ، وانتظمت مع زوجتك في شراكة حقيقية تقوم على التماثل لا الامتثال !؟ ألم تكن _ في نظرك _ دائماً جزءاً من قطيع الحريم المُقتطع من ضلعك !؟  بعضاً ممّا ملكت أيمانكم داخل حسّ التملّك المريض والمنحرف ، القائم على الآية الكريمة ( الرجـال قوامون على النساء بما فضّل الله .. ) ، ذاهباً إلى أن ( فضّل ) هنا هي فعل تفضيل مُؤسّس على الأحسن لا الأكثر تقوى !؟

لقد قتلت حبك ، فهل تستطيع أن تعود بالزمن إلى ما قبل ارتطام الجهات ، لا لشيء إلاّ لتقول لها بأنك ما تزال تحبها ، وأنك لن تستمر في الحياة من بعدها ، أنّ الوقت أمامكم كان ما يزال متاحاً لإنجاب طفل أو أكثر !؟ الآن _ فقط _ أيقنت بأن الأطفال ، هذه الظاهرة التي تبدو اعتيادية جداً ، تنضوي على مغزى الحياة العظيم ! والأطفال يعنون أسرة ، رجلاً وامرأة وأولاداً ، فماذا أبقيت من هذا كله !؟ كيف استطعت أن تواجه نظرات الرعب والدهشة والعتاب والألم التي أطلّت عليك من حدقتيها !؟ أي ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق ينتظرك ، وأي ندم ، بل أي جنون !؟ ربما لا أمل يا صاح ، ربما لا أمل ! إنها الأرض تنادي أبناءها الذين تأخروا عنها ، فهيّا  ، إذْ لم يعـد ثمة وقت ، هيّا اقفز لكي ترتاح ، اقفز ولا تكن جباناً!

وكما يرى نبيّ الوحي فُجأة  ، فيجفل ويرتعد ، رأى على نحو ُمبهم موته الأكيد القادم  ذات أمسية  صيفية كمرثية حزينة ! كانت عتمة الليل تبسط سطوتها على الكائنات  ، وتطمس ملامحها ، وفي هدأة منه ارتفع صوت شجي لثمل شالته حالة من النشوة والأسى الشفيف ! وحده الليل كان شاهداً على الجسد الذي انقذف في الفضاء بكل ما أوتي من قوة وحزن وغضب وحسرة ، ليرتطم بالأرض الصلدة ، لكنّ الفجر أخفى صوت الارتطام المكتوم تحت عباءته الفضية .

30/6/2000

   

أضيفت في 18/01/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية