مقالات فى
الفكر الأنسنى
إلى
حبيبه..
أغنية لم تتم!
(حبيبه هى
طفلة مصرية ماتت من علاج خاطيء فى معهد مصري لعلاج الأورام!)
"ليس أمس سوى ذكرى اليوم،
وليس الغد سوى حلم اليوم..!"
جبران
مقدمة
إنها لقصيرة وعاجزة، حياة
الانسان، فقد قُضي عليه اليوم أن يفقد أحباءه، وقُضي عليه أن يلتقي نهر
حياته ـ هو نفسه ـ غداً صحراءه!
انكفاء الإنسان على الماضي
بوابة لهزائم شتى، فجمال صور الماضي الصامتة غير المتحركة يماثل روعة
الخريف، عندما تظل الأوراق تلمع تحت السماء بفتنة ذهبية، رغم أن هبة من
النسيم قد تُسقطها!
الاعتزاز بالأفكار السامقة هو
وحده الذي يجعل اليوم القصير نبيلاً، ويمنح الإنسان القوة والقدرة على
الدخول إلى المستقبل بذراعين مفتوحتين ـ على حد تعبير الأنسني الفذ إدوارد
سعيد ـ، وليس بقبضة مضمومة!
تلك كانت كلمات لابد منها،
قصدت من وراءها تعبيد طريقي إلى قلب وعقل قارئي الكريم، فكتابي هذا لا
يخاطب العقل وحده، وإنما يروم ود القلب أيضا! فهو معني بمعالجة بعض جوانب
الفكر الأنسني، الذى يقول بالإنسان كأعلى قيمة فى الوجود، على أمل أن يجد
هذا الفكر السامق له، فى المستقبل، ملاذا آمنا فى عالمنا العربي، فنحن ـ
على ما يبدو ـ أحوج إليه من غيرنا!
سبق للمقالات الخمسة التى
يضمها هذا الكتاب (وهى: بناء الذات الأنسنية، هدر العقل العربي، المرأة فى
الفكر الأنسني، التثمين الأنسني لجوهر الأديان، إدوارد سعيد/أنسنية بلا
ضفاف) أن نُشرت، فى فترات زمنية متباعدة، على شبكة الانترنت، وأظنها لاقت
قبولاً طيباً، أغراني بجمعها بين دفتى كتاب، ليسهل الأمر على من أراد
قراءتها مجتمعة، إذ أنها نُشرت فى مواقع ألكترونية متفرقة.
حازم خيري -
سراي القبة فى 23/11/2008
بناء الذات الأنسنية
" في موعد النصر متسع للجميع
"
إيمي سيزير
"الأنسنية"، مصطلح يعتمده
المؤلف في هذا المقال للدلالة على النزعة الإنسانية القائلة بأن الإنسان هو
أعلى قيمة في الوجود، تمييزا لها عن "الإنسانيات" باعتبارها مادة الدراسة
الجامعية التي تُعنى باللغات والفنون والآداب والتاريخ، أو بمعنى أكثر حصرا
باعتبارها دراسة المؤلفات الكلاسيكية الإغريقية والرومانية. وكذلك تمييزا
لتلك النزعة عن "الإنسانوية" التي تستخدم للدلالة على الميل أو النزوع إلى
الإنسانية أو ادعائها. ويعود الفضل في نحت مصطلح الأنسنية (كمرادف للمصطلح
الغربي Humanism)
للأستاذ فواز طرابلسي، في إطار ترجمته لآخر مؤلفات المفكر الراحل
إدوارد سعيد، وهو كتاب (الأنسنية والنقد الديمقراطي)، فقد اقتضت
الترجمة الوافية نحت مصطلح عربي يستوعب كافة المضامين الفكرية التي أودعها
إدوارد سعيد كتابه الأخير، والتي تُبرز تطوره الفكري والأدبي وقد تأوج في
التزامه النهج الأنسني(1).
ومن الصعب علينا فهم دلالة
مصطلح الأنسنية حق الفهم، بمعزل عن المشكلات الإنسانية والظروف التاريخية
التي مرت بعصور من استخدموه من مفكرين وفلاسفة، وهو ما يحتم علينا تتبع
البدايات الأولى لاستخدامه. فقد أُطلق هذا المصطلح، أول ما أُطلق، للدلالة
على الحركة الفكرية التي يُمثلها المفكرون الأنسنيون
Humanists
في عصر النهضة، من أمثال الشاعر الإيطالي الكبير فرنشسكو بتراركه
ورفاقه(*). وهي حركة أوضح سماتها السعي إلى الإعلاء من سلطان العقل،
ومقاومة السلطة والجمود، وسبيل أنصارها التمرد علي قيود القرون الوسطى
وتحطيمها(2).
ويظل اقتراح المفكر المصري
إسماعيل مظهر باعتماد النشورية، وليس الأنسنية، ترجمة للمصطلح الغربي
Humanism،
وكذلك اقتراحه اعتماد النشورى، وليس الأنسني، ترجمة للمصطلح الغربي
Humanist،
الأكثر تعبيرا عن مضمون تلك الحركة الفكرية المشار إليها سلفا. فالنشورية
من النشور بمعنى البعث، وبالتالي هي الأكثر تعبيرا عما قصد إليه المصطلح
الغربي من إحياء الآداب القديمة وبعث الإنسان من رقاد القرون المظلمة(3).
والحركة الأنسنية أو النشورية
في مطلع عصر النهضة، شأنها في ذلك شأن أي ثورة ثقافية أخرى، أعادت تقييم
الأوضاع السائدة في العصر الوسيط، ثم لم تلبث أن تحدت المعنى الذي خلعه على
الوجود زعماء اللاهوت في ذلك العصر. وكانت الشرارة الأولى في الثورة نهوض
جماعة من المفكرين الأنسنيين أو النشوريين، أعلنت تفسيرا للحياة يتفق مع
المفاهيم الآدمية والإنسانية. وبطبيعة الحال جاء ذلك الإعلان على استحياء
أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن أضحى أكثر جرأة فيما بعد. إذ مضت تلك
الجماعة الأنسنية قُدما في تحدي الازدراء الذي نظر به رجال الدين المسيحي
في العصر الوسيط إلى عالمنا، وأكدت جزما أن الأرض مقام جميل طيب، وأن
الوجود الإنساني هبة ثمينة للغاية، وأنه ليس أمرا عرضيا وبغيضا كما يُروج
لذلك تجار الآلام. ولما كان للقدامى نفس الوضع، فان الأنسنيين التجئوا لدعم
منطقهم الجريء إلى نفوذ الإغريق واللاتين، ومن ثم اتخذت الحركة الأنسنية من
زاوية تلك الحاجة شكل إحياء التراث القديم. ويمكن اعتبار أولئك الأنسنيين
الثائرين، ابتداء من بتراركه، جماعة من المجددين، اتصفوا بالإدراك والتبصر،
ونجحوا على تردد بعضهم في سحق قيود القرون الوسطى، صارخة عقولهم قبل
ألسنتهم: "أيتها الحرية .. إننا نعشقك"(4).
على هذا النحو انطلقت الحركة
الأنسنية قوية فاتحة، وساعد على ذلك اختراع آلة الطباعة، رغم استقبال
الأنسنيين لهذا الحدث ببرود يماثل برود استقبالهم لحدث آخر لا يقل أهمية،
وهو الاستكشافات الجغرافية. فليس ثمة شك في أن الأنسنيين الثائرين، كانوا
أبعد عن أن يبتهجوا باختراع الطباعة! بل انهم عادوها في البداية! ولدينا
مثل واضح على ذلك، ضربه لنا فسبزيانو دابستيتشي، وهو أحد ذوي الأفكار
النبيلة في القرن الخامس عشر. فمع أن فسبزيانو تُوفي في عام 1498 فقط، أي
في وقت كان فن الطباعة قد بلغ فيه درجة طيبة من التقدم، نراه وقد ظل يتوجس
من الطباعة إلى نهاية عمره. ليس ذلك فحسب، فقد ذكر فسبزيانو أن واحدا من
حماته ونصرائه، وهو الدوق أوربينو، كان يخجل أن يمتلك كتابا مطبوعا. والحق
أن هذا الموقف أصبح مستحيلا في القرن التالي، لأن الأنسنيين رأوا أن آلة
الطباعة لم تعد عدوتهم، فبفضلها راحت كتبهم تنتشر في كل الأوساط بسرعة
البرق. لأنه إذا كان نسخ الكتاب قبل اختراع آلة الطباعة يستغرق أسابيع
عديدة أو شهورا، فان طباعته وبمئات النسخ بعد اختراعها أضحت تتم بين عشية
وضحاها(5).
وفضلا عما أسداه اختراع آلة
الطباعة للحركة الأنسنية من عون، عمد الأمراء الإيطاليون بدورهم لدعم
الأنسنيين ماديا ومعنويا. بل وحموهم كذلك من ضغط الكنيسة والعامة! وذلك
لأسباب يخرج ذكرها عن نطاق اهتمام المقال الماثل، الأمر الذي ساهم بقوة في
دعم الحركة الأنسنية في عصر النهضة، إذ لم يكن أولئك المدعومين سوى
الطليعة الثورية للحركة. ففي مدينة فلورنسا التي أنجبت أشهر الرسامين
والفنانين، وبفضل مساعدة الأمراء، راح المفكر الأنسني مارسيليو فيشينو
يترجم أعمال أفلاطون وتلامذته. وكذلك تشكلت أول أكاديمية علمية في مدينة
فلورنسا، هاجر إليها كبار علماء بيزنطة بعد سقوط القسطنطينية على يد محمد
الفاتح. وللأسف تعصبت الأكاديمية لفكر أفلاطون إلى حد أنها منعت تدريس فكر
أرسطو الذي دخل إلى إيطاليا عن طريق الفلاسفة العرب، كابن سينا وابن رشد.
ومن إيطاليا انتشرت الحركة الأنسنية في ألمانيا وهولندا، ومنهما إلى فرنسا.
وعندما عارض رجال الدين المسيحي دخول مؤلفات الفلاسفة المسلمين، بحجة أنها
آتية من جهة أعداء المسيحية، قال لهم الأنسنيون الثائرون: "هذا الفكر يشكل
جزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني، ونحن بحاجة إليه، وسوف نأخذ به ونستفيد
منه، أيا تكن الجهة التي جاء منها!"(6).
حقيقة أن المفكر الأنسني في
عصر النهضة لم يكن رجلا محيطا بما كتب القدماء، مستمدا وحيه منهم فحسب، بل
كان رجلا قد فتن بالقدماء فتونا جعله يقلدهم في حياتهم ويحاكيهم في
قناعتهم، ويقتدي بهم في لغتهم وتفكيرهم. ولا جرم أن حركة كهذه متى أوغل
فيها أصحابها إلى أقصى حدودها المنطقية، كانت خليقة أن تتجه إلى النيل من
رجال الدين المسيحي بحدة وقوة. وهو ما ساعد منذ ذلك الحين على شيوع القول
بالتعارض بين الحركة الأنسنية والعقيدة المسيحية في مؤلفات الأنسنيين
وكتاباتهم. بيد أن الاستعمال الفلسفي لمصطلح "الأنسنية" يتصف بالحداثة
النسبية، ولو أنه برزت خلاله اتجاهات فلسفية عديدة ودقيقة في تعريف
المصطلح، التقت جميعها على تثمين الإنسان بوصفه أعلى قيمة في الوجود، غير
أنها تفاوتت في إيمانها بقدرته منفردا على تجاوز آلامه وبلوغ طموحاته،
تحدوها في ذلك مؤثرات عديدة لا مجال لذكرها أو حتى التنويه عنها. ويعد
الرواج العظيم الذي لقيه مصطلح "الأنسنية" مسئولا بشكل أو بآخر عن زيادة
الاختلاف في معانيه عند مستعمليه من أصحاب الاتجاهات الفلسفية المختلفة،
فضلا عن كونه مسئولا كذلك عن كثرة الاختلاط حول المصطلح، ليس في أذهان
العامة فحسب، و إنما لدى كثير من الكتاب والمؤلفين أيضا.
وهو ما حدا ببعض الفلاسفة
والمفكرين المأخوذين بما للأنسنية من رونق وجاذبية لبذل جهود حثيثة في
صياغة خصائص بعينها لما اصطلحوا على اعتباره "أنسنية عالمية"، اعتقدوا في
تجاوزها للاختلافات والتناقضات الواردة في التعاريف المختلفة للأنسنية،
إلى جانب اعتقادهم في تمييزها للفلسفة الأنسنية عما عداها من فلسفات. وذهبت
تلك الجهود، على تنوعها، إلى أن الأنسنية نهج يحترم الإنسان وينزله المنزلة
اللائقة به، فهى تقول بالانسان كأعلى قيمة في الوجود، كما أنها تهدف إلى
التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا
لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. ففي
رحاب الأنسنية لا يوجد سوء تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على
عقب، و لا يوجد كذلك تاريخ لا يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما
فيه من عذابات وإنجازات.
وبعبارة أخرى، تنسف الأنسنية
جذريا الأطروحة القائلة بان تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حتما مع
التجديد المستمر للمعطيات المعاصرة. وإذا اتخذنا التاريخ كمثال، نجد أن
الأنسنيين يرونه مسارا غير محسوم، قيد التكوين، لا يزال مفتوحا على حضور
الناشئ والمتمرد وغير المستكشف وغير المقدر حق قدره وما يطرحه من تحديات.
كما أنهم يرون أن الإنسان هو صانع التاريخ، ومن ثم فهو قادر على اكتناهه
عقليا، وفق المبدأ القائل بأننا كبشر ندرك فقط ما نحن صانعوه، أو بالأحرى،
نراه من وجهة نظر الإنسان الصانع، فأن تعرف شيئا ما يعني أن تعرف الكيفية
التي بها صنع ذلك الشيء.
وطبقا للأنسني الفذ إدوارد
سعيد، ليست الأنسنية طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما،
وإنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على
أنه يقينات مسلمة، معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما
فيها تلك الموجودة فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها
برقائق المحرمات الثقافية. فثمة صعوبة في القول بان عالمنا الفكري والثقافي
كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء، فالأرجح انه تنافر مضطرب
من المدونات غير المحسومة. ولكل حضارة أن تلبي روحها هذا النهج الأنسني
المنشود. ولهذا علينا أن نلتمسه في الحضارات المختلفة، فخصائصه العامة تكاد
تكون واحدة بين جميع الحضارات(7).
وباستخدام المعيار الأنسني،
يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير
بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو
جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون
ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ خاصة في المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل
الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء
لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر
بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ
الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل،
بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. والمقصود بالثقافة هنا
ما أورده الناقد الأدبي والشاعر الأمريكي المولد والبريطاني الجنسية ت. س.
إليوت في مؤلفه ذائع الصيت (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، فالثقافة عنده
طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. و تظهر هذه الثقافة في فنون
أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم.
و طبقا لإليوت الحائز على جائزة نوبل عام 1948، لا يكون اجتماع هذه الأمور
الثقافة، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور
ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم
البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة
لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية.
فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم
يجب أن يفهمها جميعا(8).
أقول إن الشائع ـ خاصة في
المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة
ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وهو في هذا التنازل يكتسب ثقافة ليست
ثقافته الحقيقية أو ما يجب أن تكون عليه ثقافته حقا، أي أنه يصبح مستهلكا
لثقافة ليست من صنعه. ولعل المصدر الأساسي لالتماس الإنسان راحة ذاته في
اغترابه الثقافي، هو ما يلقيه تجار الآلام في روعه، فهم عادة ما يوهمونه
بأن اغترابه الثقافي فريضة يوجبها الإيمان الصحيح، ويطلبون إليه التنازل
طواعية عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، تقربا إلى الله و زلفى! وكذلك يطلبون
إليه القبول بتخويل آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة عنه وعن
غيره، وغالبا ما يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا يستقيم أن
يقبل من الإنسان تعطيل أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل الإنساني ـ في أكثر
الآراء رجحانا ـ إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء
رسالته، ولظل يضرب في الحياة على غير هدى. وما تعطيل العقل سوى إبقائه قوة
محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى
الاحتفاظ بكل الثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير.
وأما التماس الإنسان باغترابه
إرضاء مجتمعه، فمرجعه أن تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في نقد ثقافته
وتطويرها غالبا ما يتم في مجتمع يصطلح أفراده على تقدير واحترام المغترب،
ويلتقون في اعتقادهم الراسخ بأن الثقافة السائدة هي الضمانة الحقيقية
لصيانة هويتهم، وأنها أسمى من أن تمتد إليها أيديهم بالنقد والتطوير.
فالمغتربون عادة ما يتنازلون بصورة جماعية عن حقهم الطبيعي في نقد ثقافتهم
وتطويرها إلى من يرونه أحق منهم بذلك، وأقدر منهم على ارتياد ما يتصورونه
طريقا وعرا ومحفوفا بالمخاطر. وغالبا ما يقف الآخر، وأقصد به كما أسلفت كل
من يُدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت
نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى
الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. أقول
إنه غالبا ما يقف الآخر وراء إهدار الذات المغتربة للأنسنية، أي وراء عدم
أخذ تلك الذات بها، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي للذات
بكل ويلاته.
والحق أن الآخر ـ خاصة في
المجتمعات المتخلفة ـ لم يكن ليبلغ لبانته لولا وجود آليات بعينها تعينه
على أمره. فالاغتراب في حاجة لدعم دائم من سدنته، وليس هناك ما هو أكثر
ضمانا لديمومته من وجود دعم مؤسسي دائم ومنتظم له. فبدون مثل ذلك الدعم
يصير من الصعوبة بمكان الحفاظ على الرسوخ الدائم لفكرة الاغتراب في
الأذهان. وغالبا ما تتخذ الصيغة المؤسسية أشكالا مختلفة، فالمؤسسية التي
يقصدها الكاتب لا تعني بالضرورة بنايات ضخمة وجيش عرمرم من الموظفين وزخم
بيروقراطي، ولكنها تتراوح ما بين تلك البنايات المهيبة وبين شخصيات بعينها،
يُصيرها سدنة الاغتراب بحرفيتهم الدعائية ومهارة ترويجهم للاغتراب رموزا
شبه مقدسة، يزعمون أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وهو ما
يُيسر انقياد المغتربين إليها انقيادا أعمى.
وكما أن الصيغة المؤسسية تتخذ
أشكالا مختلفة، يتسع نشاط تلك المؤسسات المعنية ليشمل مجالات عديدة. فتكريس
الاغتراب الثقافي للذات لا يتم فقط عبر آليات محدودة كما قد يتوهم
الكثيرون، ولكنه يتم عبر آليات عديدة ومتنوعة منها البوليسي، والتعليمي،
والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني، نسبة إلى الدين والدين
منه براء. ولا يعبر اقتصار جهود الكاتب على تعرية آليات بعينها عن قناعة
الكاتب بكونها الأكثر سهولة في الرصد، بقدر ما يُعبر عن قناعته الراسخة
بأنها الأكثر فعالية في ترسيخ الاغتراب في ذهنية الذات. ولنا أن نتصور كيف
يغدو الاغتراب الثقافي زائرا ثقيلا حين تعوزه مثل تلك الآليات التي تفرضه
أحيانا وتحببه أحيانا أخرى إلى الضحايا الأبرياء، فتصوره لهم على أنه إكليل
غار فوق رؤوسهم. وفيما يلي رصدا موجزا لبعض أهم آليات تكريس الاغتراب
الثقافي للذات(9):
[1] مؤسسات العنف: لا يكاد
مجتمع مغترب يخلو من مؤسسات العنف، باعتبارها حائط الصد الأكثر فعالية في
حماية الآخر من غضبة الذات. إلا أن تلك الوظيفة و غيرها من الوظائف الأخرى
التي تشتهر مؤسسات العنف في المجتمعات المغتربة بالأداء المتميز لها، لا
تعدو كونها ستارا فولاذيا يخفي وراءه وظيفة أكثر خطورة وأشد وطأة، ألا وهي
الإجهاض الوقائي لأية محاولة ـ مهما بلغت ضآلتها ـ لقهر الاغتراب الثقافي
وتحرير الذات من نيره الثقيل. والمعتاد أن تؤدى مؤسسات العنف تلك الوظيفة
عبر الترويع الدائم للبسطاء وغيرهم بدعوى الحفاظ على تلك المجتمعات، وكأن
المجتمعات لا تُصان إلا بإهدار آدمية البسطاء وتغريبهم ثقافيا. فالتجربة
الإنسانية قد أثبتت أن الترويع الدائم للإنسان جعل منه ـ ولا يزال ـ فريسة
سهلة للاغتراب الثقافي. وللأسف الشديد، يتورط بعض البسطاء في ارتكاب العنف،
بحكم انخراطهم في مؤسسات العنف، حيث يجب أن يكون هناك من يرغب ومستعد
لتطبيق السياسات نيابة عن الآخر.
[2] مؤسسات التلقين الإعلامي:
أدت سيطرة الآخر في مجتمعات بعينها، خاصة المجتمعات المتخلفة، على وسائل
الإعلام إلى حرمان الغالبية العظمى من أبناء تلك المجتمعات من التعبير عن
آرائهم ومواقفهم، وبالتالي تكريس اغترابهم الثقافي. ورغم أنه لا يوجد إجماع
في تلك المجتمعات على تحديد دور ومسئوليات الصحافة ووسائل الإعلام، إلا أن
الممارسات العملية طرحت رؤية موحدة، وإن اختلف مضمونها اختلافا نسبيا. و
تحدد هذه الرؤية الدور الأساسي للصحافة وسائر وسائل الإعلام في ضرورة
استخدامها كأداة في يد الآخر، وذلك للقيام بدور الشرح والتفسير والتأييد
لقراراته، أكثر من كونها أداة للنقد والتطوير الجادين. ويلاحظ بصورة عامة
أن الآخر يعتبر أي نقد موجه له على أنه مُوجه للمجتمع كله، بزعم الدفاع عن
النظام العام وأمن المجتمع، وهما من المفاهيم المطاطة التي تستخدم على نطاق
واسع في شتى أنحاء المجتمعات المتخلفة. مما ترتب عليه غياب الرؤية النقدية
الحقيقية، سواء في أجهزة الإعلام أو لدى المسئولين أو بالنسبة لتلك
المجتمعات المقهورة المشار إليها.
[3] المؤسسات التعليمية: تُعد
المؤسسات التعليمية بكافة أشكالها واحدة من أهم وأخطر آليات تكريس الاغتراب
الثقافي في المجتمعات المتخلفة، إن لم تكن أخطرها على الإطلاق. فالرحلة
التعليمية عادة ما تبدأ بتهيئة الطفل لدخول نفق الاغتراب المظلم، عبر منهج
منظم وصارم. وقد تتكفل الأسرة أحيانا بإنجاز تلك المهمة البائسة، فيدلف
الطفل إلى مدرسته وقد هُيئ تماما لحياة الاغتراب الثقافي. غير أن الأكثر
شيوعا أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة في تهيئة الطفل في سنواته المبكرة
لأن يصبح مغتربا ثقافيا، فالوالدان المغتربان غالبا ما لا يدخران جهدا في
تلقين وليدهما أبجديات الاغتراب في سن مبكرة، والأرجح أنهما يسقياه إياها
مع لبن الأم ، دون أن يدركا ـ بالطبع ـ مدى جنايتهما على وليدهما، لاعتقاد
راسخ لديهما بحتمية تأهيله للتعاطي الكفء مع ذاته ومع مجتمعه المغترب.
وفاتهم أنهم بذلك يدمرون قدراته النقدية والإبداعية ويحيلونه مسخا مشوها،
لا سلطان له على ثقافته، فلا يملك لها نقدا ولا تطويرا. ثم لا تلبث المأساة
أن تكتمل عندما تضطلع المؤسسات التعليمية الأخرى بمهمة تكريس هذا الاغتراب
وترسيخه .
وقد يقدح تجار الآلام في صحة
ما ذكرنا، فيحتجون بمعدلات الأمية المرتفعة في المجتمعات المتخلفة، ويتخذون
منها حجة لدحض قول الكاتب بأن المؤسسات التعليمية تكاد تكون أهم آليات
تكريس الاغتراب الثقافي وأخطرها. ولهؤلاء أقول أن الاحتجاج بارتفاع معدلات
الأمية مقولة حق أُريد بها باطل. فالكاتب لم يقصد بمصطلح المؤسسات
التعليمية الإشارة للمدارس والجامعات والمعاهد فحسب، ولكنه قصد أيضا
الإشارة إلى بيت الأسرة باعتباره المؤسسة التعليمية الأولى والأكثر تأثيرا
في الطفل. وهو ما يدحض مزاعم المشككين في مسئولية المؤسسات التعليمية عن
تكريس الاغتراب في المجتمعات المتخلفة، استنادا إلى ارتفاع معدلات الأمية.
علاوة على ذلك، تثبت الخبرة الإنسانية ـ يوما بعد يوم ـ أن الأمية نفسها
تجبر صاحبها وتؤهله تلقائيا لدخول نفق الاغتراب المظلم، فالأمي غالبا ما
يفتقد القدرات اللازمة لتمكينه من تجنب الاغتراب الثقافي أو قهره، وذلك
لأسباب عديدة، أهمها اعتماده الدائم في المعرفة على المغتربين المحيطين به،
إلى جانب ركونه الدائم في استقاء معلوماته إلى الوسائل المسموعة والمرئية،
التي تخضع بدورها لسدنة الاغتراب كما أسلفنا. وأخيرا، ألا يجوز القول بأن
ارتفاع معدلات الأمية مقصودا لذاته، فمن يجني ثمار أمية البسطاء غير
الآخر؟ ثم، أليست الأمية وسيلة رخيصة وسهلة لتكريس الاغتراب الثقافي، على
خلاف المؤسسات التعليمية التي يتطلب نهوضها بتلك المهمة جهودا كثيرة و
نفقات باهظة ؟! على أية حال، يظل الكاتب على قناعته بأن المؤسسات
التعليمية في المجتمعات المتخلفة، بما تنتجه من تعليم رديء، تساعد بقوة على
الزج بمزيد من الضحايا الأبرياء في نفق الاغتراب المظلم، وتحول بإصرار لا
يكل دون خلق أجيال جديدة قادرة على هدم حائط الاغتراب الصلد الذي يحول بين
المغتربين وبين استرداد حقهم الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
[4] محترفو التبرير الديني:
لعل في حيرة المرء وتردده إزاء صياغته لهذه الجزئية المهمة والخطيرة، دليلا
حيا على عمق مأساة الاغتراب الثقافي و خطورتها، فالمرء يخشى ـ والحق معه ـ
أن يجد تجار الآلام، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، سبيلا إلى تحريف مضمون
كلماته والعبث بها، خاصة وأن لهم خبرة لا يستهان بها في التعاطي مع
المغتربين وخلط الأوراق أمام عيونهم، على نحو مذهل ومتفرد، قلما توفرت لغير
الآخر. فهيهات أن تجد إنسانا غير مغترب يرفل في غلائل بالية، وهو بها راض،
لا يطيق لها تبديلا! وهيهات أن تجد إنسانا غير مغترب يحسب مأساته فردوسا،
يُقاتل من أجله حتى الموت! وهو ما يقوم دليلا على مهارة وحرفية الآخر في
هذا الصدد. يقول الكاتب هذا وفى نفسه غصة لا شفاء منها، فما أسهل أن يدير
القارئ البريء ظهره لكلماته تلك، استجابة لغواية تجار الآلام وزعمهم الماكر
بتعارضها مع المقدسات. فأي مقدسات تلك التي تبيح لهم الزج بالأبرياء في
آتون الاغتراب وترسيخهم الآثم في أذهانهم أن المألوف هو دائما الحق وأن
مخالفة الآراء الشائعة لا يجوز، حتى لو ثبت خطأها؟!
أقول إن الآخر في كل بقعة
مغتربة يبدي حرصاً محموما وصارماً على توفير الغطاء الديني لممارساته، بغض
النظر عن مشروعية تلك الممارسات، مستغلا في ذلك انصياع تجار الآلام
المتشحين بعباءة الدين لتوجيهاته. فلا يكاد يوجد آخر ، إلا وقد أحكم
قبضته على حظ طيب ممن يعتبرهم البسطاء رموزاً دينية. لإدراكه أنه بدون
تبرير هؤلاء لممارساته، يغلي مرجل الغضب في صدور البسطاء، ويصبح وجوده
مهدداً. ولعل الاغتراب الثقافي يتجلى أكثر ما يتجلى في الانقياد الأعمى من
جانب المغتربين لدعاوى أولئك التجار الذين يخدمون بدورهم مصالح أسيادهم،
حتى لو جاء ذلك على حساب آلام المغتربين وأوجاعهم. ونظرا لما يُحيط به
الآخر هؤلاء التجار من أسباب الإجلال والتكريم، بزعم صلاحهم وتقواهم، يبيت
عسيرا النيل من مصداقيتهم في عيون المغتربين، لدرجة تجعل أية محاولة
للتشكيك في تلك المصداقية جريمة مخزية، يدفع صاحبها ثمنها غاليا. فغالبا ما
يُغري الآخر المغتربين بذلك البائس فيذيقونه الهوان أصنافا، أو يتكفل هو
به، وساعتها يجنى الآخر الثناء الجزيل من المغتربين! وغالبا لا يكتفي الآخر
بأولئك التجار، فيعمد لإحكام سيطرته على مؤسسات دينية بعينها.
على أية حال، يرى الكاتب فيما
سبق ذكره مدخلا ملائما للقول بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا
لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول
صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة ـ السابق ذكره ـ
بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند
الماركسيين، فاحتياجات الإنسان كما أسلفنا ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز
الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته
وتداخلها، فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة
بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية
والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة
بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة
نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام
أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة
لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو
صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا
ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها،
وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست
سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو هويتها الثقافية.
والمأساة أن مهارة الآخر في
هذا المضمار لا تُبارى، فهو دائما ما ينجح في تكريس اغتراب الذات
واستعدائها على الذات الأنسنية، والذاكرة الإنسانية مليئة بالحوادث المؤكدة
لذلك، وهي حوادث دموية ولاإنسانية في مجملها، يندى لها الجبين الإنساني.
ولا غرو أن مأساة انقسام الذات على نفسها تضع المراقب في حيرة من أمره.
فالجزء الأكبر من الذات يجهل أو يُعرض عن الأنسنية ويُباهي باغترابه
الثقافي ويُعول في خلاصه على الآخر، بينما يتكبد الجزء الأصغر من الذات
والمهمش دوما آلاما قاسية، فهو يدرك الأنسنية ويسعى جاهدا لتبصير الذات
بضرورة الأخذ بها كنهج حياة، لكنه يواجه شراسة الآخر الذي غالبا ما يُوكل
مهمة التنكيل به إلى الذات المغتربة! وهو ما يُسهم بدوره في تعقيد الصراع.
والتاريخ الإنساني الذي يرويه
ـ في أغلب الأحيان ـ الآخر القوي ويلقنه للذات المغتربة الضعيفة في دأب
وجلد يُحسد عليهما، لا يمل استعداء المغتربين على تلك النفوس النبيلة، التى
تظهر في لحظات أو حقب متناثرة عبر العصور المختلفة، وتأبى إنسانية أصحابها
ألا تستأثر لنفسها ـ أقصد تلك النفوس النبيلةـ بإدراك الأنسنية، وألا ترفل
وحدها في غلائل ذلك الإدراك، في وقت تشقى فيه الذات المعذبة باغترابها،
فنراها تعمل جاهدة على تعرية الآخر وتبصير الذات المغتربة بالأنسنية ومزايا
الأخذ بها كنهج حياة، هادفة بذلك لرفع نير الاغتراب عن كاهلها، وتعليمها أن
آلامها ليست قدرا محتوما و إنما هي صناعة أيديها وأيدي الآخر. وهو ما يدفع
الآخر، وما أقواه في كل زمان ومكان، لمناصبة تلك النفوس النبيلة والطاهرة
العداء والتنكيل بها علاوة على اتهامه لها بكل رذيلة وإلحاق ذكرها
بالاستهجان والإدانة و السب، حتى يهيئ للمرء أنها شياطين في صيغة بشرية،
والحق أن أصحابها أشرف من وطأت أقدامهم ظهر الأرض.
إنهم أنسنيون أبت عليهم
نفوسهم النبيلة مشايعة الآخر في إثمه، فراحوا يبشرون بالأنسنية كيفما تسنى
لهم، وراحوا كذلك يُعرون الآخر، لترى الذات المغتربة قبحه، المستتر وراء
منطقه الكاذب وكلماته المعسولة. ومن المضحكات المبكيات أن هؤلاء الأنسنيين
وقد قاموا في العصور المختلفة يحدون الذات المغتربة نحو قهر اغترابها
وخلاصها، لم يسلموا من أذاها! فعجبا لمحكوم بالإعدام ينتصر لجلاده ويموت
دونه! وعجبا لجلاد يغري ضحيته بصلب من ينشد خلاصها! الحق أن الآخر أجاد
وأبدع أيما إبداع، حتى أن المغتربين دائما ما يعولون عليه في خلاصهم! ولا
عجب ، فآليات تكريس الاغتراب الثقافي تعمل ليل نهار بلا هوادة ولا رحمة،
غير آبهة بعذابات الضحايا وأنينهم. فكأني بالاغتراب إلها لا يرتوي إلا
بدموع المغتربين ودماءهم! وكأني بالآخر كاهنا مخلصا في معبد إله الاغتراب ،
يتحدث باسمه ، ويحض المغتربين على طاعته، إلى جانب تحذيره إياهم من مغبة
عصيانه والتمرد على أوامره ونواهيه!
وإذا كان الماركسيون يتحدثون
عن الوعي بالصراع الطبقي، أي إدراك من لا يملك لحتمية الصراع بينه وبين من
يملك كجوهر للماركسية، فللأنسنيين أن يتحدثوا بدورهم عن الوعي بالصراع
الثقافي كجوهر للأنسنية، وأقصد بذلك الوعي إدراك الذات الأنسنية لمساعي
الآخر الرامية لتعمية الذات المغتربة عن الأنسنية، وكذا إدراكها لجهل أو
إعراض الذات المغتربة عن الأنسنية ودفاعها عن اغترابها وتعويلها على الآخر
في خلاصها. فالصراع الثقافي، شئنا أم أبينا، قائم وحتمي بين الذات الأنسنية
وبين غرمائها على اختلافهم، سواء تمثلوا في الآخر الآثم الذي يُدرك
الأنسنية ويُؤثر نفسه بثمارها ويعمل جاهدا على تعمية الذات المغتربة عن
الأخذ بها كنهج حياة، أم تمثلوا في الذات المغتربة التي تجهل أو تعرض عن
الأنسنية وتدافع عن اغترابها الثقافي وتُعول على الآخر في خلاصها. بيد أنه
على خلاف الماركسية القائلة بأنه لا مكان في انتصارها لمن يملك، نقول إن في
انتصار الأنسنية مُتسع للجميع، ففيه تأخذ الذات المغتربة بالأنسنية كنهج
حياة، وتقهر بذلك اغترابها الثقافي، أما الذات الأنسنية المنتصرة فلسوف
تكتفي بتجريد الآخر من أُخرويته وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعادي الآخر ولا
تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته وتحرص على تجريده منها، ليصبح بدوره ذاتا
أنسنية نبيلة، تأخذ بالأنسنية وتعمل على تبصير الغير وحثه على الأخذ
بها.
وفي صراعها الثقافي مع
الأخروية والاغتراب، يُناط بالذات الأنسنية تدعيم جبهتها في مواجهتهما،
بشتى السبل والوسائل المتاحة، فالأخروية هي السادن القوي والعنيد للاغتراب
الثقافي للذات، وفي غيابها قد يجد الأنسني سهولة نسبية في التعاطي مع
الاغتراب وحث المغتربين على قهره وتبني النهج الأنسني. ورُب قائل وماذا عن
قوة الدفع الذاتي للاغتراب؟ وهل هي أقل خطرا من الأخروية؟ الحق أن الاغتراب
والأخروية من الخطورة بمكان، غير أن الآخر بجهوده الحثيثة والعدائية في
مواجهة الذات الأنسنية، يكون أشد وأنكى، فهو يسعى لتحطيم تلك الذات
النبيلة، ليُفقد الأنسنية جهودها، كما أنه يحول بينها وبين تبصير الذات
المغتربة بضرورة قهر اغترابها الثقافي، الأمر الذي ينال بقوة من فرص رأب
صدع الذات تحت راية الأنسنية. ويظل تقرير الأولوية الواجب على الذات
الأنسنية الأخذ بها في ذلك الصراع الثقافي، محكوما بالأوضاع التي يحيا
الأنسنيون في كنفها، وقدرتهم على تحديد أولويات الكفاح الأنسني.
وثمة علاقة وطيدة بين دعم
الأنسنيين لجبهتهم في مواجهة الأخروية والاغتراب الثقافي وبين بناء الذات
الأنسنية، فمن شأن دراسة الكيفية التى يتم بها الفعل الأخير تعميق معرفتنا
بهؤلاء الأنسنيين، علاوة على تعميق معرفتهم بأنفسهم فى مواجهة أولئك الذين
يُناصبونهم العداء ويرمون لإجهاض مساعيهم النبيلة لإحراز نصر فيه مُتسع
للجميع، مُتسع للضحية وذلك برفع نير الاغتراب عن عنقها، ومُتسع للجلاد وذلك
بتجريده من أسباب جرمه ومنحه عفوا كريما. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة ..
ماذا يعني بناء الذات الأنسنية؟! هل يعني ما يعنيه الدوجماطيقيون حين
يعمدون لتعاليم بعينها يُلقنون أنصارهم إياها ويُعدونها قبسا من الحقيقة
المطلقة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو بمعنى أدق يُعدونها
حقيقة مطلقة، لا مندوحة عن اعتقاد الإنسان فيها وإغلاق عقله دون ما عداها،
ناسين أو متناسين أن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء الحقيقة المطلقة هو
إعمال العقل في نشدانها، لا امتلاكها. وكيف لا؟! والبائن كما ذكرنا آنفا
أنه قد حيل بينه وبين إدراكها بحجاب صلد ليس يمزقه سوى الموت!!
أم تُرى بناء الذات الأنسنية
يعني ما يعنيه الشكاك، حين يعمدون لهدم كل القيم والفضائل وتصوير الحياة
قفرا موحشا، لا سبيل فيه أمام الإنسان لتثمين إنسانيته و إقامة مملكة
السلام على الأرض. الحق أن الكاتب يذكر أنه مر يوما بتجربة تعضد القول
بقسوة نهج الشكاك ولا إنسانيته، فقد عمد أحدهم يوما في حضوره لهدم كل ما
حواه رأس صاحبه من أفكار وقيم، فبدت في عين الأخير نظرة فزع وهلع وقال
لمحدثه في ذهول: "ما تفعله شئ مرعب ومخيف!". حينئذ تأكد للكاتب مدي تعارض
نهج الشكاك مع إنسانية الإنسان، كونه مؤهلا بطبيعته للاعتقاد فيما يبعث في
نفسه الأمن والسكينة. وأراني ما قصدت بقولي هذا نزوعا طبيعيا في الإنسان
إلى السكون والجمود، و إنما قصدت نزوع الإنسان إلى الأنسنية، وهي ثورة
عقلية دائمة، لا تُفزع صاحبها، بل تُمتعه وتُقويه بما تمنحه له من ثراء
عقلي، يشبه الثراء الجسدي لدى الرياضيين. وحدوثها يعني أن العقل لم يعد قوة
محافظة أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى
الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير.
الجدول رقم (1)
مقارنة الصراع في الأنسنية
بنظيره في الماركسية
وجه المقارنة
الماركسية الأنسنية
الجوهـــــر الوعي
بالصراع الطبقي الوعي بالصراع الثقافي
خصائص الصراع
اقتصادي/بسيط/ساخن ثقافي/معقد/بارد
أطراف الصراع الذات التي
لا تملك وسائل
الإنتاج، و الآخر الذي يملك
وسائل الإنتاج الذات
الأنسنية، والذات المغتربة التي تجهل أو تعرض عن الأنسنية وتدافع عن
اغترابها الثقافي وتعول على الآخر في خلاصها، والآخر الذي يدرك الأنسنية
ويؤثر نفسه بثمارها ويعمل جاهدا على تعمية الذات المغتربة عن الأخذ بها.
هدف الصراع انتصار
الذات
البروليتاريه، وهو انتصار ليس
فيه متسع لسواها، فانتصار الذات البروليتاريه يعني بالضرورة سحق الآخر
البرجوازي
والقضاء عليه. انتصار
الأنسنية، وهو انتصار فيه متسع للجميع، ففيه تأخذ الذات المغتربة بالأنسنية
كنهج حياة، قاهرة بذلك اغترابها الثقافي، وكذا تكتفي الذات الأنسنية
المنتصرة بتجريد الآخر من أخرويته وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعاديه ولا
تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته.
ويعضد التوضيح الأخير قولنا
السابق بأهمية، بل حتمية النأي بالأنسنيين عما يفعله الدوجماطيقيون، حين
يعمدون لتعاليم بعينها يُلقنون أنصارهم إياها ويُعدونها قبسا من الحقيقة
المطلقة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إضافة إلى تعضيد التوضيح
نفسه حتمية النأي بالأنسنيين عما يعمد إليه الشكاك حين يهدمون كل القيم
والفضائل ويصورون الحياة قفرا موحشا، لا سبيل فيه لتثمين إنسانية الإنسان و
إقامة مملكة السلام على الأرض. وأراني قانعا بأن بناء الذات الأنسنية لا
يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين
أقوالها وفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية
القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي
للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة
وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع
تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(10):
[1]الخاصية الأولى: معيار
التقويم هو الإنسان
أول ما تمتاز به الأنسنية هي
أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، عبر ما يمليه حسه الإنساني
من قوانين، وهو قول يجب أن يُفهم في سياقه الأنسني الحقيقي، لا بالمعنى
المبتذل والفاسد الذي يُضاف إليه عادة عند تجار الآلام، فهم يدعون أنه لا
أنسنية بدون وضع الإنسان في مقابل الإله، ناسين أو متناسين أن الإنسان ـ في
أكثر الآراء شيوعا ـ هو وجه الإله على الأرض وأنه ما انتقل من دور البربرية
والوحشية إلى دور التحضر والمدنية إلا عن طريق القوانين. بيد أن هذه
القوانين ليست قوانين مفروضة من الخارج، وإلا لكان في ذلك قضاء مبرما على
الفردية، إنما هذه القوانين هي ما يُمليه الحس الإنساني العام . ففيها إذن
تتمثل الفردية، من ناحية، على أساس أن العقل الإنساني هو الذي يُشرعها أو
أن الناس هم الذين شرعوها، ومن ناحية أخرى يتمثل فيها شئ من كبح جماح
الفردية، لأن هذه القوانين يجب أن يخضع لها الجميع. وبعبارة أخرى، لا يُعد
القول بكون معيار التقويم هو الإنسان تأليها للإنسان، فليس في الأنسنية
تأليه لإنسان وإعجاب به وحماس له إلى حد جعله الكائن الأوحد والسيد المطلق.
وإنما فيها الانتصار لذلك الكائن النبيل والحيلولة دون سعي تجار الآلام
لاسترقاقه وتصييره دابة تعلف في زريبة الآخر، وأقصد بالآخر هنا ـ كما أسلفت
ـ كل من يعمد لتعمية الذات، أيا كانت هويتها أو انتمائها، عن الأنسنية.
[2] الخاصية الثانية:
الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة
ذكرنا آنفا أن أول ما تمتاز
به الأنسنية هي أنها تبدأ فتؤكد أن معيار التقويم هو الإنسان، والسؤال الذي
يطرح نفسه.. كيف للإنسان أن يضطلع بتلك المهمة الشاقة والعسيرة ؟! لعمري
انه العقل .. ذلك القبس الإلهي ـ طبقا لهيجل (**) ـ الذي يسكن أجساد البشر!
إن ثورته الدائمة سبيلهم المتاح لتطوير الحياة وإدراك الحقيقة. أقول
الحقيقة ولا أقول الحقيقة المطلقة، فهي محجوبة وهيهات للعقل البشري أن
يدركها وان تصور خلاف ذلك، إذ أن الإنسان لا يملك حيالها سوى أن يرخي جفنه
ويركن إلى هذا الجانب أو ذاك. لذا، تصر الأنسنية على أن تضع موضع الاعتبار
كل ما في العقول الفردية من خصب وثراء وثورة بدلا من محاولة ضغطها جميعا في
طراز واحد من "العقل" يقال عنه أنه واحد لا يتغير. والأنسنية كذلك تحسب
حسابا للثروة النفسية لكل عقل إنساني، وتُعنى بوفرة اهتماماته وعواطفه
ونزعاته ومطامحه. ولا شك أنها بعنايتها هذه تُضحي بكثير من البساطة المضللة
التي تبدو في الصيغ المجردة، ولكنها تُقدر وتُوضح جمعا غفيرا مما أغفله
الناس فيما مضى ونظروا إليه على أنه وقائع غير مفهومة.. على أية حال، تظل
الإشادة بالعقل ورد تطور حياة الإنسان إلى ثورته الدائمة إحدى الخصائص
المهمة للأنسنية. وثورة العقل تعني أنه لم يعد قوة محافظة، تعمل على كبت أي
تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة،
وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. حتى أن الأنسني مطالب بأن يضمر عداء أبديا
لكل صورة من صور الطغيان أو السيطرة على عقل الإنسان، ليتسنى لنا معشر
البشر ردع تجار الآلام وحرمانهم من المتاجرة بآلامنا.
[3] الخاصية الثالثة: تثمين
الطبيعة والتعاطي المتحضر معها
مادمنا قد استخلصنا مكانة
الإنسان في الأنسنية، بجعلها إياه معيار التقويم وإشادتها بعقله ورد التطور
إلى ثورته الدائمة، فقد بقي علينا أن نقوم بحركة مد وعود إلى الخارج، لا
لكي يفنى فيه الإنسان من جديد، بل ليؤكد نفسه فيه ويفرضها عليه. والإنسان
في هذا الاتجاه إلى الطبيعة يخضع لعامل غزو الذات للموضوع بفرضها قيمها
عليه واستخدامه كأداة لتحقيق إمكانياتها، بوصفه عالم أدوات. ومن هنا كانت
الخاصية الثالثة للأنسنية هي تثمين الطبيعة والتعاطي معها بتحضر ورقي. غير
أنه منوط بنا أن نفهم جيدا الفارق بين هذا الاحترام الأنسني للطبيعة، وبين
عبادة الطبيعة عند الشعوب البدائية. فتثمين الأنسني للطبيعة وتعاطيه
المتحضر والراقي معها إنما ينبع من اعتقاده الراسخ بكونها منحة سخية، فضلا
عن كونها ضرورة ملحة لإدامة الوجود الإنساني، أما الشعوب البدائية فتذهب في
تعاطيها مع الطبيعة إلى تأليهها، رهبة وخوفا من جبروتها، وشتان ما بين
الأمرين.
