أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

كتب أدبية (دراسات) / الكاتب: داود سلمان الشويلي

إشكاليات الخطاب النقدي الأدبي

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الكتاب

 

 

الكتاب

 

 

 

إشكاليات الخطاب النقدي الأدبي العربي المعاصر

 

 

مدخل:

اذا كان النقد ، يمثل اشكالية ، او احدى اشكاليات الحركة الادبية العربية ، لعدم قدرة المشتغلين والمهتمين به على الاتفاق على صياغة تعريف جامع مانع له (1) ، فأن هذه الدراسة ، ليس من مهامها القيام بذلك ، لأن اكثر من دراسة وبحث كتب عن ذلك .

ان مهمة هذه الدراسة ، تقديم اجابة عن سؤال ، ما زال قائماً ، وكثيراً ما شغلت اجابته المهتمين بالادب ، نقاداً ومبدعين على السواء ، ذلك هو : - هل ان الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر يمر بأزمة ؟ وما هي الاشكاليات التي ادت الى ذلك ؟ اذ انه ، وبين فترة واخرى ، ترفع راية ( الازمة ) امام هذا الخطاب     

ان ما نشر من دراسات وبحوث عن النقد ذاته ، هنا وهناك ، قد اغتنت بطروحات من شأنها ان تجيب عن هذا السؤال ، بقدر او اخر ، الا ان مرور قرن من الزمن - تقريباً - على الممارسة النقدية الادبية ا لعربية، ودخولنا الالفية الثالثة ، تجعلنا نعيد قراءة ذلك المنجز ، ونقول كلمتنا دون ان نغلق الباب امام الآخرين ليقولوا كلمتهم ايضاً .

ان المتتبع للخطاب النقدي الادبي العربي ، سيجد امامه مجموعة من الاشكاليات التي احاطت بمسيرته ، ان كانت هذه الاشكاليات ذاتية ، ام كانت موضوعية ، مع ملاحظة ، ان ( النقد ) كمصطلح وكأجراء، هو من جديد الفعاليات الادبية الوافدة الينا ، حاله حال الفعاليات الادبية الاخرى ، في الرواية والقصة والمسرحية (2) اذا اتفقنا على ان كل ما كان يندرج تحت مفهوم ( النقد ) في ادبنا العربي القديم قد انقطعت به السبل قبل اكثر من سبعمائة سنة مضت ( 3 ) .

والاشكالية التي نعنيها في هذه الدراسة ، كمصطلح وكمفهوم ، ودون الدخول في شعاب التعاريف المتنوعة والعديدة لها ، هي : (( انعطاف غامض ومبهم نحو عدم وضوح الرؤية المنهجية في مجمل العملية النقدية حين تتشابك المناهج والطرائق النقدية وتتعقد في فهمها للنظرية الادبية الفنية من جهة ، وللنظرية النقدية الفنية على وجه الخصوص من جهة اخرى )) ( 4 ) .

*** ***

2 - الاشكاليات:   

من المفيد ان نذكر ، بداية ، ان ما تريد ان تصل اليه هذه الدراسة ، هو سلامة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر ، الخطاب النقدي المنهجي ، الذي هو : (( البناء الادبي القائم والمؤسس ، على نظرية نقدية تعتمد اصولا ً معينة في فهم الادب وفي اكتشاف القيمة الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الادبي ))(5).

اما الخروج عن اشتراطات هذا الخطاب ، فأنه - حسب هذه الدراسة – يشكل ازمة له وفيه ، مبعثها تلك الاشكاليات الذاتية والموضوعية على السواء ، اذ ان دراسة هذا الخطاب ، تقودنا الى تلمس ما وقع فيه من اشكاليات نابعة من داخله ، واخرى ، تعيق تقدمه وتطوره ، واردة اليه من خارج كيانه ، الا انها ذات تأثير سلبي عليه ، وهذا ما سنبينه في السطور القادمة .

آ – الاشكاليات الذاتية:

وهي الاشكاليات التي افرزتها حركة الخطاب النقدي العربي منذ التأسيس ، واثناءالانجاز ، لأسباب ، منها  :

اولا ً: اشكالية المصطلح .

ثانياً : اشكالية المنهج .

*** ***

اولاً : اشكالية المصطلح:

ربما يتساءل البعض عن سبب الحديث عن المصطلح ، وما يشكله من اشكالية خارج حدود الحديث عن المناهج ، وللاجابة عن مثل هذا التساؤل ، نقول : ان المصطلحات هي مفاهيم لغوية اصطلاحية تعود الى المناهج نفسها . وهذا قول صحيح ، الا ان المناهج نفسها – وبعيداً عما سببته من اشكاليات في التطبيق - قد وقعت هي الاخرى بأشكالية التسمية .

ويضاف الى كل ذلك ، ان الكثير من المصطلحات ،لم تكن تابعة لأي منهج من المناهج النقدية ، على الرغم مما لها من دور كبير في النقد الادبي ، لهذا كانت هذه الاستقلالية في الحديث عن المصطلحات والاشكاليات التي افرزتها في حركة الخطاب النقدي الادبي العربية المعاصرة .