[4] الخاصية الرابعة: القول
بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه
رغم وجاهة القول بأنه لا يمكن
التقدم بالإنسان حتى يصل إلى درجة الكمال وحتى تختفي الآثام والآلام من وجه
الأرض، إلا أنه يُناط بالأنسني الاعتقاد بأنه يمكن للإنسان أن يتقدم كثيرا،
وأن ذلك إنما يتم بالإنسان نفسه وقواه الخاصة، لا بقوة خارجية أو عالية على
الكون، ففي هذا أكبر تأكيد لجانب العقل والنشاط والتحقيق الخارجي في الذات
الإنسانية. وليس ثمة تعارض كما قد يبدو للوهلة الأولى، فإثابة المجتهد على
اجتهاده سنة كونية، حق علينا ـ معشر البشر ـ الانصياع لها. غير أن تجار
الآلام، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، يحلو لهم محاجة القول بقدرة الإنسان
على إحراز التقدم استنادا لقواه الخاصة، عبر المزايدة على تلك السنة
الكونية، وذلك بزعمهم أن التقدم إنما يتم حتما بقوة خارجية وليس بقوى
الإنسان الخاصة، وهو أمر تعوزه الصحة ويتعارض مع المنطق السليم. إذ أن
الإنسان ـ كما أسلفنا ـ هو في أكثر الآراء شيوعا وجه الإله على الأرض، منحه
خالقه قبسا إلهيا هو العقل، كي يضرب به في مجاهل الحياة، ويحفظ به عليه
وجوده. وأراني لا أتجاوز الحقيقة حين أقرر بضمير مطمئن أن حاكمية الإنسان
لا تعدو في جوهرها كونها التزاما صارما بما يطلق عليه الحاكمية الإلهية.
فنحن معشر البشر محكومون حكما غير مباشر عبر عقولنا التي منحنا إياها،
والتي لولاها لهلكنا أو على الأقل ظللنا نضرب في مجاهل الحياة على غير هدى.
[5] الخاصية الخامسة: تأكيد
النزعة الحسية الجمالية
إن العقل الذي تشيد الانسنية
به وترد التطور إلى ثورته الدائمة ليس ذلك العقل الجاف المجرد التفكير الذي
يشبه آلة تنتج تصورات شاحبة غادرتها الحياة، مثل العقل الاسكلائي التائه في
بيداء الديالكتيك الأجوف والأقيسة العقيمة(***)، بل هو الوعي الكامل للذات
الإنسانية في مواجهتها للموضوعات الخارجية، وهو لهذا يواكب العاطفة ولا
يعاديها، ويتكئ على الحس العيني الحي. ولهذا تمتاز تلك النزعة بخاصية خامسة
هي النزعة الحسية الجمالية التي تميل إلى الرجوع إلى العاطفة واستلهامها
إدراك الوجود في بعض أنحائه. واغلب الظن أن الحديث عن هذه الخاصية لا يتحمل
مزيد من التفسير والشرح، وإلا كنا ندفع أبوابا مفتوحة على مصاريعها .
وقد يكون ملائما ونحن بصدد
الحديث عن كيفية بناء الذات الأنسنية، إحالة القارئ الكريم للمعالم
المذكورة في كتاب (الإنسان هو الحل)، والتي لم أُوردها بطبيعة الحال على
سبيل الحصر، و إنما أوردتها على سبيل المثال، بوصفها التجسيد الحي النابض
لما أتصوره نهجا أنسنيا واعدا، يُناط بالذات الأنسنية الاسترشاد بأصحابه،
وليس مُحاكاتهم، في رحلتها الشاقة والممتعة في درب الأنسنية الصعب، وكذا في
سعيها الدؤوب لفتح مجالات جديدة للكفاح الإنساني. فقد رمت تلك المعالم
الأنسنية، وأقصد بها إدوارد سعيد وإقبال أحمد وفرانز فانون، لكل ما ترومه
النفس الإنسانية المتوثبة، حين ترق، فتكشف لناظرها عما يجول في صدرها من
نبل ونقاء. ولسوف يجد القارئ الكريم في ثلاثتهم ما يعينه على تفهم قولنا
بأن بناء الذات الأنسنية لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لهاـ كما أسلفنا ـ
بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وفعالها، شريطة انطواء تلك
الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان كأعلى قيمة في
الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري
وللطاقات البشرية. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص
العامة للأنسنية التى فرغنا توا من ذكرها.
بيد أنه من الضروري التأكيد
على أهمية مسألة استرشاد الذات الأنسنية المنشود بنائها بالمعالم المذكورة،
وليس المحاكاة الحرفية لها، فالأنسنية ـ كما أسلفنا ـ لا تسعى لقولبة
العقول أو استنساخها على النحو الذي يفعله الدوجماطيقيون، و إنما تُصر
اصرارا صارما على أن تضع موضع الاعتبار كل ما في العقول الفردية من خصب
وثراء وثورة بدلا من محاولة ضغطها جميعا في طراز واحد من "العقل" يُقال عنه
أنه واحد لا يتغير. وكذلك تحسب الأنسنية حسابا للثروة النفسية لكل عقل
إنساني، وتعنى بوفرة اهتماماته وعواطفه ونزعاته وطموحاته. ولا شك أنها
بعنايتها هذه تضحي بكثير من البساطة المضللة التي تبدو في الصيغ المجردة،
ولكنها تُقدر وتوضح جمعا غفيرا مما أغفله الناس فيما مضى ونظروا إليه على
أنه وقائع غير مفهومة، وهو ما يشي باحترامها للفرد وثمينها للاختلافات
الفردية.
والآن، أما وقد تعرفنا على
الاختلاف البين بين ما يعنيه بناء الذات الأنسنية، وبين ما يرمي إليه
الدوجماطيقيون من تلقين لأتباعهم وما يرمي إليه الشُكاك من هدم لكل ما
تحويه الرؤوس، يبيت لزاما تذكير القارئ الكريم بما يتسم به نهج الأنسنيين
من نزوع لإثارة العواصف الفكرية وليس التلقين، وكذا نزوعهم للبناء وليس
الهدم، على خلاف نهج الدوجماطيقيين والشكاك. وهو ما ينفي عن الأنسنيين ما
قد يتصوره القارئ نزوعا للانخراط في صراع ساخن وأبدي مع غرمائهم. فكلمة
"الصراع" المستخدمة في وصف العلاقة بين الأنسنيين والذات المغتربة والآخر،
لا تعني ما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى من نزوع أطراف الصراع، لممارسة
العنف الصريح والساذج، فالكلمة إذن لا تُستخدم هنا إلا لوصف التعارض الهائل
بين الأنسنيين وغرمائهم، وبين الغرماء بعضهم البعض، وأقصد بالغرماء الذات
المغتربة والآخر. ودليل قولي هذا إيمان الأنسنيين الراسخ والقوي بأن في
انتصار الأنسنية متسع للجميع. فبانتصار الأنسنية تتخلى الذات المغتربة عن
اغترابها وتأخذ بالأنسنية كنهج حياة، وتقهر بذلك اغترابها الثقافي، أما
الذات الأنسنية المنتصرة فلسوف تكتفي بتجريد الآخر من أخرويته البغيضة،
وتمنحه عفوا كريما، فهي لا تعادي الآخر ولا تكرهه، ولكنها تعادي أخرويته
وتحرص على تجريده منها، ليصبح بدوره ذاتا أنسنية، تأخذ بالأنسنية وتعمل على
تبصير الغير وحثه على السير في دربها الصعب والممتع.
ولعل فيما سبق تأكيدا لنهج
الأنسنيين، وسعيهم السلمي للتشييد والبناء، أقصد بناء الذات الأنسنية
القادرة على تجسيد الرفقة الإنسانية الصحيحة، وذلك لقطع الطريق على تجار
الآلام في زعمهم الباطل باستحالة نشدانها، فتلك الرفقة تسمح لكل عقيدة من
العقائد باتخاذ موقفها ومنبرها في هيكل الوجود الجميل، شريطة ألا يدعى
أنصار هذه العقيدة أو تلك امتلاك الحقيقة المطلقة ، فأقصى ما يطمح إليه
الإنسان إزاء تلك الحقيقة المطلقة هو إعمال عقله في نُشدانها، لا امتلاكها.
وكيف لا؟! و البائن أنه قد حيل بينه وبين إدراكها بحجاب كثيف وصلد ليس
يمزقه سوى الموت. وعليه فلا يحق له فرض رأيه إزائها على رفاقه في رحلة
الحياة، وكل ما يملكه الإنسان إزائها هو الوثوق بما يفضي إليه به قلبه.
والأنسنيون في سعيهم الحثيث
والنبيل لتدعيم جبهتهم الواعدة، ليس أمامهم سوى التعاطي الحذر مع غرمائهم،
فهم أنسنيو المستقبل. وأراني ما قصدت بهؤلاء الغرماء سوى الذات المغتربة،
حتى تبرأ من اغترابها، والآخر، حتى يبرأ من أخرويته. فليس أقسى على الأنسني
من رؤية غيره وقد أضحى فريسة سهلة للاغتراب الثقافي أو الأخروية، فكلاهما
لا يرحم صاحبه، حتى أنه يأخذه بعيدا عن الرفقة الإنسانية الصحيحة التي
تنشدها الأنسنية في كل زمان ومكان. ولسنا الآن بصدد المقارنة بين الاغتراب
الثقافي والأخروية، فكلاهما شر وبلاء، و إنما نحن بصدد الحديث عن كيفية
تجاوزهما، بوصفهما عقبتين كئودتين، تحولان دون انخراط أصحابهما ـ أقصد
الذات المغتربة والآخر ـ في درب الأنسنية.
ولنبدأ بالذات المغتربة،
ولننظر كيفية رأب الصدع بينها وبين الذات الأنسنية، ذلك الصدع الذي يُسببه
الاغتراب ويعمل الآخر دوما على تعميقه، لا تجسيره. وليس أنسب في هذا الصدد
من الأخذ الحذر وغير المباشر بوسيلتين، من شأنهما تمكين الذات المغتربة من
الفكاك من شرك الاغتراب واللحاق بالذات الأنسنية. وأقصد بهاتين الوسيلتين:
أولا، تعريف الذات المغتربة بخطورة آليات تكريس الاغتراب الثقافي ، وكذا
تبصيرها بحتمية التعاطي الحذر معها، علاوة على السعي لأنسنة تلك الآليات.
ثانيا، تثوير عقل الذات المغتربة والحيلولة دون إبقاءه قوة محافظة أساسا،
تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي
بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى التغيير. والثورية المقصودة هنا
لا تعني التجديف في المقدسات ولا الشطح فيما ليس من ورائه نفع، وإنما تعني
أن العقل لم يعد قوة محافظة، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة،
وتدعو إلى الاحتفاظ الحرفي بالثقافات السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى
التغيير. فتثوير العقل طريق المعرفة والتطور الإنساني، ومن لا يملك عقلا
ثائرا لا يمكنه أن ينقد شيئا، ومن لا ينقد شيئا فانه مُغترب وسيظل على
اغترابه. وهذا عين ما ينشده سدنة الاغتراب، فهم يريدون المغتربين عبيدا لا
أحرارا!
ولئن كنا قد ألمحنا إلى أن
نجاح المغتربين في استعادة حقهم الطبيعي في نقد وتطوير ثقافتهم يعني
بالضرورة نجاحهم في قهر اغترابهم الثقافي، فها نحن نقرر صراحة أن السبيل
الأكثر فعالية لاستعادة الحق المسلوب، إلى جانب تعرية آليات تكريس الاغتراب
الثقافي للذات، هو تثوير تعاطى الذات المغتربة مع ثقافتها، ليتسنى لها أن
تصبح ذاتا فاعلة، لديها القدرة على تثمين العقل. فبدون انعتاق الملكات
العقلية الخلاقة والإبداعية من رق المحرمات الثقافية، يصبح إدراك الذات
لثقافتها إدراكا ميتا لا حياة فيه ولا رجاء منه. ولا ينبغي أن تُخيفنا
الثورة العقلية المنشودة، لأنها لن تلبث أن تُؤتى ثمارها ـ إن عاجلا أم
آجلا ـ كنوزا معرفية متناثرة، يُنفقها المغتربون في اجتثاث أوضاعهم
المتردية والعود الأحمد للنهج الأنسني. ولا يُرهبننا تجار الآلام بقولهم أن
ثورة كتلك تعني بالحتمية الفوضى واختلاط الحابل بالنابل، فتلك مزاعم
يعوزها المنطق السليم، لأن الأنسنيون يريدونها، وهى بالضرورة كذلك، أداة في
يد المجتمع المغترب، يقهر بها اغترابه المخزي، ويعزز بها مسيرته في درب
الأنسنية الصعب والممتع.
والآن، لنتحول إلى بيان أهمية
تعاطي الذات الأنسنية مع الآخر بحذر وبشكل غير مباشر، عبر تجريدها إياه من
أخرويته البغيضة والممجوجة، وتمكينه من السير في درب الأنسنية الصعب
والممتع. وهي رؤية تستند بصورة أساسية إلى تعرية أخروية الآخر، وإبراز
دوافع استئثاره الأناني بالأنسنية، وتكريسه لاغتراب الذات المسكينة، فلمثل
تلك الأمور أهمية بالغة في إبراز قبح الأخروية وتنفير الذات منها، ودفع
الآخر للإيمان بأنه في موعد نصر الأنسنية متسع للجميع. والآخر هيكل شاغر
يشغله كل من يأتي فعال الآخر، و بعبارة أدق، يعد آخرا ـ كما أسلفنا ـ كل من
يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت
نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى
الوسائل والسبل، بهدف حرمانها من جني ثمار ذلك الفعل الطيب.
أقول إن الآخر غالبا ما يقف
وراء إهدار الذات المغتربة للأنسنية، أي وراء عدم أخذ تلك الذات بها، وذلك
عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي بكل ويلاته وعذاباته التي يسببها
لأصحابه. و بينما تقف الأنانية الثقافية وراء أخروية الآخر المحلي، تقف
الثنائية الثقافية وراء أخروية نظيره العالمي. بيد أنه ليس أشق على الكاتب
من الحديث عن أنانية الآخر المحلي، في وقت لا يُدرك فيه المجتمع المغترب
وجوده أصلا. فهو، حتى وإن أدركه، بطريقة أو أخرى، فإنه يجد صعوبة جمة في
الاعتراف بوجوده، اعتقادا منه بأنه جزء لا يتجزأ من نسيجه ومن كينونته
الثقافية، واعتقادا منه كذلك بأن الاعتراف به إنما يعد دربا من اللغو
والهذيان، علاوة على الاعتقاد في كون مثل ذلك الاعتراف بوجود الآخر المحلي
دعوة للانتحار الثقافي. ويظل الكاتب على ثقته بوجود الآخر المحلي على قيد
الحياة، ويظل كذلك على إيمانه بإمكانية تعريته.
وللذات المغتربة العذر، كل
العذر، في أنها لم تألف الحديث عن الأنانية الثقافية للآخر المحلي، إما
لجهلها بوجود هذا الآخر أصلا كما أسلفنا، أو لاعتيادها الجلوس إلى طاولته،
غير عابئة بما يُقدم إليها، حتى أنها ألفت أنانيته تلك ولم تعد ترضى عنها
بديلا، والأرجح هو اجتماع العذرين معا. و للكاتب أن يُذكر قارئه الكريم بأن
الآخر المحلي المقصود هنا لا يدرك فقط أن الإنسان أعلى قيمة في الوجود وأن
له حق التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية،
تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر
الجمعي، ولكنه ـ أقصد الآخر المحلي المشار إليه ـ يحرص أيضا في الوقت نفسه
على تعمية أبناء مجتمعه عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها المذكورين في الفصول
السابقة، رغبة منه في الانفراد بجني ثمار هذا الإدراك.
ولا مفر من القول بأن تحديد
أولئك الذين تنطبق عليهم أوصاف الآخر المحلي، تبعا للمعيار الأنسني، يجب أن
يُترك بداهة للقارئ العزيز. ولو أن النخب الحاكمة في المجتمعات المغتربة،
في أكثر الآراء رُجحانا، تُشكل حجر الزاوية في هيكله، وأقصد بالنخب الحاكمة
تلك الطائفة من الحكام والساسة وغيرهم، الذين ترتبط منافعهم دوما بالأوضاع
المتردية، والمواتية لتعمية الذات المغتربة عن إدراك جوهر الأنسنية وهدفها،
فنراهم ينزعون في كل زمان ومكان للمحافظة على تلك الأوضاع، بدعوى الحفاظ
على مصالح مواطنيهم. وهو ما يُفضي بهم دوما إلى الانفصال الثقافي عن الذات،
وان بدا الأمر للمغتربين ثقافيا خلاف ذلك. واراني بحديثي هذا قد أعفيت تجار
الآلام من عبء تذكيرهم المستمر والملح لمواطنيهم بقبح جلد الذات، فالثابت
أن أولئك الذين تحملهم أنانيتهم الثقافية على تعمية مواطنيهم عن إدراك جوهر
الأنسنية وهدفها، ليسوا ذاتا تُجلد ولكنهم آخر لطالما اصطلت تلك الذات ـ
ولا تزال تصطلي ـ بناره وشروره!
أما فيما يتعلق بالحديث عن
الثنائية الثقافية للآخر العالمي، فثمة تساؤل مهم يُلح بقوة في فرض نفسه،
وهو التساؤل المعني بماهية مصطلح الآخر العالمي، نظرا لإمكانية تسكين
العديد من المضامين المختلفة تحته. فالآخر العالمي، قد يكون أيا من أصحاب
الحضارات الرئيسية التي أوردها صامويل هنتنجتون في مؤلفه الشهير (صدام
الحضارات)، وهي: الصينية واليابانية والهندية والغربية والإسلامية
والأفريقية(11). بيد أن الكاتب يستخدم المصطلح المذكور للإشارة إلى أصحاب
الحضارة المهيمنة أيا كانت تلك الحضارة، طالما عمدوا لتعمية أبناء الحضارات
الأخرى عن الأنسنية، وذلك بمساندة الآخر المحلي بطبيعة الحال. ويظل منطقيا
قول البعض بانطواء تعميم القول السالف على جميع أبناء الحضارة المهيمنة على
قدر وافر من الإجحاف والظلم، استنادا لما يلمسه هؤلاء، عبر تعاطيهم المباشر
مع البسطاء المنتمين للآخر العالمي، من رفض بين لتلك الثنائية الثقافية،
وإيمان عميق بقبح إهدار آدمية الذات المغتربة. ولهؤلاء نُؤكد أننا نتعاطى
في المقال الماثل مع الاتجاه العام المسيطر والمؤثر في الحضارة المهيمنة
عالميا، والذي غالبا ما يُسهم أولئك البسطاء في صياغته، بشكل أو بآخر. وان
توهموا أو سعوا لإيهامنا بخلاف ذلك! والأولى بهؤلاء البسطاء، حال جديتهم،
ردع الآخر العالمي، الذي ينتمون إليه، عن إهدار آدمية أبناء الحضارات
الأخرى، بدلا من التباكي عليهم، وإبداء الاستياء إزاء الثنائية الثقافية
المقيتة!
أقول إن ثمة ثقافة بعينها
تحكم علاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته، وهي مغايرة، في أغلب الأحيان،
للثقافة الاستعمارية التي تحكم علاقته بأبناء الحضارات الأخرى. حتى أن
المراقب المحايد لا يسعه سوى التساؤل عن كيفية تعايش هاتين الثقافتين
المتباينتين، إلى حد التناقض، في ذهنية الآخر العالمي!! وهو التساؤل الذي
ينبغي أن يُؤرق الباحثين. فعلى خلاف ثقافته الاستعمارية، غالبا ما لا
تتعارض الثقافة الحاكمة لعلاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته مع القول بأن
الإنسان أعلى قيمة في الوجود وأن له حق التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج
للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين
للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. أو بعبارة أخري، غالبا ما لا يوجد ثمة
تعارض جوهري بين الثقافة الحاكمة لعلاقة الآخر العالمي بأبناء حضارته
والأنسنية، وذلك لتثمين كليهما للإنسان باعتباره أعلى قيمة في الوجود،
علاوة على إيمان كليهما بحق الإنسان في التمحيص النقدي للأشياء، بما هي
نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل.
أما الاستعمار ـ وأستخدم
الكلمة هنا مرادفا للثقافة الاستعمارية ـ، فهو مفهوم غامض إلى حد كبير،
يُثير في نفوس الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة مشاعر متباينة، فضلاً عن
اختلاف تعريفه من فترة زمنية لأخرى ومن مُحلل لآخر، كل حسب منطلقاته
الفكرية. غير أن الكاتب ولأغراض الدراسة الماثلة يميل لتعريف الاستعمار
بأنه علاقة استغلالية، بين طرفين ليسا بالضرورة دولتين، يوظف بموجبها الطرف
الأقوى قدراته العالية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو
أيديولوجية، لإقامة الاستغلال والاحتفاظ به وحصد المنافع الخاصة به، مقابل
الزعم بحماية الطرف الأضعف من الاعتداء أو تنمية قدراته الاقتصادية أو أية
مزاعم أخرى من هذا القبيل. وغالبا ما تتسم الثقافة الاستعمارية للآخر
العالمي بخصائص عديدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، الاعتقاد في شرعية
الاستعمار ، وفوقية المستعمر ودونية المستعمر، فضلا عن القول بمشروعية
إهدار آدمية الشعوب المستعمرة .
والآن ، أما وقد تحدثنا عن
الثنائية الثقافية للآخر العالمي، يبيت لزاما علينا التأكيد على إمكانية أن
يكون الآخر العالمي آخرا محليا في الوقت نفسه. بمعنى أنه من الوارد، بل
والمألوف، تاريخيا ألا يكتفي القائمون على حضارة مهيمنة بعينها بتعمية
أبناء الحضارات الأخرى عن الأنسنية وتكريس اغترابهم الثقافي، فنراهم يعمدون
لفعل الشيء نفسه مع أبناء حضارتهم، رغبة من جانبهم في الاستئثار بثمار
الأنسنية، وذلك لاعتقادهم بتعرض مصالحهم للخطر حال شيوع الأخذ بالنهج
الأنسني. وحينئذ يجتمع الآخران المحلي والعالمي في آخر واحد، ويصبح الجلاد
واحدا على الصعيدين المحلي والعالمي، وتتشابه إلى حد كبير سلوكياته تجاه
أبناء حضارته، مع سلوكياته تجاه أبناء الحضارات الأخرى، وهو الأمر الذي
يُنبئنا التاريخ بحدوثه في حقب زمنية بعينها. وقد يحدث أحيانا أخرى أن يكون
الآخر العالمي أكثر شراسة في مواجهة أبناء حضارته عنه في مواجهة أبناء
الحضارات الأخرى، وهو ما يعضد القول بقبح الأخروية وشراستها.
ويحلو للكاتب قبل مغادرة هذا
المقال التأكيد على قناعته بأن بناء الذات الأنسنية يعد بالأساس بناءا
للوعي، فجوهر الأنسنية هو الوعي بالصراع الثقافي، أي إدراك الذات الأنسنية
لمساعي الآخر الرامية لتعمية الذات المغتربة، وكذا إدراكها لجهل أو إعراض
الذات المغتربة عن الأنسنية ودفاعها عن اغترابها وتعويلها على الآخر في
خلاصها. كما يحلو للكاتب أيضا التأكيد على قناعته بأن كلمة "الصراع"
المستخدمة في وصف العلاقة بين الأنسنيين والذات المغتربة والآخر، لا تعني
ما قد يتبادر للذهن للوهلة الأولى، من نزوع أطراف الصراع، لممارسة العنف
الصريح والساذج، فالكلمة لا تستخدم هنا إلا لوصف التعارض الهائل بين
الأنسنيين وغرمائهم، وبين الغرماء بعضهم البعض، وأقصد بالغرماء الذات
المغتربة والآخر. ففي انتصار الأنسنية متسع للجميع، متسع للذات المغتربة
وذلك بتخليها عن اغترابها وأخذها بالأنسنية كنهج حياة، قاهرة بذلك اغترابها
الثقافي. وكذا في انتصار الأنسنية متسع للآخر، فلسوف تكتفي الذات الأنسنية
حال انتصارها بتجريد الآخر من أخرويته، وتمنحه عفوا كريما.
الهوامش
(1) إدوارد
سعيد ]1935 ـ 2003[: وُلد إدوارد سعيد في القدس عام 1935. وبدأ دراسته في
كلية فكتوريا في الإسكندرية، ثم سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية
كطالب، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة برنستون عام 1957، ثم الماجستير
عام 1960، والدكتوراه من جامعة هارفرد عام 1964. قضى سعيد معظم حياته
الأكاديمية أستاذا في جامعة كولومبيا في نيويورك، لكنه كان يتجول كأستاذ
زائر في عدد من كبريات المؤسسات الأكاديمية، مثل جامعة هارفرد وجون هوبكنز.
تحدث سعيد العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وألم بالأسبانية
والألمانية والإيطالية واللاتينية. أصدر بحوثا ودراسات ومقالات في حقول
عديدة تنوعت من الأدب الإنجليزي، وهو اختصاصه الأكاديمي، إلى جانب الموسيقى
وشئون ثقافية مختلفة. توفي سعيد في إحدى مستشفيات نيويورك عام 2003 عن 67
عاما نتيجة إصابته بسرطان الدم (اللوكيميا). للاطلاع على آخر مؤلفات الراحل
الفذ إدوارد سعيد راجع: إدوارد سعيد، ترجمة فواز طرابلسي، الأنسنية والنقد
الديمقراطي، (بيروت: دار الآداب، 2005)، ص 17.
(*) فرنشسكو
بتراركه ]1304ـ 1374[: شاعر إيطالي كبير، جاهد في كتاباته في سبيل إحياء
الروح القديم. وفضلا عن تتويجه في روما عام 1341 شاعر الشعراء، فهو ـ طبقا
للكثيرين ـ أول الأنسنيين أو النشوريين.
(2) مراد
وهبة، المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979)، ص55.
(3) إسماعيل
مظهر ]1891 ـ 1962[: أحد رواد الفكر والعلم والترجمة في مصر والعالم
العربي. درس علوم الأحياء، ثم تحول إلى الأدب. ترجم مؤلف داروين
Charles
Darwin "أصل الأنواعThe
Origin of Species
"، ونشره عام 1918. اشتغل بالتأليف، ورأس تحرير "المقتطف"، وأصدر مجلة
"العصور" عام 1927. وكذلك أصدر "قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية
الإنجليزية والعربية" عام 1951، و "قاموس النهضة: إنجليزي ـ عربي" عام
1954، و "معجم مظهر الانسكلوبيدي"، وقد طبع منه 3 أجزاء. يقول عنه ابنه
جلال في مقدمة كتابه "رسالة الفكر الحر": "إنه كان ناقدا ومفكرا ومصلحا
اجتماعيا، وأن أفكاره دارت حول معنيين هما الحرية الفردية والمثل الأعلى،
وأنه كان مخلصا دفع كل شيء، ماله وأعصابه وجهوده، وأن أهم مواقفه دعوته إلى
تكوين حزب اجتماعي سماه حزب الفلاح أو حزب العمال والفلاحين، لأن الريف
عنده هو مصر ومصر هي الريف". حول النشورية راجع: إسماعيل مظهر، لواحق
المقتطف الشهرية، (القاهرة: مطبعة المقتطف والمقطم، فبراير 1946)، ص 5.
(4) فرديناند
سكيفل، "المجتمع الإيطالي في عصر النهضة"، في جورج سارتون وآخرين، ترجمة
الدكتور عبد الرحمن ذكي، حضارة عصر النهضة، (القاهرة؛ نيويورك: دار النهضة
العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1961)، ص ص 63 ـ 97.
(5) جورج
سارتون، "العلم في عصر النهضة"، في جورج سارتون وآخرين ،م. س. ذ، ص ص 101 ـ
132.
(6) اعتمد
الكاتب في استقاء تلك المعلومات على عرض باللغة العربية على شبكة الإنترنت
لكتاب بعنوان "مدخل عام إلى النزعة الإنسانية
Humanism : an
Introduction"، لجيم
هيريك Jim Herrick.
والكتاب صادر عن بروميثيوس بوكس
Prometheus Books،
بلندن عام 2005. وذلك لتعذر حصول الكاتب على نسخة من الكتاب المذكور، ويمكن
للقارئ الكريم مراجعة العرض المذكور على الموقع التالي على شبكة الإنترنت:
www.iraqcenter.net
(7) راجع:
عبد الرحمن بدوي، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، (الكويت؛ بيروت:
وكالة المطبوعات، دار القلم، 1982).
(8)
ت.س.إليوت، ترجمة شكري عياد، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، (القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب، 2003) ، ص ص 170 ـ 171.
(9) لمزيد من
المعلومات عن الاغتراب الثقافي للذات العربية وآليات تكريسه راجع: حازم
خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث،
2006).
(10) تأثر
الكاتب في صياغته لما يراه خصائص عامة للأنسنية في الحضارات المختلفة بآراء
العديد من الكتاب والمفكرين، خاصة رأي الفيلسوف عبد الرحمن بدوي الوارد في
كتابه القيم والثري " الإنسانية والوجودية في الفكر العربي "، وان اختلف
الكاتب مع الرأي المذكور في مواطن عديدة، لن تخطئها عين القارئ المدقق.
والدكتور عبد الرحمن بدوي ]1917 ـ 2002[: أحد أبرز الفلاسفة المصريين في
القرن العشرين وأغزرهم إنتاجا، فقد أصدر 150 كتابا تقريبا.
(**) جورج
فيلهلم فريدريك هيجل ]1770ـ 1831[: فيلسوف مثالي موضوعي ألماني، ولد في
المنطقة الجنوبية الغربية من ألمانيا. يعد بحق أحد أهم الفلاسفة الألمان،
حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن
التاسع عشر الميلادي.
(***) ـ
الفلسفة الاسكلائية أو المدرسية
Scholastic Philosophy:
أذاع هذه التسمية أول الأمر "أنسنيو" القرن السادس عشر، ويقصدون بها
الفلسفة التي نشأت ونمت في المدارس
schola
فقد كان لفظ scholasticus
يطلق على كل معلم في مدرسة أو خريج مدرسة وهو قصد ينطوي على معنى محقر. ـ
الديالكتيك أو الجدل
Dialectic:
الديالكتيك هو في اللغة العربية الخصام واللجاجة وفى اللغة الفلسفية فن
البرهان. ومبدعه هو زينون الايلي ]حوالي 490 ـ 430 ق. م[ دفاعا عن مذهب
معلمه بارمنيدس ]النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد[ ضد الذين
حاولوا أن يبينوا أن قول معلمه بالوحدة يستتبع نتائج مناقضة له. راجع: مراد
وهبة، م. س. ذ، ص 400 ، 142. ولمزيد من المعلومات عن الديالكتيك راجع أيضا:
مراد وهبة، قصـة الديالكتيك، (القاهرة: دار العالم الثالث، 1997).
(11) لا
يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى
طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى
آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن
يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة
مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر.
وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة
من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من
التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها "نحن" الكبرى التي نشعر ثقافيا
بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل "هم" عند الآخرين خارجنا. وقد تضم
الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل
الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات
ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب
الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية
والحضارات الجهيضة. وطبقا لصمويل هنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية
المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية،
والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن
الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ
وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على العدد
الإجمالي للحضارات التي وجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل
هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي،
(القاهرة: سطور، 1998)، ص ص 67 ـ 80.
هدر العقل العربي (*)
"النهر للمنبع لا يعود النهر
في غربته يكتسح السدود"
عبد الوهاب
البياتي
بداية أراني متفقا مع قول
الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بفطرية العقل، وكونه أعدل الأشياء قسمة
بيننا معشر البشر، فديكارت يقول فى مؤلفه الشهير "مقال عن المنهج"(1):
"العقل هو أحسن الأشياء توزعا بين الناس (بالتساوي). إذ يعتقد كل فرد أنه
أوتى منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظهم من شيء غيره،
ليس من عادتهم الرغبة فى الزيادة لما لديهم منه. وليس براجح أن يخطيء
الجميع فى ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة فى الحكم، وتمييز
الحق من الباطل، وهي فى الحقيقة التى تسمى بالعقل السليم أو النطق، تتساوى
بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن إختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض
أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا فى طرق مختلفة، ولا
ينظر كل منا فيما ينظر فيه الآخر، لأنه لا يكفى أن يكون للمرء عقل، بل
المهم هو أن يُحسن استخدامه. وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل
استعدادها لأكبر الفضائل. والذين لا يسيرون إلا جد مبطئين يستطيعون حين
يلزمون الطريق المستقيم أن يسبقوا كثيرا من يعدون ويبتعدون عنه".
ولندلف من مقولة ديكارت إلى
القول بأن نصيب الإنسان العربي من العقل ليس أقل من نصيب غيره من إخوته فى
الإنسانية، ولو ألقى تجار الآلام فى روعه غير ذلك. فالأرجح ـ كما أسلفنا ـ
أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وعليه يصير مقبولا، ونحن بصدد
الحديث عن العقل العربي، ألا نفرق بينه وبين غيره من عقول أمم الأرض.
فالعقل الذى يسكن أجسادنا معشر البشر واحد، سواء كان صاحبه عربيا أو
أفريقيا أو أوروبيا أو آسيويا أو أمريكيا! كل ما فى الأمر أننا معشر العرب
نوجه أفكارنا فى إتجاهات خاطئة ونسلك طرقا جدبة، ناسين أنه لا يكفى أن يكون
للمرء عقل، بل المهم ـ كما قال ديكارت ـ أن نُحسن إستخدامه، فهو بوصلتنا فى
طريق الحياة، إن ضل ضللنا وإن أصاب أصبنا!
على أية حال، لنبدأ بحثنا
بتتبع رحلة العقل عبر التاريخ، على أمل التعرف على مراحل تطوره، يحدونا ما
أورده عابد الجابري فى كتابه "تكوين العقل العربي" بشأن العقل فى الثقافة
اليونانية، وقوله بأن هراقليطس كان ـ فيما يذكر مؤرخو الفلسفة ـ أول من قال
بفكرة "اللوغوس" أو العقل الكوني. فلكى يفسر هذا الفيلسوف اليونانى النظام
السائد فى الكون، بعيدا عن الميثولوجيا والأساطير، قال بوجود "قانون كلى"
يحكم الظواهر ويتحكم فى صيرورتها الدائمة الأبدية. كما قال الرجل بأن
العقول البشرية تستطيع التوصل إلى معرفة صحيحة عن ظواهر الطبيعة إذا هى
شاركت فى العقل الكلي، أي إذا هى اجتهدت فى البحث فى نظام الطبيعة وأدركت
ما يتصف به هذا النظام من ضرورة وشمول. فهذا العقل الكوني أشبه ما يكون بـ
"نار إلهية لطيفة"، بل هو "نور إلهى"، هو حياة العالم وقانونه. والنفس
البشرية قبس من هذه النار الالهية، أى من هذا القانون الكلي الذى يسري فى
الطبيعة ويحكمها، فعليها إذن أن تعرف هذا القانون وتعمل بموجبه(2).
ويضيف الجابري فى كتابه
المذكور أنه إذا كانت فكرة هراقليطس عن العقل الكلي تميل إلى إقرار نوع من
وحدة الوجود، باعتبار أن العقل الكوني هذا محايث للطبيعة غير منفصل عنها،
فإن تصور اناكساجوراس للـ "النوس" أى العقل الكلي، يختلف من حيث إنه جعل
منه مبدأ مفارقا، غير مندمج فى الطبيعة ولا محايث لها. فاناكساجوراس يرى أن
الأجسام مركبة من أجزاء متشابهة تقبل القسمة إلى غير نهاية من حيث المبدأ،
ولكن مع افتراض وجود أجزاء فى غاية الصغر لا تنقسم، هى أشبه بالبذور
الأولى، لا تُدرك بالحواس وإنما تُتصور بالعقل فقط. ولقد كان الكون فى أول
أمره عبارة عن خليط فوضوى من هذه البذور، عبارة عن "كاوس"، أى عبارة عن
عماء مطلق يشكل الكل الموجود(3).
والعقل ـ طبقا لاناكساجوراس ـ
هو الذى نظم كل شيء وهو العلة لجميع الأشياء. ذلك لأنه كى يتمكن ذلك الخليط
الأولى، أو العماء الكلي، من الخروج من عطالته لابد من قوة محركة تقوم
بالفصل بين الأجزاء ثم الوصل بينها وإعادة تركيبها. وهذه القوة المحركة
سماها اناكساجوراس "النوس" أو العقل الكلي. وهى تدرك جميع الأشياء التى
امتزجت وانفصلت وانقسمت، وهى التى بثت النظام فى جميع الأشياء التى ُوجدت
والتى توجد الآن والتى سوف توجد. وهكذا فالعقل ـ طبقا لاناكساجوراس ـ يحكم
العالم، فنظرية الفيلسوف اليونانى لا تترك أى مجال للصدفة، فكل شيء عنده
نظام وضرورة. وإذا كان هناك ما يبدو، كأنه مجرد مصادفة، أى غير خاضع
للحتمية والضرورة، فليس ذلك راجعا ـ فى رأيه ـ إلا إلى عجزنا عن اكتشاف
سببه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فـ "النوس" ليس عقلا يفكر وحسب، هكذا بعيدا
عن العالم متعاليا، بل إنه أشبه بالنفس: هو بالنسبة للعالم كالنفس بالنسبة
للجسم، بل هو نفس كل ما له نفس، أو أن نفوس الكائنات الحية قبس منه، ومع
ذلك فهو غير محايث للطبيعة إذ يظل مستقلا عنها خارجا عن دائرتها. إنه عبارة
عن نفس مستقلة تصدر عنها نفوس مستقلة كذلك(4).
ومهما يكن من أمر الاختلاف
بين تصور كل من الفيلسوفين اليونانين هراقليطس واناكساجوراس للعقل الكلي
(الذى يتنزل منزلة الاله فى الديانات التوحيدية) فإن القول بمحايثته
للطبيعة أو انفصاله واستقلاله لا يغير من جوهر التصور اليوناني للعلاقة بين
الطبيعة وهذا العقل الكلي وبينه وبين الإنسان. فعلى فكرة هراقليطس عن
"اللوغوس" تأسست الفلسفة الرواقية، بل كل الفلسفات التى تميل إلى نوع من
وحدة الوجود، أما فكرة اناكساجوراس عن "النوس" فقد كانت وراء فلسفة سقراط
التى تأسست عليها فلسفة كل من أفلاطون وأرسطو. وطبقا لعابد الجابري، يظل
الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على "القديم" متمسكا بفكرة "العقل
الكوني"، متصورا إياه على أنه "القانون المطلق للعقل البشري".
ولعل فترة العصور الوسطى هى
الفترة الأقل ثراء وخصوبة في رحلة العقل عبر التاريخ، رغم قول الفيلسوف
المصري الراحل عبد الرحمن بدوى في كتابه المهم "فلسفة العصور الوسطى" إن
العصور الوسطى لم تكن في الواقع غير دور من أدوار تطور العقل الإنساني وهو
يسعى إلى تحقيق ممكناته، دور عامر بالتفكير الحي الخصب المناضل من أجل حرية
العقل في التفكير والبحث عن الحقيقة واكتناه أسرار الطبيعة وتحقيق الوسائل
المؤدية إلى تقدم الإنسانية!
يقول بدوى في كتابه إن العقل
الإنساني وجد نفسه مغلقا عليه داخل أسوار متينة هى أسوار العقيدة الدينية،
فكان عليه أن يقتصر على التجوال بين هذه الجدران. ولما بدأ يشعر بشيء من
الحرية كان عليه مع ذلك أن يحدد موقفه من مسألة حق العقل بإزاء النقل، أعنى
الصلة بين نفسه وبين مضمون العقيدة الدينية. وكان عليه في أول الأمر أن
يقول بأن الاتفاق تام فيما بين ما يقول به العقل وما أتى به الدين، لأن
الحق لا يتعدد، والفلسفة ما هى إلا البحث عن الحق، والحق هو الدين. لهذا
نجد عند الآباء الأولين أن كلمة "لاهوت" وكلمة "فلسفة" أو "حكمة" تدلان على
أمر واحد. ثم تطورت الصلة شيئا فشيئا، فحاول العقل أن يؤكد كيانه إزاء هذا
المضمون. فبدأ أولا بالخضوع في شيء من الدهاء، بأن قال إن الحقيقة هى
الحقيقة الإيمانية، غير أن هذه الحقيقة مجملة، فهي في حاجة إلى التفصيل
والشرح، وكلاهما يتم عن طريق العقل. وهذا الموقف نراه واضحا في القرنين
العاشر والحادي عشر، إذ نجد أنسلم ينشد من وراء استقلال التفكير أن يتعقل
الإيمان، أي يفسره حتى يتعقله، ولهذا كان شعاره "أومن لأتعقل"(5).
وطبقا لبدوي، , وقف بطرس
أبيلارد في القرن الثاني عشر مثل هذا الموقف وإن تقدم في سبيل تقرير نصيب
العقل. فهو لا يزال يؤمن بأن عقيدة التثليث قابلة لأن يُبرهن عليها عقليا
وهكذا كان لا يزال يقول إن الحقيقة الدينية تتفق في كل أجزائها مع ما يقضي
به العقل. بيد أننا نجد عنده تقدما أكثر مما كانت الحال عليه عند أنسلم،
ذلك لأن أبيلارد قال أيضا بوجود تعارض بين أقوال اللاهوت بعضها وبعض، وبين
أقوال اللاهوت وأقوال الفلاسفة، وذلك في منهجه المعروف بمنهج "نعم ولا".
وما إن أقبل القرن الثالث عشر حتى بدأ يحدد أكثر فأكثر ميدان العقل ويميزه
من ميدان الإيمان، تمييزا يمضي قدما لدى كبار الفلاسفة اللاهوتيين نحو
التمييز الواضح البين بين ماللعقل وما للنقل، وهذا التيار يستمر قويا حتى
نصل إلى دنس سكوت أريجين، فنرى ميدان النقل الذي يمكن إثباته بالعقل قد
انحسر شيئا فشيئا وضاق مداه، فتوما الاكويني أبعد من ميدان البرهان العقلي
عددا وافرا من العقائد الدينية التي ظن أسلافه أن من الممكن إثباتها بطريق
العقل، مثل التثليث والتجسد والخلاص، فقال إنه ليس من الممكن أن يُبرهن
عليها عقليا. وجاء من بعده سكوت أريجين فأنكر امكان إثبات خلود النفس
إثباتا عقليا، بل أن براهين وجود الله وبيان صفاته لا تقبل كلها أن تكون
عقلية، وكل ما يمكن أن يقال عن هذه البراهين هو أنها محتملة وليست
قطعية(6).
وبحلول القرن الرابع عشر
انفصل ميدان العقل عن ميدان الدين انفصالا يكاد يكون تاما، بمعنى أن ما
يأتي به الوحي قد لا يكون قابلا للبرهان العقلي، وما يقضي به العقل ليس من
الضروري أن يكون الوحي قد جاء به. وكانت نتيجة هذا كله أن أصبحت مشكلة
العقل والنقل مشكلة غير ذات موضوع، مما كان إيذانا بقيام الفلسفة الحديثة
التي لن تحاول التوفيق بين العقل والنقل، بل تدع هذه المشكلة خارج نطاق
البحث الفلسفي. هذا ما حصل في أوروبا المسيحية، أما فيما يخص العالم
الإسلامي، فالآراء عديدة ومتباينة، ولا يتسع المجال لذكرها جميعا.
لذا نكتفي بأن نُورد رأيا قد
يراه الكثيرون الأبرز والأكثر انسجاما مع القراءة المتأنية لما آلت إليه
أوضاع عالمنا الإسلامي، وهو قول المفكر محمد أركون بأن المواجهة بين العقل
الديني أو اللاهوتي/الفقهي والعقل الفلسفي بلغت أوجها في الفترة الواقعة
بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين. وولدت عندئذ أعمالا فكرية
وأدبية رائعة ترهص بالحداثة أو تمثل ما كان أركون نفسه قد دعاه بالحداثة
البدائية الأولية. ففي القرن العاشر مثلا استطاع الموقف الفلسفي أن يكسب
مساحة اجتماعية وسياسية واسعة بما يكفى لتغذية تيار إنساني حقيقي يستوعب
المرجعية الدينية دون أن يعترف لها بالأولوية (إلا فيما يخص سلوك العوام)
ولا حتى بالأسبقية. ولكن هذا التيار الإنساني والعقلاني كان للأسف سريع
الأفول. فبعد وصول السلوجوقيين إلى السلطة في القرن الحادي عشر أخذت الأطر
الاجتماعية والسياسية للمعرفة تضيق وتفتقر. وراحت بالتالي تحبذ أولوية
العقل اللاهوتي/الفقهي على العقل الفلسفي. وما انفك هذا الاتجاه يتزايد
ويتفاقم منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا عمليا. وهو ما دعا أركون إلى القول
بأن تصفية الموقف الفلسفي من ساحة الفكر الإسلامي تصفية شبه كاملة، إن لم
تكن كاملة بالمرة، إنما يُعد نتيجة طبيعية لأفول التيار الإنساني
والعقلاني(7).
ذكرنا سلفا أنه طبقا للجابري،
يظل الفكر الأوروبي الحديث، رغم كل ثوراته على "القديم" متمسكا بفكرة
"العقل الكوني"، متصورا إياه على أنه "القانون المطلق للعقل البشري".
وأرانى مقتنعا بعدم تعارض قول الجابري مع تأكيد أركون على أن العقل فى
أوروبا الغربية بدءا من القرن السادس عشر أو السابع عشر راح ينطلق على أسس
جديدة غير تلك التى كان يعرفها سابقا. فقد حرر سبينوزا و ديكارت ـ طبقا
لأركون ـ العقل الفلسفى من هيمنة العقل اللاهوتى المسيحى، إذ أعطى الرجلان
الاستقلالية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية بعد ما انتزعاها من براثن
العقل اللاهوتى القروسطى. بالطبع ليس ديكارت واسبينوزا وحدهما من فعل ذلك،
وإنما كل الجيل الذى تلاهما أيضا، أى جيل فولتير وديدرو وروسو والموسوعيين
وكانط والإنجليز من قبل. والمقصود بالاستقلالية الذاتية هنا أن الذات
البشرية هى التى أصبحت تبلور الأخلاق وقواعد السلوك وتنظيم المجتمع على
مسؤليتها الخاصة. أصبح التشريع وسن القوانين مسألة بشرية بحتة. وهذا شيء ما
كان ليحدث فى العصور السابقة، ما كان الانسان ليجرؤ أبدا على أن يصبح هو
معياريته الخاصة ويستقل عن المعيارية الخارجية عليه والتى تحكمت به طيلة
قرون وقرون. وهكذ اختلفت مكانة العقل كليا عما كانت عليه فى العصور الوسطى،
وانتقلت أوروبا الغربية من مرحلة العقل اللاهوتى القروسطى إلى مرحلة العقل
الحديث الكلاسيكي، المرتكز على اليقينيات المطلقة(8).
والآن، أما وقد وصل تتبعنا
لرحلة العقل عبر التاريخ لنهايته، يبيت لزاما علينا القول بأن أوروبا تنتقل
الآن من مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي المرتكز على اليقينيات المطلقة إلى
مرحلة العقل النسبي أو النقدى الذى يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح
مساره أو تعديله إذا لزم الأمر! وهو ما يدعوه البعض الآن بعقل ما بعد
الحداثة، أى عقل أكثر تواضعا، لكن أكثر دقة وحركية فى آن معا(عقل ما بعد
انهيار الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة). ولعل فى قول أركون بأن
الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور
المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة المطلقة، ويعرف أنه يصل إلى
حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلا أو كثيرا، ولكنها حتما لن تدوم أبدا(9).
أقول إن قول أركون يشي بمأساة العقل العربي الذى أراه لا يزال بمحاولاته
المتواضعه وأغلاله الثقيلة يسعى لولوج "الحداثة" وما أظنه يلجها بوضعه
الراهن! ناهيك عن مرحلة "ما بعد الحداثة" التى يرفل الآن فى غلائلها العقل
الغربي!
وللذات العربية أن تثور غيرة
على ما قد تتصوره إهانة لكبرياء العقل العربي وكرامته، هذا إن اعتبرنا
القول بتواضع وضآلة مساهمة العقل العربي فى رحلة العقل عبر التاريخ إهانة،
ووللذات العربية أيضا أن ترمي كاتب هذه السطور بما يروق لها ويطفئ نيران
ثورتها، بيد أنى أرجوها ـ وأُلح عليها في الرجاء ـ أن تمضى قُدما في قراءة
البحث الماثل حتى نهايته، عسى أن تجد فيه ما يُهدىء روعها وينفى عنا ما قد
تكون تلك الذات قد رمتنا به من تُهم بغير حق. أقول هذا وأنا أعلم علم
اليقين أن الأمر ليس بالهين، فتجار الآلام فى عالمنا العربي لم ولن يملوا
تعمية مواطنيهم عما يحدث من هدر للثروة العقلية العربية، تكريسا لمصالحهم
ولو كان الثمن كبرياء وكرامة العقل العربي المغلول!!
أقول إن تجار الآلام، لا
يعدمون الطرق والحيل للتغرير بضحاياهم، حتى أنى ـ مع ما أزعمه لنفسي من
دراية كافية نسبيا بتلك الحيل ـ كثيرا ما راودني الشك في مسألة هدر العقل
العربي!! فكثيرا ما سألت نفسي: هل هناك هدر فعلى للثروة العقلية العربية؟!
أم أن الاتهام بالهدر اتهام جائر ليس له أساس من الصحة على أرض الواقع؟!
غير أن الواقع حولى والتاريخ ورائي يؤكدان لى دوما أني ما ضللت الطريق وما
تجنيت حين عمدت لرصد تلك الظاهرة الخطيرة، بوصفها مسئولة بصورة مباشرة عن
خروجنا المخزي والمهين من التاريخ...
الاغتراب الثقافي وهدر العقل
العربي:
الحق أني أدين بالشكر الوافر
لذلك الشك الذى لطالما راودنى بشأن مسألة هدر العقل العربي ومدى اتساقها مع
المعطيات التاريخية والمعاصرة، فبفضل هذا الشك ورغبة منى فى حسم موقفي تجاه
هذه المسألة الشائكة، رحت ألتمس الحقيقة، تدعمنى فى ذلك بعض المقولات
الفلسفية التى سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى فى مجال الفكر الأنسني.
بيد أني، وقبل اقدامى على تثمين مقولاتى تلك فى بحثي هذا، أرانى ملزما
بتوضيح ما أقصده بـ "هدر العقل" على وجه الدقة، فالمصطلح يبدو فضفاضا
ويحتاج مضمونه إلى صياغة دقيقة ومحكمة. فليس بكاف أن يتخذ المرء من تواضع
وضآلة مساهمة عقل بعينه فى رحلة العقل عبر التاريخ ذريعة للقول بتعرض هذا
العقل للهدر، فقد تكون للعقل مساهمة غير متواضعة وغير ضئيلة ورغم ذلك يكون
قابلا لأن يُوصف بتعرضه للهدر!!
إن ما أسميه بـ "هدر العقل"
إنما يحدث عندما يعتقد الإنسان، وأعنى بالانسان هنا المنتمين لأي من
الثقافات أو الحضارات المختلفة، أنه قد استطاع بناء ثقافة أو أنه قد بُنيت
له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و التطوير، سواء امتلك هذا
الانسان عقلا فلسفيا أو أنه امتلك عقلا لاهوتيا/فقهيا. ومن ذلك وصف الشاعر
اللاتينى الكبير هوراس أشعاره بأنها: "أبقى أثرا من البرونز، لن يُمس بسوء
مهما مرت عليه من سنين"! فمن الضرورى على الانسان ـ أيا كانت ثقافته أو
حضارته التى ينتمى إليها ـ أن يُثمن عقله، وذلك بالتزام التواضع عند النظر
إلى ثقافته تلك أو حضارته، سواء كانت من صنع يديه أو من صنع غيره، فهى
بالضرورة ليست أبدية أو محصنة ضد النقد والتطوير. فطبقا للفيلسوف الألمانى
أرنست كاسيرر، تظل ثقافتنا أو حضارتنا مجرد قشرة خارجية تحيط طبقات عتيقة
ذات أغوار بعيدة، وعلينا أن نُعد أنفسنا على الدوام لمواجهة أية اهتزازات
عنيفة قد تهز عالمنا الثقافى أو الحضارى، وقد تعرضه للانهيار!!(10).
وفى ضوء السرد الوارد سلفا
لرحلة العقل عبر التاريخ، وبتطبيق تعريفنا السابق لمصطلح "هدر العقل" على
العقل الغربي، يمكن القول بتعرض ذلك العقل للهدر ـ بنسب متفاوتة ـ عندما
كان عقلا لاهوتيا فى العصور الوسطى وكذا عندما أصبح عقلا فلسفيا حديثا
كلاسيكيا مرتكزا على اليقينيات المطلقة وقبل انتقاله إلى مرحلة العقل
النسبي أو النقدى الذى يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو
تعديله إذا لزم الأمر! وهو ما يدعوه البعض الآن ـ كما أسلفنا ـ بعقل ما بعد
الحداثة، عقل ما بعد انهيار الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة. ولعل
فى قول محمد أركون المذكور سلفا بأن الفرق الوحيد بين عقل الحداثة وعقل ما
بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى
الحقيقة المطلقة، ويعرف أنه يصل إلى حقائق نسبية، مؤقتة، قد تدوم طويلا أو
كثيرا، ولكنها حتما لن تدوم أبدا، ما يؤكد قولنا بتعرض العقل الغربي للهدر
بنسب متفاوتة، قبل ولوجه الراهن لمرحلة "ما بعد الحداثة"، لقناعته آنذاك
بكون يقينياته الثقافية، سواء تلك التى بُنيت له فى العصور الوسطى أو تلك
التى بناها بنفسه فى العصر الحديث، أبدية ومحصنة ضد النقد والتطوير.
ويظل منطقيا القول بأن العقل
اللاهوتى عبر التاريخ كان أكثر تعرضا للهدر من العقل الفلسفي، حتى قبل بلوغ
الأخير مرحلة ما بعد الحداثة، فالهدر هنا نسبى بطبيعة الحال، وأظنه بلغ
ذروته فى ظل العقل اللاهوتى الذى اعتقد دوما أنه قد ُشيدت له ثقافة مقدسة
ومحصنة، من شأنها أن تعيش أبد الدهر دون نقد أو تطوير! فالنقد والتطوير فى
عُرف هذا العقل خطيئة! وهو ما يصعب مقارنته بما حدث فى ظل العقل الفلسفى
الحديث الكلاسيكي، فقد شيد ثقافته بنفسه، بيد أنه ـ للأسف الشديد ـ لم
يفتأ أن وقع فى حبائل الايديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة! معرضا نفسه
للهدر ولو بدرجة أقل من هدر العقل اللاهوتى لنفسه!
كان ذلك هو الحال بالنسبة
للعقل الغربي، فماذا عن العقل العربي، خاصة وأن هدره هو موضوع هذه
الدراسة؟! الحق أن الأمر جدير ببعض التأنى، فالمسألة كما أسلفنا شائكة،
فالبعض يرى أن تعهد مسألة هدر العقل العربي بالرصد والتحليل ينطوى على
إهانة جليلة وإساءة فادحة لهذا العقل! وأملى أن أكون بحديثي السالف عن تعرض
العقل الغربي للهدر قد أعفيت نفسي من الحرج، لأنه لا يُعقل أن يكون العقل
الغربي قد تعرض للهدر على النحو المذكور، وكلنا يعلم مكانة ذلك العقل فى
التاريخ وانجازاته الضخمة، فى حين يكون العقل العربي قد نجا من ذلك الهدر،
وكلنا ـ أيضا ـ يعلم محنته التى أخرجته من التاريخ!!
والآن، ليسمح لى قارئي الكريم
بأن أعضد حديثي الماثل فى عجالة بمقولاتي الفلسفية التى أراها مهمة والتى
سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى السابقة فى مجال الفكر الأنسني. وأنا
وإن كنت قد أحجمت عن فعل ذلك إبان حديثي عن هدر العقل الغربي، فإنى الآن
وقد انتقلت للحديث عن هدر العقل العربي أرى الحاجة ماسة لتلك المقولات،
وذلك لسببين أذكرهما لاحقا..
ولتكن بداية حديثي، عن
مقولاتي الفلسفية، مع مصطلح "الأنسنية" الذى شكل محورا لدراسة سابقة لى
بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، جاء فيها أن بناء الذات الأنسنية لا يعني
سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها
وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة
بالإنسان كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء
بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء
التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك
الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(11):
[1]معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد
التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي
المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما
يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية
الجمالية.
وطبقا للمعيار الأنسني الوارد
الحديث عنه في الدراسة نفسها، يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما
أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق
بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو
أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع ـ خاصة في
المجتمعات المتخلفة ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة
ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا
كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في
الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة،
وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار
الأخذ بالأنسنية.
ولقد انتهيت فى الدراسة
المذكورة إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع
ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا
ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة
للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات
الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها
وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها...
فهناك الصراع بين الذات
الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في
تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح
الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص
على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع
مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام
كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين
الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب
الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات
المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها
على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي
لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
تلك هى مقولاتى الفلسفية التى
أراها مهمة والتى سبق لى أن اهتديت إليها أثناء بحوثى السابقة فى مجال
الفكر الأنسني. أوردتها ليعلم قارئي أن الحديث عن مسألة هدر العقل العربي
ليس من السهولة بمكان. ولا يعنى احجامي عن الاستعانة بتلك المقولات إبان
رصدى وتحليلي لمسألة هدر العقل الغربي عدم امكانية الافادة من هذا النهج
الأنسني التفسيرى فى رصد وتحليل تلك المسألة، فالعكس هو الصحيح، غير أنى
آثرت الاستئثار بتلك المقولات والافادة منها فى رصدى وتحليلي لمسألة هدر
العقل العربي، وذلك لسببين أراهما من الأهمية بمكان: أولهما كون مسألة هدر
العقل العربي هي الحالة الأكثر تعقيدا والأهم بالنسبة لكاتب هذه السطور، إذ
أن محنة إغتراب العقل العربي لم تترك له ترف الاختيار!! والسبب الثانى هو
رغبة كاتب هذه السطور فى تجنب التكرار والتطبيق المزدوج للنهج الأنسني
التفسيري المذكور فى رصد وتحليل هدر العقلين الغربي والعربي...
والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة:
ما هي علاقة الاغتراب الثقافي للذات العربية بمسألة هدر العقل العربي،
وأقصد به عقل تلك الذات بطبيعة الحال؟!
ذكرنا سلفا أن تطور التاريخ
الإنساني لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية
والذات المغتربة والآخر. وذكرنا كذلك أن المقصود بالاغتراب الثقافي هو
تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته
وإرضاء لمجتمعه!! ونضيف الآن، أنه على خلاف الحال مع العقل الغربي الفلسفي
فى عصر الحداثة، يكتسب العقل العربي بتنازله عن حقه الطبيعي في امتلاك
ثقافة حرة ومتطورة، ثقافة ليست هي ثقافته الحقيقية أو ليست هى ما يجب أن
تكون عليه ثقافته حقا، أي أنه يصبح مستهلكا لثقافة ليست من صنعه. وذلك
لكونه لم يزل حتى يومنا هذا فقهيا، شأنه فى ذلك شأن العقل الغربي اللاهوتى
فى العصور الوسطى. بيد أن الموضوعية تقتضينا القول بأن ادراك العقلين
الغربي الفلسفي فى عصر الحداثة والعربي الفقهى فى وقتنا الراهن لثقافتيهما
على أنها أبدية ومحصنة ضد النقد والتطوير، يعني تشابههما فيما يتعلق بمسألة
تعرضهما للهدر، رغم البون الشاسع الفارق بينهما فى نسب الهدر..!!
قلت إن الذات العربية عادة ما
تلتمس راحتها فى اغترابها الثقافي، بفضل ما يلقيه تجار الآلام في روعها،
فهم عادة ما يوهمونها بأن اغترابها الثقافي، ومن ثم هدرها لثروتها العقلية،
فريضة يوجبها العقل الفقهي، ويطلبون إليها التنازل طواعية عن حقها في نقد
وتطوير ثقافتها، تقربا إلى الله و زلفى!! وكذلك يطلبون إليها القبول بتخويل
آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة عنها وعن غيرها، وغالبا ما
يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا يستقيم أن يُقبل من الإنسان
هدر أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل الإنساني ـ في أكثر الآراء رجحانا ـ
إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء رسالته، ولظل
يضرب في الحياة على غير هدى. ويظل الاعتقاد الراهن لدى الذات العربية بأنه
قد بُنيت لها ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون حاجة لاخضاعها للنقد و التطوير،
دليلا حيا على نجاح تجار الآلام فى تغريب تلك الذات ثقافيا وفى هدر ثروتها
العقلية على نحو مخيف، فما العقل العربي (الفقهي) الآن إلا قوة محافظة
أساسا، تعمل على كبت أي تمرد على الأوضاع القائمة، وتدعو إلى الاحتفاظ بكل
الثقافة السائدة، وتحارب كل ميل جذري إلى نقدها وتطويرها..!!
ويحدث أيضا أن تلتمس الذات
العربية باغترابها الثقافي إرضاء مجتمعها، ومرجع ذلك أن تنازل تلك الذات
عن حقها الطبيعي في نقد ثقافتها وتطويرها غالبا ما يتم في مجتمع يصطلح
أفراده على تقدير واحترام المغترب، ويلتقون في اعتقادهم الراسخ بأن الثقافة
السائدة هي الضمانة الحقيقية لصيانة هويتهم، وأنها أسمى من أن تمتد إليها
أيديهم بالنقد والتطوير. فالمغتربون عادة ما يتنازلون بصورة جماعية عن حقهم
الطبيعي في نقد ثقافتهم وتطويرها إلى من يرونه أحق منهم بذلك، وأقدر منهم
على ارتياد ما يتصورونه طريقا وعرا ومحفوفا بالمخاطر. وغالبا ما يقف الآخر،
وأقصد به كما أسلفت كل من يُدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق
بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة بها
كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من
جني ثمار الأخذ بالأنسنية، وتكريس هدر ثروتها العقلية. أقول إنه غالبا ما
يقف الآخر، عربيا كان أم غربيا، وراء إهدار الذات المغتربة لثروتها
العقلية، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي لتلك الذات
البائسة...
والحق أن الآخر، خاصة الآخر
العربي، لم يكن ليبلغ لبانته لولا وجود آليات بعينها تعينه على أمره.
فالاغتراب في حاجة لدعم دائم من سدنته، وليس هناك ما هو أكثر ضمانا
لديمومته من وجود دعم مؤسسي دائم ومنتظم له. فبدون مثل ذلك الدعم يصير من
الصعوبة بمكان الحفاظ على الرسوخ الدائم لفكرتى الاغتراب والهدر في
الأذهان. وغالبا ما تتخذ الصيغة المؤسسية أشكالا مختلفة، فالمؤسسية التي
يقصدها الكاتب لا تعني بالضرورة بنايات ضخمة وجيش عرمرم من الموظفين وزخم
بيروقراطي، ولكنها تتراوح ما بين تلك البنايات المهيبة وبين شخصيات بعينها،
يُصيرها سدنة الاغتراب بحرفيتهم الدعائية ومهارة ترويجهم للاغتراب رموزا
شبه مقدسة، يزعمون أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وهو ما
يُيسر انقياد المغتربين إليها انقيادا أعمى...
وكما أن الصيغة المؤسسية تتخذ
أشكالا مختلفة، يتسع نشاط تلك المؤسسات المعنية ليشمل مجالات عديدة. فتكريس
الاغتراب الثقافي للذات، والهدر المحزن لثروتها العقلية، لا يتم عبر آليات
محدودة كما قد يتوهم الكثيرون، ولكنه يتم عبر آليات عديدة ومتنوعة منها
البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني،
نسبة إلى الدين والدين منه براء. ولنا أن نتصور كيف يغدو الاغتراب الثقافي
ـ وما يصاحبه من هدر عقلي ـ زائرا ثقيلا حين تعوزه مثل تلك الآليات التي
تفرضه أحيانا وتحببه أحيانا أخرى إلى الضحايا الأبرياء، فتصوره لهم على أنه
إكليل غار فوق رؤوسهم. وفيما يلي رصدا موجزا لبعض أهم آليات تكريس الاغتراب
الثقافي للذات وهدر ثروتها العقلية(12):
[1] مؤسسات العنف.
[2] مؤسسات التلقين الإعلامي.
[3] المؤسسات التعليمية.
[4] محترفو التبرير الديني.
والمأساة أن مهارة الآخر،
عربيا كان أم غربيا، في هذا المضمار لا تُبارى، فهو دائما ما ينجح في تكريس
اغتراب الذات وهدر ثروتها العقلية واستعدائها على الذات الأنسنية، والذاكرة
الإنسانية مليئة بالحوادث المؤكدة لذلك، وهي حوادث دموية ولاإنسانية في
مجملها، يندى لها الجبين الإنساني. ولا غرو أن مأساة انقسام الذات على
نفسها تضع المراقب في حيرة من أمره. فالجزء الأكبر من الذات يجهل أو يُعرض
عن الأنسنية ويُباهي باغترابه الثقافي والهدر المخزي لثروته العقلية ويُعول
في خلاصه على الآخر، بينما يتكبد الجزء الأصغر من الذات والمهمش دوما آلاما
قاسية، فهو يدرك الأنسنية ويسعى جاهدا لتبصير الذات بضرورة الأخذ بها كنهج
حياة، لكنه يواجه شراسة الآخر الذي غالبا ما يُوكل مهمة التنكيل به إلى
الذات المغتربة! وهو ما يُسهم في تعقيد الصراع.
والتاريخ الإنساني الذي يرويه
ـ في أغلب الأحيان ـ الآخر القوي ويلقنه للذات المغتربة الضعيفة في دأب
وجلد يُحسد عليهما، لا يمل استعداء المغتربين على تلك النفوس النبيلة، التى
تظهر في لحظات أو حقب متناثرة عبر العصور المختلفة، وتأبى إنسانية أصحابها
ألا تستأثر لنفسها ـ أقصد تلك النفوس النبيله ـ بإدراك الأنسنية، وألا ترفل
وحدها في غلائل ذلك الإدراك، في وقت تشقى فيه الذات المعذبة باغترابها،
فنراها تعمل جاهدة على تعرية الآخر وتبصير الذات المغتربة بالأنسنية ومزايا
الأخذ بها كنهج حياة، هادفة بذلك لرفع نير الاغتراب الثقافي والهدر العقلي
عن كاهلها، وتعليمها أن آلامها ليست قدرا محتوما و إنما هي صناعة أيديها
وأيدي الآخر. وهو ما يدفع الآخر، وما أقواه في كل زمان ومكان، لمناصبة تلك
النفوس النبيلة والطاهرة العداء والتنكيل بها علاوة على اتهامه لها بكل
رذيلة وإلحاق ذكرها بالاستهجان والإدانة و السب، حتى يهيئ للمرء أنها
شياطين في صيغة بشرية، والحق أن أصحابها أشرف من وطأت أقدامهم ظهر الأرض،
فهم دائما ما تحدوهم أغنية الايثار وانكار الذات(13):
إذا لم أحترق أنا..
وإذا لم تحترق أنت..
وإذا لم نحترق نحن..
فمن إذن..
يجلو الظلمات!!
صفوة القول، أنه توجد علاقة
طردية وثيقة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية والهدر العقلي لتلك الذات.
لأنه إذا كان الاغتراب الثقافي يعنى تنازل الإنسان العربي عن حقه الطبيعي
في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! فما أظن
الاغتراب الثقافي بهذا المعنى يخلو من الهدر العقلي لذلك الانسان، أي
إعتقاده الراسخ بأنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، وكيف لا؟ وهى ـ من
وجهة نظره ـ أبدية..محصنة ضد النقد والتطوير!! لذا، أقول إن الآخر، عربيا
كان أم غربيا، فى صراعه الثقافى وفى سعيه المحموم لتعمية الذات العربية عن
الأنسنية، عبر تكريسه إغترابها الثقافى، إنما يكرس هدر ثروتها العقلية،
وذلك لعدم قناعته بمقولة سيزير: "فى موعد النصر متسع للجميع".
مظاهر هدر العقل العربي:
إنتهينا فى تناولنا للعلاقة
الوثيقة بين الاغتراب الثقافي للذات العربية وهدر الثروة العقلية لتلك
الذات إلى القول بأن جذور هذه العلاقة تكمن فى تعريفنا لكل من مصطلحي
الاغتراب الثقافي والهدر العقلي. فتعريفنا لمصطلح "الاغتراب الثقافي" بأنه
تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته
وإرضاء لمجتمعه!! وتعريفنا لمصطلح "الهدر العقلي" بأنه إعتقاد الإنسان،
سواء امتلك عقلا فلسفيا أو عقلا لاهوتيا/فقهيا، أنه قد استطاع بناء ثقافة
أو أنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و التطوير.
أقول إن تعريفنا للمصطلحين على النحو المذكور يشي بأن الهدر العقلي يُعد ـ
بحق ـ أحد العناصر المكونة للاغتراب الثقافي، غير أنه يمكن لهذا الهدر أن
يتواجد بدون اغتراب ثقافي! وضربنا على ذلك مثلا بالعقل الفلسفي الغربي فى
عصر الحداثة، فقد عانى الهدر دون الاغتراب الثقافي، لاعتقاده بأنه قد
استطاع بناء ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و التطوير! مختلفا
بذلك عن العقل اللاهوتى/الفقهى الذى جمع إلى جانب الهدر الاغتراب الثقافي،
لاعتقاده بأنه قد بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و
التطوير....
ونظرا لهذه العلاقة الوطيدة
بين الاغتراب الثقافي للذات العربية وهدر ثروتها العقلية، بات منطقيا
استعانة كاتب هذه السطور بأمارات يراها ملازمة لأولئك الذين ينخرطون فى
الإغتراب الثقافي ـ أقول بات منطقيا أن يستعين كاتب هذه السطور بتلك
الأمارات وأن يعرضها كمظاهر لهدر العقل العربي. وقد وردت تلك الأمارات
(بمتنها وهوامشها) فى كتاب للكاتب بعنوان "الاغتراب الثقافي للذات
العربية"، عمد فيه لرصد وتحليل ظاهرة الاغتراب الثقافي للذات العربية...
[1] إدمان لعبة إلقاء التبعة
بالكامل على الآخر غير العربي:
عادة ما تتساءل المجتمعات
عندما تتدهور أحوالها بصورة حادة، من الذي فعل هذا بنا؟ وهو سؤال يمثل ـ
بطبيعة الحال ـ رد فعل إنساني شائع. والأكثر إرضاء لصاحب السؤال، خاصة إذا
كان مغتربا ثقافيا، أن يلقي تبعة تدهور أحواله بالكامل على غيره، وهو ما
دأب المغتربون على فعله في عالمنا العربي، مدعومين في ذلك بالآخر العربي،
الذي حرص بدوره أشد الحرص على صرف الأنظار عن نفسه. لذا ظل المغتربون زمنا
طويلا يفضلون إلقاء تبعة آلامهم على المغول، واعتبار الغزوات المغولية في
القرن الثالث عشر مسئولة عن تدمير قوتهم وعما تلا ذلك في نظرهم من ضعف
وركود! كذلك أدت نشأة القومية ـ وهى المستوردة من أوروبا ـ إلى نشأة رؤى
جديدة، إذ أصبح بمقدور العرب أن يلقوا بتبعة آلامهم على الأتراك الذين
حكموهم قرونا عديدة، دون التفكر فيمن مهد الطريق أمامهم لاسترقاق العالم
العربي. وكذلك أدت فترة الاستعمار الأوروبي لمعظم مناطق العالم العربي في
القرنين التاسع عشر والعشرين لبروز أسباب قوية لإلقاء التبعة عليه، إذ أن
السيطرة السياسية الغربية، والتغلغل الاقتصادي، قد غيروا ـ إلى حد كبير ـ
من وجه المنطقة ومن حياة أهلها، وأوجدوا مخاطر وتوقعات جديدة لم يسبق
لأبناء العالم العربي بأي منها عهد في تاريخهم. ولكن الفترة البريطانية
الفرنسية كانت قصيرة نسبيا، وكان طبيعيا أن يتحول دور الشرير الأوحد في
العالم العربي إلى السوفيت والأمريكيين واليهود، خاصة بعد نجاح اليهود في
إقامة دولتهم في فلسطين(14).
والحق أنه لا جدال في تورط
الآخر غير العربي، بشكل فاضح وفج، في تكريس آلام الإنسان العربي وأوجاعه،
غير أن ذلك لا يعني ـ بأي حال ـ إعفاء الآخر العربي من نصيبه في المسئولية،
وهو ضخم وثقيل للغاية، فلولا ممارساته وسعيه الدائم لتغريب أبناء جلدته
وإضعافهم ما جرؤ الآخر غير العربي على التلاعب بمصيرهم على النحو البادي في
التاريخ العربي. صفوة القول أن إعفاء الآخر العربي أو على الأقل التهوين من
دوره في تكريس الآلام العربية، وإلقاء التبعة بالكامل أو على الأقل في
معظمها على الآخر غير العربي، يعد أحد أهم أمارات الاغتراب الثقافي للإنسان
العربي ومجتمعه.
[2] اغتيال المبدعين و
معاداة الإبداع:
"إلى الذين لا يعملون ويؤذى
نفوسهم أن يعمل الناس"، بتلك الكلمات البليغة صدر الدكتور طه حسين كتابه
الثري"مع أبي العلاء في سجنه"، واضعا يده بذلك على واحدة من أهم أمارات
الاغتراب الثقافي وأعظمها أثرا. فقد دأب المغتربون ـ أفرادا كانوا أم
مجتمعات ـ على اغتيال المبدعين ومعاداة الإبداع عبر العصور المختلفة،
باعتبار أن المبدع وإبداعه يمثلان خطرا داهما على اغترابهم، ومن ثم
فعدائهم لهما لا حدود له، إذ أنه لا يطيب للاغتراب مقام في أرض تنزل
المبدع والإبداع منزلة رفيعة. وكيف لنا أن نتحدث عن اغتيال المبدعين في
العالم العربي دون أن نعرج على مأساة المبدع الفذ نجيب سرور، فقد حولته
النخبة المصرية الحاكمة ـ في ستينيات القرن المنصرم ـ لنموذج ردع لكل من
يسول له إبداعه التحليق في آفاق لم توطأ، أو التعبير عما يجول في صدره!
ولندع الرجل يروى لنا ـ بعذوبته المعهودة ـ بعض مأساته في رسالة استغاثة
إلى يوسف إدريس، جاء فيها ما نصه(15): "..تقول بأنك جربت الموت مرة وأنت
تُعالج في لندن، وهناك ـ من أبناء الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ـ من
جرب الموت مئات المرات. ثم أنت تعلم أنني جربته مرارا حتى مات في الموت!
..بل لابد أنك قرأت نعيى وأنا حي لا أرزق في روز اليوسف، ثم في صحف لبنان
الحبيب. لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق و أرسلوني..لكن مهلا، ليس في معتقل
من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، و إنما في مستشفيات
المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!
وهناك قسم سرى ـ قسم أول ـ
مارسوا معي أحدث أفانين ووسائل التعذيب! .. وكان معي طلاب في الجامعة،
وأوائل الثانوية العامة، وعمال في مصانع النسيج، وأساتذة في الجامعة،
ومهندسون، وفلاحون، وعلماء ذرة منهم الدكتور إمام أستاذ الذرة بجامعة
الإسكندرية...
..المهم أنني خرجت من مستشفى
الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! ..خرجت إلى الشارع..إلى الجوع
والعري والتشرد والبطالة والضياع والى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص
في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب!..خرجت
أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي..وظللت مجمدا محاصرا
موقوفا. وبعيدا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل ، وبعيدا عن
ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان. ثم وجدتني فجأة في مستشفى
الأمراض العقلية للمرة الثانية، وبلغ مجموع المدد التي قضيتها في مستشفيات
الأمراض العقلية، حتى مستشفى بهمان اليهودي النازي، أربع سنوات
ونصفا!..اذكروا إسماعيل المهدوى الذي تم تدميره فعلا..وعشرات ومئات المآسي
والملاهي والقصص والغصص وشنق خميس و البقري الخ، ليس لها إلا قلمك الصقر!
..ثم ألا تخطيء مرة..علشان
خاطري..فتزورني في مسكني المتواضع ؟.. فأنا طريح الفراش منذ أكثر من عام:
نصف كسيح ونصف ضرير وأنوء بأعباء المرض بل تحالف الأمراض، و لا أملك
إمكانية العلاج في مصر ولا في لندن ولا حتى في موسكو ولا في أي بلد من
بلدان الوطن العربي. وأنوء بأعباء الأطباء وبالأسعار الجنونية للأدوية
وأعباء الأسرة والولدين..لا لن أطلب منك أكثر من أن تشرب معي الشاي على
الأقل لترى شهدي، ذلك الصبي وقد أصبح رجلا، والصبي فريد الذي يتمتع بذكاء
مخيف يفوق ذكاء الكبار..والذي يجيد العربية والإنجليزية والروسية، والذي
يضحك ويسخر من كل شيء والذي يكره اليهود، والذي يسأل عن آخر أخبار الحرب في
لبنان، والذي يحب جميع الضيوف وينصت إلى حكاياتهم ويقص عليهم
الحكايات..أقسم بشرفي أنني وعدته بأن أحضر له ملك القصة والحكايات، وهو
أنت، ومنذ ذلك اليوم وهو يسأل عن عمه الدكتور يوسف إدريس!
الآن تذكرت، سأطلب منك بعد
الشاي، أن تتدخل بنفوذك لدى أحد الناشرين الخصوصيين هنا في مصر أو في أي
مكان من الوطن العربي، لكي يشترى منى كتابا أو مجموعة شعرية أو حتى الجزء
الثالث والأخير من ثلاثيتي الشعرية ياسين وبهية، وآه ياليل يا قمر. وهو
قولوا لعين الشمس..بدلا من رقادها في حبال العنكبوت!..إنني في حاجة إلى أي
مبلغ!".
[3] غياب العقلانية والشغف
بالشكلية البسيطة:
مما يستدعي الاهتمام أن الآخر
العربي كثيرا ما يقيس تقدمه بأعداد المصانع التي يبنيها والمنشآت المادية
التي يخطط لها والمشروعات العامة التي ينفذها، وهذه كلها تقوم على المعارف
الطبيعية، وهى وجه من وجوه العقلانية المتفتحة، ولكنه عندما يتوجه إلى
الشؤون الإنسانية ـ وهى أجل وأولى ـ يعمد إلى تغييب العقلانية، في إطار
سعيه المحموم لتكريس الاغتراب الثقافي، وذلك بحث مواطنيه على الانقياد
الأعمى للأوهام والغرائز المناقضة للعقلانية. فإذا كانت الأخيرة تستند إلى
الموضوعية والرؤية النقدية والجلد في طلب الحقيقة(16)، فان الآخر العربي
دائما ما يروج لخلاف ذلك، رغم حاجة مواطنيه الماسة للعقلانية، لأنه إذا
كانت العقلانية حصنا متينا في جميع المجتمعات المتقدمة، فهي في المجتمعات
المغتربة ـ ومنها مجتمعاتنا العربية ـ أجدر بالإنشاء والعناية، لتأخر تلك
المجتمعات عن نظيرتها المتقدمة مراحل طويلة، علاوة على حاجتها الماسة لقهر
اغترابها و استعادة حقها الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
ولئن يكن الآخر العربي قد
حارب العقلانية بين مواطنيه المغتربين، وروج للشكلية البسيطة كبديل لها،
فانه آثر ـ ولا يزال يؤثر ـ نفسه بها، فنراه يقبل على تعاطيها بنهم لا
ينتهي، وهو ما يبدو واضحا في إقباله على تربية كوادره وتنشئتها بطريقة
مماثلة لتلك المعروفة في المجتمعات غير المغتربة(17)، مما يعني تعمده الآثم
تكريس الاغتراب الثقافي لمواطنيه. والآخر العربي في ذلك أشبه ما يكون بتاجر
المخدرات، فهو يروج بين ضحاياه سموما، يحجم هو ومن معه بقوة عن تعاطيها،
حتى يتسنى له إحكام سيطرته على ضحاياه، فيدينون له بالولاء والطاعة، في حين
يرفل هو في غلائل حريته، فيأتي بفعال لا يهدف من ورائها سوى صالحه الخاص،
رغم تعارضها البين مع صالح مواطنيه.
[4] العجز عن التعاطي مع
الآخر غير العربي:
لقد دُفع بالعرب فتدافعوا
خارج التاريخ، ليس فقط لأن عالمهم هو العالم الوحيد الذي استعمره الآخر غير
العربي، فالتاريخ قد يصبر على قوم في هزائمهم، وقد يمد يده لمن يتخلف عن
الركب، أما الذي لا يتسامح التاريخ فيه أبدا ، فهو أن يدير القوم ظهورهم له
ويمضوا متباعدين عنه(18)، وذلك تحديدا هو ما فعله العرب ولا زالوا يفعلونه
بإحجامهم عن قهر اغترابهم الثقافي. فقد أعجزهم هذا الاغتراب ـ ولا يزال
يعجزهم ـ عن جسر الفجوة الفاصلة بينهم وبين الآخر غير العربي، من خلال
تعاطى كفء وخلاق معه. فلطالما أغراهم اغترابهم بأن الإغراق والتمادي في
ثقافتهم الأسيرة، هو سبيلهم الوحيد للنجاة! وساعد الآخر العربي على تكريس
تلك القناعة المضللة، بغرسه في الذهنية العربية أن الخضوع لآخر عربي هو
السبيل الوحيد لنيل الاستقلال الحقيقي والتعاطي الكفء مع الآخر غير العربي.
وفات الذات العربية أنها لم تجن من وراء خضوعها للآخر العربي سوى استقلالا
سلبيا، لا تختلف رداءة أوضاعها في ظله كثيرا عن مثيلاتها في ظل الآخر غير
العربي، فضلا عما يسببه الآخر العربي في تعاطيه مع الآخر غير العربي من
آلام للذات العربية، مصدرها حرصه المحموم لحماية وتعزيز مصالحه الخاصة، حتى
لو جاء ذلك على مصالح تلك الذات المغلوبة على أمرها. ولعل الغزو الأمريكي
للعراق يعد تجسيدا واضحا لفشل الذات العربية، ممثلة في العراقيين
المغتربين، في التعاطي الكفء مع الآخر غير العربي، نظرا لاعتمادها في ذلك
وركونها إلى آخر عربي، لم يتورع عن الأضرار بمصالحها الحيوية، في سبيل
تحقيق طموحاته ونزواته. فقد فات الآخر العربي في العراق، ممثلا في النخبة
العراقية الحاكمة حينذاك، أنه لا يعيش في جزيرة معزولة أو في ملكوت خاص به،
خارج النظام العالمي القائم. وفاته كذلك أن قواعد هذا النظام لم تعد تعتمد
على القوة العسكرية وحدها. وحتى هذه الأخيرة فإنها لم تعد تقوم فقط على حجم
القوات المسلحة وعتادها التقليدي، إذ لابد إن تستند القوة العسكرية إلى
أمور أخرى مهمة وعديدة(19).
[5] افتقاد الرؤية النقدية
أو الجبن العقلي:
يقول ادوارد سعيد أن ما
يستوقفه كشيء ممتع هو كيفية الاحتفاظ بحيز في العقل ينفتح للشك ولجزء من
السخرية الذاتية(20). وأراه ما أراد بذلك سوى التحذير من مغبة افتقاد
الإنسان للرؤية النقدية للأوضاع المحيطة به، خاصة الثقافي منها. فالنقد
تثمين للحسن وتهذيب للقبح، وثقافتنا العربية الإسلامية مهما سمت لابد من
إعمال النقد فيها، حتى يتسنى لنا أن نبصر موضع أقدامنا وأن نقهر اغترابنا
الثقافي. وأغلب الظن أن مصدر مأساتنا ـ كعرب ـ هو ما تتسم به عقولنا من
جبن، يحول بينها وبين امتلاك رؤية نقدية حقيقية وجادة للأوضاع المحيطة بنا،
خاصة الثقافي منها. لذا، فان النقد البناء الذي يتحدث عنه ادوارد سعيد هو ـ
بالضرورة ـ عين ما يحتاجه الإنسان العربي في تعاطيه مع ثقافته التي لا يلبث
يرفل في غلائلها، إذا أُريد له الخروج من مأساة اغترابه الثقافي. فثقافة
الإنسان العربي لا ينبغي أن تشكل نوعا من المحركات ذات مصدر وقود وحيد،
تقود فكره وعمله في اتجاه واحد، لتنافى ذلك مع الطبيعة المتغيرة والمتطورة
للحياة الإنسانية كما أرادها الله عز وجل. صفوة القول،ٍ أننا معشر العرب
مرضى ثقافيا، بلوانا ذاتية بالكامل، ومشكلاتنا أنزلناها بأنفسنا، عبر
تنازلنا المؤسف عن حقنا الطبيعي في نقد وتطوير ثقافتنا العربية الإسلامية،
وعبر انقيادنا الأعمى لسدنة الاغتراب الثقافي داخل عالمنا العربي وخارجه .
[6] اعتياد التناقض والرؤية
التجزيئية للأمور:
ليس أقسى على الهارب من جحيم
الاغتراب من رصد أمارة التناقض والرؤية التجزيئية للأمور، باعتبارها
الأمارة الاغترابية الأكثر إثارة للألم والشفقة. فأما الألم فمصدره اعتقاد
المغترب بحتمية ارتياده لتلك الأمارة، إذا ما أريد له التعاطي الكفء مع
مجتمعه. وأما الشفقة فمصدرها اعتياد المغترب لها وتعايشه معها، حتى أنه
ليعجز عن التعاطي الكفء مع من برء منها. ويظل النموذج الأكثر بروزا في هذا
الصدد، هو موقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، فعادة ما يكتفي
المغتربون بإعلان انتمائهم لديانة بعينها، دون العمل بمقتضياتها، وكذا
خضوعهم الآلي للطقوس الدينية(القيام بالصلوات والصوم...الخ)، دون تعضيدها
بالسلوك الملتزم، لاعتقادهم الزائف بأنها عناصر تثبت في ذاتها إيمانهم. ولا
غرو أن التحليل الوافي لموقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، يشي
باعتياد واضح للتناقض ورؤية تجزيئية للأمور. فأما التناقض فمصدره إقبال
المغترب على اقتراف أفعال تتعارض بصورة فجة مع التزامه الصارم بالخضوع
للطقوس الدينية! حتى أنه أضحى مألوفا بين المغتربين أن ينتهي الواحد منهم
من صلاته، ثم يدلف بنهم إلى حياة الاغتراب، فيأتي من الفعال ما يسئ له
ولدينه. ولعل في المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده"رأيت في الغرب إسلاما
بلا مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين بلا إسلام" تجسيدا واضحا لذلك التناقض
الصارخ الذي يميز المغترب ثقافيا عن غيره. وليس التناقض هو الشيء الوحيد
الذي يشي به موقف المغتربين إزاء العبادات والسلوكيات، فهو يشي أيضا بغلبة
الرؤية التجزيئية على إدراك المغترب لديانته، فقد أضحى مألوفا أن يختزل
المغترب ديانته في خضوعه الصارم للطقوس الدينية، ناسيا أو متناسيا، أن
الديانة حزمة واحدة، ومن ثم فتجزئتها غير جائزة، علاوة على كون الخضوع
الصارم للطقوس الدينية لا يغني ـ بشكل أو بآخر ـ عن الالتزام الصارم
بالسلوكيات، من حيث أن الأخيرة تمس المجتمع بصورة مباشرة، وتؤثر فيه بقوة،
في حين تظل الأولى بالأساس علاقة خالصة بين الإنسان وربه، فهو وحده عز وجل
القادر على إثابة من أتاها ومعاقبة من تركها. صفوة القول أن الوقوع في شرك
التناقض والرؤية التجزيئية للأمور يعد أمرا ملازما لمأساة الاغتراب
الثقافي، ومن ثم يرتبط زوال تلك المأساة ـ بالضرورة ـ بمدى قدرة المغترب،
فردا كان أم مجتمعا، على الهروب من جحيم اغترابه و استعادة حقه الطبيعي في
امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
العود العربي إلى التاريخ:
قارئي الكريم، أما وقد فرغت
من مطالعة عرضنا الموجز لبعض مظاهر هدر العقل العربي، فإني أستأذنك فى
اعفاء نفسي وإياك من عبء رصد النتائج الوخيمة لهذا الهدر، تلك التي ينطق
بها واقعنا المعاصر وتلك التي أسفرت في مجملها عن الخروج العربي المهين من
التاريخ، وإلا كنت كمن يدفع بيديه أبوابا مفتوحة على مصاريعها!! وأراني،
قارئي الكريم، بإعفاء نفسي واياك من عبء سرد تلك النتائج الوخيمة لهدر
العقل العربي، والتى يعلمها القاصي والداني داخل عالمنا العربي وخارجه،
أحرص ما أكون على تجاوز مسألة خروجنا المهين من التاريخ إلى مسألة أخرى
أولى وأجدر بالاهتمام وهى العود العربي إلى التاريخ!
ولي أن أبدأ حديثي عن رؤيتي
للكيفية الممكنة لهذا العود، بسرد قصة أراها مهمة على بساطتها، وأراها
تجسيدا صادقا لمأساة هدر العقل العربي...
كنت قد التقيت، فى إحدى
الأمسيات القاهرية، بمدرس بإحدى كليات الإعلام، وكان ذلك فى حضرة أحد
أصدقائه الدارسين للفلسفة. وبرغم عدم تخصص هذا المدرس الجامعي الشاب فى
الفلسفة إلا أني رأيت أنه من اللائق أن يتطرق نقاشنا إلى نواحي فكرية راقية
وعقلانية، خاصة وقد علمت من هذا المدرس أنه يقوم بالتدريس، أى بناء العقول،
فى أكثر من جامعة مصرية، فضلا عن اعارته لاحدى الجامعات العربية! وبالفعل
بدأت النقاش كعادتى، بطرح بعض التساؤلات حول بعض الأمور المهمة ـ وليتنى
ما فعلت ـ فى محاولة لاغراء الرجل بالحديث. وبالفعل كان لى ما أردت، غير
أنى صُدمت، فقد بدا عقل الرجل فقهيا، بصورة تدعو للدهشة والأسى!! أفهم أن
يكون الانسان متدينا ولكنى لا أفهم أن يمتلك مدرس جامعة عقلا فقهيا، يناصب
الفلسفه والفلاسفة العداء!!
المهم، أخبرني المدرس
الجامعي، فى نهاية جلستنا، والشبق الجنسي يملء عينيه، أنه يريد إجراء دراسة
علمية حول دور الأعمال الدرامية فى دفع المرأة فى مجتمعنا إلى البغاء. إلى
هنا ولا غرابة، بيد أنى لم أكد أسأله عن الأهمية المجتمعية للدراسة، حتى
تردد وتلعثم فى الإجابة، ثم بادرنى قائلا إنها سبيله الوحيد للحصول على
الترقية الجامعية!! لقد ظننت أنه أراد عمل هذه الدراسة للتعرف على دوافع
البغاء لدى المرأة، حرصا منه على تحليل تلك الدوافع ورغبة منه فى إيجاد
وسائل لمعالجة البغى، نفسيا وجسديا، تمهيدا لاعادة تأهيلها ودمجها فى
المجتمع. بيد أن الرجل أضاف فى بلاهة يُحسد عليها: "إن البغي تظل بغي ولا
سبيل لتطهيرها سوى الموت طبقا لما تقضى به عقيدتى الدينية.."!!
الحق أن سبب استيائي ليس
سذاجة وجمود فهم المدرس الجامعى لعقيدته الدينية، وإنما ادراكى المؤلم
لعبثية البحث العلمي فى مجتمعاتنا وعدم جدواه، فضلا عن تأكدى من اسهام
القائمين علي البحث العلمي فى عالمنا العربي فى تعميق الهدر المحزن لعقول
أبناء هذا العالم البائس. فالمفترض أن يكون البحث العلمي فى خدمة المجتمع،
وليس أن يكون هدفا فى حد ذاته، كما أنه لا يصح أن يكون مجرد وسيلة للحصول
على الترقية، كما تصور هذا العالم المزعوم!!
والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة:
كيف يتسنى لنا معشر العرب أن نساهم مساهمة حقيقية وفعالة فى الحضارة
الانسانية؟! كيف يمكن أن يتحقق ذلك والعقل العربي الفقهي ـ حتى وهو فى أرقى
صوره ـ بهذه الحالة من الرداءة والسوء؟!
الحل فى رأيي هو تدشين تيار
ثقافي أنسني فى عالمنا العربي، يدرك أنصاره طبيعة الصراع الثقافي بينهم
وبين الاغتراب الثقافي والأخروية، ومن ثم يعمدون ـ فى دأب وحرص ـ إلى تبصير
الذات المغتربة بخطورة اغترابها وكذا تبصيرها بكون هذا الاغتراب اللعين
مسئولا عن هدر ثروتها العقلية، ومن ثم إخراجها من التاريخ. داعين إياها
لقهر اغترابها، عبر استعادتها لحقها المشروع فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة،
وكذا عبر تعاطيها الحذر مع آليات تكريس الاغتراب، فليس متصورا أن تظل الذات
المغتربة مستهلكة لثقافة ليست من صنعها، كما أنه ليس متصورا أن تظل هذه
الذات على اعتقادها الراسخ بأن ثقافتها ـ التى ليست من صنعها ـ مقدسة
ومحصنة ضد النقد والتطوير، رغم ما يجسده هذا الاعتقاد من تحدى ساذج ومخيف
لسنة كونية هى ديمومة التطور والتغير.