والمصطلح ، هو : ما (( اتفقت الجماعة على استخدامه ، ليرمز الى مجموعة من الافكار والمذاهب ، ترسبت مع الزمن ، واصبح لها من (( التحديد )) ما يبرر هذا التعبير او المصطلح ، بحيث اذا اطلق فأنه يرمز على الرغم من صغره الى حركة او فكرة ، ذات سياق تاريخي وفلسفة جمالية ، وملامح فنية )). (6 )

واذا كان المصطلح هو اداة لغوية مفهومية ، الا انه قد اصبح واحداً من اشكاليات حركة الخطاب النقدي الادبي العربية المعاصرة .

ان من اهم اشكاليات المصطلح واستخدامه

(1)  قصور الترجمة:

على الرغم من ان الترجمة توصف بـ ( الخيانة ) ، الا انه من الطريف ، او المحزن في الآن نفسه ، ونحن نقرأ عن حركةالترجمة في العصر العباسي ابان ازدهار الثقافة والحضارة العربيتين ، ان نستذكر ان بعض مترجمينا العرب الاقدمين ، وبسبب من سوء الترجمة ، قد اوقعوا حركة النقد الادبي العربية - وقتذاك – في اشكالية كبيرة لم تتخلص منها حركة الخطاب النقدي الادبي العربي الا في عصرنا الحديث ، عندما اخطأ   ( بشر بن متي ) في ترجمة بعض مصطلحات كتاب ( فن الشعر ) لارسطو ، خاصة مصطلحي(التراجيديا والكوميديا ) اللذان ترجمهما بـ ( المديح والهجاء ) .

ومن المسلم به تاريخيا ً ، ان اقطار وطننا العربي ، قد وقعت – في التاريخ المعاصر - تحت سيطرة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني ، والجميع يعرف ما لثقافة هذين الاستعمارين من تأثير كبير على الثقافة العربية بصورة عامة ، فضلا ً عن ذلك ، فأن بُعد او قرب هذا القطر او ذاك من هذه الدولة الغربية ( الاوربية ) او تلك ، قد اثر هو الاخر في استخدام لغة هذه الدولة او تلك ، كما كان لتخرج ابناء هذا القطر العربي اوذاك من جامعات غربية عديدة ومتنوعة ، له تأثيره ايضا ً في كل ما قلناه .. مما اقام عملية تثاقف كان لها تأثيرها السلبي الكبير في هذا المجال .

ان عملية التثاقف القطرية – الاوربية هذه ، كانت احد الاسباب التي جعلت من ارتحال المصطلح ( ترجمته ) من تلك الدولة الغربية الى هذا القطر العربي ، يختلف عنه لو ارتحل الى قطر عربي اخر ، مما افضى الى نتائج غير سليمة ، وذات تأثير سلبي على استخدام المصطلح ، ومن ثم استخدام المنهج .

يقول د. صلاح فضل ، عن الترجمات التي تمت في بلاد الشام للمناهج النقدية الحديثة ، وخاصة ( البنيوية ) : (( يظل هناك امران يعوقان جديا ً امكانية الافادة الكاملة بها ، اولهما يتصل بلغة المترجم ، المعماة التي تغلب عليها العجمة والتراكيب الغربية ، ويعز التقاطها على القارئ المختص مما يجعله يتمنى لو تمكن منها بلغتها الاصلية ، وثانيهما يرتبط بعمليات النشر والتوزيع ، اذ تتدخل العوامل السياسية المتقلبة لتجعل الحصول على كتاب من دمشق او بغداد اصعب على اهل مصر مثلا ً من طوكيو او بكين )) (7).

فضلا ً عن ذلك ، فقد ادى هذا القصور الى بروز ظاهرتين هامتين من ظواهر استخدام المصطلح النقدي ، هما :

اولا ً : اضطراب وعدم استقرار المصطلح النقدي عند الكثير من النقاد العرب ، مما ادى الى (( سوء فهم تلك الدلالات وبالتالي قد يؤدي الى خلق احكام مضطربة وضبابية يكتنفها الغموض والجهل معا ً )) (8 ) . وهذا الاضطراب لم يكن سمة خاصة بالمصطلح فحسب ، وانما هو واحد من سمات حركتنا الثقافية العربية عامة .

ثانيا ً : غموض ، وعدم وضوح المصطلح . وهذا ناشيء عن (( سوء الترجمة حينا ً ، او سوء استعماله حينا ً اخر ، فضلا ً عن الخلط والاضطراب بين المصطلحين العربي القديم الواضح الدلالة والاستقرار ، والغربي او الاجنبي الذي يكتنفه الغموض وعدم وضوح الرؤية خاصة حين يطبق )) ( 9 ) .

ويجرنا الغموض والاضطراب اللذين رافقا عملية ترجمة وتطبيق المصطلح الاجنبي ، الى احد اسباب قيام الازمة في حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصرة ، وهو اشكالية الفكر الادبي العربي المعاصر ، والتي سنتحدث عنها في السطور القادمة .

(2) غياب المصطلح:

اذا كان استخدا م المصطلح في الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر ، ادى الى اكثر من اشكالية ، فأن غيابه هو الا خر ، يعتبر احد اشكاليات هذا الخطاب ، كون المصطلح ، وبما ينطوي عليه من مفهوم معرفي دقيق ، يوفر الكثير من الجهد في انتاج خطاب نقدي ادبي جاد وعلمي ، لأن اهم فعالية يقوم بها المصطلح تجاه المنجز الابداعي ، هو استيعابه اولا ً ، ومن ثم تجاوزه للوصول الى الحقيقة الادبية له .

*** ***

ثانيا ً : اشكالية المنهج:

للمناهج ، وبما تنطوي عليه من مصطلحات ومفاهيم وادوات فحص ، اهمية كبيرة في حركة الفكر بصورة عامة وعلى كافة مستوياتها ، وعلى حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر خاصة .. ودون ان ندخل في تعاريف لغوية او مفهومية للمنهج ، نقول ، ان المنهج : (( لاينحصر بمفهوم واحد ، او ادوات متعددة ، او بعض القيم والمعايير ، اذ هو في الحقيقة مجموعة من المفاهيم والتصورات المتسقة والادوات والخطوات الاجرائية والقيم والمعايير ، وهو بهذا المعنى رؤية لا مجموعة من الاراء ، والمنهج رؤية فلسفية متكاملة ، أي رؤية للادب والنقد والانسان والعالم )) (10) .

وقبل ان نعتمد التعريف السابق ، علينا التاكيد على ماجاء فيه من ان المنهج هو (رؤية فلسفية متكاملة ) لان هذا الوصف سيفيدنا في السطور القادمة .

ان الاسباب التي ادت الى وجود هذه الاشكالية ، يمكن تلمسها من خلال:

(1) غياب المنهج:

أي ما يمكن ان نطلق عليه بـ ( اللامنهجية ) والتي اصبحت – هذه اللامنهجية - سمة لاغلب الدراسات النقدية التي ضمها الخطاب النقدي العربي المعاصر، والتي لاتعتمد لها منهجاً عند الدراسة والتحليل للمنجز الابداعي . ومن الطريف ، ان اللامنهجية هذه ، قد اصبحت عند البعض من ( نقادنا ) هي المنهج الذي راحوا يدافعون عنه تحت ذرائع شتى ، منها :- ان المنهج – أي منهج – يفرض قيوداً عند التطبيق ، الا ان الدافع الاساس لذلك هو افتقار مثل هؤلاء ( النقاد ) لابسط شروط النقد الادبي ، وهي المنهجية ومن ثم لعدم معرفتهم بالمناهج النقدية القديمة او الحديثة ، فدفعهم كل ذلك الى ذم المنهج والمنهجية .

ان غياب المنهج ، يؤدي – حتماً – الى الانشائية والانطباعية والتأثرية فيصبح الخطاب النقدي ، عند ذاك – عبارة عن تذوق ذاتي للنص الابداعي يفتقر للموضوعية ، وورم خبيث في جسد الخطاب النقدي العربي الخاص بالمنجز الابداعي الادبي ، وكذلك ، وبالاً  على المنجز الابداعي نفسه .

ويمكن القول نفسه ، على بعض التعليقات الصحفية السريعة التي يطلق عليها البعض(نقداً ) .

(2) استخدام المنهج:

قلنا ، ان اللامنهجية ، هي واحدة من الاشكاليات التي جعلت من الحركة النقدية الادبية العربية ، تقع في ازمتها ، الا انه ، وفي الوقت نفسه ، ان ( المنهجية  – (أي استخدام المنهج – هي الاخرى ، قد اصبحت احدى اشكاليات هذه الحركة ، خاصة وان المنهج يعد من وسائل الخطاب النقدي الادبي عند متابعته وتقصيه لمعنى النص الابداعي .. ويمكن اجمال صور هذه الاشكالية بما يلي  :

(آ) غربة المناهج:

ونقصد – هنا – بـ ( الغربة ) معنيين في الوقت نفسه ، احدهما : ان هذه المناهج هي في الاساس ذات مصدر أوربي ، غربي ، وثانيهما : انها غربية عن البيئة العربية بصورة عامة ، والثقافة العربية بصورة خاصة.

ان هذه الغربة ، أوقعت حركة النقد الادبي العربي ، المعاصر خاصة ، في اشكالية كبيرة ، ليس فقط بسبب مساويء ( الترجمة ) فحسب ، وانما لاسباب كثيرة ، منها : ان تلك المناهج قد تأسست – اصلاً – اعتماداً على مفاهيم فكرية وفلسفية غربية ، ومن اجل منجز ابداعي نتاج لبيئة وحضارة غير البيئة والحضارة العربيتين (11) . وان هذه الظاهرة هي واحدة من (( ابرز سمات الاشكالية المعاصرة لنقدنا الشعري الحديث نظراً لانها ترتبط مباشرة بقضية الفكر الغربي المعاصر )) (12) . وكذلك بالنسبة لقضية العلاقة بين الثقافتين العربية والغربية. وقد تنبه اكثر من ناقد لهذه القضية عندما وجد ان بعض المناهج النقدية لا تسعف الذائقة النقدية العربية في دراسة المنجز الابداعي الادبي جماليا ومعرفيا اللذان يوفرهما المنجز الابداعي ضمن خصوصيات البئية والثقافة العربيتين ، فراح البعض يستخدم منهجين او اكثر في فحص منجز ابداعي ما (13) فيما يذهب ناقد اخر الى محاولة تاسيس منهج نقدي عربي اسلامي (14) كما يقول.