وأظن أن اعتقاد الذات العربية
المغتربة فى أبدية ثقافتها وقدسيتها مرتبط ـ بصورة أو بأخرى ـ برؤية تلك
الذات المغتربة للتاريخ العام، فلطالما ألقى تجار الآلام فى روعها حتمية
التدهور المستمر للزمن، فالماضي أفضل من الحاضر، والحاضر أفضل من المستقبل.
وهو ما يخالف بطبيعة الحال المنطق السليم، فالحاضر يمكن أن يكون أفضل من
الماضي وكذا المستقبل يمكن أن يكون أفضل من الحاضر. وكيف لا؟! ونحن نجمع
إلى جانب خبراتنا خبرات السابقين علينا، ومن ثم فقدرتنا على تحويل الأرض
لمقام طيب وجميل أكثر من قدرة أبائنا وجدودنا، كما أن قدرة الأجيال القادمة
على فعل الشيء نفسه تفوق قدرتنا..
أما فيما يتعلق بالأخروية
البغيضة، فيُناط بأنصار التيار الثقافي الأنسني المنشود، السعي الحثيث
والحذر لتجريد الآخر من أخرويته، وذلك عبر تفكيك آليات تكريس الاغتراب
الثقافي للذات والتى يجيد الآخر توظيفها ويُحكم عبرها قبضته على الذات
المغتربة، فيُبقيها مغلولة عاجزة عن تثمين قدراتها العقلية..
كما يُناط بأنصار التيار
الثقافي الأنسني المنشود ارساء دعائمه فى عالمنا العربي المغبون، السعي
الحثيث والحذر لادارة العلاقة مع الآخر، عربيا كان أم غير عربي، فبدون
إدارة العلاقة، على نحو يجنب الأنسنيين الصدام مع الآخرين، العربي وغير
العربي، يصير من الصعوبة بمكان قيام مثل هذا التيار الثقافي الأنسني
المنشود، غير أن على الأنسنيين اقتناص كافة الفرص المتاحة للنيل من
الأخروية وتعريتها، ولا أقول ترويضها، فهى تستعصي بالضرورة على الترويض،
نظرا لأنانيتها وحرصها البغيض على الاستئثار بمغانم الأنسنية لنفسها ولمن
يدين لها بالولاء، فالآخر على دراية واسعة بخطورة الأنسنية وقدرتها على
اثراء أنصارها بشعور قلما توافر لغيرهم، وكيف لا؟! والأنسنيون يرفضون
السعادة ـ إذا أُتيحت لهم ـ إذا لم يشعروا بالاطمئنان على اخوتهم فى
الانسانية..
الهوامش:
(*) نُشرت
هذه المقالة فى مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، العدد رقم 17، عام 2008.
(1) رينيه
ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، مقال عن المنهج، (القاهرة: الهيئة المصرية
العامة للكتاب، 2000)، ص ص 69 ـ 70.
(2) محمد
عابد الجابري، تكوين العقل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،
1989)، ص ص 18 ـ 20.
(3) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(4) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(5) عبد
الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1969)،
ص ص 190 ـ 195.
(6) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(7) نقلا عن:
محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، العقل والعقلانية ـ
نصوص مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد
رقم 9، 2007)، ص ص 25 ـ 28.
(8) نفس
المرجع، ص ص 16 ـ 17.
(9) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(10) ارنست
كاسيرر، ترجمة أحمد حمدى محمود، الدولة والأسطورة، (القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم
الاجتماعية، 1975)، ص 391.
(11) راجع:
دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات الأنسنية"، منشورة على شبكة الانترنت.
وأيضا راجع للكاتب: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(12) راجع:
حازم خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث،
عام 2006).
(13) الأبيات
للشاعر التركى العظيم ناظم حكمت، ترجمها للعربية الشاعر المصرى الراحل نجيب
سرور.
(14) برنارد
لويس، ترجمة محمد عناني، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين،
(القاهرة: دار سطور للنشر، 2003)، ص ص 235 ـ 250.
(15) أنظر
النص الكامل للرسالة: نجيب سرور، "رسالة إلى يوسف إدريس"، مجلة أدب ونقــد،
(القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي)، السنة الرابعة، العدد 34،
ديسمبر 1987، ص ص 117 ـ 130.
(16) قسطنطين
زريق، ما العمــل؟ حديث إلى الأجيال العربية الطالعة، (بيروت: مركز دراسات
الوحدة العربية، 2004)، ص ص 66 ـ 68.
(17) سمير
أمين، الأمة العربية، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1988)، ص 225.
(18) فوزي
منصور، ترجمة ظريف عبد الله وكمال السيد، خروج العرب من التاريخ، (القاهرة:
مكتبة مدبولي، 1993)، ص ص 6 ـ 7.
(19) سعد
الدين إبراهيم، الخروج من زقاق التاريخ ـ دروس الفتنة الكبرى في الخليج،
(القاهرة؛ الكويت: مركز ابن خلدون؛ دار سعاد الصباح، 1992)، ص ص 164 ـ 166.
(20) إدوارد
سعيد، ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التي تفشل دائما، (بيروت: التكوين
للطباعة والنشر والتوزيع، 2003)، ص 137.
المرأة فى الفكر الأنسني
"المرأة لا تُولد امرأة
وانما تُصبح إمرأة"
سيمون دى
بوفوار
كتب فولتير يقول: "إن تقدم
العقل بطيء بينما جذور الأفكار الفاسدة ضاربة فى العمق". هذه الجذور هى
تحديدا ما أود أن أعرض له فى صدر هذا المقال وألفت النظر إليه، طالما أن
أمر انتزاعها غير ميسر. والمسألة ـ كما سوف نلاحظ ـ تتطلب منا البحث والخوض
فى أفكار وتصورات دفينة فى أذهاننا ـ معشر البشر ـ تتعلق بالمرأة وعلاقتها
بالرجل، فضلا عما تتطلبه من مناقشة جادة لمكانة المرأة فى الفكر الأنسني
الذى لطالما تمنيت أن يجد له ملاذا آمنا فى ربوعنا، باعتباره السبيل ـ ربما
الوحيد ـ المتاح أمامنا للعودة إلى التاريخ(1).
أقول إن السعى الحثيث للتعرف
على الأفكار والتصورات الدفينة فى أذهاننا، والتي تتعلق بالمرأة وعلاقتها
بالرجل، والتى تشكل فى الوقت نفسه ميراثا، يُعتد به فى رسوخه وصلابته،
لابد وأن يشكل البداية المنطقية لمقال كهذا. فلنلتمس إذن إجابة شافية على
السؤال التالي: كيف بنى العقل البشري فكرة النوع؟
ولكن..كيف السبيل لمثل تلك
الإجابة الشافية؟! إنها تتطلب بالضرورة قدرا من الرصد والتحليل، لا يمكن أن
يسمح به الحجم المقرر سلفا لهذا المقال، فالأرجح أننا فى حاجة لدراسة تُخصص
بأكملها لذلك الغرض، أتمنى أن تُتاح لي الفرصه لانجازها فى المستقبل! وحتى
ذلك الحين، أرانى قانعا بأن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو الاكتفاء بعرض
أحد النماذج التفسيرية، بشرط أن يعبر في مجمله عن المحاولات المبكرة لبناء
العقل البشرى لفكرة النوع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لابد للنموذج
المُختار أن يكون فلسفيا مدعما بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من
الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع..!
لقد وضع لنا الفيلسوف
اليوناني أرسطو واحدا من أقدم وأبرز النماذج التفسيرية لعملية التناسل
وتحديد النوع. وهو نموذج فلسفى مدعم بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد
من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع. إضافة إلى أن نمط
التفكير الأرسطي ليس فى واقع الأمر غريبا عن خطابنا الحديث، لاسيما العلمي
منه، فمازلنا حتى الآن نجهل على وجه اليقين مكمن القدرة على تحديد النوع!!
وقد استند كاتب هذه السطور فيما يقول للكتاب الرابع من مؤلفات أرسطو "عن
الجنس الحيوانى"، الذى كتبه، ما بين عامي 330 و322 ق.م. وفيه ينطلق أرسطو
من فكرة تضمنتها أعمال من سبقوه(2).
إذ يقول أناكساجوراس إن الأب
هو أساس عملية تحديد النوع. فالخصية اليمنى هي المسئولة عن إنتاج الذكور
لأنها الأكثر حرارة. أما الإناث، فيأتين من اليسرى. بينما يرى أمبيدُقليس
أن الأمر يعتمد على حرارة الرحم ودم الحيض، فتلك هي العناصر التي تتحكم في
النوع ذكرا كان أم أنثى. وكما نرى في هاتين الحالتين، كلما زادت درجة
الحرارة كانت الفرصة مهيأة أكثر لإنجاب الذكور.
وقد انتقد أرسطو الفلاسفة
السابقين عليه في بعض النقاط، وقال بأن مسألة البرهنة على أن البرودة تهييء
الفرصة لكي يكون للجنين رحم وهو في أحشاء أمه ليست بالأمر الهين. ولكنه مع
هذا يُقر بوجود فارق بين البرودة والسخونة، رغم افتراضه من ناحية أخرى عدم
وجود تأثير للنطف على الجنين، فهى "نفحة" وقدرة خالصة. فالذكر هو من لديه
القدرة على إنضاج الدم وتحويله بقوة الحرارة إلى نطف. فأرسطو يقول فى مؤلفه
المذكور: "فتصدر عنه نطفة تحوي أصل الشكل". ومن حيث المبدأ، نفهم أن الذكر
ـ في رأي أرسطو ـ هو المحرك الأول سواء كانت الحركة ذاتية نابعة منه أو من
كائن آخر، بينما الأنثى مجرد مادة ووعاء. وبما أن كل عملية إنضاج تحتاج إلى
حرارة، وبما أن النطف هي النتيجة الخالصة لعملية إنضاج الدم، يكون للذكر
إذا حرارة تفوق حرارة الأنثى. وبما أن الأنثى هي الأكثر برودة لتوفر الدم
لديها بكميات أكبر فقد وجب أن تفقد بعضه وإلا أنتجت نطفا بدورها..!!
هذا الفارق الجوهري بين
السخونة والبرودة هو الذي يُبرر الفروق التشريحية بين الأعضاء التناسلية.
فالعضو الساخن، يفرز خلاصة نقية بكميات صغيرة حتى تتمكن الخصية من تخزينها.
أما العضو الآخر، البارد، الذي لا يستطيع أن يقوم بعمليات الإنضاج فيحتاج
إلى جهاز أكبر هو الرحم فلكل جهاز قدراته التي تلائمه. ولكن إذا كان الرجل
الذي يتمتع بالحرارة هو العنصر الغالب، فلماذا ينجب مع هذا إناثا، بل إناثا
يشبهن الأمهات؟ يحدث هذا "حينما لا يغلب الأساس الذكورى، فلا يكون للذكر
القدرة على إنضاج الدم لنقص ما في الحرارة لا يتمكن من فرض شكله معه، فيصبح
أدنى من أن يضطلع بمسئولياته فيتغير بالضرورة للضد" كما يقول أرسطو. أي أن
ميلاد الأنثى ينتج عن عجز جزئي "فضد الذكر هو الأنثى"! ويمكننا ـ طبقا
لأرسطو ـ أن نتبين صحة هذا الأمر من بعض الحقائق.
إذ ينجب الشباب والكهول إناثا
أكثر من الذكور "لأن الحرارة لا تكون بعد تامة لدى الشباب وتكون منعدمة لدى
الكهول"، فتصبح نُطفهم مجرد سائل رطب، فيما يُعد علامة على نقص الحرارة في
أبدانهم. كذلك تتدخل بعض الأحوال المناخية، إضافة لطبيعة الطعام والماء،
فحينما تكون باردة متجمدة فإنها تُهيئ الفرصة لإنجاب الإناث. إذ أن زيادة
البرودة تزيد من صعوبة عملية الإنضاج وتحويل الدم إلى نطف، وهى مهمة
الرجال. ولكنها كلها أسباب عارضة زائدة و تكميلية لأنه بمجرد تفعيل القدرة
الذكورية فلن يتم إنجاب إلا الذكور. وفى هذا كتب أرسطو في مؤلفه المشار
إليه سلفا يقول: "إنجاب الإناث بدلا من الذكور يُعد أقصى حالات الخروج عن
القاعدة. ولكنه أمر ضروري تفرضه الطبيعة فلابد من المحافظة على نوع
الحيوانات، حيث هناك فارق بين الذكر والأنثى". وكل شيء يمكن أن يتغير. فإن
تغير تحول إلى الضد. وفى عملية التناسل، ما ليس له الغلبة يتحول إلى الضد
حسب طبيعة القدرة التي افتقدها العنصر المولد.
ويميز الفيلسوف اليوناني
أرسطو ثلاثة عناصر أساسية في القدرات الذكورية ممكن أن تتحول إلى الضد وهى
القدرة التوليدية الذكورية التي تمنح الذكور، فان لم تكن غالبة كان الناتج
أنثى. والقدرة الشخصية هي التي تعطي التفرد للذكر. فان لم تكن غالبة حمل
الذكر ملامح الأم وليس الأب. فسواء غلبت القدرة التناسلية أم لا فهي تحدد
النوع، بينما تحدد القدرة الشخصية ملامح الشبه سواء كانت غالبة أم لا. فان
لم تكن غالبة بحيث لا تتمكن من تشكيل المادة الأنثوية فيكون الناتج أنثى
تشبه الأم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإلى جانب القدرة التوليدية
والشخصية هناك القدرة الحركية. فالحركة التي تُشكل الجنين، دون أن يكون لها
تأثير على تكوين مادته، قد تكون متصلة أو مرتخية. فإذا أضفنا ارتخاء
الحركة، ضعفت أم اشتدت، إلى ضعف القدرة على الإتيان بها، فسر لنا هذا
اكتساب الأطفال ملامح أجدادهم لأبيهم من دون ملامح أمهاتهم.
وعلى هذا يكون النموذج الأمثل
ـ من وجهة نظر أرسطو ـ هو أن تكون القدرة التناسلية هي الغالبة، فيكون
الناتج ذكرا. وأن تسود القدرة الشخصية، فيشبه أباه. وأن تكون الحركة متصلة،
فتتطابق ملامحه تماما مع الأب. فإذا حدث في أسوأ الأحوال ضعف في الحركة
فسوف يشبه جده أو جده الأكبر لأبيه. أما النموذج الأدنى، فهو التالي: إذا
ضعفت القدرة التناسلية يكون الناتج أنثى، ومع ضعف القدرة الشخصية تشبه
أمها، فان كانت الحركة متصلة فنحن نفترض أن تشبه الأم بصفة خاصة. أما إن
حدث ارتخاء في الحركة فستشبه الجدة أو الجدة الكبرى للأم. وثمة حالتان وسط
بين هذه وتلك: فإن تدنت القدرة التناسلية الذكورية وسيطرت القدرة الشخصية،
يكون الناتج أنثى تشبه الأب، وإن حدث ارتخاء في الحركة وحسب مداه فسوف تشبه
جدها أو جدها الأكبر لأبيها. أما إذا غلبت القدرة التوليدية وانخفضت القدرة
الشخصية، فسيكون الناتج ذكرا يشبه أمه، فان حدث ارتخاء في الحركة فسوف يشبه
جدته أو جدته الكبرى لأمه.
ولكن أحيانا يُولد كائن لا
يحمل أية ملامح بشرية بل حيوانية فقط، فيما يسمى "المسخ"، فما السبب في
هذا؟ يقول أرسطو: "حينما ترتخي الحركة ولا يتم السيطرة على المادة لا يتبقى
في نهاية الأمر إلا الصفة العامة..."، أي الحيوانية. ولا يجب أن يغيب عنا
أن الحركة تأتي من الرجل، كذلك القدرة التناسلية والشخصية. أما المادة فهي
الجانب الذي يخص المرأة. فإن تم السيطرة على مختلف القدرات واشتد ارتخاء
الحركة فلا يبقى إلا المادة البهيمية الأنثوية أي المادة الحيوانية..!!
فالمسخ المهجن يكاد يكون نسخة مستنسخة للأنثى، طبق الأصل للمادة التى
تحكمها تلك النفحة. إنه عجز القدرة الرجولية، وجيشان القوى البهيمية
الحيوانية للمادة، فلا يتبقى أى توافق فى علاقة القوى الحاضرة ويكون المسخ
بالتالي نوعا من الإفراط الأنثوي الناتج عن المادة. اما بالنسبة للذكور فلا
يوجد أى إفراط، وذلك بحسب قول أرسطو في كتابه المذكور.
ذلك هو نموذج أرسطو التفسيري،
الوارد فى الكتاب الرابع من مؤلفاته "عن الجنس الحيواني"، وضعه أرسطو فى
نهاية مشواره، وهو يُرجع دونية المرأة وخضوعها إلى الأزلية البيولوجية!
وربما لن تجد فيلسوفا آخر، ولا حتى هيجل نفسه، في أعماله ينطبق عليه تعريف
هيجل للفلسفة بأنها عصرها ملخصا في الفكر مثلما ينطبق على أرسطو. أقول هذا
لتعلم قارئي الكريم أن اختياري لنموذج أرسطو التفسيري، والقائل بأزلية خضوع
المرأة والناظر إليها على أنها موجود مشوه، إنما يُعد ـ نظرا لايغاله فى
القدم ـ من الأهمية بمكان، ولو أنه بطبيعة الحال لا ينسخ غيره من النماذج
الأخرى التى تُرجع خضوع المرأة إلى أسباب دينية، أو اجتماعية، أو تاريخية،
أو اقتصادية، أو ......إلخ.
وقد يعن للقاريء الكريم، وهذا
حقه، انتقاد اختيارنا لنموذج أرسطو التفسيري، استنادا إلى أن الفيلسوف
اليوناني أرسطو يذهب في نموذجه المهم إلى أن المرأة أدنى من الرجل على
اعتبار الوظيفة التي تنجزها وصفاتها المناسبة التي تجلت في المجتمع
الأثينى. فالمجتمع الأثيني كان ـ بحق ـ مجتمعا حُرمت فيه المرأة من أي
امتياز كما أنها كانت مقهورة تماما، لأنه مجتمع سيطر عليه الرجل سيطرة
كاملة حتى أنه عادى المرأة ودورها الذي تلعبه، وأملى عليها الفضائل التي
تتحلى بها. حقا اعتقد أرسطو في قدرة البيئة على تشكيل وتغيير الشخصية
البشرية وقدراتها، غير أنه لم يهتم ـ وهو الأمر الغريب ـ بتطبيق هذه
المعتقدات على النساء أكثر من تطبيقها على العبيد، فهو لم يهتم في الواقع
إلا بالرجل الحر المترف، ثم أولئك الذين رآهم يحملون بطبيعتهم خصائص
أدنى..!
أقول إنه على الرغم من وجاهة
القول بخصوصية النموذج الأرسطي الذى عامل الغالبية العظمى من البشر على
أنهم أدوات، ثم حكم عليهم بأنهم بالضرورة في مرتبة أدنى من الموجود البشري،
يظل واضحا عجز أصحاب هذا الرأي عن افهامنا كيف أن عددا من الباحثين الذين
درسوا مؤلفات أرسطو بطرق شتى ـ حتى هذه اللحظة ـ لا يشعرون أنهم مجبرون على
اتخاذ موقف معارض للطريقة التي نظر بها الرجل إلى المرأة!! حتى أن أحدهم
وهو الباحث جون فرجسون John
Ferguson ذهب في كتاب
أصدره عن أرسطو إلى أن أولئك الذين رفضوا نظرة أرسطو الدونية في السياسة
للنساء، لابد من أن يتأكدوا من أنهم لم يعانوا من الأحكام المبتسرة
المتبقية وهم يقدمون مساواة عملية ونظرية في آن معا(3)! وهو ما يعضد زعمنا
بصدق تعبير النموذج الأرسطى عن قدم ورسوخ القناعة السائدة والقائلة بدونية
جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه، بغض النظر عن طبيعة الأسانيد المعضدة
لتلك القناعة، سواء كانت أسانيد بيولوجية، كتلك التى أخذ بها أرسطو في
نموذجه، أو كانت غير بيولوجية..
الهزيمة التاريخية الكبرى
للمرأة:
قارئي الكريم، ها أنا قد أثبت
لك ولنفسي، من خلال العرض السابق لنموذج أرسطو التفسيري لعملية التناسل
وتحديد النوع، أن القول بدونية المرأة وخضوعها للرجل ـ شأنه في ذلك شأن
كافة الأفكار الفاسدة الأخرى ـ يضرب بجذور عميقة في أذهاننا ـ معشر البشر
ـ، على اختلاف الأسانيد والحجج التى لطالما استُخدمت لتعضيد ذلك القول
الجائر! بيد أن السؤال، المثير للحيرة والجدل، يظل مطروحا بقوة: تُرى هل
اقترنت نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه
بخلق الانسان أم أنها نشأت فى لحظة تاريخية لاحقة على خلق الانسان، تلك
التى يسميها البعض لحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، ثم أخذت منذ ذلك
الحين تزداد عمقا ورسوخا فى الذهنية البشرية، وهو ما أغرى الكثيرين، ومنهم
الفيلسوف اليوناني أرسطو، لا حقا بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة
الوليدة ـ بشتى الأسانيد والحجج على اختلافها؟!
أعتقد أن تكوين رأي قاطع حول
ما إذا كانت نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال
عليه قد اقترنت بخلق الانسان، يُعد أمرا من الصعوبة بمكان، بل هو درب من
دروب المستحيل، إن لم يكن هو المستحيل نفسه! وكيف لا؟! وآدم وحواء كانا
وحدهما فى فجر البشرية، وليس لإنسان أن يعرف على وجه اليقين ما دار بخلدهما
آنذاك حول طبيعة العلاقة بينهما ـ أقصد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ـ
وكذا ليس لإنسان أن يعرف كيف نظما دوريهما فى الحياة؟ وهل كانت العلاقة
بينهما علاقة الند للند أم كانت علاقة التابع (المرأة) بالسيد (الرجل)؟
الله وحده يعلم على وجه اليقين ما دار بينهما!
الحق أن السرد الديني لقصة
بدء الخليقة، والذى يتشابه إلى حد يُعتد به فى الكتب التى جاءت بها
الأديان السماوية، وأعنى بها هنا الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) والقرآن
الكريم، يُعد المصدر الأكثر قبولا وثقة من جانبنا معشر البشر فى التعرف على
أحداث تلك الفترة المبكرة جدا من تاريخ البشرية وطبيعة علاقة آدم بحواء،
باعتبار أن تلك الكتب هى كلمة الله إلى الإنسان، مع ضرورة الأخذ فى
الاعتبار أن السرد القرآني لقصة بدء الخليقة، وعلى خلاف السرد التوراتي
لها، يتسم بالايجاز ويساوى صراحة بين آدم وحواء فى تحمل المسئولية(4). بيد
أن الغريب، بل والمدهش أيضا، أن ذلك السرد الديني، على بساطة ووضوح صياغته،
يُفهم بطريقتين مختلفتين، بل متعارضتين تماما! فهناك من يراه تكريسا واضحا
لايقبل الشك لأزلية خضوع المرأة للرجل، وهناك من يراه من ناحية أخرى تكريسا
واضحا لا يقبل الشك لأزلية المساواة بين المرأة والرجل!!
ولكون وجهة نظر أصحاب الرأى
الثانى هى الأقرب للعقل وطبيعة الأشياء، يعمد كاتب هذه السطور لعرض قراءة
الباحثة مارلين تادرس للسرد الديني لقصة بدء الخليقة، تلك القراءة الواردة
فى دراستها الصادرة ضمن منشورات تضامن المرأة العربية(5)، والتى تُعد
مدخلنا لترجيح عدم اقتران نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية
جنس الرجال عليه بخلق الإنسان، فالسرد الديني فى مجمله ـ كما سوف نلاحظ فى
قراءة الباحثة مارلين تادرس له ـ يُعد على الأرجح تكريسا واضحا لأزلية
المساواة بين المرأة والرجل..!
يقول العهد القديم(6): (فخلق
الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم). ونفهم من
هذه الآية أن صورة الانسان وليست صورة آدم وحده هى التى على صورة الله.
فالانسان قوة وفكر وارادة وقدرة على صنع القرار وما إلى هذا من الصفات
السامية التى هى أيضا صفات الله. والتأكيد هنا واضح على كلمتى ذكر وانثى،
يؤكد أن آدم وحواء معا هما على صورة الله وليس آدم وحده، لأنه لو كان
بمفرده على صورة الله لاختلفت صيغة الآية..
وعندما خلق الله آدم قال(7):
(ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فاصنع له معينا نظيره). أى أن الله رأى أدم
بمفرده وأراد له أنيس ومعين. وهنا يقول البعض أن المعنى المقصود هو أن حواء
خُلقت من أجل آدم فهو الأصل وهي التابع وانها قد خُلقت له. ولهؤلاء تسوق
مارلين تادرس فى دراستها مثالا صغيرا، وهو أنه حينما يكون لأحد ابنا ويقول
انه يريد ابنا آخر ليؤنسه أو يعينه فهل معنى هذا أن الابن الثانى خُلق من
أجل الأول وأن الأول له حق السلطة على الثاني وأن الثاني واجبه الخضوع
للأول لأن الأول هو الأصل والثاني هو التكملة؟!
هناك فرق كبير جدا بين خُلقت
له وبين خُلقت لتعينه! فالأولى تعنى بالضرورة أن الرجل هو الأصل وهى المكمل
له أى زيادة عدد، وهو الأصل وهى جاءت فقط تساعد. ولكن المتأمل للآية يجد
أنها تقول شيئا مختلفا تماما فهى تقول (معين)، وكلمة معين تختلف تماما عن
كلمة مساعد. فالمعين تعنى أن هذا الشخص لابد وأن يكون على نفس مستوى الذى
يعينه إن لم يكن متفوقا عليه حتى يستطيع إعانته، أما المساعد فانها تعنى أن
هناك أصل وهناك من هو تكميلي أتى فقط لكي يساعد. والفرق واضح بين الاثنين.
أما الذى يؤكد هذا الفرق فهو الكلمة التالية فى الآية وهى (نظيره)، والنظير
كما تقول القواميس المختلفة هو الند أو المثل وليس الأقل كما يقول البعض،
وهى تحتم أن يكون الطرفان من مستوى واحد فى كل شيء.
وقد بارك الله آدم وحواء وقال
لهما أثمروا واملأوا الأرض وقد أخضع لهم الأسماك والطيور والدواب، ولكنه لم
يقل قط انه أخضع جنس لآخر أو طرف لآخر. وهذه ملحوظة مهمة، إذ أن كلمة
الخضوع كانت واردة، فاذا أراد الله خضوع جنس لآخر لكانت هذه مناسبة قوية
لكي يذكرها ويؤكد عليها، ولكنه لم يفعل. وهو ما تراه الباحثة مارلين تادرس
دليلا على حق المرأة فى الوقوف مع الرجل على قدم المساواة، وعدم خضوعها له،
فقد أُريد لها أن تكون معينا له.
وهناك من يبرر خضوع حواء لآدم
لكونها جزء منه أو لكونها خُلقت منه ومن ضلعه، ومن هذا المنطق يكون الرجل
هو المتحكم فى المرأة. ولكن هذا الفكر غريب حقا، فكون آدم خُلق من التراب
لا يعنى أنه يخضع لهذا التراب بأي حال من الأحوال. إنها مجرد مادة استخدمها
الله لخلق آدم. واذا كان الله استخدم ضلع آدم فى خلق حواء فالدلالة هنا أن
آدم وحواء جزء لا يتجزأ وانهما شريكين فى الحياة ولا يعنى مطلقا أنها
الأقل. ولهذا يقول العهد القديم(8): (لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق
بامرأته ويكونان جسدا واحدا). هذا هو شرح العهد القديم ذاته فى مسألة
الضلع. فلم يقل مطلقا أن هذا معناه أن الرجل هو السيد على المرأة أو انها
هى الأقل. فهما إذا جسدا واحدا وليسوا منفصلين بالأعلى والأقل، وفى هذا
تأكيد لمفهوم أزلية المساواة بين الرجل والمرأة، وليس العكس..!
ويعود العهد القديم ليؤكد مرة
ثانية فى بداية الاصحاح الخامس من سفر التكوين أن آدم وحواء معا هما على
صورة الله، فيقول(9): (هذا كتاب مواليد آدم. يوم خلق الله الانسان على شبه
الله عمله. ذكرا وأنثى خلقه وباركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق). ويقول قائل إن
كون آدم خُلق قبل حواء فهذا يعطيه حق البنوة الأولى وحق السلطة على
القادمين من بعده. وهذا أمر غير منطقى، والكلام للباحثة مارلين تادرس،
فالابن الأكبر لا يأخذ حقوقا أكثر من الأصغر بل حقوقا مختلفة فقط. وليس من
بين هذه الحقوق السيادة. وكلنا نعلم أن فى التربية السليمة ينبغى أن يكون
الأب عادلا لا يفرق بين أبنائه لكون هذا أكبر أو ذاك أصغر بل يعدل بينهم.
فكون آدم خُلق أولا لا يعطيه حق السيادة إلا إذا كان أبا ظالما. والابن
الأكبر عادة يرعى الأصغر حتى يكبر والرعاية ليست السيادة بطبيعة الحال!
ويبدأ الاصحاح الثالث من سفر
التكوين بالحية وبحديثها الشهير مع حواء. والملاحظ هنا أن العهد القديم لم
يذكر إذا كانت الحية قد ذهبت إلى حواء ومعها آدم أم ذهبت إلى حواء بمفردها
بل يدخل مباشرة فى الموضوع بعد ذكر أن الحية كانت أحيل المخلوقات التى
خلقها الله. ولم يذكر العهد القديم أيضا لماذا ذهبت الحية إلى حواء بالذات،
فلا يقول إنها كلمتها لأنها هى الأضعف والأسهل فى التأثير عليها، بل يدخل
مباشرة إلى الحديث معها. وبعد مناقشة قصيرة يقول العهد القديم إن
حواء..(أخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل)(10).
والملاحظ هنا أن حواء أكلت من
الشجرة بعد نقاش وإن كان قصيرا. أما آدم فقد أكل دون نقاش، إذ أن حواء
استدارت وأعطت آدم فأكل معها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل ـ من وجهة نظر
الباحثة مارلين تادرس ـ على أن آدم استسلم دون نقاش! ومن ثم تتساءل: هل
نستطيع القول إنه كان الأجدر بالحية أن تذهب إلي آدم وليس حواء؟! وتتخذ
مارلين من هذا التساؤل مدخلا للقول بأن الأجدر بنا، بدلا من السعى لادانة
جنس على حساب الجنس الآخر، أن نقول إن الصفات العامة مثل الضعف أمام
الخطيئة هى التى ورثها العالم من الجنسين من آدم وحواء، أما الصفات الشخصية
لكل منهما فلنبقيها كصفات شخصية..! خاصة وأن آدم حينما سأله الله إذا كان
قد أكل من الشجرة أم لا خاف خوفا عظيما وألقى بالتهمة فورا على حواء،
قائلا(11): (المرأة التى جعلتها معى هى التى أعطتنى من الشجرة فأكلت). وهو
القول الذى تقارنه مارلين تادرس بقول قابيل! فحينما قتل الأخير أخيه هابيل،
وسأله الله عنه، لم يُلق قابيل باللوم على أحد، بل قال بكل حزن، مع خضوع
وندم عظيمين (12): (ذنبي أعظم من أن يُحتمل)!!
ولنتأمل الآن العقاب الذى
أوقعه الله عى آدم وحواء والبشرية من بعدهما. لقد قال الله لآدم(13):
(ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك).. إلى آخر هذه الآية
من التعب والجهد. وقال لحواء(14): (إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك).
إذن فقد نال العقاب آدم وحواء، بيد أن الملاحظ أن الله لم يقل لحواء مثلا
(وله تخضعين)، إذ أنه لو قالها لحُسمت القضية نهائيا، ولكانت حواء اليوم
خاضعة وانتهى الأمر، ولكنه يقول إن آدم، وكنتيجة للسقوط، سيسود علي حواء
ويحاول السيطرة الدائمة عليها. وهو ما ترى فيه الباحثة مارلين تادرس تفسيرا
لنزوع المجتمعات التى تلت الخروج من الجنة لأن تصبح مجتمعات أبوية، فليس
ذلك فى رأيها إلا إستجابة لا شعورية من تلك المجتمعات لأمر الله الصادر
إليها! وتخلص الباحثة فى نهاية قراءتها الموضوعية للسرد التوراتى لقصة بدء
الخليقة إلى القول بأن مجيء المسيح أعاد الطرفان، وتعنى بهما الرجل
والمرأة، متساويان فى الحقوق كما كانا قبل السقوط، لأنه ـ بحسب تحليلها
المدهش ـ إذا كان الوضع قبل السقوط هو عدم المساواة فلماذا قالها الله من
ضمن النقمات؟!
قارئي الكريم، عبرت سلفا عن
اعتقادى بأن تكوين رأي قاطع حول مسألة ما إذا كانت القناعة القائلة بدونية
جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه قديمة قدم الخلق الإنساني، يُعد أمرا
من الصعوبة بمكان، بل هو درب من دروب المستحيل، إن لم يكن هو المستحيل
نفسه! ومن ثم لا يسعنى الآن، بعد عرض هذا التحليل الموجز للسرد الدينى ـ
خاصة التوراتي ـ لقصة بدء الخليقة، سوى القول بأن نشأة القناعة المذكورة لم
تقترن بخلق الانسان، وهو قول أراه الأرجح وإن لم يكن يقينيا، فالحقيقة
مكانها الوحيد صدر الاله! أقول هذا لأعفى نفسى وقارئي الكريم من الانتقادات
المتوقعة والتى لابد أنها ستأتى من ملاك الحقيقة المطلقة!
والآن، وقد رجحنا كون القناعة
القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه ليست قديمة قدم الخلق
الانساني، فلا مفر إذن من القول بأنها نشأت فى لحظة تاريخية لاحقة، تلك
التى يسميها البعض لحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، ثم أخذت منذ ذلك
الحين تزداد عمقا ورسوخا فى الذهنية البشرية، وهو ما أغرى الكثيرين، ومنهم
أرسطو، لا حقا بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة الوليدة ـ بشتى
الأسانيد والحجج على اختلافها. ولنا أيضا أن نتساءل عن تلك الهزيمة
التاريخية الكبرى للمرأة، والتي لا نزال نرفل فى تداعياتها؟!
الحق أنه ليس أمامنا من سبيل
سوى الاحتكام لعلم التاريخ، فهو ـ على الأرجح ـ العلم الأقدر على تمكيننا
من الاجابة على هذا التساؤل الملح والمهم. ولكن، كيف لنا أن نطمئن للتاريخ
المكتوب والمعروف أن الفئة الأقوى نفوذا فى كل زمان ومكان هى التى تبرز فى
التاريخ ويهتم المؤرخون بها وبأفكارها وأعمالها، فى حين تعانى الفئة الأضعف
فى كل زمان ومكان التجاهل و النسيان؟! الحل الوحيد فى رأيي هو الاحتكام
للدراسات الموضوعية، فمع بروز فئات وتكتلات أخرى واكتسابها لمزيد من القوة
السياسية والاقتصادية والمعرفية فإنها تكتسب فى الوقت نفسه اهتمام
المؤرخين، أو تُنتج من بين أفرادها مؤرخيها.
وهذا ما يشهد به عصرنا
الحديث، فمع صعود طبقة العمال سياسيا واقتصاديا ومعرفيا بسبب تزايد قوة
المنظمات والاتحادات والنقابات العمالية، إزداد عدد المؤرخين الذين أعادوا
دراسة التاريخ بوعى أكبر يدرك حركة العمال لمقاومة الظلم والاضطهاد الذى
وقع عليهم من أصحاب رؤوس الأموال. حدث هذا أيضا بالنسبة لحركة الزنوج وحركة
الشباب والحركات المقاومة للاستعمار. والحركة النسائية لم تشذ بطبيعة الحال
عن تلك القاعدة، فمع تزايد قوتها فى مختلف بلاد العالم، وكذا مع ازدياد
قدرتها على تنظيم صفوفها واكتسابها نوعا من القوة السياسية والاقتصادية
والمعرفية، تزيد أو تنقص من مجتمع لآخر، ازداد ظهور عدد من المؤرخات
والمؤرخين الذين أدركوا أهمية إعادة قراءة التاريخ بأفق أكثر تفهما لدور
المرأة، وذلك على حد تعبير الكاتبة نوال السعداوي(15).
أقول إنه يحق لنا الاحتكام
للدراسات التاريخية الموضوعية فى بحثنا عن اجابة لتساؤلاتنا عن الهزيمة
التاريخية الكبرى التي لحقت بجنس المرأة، وأخضعتها للرجل على نحو أو آخر؟!
باعتبار أن تلك الدراسات هى الأكثر تفهما لدور المرأة في التاريخ الإنساني.
ولعل الدراسة الأهم في هذا الصدد، هي(16): "أصل العائلة والملكية الخاصة
والدولة"، وفيها يؤكد فردريك انجلز إن إسقاط الحق الأمومي كان هزيمة
تاريخية عالمية لجنس المرأة، ويعزوه بكليته إلى عصر ما قبل التاريخ، وذلك
لعدم توافر معلومات ـ على حد تعبير انجلز نفسه ـ عن كيف ومتى تحققت هذه
الثورة عند الشعوب المتمدنة!!
يقول إنجلز في مقدمة الطبعة
الألمانية الرابعة لدراسته القيمة "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"،
إن دراسة تاريخ العائلة تبدأ منذ عام 1861، عندما صدر كتاب "حق الأم"،
للمؤرخ والحقوقي السويسري يوهان يعقوب باهوفن، فقد تقدم المؤلف فى هذا
العمل بالموضوعات التالية: 1ـ فى البدء كانت توجد عند البشر علاقات جنسية
غير محدودة، أُطلق عليها التعبير غير الموفق، برأى انجلز، "الهيتيرية". 2ـ
ان هذه العلاقات تنفي كل امكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة، ولهذا
لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم، بموجب حق الأم، كما كان
الحال فى البدء عند جميع شعوب الأزمنة الغابرة. 3ـ من جراء هذا، تمتعت
النساء، بوصفهن الوالدات الوحيدات المعروفات بكل ثقة وتأكيد للجيل الفتى،
بقدر كبير من الاحترام والتقدير، بلغ، برأى باهوفن، حد سيادة النساء التامة
"الجينيكوقراطية"، أي حكم النساء..! 4ـ ان الانتقال إلى الزواج الأحادي
الذى تخص المرأة بموجبه رجلا واحدا لا غير كان ينطوي على مخالفة عملية لحق
الرجال الآخرين المزمن فى هذه المرأة..! ويضيف انجلز قائلا إن الأدلة على
هذه الموضوعات المثيرة والشائكة، يجدها باهوفن بوفرة فى استشهادات عديدة،
مجموعة بفائق الدقة والعناية، من أدب الأزمنة الغابرة الكلاسيكي..
وينطلق انجلز من مقولات
باهوفن لتأكيد انه بموجب الحق الأمومي، أي طالما كان النسب لا يُحسب إلا
تبعا لحبل النسل النسائي، وكذلك بموجب نظام الوراثة البدائي في العشيرة،
كان العضو المتوفى في العشيرة يرثه انسباؤه في العشيرة. وكان ينبغي أن يبقى
الإرث في العشيرة. وبما أن الأشياء التي يتألف منها الإرث كانت زهيدة، فقد
كانت، على الأرجح، تنتقل بالفعل منذ غابر الأزمان إلى أقرب الأنسباء، أي
إلى الأقرباء بالدم من ناحية الأم. ولكن أولاد الرجل المتوفى كانوا لا
ينتمون إلى عشيرته، بل إلى عشيرة أمهم، فكانوا يرثون أمهم باديء ذي بدء مع
سائر أقربائها بالدم، وفيما بعد، في المقام الأول أغلب الظن. بيد انه لم
يكن بوسعهم أن يرثوا والدهم لأنهم كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، فكان ينبغي
أن يبقى ملك الأب في هذه العشيرة. ولذا بعد وفاة صاحب القطعان، كان ينبغي
أن تنتقل قطعانه في المقام الأول إلى إخوته وأخواته وإلى أولاد أخواته أو
حتى إلى ذريات أخوات أمه. أما أولاده بالذات، فكانوا محرومين من ارثه.
وهكذا، بقدر ما كانت الثروات
تتنامى، كانت من جهة تعطى الزوج في العائلة مركزا أهم من مركز الزوجة،
وكانت من جهة أخرى تولد السعي إلى الاستفادة من هذا المركز المترسخ لأجل
تغيير نظام الوراثة التقليدي في مصلحة الأولاد. ولكنه لم يكن من الممكن أن
يتحقق هذا طالما كان النسب يحسب تبعا للحق الأمومي. ولهذا كان ينبغي إلغاء
هذا الحق، فأُلغى! ولم يكن ذلك صعبا بالقدر الذي نتصوره الآن! فان هذه
الثورة، التي كانت ـ طبقا لانجلز ـ من أهم الثورات التي عرفتها البشرية، لم
تكن بحاجة إلى مس أي من أعضاء العشيرة الأحياء. فقد كان في وسعهم جميعا أن
يبقوا كما كانوا بالأمس. كان يكفى اتخاذ قرار بسيط يقضي بأن تبقى ذرية
أعضاء العشيرة الرجل في المستقبل ضمن العشيرة وبان تخرج ذرية أعضاء العشيرة
النساء منها وتنتقل إلى عشيرة والدها. وهكذا أُلغى الانتساب حسب حبل النسل
النسائي وحق الوراثة حسب خط الأم، وأُقر الانتساب حسب حبل النسل الرجالي
وحق الوراثة حسب خط الوالد.
ويخلص انجلز إلى القول بأن
إسقاط الحق الأمومي كان بحق هزيمة تاريخية كبرى لجنس النساء. فقد أخذ الزوج
دفة القيادة في البيت أيضا، وحُرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستُذلت،
وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد. إن وضع المرأة
المذل هذا ـ طبقا لانجلز ـ الذي يظهر ببالغ السفور عند يونانيي العصر
البطولي وبسفور أشد عند يونانيي العصر الكلاسيكي قد طُلى تدريجيا رياء
ونفاقا بالمساحيق، وأُضفيت عليه أحيانا أشكال أخف وأرق، ولكن لم يُقض عليه
إطلاقا. وما إن أُقرت سلطة الرجال بوجه الحصر على هذا النحو، حتى أخذ
مفعولها الأول يتبدى في شكل انتقالي ظهر آنذاك، هو شكل العائلة (الأبوية)،
بكل سلبياتها التي أسهب انجلز في رصدها وتحليلها على نحو يسترعى الاهتمام
ويثير الدهشة والتساؤل..!!
قارئي الكريم، أعلم أن تفسير
فردريك انجلز لمسألة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة قد يلقى، شأنه فى ذلك
شأن التفسير التوراتى الواجد اياها فى حادثة السقوط أوغيره من التفاسير
الأخرى المطروحة فى هذا الصدد، بعض الانتقادات، استنادا إلى جرأة اطروحاته
واعلاء صاحبه ـ وهو شريك لكارل ماركس فى وضع النظرية الشيوعية ـ للعامل
الاقتصادى واعتباره اياه مسئولا بشكل أو بآخر عن هذه الهزيمة. وهى انتقادات
قد لا يعوزها المنطق السليم، ولكنها تظل، على أهميتها، غير قادرة على
اقناعنا بامكانية تجاهل التفسير الانجلزي. فجرأة الأطروحات والاعلاء الواضح
للعامل الاقتصادي فى تفسير انجلز لمسألة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة
لا يعني بالضرورة مغادرته للموضوعية، وكذا لا يعنى بالضرورة تخلى صاحبه
نفسه عن حياده العلمي، خاصة فى ظل ما عُرف عن انجلز من خصائص شخصية وعلمية
تشي، بصعوبة حدوث مثل ذلك الأمر.
المرأة ضحية..جلادها
الاغتراب الثقافي:
أغلب الظن أنه لا مفر أمامنا
الآن، وقد أتبعنا ترجيحنا لكون القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية
جنس الرجال عليه، ليست قديمة قدم خلق الانسان، بعرض مسهب لتفسير فردريك
انجلز لما يُسمى بلحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، وهو تفسير يستحق
فى مجمله الاحترام، رغم ما قد يُوجه إليه من انتقادات، أراها ـ كما أسلفت ـ
غير كافية لاقناع كاتب هذه السطور بتجاهله، وبغض النظر عما إذا كان التفسير
الانجلزي هو ما حدث بالفعل أم كان مجرد بناء نظرى لا صله له بالواقع الذى
عاشته البشرية فى طفولتها الأولى ـ أقول إنه لا مفر أمامنا الآن سوى التحول
لرصد وتحليل علاقة الاغتراب الثقافي بتعميق وترسيخ القول بدونية المرأة
وخضوعها للرجل، خاصة فى مجتمعاتنا العربية، ذلك القول الذى لا بد وأنه وُلد
مع هزيمة المرأة التاريخية الكبرى، والتى لا تزال المجتمعات المختلفة ترفل
فى تداعياتها، بنسب متفاوتة، كما نرى الآن.
ولتكن البداية تعريفنا للـ
"الاغتراب الثقافي" بأنه تنازل الانسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة
متطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه..! وأقصد بالثقافة هنا ما أورده
ت.س.إليوت في مؤلفه المهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فهى عنده طريقة
حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. و تظهر هذه الثقافة في فنون أبناء
هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا
لإليوت لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة ، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ
كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح
إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من
مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها
وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي
يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا(17).
أقول إن الإنسان ـ فى أى مكان
وزمان ـ يغترب ثقافيا حين يتنازل عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة
متطورة، اراحة لذاته و ارضاء لمجتمعه! فأما التماس الإنسان راحة ذاته في
اغترابه فمصدره ما يلقيه تجار الآلام في روعه، خاصة في المجتمعات المتخلفة،
فهم يوهمونه بأن اغترابه الثقافي فريضة يوجبها الإيمان الصحيح، ويطلبون
إليه التنازل طواعية عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، تقربا إلى الله و زلفى!