(ب) الدوغماتية في التطبيق:

فهم البعض من النقاد ، ان المنهج ما هو الا ادوات هندسية ذات ابعاد وحجوم ومساحات لا يمكن المساس بها عند التطبيق ، فأخذت - عند ذلك – المناهج تسـّيرهم دون ان يكون للمنجز الابداعي حرية اختيار منهجه .

ان التحجر ضمن هذه المقاييس ، هو ما جعل المنجز الابداعي ، ومن ثم المبدع نفسه ، يعيشان وضعاً مأ ساوياً لا يحسدان عليه ، ان كان ذلك عند استخدام المناهج النقدية القديمة ( السياقية ) او المناهج النقدية الحديثة ( النصية ) ، ذلك لأنه (( لا وجود لمباديْ وقيم منهجية ثابتة يمكن الاعتماد عليها وتثبيتها الى ما لا نهاية في تحليل النص الشعري او غيره من النصوص الابداعية التي تدور عليها المقاربة النقدية )) (15) .

(ج) قصور الترجمة:

لا يمكننا ان نضيف شيئا ً على ما قلناه سابقا ً عن قصور الترجمة بالنسبة للمصطلح ، وفي الآن نفسه لا يمكن اغفال ما للترجمة من دور كبير وفعال وخطير في الحركة الفكرية والثقافية عامة ، وفي الحركة الادبية خاصة ، اذ انها واحدة من المستلزمات الضرورية لمجمل الفعاليات الانسانية ، ليس في حاضرنا هذا فحسب ، بل ومنذ التطور والتقدم اللذين حصلا في الحركة الفكرية والثقافية والعلمية في العصر العباسي خاصة . اذ لعبت الترجمة دورا ً كبيرا ً في ذلك وهي الآن واحدة من شروط التطور والتقدم في كافة الميادين ، وهذا ليس مدعاة لبقاء العرب يعيشون ( عالة ) على غيرهم من الامم ، وفي الوقت نفسه ، فأن الحياة – بصورة عامة – تتطلب الانفتاح على الآخر. 

    واذا كنا نتفق على هذا الدور ، فحري بنا ان نتفحص المنجز الذي قدمته الترجمة بما يتعلق بالمناهج النقدية خاصة ، للوقوف على حقيقة هذا الدور ونسب النجاح والفشل ، خاصة وان الكثير من الدراسات والبحوث المعنية في هذا الجانب ، راحت تدرس هذه القضية وتقدم لها الحلول ، الا ان هذه السطور سوف لا تفي بما مطلوب منها انجازه .

*** ***

ب _ الاشكاليات الموضوعية:

هي مجموع الاشكاليات التي اثرت على حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر ، والنابعة من خارج كيانه ، ويمكن ايجازها بما يلي :

اولا ً : اشكالية الفكر الادبي العربي بصورة عامة:

توصلت العشرات من الدراسات والبحوث التي كتبت عن اشكالية الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر الى نتيجة مفادها : ان الفكر العربي المعاصر – بصورة عامة – يمر بأزمة حادة بسبب مجموعة من الاشكاليات التي رافقت نشوئه واستمراريته وطرق تطوره .. ولما كان الفكر الادبي العربي المعاصر ، واحداً من فروع الفكر العربي المعاصر ، فأنه بالتالي ، سيقع في براثن الازمة نفسها ، فضلا ً عن الاشكاليات التي ستبرز من داخله ، ذلك ، لأن (( الحركة الادبية العربية ما زالت تتأرجح بين التراث والمعاصرة ، لأدركنا ماهية الاشكالية ببعدها الفكري العام (...) ومن هنا نشأ الصراع بين هذين التيارين او اذا شأنا بين هذين الموقفين تبدأ ثقة المتلقي بالنقد تنحسر وتنحصر في مجالات ضيقة )). (16)

يضاف لكل ذلك ، عدم استقرار مصطلح ( المعاصرة ) او ( الحداثة ) في هذه الحركة .

ان اية حركة ادبية ، لا يمكن لها ان تكون ناضجة ومؤثرة ما لم تؤَسـَس ضمن افاق فكرية وفلسفية ناضجة ومؤثرة . ولما كان الافق الفكري والفلسفي على الصعيدين العام والادبي ما زالا ضيقين ، فأن الاشكالية ستبقى قائمة ، وبالتالي ، فأن العرب يدخلون الالفية الثالثة ، بدون نظرية ادبية عربية متميزة ، ومن ثم بدون نظرية نقدية ادبية عربية ناضجة ومتميزة هي الاخرى.         

وقد اشار احد النقاد المجتهدين الى هذا الجانب ، عندما شدد على ان (( واحدا من اخطر مظاهر الضعف في الحركة النقدية العربية يتمثل في ضيق الافق الفكري والفلسفي لدى اصحابها ، سواء على الصعيد الثقافي العام او الادبي الخاص . فهنالك وفي اغلب الكتابات النقدية التي نقرأها هذه الايام ، بـُعد فكري وفلسفي مفقود ، واستشراف شمولي ناقص ، ومن الصعب اخفاؤه او تغطية فقره وقصوره مهما استخدم اصحابه من وسائل التمويه والمصادر العربية والاجنبية للتستر عليه ، ومهما تكن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوية في تكوينه )) (17 ) .

ثانياً : اشكاليات التطبيق :

اذا كانت المنهجية واللامنهجية ، واشكاليات المصطلح ، كلها تقع خارج مهام الناقد ، فأن عملية التطبيق لهذه المناهج تعود في الاساس الى الناقد نفسه ، وان اختيار المنهج ، وكذلك المصطلح ومن ثم تطبيقهما من قبل الناقد سيضيف الكثير من الاشكاليات الى ازمة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر.

ومن اهم الاسباب التي تجعل من الناقد واحداً من هذه الاشكاليات ، هو:

: (1) تأثير ازمة الفكر العربي ، ومن ثم الفكر الادبي والثقافي على الناقد ، كأنسان اولاً ، وكمثقف ثانيا ً .

 (2 )الكسل الذهني وضعف الاستيعاب ، ومن ثم الاستخدام غير الدقيق للمناهج النقدية الحديثة ، اما بسبب عدم هضم تلك المناهج بصورة جيدة ومتكاملة ، او بسبب عدم فهم كيفية اشتغال الياتها. (3) عدم التخصص الدقيق بالنقد ، اذ ان الكثير ممن يكتبون ( النقد ) او الذين يطلقون مصطلح ( النقد ) على ما يكتبون ، هم من الطارئين عليه ، مما يجعل من حركة النقد الادبي ، غير اصيلة ومن ثم طارئة على الحركة الادبية ، ويفقدها مصداقيتها ، فيكون الخطاب النقدي عند ذاك خطاب تابع للخطاب الابداعي ، وليس كعنصر(( مكمل وموجه وفاعل بنفسه ، وعلاقته بالنص او الكتابة الابداعية ليست علاقة تضايف والحاق ، بل تفاعل وكشف )) (18) .

(4) جهل اغلب المشتغلين بالنقد ، لبعض العلوم الانسانية التي استفادت منها نظريات الادب الحديثه ، ونظريات النقد الحديثه في اوربا ، وقد ادى ذلك الى ان يكون الخطاب النقدي العربي المعاصر معزولاً عن تلك العلوم ، ومن ثم عن حركة الواقع التي ينبض بها المنجز الابداعي .

(5) استخدام المناهج النقديه الحديثة (( الاوربية )) كماهي ، دون مراعاة للواقع العربي المعاصر على الصعيدين الاجتماعي والسياسي . وخير مثال على ذلك ، هو استخدام المنهج البنيوي الذي تأسس دون مراعاة للجوانب السوسيولوجية بصوره عامة ، وكذلك لا تاريخية هذا المنهج ، فراح البعض من النقاد العرب يقلدون الكتابات الاوربية ، مما ادى الى عزل المنجزالابداعي عن سياقاته الخارجية ، الاجتماعية ، والنفسية والثقافية التي افرزته ، خاصة ان الواقع العربي ومن ثم الفكر الذي سـ (يترشح ) منه، يمر بحالة مخاض كبيرة تستدعي الوقوف على كل السياقات الخارجية والداخلية للمنجزات الابداعية .

*** ***

3  - الخاتمة :

بعد هذا الاستعراض الوجيز للاشكاليات التي رافقت الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر ، سنقف قليلا ً عند ما يمكن ان نعده طريقا ً لتجاوز مثل هذه الاشكاليات ، لكي نصل الى خطاب نقدي ادبي عربي ناضج وعلمي ، يعتمد منهجا ً ان لم يكن مولودا ً من رحم الفكر العربي، على الرغم من الازمة التي هو فيها ، فأنه لا يبتعد عن الواقع العربي واسقاطاته على المنجز الابداعي .

صحيح ان الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر ، وبعد دخولنا الالفية الثالثة ما زال يحمل اشكالياته التي نشأت منذ ان تأسس هذا الخطاب في بداية القرن الماضي ، وان الكثير مما انجز منه ما زال بعيدا ً من ان نطلق عليه مصطلح ( النقد ) او ان ينضوي تحت خيمة ( الخطاب النقدي ) الذي نريد ، فما زلنا نطمح ، اولا ً ، واخيرا، الى وجود فكر عربي ناضج يدعم فكرا ً ادبيا ً عربيا ً ، ومن ثم الى خطاب نقدي عربي منهجي يأخذ بيد المنجز الابداعي الى ان يكون بمستوى المنجز الاجنبي، ان لم يكن يتجاوزه ، خاصة وان واقعنا العربي سيغني هذا المنجز .

ان خصوصية التجربة العربية في الحياة هي العون في ذلك ، أي في تأسيس نظرية نقدية عربية ، او في الاقل تقديم رؤيا عربية نقدية - كما يقول الناقد طراد الكبيسي – (19)، فيما يذهب الناقد فاضل ثامر بكل ثقة الى القول : ان الخطاب النقدي العراقي خاصة قد امتلك لرؤيا نقدية جديدة تسعى الى (( تأسيس حداثتها النقدية من هذا التلاحم الجدي بين الاجتماعي والايديولوجي والمعرفي والواقعي من جهة والرمزي والجمالي والتخييلي واللاواقعي من جهة اخرى .