وكذلك يطلبون إليه القبول بتخويل آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة
عنه وعن غيره، وغالبا ما يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا
يستقيم أن يقبل الله من عبده تعطيل أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل
الإنساني إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء رسالته
التي أرادها الله له في الحياة الدنيا. وأما التماس الإنسان باغترابه إرضاء
المجتمع فمرجعه أن تنازله عن حقه الطبيعي في نقد ثقافته وتطويرها غالبا ما
يتم في مجتمع يصطلح أفراده على تقدير واحترام المغترب، ويلتقون في اعتقادهم
الراسخ بأن الثقافة السائدة هي الضمانة الحقيقية لصيانة هويتهم، وأنها أسمى
من أن تمتد إليها أيديهم بالنقد والتطوير. فالمغتربون عادة ما يتنازلون
بصورة جماعية عن حقهم الطبيعي في نقد ثقافتهم وتطويرها إلى من يرونه أحق
منهم بذلك، وأقدر منهم على ارتياد ما يتصورونه طريقا وعرا محفوفا بالمخاطر.
وبما أن مقالنا هذا يتحدث عن
المرأة، فلنا أن نتساءل: هل المرأة والرجل سواء أمام الاغتراب الثقافي؟! أو
بعبارة أخرى، هل للاغتراب الثقافي سلطان على المرأة أكثر من الرجل؟! وهل
تفوق قدرة الرجل قدرة المرأة على الفكاك من أغلال الاغتراب الثقافي؟! أم أن
هذا الاغتراب اللعين لا يفرق بين رجل وامرأة، فيتساوى النوعان أمامه، سواء
فى الخضوع له أو فى مدى القدرة على قهره..؟! وهل يصح القول بمثل هذا
التكافؤ بين الرجل والمرأة فى مواجهة الاغتراب الثقافي، فى ظل ما نعلمه عن
الضعف النسبي للمرأة، خاصة فى المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا، فى
مواجهة آليات تكريس الاغتراب الثقافى، ومنها البوليسي، والتعليمي،
والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني!!
الحق أن الاجابة على هذه
الأسئلة ليست من السهولة بمكان، فلنحاول معا التماس الاجابة الشافية، عسى
أن نجد إليها سبيلا..! ولتكن نقطة البدء كالعادة تأكيدنا على ما خلصنا إليه
فى الجزء السابق من هذا المقال، وهو ترجيحنا لكون القناعة القائلة بدونية
المرأة وخضوعها للرجل ليست قديمة قدم خلق الانسان، وهو ما بدا جليا فى
السرد الدينى ـ وهو المصدر الأكثر ثقة وقبولا ـ لقصة بدأ الخليقة. وكذا
ترجيحنا مسألة حدوث هزيمة تاريخية كبرى للمرأة، تلك التى وجدها السرد
التوراتى فى حادثة السقوط ووجدها فردريك انجلز ومن قبله الاثنوغرافي
الأمريكي لويس هنرى مورغان في إسقاط الحق الأمومي، وهى برأينا ـ أقصد تلك
الهزيمة الكبرى ـ ما أغرى الكثيرين، ومنهم الفيلسوف اليوناني أرسطو، لاحقا
ـ كما أسلفنا ـ بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة الوليدة ـ بشتى
الأسانيد والحجج على اختلافها وتنوعها بشكل ملفت للنظر!
ولننطلق من التأكيدات
والترجيحات السابقة للقول بأن المرأة والرجل سواء أمام الاغتراب الثقافي،
فالعقل ـ والكلام لديكارت ـ هو أعدل الأشياء قسمة بيننا معشر البشر. بيد أن
المرأة بصفة عامة، وفى المجتمعات المتخلفة بصفة خاصة، قد تكون أقل قدرة على
الصمود أمام آليات تكريس الاغتراب الثقافي، خاصة الآليات ذات الصبغة
الدينية، ومن ثم نجدها فى بعض الأحيان أكثر انخراطا وتمسكا بالاغتراب
الثقافي من الرجل المغترب! وعليه، يبيت منطقيا القول بوجود علاقة طردية
وثيقة بين الاغتراب الثقافى ورسوخ القناعة القائلة بدونية المرأة وخضوعها
للرجل! فكلما زاد الاغتراب ترسخت تلك القناعة، والعكس صحيح!
فالمألوف أن تجد فى المجتمعات
الموغلة فى الاغتراب امرأة تدافع عن دونيتها وتباهى بخضوعها للرجل! بل إنها
غالبا ما تتجاوز ذلك إلى تلقين صغارها، اناثا كانوا أم ذكورا، هذه القناعة!
وفى هذا السياق تحضرني حادثة، أراها ذات دلالة مهمة، تحفظها ذاكرتي ـ لحسن
الحظ ـ على غير العادة، وهو أنى كنت فى زيارة لاحدى قرى الريف المصري.
ووجدت امرأة مسنة تنهر ـ بعصبية شديدة ـ طفلة صغيرة لضربها طفلا فى
عمرها، قائلة للطفل: "اضربها على قلبها..انت ولد وهى بنت"! وكنت أعلم أن
الطفل والطفله من أحفادها، الأمر الذى دعانى للتفكر: إلى هذه الدرجة يمكن
أن تعمد المرأة المغتربة لترسيخ دونية بنات جنسها وتكريس خضوعهن للرجال،
إراحة لذاتها وإرضاء لمجتمعها..!
وقلت لنفسي: أن تبغى المرأة
المسنة بفعلتها تلك إرضاء مجتمعها، فهذا أمر يمكن تفهمه، خاصة وأنها تعيش
فى مجتمع مغترب، اصطلح أفراده على توقير واحترام المغترب. أما أن تبغى
بفعلتها تلك إراحة ذاتها..فكيف لى ولقارئي الكريم أن نتفهم ذلك؟! ألم تكن
هذه المرأة المسنة نفسها طفلة فى يوم من الأيام ومن ثم عانت الأمرين من مثل
هذه المعاملة غير العادلة، لا لشيء إلا لكونها أنثى، فكيف لعقلها وضميرها
أن يستريحا لأمر كهذا؟ ألم يكن أولى بها أن تثأر لنفسها ولبنات جنسها، خاصة
وقد أصبحت أما وجدة، بأن تعمد، لا أقول لنصرة بنات جنسها، بل على الأقل
لترسيخ قناعة جديدة فى نفوس الصغار، مفادها المساواة بين الطفل والطفلة،
الصبى والصبية، الشاب والشابة، الرجل والمرأة، المسن والمسنة؟! ووجدتنى
أقول لنفسي، أما وأن هذه المرأة المسنة لم تفعل ما يقضى به المنطق السليم،
فلابد وأن وراء سلوكها الشاذ وغير المنطقى دوافع بعينها أغرتها بهذا الفعل
وحببته إلى قلبها وعقلها!! تُرى ما هى هذه الدوافع وما مدى قوتها..؟!
أغلب الظن أن هذه المرأة
المسنة، شأنها شأن بقية المغتربات، فى كل مكان وزمان، ناءت بنير الاغتراب
الثقافي، وأرعبها الواقع المؤلم الذى أفرزته آليات تكريسه، ولو أنها لم
تدرك كنهها أوأهدافها، إذ أنها لو فعلت لعمدت لقهر اغترابها الثقافي ـ أقول
إن إغتراب هذه المرأة المسنة حال دون تمردها واقدامها على نقد الثقافة
السائدة فى مجتمعها المغترب بكل سلبياتها، ومن ثم لم يبق أمامها، هى وغيرها
من المغتربات، سوى التماس ما يمكن تسميته بـ"الراحة السلبية" فى كنف تلك
الثقافة، وذلك عبر خضوعهن الكامل للقناعة القائلة بدونيتهن وخضوعهن للرجل،
شريكهن فى الاغتراب، على أمل أن تحظين بعطفه! وبعبارة أخرى قبلت هذه المرأة
أن تكون ضحية الضحية، فهى والرجل ضحايا للاغتراب الثقافي، غير أن خضوعها
له، علاوة على كونه يرضي غرور الرجل ويمنحها عطفه، فهو ـ أقصد خضوعها للرجل
و تكريسها للقناعة القائلة بدونيتها ـ يجنبها ما تتصوره صداما لا قبل لها
باحتماله مع الواقع المؤلم الذى يُسفر عنه بالضرورة الاغتراب الثقافي
للمجتمع. وحجج المرأة االمتعارف عليها فى هذا الصدد هى أنها ضعيفة لا تقوى
على الاحتمال ومجالدة الواقع كالرجال، وأنها تجد فى خضوعها للرجل اشباعا
لانوثتها، علاوة على ما تتصوره شعورا بالأمان فى كنف الرجل..!
وفى هذا خلط شديد ومخيف
للأوراق من جانب المرأة، تفوز بفضله ـ من وجهة نظرها المغتربة ـ بأخف
الضررين وأقلهما مرارة! فتحت عباءة الرجل المغترب ومن خلف ستارته، تمارس
المرأة المغتربة ما تعتقد فى صعوبة ممارسته إن هى خرجت من تحت عباءته،
إضافة إلى أنها تجنب نفسها فى الوقت نفسه وإلى حد كبير مسئولية التعاطى مع
الواقع الذى تراه مؤلما، وليس مغتربا متخلفا! المسألة إذن خضوع مصلحي مؤسف
ومريض، ناتج عن قراءة اغترابية للواقع، خلصت منها المرأة المغتربة، إلى
وجوب، بل حتمية التحايل علي هذا الواقع المؤلم والتعايش معه، لا السعى الى
تغييره عبر تحرير الثقافة السائدة وتطويرها، ظنا منها أنها تحافظ بذلك على
ما استقر فى يقينها بفضل آليات تكريس الاغتراب، على أنه هوية ثقافية، ينتحر
من يقدم على نقدها أو تطويرها!
وأغلب الظن ان الرجل المغترب،
وإن أرضى غروره خضوع المرأة المغتربة له واقرارها أمامه بدونيتها وفوقيته،
إلا أنه يظل يشعر فى قرارة نفسه بما ترمى إليه شريكته فى الاغتراب، ومن ثم
تساوره المخاوف إزاء خضوعها، إذ أنه ينظر إليه دائما على أنه "حيلة نسائية"
للايقاع به والنيل منه! الأمر الذى يفسر لنا شيوع القول بمكر النساء فى
المجتمعات المغتربة، وكذا يفسر لنا ـ والكلام هنا للدكتورة نوال
السعداوي(18) ـ كون علاقة الرجل والمرأة فى تلك المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا
العربية،علاقة كراهية وحب مشبوب فى آن واحد، لذة وألم، اقبال وفرار، راحة
وعذاب، قسوة وحنان، سذاجة ومكر..إلى آخر تلك التناقضات التى تميز تلك
العاطفة الشائعة بين الرجال والنساء فى المجتمعات المغتربة..!
صفوة القول أن المرأة ضحية
جلادها الاغتراب الثقافي، فلولا الواقع المؤلم الذى يفرزه الاغتراب
الثقافي، لما عمدت المرأة إلى المكر والحيلة التماسا لما تتصوره راحة فى
كنف الثقافة السائدة، ولرأيناها ـ على نحو ما نرى فى المجتمعات غير
المغتربة ـ شريكة للرجل على قدم المساواة فى بناء الحضارة الانسانية.
فالملاحظ فى المجتمعات المغتربة ندرة الابداع النسائي، بشكل ملفت للنظر،
ففي ظل الاغتراب الثقافي تضمحل قدرات النساء جسدا وعقلا ونفسا منذ الطفولة
وحتى نهاية العمر، وانها لنادرة فعلا تلك المرأة التى تستطيع أن تفلت من
قبضة الاغتراب الثقافي المتربص بها وبشريكها الرجل داخل البيت وخارجه.
دور المرأة فى بناء الذات
الأنسنية:
إن بناء الذات الأنسنية، طبقا
لما جاء في كتاباتي السابقة، لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر
قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال
والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان، رجلا كان أم امرأة، كأعلى
قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج
للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين
للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في
إطار الخصائص العامة للأنسنية(19):
[1]معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد
التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي
المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما
يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية
الجمالية.
وطبقا للمعيار الأنسني، يُعد
الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها،
ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل
الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا
مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة ـ كما وضحنا سلفا ـ هو تنازل
الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء
لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر
بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ
الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل،
بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني
ـ طبقا لما انتهيت إليه في بحوثي ودراساتي ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع
ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا
ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة
للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات
الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها
وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها...
فهناك الصراع بين الذات
الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في
تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح
الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص
على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع
مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام
كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين
الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب
الذات المغتربة، يغذيه الآخر كما أسلفنا ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات
المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها
على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي
لمحو هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
على أي حال، واستئنافا للحديث
عن المرأة ـ موضوع هذا المقال ـ، يؤكد كاتب هذه السطور قناعته بأن المرأة
والرجل سواء أمام الاغتراب، وأن الآخر لا يفرق بينهما حين يعمد إلى تكريس
إغترابهما الثقافي، عبر آليات لا تكل، أشرنا إليها سلفا. وكذلك يؤكد قناعته
بأن المرأة المغتربة، فى كل مكان وزمان، تنوء بنير الاغتراب الثقافي،
ويرعبها الواقع المؤلم الذى أفرزته آليات تكريسه، فتعمد إلى التماس ما يمكن
تسميته بـ"الراحة السلبية" فى كنف الاغتراب اللعين، وذلك عبر استسلامها
الكامل للقناعة القائلة بدونيتها وخضوعها للرجل، شريكها فى الاغتراب، على
أمل أن تحظى بعطفه! ورغم ذلك كله، تظل المرأة ـ من وجهة نظر كاتب هذه
السطور وسواء كانت مغتربة أم غير مغتربة ـ أمل الأنسنيين المنشود في دق
المسمار الأول فى نعش الاغتراب الثقافي والأخروية، وذلك عبر تخليها المأمول
عن "راحتها السلبية"، واضطلاعها بمسئولياتها، على الأقل فيما يتعلق برفضها
الدونية والخضوع الماكر للرجل، فناتج هذا الخضوع غالبا ما يكون علاقات غير
صحية، على النحو الشائع، ولو بدت فى ظاهرها غير ذلك..!
أعرف أن المرأة فى مجتمعاتنا
ـ خاصة المرأة المغتربة ـ لا قبل لها فى أحيان كثيرة بالتصدى لهيمنة
الاغتراب الثقافى، فهى حتى لا تدرك وجوده، فالأمر لا يعدو ـ عند أكثر
النساء وعيا ـ كونه مجرد عادات وتقاليد قديمة راسخة، اصطلح عليها مجتمع
يتسيده الذكور، وليس صراعا ثقافيا شرسا يعمد فيه الآخر، عربيا كان أم غير
عربي، لتكريس الاغتراب الثقافي للذات العربية، رجلا كان صاحبها أم امرأة؟!
أعرف جيدا..أعرف أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على المرأة المغتربة
وهذا فكرها أن تتصدى للاغتراب الثقافي وأن تعمل على قهره؟! أعرف ذلك جيدا.
ولكن ما يدعونى لمخاطبة حواء هو ما آلت إليه أوضاعنا، إذ لم يبق أمامنا
ملاذ، بعد خروجنا المهين من التاريخ، لم يبق أمامنا سوى استنفار همم
امهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا، فهن بحكم اضطلاعهن بقسط وافر من تنشئة
الصغار والنشء، وبحكم علاقاتهن بالرجل وقدرتهن النسبية على التأثير عليه،
قادرات ـ لو أردن ـ على غرس بذور الأنسنية فى عقول الصغار، على الأقل فيما
يتعلق بوجوب المساواة بين الرجل والمرأة، عسى أن يأتى يوم يدرك فيه كل من
الاغتراب الثقافي والأخروية أنهما ليسا موضع ترحيب فى ربوعنا، فيحملا
عصاتهما ويرحلا إلى غير عودة، وتشرق الشمس لأول مرة علينا كشعوب حرة تحب
الحرية والعدالة والرحمة أكثر من خوفها من الموت..
وقد يقول قائل إن المرأة إن
هى عمدت لفعل ما ندعوها إليه، فقد تعرض نفسها وصغارها للصدام مع المجتمع
المغترب، خاصة عندما يكبر هؤلاء الصغار. وهو قول لا يعوزه المنطق، فالشائع
أن تتضافر جهود الأسرة والمدرسة في تهيئة الطفل في سنواته المبكرة لأن يصبح
مغتربا ثقافيا، فالوالدان المغتربان غالبا ما لا يدخران جهدا في تلقين
وليدهما أبجديات الاغتراب في سن مبكرة، والأرجح أنهما يسقياه إياها مع لبن
الأم، دون أن يدركا ـ بالطبع ـ مدى جنايتهما على وليدهما، لاعتقاد راسخ
لديهما بحتمية تأهيله للتعاطي الكفء مع ذاته ومع مجتمعه المغترب. أقول
لصاحب هذا الرأى إن الآباء والأمهات بممارساتهم المغتربة تلك يدمرون قدرات
الطفل/الطفلة النقدية والإبداعية ويحيلونهما مسخا مشوها، لا سلطان لهما على
ثقافتهما، فلا يملكان لها نقدا ولا تطويرا، وهو ما يعضد قناعتنا بأهمية
تحمل المرأة لمسئولياتها، عبر تخليها عن الخضوع المصلحى المريض للرجل، وكذا
عبر اضطلاعها بغرس بذور الأنسنية فى عقول الصغار، على أن يتم ذلك بحرص
وحذر، خشية أن يفطن الآخر للأمر، فيحدث مالا يُحمد عقباه، خاصة وأن الآخر،
فى كل زمان ومكان، على دراية واسعة وخطيرة بالمغتربين..!
الهوامش:
(1) راجع
كتاباتنا فى مجال الفكر الأنسني: دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات
الأنسنية"، وأخرى بعنوان "هدر العقل العربي"، تجدهما على شبكة الانترنت.
وراجع للكاتب أيضا: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(2) نقلا عن
الكتاب التالي لعالمة الاجتماع الفرنسية فرانسواز ايريتييه: فرانسواز
ايريتييه، ترجمة كاميليا صبحى، ذكورة وأنوثة ـ فكرة الاختلاف، (القاهرة:
الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003)، ص ص 175ـ186.
(3) سوزان
موللر أوكين، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، النساء فى الفكر السياسي الغربي،
(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب بالتعاون مع المشروع القومي
للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، 2005)، ص ص 115ـ116.
(4) راجع
الآيات القرآنية الكريمة: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها
رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فأزلهما الشيطان
عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الأرض
مستقر ومتاع إلى حين"، قرآن كريم، سورة البقرة، الآيات 35، 36.
(5) مارلين
تادرس، حواء المضطهدة، (القاهرة: سلسلة المكتبة الثقافية، منشورات تضامن
المرأة العربية، 1990)، ص ص 7ـ19.
(6) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الأول، الآية 27.
(7) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثاني، الآية 18.
(8) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثاني، الآية 24.
(9) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الخامس، الآية 1ـ2.
(10) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثالث، الآية 6.
(11) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثالث، الآية 12.
(12) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الرابع، الآية 13.
(13) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثالث، الآية 17.
(14) العهد
القديم، سفر التكوين، الاصحاح الثالث، الآية 16.
(15) نوال
السعداوي، عن المرأة، (القاهرة: مكتبة مدبولي،2005)، ص 10ـ11
(16) فردريك
انجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، (موسكو: دار التقدم، بدون
تاريخ).
(17)
لمزيد من المعلومات عن الاغتراب الثقافي راجع: حازم خيري، الاغتراب الثقافي
للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، عام 2006).
(18) نوال
السعداوي، الوجه العاري للمرأة العربية، (القاهرة: دار ومطابع المستقبل
بالفجالة والاسكندرية، 1994)، ص ص 120ـ 121.
(19) راجع
الهامش رقم (1).
التثمين الأنسني لجوهر الأديان
"لم أع لحظة أتيتُ فيها
الحياة..! ألا أى قدرة فتحت عيني على هذه الأرجاء المجهولة، كما تتفتح
زهرةُ الغاب فى قلب الليل!.. عند موتى أيضا، سيلقانى نفس المجهول كصاحب
قديم، وسأحب الموت لأني أحب الحياة!"
طاغور
بداية، ولمن لم يقرأ كتاباتى
السابقة فى مجال الفكر الأنسني، أقول بأن "الأنسنية" هى أن يحقق الإنسان
أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال
والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود،
وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري
وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي
كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص
العامة للانسنية، والتى نُوجزها فيما يلي(1):
[1]معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد
التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي
المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما
يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية
الجمالية.
والإنسان ـ طبقا للمعيار
الأنسني ـ يُعد أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير
الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا
حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة
يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا
العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة،
إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك
الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه
للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى
الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور
التاريخ الإنساني ـ في رأيي ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه
الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف
إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون
الصراع أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب،
فهي تتجاوز الاحتياجات المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا،
لتعدد جبهاته وتداخلها...
فهناك الصراع بين الذات
الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في
تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح
الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص
على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع
مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام
كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين
الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب
الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن
قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر
اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو
هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
كانت تلك مقدمة لابد منها،
أوجزت فيها ـ قدر المستطاع ـ أهم ما خلصت إليه فى كتاباتى السابقة عن الفكر
الأنسني، خاصة وأنها لم تحظ بعد بمعرفة واسعة، تجنبني ـ وتجنب قارئي الكريم
ـ عبء إعادة التعريف بالأنسنية فى كل مقال جديد أناقش فيه أحد أبعاد الفكر
الأنسني. ولندلف الآن إلى موضوع هذا المقال الشائك، والذى أعمد فيه إلى
إنارة المناطق المظلمة فى الثقافة الدينية بمصابيح الأنسنية، على أمل أن
يأتي يوم، نبلغ فيه كأنسنيين أحد أهم أهدافنا، وهو تمكين الذات المغتربة،
المغلوبة على أمرها، فى شتى أنحاء المعمورة، وبصفة خاصة فى عالمنا العربي،
أن لا تقع ضحية للآخر، محليا كان أم عالميا، فهو المستفيد للأسف الشديد من
الغموض الذى يتعمد هو نفسه أن يُضفيه على جوهر الأديان، فيصوره فى عيون
المغتربين لغزا كهنوتيا لا سبيل لفهمه، سوى عبر من يصيرهم بحرفيته، وقدرته
المدهشة على التعاطى مع المغتربين، رموزا دينية، تعمد بكل شراسة ودهاء إلى
قهر الذات وتكريس اغترابها الثقافي، دون رحمة أو هوادة. فالآخر يعلم جيدا
أنه بدون ذلك، تتضح الحقيقة ويبدو جليا حرص الأديان ـ على تعددها ـ على عدم
هدر عقول معتنقيها، فيغلي مرجل الغضب في صدور المغتربين، ومن ثم يتهدد وجود
الاغتراب الثقافى والأخروية!
ويحدوني فيما أنا مُقدم عليه،
من تثمين أنسنى لجوهر الأديان، قول الفيلسوف الألمانى فريدريك هيجل بأن
البحث عن الحقيقة سوف يظل دائما وأبدا يُوقظ حماس الإنسان ونشاطه ما بقى
فيه عرق ينبض وروح يشعر. غير أني أعلم جيدا أنني قد ألتقي، في الحال،
بالاعتراض الآتي: هل بامكان الإنسان معرفة الحقيقة؟ وبأى معنى؟ وغالبا ما
يستند أصحاب هذه التساؤلات إلى أن هناك فيما يبدو ـ بحسب تعبير هيجل نفسه ـ
ضربا من التنافر وعدم التجانس بين الانسان بوصفه موجود متناهى وبين الحقيقة
التي هي مطلقة، ومن ثم فهناك شكوكا يُعتد بها حول ما إذا كان يمكن أن يكون
هناك جسر بين المتناهي واللامتناهي(2)!
ورغم وجاهة التساؤلات
المطروحة، وتعويلها الواضح على طبيعة الصيغة البشرية، يظل البحث عن الحقيقة
يُوقظ حماس الإنسان ونشاطه ما بقى فيه عرق ينبض وروح يشعر! ويظل معنى
الحقيقة المنشود معرفتها متوقفا ـ إلى حد يُعتد به ـ على الطريق الذى يسلكه
الانسان فى نشدانه إياها! غير أنه ليس للانسان أن يطمح إلى ما لا قدرة له
عليه، وهو المعرفة اليقينية للحقيقة، أيا كان السبيل الذى يسلكه، فالأمر
شائك ومعقد للغاية، حتى أن رفاق السبيل الواحد لنشدان الحقيقة قد يرون
معناها على أوجه مختلفة! خذ مثلا الفلسفة، التى تظل أحد أبرز وأهم السبل
المتاحة أمام الانسان لنشدان الحقيقة، رغم قول هيجل عن السعى الفلسفى
لمعرفة الحقيقة بأنه يتعارض فيما يبدو مع فضائل التواضع البشري وشعور
الإنسان بضآلته، كما أن عقبة إضافية تعترضه، وهى خوف العقل وجبنه! فالعقل
المهدور يجد ـ والكلام لهيجل ـ من الطبيعي أن يقول إنه سوف يكون سعيدا أن
يدرس الفلسفة، من بين ما يدرس من علوم، لكن بشرط أن تتركه على نحو ما كان
عليه قبل دراسته لها(3)! وذلك لقناعته بأن التفكير لابد أن يكون قد انحرف
إلى الطريق الخطأ، لو أنه تجاوز نطاق السبل المألوفة فى المجتمع..!
أقول إن الفلاسفة، ورغم كونهم
رفاق طريق واحد فى نشدان الحقيقة، يرون معنى الحقيقة على أوجة مختلفة، وهو
ما نرى فيه تجسيدا واضحا لقول الفيلسوف سكتوس أمبيريكوس، بأن الحقائق تتعدد
تبعا لتعدد زوايا النظر(4). وإلى قارئى الكريم أسوق وجهات نظر بعض الفلاسفة
في معنى الحقيقة:
1ـ رأى جان أُولمُو: نهاية
الحقيقة المطلقة فى العلم:
إن مفهوم الحقيقة المطلقة
يتعين بالضرورة أن يرتكز على مطلق سابق على كل تجربة بل على كل فكر إنسانى.
وهذا هو الحال بالنسبة لمُثل أفلاطون والحقائق الالهية عند ديكارت. أما
المنهج العلمى الذى لا يعرف إلا العلاقة (السببية) ويود تجاهل المطلق،
فيتعين عليه أن يتخطى نقطة الارتكاز هذه، وبذلك يُحرر الحقيقة من طابعها
الدوجماطيقي(5).
2ـ رأى مارتن هايدجر: ماهية
الحقيقة هى الحرية:
لقد انكشفت ماهية الحقيقة
كحرية. هذه الأخيرة هى عملية ترك الموجود المنفتح يوجد، التى تكشف الموجود.
كل سلوك منفتح يحدث تاركا الموجود يوجد ومتخذا موقفا من هذا الموجود الخاص
أو ذاك. إن الحرية قد أسندت، مسبقا، كل سلوك إلى الكائن فى كليته. وذلك من
حيث إنها استسلام لانكشاف هذا الموجود فى كليته وكما هو(6).
3ـ رأى فردريك هيجل: الله هو
الحق وهو الحقيقة:
الله هو الحق الخالد وهو
الماهية ذات القوة المطلقة. إنه يكشف عن نفسه فى العالم، وانه فى هذا
العالم لا ينكشف شيء سواه، أعنى سوى العقل ومجده وعظمته، فهو جوهر الكون
ومحرك التاريخ، هو عقل كونى
Universal Mind، وما
العقل البشري إلا قبسا إلهيا يسكن جسد الانسان(7).
والآن، وقد عرضنا وجهات نظر
بعض الفلاسفة فى معنى الحقيقة، يصير منطقيا القول بأن أقصى ما يطمح إليه
الانسان ـ مهما علا قدره وكثر علمه ـ إزاء الحقيقة، هو الوثوق بما يُفضى
إليه به قلبه وعقله، لا معرفتها على سبيل اليقين. وكيف لا؟! والبائن أنه قد
حيل بينه وبينها بحجاب كثيف وصلد ليس يمزقه سوى الموت! أقول هذا لألجم
نفسي إن هى جمحت، فخُيل إليها أنها أدرى من غيرها بالحقيقة، أو إن هى
اعتقدت ـ كما يفعل ملاك اليقين ـ أن طريق نشدانها للحقيقة هو الطريق
الأمثل، وسعت لفرض رأيها بالقوة على غيرها! فالمنوط بالانسان ألا تطمح نفسه
إلى المستحيل، وإن كان عليه أن يستنفذ حدود الممكن! وهو قول ـ على الأقل
بالنسبة لى ـ ليس أمارة يأس أو استسلام، وانما هو مقدمة لا مندوهة عنها
لحديث آخر أراه مُحببا إلى نفسي، وهو القول بروعة وجمال الرفقة الإنسانية
الصحيحة، وأقصد بها الرفقة التى تسمح لكل صاحب فكر باتخاذ موقفه ومنبره في
هيكل الوجود الجميل، شريطة ألا يدعى أنصار هذا الفكر أو ذاك امتلاكهم
للحقيقة على وجه اليقين، فأقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء الحقيقة ـ كما
ذكرنا وكما سنذكر دائما ـ هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في
نُشدانها، إذ أن للقلب مبرراته التى لايعلم عنها العقل شيئا..!!
غير أنى بقولى هذا، قارئي
الكريم، لا أهون الأمر، ولا أزعم أنى أبت برأى قاطع فى مسألة ما إذا كان
بامكان الانسان معرفة الحقيقة، فالمسألة ليست من السهولة بمكان. بل على
العكس، أراها شائكة ومعقدة إلى حد يُعتد به وتُخشى تداعياته، وإلا ما كانت
بى أو بغيرى من أصحاب الأقلام، عبر العصور المختلفة، حاجة لتحبير كل هذه
الأوراق وكتابة كل هذه الكتب، التماسا لمعالجة موضوعية لواحدة من أهم وأخطر
قضايا الوجود الانسانى! وأملى أن يساهم هذا المقال، على تواضعه، فى ابراز
خطورة هذه القضية وتعقدها.
الدين هو الطريق الأكثر
أُلفة لنشدان الحقيقة:
قد يكون ملائما فى بداية
حديثي عن الدين بوصفه الطريق الأكثر شيوعا وأُلفة أمام الإنسان لنشدان
الحقيقة، أن أسوق للقاريء الكريم دليلا يعضد قناعتي هذه، وهو حديث العالم
الأمريكي صمويل هنتنجتون فى كتابه الشهير "صدام الحضارات" عن الدين، ووصفه
له بأنه(8): "..أهم عامل بين العوامل الموضوعية التى تُعرف الحضارات كما
كان الأثينيون يؤكدون". علاوة على حديث هنتنجتون في الكتاب نفسه عن
الحضارات الرئيسية فى التاريخ الإنسانى، ووصفه إياها بأنها(9): "..كانت
دائما متوحدة ومتطابقة مع ديانات العالم الكبرى وبدرجة كبيرة..".
وقناعتي المذكورة لا تتعارض
بطبيعة الحال مع ما يقول به فريق من المفكرين، إذ أنهم يرون أن هناك سُبلا
أخرى أمام الانسان لنشدان الحقيقة، لعل أبرزها وأهمها ـ كما أوضحنا سلفا ـ
الفلسفة! أقول هذا وأنا أعلم أن حديثي قد يُساء فهمه، وقد يُؤول على نحو
ظالم وجائر، رغم أنى ما قصدت من ورائه ـ والله يعلم ـ سوى مقاربة الواقع
المُعاش. فلم يعد مقبولا أو لائقا التعامي عن حقائق نراها جميعا حولنا أوضح
من شمس الظهيرة فى كبد السماء..!
ودعونى أتساءل: أليس الوجود
الانسانى لوحة جميلة، تزداد جمالا كلما تباينت ألوانها واختلفت؟! أليست سنة
كونية أن تختلف وتتباين مسالك من ينشدون الحقيقة من كل حدب وصوب؟! ألم يكن
الله قادرا ـ إن هو أراد ـ أن يخلق عقولنا نسخا طبق الأصل من بعضها البعض؟!
ودعونى أيضا أُجيب: بلى والله، فسبحان الله، جلت قدرته. إذن، أين الخطأ فى
الحديث عن تعدد السبل المتاحة لنشدان الحقيقة؟! أليس للانسان، وقد كُرم
بالعقل، الحق فى أن يفكر وأن يختار؟!
على أية حال، أظنني الآن، وقد
فرغت من تعضيد قناعتي بكون الدين هو السبيل، ليس الوحيد، وإنما الأكثر
شيوعا والأكثر أُلفة أمام الإنسان في نشدانه للحقيقة، مُطالب بتعريف الدين،
خاصة وأنه محور الحديث فى هذه الجزئية. وها أنا ذا أفعل ما أنا مُطالب به،
مستندا فى ذلك إلى "المعجم الفلسفى"، فهو يُعرف الدين بأنه يعبر عن المطلق
فى إطلاقه، وعن المحدود فى محدوديته، وعن العلاقة بينهما، ولهذا يتصف أى
دين ـ طبقا لتعريف "المعجم الفلسفى" ـ بما يأتى(10):
أولا: ممارسة شعائر وطقوس
معينة.
ثانيا: الاعتقاد فى قيمة
مطلقة لا تعدلها أية قيمة أخرى.
ثالثا: ارتباط الفرد بقوة
روحية عليا، قد تكون متكثرة أو أحادية.
وقد تشاركنى أيها القارىء
الكريم إعتقادى بأنه لا تعارض بين تعريف "المعجم الفلسفى" للدين، وبين
التصور الذى لازم الدين منذ البداية ولا يزال يلازمه حتى اليوم، وهو أن
الإله هو الحقيقة، حقيقة كل شيء. وهو البداية، بداية كل الأشياء وهو
الخاتمة، خاتمة كل الأشياء. فمنه تنطلق كل الأشياء وإليه يرتد الكل ثانية.
وهو القادر على حل كل ألغاز العالم، ولديه تجد التناقضات الخاصة بأعمق مدى
للتفكير معناها، وقد تكشفت بعد التحجب! وهو الذى ليس لأى شيء فى جانبه وجود
قائم بذاته مطلق. وهو أيضا من فى رحابه يخرس ألم القلب والعقل!
الأمر الذى يدعونى للقول بأن
جوهر الأديان ـ على تعددها ـ هو معرفة الإله. وكنت قد قلت سلفا إن الدين
يُعد الطريق الأكثر شيوعا وأُلفة أمام الإنسان لنشدان الحقيقة، إذن فالاله
هو الحقيقة التى ينشدها الانسان عبر الأديان، ومن ثم فمعرفة الاله هى جوهر
الأديان، وما اختلاف الشعائر والطقوس من دين لآخر سوى خصوصية، لا تنال ـ
ولا ينبغى أن تنال ـ من القول بوحدة جوهر الأديان، فكل أصحاب الأديان
ينشدون معرفة القيمة المطلقة والقوة الروحية التى تحدث عنها "المعجم
الفلسفي"، كأحد العناصر اللازم توافرها فى أى دين.
قارئي الكريم، خلصت سلفا إلى
أنه لا يستقيم أن يكون هناك حرجا فى الحديث عن تعدد السبل المتاحة لنشدان
الحقيقة، لاسيما وأن الانسان كُرم بالعقل، وهو ما يقتضينى، خاصة وأنا بصدد
الحديث عن الدين، أن أعرض لمسألة مهمة أراها مرتبطة أشد الارتباط بالأمرين
ـ أقصد ما خلصت إليه سلفا وحديثي عن الدين ـ، وهى طبيعة العلاقة بين الدين
والفلسفة، كطريقين أمام الانسان لنشدان الحقيقة. فالحاصل أنهما يُنظر
إليهما من جانب أنصارهما على أنهما يصلان فى اختلافهما إلى درجة التعارض،
بل والصدام فى أحايين كثيرة، والشواهد على ذلك عديدة، يذخر بها التاريخ
الانسانى فى عصوره المختلفة! وقد بات مألوفا أن نجد بين معتنقى الأديان من
لا يكتفى بأن ينظر إلى الفلسفة بتجهم وريبة، بل يذهب إلى تحريمها واعتبارها
خطيئة يأثم من يقترفها! وكذا بات مألوفا أن نجد بين الفلاسفة وأنصار
الفلسفة من يُبدى نفورا شديدا إزاء الأديان ومعتنقيها..!
والسؤال الذى يطرح نفسه: هل
هذا هو ما ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين طريقين يُنشد عبرهما مالا سبيل
لبلوغه؟! بالطبع لا، فالثابت أنه لا تعارض بين الطريقين، الدين والفلسفة،
وذلك لسببين: أولا: انه أحيانا كثيرة ما يحدث أن يصل سالكوا الطريقين إلى
نفس النتيجة، وهى أن الحقيقة هى الله. خذ مثلا الفيلسوف الشهير هيجل، وقوله
إن الله هو الحقيقة، وهو الماهية ذات القوة المطلقة. وكذا قوله إن الله
يكشف عن نفسه فى العالم، وانه فى هذا العالم لا ينكشف شيء سواه. ألا يلتقى
الفيلسوف هيجل بأقواله تلك مع ما اتفقنا سلفا على كونه جوهر الأديان ـ على
تعددها ـ وهو معرفة الإله؟! ثم ألا يقوم هذا الالتقاء دليلا على امكانية
التلاقح البناء بين الطريقين وأنصارهما؟! ثانيا: اننا قد اتفقنا سلفا على
ان البائن أنه قد حيل بين الانسان وبين معرفة الحقيقة بحجاب كثيف وصلد ليس
يمزقه سوى الموت! وأن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء معرفة الحقيقة هو
الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها، ومن ثم فلا مجال للصدام
بين الدين والفلسفة بدعوى معرفة أنصار أحدهما للحقيقة على وجه اليقين!!
فكيف لنا إذن والحال هذه أن
نفسر تأجج العداء بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، على هذا النحو الذي نراه
في المجتمعات المغتربة؟! أغلب الظن أنه يوجد هناك من يؤجج نيران العداء بين
أنصار الطريقين. وأراني قانعا أن الآخر، محليا كان أم عالميا، هو من يفعل
ذلك، وهذا ما سأتناوله بالرصد والتحليل فى الأجزاء المتبقية من هذا المقال،
حتى يكون هذا المقال قد أسهم ولو بشكل متواضع فى تعرية الآخر، فهو المستفيد
ـ كما سنرى ـ من هذا العداء الذى يتعارص بشدة مع الرفقة الانسانية
الصحيحة..
هل الثقافة الدينية من انتاج
الآخر؟
البون شاسع بين الدين
والثقافة الدينية، فالدين هو ما تحدثنا عنه فى الجزئية السابقة، وعرفنا
جوهره بأنه معرفة الإله، أما الثقافة الدينية فأعنى بها فهم الانسان لدينه
وتعاطيه مع الحياة على أساس هذا الفهم. وأرانى قانعا أن الاغتراب الثقافى
يتجلى أكثر ما يتجلى فى الانقياد الأعمى من جانب المغتربين، لما يُلقيه
الآخر فى روعهم على أنه ثقافة دينية، موهما إياهم أن أية محاولة لتناولها
بالنقد والتطوير خطيئة وإثم عظيم! فهذه الثقافة الدينية التى ينتجها الآخر
ويلقيها فى روع الذات المغتربة غالبا ما توفر غطاءا دينيا لممارساته غير
المشروعة، فبدونها يغلي مرجل الغضب في صدور المغتربين، ويصبح وجود الآخر
وأعوانه مهددا. وأقصد بأعوان الآخر محترفي التبرير الديني الذين يخدمون
بدورهم مصالح أسيادهم، حتى لو جاء ذلك على حساب آلام المغتربين وأوجاعهم.
ولعل فى ذلك تفسيرا منطقيا
للسؤال الذي اختتمت به الجزئية السابقة من هذا المقال، وهو: كيف لنا أن
نفسر تأجج العداء بين أنصار الدين وأنصار الفلسفة، في المجتمعات المغتربة،
رغم أن البائن أنه قد حيل بين الانسان وبين معرفة الحقيقة على وجه اليقين
بحجاب صلد ليس يمزقه سوى الموت، وأن أقصى ما يطمح إليه الإنسان إزاء معرفة
الحقيقة هو الوثوق بما يفضي إليه به عقله وقلبه في نُشدانها؟! الآخر هو إذن
من يحرص على هذا التأجيج المستمر لنيران العداء، بين أنصار الدين وأنصار
الفلسفة، فبدون هذا العداء يتهدد رسوخ الثقافة الدينية التى يلقنها أتباع
الآخر من محترفى التبرير الدينى للذات المغتربة، ومن ثم تتهدد مصالح الآخر
وتنكشف ممارساته غير المشروعة، والأخطر من ذلك هو أن توقف الذات عن معاداة
الفلسفة ينال بالضرورة من قدرة الآخر على تكريس اغترابها الثقافي، إذ كيف
سيتسنى له المضى قدما فى الترويج لثقافة دينيه، ينتجها لتخدم مصالحه
وممارساته على حساب مصلحة الذات، في ظل استبدال الذات العقل الفلسفي بعقلها
اللاهوتى/الفقهي، واستعادتها لحقها في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
الآخر إذن في كل بقعة مغتربة
هو من يُبدى حرصاً محموما على تلقين الذات ثقافة دينية، ليس للذات نقدها أو
تطويرها. وعادة ما يتم التلقين بطبيعة الحال عبر تجار الآلام المتشحين
بعباءة الدين. فلا يكاد يوجد آخر، إلا وقد أحكم قبضته على حظ طيب ممن
يعتبرهم مواطنوه رموزاً دينية. ونظرا لما يحيط به الآخر هؤلاء التجار ـ
أقصد محترفي التبرير الديني ـ من أسباب الإجلال والتكريم، بزعم صلاحهم
وتقواهم، يبيت عسيرا، إن لم يكن مستحيلا، النيل من مصداقيتهم في عيون
مواطنيهم، لدرجة تجعل أية محاولة للتشكيك في تلك المصداقية من جانب
الأنسنيين جريمة مخزية، يدفعون ثمنها غاليا. فغالبا ما يغري الآخر
المغتربين ـ وهو الأمر المدهش ـ بهؤلاء النبلاء فيذيقونهم الهوان أصنافا،
أو يتكفل هو بهم، وساعتها يجنى الآخر الثناء الجزيل من مواطنيه المغتربين!
وغالبا لا يكتفي الآخر بتجار
الآلام، فيعمد لإحكام سيطرته على المؤسسات الدينية، في محاولة لإخضاعها أو
على الأقل تحييدها. وقد تكون مؤسسة الأزهر الشريف نموذجاً للمؤسسة الدينية،
التي لطالما سعى الآخر إلى إحكام قبضته عليها، رغم مكانتها الرفيعة في عيون
الشعوب الإسلامية. ولا يعنيني في هذا الصدد ما إذا كانت مساعي الآخر قد
نجحت أم لا، فهذا أمر يخرج عن نطاق اهتمام هذا المقال، إنما يعنيني رصد قبس
من تلك المساعي، والتى قد يكون أبرزها سن القانون الشهير رقم 103 لسنة
1961، وهو قانون تُفضي مواده، التى نُورد بعضها على سبيل المثال، لقارئه
بمحاولات الآخر المصري في ستينيات القرن المنصرم إحكام قبضته على الأزهر
الشريف(11):
مادة 2 ـ الأزهر هو الهيئة
العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته
وتجليته ونشره، وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، وتعمل على
إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشر ورقي الحضارة وكفالة الأمن
والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا وفى الآخرة. كما تهتم ببعث
الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري للأمة العربية..ومقره القاهرة،
ويتبع رياسة الجمهورية.
مادة 3 ـ يعين بقرار من رئيس
الجمهورية وزير لشئون الأزهر.
مادة 5 ـ يختار شيخ الأزهر من
بين هيئة مجمع البحوث الإسلامية (إحدى هيئات الأزهر) أو ممن تتوافر فيهم
الصفات المشروطة في أعضاء هذه الهيئة، ويعين بقرار من رئيس الجمهورية، فإن
لم يكن قبل هذا التعيين عضواً في تلك الهيئة صار بمقتضى هذا التعيين عضواً
فيها.
مادة 7 ـ يكون للأزهر وكيل
يختار من بين هيئة مجمع البحوث الإسلامية أو ممن تتوافر فيهم الصفات
المشروطة لأعضاء هذه الهيئة. ويعين بقرار من رئيس الجمهورية، فإن لم يكن
قبل هذا التعيين عضواً في هيئة المجمع صار بمقتضى هذا التعيين عضواً فيها.
ويعاون الوكيل شيخ الأزهر ويقوم مقامه حين غيابه.
مادة 12 ـ يكون للمجلس الأعلى
للأزهر (إحدى هيئات الأزهر) أمين عام، يصدر بتعيينه قرار من رئيس
الجمهورية.
مادة 18 ـ يعين بقرار من رئيس
الجمهورية أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في أول تشكيل له، بناء على عرض
الوزير المختص باقتراح من شيخ الأزهر. ويكون شيخ الأزهر رئيسا لهذا المجمع.
ويجوز لرئيس الجمهورية خلال سنة من تاريخ العمل بهذا القانون أن يصدر
قرارات بتعيين أعضاء بالمجمع بناء على اقتراح شيخ الأزهر وذلك حتى يتم
تعيين جميع أعضائه وفقاً لنص المادة 16 من هذا القانون.
مادة 23 ـ يكون للمجمع أمانة
عامة دائمة، يرأسها أمين عام ويشغل هذا المنصب مدير الثقافة والبعوث
الإسلامية بشرط أن تتحقق فيه شروط العضوية المنصوص عليها في المادة 17 من
هذا القانون ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية، بناء على عرض الوزير
المختص وموافقة شيخ الأزهر ويكون الأمين العام للمجمع ـ بمقتضى قرار
التعيين ـ عضواً في المجمع ما دام شاغلاً لهذه الوظيفة.
مادة 27 ـ يجوز منح لقب عضو
فخري لأعضاء المجمع السابقين، أو لمن يؤدي للإسلام خدمات علمية ذات أثر،
ويصدر بمنح هذا اللقب قرار من رئيس الجمهورية بناء على عرض من الوزير
المختص باقتراح من مؤتمر المجمع.
مادة 41 ـ يكون تعيين رئيس
الجامعة ( جامعة الأزهر وهى إحدى هيئات الأزهر ) بقرار من رئيس الجمهورية،
بناء على ترشيح الوزير المختص واقتراح شيخ الأزهر، ويشترط فيه أن يكون قد
شغل أحد كراسي الأستاذية بجامعة الأزهر أو بإحدى الجامعات في الجمهورية
العربية المتحدة. وتسري عليه جميع الأحكام التي تطبق على رئيس الجامعة في
الجمهورية العربية المتحدة.
مادة 44 ـ ...ويكون تعيينه
(رئيس جامعة الأزهر) لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد، ويعتبر خلال مدة
تعيينه شاغلا وظيفة أستاذ على سبيل التذكار، فإذا لم تجدد مدته أو ترك
منصبه قبل نهاية المدة عاد إلى شغل وظيفة أستاذ التي كان يشغلها من قبل إذا
كانت شاغرة، فإذا لم تكن شاغرة شغلها بصفة شخصية إلى أن تخلو.