وتأسيسا ً على ذلك فهي رؤيا نقدية واقعية حداثية ترفض تغييب الايديولوجي والسوسيولوجي والتاريخي لحساب الجمالي والشكلاني والنهلستي ( العدمي))(20).

ان ما قاله فاضل ثامر ، لا ينفي وجود ما اشرنا اليه من اشكاليات جعلت حركة الخطاب النقدي الادبي العربي المعاصر تمر بأزمة ما زالت قائمة ، بعد قرن من عمرها ، وهذا ما يؤكده ناقد عربي اخر ، عندما يطالب بـ (( اهمية وجود فكر ادبي نقدي منهجي يواكب الحركة الادبية بل يتضافر معها ليسهم في خلق اجواء ملائمة لنموها وا زدهارها )). (21)

وهكذا يكون بمقدورنا القول ، اننا بحاجة الى اعادة نظر علمية بالمنجز النقدي ، ونحن ندخل الالفية الثالثة.

*** ***

5 - الهوامش :

1  النقد ؟ تحولات النقد ؟- طراد الكبيسي – الاقلام – ع 5 / 1997 .

2 - هذا لايعني خلو ادبنا العربي قبل هذا القرن من فن القص بصورة عامة .

 -3على اعتبار ان القزويني ، احد اصحاب مناهج النقد العربي القديم – في الشعر خاصة – قد توفي عام 739 هـ - انظر دراسات بلاغية ونقدية – ص 95- الهامش /2 .

4 - د. عناد غزوان – الشعر ومتغيرات المرحلة – ص 19 .

5- المصدر نفسه – ص 20 .

6 - د. عبد الحميد ابراهيم – قضية المصطلح الادبي – الشعر ومتغيرات المرحلة – ص 93 .

7 - نظرية البنائية – ص7 .

8 - د. عناد غزوان – ص 12 .

9 - المصدر نفسه – ص 13 .

10 - د. شكري الماضي – تحليل الخطاب النقدي – ص 212

11 - دون ان نغفل ، ان المنجز الابداعي العربي المعاصر في مجالي فن القص والمسرح ، دون الشعر ، قد تأسس تحت تأثير المنجز الابداعي الاوربي ،الا انه قد اخذ بعض سماته القومية العربية ، وكذلك محليته الوطنية .

12 -  د. عناد غزوان – ص22 – ويمكن القول نفسه على نقد المنجز السردي العربي .

13 -كالناقد فاضل ثامر ، والناقد نور الدين السد . يقول فاضل ثامر : (( ولا اخفي عليكم اني كنت طيلة هذه الفترة اخشى السقوط في نوع من التوفيقية والمصالحة بين بعض من المتضادات في الرؤيا النقدية ، وخاصة في محاولة عقد زواج بين قيم ومنطلقات نقدية متباينة واعني بها المنطلقات الجمالية والفنية والبنائية من جهة والمنطلقات السوسيولوجية والتاريخية والايديولوجية من جهة اخرى )) – الصوت الاخر – ص 14 .

    ويذهب الناقد نور الدين السد الى استخدام منهج مركب من (السيميائية ) و (الاسلوبية) لغاية معرفية املتها طبيعة الاهتمام بتحليل الخطاب بعامة والخطاب الادبي بخاصة ، وان غاية ما يطمح اليه ، هو (( معرفة القوانين التي تحكم نظام علامات الخطاب ورصد تشكيله في الصورة التي هو عليها ، وكيفية تحقيق ابعاده الدلالية ورؤاه الظاهرة والخفية وما ينفرد به من خصائص تكوينية تحدت وجوده في ماهية جنسه ، وتعلق عما يهيمن عليه من اشارات جمالية ، وتنبيء عن مدلولات ومفارقة معانيه ومرجعياتها ، وتشير الى ميزاته المنجزة من خلال ما يتضمن من خصائص اسلوبية وسيميائية )) انظر - تحليل الخطاب العربي- ص283 – 284 .

14 - كالدكتور محمد بن مريسي الحارثي ، الذي يذهب الى الاهتمام بأقامة منهج نقدي )عربي خالص ) على حد قوله ، (( يقوم في اسسه النظرية واجراءاته التطبيقية على مادة الفكر العربي الاسلامي ، ومعطيات اللغة العربية ، سميته المنهج البياني في نقد الادب )) تحليل الخطاب العربي – ص 225 .

15 -  صورة المناهج الحديثة في نقد الشعر من خلال النماذج الاكاديمية – ص2 .

16 – د.عناد غزوا ن – ص13-14 .

17 - التشكل التاريخي الكاذب – ص 6 .

18-المصدر نفسه – ص 9 .

19-النقطة والدائرة – ص18 .

20 - الصوت الاخر – ص 12 .

21 - تحليل الخطاب العربي – ص 211 .

(*) نشر الموضوع على موقع البلاغ على شبكة الانترنيت.

 

4 - المصادر:

1 -  د. احمد مطلوب – دراسات بلاغية ونقدية – دار الرشيد للنشر – بغداد – 1980 .

2 - د. ضياء خضير – صور المناهج الحديثة في نقد الشعر من خلال النماذج الاكاديمية – بحث مستنسخ قدم الى الحلقة الدراسية لمهرجان المربد الثالث عشر .