مادة 45 ـ يكون للجامعة أمين
عام يعين بقرار من رئيس الجمهورية، بناء على عرض الوزير المختص بعد استطلاع
رأي رئيس الجامعة.
مادة 51 ـ يعين الوزير المختص
عميد الكلية (في جامعة الأزهر) من بين أساتذة الكلية، بناء على ترشيح رئيس
الجامعة وموافقة شيخ الأزهر، ويكون العميد مسئولاً عن تنفيذ القوانين
واللوائح الجامعية، وكذلك عن تنفيذ قرارات مجلس الكلية ومجلس الجامعة في
حدود هذه القوانين واللوائح، ويقدم إلى رئيس الجامعة في كل سنة جامعية
تقريراً عن شئون التعليم والبحوث العلمية وسائر نواحي النشاط بالكلية.
......الخ
تداعيات إنتاج الآخر للثقافة
الدينية:
ها أنا فى الجزئية السابقة قد
ضربت مثلا على انتاج الآخر للثقافة الدينية بمساعى الآخر المصري الرامية
إلى إحكام قبضته، ليس فقط على حظ طيب ممن يعتبرهم مواطنوه رموزا دينية،
وإنما أيضا على مؤسسة الأزهر الشريف، رغم مكانتها الرفيعة في عيون الشعوب
الإسلامية، وذلك في ستينيات القرن الماضى. وها أنا أُؤكد أنه لم يكن لمثل
هذه المساعى المحمومة الرامية لانتاج ثقافة دينية بعينها، تُلقى فى روع
الذات المغتربة، على أنها يقينات مسلمة، ومعلبة، ومغلقة على النقاش، ومشفرة
على نحو غير نقدي ـ أقول انني أُؤكد أنه لم يكن لمثل هذه المساعي المحمومة
أن تخلو من تداعيات سلبية تترتب عليها. فكون الثقافة الدينية التي ينتجها
الآخر ترمى لحماية مصالحه هو وأعوانه، وكونها تُنتج بأيدي محترفي التبرير
الديني، الذين عادة ما يخضعون للآخر ويدينون له بالولاء، كل هذه الأمور،
وخاصة عندما تقترن بتحريم النقد والتطوير، لابد وأن يكون لها العديد من
التداعيات السلبية، وفيما يلى نعمد لرصد أخطر هذه التداعيات وأهمها:
1ـ تكريس الاغتراب الثقافي:
يقترن انتاج الآخر للثقافة
الدينية، وحرمانه الذات حقها في التصدي لها بالنقد والتطوير، بتكريس اغتراب
الذات ثقافيا، أي تكريس تنازلها عن حقها فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة.
وعليه، لا تجد الذات أمامها سوى الايغال فى اغترابها، تساعدها على ذلك
آليات تكريس الاغتراب الثقافى، سواء كانت بوليسية أو تعليمية أو اعلامية
أودينية. فنجد الذات المغتربة وقد صبغها الاغتراب الثقافي بصبغة خاصة، حتى
أنها تكفى ناظرها عبء التفكر في هويتها، فهى قلما تنبهت إلى أفضلية ستر
عورة اغترابها، فنراها تُفاخر باغترابها أينما حلت، معتقدة أنه تاج يزين
جبينها والحق أنه تاج شوك يدمي صاحبه. وقد يتساءل القارئ الكريم عن كيفية
تمييز المغترب عن غيره، والجواب أن الاغتراب كداء يحل بصاحبه، غالبا ما
تصاحبه أعراض بعينها، لا تُخطئها العين، رصدت بعضها فى كتابي "الاغتراب
الثقافى للذات العربية".
وتتمة للفائدة أُورد فيما
يلى، عرضا موجزا ومكثفا لأهم هذه الأعراض الاغترابية كما وردت فى الكتاب
المذكور(12)، فالواضح أن بالامكان رصد مثل هذه الأعراض في كل المجتمعات
المغتربة، عربية كانت أم غير عربية. لأن هذه المجتمعات المغتربة ثقافيا
غالبا ما تتشابه فيها أعراض الاغتراب، وإن بدا الأمر لغير المدقق خلاف ذلك،
وأظن أن هذا الرأى هو ما يمكن أن تُثبته القراءة المتأنية لأوضاع هذه
المجتمعات:
[1] إدمان لعبة إلقاء التبعة
بالكامل على الآخر غير المحلي.
[2] اغتيال المبدعين و معاداة
الإبداع.
[3] غياب العقلانية و الشغف
بالشكلية البسيطة.
[4] العجز عن التعاطي مع
الآخر العالمي.
[5] افتقاد الرؤية النقدية أو
الجبن العقلي.
[6] اعتياد التناقض والرؤية
التجزيئية للأمور.
2ـ هدر الثروة العقلية:
مادام انتاج الآخر للثقافة
الدينية يقترن ـ كما أوضحت ـ بتكريس اغتراب الذات ثقافيا، فلابد أنه يقترن
أيضا بهدر ثروتها العقلية. لأنه عادة ما يكون الاغتراب الثقافي مصحوبا بهدر
الثروة العقلية للمغترب، وتلك مقولة اهتديت إليها فى مقال سابق لى بعنوان
"هدر العقل العربي"، انتهيت فيه إلى القول بوجود علاقة وثيقة بين الاغتراب
الثقافي للذات العربية وهدر الثروة العقلية لتلك الذات، وانتهيت فيه أيضا
إلى القول بأن جذور هذه العلاقة إنما تكمن فى تعريف مصطلحي الاغتراب
الثقافي والهدر العقلي. فتعريف مصطلح "الاغتراب الثقافي" بأنه تنازل
الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء
لمجتمعه! وتعريف مصطلح "الهدر العقلي" بأنه إعتقاد الإنسان، سواء امتلك
عقلا فلسفيا أو عقلا لاهوتيا/فقهيا، أنه قد استطاع بناء ثقافة أو أنه قد
بُنيت له ثقافة ستعيش مدى الدهر، دون أن تخضع للنقد و التطوير(13). أقول إن
تعريف المصطلحين على النحو المذكور يشي بأن الهدر العقلي يُعد أحد العناصر
المكونة للاغتراب الثقافي، غير أن الهدر يمكن أن يوجد بدون اغتراب!
3ـ رفض الأديان ومعاداتها:
لعل من اخطر التداعيات
السلبية لانتاج الآخر للثقافة الدينية، هى نفور البعض من الأديان، فى
مجملها، باعتبارها ـ من وجهة نظرهم ـ قد سقطت فى براثن الآخر ولا سبيل
لاسترجاعها! ومن ثم فالأفضل رفضها ـ أقصد الأديان ـ، لكونها توفر حماية
لمصالح الآخر، وتكرس اغتراب الذات ثقافيا، إضافة إلى ما تسفر عنه من هدر
للثروات العقلية للمغتربين. والأمثلة المعضدة لقولى هذا عديدة، لعل أبرزها
على الصعيد المحلى كتابات الشاعر المصري الراحل نجيب سرور، فللرجل وكلنا
يعلم شرفه ونبله كتابات تقطر ألما على ما فعله الآخر بالأديان، وسعيه
المحموم للافادة منها وتوظيفها، ولو كان ذلك على حساب آلام الذات وأوجاعها.
ومن ذلك قول نجيب في ديوانه الشهير "لزوم ما يلزم"(14):
كل العقائد ـ كلها ـ قامت
تندد باللصوص
ثم انتهت ـ عجبا ـ إلى أيدى
اللصوص
أوزير، كونفشيوس، بوذا،
زارادشت،
موسى، وعيسى..كم تطول
القائمة!
ستموت آلاف العقائد،
لتجيء آلاف العقائد،
وتظل أرض الناس ملأى باللصوص!
وإذا كان نجيب سرور بحكم
أنسنيته(15)، ولاعتبارات أخرى لا مجال لسردها، لم يرفض الأديان ولم يناصبها
العداء، فإن هناك من فعل ذلك صراحة وعلى الملأ. فكارل ماركس مثلا ـ وهو
مؤسس النظرية الشيوعية مع رفيقه فردريك إنجلز ـ هاجم الأديان بحدة فى
كتابات كثيرة، وهو سلوك أُرجعه إلى اعتقاد ماركس في صعوبة ـ بل استحالة ـ
استعادة الأديان من بين براثن الآخر وتجار الآلام الموالين له. أقول هذا
وأنا أعلم اختلاف مفهوم الآخر في الشيوعية عنه فى الأنسنية. فالآخر فى
الشيوعية هو من يُؤثر نفسه بالثروة، أما فى الأنسنية فالآخر هو من يُؤثر
نفسه بالأنسنية وثمارها. ولنقرأ سويا حديث كارل ماركس الشهير عن الأديان،
لنلمس مدى رفضه إياها وإدراكه لما تصوره تأثيرا سلبيا لها، وهى قناعة أظنه
وصل إليها بعد رصد دؤوب لقدرة الآخر المخيفة على إنتاج وتوظيف الثقافة
الدينية، واتخاذه لها ستارا يحمى به مصالحه وأنانيته فى مواجهة الذات
المغتربة. يقول ماركس(16): "الدين هو تنهدات المقهورين، وهو القلب في عالم
تعوزه الرحمة، والروح في عالم تعوزه الروح، انه بحق أفيون الشعوب".
حماية الذات عبر التأكيد على
جوهر الأديان:
قد يعن للقاريء الكريم بعد كل
ما ذكرته أن يتساءل ـ وهذا حقه ـ: لماذا التثمين الأنسني لجوهر الأديان؟
والاجابة هى أن الأنسنية تثمن جوهر الأديان، وهو معرفة الإله، حماية للذات،
وقد أوردت فى الجزئية السابقة بعض أهم التداعيات السلبية لانتاج الآخر
للثقافة الدينية، وكلها خطيرة، تنال من الذات بشدة، وذلك لانطوائها على
تكريس مهين لاغتراب الذات ثقافيا، وهدر مؤلم لثروتها العقلية، علاوة على
كونها تدفع بالبعض إلى رفض الأديان ومعاداتها، اعتقادا منهم فى صعوبة ـ بل
استحالة ـ استرداد الدين من بين براثن الآخر!
وبانارة المناطق المظلمة فى
ثقافتنا الدينية، وأقصد بها جوهر الأديان، بمصابيح الأنسنية، يصبح ممكنا ـ
إلى حد يُعتد به ـ تمكين الذات المغتربة، المغلوبة على أمرها، فى شتى أنحاء
العالم، وبصفة خاصة فى عالمنا العربي، أن تخلع عنها نير الاغتراب الثقافي
الذى يُثقل الآخر كاهلها به، فنراها وقد رفضت انتاج هذا الآخر لثقافتها
الدينية، عبر تعهدها هذه الثقافة بالنقد والتطوير الدائمين، مستفيدة فى ذلك
بالثروة العقلية التى وُهبت إياها. وكاتب هذه السطور واثق ـ كل الثقة ـ أنه
فى ظل مناخ كهذا سيصبح ممكنا الحديث عن الرفقة الانسانية الصحيحة بين طلاب
الحقيقة من كل حدب وصوب، مهما اختلفت الطرق التى يسلكونها فى نشدانهم لما
اتفقنا سلفا على أنه لا سبيل لبلوغه، وهو معرفة الحقيقة على وجه اليقين..
الهوامش:
(1) راجع
كتاباتنا السابقة فى مجال الفكر الأنسني: دراسة للكاتب بعنوان "بناء الذات
الأنسنية"، وأخرى بعنوان "هدر العقل العربي"، إضافة إلى دراسة ثالثة بعنوان
"المرأة فى الفكر الأنسني"، تجدها جميعا على شبكة الانترنت. وراجع للكاتب
أيضا: الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(2) نقلا عن:
محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، الحقيقة ـ نصوص
مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم
4، 1993)، ص ص 9 ـ 11.
(3) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(4) نفس
المرجع، ص 39.
(5) نفس
المرجع، ص ص 78ـ79.
(6) نفس
المرجع، ص ص 73ـ76.
(7) نفس
المرجع، ص ص9ـ11. محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)،
العقل والعقلانية ـ نصوص مختارة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة
دفاتر فلسفية، العدد رقم 9، 2007)، ص 74.
(8) صامويل
هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي،
(القاهرة: سطور، 1998)، ص 70.
(9) نفس
المرجع، نفس الصفحة.
(10) مراد
وهبة، المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979)، ص199.
(11) أنظر نص
القانون ومذكرته الإيضاحية: الإدارة العامة للشئون القانونية بالهيئة،
القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها
ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 وفقا
لآخر التعديلات، ( القاهرة: وزارة الصناعة والثروة المعدنية، الهيئة العامة
لشئون المطابع الأميرية، 1999)، ص ص 1 ـ 48.
(12)
لمزيد من المعلومات عن الاغتراب الثقافي راجع للكاتب: الاغتراب الثقافي
للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث، عام 2006).
(13) مقال
للكاتب بعنوان "هدر العقل العربي"، منشور على شبكة الانترنت.
(14) نجيب
سرور، الأعمال الكاملة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد
الثالث، 1996)، ص 228.
(15) راجع
للكاتب: دون كيخوته المصري (دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر الشاعر المصري
الراحل نجيب سرور)، تحت الطبع.
(16)
karl Marx,
"Contribution to the Critique of Hegel's Philosophy of Right :
Introduction" , in Robert C. Tucker (ed), The Marx – Engels Reader,
(New York: W.W.Norton & Company . INC., 1972), PP.11-12.
إدوارد سعيد
ـ أنسنية بلا ضفاف
"مهيارُ وجهٌ خانهُ عاشقوهْ"
أدونيس
لم أر إدوارد سعيد فى حياتى
سوى مرة واحدة، كان ذلك قبل رحيله بشهور قليلة، فى محاضرة رائعة، ألقاها فى
قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مارس عام 2003، وكانت بعنوان:
"فلسطين وعمومية حقوق الإنسان". بدا الرجل ساعتها ـ كما تخيلته دائما ـ
عملاقا، رغم وطأة المرض ودنو النهاية! أذكر أن الحاضرين استقبلوه بحفاوة
بالغة، تليق بمكانته الرفيعة، حتى أنهم ظلوا يصفقون له زمنا طويلا، وكانوا
من مشارب شتى! وأذكر كذلك أنه بعد فراغ إدوارد سعيد من إلقاء محاضرته، أقبل
عليه الكثيرون لمصافحته، وكنت أحدهم بطبيعة الحال، غير أنى لم أكد أقترب من
المنصة التى كان إدوارد سعيد يجلس إليها، حتى خانتنى شجاعتى وتهيبت
مصافحته، احتراما واجلالا للرجل، وهو ما سأظل أذكره بألم، وأندم عليه ما
بقى لى من سنوات، طالت أم قصرت، فى ذمة الحياة!
إدوارد سعيد لم يكن مفكرا فذا
فحسب، ولكنه كان أيضا نموذجا فريدا، حتى أن الناظر إليه لم تكن عيناه
لتخطيء أنسنيا فذا، أودع ذاكرة الحياة أروع ما يملك، وهو بصيرة ثاقبة،
وقدرة عبقرية على النقد والإبداع! وأراني في هذا المقال قاصرا جهدى، على
رصد وتحليل الاسهام الادورى المهيب فى مجال الفكر الأنسني، بكل ما ينطوى
عليه من روعة وثراء، علاوة على سعيي لبيان مدى تأثير هذا الاسهام على رؤيتى
للفكر الأنسني، على تواضعها، مقارنة بالاسهام الادورى! أفعل ذلك رغم قناعتي
المحزنة والمحبطة بوقوف المناخ الثقافي المهيمن حاليا فى عالمنا العربي
حائلا دون تحقيق أُمنيتي، وأظنها كانت أمنية ادوارد قبلي، أن يجد هذا الفكر
له ملاذا آمنا فى ربوعنا، فعلى الساحة تتصارع تيارات ثقافية بالية، لا
تُسمن ولا تُغني من جوع، يبرع أنصارها وهم كثر، بشكل لافت، فى الترويج
لأفكارهم، المعلبة والمشفرة والمغلقة على النقاش، بدعوى صلاحيتها لكل زمان
ومكان، هازئين بذلك من سنة كونية تقضي بديمومة التغير والتطور!
بيد أنه قد يكون ملائما، قبل
أن أمضي قُدما فيما أنا عازم عليه، تذكير قارئي الكريم بأن أحدا من الناس
لا يعيش فى فراغ اجتماعى، فاذا أردنا أن نُعيده إلى الحياة فلابد لنا من
وصف بيئته. إذ أنه ليس من الحكمة أن نتكلم عن العظماء دون أن نحاول تفسير
شخصيتهم وعبقريتهم، وهما شيئان يمتنعان على الفهم بغير الرجوع إلى البيئة
التى نشأوا فيها. وهذا هو عين ما أنوى فعله فى السطور التالية، فكما كانت
حياة ادوارد سعيد فريدة وثرية، كذلك كانت بيئته التى نشأ وعاش فى كنفها!
لذا، فتناولنا لهذه البيئة يساعدنا بلا شك على تتبع ارهاصات النزوع
الأنسنى، الذى صاحب إدوارد سعيد، طوال حياته، وملك عليه عقله وقلبه، حتى
أنه لم يدخر جهدا فى التبشير به والدعوة إليه، على نحو لافت ومُلهم!
وقد يكون ملائما أيضا،
التنبيه إلى الخصوصية الادورية فى الاحساس بالألم، بمعنى أنه ليس للقاريء
الكريم أن يتوقع وجود تماثل، أو حتى تقارب، بين القلق الادورى ـ على سبيل
المثال ـ وأنماط القلق الشائعة فى مجتمعاتنا المتخلفة، على خطورتها
وأهميتها، والتى غالبا ما يقف العوز المادى وراءها! فكما سنرى، كان ادوارد
سعيد ابنا لأسرة فلسطينية موسرة، حتى أنه تلقى تعليما غربيا راقيا، أهله
بدرجة يُعتد بها لاستيعاب ونقد الثقافة الانسانية على نحو، آراه مذهلا
وعبقريا! غير أنه ـ أقصد ادوارد بالطبع ـ ظل حتى رحيله، معتقدا فى مسئولية
ذلك النمط من التعليم عن قطع وشائج الصلة بينه وبين ثقافته العربية، على
خلاف الكثيرين ممن قد يرون فيه فرصة ذهبية، لا مجال لتعهدها باللوم! وهو ما
يعضد قولنا بالخصوصية الادورية فى الاحساس بالألم، على تشابهها النسبي، مع
خصوصيات غيره من أصحاب العبقريات، فى كل زمان ومكان..
ولسوف أستند فى تناولي للبيئة
التى نشأ إدوارد سعيد وعاش فى ربوعها إلى مذكراته الشهيرة "خارج المكان"،
والتى أقدم ادوارد على كتابتها بعد تلقيه تشخيصا طبيا يُفيد اصابته بسرطان
الدم (اللوكيميا). فقد شعر الرجل بأهمية أن يخلف سيرة ذاتية عن حياته فى
العالم العربي، حيث وُلد وأمضى سنواته التكوينية، كما فى الولايات المتحدة
حيث ارتاد المدرسة والكلية والجامعة!
ولعل فى وصف الناشر العربي،
وهو دار الآداب البيروتية، للمذكرات بأنها نص غنائي وجميل الصنعة، يبلغ
أحيانا درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو، فى الآن ذاته، حميم ومرح. يكشف
فيه ادوارد دقائق ماضيه الشخصى، ويستعرض لقراءه معالم البيئة التى كونت
شخصيته ومكنته من أن ينتصر، ليصبح بحق واحدا من أهم وأبرز أنسنيي العصر
الحديث ـ أقول لعل فى هذا الوصف الموجز والبليغ لـ "خارج المكان"، تعضيدا
لقناعتي بأهميتها فى الكشف عن إرهاصات النزوع الأنسني لدى ادوارد سعيد،
خاصة وأن ادوارد نفسه، فى مقدمته لتلك الطبعة العربية الأنيقة من المذكرات،
يُورد ما يعزز هذه القناعة، وهو قوله(1): "..آمل أن لا أبدو متبجحا إن قلت
إن الجديد فى (إدوارد سعيد) المركب الذى يظهر فى خلال هذه الصفحات، هو عربي
أدت ثقافته الغربية، ويالسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك
الثقافة، إذ تُلقى ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح
الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات"!
قارئي الكريم، لندلف الآن
سويا إلى "خارج المكان"، ولسوف نجد إدوارد، وقد أبهرنا كعادته، عبر مُضيه
قُدما فى قراءة عميقة ومبهره لجوانيته، بدا فيها كمن يحادث نفسه، لا كمن
يكتب إلى جمهور واسع وعريض من القراء، فى شتى أنحاء العالم، فها هو يعقد
ألستنا بالدهشة، إذ يقول(2): "إن الأرق عندى حالة مباركة أرغب إليها بأى
ثمن تقريبا. فليس عندى ما هو أكثر تنشيطا، من أن أطرد عنى فورا ظلال الوسن
لليلة خسرتها، غير إعادة تعرفى فى الصباح الباكر، على ما كدت أخسره كليا
قبل بضع ساعات أو استعادتى إياه. بين الحين والآخر، أرى نفسي كتلة من
التيارات المتدفقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهى
الهوية التى يُعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة. تتدفق تلك التيارات، مثلها
مثل موضوعات حياتى، خلال ساعات اليقظة. وهى، عندما تكون فى أفضل حالاتها،
لا تستدعى التصالح ولا التناغم. إنها من قبيل النشاز، وقد تكون فى غير
مكانها، ولكنها على الأقل فى حراك دائم فى الزمان وفى المكان وبما هى أنواع
مختلفة من المركبات الغريبة، لا تتحرك بالضرورة إلى أمام، وإنما قد يتحرك
أحيانا واحدها ضد الآخر، على نحو طباقي ولكن من غير ما محور مركزى. إنه ضرب
من ضروب الحرية، على ما يحلو لى أن أعتقد، على الرغم من أنى بعيد كل البعد
عن أن أكون مقتنعا كليا بذلك. ونزعة التشكيك هذه هى أحد الثوابت التى أتشبث
بها بنوع خاص. والواقع أنى تعلمت، وحياتى مليئة إلى هذا الحد بتنافر
الأصوات، أن أؤثر ألا أكون سويا تماما وأن أظل فى غير مكانى"!
إدوارد يعطينا إذن مفتاح
شخصيته، ويُعرى لنا فى جرأة وشفافية ارهاصات نزوعه الأنسني! أليس يحدثنا فى
الاقتباس السابق عن القلق الذى لطالما رافقه فى رحلة الحياة، والذى ساعدت
على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج دائم، ظروف البيئة التى نشأ فيها؟! ثم،
أليس يحدثنا فى الاقتباس نفسه عن رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة،
تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى التصالح ولا التناغم؟! وهو حديث يشى
فى مجمله بالولع الادورى بالحراك الدائم والتشكيك المستمر! وأخيرا، أليس
يكشف لنا إدوارد عن إيثاره ألا يكون سويا تماما وأن يظل فى غير مكانه؟!
وكلها أمور تُهيىء صاحبها لولوج عالم الفكر الأنسني، على نحو ما سنرى
لاحقا. إذن، ما الذى بقى لي وأنا بصدد الحديث عن بيئة إدوارد التى نشأ
فيها، وساهمت فى صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري؟ أغلب الظن أنه لم
يبق أمامي سوى السعى لرصد وتحليل الحوادث التى تفسر القلق الادورى،
واللاتناغم الادورى، إضافة إلى الولع الادورى بالحراك والتشكيك الدائمين!
ولتكن البداية حديث إدوارد فى
مذكراته عن طفولته، وتساؤله القلق عن مدى مسئولية البيئة التى نشأ فيها عن
بقاءه فى غير مكانه طيلة حياته، فهما يساهمان، ولو جزئيا، فى إفهامنا دواعى
ومسببات القلق الادورى والولع بالحراك الدائم والتشكيك المستمر. وكيف لا؟!
وادوارد يحدثنا فى مذكراته عن طفولة حبيسة لقيود منزلية صارمة، حالت بينه
وبين الاحساس بالذات فيما يتجاوز هذه القيود، وأجبرته أن يخطو خطواته
الأولى على طريق خلق الذات، مُقتديا فى ذلك بوالديه، لأنهما كانا أيضا نتاج
عملية خلق للذات! ومُجسدا فى الوقت نفسه قول ماركيز: "لا يُولد البشر مرة
واحدة وإلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا
أنفسهم بأنفسهم"! وإدوارد يحدثنا أيضا عن تأثير الارساليات والمؤسسات
التعليمية الكولونيالية، التى أُجبر على التعاطى معها، خاصة خلال رحلته
التعليمية، والتى ساهمت فى تعزيز اتجاهه نحو خلق الذات بالذات!
يقول إدوارد فى "خارج المكان"
عن طفولته(3): "كنت دوما فى غير مكانى. لم يترك لى نظام الضبط والتربية
المنزلية الجامد الصارم، الذى حبسنى فيه أبي منذ سن التاسعة، أى متنفس أو
أى مجال للاحساس بالذات فى ما يتجاوز قواعده وترسيماته. هكذا أصبحت
(إدوارد) مخلوق والدى، تراقبه فى عذاباته اليومية ذات داخلية مختلفة كليا
عنه، لكنها على درجة من فتور الهمة، بحيث تعجز، فى معظم الأحيان، عن
مساعدته. وكان (إدوارد) أساسا، هو الابن ثم الشقيق وأخيرا الصبى الذى يرتاد
المدرسة ويفشل فى محاولاته التقيد بالأصول (أو يتجاهلها ويتحايل عليها).
وقد كانت عملية خلقه واجبة الوجوب لأن والديه كانا هما أيضا نتاج عملية خلق
للذات بالذات. فلسطينيين ينتميان إلى بيئتين مختلفتين ومزاجين متغايرين
جذريا، يعيشان فى القاهرة الكولونيالية. ابنى أقلية مسيحية تعيش هى نفسها
ضمن حومة من الأقليات، ليس لأى منهما سند سوى الآخر. وهما يفتقدان، فوق ذلك
كله، إلى أية أعراف يهتديان بها فى سلوكهما، باستثناء مزيج غريب: من عادات
فلسطينية من فترة ما قبل الحرب، وحكم أميريكية مجمعة على نحو انتقائي من
الكتب والمجلات ومن السنوات العشر التى أمضاها أبي فى الولايات المتحدة
(التى لم تزرها أمى إلا العام 1948)، ومن تأثير الارساليات والتعليم
المدرسي المتقطع ومن ثم الهامشي، ومن مواقف بريطانية كولونيالية تمثل
الأسياد وسواد البشرية التى يحكمها هؤلاء الأسياد فى آن معا، وأخيرا، من
نمط حياة عاينه والداى حولهما فى القاهرة وحاولا تكييفه مع ظروفهما الخاصة.
فهل يمكن لـ (إدوارد)، والحال هذه، أن يكون إلا فى غير مكانه؟"!
ولندع إدوارد يروى لنا تجربته
مع واحدة من أهم وأبرز المؤسسات التعليمية الكولونيالية التى أُجبر على
الدراسة فيها، خلال رحلته التعليمية، وهى كلية فيكتوريا بمصر، ولسوف يرى
القاريء الكريم أن حديث ادوارد عن تجربته تلك من شأنه تعزيز قناعتنا بكونها
ـ إلى جانب التجارب الأخرى المشابهة لها ـ ساهمت بصورة أو بأخرى فى تعزيز
قلق إدوارد ولا تناغمه واتجاهه نحو خلق الذات بالذات، فقد أدرك إدوارد فى
كلية فيكتوريا أنه يواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة ـ قصد بها إدوارد
بريطانيا العظمى ـ، بل وقابلة لأن تؤذيه، ووجد نفسه مُجبرا على تعلم لغتها
واستيعاب ثقافتها لكونها هى الثقافة السائدة آنذاك.
يقول إدوارد فى مذكراته(4):
"اتسمت حياتنا فى فكتوريا كولدج بتشوه كبير لم أدركه حينها. كانت النظرة
السائدة إلى التلامذة أنهم أعضاء، تمموا دفع اشتراكاتهم، فى نخبة
كولونيالية مزعومة يجرى تعليمها فنونا إمبريالية بريطانية قضت نحبها، مع
أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة إنكلترا وآدابها، وعن النظام
الملكي والبرلمان، عن الهند وأفريقيا، وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع
استخدامها فى مصر أو فى أى مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة
العربية يُعدان بمثابة جنحة يُعاقب عليها القانون فى فكتوريا كولدج، فلا
عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية
بلادنا. وكانوا يمتحنوننا بصفتنا تلامذة إنكليزا، نجر أذيالنا متخلفين سعيا
إلى تحقيق هدف مُبهم، يستحيل تحقيقه أصلا، من صف إلى صف آخر ومن سنة دراسية
إلى سنة دراسية تالية، يواكبنا أهلنا طوال ذلك المسار منشغلى البال علينا.
ثم إنى أدركت فى قلبي أن فكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التى تشدنى إلى
حياتى السابقة، وأن ادعاء أهلى أنى مواطن أميركى قد تهافت، فقد بتنا ندرك
جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة، بل وقابلة لأن
تؤذينا، ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هى الثقافة
السائدة فى مصر".
ويظل تأكيد إدوارد فى مواضع
أخرى عديدة من مذكراته على مسألة نفوره من الكولونيالية وممثليها، وكذا
تأكيده على حرصه على خلق ذاته بذاته، تعضيدا لقناعتنا ـ المُعبر عنها سلفا
ـ بالدور المهم الذى لعبته بيئة المنشأ فى تغذية القلق الادورى وكذا تحفيز
التوجه الادورى لخلق الذات بالذات. فها هو إدوارد يرفض معاملة المصريين له
ولذويه فى أربعينيات القرن الماضي، كأجانب أو كخواجات، رغم احساسه بهويته
العربية، إضافة إلى رفضه أن يُختزل إلى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية
الكولونيالية. يقول إدوارد عن ذلك(5): "..مع حلول الأربعينيات ـ يقصد
أربعينيات القرن الماضي ـ، لم نعد مجرد (شوام) بل صرنا (خواجات)، وهو اللقب
التبجيلي الدال على الأجانب الذى يحمل دائما لسعة عداء عندما يستخدمه
المسلمون المصريون. وعلى الرغم من أنى كنت أتكلم باللهجة المصرية ولى مظهر
المصري الأصلي، فقد كان ثمة ما يشي بي. وكنت أستنكر التلميح إلى أنى أجنبي
نوعا ما، مع أنى أدرك فى العمق أنهم يعتبرونني أجنبيا، على الرغم من أنى
عربي...كان هذا اللقب ـ يقصد لقب الخواجة ـ يقرحنى تقريحا، فقد رفضت هذا
التعيير من جهة بسبب نمو إحساسي بهويتى الفلسطينية.. ومن جهة ثانية بسبب
وعيي الناشيء لنفسي بوصفى، على العموم، كائنا أكثر تعقيدا وأصالة من أن
أُختزل إلى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية"!
ولعل فيما أورده إدوارد فى
مذكراته بشأن تقييمه لمسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام
1951، ما يعفيني من المضي قُدما فى الاستشهاد بالمزيد من الأحداث التى تعج
بها مذكرات إدوارد، والتى تفسر فى مجملها القلق الذى لطالما رافق إدوارد
منذ كان صغيرا، ذلك القلق الذى ساعدت على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج
دائم، ظروف البيئة التى نشأ فيها إدوارد والتى عرضنا سلفا لقبس منها. أقول
لعل فيما أورده إدوارد ما يعفيني من المضي قدما فى سرد المزيد من الأحداث
التى تؤكد ـ إضافة إلى ما سبق ـ رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة،
تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى التصالح ولا التناغم! علاوة على
تفسيرها لايمان إدوارد بخلق الذات، وولعه بالحراك الدائم والتشكيك المستمر،
وإيثاره ألا يكون سويا تماما، وأن يظل فى غير مكانه! فقد تحدث الرجل على
نحو لا لبس فيه ولا غموض عن رحيله إلى الولايات المتحدة بوصفه مغامرة، إذ
أنه لم يملك ساعتها إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه حياته لو أنه
لم يقدم على تلك المغامرة، وهو الحديث الذى يشي بكون مغامرة الحلم الأمريكى
وتداعياتها إنما جاءت تتويجا لمسببات القلق الادورى المتجذر!
وعليه، أستأذن قارئي الكريم
فى أن أختم حديثى عن تلك البيئة الاستثنائية التى نشأ فيها ادوارد سعيد
والتى شاركت فى صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري، بهذا التقييم
الادورى المشار إليه توا. يقول إدوارد سعيد، فى مذكراته "خارج المكان"، عن
مسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية(6): "..ما أزال أندهش إلى الآن
من مجرد خطورة المغامرة التى انطوى عليها قدومى إلى الولايات المتحدة
الأمريكية عام 1951. لست أملك إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه
حياتى لو أنى لم أجيء إلى أميركا. ولكن الذى أعرفه أنى بدأت فيها بداية
جديدة، متناسيا، إلى حد ما، ما تعلمته من قبل، لأعيد تعلم الأشياء ابتداء
من الصفر، مبتكرا، مخترعا ذاتى، أحاول وأفشل، أختبر وألغى ما اختبرته،
لأعاود البدء من جديد، سالكا سبلا مباغتة هى، فى الغالب، أعسر السبل
قاطبة". ويمضى إدوارد قدما فى تقييمه للمسألة نفسها(7): "ولا أزال، إلى هذا
اليوم، أشعر بأنى بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكا. ومع أنى لست متوهما
أنى كنت سأعيش حياة (أفضل) لو بقيت فى العالم العربي، أو عشت ودرست فى
أوروبا، فلا يزال يلازمنى بعض الندم. وهذه المذكرات هى، فى وجه من وجوهها،
استعادة لتجربة المغادرة والفراق، إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما
كنت قد عشت فى نيويورك باحساس موقت، على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين
عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة الفوائد"!
أسس دراسة الأنسنية ـ منظور
إدوري:
ليس سهلا على المرء بالطبع أن
يتصدى لسبر غور الرؤية الادورية لأسس دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات
المتحدة. لأنه إذا كان إدوارد سعيد لا يُبارى فى المضمار الأنسني، كما يعرف
القاصي والداني، فكيف لرؤيته المُشار إليها فى عنوان هذه الجزئية أن تُقارب
على نحو مُرضي، وصاحبها أحد أهم وأبرز رموز الحركة الأنسنية الأمريكية، بل
والعالمية أيضا، فى العقود الأخيرة، وربما لعقود أخرى قادمة، أظنها عديدة!
من هنا أرانى فى تناولي لهذه الجزئية الشائكة قانعا من الغنيمة بالاياب،
كما يقولون! فليتك قارئى الكريم تقبل ذلك منى..
إلتحق الطالب إدوارد سعيد
بجامعة برنستون فى الولايات المتحدة فى خمسينيات القرن الماضي، ودرس فيها
الانسانيات، على أيدى أساتذة يتمتعون بالكفاءة العظمى. وأسست قراءاته فى
تاريخ الموسيقى والأدب والفلسفة لكل ما حققه فيما بعد باحثا ومدرسا. إذ
أتاحت له الشمولية الرزينة لبرنامج الدروس فى برنستون فرصة التحرى الذهنى
فى حقول كاملة من المعرفة، وبحد أدنى من الحرج! وفقط عندما اتصلت تلك
المعارف بنقد سزاثمارى المحفز أو بالتمكين الرؤيوى الذى منحه إياه أستاذ من
طراز بلاكميور، وجد إدوارد نفسه يُنقب أعمق فأعمق من مستوى الإنجاز
الأكاديمي الرسمي. وبدأ، بطريقة ما، فى بلورة منحاه الفكرى المتماسك
والمستقل. وخلال الأسابيع الأولى من سنته الثانية أدرك ضرورة أن يفعل
المزيد لتنمية انبهاره المبكر بالتعقد والفجائية ـ وخصوصا بالتعقدات
والالتباسات المتعددة التى تنطوى عليها عمليتا الكتابة والخطابة ـ، وهو
انبهار لازمه طوال حياته! والمفارقة فى الأمر أن الذى حفز إدوارد إلى ذلك
هم الأساتذة الأكثر تقليدية من حيث المقاربة والمزاج، بمن فيهم كواندرو فى
اللغة الفرنسية، وأُوتس فى الكلاسيكيات، وطومسون ولاندا وبنتلى وجونسون فى
اللغة الانجليزية. وفى الموسيقى، أجبر إدوارد نفسه على اقتحام عقبة درس
الهارمونى والطباق، ثم انتقل لمتابعة السيمينارات التاريخية والوضعية
الغنية عن بيتهوفن وفاغنر خصوصا، حيث صار إليوت فوربز وإدكُون مثالين
يُقتدى بهما(8).
ونظرا لارتباط الانسانيات،
وهى مجال دراسة إدوارد، وأحد المواد التى قام بتدريسها ابتداء منذ عام 1963
وحتى رحيله، فى جامعة كولومبيا التى تقدم، منذ ما يقرب من قرن وبدون
انقطاع، مجموعة من المواد الأساسية قبل التخرجية، شهيرة بل أسطورية فى
تمثيلها التربية العقلية. مُفاعلها الشغال، الذى تأسس عام 1973، هو سلسلة
مواد تُدرس على مدار سنة كاملة عنوانها الانسانيات، تُعرف الطلاب بأمهات
الأعمال الأدبية والفلسفية فى الثقافات الغربية، صارت مؤخرا تُعرف باسم
الانسانيات "الغربية" تمييزا لها عن مواد موازية معروضة تحت تسمية
الإنسانيات "الشرقية" أو "المشرقية" أو "غير الغربية"(9) ـ أقول إنه نظرا
لارتباط الانسانيات، بالسيرة الأكاديمية لادوارد إلى هذا الحد، أجدنى
مُلزما بالبحث عن معنى محدد لها، على نحو يُجنبنى وقارئي الكريم غموضها
النسبي!
بالكشف فى معجم
New International Dictionary
نجد أن لفظ humanity
ـ ويُستخدم عادة فى صيغة الجمع ـ، يعنى "فروع المعرفة الرفيعة، وبخاصة
الدراسات الكلاسيكية القديمة، والأدب المحض العلمانى، باعتباره متميزا عن
المعرفة اللاهوتية". وعند التحول إلى معجم
Dictionary of Education and Instruction
نجد أن الانسانيات تتكون من فروع دراسية معينة ذات "اتجاه نحو تهذيب
الانسان"، فى مقابل العلوم الطبيعية "التى تعمل على النمو بالمواهب العقلية
بصفة خاصة". ونجد فى المعجم نفسه أن الانسانيات كانت داخلة فى نطاق ما يسمى
"بالتربية التحررية"، وأن هذه كانت "تتكيف لظروف ومطالب الإنسان الحر
والانسان المهذب (الجنتلمان)"، وكان يقابلها "التربية العلمية". ويقول جون
نيومان، وهو مرجع ثقة فى هذا الموضوع، إن "التربية التحررية" وفق هذا
المنهج هى "ثقافة عقلية تُدرب فيها العقلية لا بقصد صياغتها فى ضوء هدف
محدد أو عارض، أو من أجل حرفة أو مهنة محددة، أو من أجل دراسة أو علم، بل
من أجلها هى بذاتها". صفوة القول ان الانسانيات تعنى حسبما يرغب الدارس.
إما الدراسة العلمانية فى مقابل الدراسة اللاهوتية، وإما الدراسة
الاجتماعية والخلقية فى مقابل الدراسة الذهنية، وإما الدراسة الذهنية فى
مقابل الدراسة العملية(10).
قلنا إن إدوارد سعيد قام
بالتدريس فى جامعة كولومبيا من عام 1963 وحتى رحيله، وهو ما وفر له مكانا
متميزا أشرف من خلاله على الحركة الأنسنية الأمريكية، وأسلافها الأوروبيين،
وذلك فى القرن الماضي، وفى بدايات القرن الذى يُظلنا الآن، نظرا للصلة
الوثيقة التى تربط الأنسنية بالتربية وبالبرامج الجامعية خصوصا. تلك الصلة
التى تتبدى جلية واضحة بين مادتى الأدب والانسانيات اللتين درسهما ادوارد
سعيد، وبين الحركة الأنسنية. فالأنسنية ومادة الأدب بما هما انكباب على
دراسة الكتابة الجيدة والقيمة، مترابطان ـ فى رأى ادوارد ـ أيما ترابط، تشد
وثاقهما صلة قوية. كما أن مادة الانسانيات، على تنوع معانيها، تُعد مضمارا
للمفكرين الأنسنيين. فطبقا لادوارد، تتعلق مادة الانسانيات بالتاريخ
العلمانى، وبمنتجات العمل البشري، وبالقدرة البشرية على التعبير
الكلامى(11). فى حين يتمثل صميم الأنسنية فى الفكرة العلمانية القائلة إن
العالم التاريخى هو من صنع بشر من رجال ونساء، لا من صنع ربانى، وإنه يمكن
اكتناهه عقليا، وذلك وفق المبدأ الذى صاغه جان باتيستا فيكو فى مؤلفه
الرائع "العلم الجديد"، إذ قال فيه إننا كبشر فى التاريخ نُدرك فقط ما قد
أنتجناه. أوبعبارة أخرى، إننا نستطيع أن نعرف الأشياء وفقا للطريقة التى
بها صُنعت(12).
وفى كتابه الأخير "الأنسنية
والنقد الديمقراطي"(13)، ركز ادوارد اهتمامه على دراسة الحركة الأنسنية
والممارسة النقدية، استنادا إلى قناعته بأن الأنسنية مذهب نقدى يوجه سهامه
إلى الأوضاع السائدة داخل الجامعة وخارجها، مذهب يستمد قواه وقيمه من طابعه
الديمقراطي العلمانى المنفتح، وهو الموقف الذى لا تتبناه بالتأكيد الأنسنية
العيابة والمتزمتة التى ترى إلى ذاتها على أنها تكوين نخبوي! وكذا قصر
ادوارد اهتمامه فى الكتاب نفسه على دراسة الحركة الأنسنية فى الولايات
المتحدة الأمريكية، استنادا إلى قناعته بأن قسما كبيرا من محاجته ينطبق على
سائر البلدان! فادوارد عاش فى الولايات المتحدة خلال القسط الأوفر من حياته
البالغة كما أسلفنا، وكان خلال تلك العقود الأربعة، مدرسا وناقدا وباحثا
ملتزما بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذى عرفه إدوارد أكثر من سواه!
من هنا تأتى أهمية محاجة
ادوارد الرئيسية المشار إليها توا، والمتمثلة فى قوله بأنه خلال السنوات
الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وضعه لدراسته، لم تعرف
الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة مجرد أزمة متواصلة لا شك فيها، وإنما
عرفت تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها.
فبحسب ادوارد، طرأت تغييرات فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني
والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة وسائر العالم. وكان
لادوارد ـ إن هو أراد ـ أن يُغفل تلك التحولات، بكل بساطة، وأن يستمر كما
فى السابق، على طريقة النعامة، خاصة وأنه الرجل الذى لطالما كتب بحماس عن
قضايا خاسرة، وارتبط فطريا بها خلال معظم سنى حياته. بيد أنه لما كان
ادوارد سعيد قد أقنع نفسه، بالاقلاع عن لعب دور النعامة، فقد رأيناه تواقا
لاقناع غيره بأن الهرب من الواقع والانكفاء العاطفي إلى حنين ماضوى، أقل
علمية وأقل إثارة بكثير من التعامل مع المسألة على نحو عقلانى ممنهج،
إيمانا منه بأن هذا هو ما تقضي به قواعد الأنسنية، على نحو لا مجال للطعن
فيه.
يقول إدوارد فى دراسته إن
الحرب الباردة كانت جزءا من نمط شامل بدت فيه التهديدات للحركة الأنسنية فى
الولايات المتحدة منبثة فى طبيعة الفكر ذاته عن حالة البشرية عموما. ويقول
أيضا إن السطر الأخير لقصيدة كافافى "فى انتظار البرابرة" يوحى، فى سخريته
الأنيقة، بفائدة وجود الآخر المعادى فى مثل تلك الظروف، إذ يقول كافافي:
"كان هؤلاء البشر نوعا من حل"! من هنا ـ والكلام لادوارد ـ لم يكن مفاجئا
أن يربض شبح الحرب الباردة على صدر الممارسة الأنسنية لجيلين على الأقل،
ناهيك عن الرطانة اللامتناهية عن الحرية ضد الكليانية، وحديث كويبلر الساخر
عن أن القيم التى يؤمن بها الكليانيون واضحة كليا، فيما القيم التى يحملها
المؤمنون بالديمقراطية غامضة كل الغموض!
ولا يكتفى إدوارد بتأكيد
الرواج الذى لاقته فكرة المفكر أو الباحث الأنسني غير الملتزم، المختص بحقل
ثقافى بعينه، فى النصف الثانى من القرن العشرين. بل نراه يذهب إلى حد القول
إنه، كباحث أكاديمي ومدرس للأدب الغربي، نشأ فى حضن فكرة الاختصاص هذه، وهى
ـ فى رأيه ـ فكرة أيديولوجية فى العمق ومترسملة ومؤسساتية إلى أعلى
الدرجات. علاوة على أنها، فى أقل تقدير، رسخت فهما سياسيا وجامدا إلى أبعد
حد للتاريخ الأدبي. فطبقا لادوارد، كانت ثمة حقبات تاريخية متعاقبة ومؤلفون
رئيسيون ومفاهيم رائدة قابلة للبحث والتحليل المقارن، غير أن أيديولوجيا
حقل الاختصاص ذاته لم تكن قابلة للفحص الجذرى أبدا. وهو الأمر الذى رآه
ادوارد سعيد ناجما عن موقف غير قسرى، وإن يكن ظفراويا، تجاه الواقع
الأمريكى الذى يُفترض أنه الأفضل بين الأمم!
وكان صدور سفر نورثروب فراي
بعنوان "تشريح النقد" عام 1957، هو الذروة وفى الآن ذاته التعبير التجاوزى
والنزق إلى حد غريب لتلك الآلة المعقدة بل محمومة الحركة. إذ كان الهدف من
وراءه ليس أقل من السعي إلى توليفة بلايكية ـ يونغية(*) للنظام الأنسني وقد
انتظم فى عالم مصغر، يكمن فى قلبه ـ قلب اختراع فراى ـ ما يسميه بلايك
"الألوهة البشرية"، وهو انسان كونى يمارس مهمته تجسيدا لمعيار مركزى أوروبي
مسيحى ـ يهودي. بيد أن الملفت هو ما كان للتصاميم والتقاليد والتداوم فى
التقاليد الأدبية التى اقترحها آرنولد وفراى وإليوت واتباعهم المختلفون،
على ما بينهم من اختلافات، من سمات عديدة مشتركة، فكلها تقريبا ذكورية
وصادرة عن مركزية أوروبية، تحركها الأنواع الأدبية أو "النماذج الأصلية"،
كما كان فراى يسميها. وهو ما استوقف ادوارد سعيد، ودعاه للتساؤل عما إذا
كان ما أنتجه فراى، بما هو التوليفة الأخيرة لنظرة كونية داخل النزعة
الأنسنية الأمريكية، يُعد بحق نظرة كونية ليبرالية، يعززها الازدهار والقوة
العاتيان، أم أنه مجرد زينة لتجميل واقع قذر..!
فمن منظار الشروط الجامدة
لنظام فراي، لم يكن للرواية ولا للمسرح مثلا صلة فعلية بالظروف التاريخية
والسياسية والاقتصادية المخصوصة (ناهيك بالظروف الايديولوجية) المؤدية إلى
نشوئهما. والأكيد أن فكرة وجود نوع أدبي يسمى كتابة "نسوية" أو "أقلوية" لم
يدخل قط نظام فراي، ولا هو دخل عالم الفاعلية أو العمل الانسنيين الذى مثل
فراي مترتباته النضالية الهادئة. ثم إن القومية، مثلا، لم تلعب أى دور فى
السرديات التى يناقشها فراي. ولم تحظ سطوة مؤسسات مثل النظام الملكي
والشركات الكولونيالية ووكالات استيطان الأراضى بأى اهتمام من جانب فراي
على الاطلاق، لا فى قراءته لأعمال شكسبير أو جاين أوستن أو بن جونسون.
ويبدو التغييب أشد وطأة عندما يتناول أمهات الأعمال عن ايرلندا من سبنسر
إلى و. ب. ييتس وأوسكار وايلد وجيمس جويس وبرنارد شو، علما أنه يقع فى صميم
هموم هؤلاء جميعا مسائل رسم حدود الأرض وتملكها بالذات.
هكذا، وبكل بساطة، أسقط فراى
ومعاصروه، و"النقاد الجدد" من قبلهم، الصراع حول الملكية، سواء أكانت ملكية
الأراضي أو الحدود الأمريكية أو الأقاليم الكولونيالية، على الرغم من حضور
ذاك الصراع فى انتاج بلايك نفسه، الذى تأثر به نظام فراي، ناهيك عن ديكنز
وجاين أوستن وفينيمور كوبر وهرمان ملفل ومارك توين وجميع المؤلفين الذين
ارتقت أعمالهم إلى مصاف الأعمال الكلاسيكية. حتى أن مفردة "العرق" لا ترد
أصلا عند فراي. أما العبودية ـ التى كان لها علاقة ما بالحفاظ على ملكوت
السموات على الأرض ـ فلم تحظ بأى اهتمام عند فراى ومثلها الأدب الذى أنتجه
الأرقاء والفقراء والأقليات! وهو ما يعزز تساؤل ادوارد عما إذا كان ما
أنتجه فراى مجرد زينة لتجميل واقع قذر!
وفى اطار سعيه للبرهنة على أن
تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها، قد طرأت
فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية لزمن طويل
فى الولايات المتحدة، تناول ادوارد سعيد بالنقد عنصرين رآهما يلعبان دورا
مهما ولافتا فى النظرة الكونية الأنسنية التى أوجزنا للتو وصف ادوارد لها،
وإن لم يحظيا بما يستحقان من الاعتراف: العنصر الأول، هو الفكرة القائلة إن
الأدب يوجد ضمن إطار وطنى افتراضى. والعنصر الثانى، هو الافتراض أن
الأشياوات الأدبية والأشعار الغنائية والمسرحيات المأساوية أو الروايات
تنوجد فى شكل ثابت أو على الأقل فى شكل يمكن التعرف إليه بانتظام. وكما هو
متوقع، أثبت إدوارد أن البلبلة أصابت الافتراضين معا!
فطبقا للرجل، يكتنف مقدار
كبير من الشك والنقصان الفكرة القائلة إن قصيدة غنائية لوردزورث هى نتاج
الأدب الانجليزى فى القرن الثامن عشر أو هى نتاج عبقرى فرد، أو إنها تحتل
موقع العمل الفنى المختلف والمتمايز عن أعمال أخرى، مثل المناشير السجالية
والرسائل والنقاشات البرلمانية والبيانات الدينية أو القانونية أو سواها.
تلك الشكوك وما يضارعها من أبحاث عن الجماعات وصلات النسب بين الكتاب
والتشكيلات الاجتماعية والطبقات والبنى التحتية، وكذلك الصلات بين المعرفة
والسلطة، قد بددت الأطر القومية والجمالية والحدود والتخوم تبديدا كليا
تقريبا! فلم تعد ـ والكلام لايزال لادوارد ـ كلمات مثل "المؤلف" و"العمل"
و"الأمة"، بالتالي، مقولات موثوقة كما كانت من قبل. على أن هذا لا يعنى قط
إنكار وجود المؤلفين والمؤلفات، وإلا كان هذا جنونا، وإنما يعنى تعقيد
واختلاف أنماط تمظهرهم إلى درجة التشكيك فى أى اطمئنان يساورنا عندما نجزم
أن وردزورث كتب هذه القصيدة "أ" أو "ب"، وهذا كل ما فى الأمر. فلا وردزورث
ولا القصيدة "أ" أو القصيدة "ب"، بما هما مجموعة أفكار، تقع بمنأى عن
التمحيص التشكيكي لحدودها وفاعليتها التفسيرية والعمق المعرفي.
ولم يفت إدوارد، كعادته، أن
يُدهشنا بقوله إن هذه الأفكار المُعرضة للتحدى لم تختف، ولو أنها أحيانا
تُثير الكثير من الشكوك والوساوس، وهو ما يجعلها غير صالحة للاستعمال! يقول
إدوارد هذا، رغم اقتناعه، مثلا، بأنه يُعد جنونا الادعاء بأن الكتاب
والموسيقيين والرسامين ينتجون أعمالهم كأنما على صفحة بيضاء! فالعالم موسوم
أصلا، عميق الوسم، ليس فقط بعمل الكتاب والفنانين السابقين، وإنما أيضا بكم
ضخم من المعلومات والخطابات، تتحشد فى الوعى الفردى اليوم، مع المدى
السيبرنيطيقى والأرشيف الضخم من المواد التى تدهم المشاعر من كل حدب وصوب،
بحيث لا يعود بمقدورنا ـ برأى ادوارد ـ القول بثقة كاملة أين ينتهى الحيز
الفردى أو الخاص وأين يبدأ الحيز العام، ذلك أن حركة سير جديدة صاخبة تجرى
بين الحيزين، يتداخل الواحد منهما فى الآخر ويعدل فى تكوينه!
وفى الاطار نفسه، تحدث ادوارد
عن تزامن نهاية الحرب الباردة، التى يقول بأنها جُندت واستُخدمت خلالها
الرؤية المركزية الأوروبية فى مهمات زادت من تشويه سمعتها، مع عدد من
التغيرات المهمة الأخرى التى عكستها الحروب الثقافية خلال الثمانينيات
والتسعينيات: من قبيل النضالات ضد الحرب فى فيتنام، وكذا النضالات ضد
التمييز العنصري داخليا، وانبثاق وتضافر مجموعة مبهرة من الأصوات الشقاقية
ـ تؤسس على اعادة اكتشاف أصوات شقاقية أقدم عهدا ـ، سُمع عنها وشوهدت عبر
أرجاء العالم أجمع، وذلك فى قطاعات تاريخية وأنثروبولوجية وأقلوية وغيرها
من القطاعات المهمشة والمُعارضة فى الفروع الرئيسية للانسانيات والعلوم
الاجتماعية. إضافة إلى حديث إدوارد المهم عما لاحظه من حدوث تغير عظيم فى
صفوف طلابه فى جامعة كولومبيا، إذ أنهم تغيروا من غالبية من الذكور البيض،
درسهم أول الأمر عام 1963، إلى الرجال والنساء المتعددى الاثنية واللغة
الذين درسهم لاحقا. وهى أمور رأى ادوارد أنها أسهمت فى التغير الزلزالي
البطيء فى المنظور الأنسني فى مطلع هذا القرن.
ولم يكتف ادوارد بذلك،
فرأيناه يزخم وجهة نظره بحديث آخر عن نجاح الدراسات الأفريقية الأمريكية،
بما هى حقل أنسني جديد ـ وإن يكن قد تأجل اعتماده طويلا إلى حد التحول إلى
فضيحة، أو قُمع تمظهره بما هو حقل أنسني مُمثل فى العالم الأكاديمى ـ، فى
تحقيق أمرين اثنين: أولا، وضعها موضع تساؤل الشمولية الشعارية، بل
المنافقة، للفكر الأنسني الكلاسيكي ذى المركزية الأوروبية؛ وثانيا، تأسيسها
أهميتها وراهنيتها الخاصتين بما هى مكون أساسي من مكونات الأنسنية
الأمريكية فى الوقت الراهن. فبحسب ادوارد، أبان هذان التحولان بدورهما كيف
استغنت الفكرة الأنسنية الأمريكية لمدة طويلة جدا عن التجارب التاريخية
للأمريكيين الإفريقيين وللنساء والجماعات المحرومة والمهمشة، وهو ما فضح
اتكاءها على فكرة عملية عن الهوية الوطنية منقحة ومختصرة جدا، طبقا لأكثر
التعبيرات تأدبا، ومحصورة تأكيدا فى مجموعة صغيرة، كان يُظن أنها ممثلة
للمجتمع الأمريكى بأسره، مع أن الفكرة تتغافل فعلا عن قطاعات واسعة منه،
قطاعات لو اندمجت لكان اندماجها أكثر أمانة للتدفق المستمر وأحيانا للعنف
المزعج اللذين هما أبرز سمات واقع الهجرة والتعدد الثقافي فى امريكا.
وفى ختام تحليله الرائع
والممتع للتحولات الأساسية، الصامتة حينا، والمحرومة أحيانا ممن يقدرها حق
قدرها، التى طرأت فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة
الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة، يقرر ادوارد سعيد إن من يلقى نظرة
استرجاعية على معظم تاريخ الحركة الأنسنية الأمريكية فى القرن العشرين
مُضطر للقول إنها ابتُليت بلون من المركزية الأوروبية لا يمكن أن يبقى من
غير مساءلة. فاقتصار الدروس الجامعية على عدد قليل من الروائع الغربية
المترجمة والمبجلة الزاما، وتضييق الدائرة عما يتكون منه عالم الغربيين،
وتجاهل تراثات ـ اسلامية وهندية وصينية وأفريقية..إلخ ـ ولغات تبدو خارجة
عن تصنيف ما هو محترم أو مكرس، كل هذه الأمور يرى ادوارد وجوب التخلص منها
أو على الأقل اخضاعها لنقد أنسني جذري. فمعرفة الكثير عن تراثات أخرى، وهو
ما يراه ادوارد حاصلا، يجب أن يحول بين الأمريكيين وبين الظن بأن الأنسنية
يُمكن أن تكون ممارسة غربية حصرا! وبعبارة أخرى، يحتاج الفكر الأنسني ومادة
الانسانيات فى الولايات المتحدة ـ فى رأى إدوارد ـ إلى اعادة تأمل واعادة
تزخيم. لأنهما ما إن يتحولا إلى تراث ـ كما المومياءات ـ حتى يفقدا الهوية
الفعلية ويصيرا مجرد أدوات تبجيل وقمع!
أنسنية إدوارد في إطار
الممارسة :
يقول المفكر الأنسني إقبال
أحمد، في تقديمه المتميز لكتاب "القلم والسيف"، الذي يضم مجموعة حوارات
مهمة وممتعة، أجراها الإعلامي البارز دافيد بارساميان مع إدوارد سعيد(14):
"ادوارد سعيد واحد من الأشخاص النادرين الذين عرفت حياتهم تطابقا مدهشا بين
المثاليات والواقع، والتقاء بين المبدأ المجرد والسلوك الفردي. ومنذ أن نشر
كتابه ذائع الصيت "الاستشراق" في عام 1978، فان كلمة (جريئة) قد استُخدمت
غالبا لوصف كتاباته الثرية. في الحياة الفعلية، فان جرأته ملموسة، وهي مصدر
الهام وراحة للأسرة والأصدقاء. وقد تذكرت حادثة جرت قبل بضع سنوات. كان
ثلاثة من الأصدقاء يتناولون طعام الغداء في بيروت مع فايز أحمد فايز،
الشاعر الباكستاني الذي فر من استبداد محمد ضياء الحق ـ رئيس باكستان
حينذاك ـ المدعوم أمريكيا ليتخذ له ملجأ لا كالملاجئ في لبنان الذي كانت
تمزقه الحرب الأهلية. كان إدوارد سعيد منسجما تماما بينما راح فايز يلقي
قصيدة (أغنية المهد لطفل فلسطيني). عندها بالضبط اندلعت معركة حامية
بالأسلحة النارية في مكان قريب. هرب الندل مسرعين إلى الداخل، ولم يبق
سوانا نحن الزبائن في الباحة. توقفت غريزيا عن ترجمة قصيدة فايز من الأوردو
إلى الإنكليزية، ونظرت بتساؤل إلى صديقنا الثالث الذي يعرف بيروت ومقاتليها
جيدا. حثني إدوارد قائلا: "هيا تابع" وكأنه لم يحدث شيء غير عادي ،
وتابعنا.."!
ولمن يسأل: من هو إقبال أحمد
الذي أسوق إلى قارئي الكريم كلماته في حق إدوارد سعيد؟ أُجيب: إقبال أحمد
هو أستاذ العلوم السياسية، المولود في الهند عام 1933، والمُتوفى في
باكستان عام 1999. وهو المحارب الذي وجد في ذاته انجذابا فطريا نحو الحركات
الممثلة للمقهورين والمضطهدين، أينما كانوا، سواء في أمريكا أو البوسنة أو
الشيشان أو جنوب لبنان أو فيتنام أو العراق أو شبه القارة الهندية! إذ كانت
له دراية واسعة بالتاريخ، وكان يُطالب دوما بالنأي بالدين والقومية عن
النهب والعنف، باعتبارهما مدخلا ملكيا للأصولية والشوفينية والإقليمية!
إقبال هو من حزن إدوارد لموته ورثاه بقوله(15): "إن الأنسنية والعلمانية لم
يملكا صديقا أفضل من عالم السياسة وداعية السلام إقبال احمد"! فهلا
شاركتني، قارئي الكريم، الاعتداد بكلمات إقبال أحمد في حق رفيق دربه؟!
شريطة ألا يحول ذلك الاعتداد ـ بطبيعة الحال ـ دون احتفاظي وإياك، بهامش من
الشك، يسمح لنا باختبار مدى صدق تلك الكلمات، على نحو ما سأفعل لاحقا!
ولسوف أُوجز، لنفسي ولك، أيها
القارئ الكريم، بعض أهم وأبرز القناعات الادورية المرتبطة بممارسات ادوارد
سعيد الأنسنية، والتي لا بد وأن أكون قد عرضت لها أو لغيرها، ولو على نحو
متناثر وغير مباشر، في الجزئية السابقة، في إطار عرضي لدراسة إدوارد
الثمينة للحركة الأنسنية والممارسة النقدية في الولايات المتحدة الأمريكية،
لما لذلك من أهمية في تمكيني وإياك من اختبار ذلك التناغم الجبار، الذي
تحدث عنه المفكر الأنسني إقبال أحمد، بين قناعات ادوارد سعيد وبين ممارساته
الأنسنية. غير أنى أتوقع أن تتفهم، أيها القارىء الكريم، أن الاقتباسات
الادورية التالية(16)، بما تنطوى عليه من قناعات ادورية، أعجز بحق، وأظن
غيري يعجز أيضا، عن وصف مدى روعتها وجلالها، قابلة، وبشكل عبقرى ومُلهم،
لأن تنسحب، على قضايا عامة، مهمة وخطيرة، تتجاوز بكثير ما يحدث داخل أروقة
الجامعة والدوائر الأكاديمية، ذلك العالم الذي عرفه إدوارد سعيد، مدرسا
وناقدا وباحثا قانعا بالفكر الأنسني، أكثر من سواه:
[1] "إنني أتعامل مع النقد
بجدية شديدة، تصل إلى درجة الإيمان بأنه، حتى في خضم معركة يقف فيها
الفرد..بجانب أحد أطرافها، يجب أن يكون هناك نقد ذاتي. فلابد من وجود وعي
نقدي، كي تكون هناك قضايا ومشاكل وقيم وحتى حيوات نناضل من أجلها..فينبغي
على النقد أن ينظر لنفسه بوصفه عنصرا يُثري الحياة، وفى حالة تضاد بناءة مع
كل أشكال الطغيان والسيطرة والاستغلال؛ فأهداف النقد الاجتماعية هي المعرفة
اللاقسرية وغرضها الحرية الإنسانية"!
[2] "..الفكر النقدي لا يخضع
للإيعاز بالالتحاق بالصفوف للمشاركة في حرب على هذا العدو الرسمي أو ذاك.
فبعيدا عن تصادم الحضارات المُصنع مسبقا، يفترض بنا الانكباب على عمل دءوب
مشترك على الحضارات المتشابكة والآخذة بعضها من بعض والمتعايشة بشكل أعمق
مما توحي به أنماط الفهم الاختزالية المزيفة. غير أن طريقة الفهم الأرحب
هذه تتطلب وقتا وأبحاثا صبورة ومزيدا من النقد، وتتغذى من الإيمان بمجتمع
فكرى يصعب الحفاظ عليه في عالم قائم على استعجال الفعل وردة الفعل.
فالأنسنية تغتذى من المبادرة الفردية ومن الحدث الشخصي وليس من الأفكار
المسقطة ومن احترام السيادة. فيجب قراءة النصوص على أنها نتاجات لها في
التاريخ حيز معين تعيش فيه بشكل مجسد".
[3] "..انظر إلى كامل تاريخ
النزعة الأنسنية والمذهب النقدي ـ وهما مترابطان حكما ـ في أكبر عدد من
الثقافات والحقبات الزمنية تستطيع إحصاءه، تجد أن ما من إنجاز إنساني عظيم
تحقق إلا وحوى مكونا هاما من مكونات الجديد أو كانت له صلة به، أو قبول بما
هو الأجد بين كل ما هو صحيح ومثير في فن تلك الحقبة أو فكرها أو
ثقافتها..هذه القاعدة العامة..تنسف جذريا الأطروحة الرجعية القائلة إن
تبجيل ما هو تراثي أو إتباعي يتعارض حكما مع التجديدات في الفن والفكر
المعاصرين. وهو بعيد كل البعد عن ملاحظة فالتر بنيامين الأقسى ـ والأصوب ـ
التي تقول إن كل وثيقة من وثائق الحضارة إنما هي أيضا وثيقة همجية. وهى
فكرة تبدو لنا أنها أساسا حقيقة إنسانية مأساوية عظيمة المغزى. لا يستحقها
الأنسنيون الجدد إطلاقا وهم الذين يرون إلى أن الثقافة المكرسة لن تكون
صحية أساسا إلا إذا كانت نقية، وخلاصية على نحو تبسيطين، فى نهاية المطاف.
ولكن ما دامت أميركا، تمثل لجميع الوافدين إليها الجديد، وعدا وأملا، يوجد،
على ما يبدو، سبب وجيه جدا لربط الأنسنية الأميركية ربطا محكما بطاقات
ونخعات ومفاجآت وتعرجات ما هو دائم الوجود وبالجديد والمختلف الذي
يصلنا..".
[4] "..لا يمكن أن توجد نزعة
أنسنية حقة ينحصر مداها في التبجيل الوطني لفضائل ثقافتنا ولغتنا ورموزنا.
فالأنسنية هي بذل كافة جهود المرء في اللغة من أجل أن يفهم منتجات اللغة في
التاريخ ويدرس لغات أخرى وتواريخ أخرى ويعيد ترجمتها ويتعاطى معها. وبحسب
فهمي لأهميتها اليوم، ليست الأنسنية طريقة في تدعيم وتأكيد ما قد عرفنا "ه"
وأحسسنا "ه" دوما، و إنما هي وسيلة تساؤل وإقلاق و إعادة صياغة للكثير
الكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات مسلعة، معلبة، مغلقة على النقاش،
ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة في روائع، يجري حشرها
جميعا في حظيرة "الكلاسيكيات". يصعب القول إن عالمنا الفكري والثقافي
كناية عن مجموعة بسيطة وبديهية من خطابات الخبراء: إنها بالأحرى تنافر
مضطرب من المدونات غير المحسومة..".
[5] "لعل الحماسة الدينية
أخطر ما يتهدد المشروع الأنسني، طالما أنها في طبيعتها كلية العداء
للعلمانية والديمقراطية، بل هي تشكل، في أشكالها السياسية الأحادية، أكثر
أشكال اللاإنسانية تزمتا وأشدها انغلاقا على النقاش إطلاقا..والأكيد أن
الحفاظ على منظور علماني متكامل هو جزء أساسي من الرسالة الأنسنية..إن
التعصب الديني هو التعصب الديني كائنا من كان الداعي إليه أو ممارسه. ولا
عذر لمن يكون شعاره (إن تعصبنا الديني خير من تعصبكم الديني)"!
[6] "..صحيح أنه في مقدور
المرء أن يكتسب الفلسفة والمعرفة، غير أن قابلية الذهن البشري لارتكاب
الخطأ (بديلا من تحسنه المطرد) مستمرة مع ذلك. لذا يوجد في المعرفة
الإنسانية دوما شيء غير مكتمل جذريا، شيء مؤقت وناقص وقابل للطعن
والمجادلة..وهو ما يصيب كل الفكرة الأنسنية بخلل تكويني مأسوي لا قبل لها
أن تتخلص منه..يجب الاعتراف بالعنصر الذاتي في المعرفة والممارسة
الأنسانويين والتصالح معه نوعا ما، طالما أن لا فائدة ترجى من محاولة تحويل
الأنسنية إلى علم حيادي وحسابي".
[7] "إني أعتقد اعتقادا جازما
أن النزعة الأنسنية مُطالبة بأن تنقب في صنوف الصمت المختلفة، وفى عوالم
الذاكرة، للجماعات المرتحلة الناجية بالكاد من الفناء، كما في أمكنة النبذ
والحجب، لتستخرج نمطا من الشهادات لا تجد طريقها إلى تقارير المراسلين، مع
أنها تتعلق أكثر فأكثر بالكيفية التي بها تنجو من الطحن والمعس والإجلاء ـ
التي هي من أبرز سمات العولمة ـ بيئة مستغلة استغلالا مضاعفا واقتصاديات
وأمم صغرى كفافية، وشعوب مهمشة أكانت تقع خارج عواصم المركز (الامبريالي)
أو داخله".
[8] "..الأنسنية لا تمت بصلة
إلى الانكفاء ولا إلى الإقصاء. بل بالعكس تماما: إن هدفها هو التمحيص
النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية على التحرر
والتنوير. وعلى القدر ذاته من الأهمية يقع التمحيص النقدي لسوء القراءة
وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. فلن يوجد قط سوء
تأويل لا يمكن مراجعته وتحسينه وقلبه رأسا على عقب. و لن يوجد قط تاريخ لا
يمكن استعادته، إلى حد ما، وفهمه بشغف بكل ما فيه من عذابات وإنجازات.
وعكسا، لن يوجد قط مظلمة سرية معيبة أو قصاص جمعي وحشي أو خطة سيطرة
إمبراطورية معلنة لن يمكن فضحها. بالتأكيد، تقع هذه كلها أيضا في صميم
التربية الأنسنية، على الرغم من الحكم بالتخلف الأبدي الذي تصدره كل
الفلسفة المحافظة الجديدة المزعومة على طبقات وأعراق بأكملها مبرهنة ـ إذا
كانت البرهنة هي الكلمة المناسبة ـ بواسطة أسوأ التأويلات الممكنة
للداروينية، إن بعض البشر يستحق الجهل والفقر والمرض والتخلف وفقا لأحكام
حرية التجارة، فيما بشر آخرون تستطاع قولبتهم بواسطة برامج المصانع الفكرية
وسياساتها لتحويلهم إلى نخب جديدة".
[9] "..إذا كنا لا ندرك أن
جوهر الأنسنية هو إدراك التاريخ البشري بما هو مسار متواصل من معرفة الذات
وتحقيق الذات، ليس بالنسبة إلينا وحدنا، الأوروبيين والأميركيين البيض
الذكور، وإنما بالنسبة لجميع الناس، فهذا يعنى أننا لم ندرك شيئا على
الإطلاق. توجد تراثات حصيفة أخرى في العالم ، توجد ثقافات أخرى، يوجد
عباقرة آخرون . تحضرني هنا عبارة رائعة لليو سبتزر، ألمع قارئ نصوص أنتجه
هذا القرن، الذي أمضى آخر سنوات حياته بما هو مفكر أنسني أميركي من أصل
أوروبي، يقول: (الأنسني هو من يؤمن بقوة العقل البشري على سبر أغوار العقل
البشري). لاحظ أن سبتزر لا يقول "العقل الأوروبي"، ولا يكتفي بالحديث عن
"القانون" الغربي. إنه يتحدث عن العقل البشري وحسب..بالتأكيد يمكن للمرء أن
يقبل، كما أنا أقبل، وجود إنجازات أعظم وانجازات أقل شأنا في الفنون، بل
وجود انجازات لا تستحق الاهتمام كليا (فما من أحد يستطيع أن يحب كل شيء، في
نهاية المطاف) ولكنني لن أسمح أن يقال إن شيئا أو إنسانا يفقد صفته
الإنسانية ويُسقط من الحساب نهائيا لمجرد أنه ليس من أهلنا أو لأنه ينتمي
إلى تراث مختلف عن تراثنا، أو أنه صادر عن منظور وتجربة مغايرين أو ناجم عن
مسارات إنتاج مختلفة عن مسارات الإنتاج عندنا، كما هو حال صول بلو في
عبارته المرعبة في تعاليها: (جدوا لي قرينا لبروست بين قبائل الزولو)".
[10] "..أول ما أفكر فيه،
باستخدامي كلمة أنسنية، هو الرغبة في تحطيم السلاسل التي كبل بها وليم
بلايك فكرنا بغية توظيفه في عملية تأمل تاريخية قياسية. كما أنه يمكن
الحفاظ على الأنسنية عبر شعور جماعاتي مشترك مع بحاثة آخرين ومجتمعات أخرى
وعصور أخرى، إذ ليس من أنسني بعيد عن العالم. وكل مجال مرتبط بسائر
المجالات كلها، وما من شيء يحدث في العالم يمكن أن يبقى معزولا وسليما من
كل التأثيرات الخارجية. فعلينا أن نتناول موضوع المظالم والمعاناة، وإنما
في إطار مندرج بشكل واسع في التاريخ والحضارة والواقع الاجتماعي الاقتصادي.
ويقوم دورنا على توسيع حقل النقاش".
[11] "..الأنسنية هي متراسنا
الوحيد، إن لم أقل الأخير، في مواجهة السياسات اللاإنسانية والمظالم التي
تمسخ تاريخ البشرية. وقد بتنا نمتلك هذا الحقل الديمقراطي المشجع جدا
والمتمثل بهذه الشبكة الافتراضية، المفتوحة للجميع، وعلى مستوى لم يكن
للأجيال السابقة ولا لأي طاغية أو أرثوذكسية أن تتصوره".
تلك كانت أهم وأبرز القناعات
الادورية المرتبطة بممارسات إدوارد سعيد الأنسنية، جمعتها وأوردتها بنصها،
لخطورتها وأهميتها، كما أسلفت، في اختبار ذلك التناغم الجبار ـ بين قناعات
ادوارد سعيد وبين ممارساته الأنسنية ـ، الذي تحدث عنه المفكر الأنسني إقبال
أحمد، في تقديمه المتميز لكتاب "القلم والسيف"، والمشار إليه سلفا. هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى، لإغراء القارئ العربي ـ على ندرته ـ بالإقبال على
قراءة الروائع الادورية، على ارتفاع ثمنها، وكذا إقناعه بالتحول عن قراءة
أعمال جوفاء، هي بحق "جعجعة بلا طحن"، رغم ما تلقاه من حفاوة، أراها لا
تستحقها! أقول هذا، وأنا أعلم من غيري، بصعوبة أن تجد الروائع الادورية في
أجواءنا الثقافية البالية من يتعهدها بالاهتمام الكافي!
على أية حال، لتكن معالجتى
لممارسات إدوارد سعيد الأنسنية، محكومة بطبيعة القضايا التي لطالما كانت
مضمارا لهذه الممارسات، فقد استرعى انتباهى أن نشاطات إدوارد وأعماله، على
تنوعها وثراءها، تتمحور حول قضايا بعينها، ملك اهتمام إدوارد بها عليه عقله
وقلبه! إذ لا يكاد يخلو حديث أو كتاب أو محاضرة أو ندوة أو حوار لادوارد
سعيد من التأكيد على موقفه الأنسني من قضايا مهمة، فى مقدمتها الاستشراق
وفلسطين واستقلالية المفكر، جمع بينها جميعا كونها قضايا شائكة ومثيرة
للجدل، إضافة إلى كونها ـ ويالسخرية الأمر ـ قضايا خاسرة، دافع عنها
إدوارد بحماس وارتبط فطريا بها خلال معظم سنى حياته! وهو الموقف الذى لم
يتحول عنه ادوارد أو يتنكر له حتى رحيله!
قضية الاستشراق:
ارتبط اهتمام ادوارد بهذه
القضية، على نحو مُلفت، بسعيه الدءوب لتكوين سبيل جديد لنفسه! وتأثر هذا
الارتباط كثيرا، باعتقاد ادوارد في قول فيكو إن البدايات لا تُكتشف، بل
تُصنع وتُخلق وتُصاغ، وأيضا اعتقاده المتجذر، والذى ساعد على بلورته لاحقا
اشرافه من مكانه المتميز فى جامعة كولومبيا على الحركة الأنسنية الأمريكية،
فى أهمية اعادة تأمل وتزخيم الفكر الأنسني فى الولايات المتحدة، خشية أن
يفقد الهوية الفعلية ويصير مجرد أداة تبجيل وقمع!
ففي مطلع الثلاثينات من
عمره، كان ادوارد قد أكمل الأشياء التقليدية، ووضع كتابه الأول، "جوزيف
كونراد ورواية السيرة الذاتية"، وبعض المقالات. غير أنه وجد نفسه مُطالبا
بأن يجد سبيلا جديدا لنفسه، وكان اختيار المنهج شكلا من أشكال البداية، لكن
المركزى فيه بالطبع كان مشكلة القص أو النص السردي! ولم يلبث الأمر أن تكثف
منذ اهتمامه بالبنيوية وميشيل فوكو، ومدى وملاءمتها. وخلال سنتي 1972ـ1973،
أنهى ادوارد كتابه "بدايات: القصد والمنهج"، فى بيروت، حيث قضى السنة
الأكاديمية متفرغا، وحيث بدأ دراسة العربية، على يد أنيس فريحة، وقرأ معه
النصوص الحديثة والكلاسيكية، إلى جانب التراث، كالغزالي وابن خلدون، فضلا
عن العديد من النصوص التاريخية والشعرية (17)!
ومع اندلاع حرب اكتوبر 1973،
رأى ادوارد أن ما يجرى على الأرض فى الشرق الأوسط، علاوة على ما اكتسبه عبر
تجربته الشخصية، لم يكن يتوافق أبدا مع ما يُكتب فى وسائل الاعلام
الأمريكية على سبيل المثال. وأخذ يتصور فكرته القائلة أن ما يراه المرء
ويقرأه فى الغرب كان جزءا من نظام تمثيل لم تتم بعد دراسة تاريخه ونطاقه
على نحو منهجى ومعمق! وكذا فكرته حول استبدال هذا النظام ـ نظام الهيمنة
واساءة التمثيل الذى يحمل اسم الاستشراق ـ، بفضاء يسمح للشعوب أن تكتب
تواريخها الخاصة بها! وفي شتاء 1974، وأثناء قيامه بتصحيح مسودات كتابه
"بدايات: القصد والمنهج"، بدأ ادوارد إبان وجوده في هارفارد، العمل على
انجاز ما سيصبح لاحقا رائعته "الاستشراق"، والتى أظنه وجد فيها، على نحو
مُبهر ومُلفت، سبيله الجديد الذى كان يبحث عنه(18)!
وبالنظر إلى الافتراض الذى
بدأ به ادوارد "الاستشراق"، دراسته الرائدة والشهيرة، نجد أنه جاء مغايرا
تماما للافتراضات التى اصطُلح على البدء بها فى الدراسات الغربية، المعنية
بالشرق، فقد بدأها ادوارد بالافتراض التالي(19): "إن الشرق ليس حقيقة خاملة
من حقائق الطبيعة. فهو ليس مجرد وجود ثمة، بالضبط كما أن الغرب نفسه ليس
مجرد وجود ثمة. وينبغى أن نأخذ بجدية ملاحظة فيكو العظيمة أن البشر يصنعون
تاريخهم، وأن ما بمقدورهم أن يعرفوه هو ما صنعوه، وأن نسحب هذه الملاحظة
لتنطبق على الجغرافية: ذلك أن مواضع وأقاليم وأقساما جغرافية كالشرق
والغرب، من حيث هى كيانات جغرافية وثقافية ـ دون أن نقول شيئا عن كونها
كيانات تاريخية ـ هى من صنع الانسان. ومن ثم، فان الشرق، بقدر الغرب نفسه
تماما، هو فكرة ذات تاريخ وتراث من الفكر، والصور، والمفردات التى أسبغت
عليه حقيقية وحضورا فى الغرب ومن أجل الغرب. وهكذا فان كلا من هذين
الكيانين الجغرافيين يدعم الآخر و، إلى حد ما، يعكسه"!
وفى تبريره لاقدامه على تبنى
مثل ذلك الافتراض الجديد والجرىء، تحدث ادوارد عن انسجامه مع استناده فى
الدراسة نفسها إلى "النقد الأنسني"، بغية توسيع مجالات النضال المتوافرة
وإحلال فكر وتحليل أكثر عمقا، على المدى الطويل، مكان التماعات الغضب
الوامضة اللامبررة التى لطالما أسرته هو وغيره(20).
وللقاريء الكريم أن يلاحظ
مدى إصرار ادوارد، فى تبريره، على أن يسمي ما قام به "أنسنية"، وهو يعلم
جيدا أنها الكلمة التى ترفضها بازدراء الدراسات النقدية المغلوطة فى عصر ما
بعد الحداثة، وهو ما يعضد قولي بولاء ادوارد سعيد لقناعاته الأنسنية،
واصراره المدهش على أن تأتي ممارساته تجسيدا لها. وكنت أوردت سلفا، تأهبا
لمثل هذا الموقف، قول إدوارد بان أول ما يفكر فيه، باستخدامه كلمة
"أنسنية"، هو الرغبة في تحطيم السلاسل التي كبل بها وليم بلايك الفكر بغية
توظيفه في عملية تأمل تاريخية قياسية. اضافة إلى قوله بامكانية الحفاظ على
الأنسنية عبر شعور جماعاتي مشترك مع بحاثة آخرين ومجتمعات أخرى وعصور أخرى،
إذ ليس من أنسني بعيد عن العالم. وكل مجال مرتبط بسائر المجالات كلها، وما
من شيء يحدث في العالم يمكن أن يبقى معزولا وسليما من كل التأثيرات
الخارجية. وكذلك قوله بوجوب تناول موضوع المظالم والمعاناة، وإنما في إطار
مندرج بشكل واسع في التاريخ والحضارة والواقع الاجتماعي الاقتصادي. على أن
يضطلع المفكرون بمهمة توسيع حقل النقاش!
وفى رده على مراجعة جايمس
كليفورد العميقة، المنشورة عام 1988 فى الدورية المرموقة "التاريخ
والنظرية"، بما هى أحد فصول كتاب كليفورد النافذ "محنة الثقافة"، والتى
تحدث صاحبها عن وجود مفارقة كبيرة فى صميم كتاب "الاستشراق"، وهى النزاع
بين انحياز ادوارد الأنسني المعلن والمؤكد، وبين نزعة العداء للأنسنية التى
ينطوى عليها موضوع الكتاب ومقاربة ادوارد لذلك الموضوع! إذ نعى كليفورد على
ادوارد "الانتكاسة إلى أنماط التأصيل ذاتها التى يهاجمها (كتاب
الاستشراق)"، وكذا تذمر من أن الكتاب "متورط على نحو ملتبس، بعادات الاجمال
التى تتبعها النزعة الأنسنية الغربية". اضافة إلى استطراد كليفورد فى مكان
تال من مراجعته المهمة قائلا: "إن وضعية ادوارد النقدية المعقدة، بما فيها
من تنافرات لا يمكن رفضها على أنها مجرد شواذ من الشواذات، وانما هى عرض من
أعراض ما يعانى منه الكتاب من محنة قلقة"، مضيفا أن "مراوحات الكتاب ـ يقصد
الاستشراق ـ هى من خصائص تجربة تزداد شمولا"(21).
أقول إن إدوارد فى رده على
مراجعة جايمس كليفورد، يقرر أن النقطة المثيرة فيها هى الطريقة التى بها
يصف كليفورد الفكر الأنسني على أنه متفارق أساسا مع النظرية المتقدمة التى
شدد عليها بنوع خاص واستلهمها، نظرية ميشال فوكو. حتى أنه اتفق مع قول
كليفورد أن تلك النظرية المتقدمة قد تخلصت، إلى حد كبير، من أنماط التأصيل
والاجمال التى تغلب على الفكرة الأنسنية. غير أن ادوارد لم يلبث أن استدرك
كعادته قائلا إن كليفورد كان على حق فى غير وجه.
فوفود النظرية الفرنسية إلى
الجامعات الأمريكية والانجليزية، خلال الستينيات والسبعينيات، أدى إلى
اسداء هزيمة قاسية، إن لم نقل ضربة قاضية، للتراث الأنسني، على يد قوى
البنيوية وما بعد البنيوية، وقد بشرت هذه وتلك بموت الانسان بما هو مؤلف،
مؤكدة غلبة الأنظمة المعادية للأنسنية كما تعبر عنها أعمال ليفي شتراوس
وفوكو ذاته ورولان بارت. وادوارد، وإن كان واحدا من أوائل النقاد الذين
تناولوا النظرية الفرنسية وناقشوها فى الجامعات الأمريكية، بيد أنه ظل غير
متأثر ـ كما لاحظ كليفورد عن حق ـ بما تحمله تلك النظريات من عداء
للايديولوجيا الأنسنية. وهو ما يُرجعه ادوارد إلى اقتناعه الراسخ، والمشار
إليه سلفا، بامكانية نقد المذهب الأنسني باسم الفكرة الأنسنية، وامتناعه عن
اختزال النزعة الانسنية إلى تيار من تيارات التأصيل والاجمال كالتى يتبينها
كليفورد. وكذا عدم اقتناعه بالحجج التى قدمتها البعد حداثية، على اثر نشوء
البنيوية الضد أنسنية، بمواقفها الرافضة لـ "كبريات سرديات التنوير
والتحرير"، بحسب تسمية جان فرانسوا ليوتار الشهيرة. اضافة إلى ما يقول عنه
إدوارد إنه مقدارا لابأس به من نشاطيتة السياسية والاجتماعية، طمأنه إلى أن
البشر فى أرجاء العالم الأربعة يمكن أن تحركهم أفكار العدالة والمساواة،
ولا تزال تحركهم فعلا (22)!
وفى اطار الحرص نفسه على
تأكيد موقفه الأنسني إزاء قضية "الاستشراق"، وضع ادوارد كتابا آخرا مهما،
بعنوان "الثقافة والامبريالية"، بسط فيه جناحيه فوق عالم أعظم مدى ورحابة
من العالم الذى غطاه مؤلفه "الاستشراق"، ليكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك
الحميمي بين الامبريالية والثقافة التى أنتجتها مجتمعاتها. وتجاوز ادوارد
هذا ليكشف أبعادا مقموعة للثورة ضد السيطرة الامبريالية فى جميع بقاع
العالم غير الأوروبي، ويوجه نقده الأنسني إلى الاستعلائية المضادة الممثلة
فى القومية الشوفينية والأصولية ونظريات الصفاء العرقي أو الثقافي! ولسوف
أختم سعيي للبرهنة على أنسنية التعاطي الادورى مع قضية الاستشراق، بفقرة
شيقة ورشيقة، تحدث فيها ادوارد عن كتابه "الثقافة والامبريالية"، وعن نفسه،
بقوله(23):
"..هذا الكتاب كتاب منفى. لقد
نشأت، لأسباب موضوعية لم يكن بوسعى السيطرة عليها، عربيا ذا تعليم غربي.
ومنذ أقصى لحظة أستطيع استذكارها، أحسست بأنني أنتمي إلى كلا العالمين، دون
أن أكون كلية جزءا عضويا من أى منهما. لكن، خلال سنوات حياتى، حدث أن تلك
الأجزاء من العالم العربي التى كنت أشد ألفة بها قد غيرتها تماما
الاضطرابات المدنية أو الحروب أو أنها، ببساطة، زالت من الوجود. ولفترات
طويلة من الزمن، كنت وما أزال خارجيا لامنتميا فى الولايات المتحدة، وبشكل
خاص حين حاربت، وعادت بعمق، ثقافات العالم العربي ومجتمعاته (التى لا أزعم
لها الكمال). بيد أنني حين أقول (منفى) فأنا لا أعني ما هو حزين أو محروم.
بل على العكس، ذلك أن انتماءك إلى كلا ضفتى الفالق الامبريالي يتيح لك أن
تفهمهما بسهولة أكبر. وعلاوة، فإن نيويورك، المدينة التى اُنجز فيها هذا
الكتاب كله، هى بطرق عديدة جدا مدينة النفى النموذجية؛ وهى تضم فى طوايا
ذاتها البنية المانوية الثنوية للمدينة الاستعمارية كما يصفها فرانتز
فانون. وقد يكون ذلك كله نشط نمط الاهتمامات والتأويلات المجازف بها هنا؛
لكن ما لا ريب فيه أن هذه الظروف أتاحت لى أن أشعر وكأنني أنتمى إلى أكثر
من تاريخ واحد ومن جماعة واحدة. أما السؤال عما اذا كانت هذه الحالة قابلة
للاعتبار بحق بديلا ناجعا للاحساس المعتاد بالانتماء إلى ثقافة واحدة
وللشعور بحس بالولاء لأمة واحدة، فإنه ينبغي أن يُترك للقارىء ـ يقصد
ادوارد قارىء كتابه "الثقافة والامبريالية" ـ ليختار إجابة عليه"!
قضية فلسطين:
قلت سلفا إنه لا يكاد يخلو
حديث أو كتاب أو محاضرة أو ندوة أو حوار لادوارد سعيد من التأكيد على موقفه
الأنسني من قضايا بعينها، جمع بينها جميعا كونها شائكة ومثيرة للجدل، إضافة
إلى كونها قضايا خاسرة، دافع عنها إدوارد بحماس وارتبط فطريا حتى رحيله!
وأرانى قانعا أن هذا القول يصدق أكثر ما يصدق على موقف ادوارد سعيد من قضية
فلسطين، فلطالما أكد الرجل أن الفكرة القائلة إن على الفلسطينيين، في رفضهم
التطبيع، مقاطعة كل الإسرائيليين من دون تمييز، تُشكل سلاحا بالغ العمومية،
يفتقر في النهاية إلى الفاعلية ويرتد عليهم بالضرر! إذ أن عليهم ـ في رأي
ادوارد ـ أن يوضحوا للإسرائيليين بما لا يقبل الشك أن كفاحهم لا يهدف إلى
طردهم من الشرق الأوسط، إذ لا يمكن إعادة الساعة إلى ما قبل 1917 أو ما قبل
1948! وكما اعتاد الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا أن يؤكد، إبان عملية
التحول السياسي فى بلاده عن نظام العزل أو الفصل العنصري اللاإنساني، على
حقوق البيض في جنوب أفريقيا، اعتاد ادوارد أيضا أن يؤكد أن على الفلسطينيين
بدورهم أن يؤكدوا للإسرائيليين أنهم يريدون لهم البقاء والمشاركة معهم في
الأرض على أساس المساواة، فمن هنا فقط يمكن مناشدتهم على أساس الحقوق
المدنية والإنسانية والسياسية لكل سكان فلسطين. وفى الوقت نفسه عارض ادوارد
بقوة سيطرة الإسرائيليين على الفلسطينيين واستمرارهم في احتلال أرضهم
وحرمانهم إياها. بيد أنه رأى أنه لو قال الفلسطينيون للعناصر الديمقراطية
في المجتمع الإسرائيلي إنهم يطمحون إلى الأهداف نفسها، أي التساوي في
الحقوق والحياة الكريمة في ظل الأمن والسلام، لأمكنهم التعاون معها. شريطة
ـ والكلام لادوارد ـ أن يقوم الفلسطينيون بذلك بناء على إدراك دقيق لطبيعة
المجتمع المدني الإسرائيلي، مثلما فعل الفيتناميون تجاه الولايات المتحدة
الأمريكية والجزائريون تجاه فرنسا(24).
كذلك قال ادوارد بوجوب تواقت
ذلك مع حديث الفلسطينيين عن أوضاعهم الداخلية وكيفية إعادة ترتيب البيت
الفلسطيني من الداخل. ذلك أنه يستحيل عليهم كشعب الاستمرار في المعاناة
الصامتة تحت طغيان النخب الفلسطينية الحاكمة وفسادها. فمن مصلحة الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة ـ فى رأيه ـ استمرار سلطة فلسطينية، تتسم بهذا القدر
من الضعف والفساد والافتقار إلى الشعبية، لبعدها التام بطبيعة الحال عن
الديمقراطية والحوار بين الأنداد. لهذا، طالب ادوارد الفلسطينيين بالعمل
الجاد على إيصال كفاحهم إلى ما أسماه "الولاية الإسرائيلية"، للمناداة هناك
بالسلام والعدالة للشعبين، في دولتيهما المتجاورتين والمستقلتين. وقال بأن
الفلسطينيين سيبقوا في تخبطهم وتحملهم آلام الاحتلال وأهواله من جهة،
والحكم الفلسطيني اللاانساني من جهة ثانية، إلى أن يقوموا بذلك، على أن
يقوموا به من دون عقدة الذنب من مخاطبة العدو، وعلى أساس التمييز الواضح
بين تجار الآلام والقوى الحقيقية الساعية للسلام في إسرائيل. فاليهود ـ
طبقا لإدوارد ـ ليسوا مستعمرين عاديين. نعم، عانوا المحرقة، ونعم انهم
ضحايا مناهضة السامية. لكن كلا، لا يمكن لهم أن يستخدموا هذه الحقائق
ليستمروا، أو يشرعوا، بتشريد شعب آخر لا يتحمل أي مسؤولية عن أي من هذه
الحقائق السابقة المؤلمة(25).