 3- د. ضياء خضير – التشكل التاريخي الكاذب – دار الكرمل – د.ت.

4 -فاضل ثامر – الصوت الاخر – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – .1992

5 -طراد الكبيسي - النقطة والدائرة – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1987 .

6  - د . صلاح فضل – نظرية البنائية في النقد الادبي – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1987 

7  - مجموعة باحثين – الشعر ومتغيرات المرحلة – ج5 – بحوث مهرجان المربد الشعري السادس – دار الشؤون الثقافية .

 8 - مجموعة باحثين – تحليل الخطاب العربي – منشورات جامعة فلادلفيا – عمان – 1998 .

9 - مجلة الاقلام – ع 5 – 6 / 1997 .

 

 

 

الاثر الصهيوني في بنيوية شتراوس الانثروبولوجية

 

اليهودية ، قبل كل شيء ، هي دين سماوي منزل ، الا ان اليهود انفسهم – بعد رحيل نبيهم موسى – جعلوه يتخذ صفة عرقية ... اذ حولو كيانهم البشري من اناس يدينون باليهودية الى ( شعب ) يهودي القومية ، أي الى ( عرق ) .

وعندما تحول الدين الى قومية ( = شعب ) راح اليهود يؤسسون اساطيرهم التي حاولوا من خلالها تأكيد الجانب ( العرقي ) العنصري لهم ، ابتداء من اسطورة الشعب المختار ، وليس انتهاء بالعهد الالهي لهم بالارض ، كما يدعون .

ان الدين اليهودي بعد موسى ، ومن ثم ( الشعب اليهودي ) ( = العرق اليهودي ) قد تحول الى قومية عنصرية شوفينية لا ترى في الاخرين (= الاغيار ) سوى رعاع يجب التخلص منهم بقتلهم . وبعد ان سقطت دويلاتهم على يد الرومان والبابليين ، ومن ثم ظهور المسيحية ، ومن بعدها الاسلام ، وجدوا انفسهم شتاتاً ، مما دفعهم الى اعادة (احياء ) تلك الاساطير من خلال الابتعاد عن ( الاغيار ) على الرغم من انهم كانوا يعيشون بينهم ومعهم كعنصر طفيلي في المجتمع ( اعتماداً على المال ، والربا والصيرفة خاصة ) فظهرت تجمعاتهم السكانية المعزولة ، ونمط حياتهم الخاص ، ومدارسهم الخاصة ...الخ ، مما جعلهم في اوربا القرون الوسطى وما بعدها عنصراً منبوذاً ، وغير مقبول اجتماعياً ورسميا ، فراحوا ينشؤون ( جيتواتهم ) الخاصة بهم .

ان الاساطير التي اسسوها ، عند اعادة كتابة ( توراتهم ) بعد السبي البابلي قبل اكثر من الفي سنة ، قد تنوسيت حتى مجيء ( هرتزل ) والفكر الصهيوني الذي اصبح يأخذ طابعه العلني بعد مؤتمر بازل عام 1897 م . وفضيحة نشر البروتوكولات . اذ عندها راح زعماء وقادة الصهيونية يعيدون الروح لتلك الاساطير في سبيل تحقيق اغراض سياسية ( لا دينية ) وتحقيق حلمهم المنشود في اقامة دولة صهيون .

ان يهودية ما بعد موسى ، لم تكن هي نفسها اليهودية كـ (دين ) التي جاء بها موسى من خلال الوحي الالهي ، وكذلك التوراة الحالية التي اكدت الدراسات التاريخية اللاهوتية انتحالها . (1)

وبالفكر الصهيوني خاصة ، راحت الاساطير تفعل فعلها في بناء فكر يهودي جديد ، انه فكر اسطوري خالص ، متلبس بلباس ديني .

هكذا تشبع فكر الانسان اليهودي ( على المستويين الديني والعرقي ) بالاساطير ، فعاش حياته اعتماداً على الاسطورة التي تأسست قبل اكثر من الفي سنة ، اذ اصبح هذا الفكر لاتاريخي ، بعد ان توقف التاريخ عند حدود اعادة كتابة التوراة ، او ما قبلها بقليل . واصبح التاريخ عندهم لا تاريخ ديانة سماوية ، بل تاريخ شعب مختار ( عرق بشري ) . وقد اكدت هذه الوضعية توراتهم ومن ثم بروتوكولاتهم ، وما ظهر من نتائج مؤتمر بازل .

وهكذا تم التحول ، من دين سماوي الى دين وضعي عرقي ، ومن ثم الى دين صهيوني ، ثم صهيوني اسطوري لا تاريخي .

هذه ( العجالة ) التاريخية اعلاه ، ستفيدنا حتماً ونحن نقرأ منظومة ( شتراوس ) البنيوية في دراسته للاساطير.

ان المتتبع لكتابات هذا العالم الانثروبولوجي ، لا يسعه الا ان ينتهي الى نتيجة مفادها : ان ما جاء به من طروحات ونظريات في الانثروبولوجية التي تمخضت عنها دراساته للاساطير ( القبلية خاصة ) بطريقة بنيوية (2) تحمل الكثير من توجهات الفكر الصهيوني الاسطوري ، مما ادى الى ان تكون نظرياته تلك مبنية اساساً على ذلك الفكر الاسطوري نفسه .