نتيجة لآراءه تلك، كانت حياة
ادوارد، فى بعض الأحيان، عُرضة للتهديد من مجموعات عنيفة، وكانت تلك
التهديدات جدية إلى حد أن الـ "اف. بي. آي" كانت تحذره بأن عليه أن يكون
منتبها. وقد كان متنبها إلى أفضل حد ممكن، ولكنه لم يصغ أبدا إلى أي مشورة
من صديق أو خبير بأن يذهب في عطلة أو يتجنب اللقاءات في الأماكن العامة أو
أن يخفف من موقفه الأنسني إزاء قضية فلسطين. وحتى حين كانت تلك التهديدات
لحياته تترافق مع حوادث اغتيال فعليه، وحتى حين اُغتيل عصام سرطاوي في
باريس وأبو جهاد في تونس، ظل إدوارد يعيش حياة طبيعية على نحو لافت
للانتباه. ولعل فى عدم توقف التهديدات بالقتل بعد انضمام منظمة التحرير
الفلسطينية إلى المباحثات في مدريد، ولا بعد أن وقع ياسر عرفات ـ رئيس
المنظمة آنذاك ـ على اتفاقية مع إسرائيل، تأكيدا لأنسنية الموقف الادورى،
إذ أن كل ما حدث هو تغير مصادر التهديد فحسب! ففي العالم العربي حيث تتزامن
المصالح الأجنبية المتزايدة مع انهيار الإرادة المستقلة ووجود الفساد
الداخلي وفي جو من الانهيار العام، فان أصحاب القناعات الأنسنية يُعتبرون
على أنهم خطرون من قبل الحكومات التي تحكم بالإكراه وليس بالقبول(26).
صفوة القول ان ادوارد ظل
ملتزما بعمق بتحرير فلسطين دون أن ينسى أبدا محدوديات القومية، اقتناعا منه
بأن رؤيا متمركزة ذاتيا للعالم تصيبنا جميعا بالعدوى! وهو ما يتفق مع كونه
المناضل الذى عمد دوما لتكريس العالمية في السياسة والثقافة وعلم الجمال
كمعادل للخيارات الطائفية. وكما قال مرة فإنها مسألة ما إذا كنت ستدخل
التاريخ بذراعين مفتوحتين أو قبضة مضمومة(27)!
قضية استقلالية المفكر:
في إطار برنامج محاضرات ريث
في الولايات المتحدة الأمريكية(28)، وفي سبيل تعضيده لفرضيته حول الدور
العام للمفكر كلامنتم وهاو ومزعج للوضع القائم، أكد إدوارد سعيد أن المفكر
فرد ذو دور اجتماعي محدد في المجتمع، لا يمكن اختزاله ببساطة لأن يكون عضوا
كفئا من طبقة يقوم بعمله وحسب. فالحقيقة المركزية بالنسبة لإدوارد هي أن
المفكر فرد وُهب قدرة لتقديم، وتجسيد، وتبيين رسالة، أو رؤية، أو موقف، أو
فلسفة، أو رأي إلى جمهور ولأجله أيضا. وهذا الدور ـ والكلام لإدوارد ـ له
مخاطره أيضا، ولا يمكن للمرء أن يلعبه دون الشعور بأن مهمته هي طرح الأسئلة
المربكة علنا، ومواجهته التزمت والجمود، وأن يكون امرؤا لا تستطيع الحكومات
أو الشركات الكبرى احتواءه بسهولة، والذي مبرر وجوده هو أن يمثل هؤلاء
الناس والقضايا التي نُسيت بشكل روتيني أو كُنست تحت البساط. وطبقا
لإدوارد، يفعل المفكر ذلك على قاعدة المبادئ العامة : أن الناس جميعا
مؤهلون لتوقع معايير سلوك لائقة فيما يخص الحياة والعدالة من القوى
الدنيوية أو الأمم، وأن انتهاك هذه المعايير عمدا أو دون عمد يتطلب أن يشهد
المفكر ضدها وأن يقاتل بنبل وشجاعة.
وهذا لا يعني دوما، من وجهة
نظر إدوارد ، أن ينتقد المفكر سياسة الحكومات المختلفة، بل الأصح هو أن
يفكر ـ المفكر ـ بأن مهنته حافظة لحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة
في عدم السماح لأنصاف الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. وهو
ما يتطلب بالضرورة طاقة عقلية شبيهة بالطاقة الجسدية للرياضيين، تغني
المفكر، ولو أنها لا تجعله شعبيا على وجه الخصوص. فالمفكر الحقيقي، في
مفهوم إدوارد سعيد للكلمة، لا هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل هو شخص يراهن
بكل وجوده على حس نقدي حي، حس عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو
الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما
يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون، وما يفعلونه. ليس فقط على نحو معارض
سلبيا، بل أن يكون مستعدا لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط.
وكعادته، يضرب ادوارد لسامعيه
وقرائه مثلا بنفسه، قائلا إنه لما عرضت عليه وسائل الإعلام المختلفة، مرات
عديدة، أن يعمل مستشارا بأجر، رفض فعل ذلك، ببساطة لأن ذلك عني أن يكون
حبيسا لمحطة تليفزيونية واحدة أو مجلة بعينها، ومحكوما أيضا باللغة
السياسية الجارية ومنظومة المفاهيم الخاصة بهذه المؤسسة أو تلك. وعلى نحو
مماثل، أعرض ادوارد دوما عن أي اهتمام بالاستشارات المدفوعة الأجر للحكومة
أو المعارضة، حيث لم يكن لديه فكرة عن أي استخدام يمكن أن تُوظف أفكاره له
فيما بعد. وتلك ممارسات أراها ـ وأظنك تشاركنى الرأى أيها القاريء الكريم
ـ تجسيدا أمينا للقناعة الادورية بالدور العام للمفكر، كلامنتم وهاو ومزعج
للوضع القائم، لا كمن يخدم ربا سياسيا على نحو ضعيف التمييز، فيرى كل
الشياطين في الجانب الآخر! فالمفكر الحقيقي ـ من وجهة نظر إدوارد ـ هو
القادر على حسم الاختيار بين أن يقدم الحقيقة على أحسن وجه يستطيع، وبين أن
يسمح لراع بعينه أو سلطة بعينها أن توجهه.
تأثير الاسهام الادورى على
رؤيتى للفكر الأنسني:
قارئى الكريم، أما وقد فرغت
من عرضي الموجز لأهم قناعات ادوارد سعيد وأهم ممارساته الأنسنية، أظنك الآن
تبينت معى أن الرجل كان أشبه بعداء أسطوري، يعدو بسرعة ومهارة فائقتين، على
حاجز وهمي، يفصل بين الشيء ونقيضه! ولسوف أسعى جاهدا فى السطور التالية
لاطلاعك، قدر استطاعتي، على مدى تأثير الاسهام الادورى فى مجال الفكر
الأنسني على رؤيتى للفكر نفسه.
يقول ادوارد فى تقديمه
للترجمة العربية لرائعته "الثقافة والامبريالية"(29): "إن الأمر فى نظرى
ليقع على مشارف اللغز أو السر؛ لماذا ساعد "الاستشراق" فى باكستان، والهند،
وأفريقيا، واليابان، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، والولايات المتحدة، على
إطلاق العديد من أنهاج الانشاء الجديدة، وأساليب التحليل الجديدة، واعادات
تأويل للتاريخ والثقافة، فيما ظل تأثيره فى العالم العربي محدودا؟!". ذلك
هو القول الادورى المُلهم، أوردته بنصه، لأهميته فى تحفيزي على السعي، في
حدود الإمكانيات المتاحة، للإفادة من الإسهام الادورى! ولكم أحزن حين
يساورنى الشك بأن رؤيتي المتواضعة للفكر الأنسني، والتي أُشير إليها لاحقا،
لربما لم تكن لتُرضي استاذى ادوارد سعيد لو أنه كان بيننا اليوم! بيد أن
قناعتي، بأن رؤيتي تدين للإسهام الادورى دينا عظيما، تُغريني دوما بالكثير
من الثقة والتفاؤل!
بدأت معرفتى بادوارد سعيد،
عبر قراءتى لمقالاته الممتعة، التى اعتاد على كتابتها لجريدة "الأهرام
ويكلي"، وهي جريدة مصرية، تصدر باللغة الانجليزية عن مؤسسة الأهرام. كنت
أتطلع بشغف بالغ لمطالعة تلك المقالات الادورية، حتى أنه لم يكن عندى ما هو
أكثر امتاعا من أن أحلم بالمستقبل غير عثورى، على عدد من الجريدة، به مقال
لادوارد، كدت أفقد الأمل فى العثور عليه! إلى هذه الدرجة شُغفت بالفكر
الادورى، رغم أنى لم أكن ساعتها أعلم عنه أكثر مما ذكرت توا!
وبمضي الوقت وجدتني أزداد
شغفا بالفكر الادورى واعتقادا فى قدرته على مساعدتى على خلق الذات بالذات،
وذلك لسببين: أولا، اعتزاز ادوارد باستقلاليته كمفكر، وولعه بالنقد
الأنسني. فلا أظن مفكرا عربيا، قبل ادوارد أو بعده، عبر بنفس الدرجة من
الوضوح والروعة عن رأيه فى قضية استقلالية المفكر وحقه فى النقد! فادوارد
هو القائل بأن استقلالية المفكر لا تعني دوما أن ينتقد المفكر سياسة
الحكومات المختلفة، وانما تعنى أن تظل المهنة الفكرية ـ مهنة المفكر ـ
حافظة لحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة في عدم السماح لأنصاف
الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. وهو ما يتطلب بالضرورة
طاقة عقلية شبيهة بالطاقة الجسدية للرياضيين، تغني المفكر، ولو أنها لا
تجعله شعبيا على وجه الخصوص. فالمفكر الحقيقي، والقول لا يزال لادوارد، لا
هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل هو شخص يراهن بكل وجوده على حس نقدي حي، حس
عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو
التأكيدات المتملقة والمكيفة باستمرار لما يجب أن يقوله الأقوياء أو
التقليديون، وما يفعلونه. ليس فقط على نحو معارض سلبيا، بل أن يكون مستعدا
لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط!
ثانيا، ارتباط الفكر عند
ادوارد بالأخلاق، على نحو مذهل، حتى أنه يصعب الفصل بينهما! على خلاف ما
نراه فى مجتمعاتنا العربية! فها هى شخصية عربية شهيرة، أشهر من نار على علم
كما يقولون، يُقال اليوم أن كتاباتها وأحاديثها التليفزيونية تُباع
بالكلمة، دلالة على أهمية ما يكتبه ويقوله صاحب هذه الشخصية! صحيح أنه احتل
فى خمسينيات وستينيات وربما سبعينيات القرن الماضى موقعا لصيقا برمز نخبوي
عربي بارز، فى دولة عربية بارزة. وهو ما قد يقدم لنا تبريرا لما يتمتع به
الرجل اليوم من شهرة واسعة. لكن المدهش والمثير للاستغراب هو أن كتابات
الرجل وأحاديثه، التى تلقى كل هذا الرواج الذى أشرت إليه توا، تأتى فى
معظمها انتقادا لأوضاع راهنة، يدافع الرجل نفسه ـ وربما فى نفس الكتابات
والأحاديث ـ باستماته عن أوضاع مماثلة، ربما كانت أبشع، ارتُكبت فى الماضي،
تحت سمعه وبصره، دون أن يهتز لها ضميره!
المهم، قادنى تعمقي التدريجي،
فى كتابات ادوارد المختلفة، إلى فكرة الافاده من دعوته، فى "الاستشراق"،
إلى إطلاق العديد من أنهاج الانشاء الجديدة، وأساليب التحليل الجديدة،
واعادات تأويل للتاريخ والثقافة، فى شتى أرجاء العالم! وبالفعل، وضعت أول
دراسة لى، بعنوان "آلام العالم العربي"، وهي دراسة مسحية، تعج بالمعلومات
أكثر مما تعج بالتحليل! عمدت فيها لسبر غور الآلام العربية، تلك التى نحسها
ولا ندرى أسبابها! والدراسة عبارة عن مقارنة بين فترتين مهمتين فى التاريخ
العربي، الأولى فترة الخضوع للاستعمار الأوروبي، والثانية فترة الاستقلال
السلبي، وهى الفترة من زوال الاستعمار وحتى اليوم!
فبرحيل الاستعمار الأوروبي عن
عالمنا العربي، تنفست الأمة العربية الصعداء، بيد أن أن لحظة الاستقلال
الحقيقي تلك لم تدم طويلا، فسرعان ما حلت النخب العربية الحاكمة محل
المستعمر الأوروبي، وراحت تعمل جهد طاقتها على تكريس الأوضاع العربية
المتردية، التى خلفها الأوروبيون، من خلال ممارسات، تماثل في مضمونها
الممارسات الاستعمارية، بل تتجاوزها في أحيان كثيرة إلى ما هو أسوأ! وبذلك
دخل العالم العربي ما أسميته، فى دراستي، بحقبة الاستقلال السلبي، تلك
الحقبة التي اتسمت بخصائص عديدة، لعل أهمها مساندة القطبيين الأعظم
لاستقلال الدول العربية استقلالاً سلبياً! علاوة على عدم تخلي الولايات
المتحدة وحلفائها عن تلك المساندة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك
كتلته الشرقية، لعدم انتفاء دوافعها، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد
الشيوعي!
وكنت قد نشرت "آلام العالم
العربي" على حسابي، فى طبعة رديئة، لم تُوزع منها سوى نسخ قليلة! غير أنى
خرجت منها بنتائج أراها مهمة، لعل أهمها أن سقوط عالمنا العربي في براثن
الاستقلال السلبي جاء ممهوراً بعدة أسباب، يتحمل أبناؤه مسئولية بعضها ولا
يتحملون مسئولية البعض الآخر. فقد حبذت القوتان الأعظم الاستقلال السلبي
للعالم العربي وساندتاه، خدمة لمصالحيهما. وما كان عالمنا العربي ليملك
حيال تلك الأوضاع شيئاً، اللهم إلا تثمينه للعوامل الداخلية المؤهلة
لاستقلاله الحقيقي. وللأسف، لم يحدث ذلك، فقد غلبت الثقافة العربية
الإسلامية الأسيرة أبناء هذا العالم على أمرهم، ونالت من قدرتهم على إدراك
وقوعهم في براثن الاستقلال السلبي. وساعد على ذلك بالطبع نجاح الأوروبيين
(وأذنابهم)، إبان خضوع العالم العربي لحكمهم في قمع محاولات تحرير الثقافة
العربية الإسلامية الأسيرة، لاقتضاء مصلحتهم بقائها في محبسها.
وحول ما اذا كان الأمر يختلف
اليوم عما كان عليه في نهاية الحقبة الاستعمارية الأوروبية؟ أجابت الدراسة
بنعم، إذ أنها رأت أن الأمر يختلف كثيراً! فالقوة العظمى الوحيدة في
العالم، وهى الولايات المتحدة الأمريكية، لم تنفك منذ أحداث الحادي عشر من
سبتمبر وحتى وقت وضع الدراسة نفسها، تُعلن مناوئتها للاستقلال العربي
السلبي، وتدعو لاستبدال استقلال عربي حقيقي به، بزعم مواءمة ذلك لدواعي
الأمن القومي الأمريكي، والغربي بصفة عامة! بيد أنه، وطبقا للدراسة نفسها،
يظل ضروريا عدم إغفال الحذر في التعاطي مع الولايات المتحدة، لكونها دائمة
الإعلاء لمصالحها عما عداها، فقد ظلت تساند النخب العربية الحاكمة لعقود
عديدة، قدمت خلالها الدعم والمساندة لتلك النخب في مواجهة مواطنيها!
ورغم اقرارى الآن، بعد مرور
عدة سنوات على كتابتى لـ "آلام العالم العربي"، بامكانية القول بتواضع
العمل فى مجمله، أرانى أعتز به كثيرا، فقد كان له تأثير كبير ـ كما سنرى ـ
على توجهى الأنسني! والذى يزيد اعتزازي بالعمل أنه كشف لى عن أن هناك حاجة
ماسة لمباشرة البناء والهدم في أقدس هيكل عند الإنسان العربي، وهو ثقافته
العربية الإسلامية الأسيرة، حتى يصبح استعباده أمراً مستعصياً وحتى يتثنى
له العودة إلى التاريخ وتبوء مكانته اللائقة به.
وهو ما ناقشته باستفاضة فى
دراسة ثانية لى بعنوان "الاغتراب الثقافي للذات العربية"، توصلت فيها إلى
أن الذات العربية تعانى مما أسميته الاغتراب الثقافي، وقصدت به تنازلها عن
حقها الطبيعي فى امتلاك ثقافة حرة ومتطورة! وللأسف الشديد ـ وهذا بعض ما
كشفت عنه الدراسة ـ وجد الاغتراب الثقافي من يحيطه بأسباب الرعاية، منذ
سقطت بذرته الأولى في أرضنا العربية عن غير قصد في أعقاب وفاة النبي (ص).
فقد تعاطى المسلمون الأوائل مع مسألة النظام السياسي للدولة الوليدة طبقا
لخبرتهم العربية السابقة على ظهور الإسلام، وهى متواضعة بطبيعة الحال. وذلك
لاتسام التعاطي الإسلامي مع تلك المسألة بالغموض النسبي، وفاتهم أن ذلك
الغموض النسبي مقصودا لذاته، فالمسألة ذات طبيعة متغيرة، والتعاطي الكفء
معها كان ميسورا لهم لو أنهم ثمنوا الزخم الأيديولوجي للإسلام والقبس
الإلهي الذي أودعه الله أجساد البشر. وإذا كان عدل الصحابة الأجلاء وفيض
محبة الناس للإسلام قد عصم المسلمين الأوائل من شرور ذلك النبت الخبيث، فان
الآخرين العربي و غير العربي لم يتورعا ـ فيما بعد ـ عن تعهده بأسباب
الرعاية، التماسا للإفادة منه، لذا نما واستحالت أشواكه أنيابا حادة، أدمت
ـ ولا زالت تدمي ـ الأجيال العربية المتعاقبة، وأعجزتها ـ ولازالت تعجزها ـ
عن التعاطي الكفء مع نفسها ومع عالمها.
وخلصت الدراسة إلى وجوب تدشين
ثورة ثقافية فى عالمنا العربي، تنأى عن التجديف فى المقدسات أو الشطح فيما
ليس من ورائه نفع، وتدعو لتثمين ذلك القبس الإلهي الذي أودعه الله أجسادنا،
وهو العقل. فإعمال العقل طريق المعرفة، ومن لا يعمل عقله لا يمكنه أن ينقد
شيئا، ومن لا ينقد شيئا فانه مغترب وسيظل على اغترابه. وخلصت الدراسة كذلك
إلى أن السبيل الأكثر فعالية لاستعادة الذات العربية لحقها المسلوب هو
تثوير تعاطيها مع ثقافتها العربية الإسلامية، ليتسنى لها أن تصبح ذاتا
فاعلة، لديها القدرة على توظيف القبس الإلهي الساكن فيها، وبالتالي تحقيق
الإفادة القصوى من الزخم الأيديولوجي للإسلام. فبدون انعتاق الملكات
الخلاقة والإبداعية من رق المحرمات الثقافية، يصبح إدراك الذات العربية
لثقافتها إدراكا ميتا لا حياة فيه ولا رجاء منه. كما لم يفت الدراسة أن
تؤكد أنه لا ينبغي أن تخيفنا الثورة الثقافية، لأنها لن تلبث أن تؤتى
ثمارها ـ إن عاجلا أم آجلا ـ كنوزا معرفية متناثرة، ننفقها في اجتثاث
أوضاعنا المتردية والعود الأحمد للتاريخ الإنساني. اضافة الى تأكيدها على
وجوب عدم الاكتراث بقول تجار الآلام إن الثورة الثقافية تعني ـ بالحتمية ـ
الفوضى واختلاط الحابل بالنابل، فتلك مزاعم يعوزها المنطق السليم، لأننا
نريدها ـ وهى بالضرورة كذلك ـ أداة في يد المجتمع المغترب، يقهر بها
اغترابه، ويعزز بها وجوده الإنساني.
وفى دراسة ثالثة لى بعنوان
"الآخر فى مواجهة الذات العربية"، شاء حظها العاثر أن تخرج طبعتها مليئة
بالأخطاء، عمدت لرصد وتحليل ثقافة الآخر، وذلك خلال فترة زمنية بعينها،
تبدأ من لحظة رحيل الاستعمار الأوروبي عن العالم العربي وتنتهي مع انتهاء
الدراسة نفسها. وتمثل الاسهام المهم، وربما الوحيد، لهذه الدراسة في
استخدامها المعيار الأنسني للتمييز بين الذات والآخر، وإن جاء ذلك على نحو
متواضع بعض الشيء! فساعتها والحق يُقال لم أكن على دراية كافية بطبيعة
الفكر الانسني أو الاسهام الادورى فيه! لذا اكتفيت فى تعريفي للأنسنية
بتأكيد أمور بعينها، لعل أهمها تمثل جوهرها فى التعريف بالإنسان كأعلى قيمة
في الوجود، وتمثل هدفها فى التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل
البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي
الجمعي كما للحاضر الجمعي. إضافة إلى تأكيدي على القول الادورى بأن
الأنسنية ليست طريقة لتدعيم وتأكيد ما قد عرفناه وأحسسناه دوما، وإنما هي
وسيلة تساؤل وإقلاق وإعادة صياغة للكثير مما يقدم لنا اليوم على أنه يقينات
معلبة، مغلقة على النقاش، ومشفرة على نحو غير نقدي، بما فيها تلك الموجودة
فيما اصطلح على كونه آراء وأعمال خالدة يجري تغليفها برقائق المحرمات
الثقافية.
وطبقا للمعيار المذكور، يُعد
الإنسان العربي ذاتا ما لم يدرك جوهر الأنسنية وهدفها، بغض النظر عن
الأسباب الكامنة وراء غياب ذلك الإدراك، والتي يعد الاغتراب الثقافي ـ بحق
ـ أهمها وأبرزها على الإطلاق. أما الآخر، وطبقا للمعيار نفسه، فهو من يقف
وراء إهدار الذات العربية لجوهر الأنسنية وهدفها، أي وراء عدم إدراك تلك
الذات لهما، وذلك عبر سعيه المحموم لتكريس أسباب ذلك الإهدار، وفي مقدمتها
الاغتراب الثقافي كما أسلفنا. غير أن الآخر المقصود فى الدراسة لم يكن
الآخر العربي فحسب، بل هو كل من يدرك جوهر الأنسنية وهدفها ويعمل جاهدا في
الوقت نفسه للحيلولة دون إدراك الذات العربية لهما، بهدف حرمانها من جني
ثمار ذلك الإدراك. ففي ذلك الأمر يستوي الآخران العربي وغير العربي،
باعتبارهما مصدرا لا ينضب للآلام العربية!
وفى دراسة رابعة لي، أرانى
تسرعت كثيرا فى نشرها، وفى قبولى لأن يكون عنوانها "الانسان هو الحل"!،
سعيت لبلورة رؤيتى للفكر الأنسني، تلك الرؤية التى استخدمتها كنموذج تفسيرى
فى دراستى "دون كيخوته المصرى"، وأعدت اكتشافها، ربما بشكل أفضل نسبيا، فى
مجموعة مقالات مهمة، تُعنى بالفكر الأنسني، نشرتها على شبكة الانترنت،
أذكرها هنا بحسب ترتيب كتابتها:
ـ بناء الذات الأنسنية.
ـ هدر العقل العربي.
ـ المرأة فى الفكر الأنسني.
ـ التثمين الأنسني لجوهر
الأديان.
ففى تلك المقالات، والتى أنوى
نشرها مُجمعة، مع هذا المقال، فى كتاب بعنوان "مقالات فى الفكر الأنسني"،
يستطيع القاريء الكريم أن يلمس إلى أى مدى تأثرت رؤيتى للفكر الأنسني
بالاسهام الادورى. فلولا حديث ادوارد عن النقد الأنسني، ما اكتشفت امكانية
أن ترزخ ذات، عربية كانت أم غير عربية، تحت نير الاغتراب الثقافي، ولولا
تعرية ادوارد لعقيدة المركزية الأوروبية فى الفكر الغربي، ما تعرفت على
الآخر الغربي، ولولا تأكيد ادوارد الدائم على استقلالية المفكر، لكنت أرانى
واحدا من تجار الآلام، أدافع عن الآخر المحلى بكل ما اُتيت من قوة وعلم!
ولسوف أختم حديثى الذى أظنه قد طال بعض الشيء، إن لم يكن كثيرا، بعرض موجز
لأهم ملامح رؤيتى للفكر الأنسني، ليعلم قارئي إلى أى مدى شُغف كاتب هذه
السطور بادوارد سعيد وفكره الأنسني، والذى أرى فى كتاب ادوارد الأخير
"الأنسنية والنقد الديمقراطي" أصدق تعبير عن روعته وجلاله!
"الأنسنية" ـ عندى ـ هى أن
يحقق الإنسان أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء
تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في
الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري
وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي
كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص
العامة للانسنية، والتى اُوجزها فيما يلي:
[1]معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد
التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي
المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما
يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية
الجمالية.
والإنسان يُعد أنسنيا (ذاتا
أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه
أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك
كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع
في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه
الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه!
وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه
أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات
المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف
حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني ـ في
رأيي ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات
المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي
للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه
عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي تتجاوز الاحتياجات
المادية، على خطرها وأهميتها. وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها...
فهناك الصراع بين الذات
الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في
تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح
الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص
على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع
مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام
كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه. وهناك أيضا الصراع بين
الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب
الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن
قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر
اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي لمحو
هويتها الثقافية وهدر ثروتها العقلية..!!
الهوامش:
(1) إدوارد
سعيد، ترجمة فواز طرابلسي، خارج المكان، (بيروت: دار الآداب، 2000)، ص 10.
(2) نفس
المرجع، ص ص 358ـ 359.
(3) نفس
المرجع، ص ص 42ـ 43.
(4) نفس
المرجع، ص 233.
(5) نفس
المرجع، ص 244.
(6) نفس
المرجع، ص 276.
(7) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(8) نفس
المرجع، ص ص 338ـ 339.
(9) إدوارد
سعيد، ترجمة فواز طرابلسي، الأنسنية والنقد الديمقراطي، (بيروت: دار
الآداب، 2005)، ص ص 18ـ19.
(10) ثيودور
مايرجرين (محرر)، ترجمة يوسف ميخائيل أسعد، معنى الانسانيات، (القاهرة: دار
المعرفة بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1972)، ص ص 33ـ 77.
(11) إدوارد
سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ، ص ص 31ـ32.
(12) نفس
المرجع، ص 27، 52.
(13) يستند
الكاتب فى عرضه للتحليل الادورى للأسس التى قام عليها الفكر الأنسني
والممارسة الأنسنية فى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى كتاب إدوارد سعيد
الأخير، وهو بعنوان: الأنسنية والنقد الديمقراطي.
(*) نسبة إلى
الشاعر والفنان الانجليزى وليام بلايك والعالم النفسانى السويسري كارل
يونغ. والمقصود هو التوليفة التى يُقيمها فراي بين فكرة بلايك عن "الألوهة
البشرية" وبين مقولة "نموذج أصلي"، بما هو مستودع اللاوعى الجمعى عند يونغ.
(14) راجع نص
المقدمة التى كتبها إقبال أحمد: إدوارد سعيد، حوارات مع دافيد بارساميان،
ترجمة توفيق الأسدى، القلم والسيف، (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر
والخدمات الاعلامية، 2004)، ص ص 7ـ22.
(15) راجع
نعي إدوارد لصاحبه إقبال أحمد في الجارديان:Edward
Said, Eqbal Ahmad, The Guardian, Friday May 14,1999.
(16) جُمعت
الاقتباسات الادورية من هذه الأعمال: مجلة البلاغة المقارنة (ألف)،
(القاهرة: قسم الأدب الانجليزى والمقارن وقسم النشر بالجامعة الأمريكية
بالقاهرة)، العدد الخامس والعشرون، بعنوان إدوارد سعيد والتقويض النقدى
للاستعمار، 2005. إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ.
ــــــــ، "النزعة الانسانية السور الأخير فى وجه البربرية ـ 25 عاما على
صدور كتاب (الاستشراق)"، لوموند دبلوماتيك، الطبعة العربية، أيلول/سبتمبر
2003،
www.mondiapolar.com/article_print1707.html
(17) ادوارد
سعيد، ترجمة وتحرير صبحى الحديدي، تعقيبات على الاستشراق، (بيروت: المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، 1996)، ص ص 140ـ141.
(18) نفس
المرجع، ص ص 144ـ 145.
(19) ادوارد
سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية،
2003)، ص 40.
(20) ادوارد
سعيد، "النزعة الانسانية السور الأخير فى وجه البربرية ـ 25 عاما على صدور
كتاب (الاستشراق)"، م.س.ذ، ص 3.
(21) إدوارد
سعيد، الأنسنية والنقد الديمقراطي، م.س.ذ، ص ص 24ـ25.
(22) نفس
المرجع، ص ص 25ـ28.
(23) إدوارد
سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الثقافة والامبريالية، (بيروت: دار الآداب،
1997)، ص 71.
(24) إدوارد
سعيد، نهاية عملية السلام ـ أوسلو وما بعدها، ( بيروت: دار الآداب للنشر
والتوزيع، 2002)، ص ص 246ـ256.
(25) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(26) راجع نص
المقدمة التى كتبها إقبال أحمد: إدوارد سعيد، حوارات مع دافيد بارساميان،
القلم والسيف، م.س.ذ، ص ص 7ـ22.
(27) نفس
المرجع، نفس الصفحات.
(28) للمزيد
حول الرؤية الادورية لاستقلالية المفكر راجع: ادوارد سعيد، ترجمة حسام
الدين خضور، الآلهة التى تفشل دائما، (بيروت: التكوين للطباعة والنشر
والتوزيع، 2003).
(29) إدوارد
سعيد، الثقافة والامبريالية، م.س.ذ، ص9.
أهم مراجع الكتاب
أولا: باللغة العربية:
(1) الإدارة
العامة للشئون القانونية بالهيئة، القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة
تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس
الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 وفقا لآخر التعديلات، ( القاهرة: وزارة
الصناعة والثروة المعدنية، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، 1999).
(2) ادوارد
سعيد، ترجمة وتحرير صبحى الحديدي، تعقيبات على الاستشراق، (بيروت: المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، 1996).
(3) ــــــ،
ترجمة كمال أبو ديب، الثقافة والامبريالية، (بيروت: دار الآداب، 1997).
(4) ـــــــ،
ترجمة فواز طرابلسي، خارج المكان، (بيروت: دار الآداب، 2000).
(5) ــــــ،
نهاية عملية السلام ـ أوسلو وما بعدها، ( بيروت: دار الآداب للنشر
والتوزيع، 2002).
(6) ــــــ،
ترجمة كمال أبو ديب، الاستشراق، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 2003).
(7) ــــــ،
ترجمة حسام الدين خضور، الآلهة التى تفشل دائما، (بيروت: التكوين للطباعة
والنشر والتوزيع، 2003).
(8) ــــــ،
حوارات مع دافيد بارساميان، ترجمة توفيق الأسدى، القلم والسيف، (دمشق: دار
كنعان للدراسات والنشر والخدمات الاعلامية، 2004).
(9) ـــــــ،
ترجمة فواز طرابلسي، الأنسنية والنقد الديمقراطي، (بيروت: دار الآداب،
2005).
(10) ارنست
كاسيرر، ترجمة أحمد حمدى محمود، الدولة والأسطورة، (القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم
الاجتماعية، 1975).
(11) إسماعيل
مظهر، لواحق المقتطف الشهرية، (القاهرة: مطبعة المقتطف والمقطم، فبراير
1946).
(12)
ت.س.إليوت، ترجمة شكري عياد، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، (القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب، 2003).
(13) ثيودور
مايرجرين (محرر)، ترجمة يوسف ميخائيل أسعد، معنى الانسانيات، (القاهرة: دار
المعرفة بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، 1972).
(14) جورج
سارتون وآخرون، ترجمة الدكتور عبد الرحمن ذكي، حضارة عصر النهضة، (القاهرة؛
نيويورك: دار النهضة العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر،
1961).
(15) جيم
هيريك
Jim Herrick،
مدخل عام إلى النزعة الإنسانية
Humanism : an Introduction،
صادر عن بروميثيوس بوكس
Prometheus Books، بلندن
عام 2005. للأسف تعذر للكاتب الحصول على نسخة من هذا الكتاب، ومن ثم اضطر
للاستعانة بعرض له، يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليه على الموقع التالي على
شبكة الإنترنت:
www.iraqcenter.net
(16) حازم
خيري، الاغتراب الثقافي للذات العربية، (القاهرة: دار العالم الثالث،
2006).
(17) ــــــ،
الانسان هو الحل، (القاهرة: دار سطور للنشر، عام 2007).
(18)
ــــــ، دون كيخوته المصري (دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر الشاعر المصري
الراحل نجيب سرور)، تحت الطبع.
(19) رينيه
ديكارت، ترجمة محمود الخضيرى، مقال عن المنهج، (القاهرة: الهيئة المصرية
العامة للكتاب، 2000).
(20) سوزان
موللر أوكين، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، النساء فى الفكر السياسي الغربي،
(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب بالتعاون مع المشروع القومي
للترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة، 2005).
(21) صامويل
هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي،
(القاهرة: سطور، 1998).
(22) عبد
الرحمن بدوي، فلسفة العصور الوسطى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1969).
(23)
ـــــــــ ، الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، (الكويت؛ بيروت: وكالة
المطبوعات، دار القلم، 1982).
(24) العهد
القديم
(25)
فرانسواز ايريتييه، ترجمة كاميليا صبحى، ذكورة وأنوثة ـ فكرة الاختلاف،
(القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003).
(26) فردريك
انجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، (موسكو: دار التقدم، بدون
تاريخ).
(27) قرآن
كريم.
(28) مارلين
تادرس، حواء المضطهدة، (القاهرة: سلسلة المكتبة الثقافية، منشورات تضامن
المرأة العربية، 1990).
(29) محمد
سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي (إعداد وترجمة)، الحقيقة ـ نصوص مختارة،
(الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم 4،
1993).
(30)
ـــــــــــــــــــ (إعداد وترجمة)، العقل والعقلانية ـ نصوص مختارة،
(الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، سلسلة دفاتر فلسفية، العدد رقم 9،
2007).
(31) محمد
عابد الجابري، تكوين العقل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،
1989).
(32) مراد
وهبة، المعجم الفلسفي، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1979).
(33) ـــــ،
قصـة الديالكتيك، (القاهرة: دار العالم الثالث، 1997).
(34) نجيب
سرور، الأعمال الكاملة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، المجلد
الثالث، 1996).
(35) نوال
السعداوي، الوجه العاري للمرأة العربية، (القاهرة: دار ومطابع المستقبل
بالفجالة والاسكندرية، 1994).
(36)
ـــــــ، عن المرأة، (القاهرة: مكتبة مدبولي،2005).
ثانيا: باللغة الأجنبية:
(1)
Robert C.
Tucker (ed), The Marx – Engels Reader, (New York: W.W.Norton &Company.
INC., 1972).
مقدمة كتاب دون كيخوته المصري
(دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر المُبدع نجيب سرور)
د. حازم خيري
"نحن حبات البذار..
نحن لا ننمو جميعاً..
عندما يأتي الربيع..
بعضنا يهلك في هول الصقيع،
وتدوس البعض منا الأحذيه،
ويموت البعض منا فى ظلام الأقبيه..
غير أنا كلنا..لسنا نموت..
أبداً..لسنا نموت.."
نجيب سرور
كُتب علينا معشر البشر أن نُنفق أعمارنا، طالت أم قصرت، في طلب الحقيقة دون
أن نُدركها، فمكانها الوحيد هو صدر الإله! وأراني بقولي هذا قد كفيت قارئي
الكريم مئونة محاجتي، فما الجهد الماثل سوى محاولة جادة لالتماس الحقيقة،
لا إدراكها. والحقيقة المقصودة هنا هي حقيقة نجيب سرور، ذلك الطوبائي الفذ
الذي لم يقنع على الأرجح بشذرات من الطوبائية، وأبى إلا أن يبلغها، فاحترق
ببلوغه إياها! وترك لنا ميراثاً يصعب على المسافر في أراضيه البت فيه برأي،
فهو خليط من الكبرياء الشهي والكرامة الجريحة..!!
أقول إن المرء لا يملك إلا أن تتنازعه مشاعر الإعجاب والشفقة إزاء الطوبائي
نجيب سرور! الإعجاب بإيمانه الجميل بنفسه، والشفقة لما تكبده من أهوال
وعذابات. والسؤال الذي لابد طارح نفسه.. لماذا؟..لماذا لقي نجيب سرور كل
تلك الشراسة والقسوة وهو الذي كثيراً ما تغنى بالحب والحرية والرحمة؟!..هل
استحق الرجل النبيل ذلك؟ وإن لم يستحق، فلماذا كان هذا المصير المؤلم لذلك
الكائن النبيل؟..أسئلة لابد لها من إجابة شافية! ولكن..أين السبيل إلى مثل
تلك الإجابة الشافية؟ سؤال آخر لطالما راودني، واستحوذ على اهتمامي فترة
ليست بالقصيرة، أبحرت خلالها فى دروب فكرية شتى...
وظلت تساؤلاتي الحائرة جائلة فى صدري إلى أن فرغت من كتابي (الإنسان هو
الحل)، الصادر عن دار سطور للنشر عام 2007، والذي أودعته رؤيتي للنهج
الإنساني أو الأنسنية
Humanism
كما يحلو للبعض، وأنا منهم، أن يسميها. ورحت أبحث عن
شخصية أختبر عليها النموذج الأنسني التفسيري، في ضوء ما أتصوره إسهاما
نظرياً جاداً أحرزه كاتب هذه السطور في مجال الفكر الأنسني. حينئذ، قفزت
إلى ذهني التساؤلات الحائرة حول الطوبائي نجيب سرور، صاحب الشخصية الحالمة
العاصفة، الذي لم يتحمل الكون حلمه فرحل!! ورحت أنظر في الأمر، فأدركت أني
بصدد فرصة ثمينة لابد لى ألا أفقدها...
وبالفعل قررت أن أختبر نموذجي الأنسني التفسيري على شخصية نجيب سرور، صاحب
المأساة التى لم تزل الأجيال تتحدث على استحياء بأخبارها، ولم تزل تستصرخنا
تفسيراً يقبله ذوو الضمائر الحية. وشرعت أجمع المعلومات والوثائق عن الرجل،
فضلا عن إقبالي على اقتناء وحصر أعماله المنشورة وغير المنشورة. والحق أني
وجدت في أرملته الروسية السيدة ساشا كورساكوفا خير معين، فقد فاجأتني في
لقائي الأول بها بمقهى ريش الشهير بأن دفعت إلى بحزمة من الأوراق، قالت لي
إنها مخطوطة دراسة قيمة غير منشورة، كتبها زوجها الراحل عن أبي العلاء
المعري، وطلبت مني إعدادها للنشر وتقديمها!
وبقدر ما أثلج الطلب المفاجئ صدري بقدر ما أخافني لوعورة الطريق وثقل
العبء! ولكم سعدت لاحقاً بتحقيق تلك المخطوطة المذكورة أيما سعادة، إذ زادت
قناعتى بعد قراءتها بأهميتها وأهمية صاحبها، حتى أني أنجزتها فى وقت قصير
نسبياً، وسلمتها جاهزة ومعدة للنشر إلى السيدة ساشا كورساكوفا، على أمل
نشرها، وذلك فى مقابلة مع سيادتها بالقاهرة بتاريخ 15/11/2007. وقد نُشرت
المخطوطة بالفعل فى المجلس الأعلى للثقافة، بعنوان (تحت عباءة أبي العلاء).
وأراني لست مبالغا حين أقرر بحق إن الكتاب الماثل يُعد بحق أول دراسة علمية
وثائقية، تتناول حياة وفكر نجيب سرور بالتحليل العميق، استناداً إلى نموذج
تفسيري يجمع ـ من وجهة نظر الكاتب ـ بين العلمية والواقعية، وهو النموذج
الأنسني، وكذا استناداً إلى كم يُعتد به من الأعمال المنشورة وغير
المنشورة، التى لا أظنها أُتيحت لغير كاتب هذه السطور، فكما علمت من السيدة
ساشا، ظلت هذه الأعمال حبيسة الأدراج لسنوات تربو على الثلاثين دون أن تجد
من بين الباحثين من يتعهدها بالدراسة والتحليل، خاصة وأنها تؤرخ لفترة هامة
من حياة مصرنا الغالية وعالمنا العربي المغبون. فمن المحزن حقا ألا تحظى
حياة صاحبنا الطوبائي المُبدع بالاهتمام الكافى من جانب الباحثين، اكتفاء
بالأحكام السطحية!
ولكم قوبلت حين شرعت فى استطلاع آراء من حولي ـ كعادتى دائماً ـ فى مسألة
تعهدي لشخصية الراحل نجيب سرور وأعماله بالدراسة والتحليل، بعاصفة من
الاستنكار والرفض! وتعددت الأسباب والحجج، فقد رماه أحدهم بالشيوعية! ورماه
آخر بالجنون! ورماه ثالث بكونه نموذجاً فاشلاً لايستحق إلقاء الضوء عليه!
وقال رابع بأن تفسير مأساة نجيب باستخدام النهج الأنسني ينطوي بالضرورة على
إساءة فادحة للنهج نفسه! وقال خامس بأن نجيب كان خائناً لوطنه لا يستحق
الذكر! وقال سادس بأن نجيب أساء لنفسه وللآخرين! وقال سابع دعنا من الرجل
وسيرته وذلك بدون إبداء أسباب! وأنكر ثامن وجود شخصية بهذا الاسم!! ولا
أدري لما لم يقنعنى أياً من الآراء السابقة، فزاد اصراري على إنجاز الدراسة
الماثلة، لايماني بوجاهة موضوعها وأهميته، فليس معقولاً أن يلقى إنسان كل
الاستياء والاستنكار على هذا النحو، وكذا ليس معقولاً أن يكون المُبدع نجيب
سرور بهذه الصورة الباهتة التى رُوجت عنه ورُسمت له فى عيون مواطنيه، علاوة
على عجزي عن إيجاد تفسير منطقي للصمت الاعلامي الرهيب والتجاهل التام
لمكانة الرجل فى الفكر العربي، فى وقت لا يتوقف فيه ضجيج احتفاء الإعلام
العربي بالأقزام وأنصاف الرجال من كل حدب وصوب؟!
على أية حال، لن أُطيل على قارئي الكريم وسأتركه يلمس بنفسه عبر قراءته
لهذا الكتاب إلى أي مدى يُعد صاحبنا الطوبائي نجيب سرور شخصية جديرة
بالدراسة على كافة الأصعدة. بيد أني أراني راغباً فى تنبيه قارئي الكريم
لمسألة مهمة وهى ضرورة صبره وقراءته المتأنية للفصل التمهيدي لأهميته
البالغة فى توضيح المنطق الذي استند إليه الكاتب فى تقسيم فصول كتابه
الماثل، فالتقسيم لم يأت عشوائياً بل استند إلى الاسهام النظري الذي يزعم
الكاتب أنه أضافه للفكر الأنسني، والذي تجسد فى قوله بأن تطور التاريخ
الإنساني لا يعدو كونه نتاجاً لصراع ثقافي معقد بارد، أطرافه الذات
الأنسنية والذات المغتربة والآخر! وذلك استناداً لتعريف إليوت
الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع
أعم وأشمل منه عند الماركسيين، فاحتياجات الإنسان ليست مادية فحسب، فهي
تتجاوز الاحتياجات المادية، على أهميتها وخطورتها...
وحول اختياري لعنوان هذا الكتاب (دون كيخوته المصري)، أؤكد أنني لم أفعل!
فقد اختار صاحبنا الطوبائي نجيب سرور العنوان بنفسه! ولكن..كيف يكون ذلك
وقد رحل الرجل عند دنيانا منذ سنوات عديدة؟! أقول إن نجيب سرور هو الذى
أطلق على نفسه دون كيخوته، وذلك حين شُغف ببطل رواية ثربانتس الشهيرة التى
تحمل نفس الاسم ورأى فيه نفسه، حتى أنه أهدى أخيه ثروت تمثالاً من المعدن
لدون كيخوته أرسله له خصيصاً من روسيا ونصحه بقراءة الرواية، وأقول إن نجيب
هو الذى أطلق على نفسه دون كيخوته، وذلك حين رثى نفسه بأبيات تقطر عذوبة
ورقة، كُتبت على قبره بعد وفاته بالبنط العريض، قال فيها:
قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح
فاحفر هنا قبرا ونم
وانقش على الصخر الأصم
يا نابشا قبري حنانك
هاهنا قلب ينام
لا فرق من عام ينام وألف عام
هذي العظام حصاد أيامي
فرفقا بالعظام ! ..
ولقد ألحقت بكتابي هذا ثبتاً بأعمال ومؤلفات نجيب سرور، استندت فى اعداده
للثبت الذي أورده الأستاذ محمد دكروب فى ختام دراسة نجيب سرور القيمة
(رحلة...فى ثلاثية نجيب محفوظ)، الصادرة عن دار الفكر الجديد، ضمن سلسلة
"الكتاب الجديد"، بيروت 1989، بيد أنني حذفت وأضفت الكثير من المعلومات
التى لم تُدركها الطبعة المذكورة، ولم يُحط بها الأستاذ محمد دكروب. وكذلك
ألحقت بالكتاب الماثل ملفاً وثائقياً، يضم وثائق عديدة مهمة، يُنشر أغلبها
لأول مرة، ليعلم قارئي الكريم مدى احترامي لها وله، علاوة على الحاقى
بالكتاب نفسه ثبتاً مهماً بالتواريخ المهمة فى حياة نجيب سرور تتمة للفائدة
المرجوة.
ويظل كاتب هذه السطور مديناً بأسمى آيات الشكر والعرفان لكل من ساعده ولو
بشق كلمة، وذلك لايمان الكاتب بأهمية العصف الذهنى الذى لطالما مارسه والذي
يسمح له ولغيره باثارة قضايا مهمة وخطيرة يصعب على المرء منفرداً ادراكها.
وللكاتب أيضاً أن يتوجه بالشكر الجزيل للقصاص والأديب الأستاذ ثروت سرور
الأخ الأكبر لنجيب سرور وزوجته السيدة الفاضلة آمال مُغني، فقد أحسنا إلى
الكاتب أيما إحسان، وذلك حين تفضلا باستقباله بمنزلهما الكائن بمدينة
دمنهور وزوداه بالكثير من المعلومات والوثائق المهمة عن الراحل نجيب سرور،
فلهما الشكر كل الشكر، كما لا يفوت الكاتب التوجه بالشكر الجزيل للسيدة
ساشا كورساكوفا أرملة نجيب سرور الروسية وولديها الأستاذ شهدى والأستاذ
فريد على كل ما قدموه من معلومات قيمة وما زودوا به الكاتب من أعمال غير
منشورة، سمحوا له بالاطلاع عليها والاستعانة بها فى دراسته، فلهم الشكر كل
الشكر..
حازم خيري، دون كيخوته المصري، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2009)
|