كلود ليفي شتراوس (( ابن فنان وحفيد حاخام . ولد في بلجيكا عام 1908 . انتقل ابواه الى الاقامة في فرساي عام 1914 . ويبدو انه كان طفلاً متوحداً يميل الى التفكير والتأمل الذاتي والقراءة ، حصل على اجازة الفلسفة عام 1932 . ارتحل الى البرازيل عام 1934 بعد ان عرض عليه منصب استاذ الانثروبولوجية بجامعة ساو باولو . وهناك قام بدراسة عدد من القبائل البدائية . فكانت هذه الدراسة مهاداً لافكاره التي تطورت بعد ذلك . في عام 1939 عاد الى فرنسا ، ثم تركها بعد سقوط باريس مرتحلاً الى الولايات المتحدة ، وفي نيويورك اشتغل بالتدريس في المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي وتوطدت علاقته مع رومان ياكوبسن الذي قاده الى الاهتمام بعلم اللغة البنيوي . عاد الى باريس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية )) (3).

يوصف كتابه ( المدارات الحزينة – المنشور عام 1955 ) بأنه اقرب الى ان يكون (( اعادة بناء للفكر وليس مجرد سجل اسفار او تقرير عن رحلات ميدانية ولقد حقق الكتاب رواجاً غير متوقع بتركيبته الغريبة التي تمتزج فيها الذاكرة الانتقائية بالبحث الميداني التجريبي والاستدلالي العلمي (...) ان هذه السيرة الذاتية الاثنوجرافية التي تخلط بين الذكريات والتفسيرات ، وبين الملاحظة والتأمل ، وبين الحقيقة والتداعي الحر ، قد عملت على دعم نظرية ليفي شتراوس عن القرابة في كتابه الابنية الاولية للقرابة "1949"...)) . (ص24 )

ان اعتماد اغلب دراساته ، التي ضمتها كتبه ، مثل ( الابنية الاولية للقرابة والفكر الوحشي ، واسطوريات ) على الافكار التأملية والتداعي الحر ، جعلت منظومته الفكرية ( على صعيد الشكل والمحتوى = البنيوية والانثروبولوجية ) تتأسس على مجموعة من الاساطير التي انشأتها يهودية ما بعد موسى ، والصهيونية فيما بعد.

ان شتراوس (( كثيراً ما يحول الافكار المتأملة الى حقائق ، ويحول التأملات الى فرضيات متدفقة ، وهو يبرر ما يقوم به من مزج بين التجربة الشخصية والتفسير الفكري بنظرته المتميزة الى الجيولوجيا والتحليل النفسي والماركسية بوصفهن " عشيقات ثلاثة " له ..)) .(ص25 ) انه المنهج نفسه الذي سار عليه كتبة التوراة بعد السبي البابلي ، اذ ان التوراة الحالية ، ما هي الا سرقة للاخرين ( = التجربة الشخصية ) المعجونة بمادة يهودية ( يهودية – صوفية في بعض الاحيان ) ( = التفسير اللا عقلاني ) .

وكذلك ، فأن بناء انثروبولوجية شتراوس ومنظومته البنيوية في دراسة وفحص الاساطير اعتماداً على اللغة ، جاء بتأثير توراتي بحت (( في البدء كان الكلمة )) على الرغم من ان دارسيه يحاولون التقليل من هذا التأثير عندما يذكرون ان ياكوبسن هو الذي قاده الى الاهتمام بعلم اللغة البنيوي (ص24) ، اذ ان هذه التأثيرات قد جاءت متجاوبة والطروحات التوراتية في ( وعي او لا وعي ) شتراوس ، ان لم تكن هي في الاساس عند ياكوبسن .

ومن الامور الاخرى التي لها علاقة بالنظريات الانثروبولوجية لشتراوس هو تأثيره بالفكر التوراتي عن القرابة المعتمدة اساساً على الام ، وقد امده هذا الفكر بالنتائج التي توصل لها في كتابه ( الابنية الاولية للقرابة ) .

ان يهودية ما بعد موسى ، او لنسميها ( اليهودية الصهيونية ) قد جمدت التاريخ على ما كان عليه قبل اكثر من الفي سنة ، لتجعل للاساطير التي جاء بها احبار اليهود مابعد السبي ( كتبة التوراة ) ذات اثر كبير في تنشأة يهوديي ما بعد موسى ، وهذا ما اثر كثيراً في المنظومة ( التأملية ) لشتراوس الذي كان (( ينتهي به التأمل الى ان كل الادراكات تختلط بتجارب الماضي )) و(( تظل متصلة الوجود في تنوع اللحظة الحي .. مازجة الزمان بالمكان )) كما يؤكد في كتابه (( المدارات الحزينة ))(ص25) .

ويؤكد كذلك ، على ان التاريخ (( يعاد تأسيسه كلما حكيت الاسطورة او استرجع الماضي )) (ص35) . وهذا ما تريده اليهودية الصهيونية .

واذا كان لسارتر مبرراته الفلسفية في رفضه لمفهوم ( الابنية العقلية اللاواعية ) التي كانت من اهتمام شتراوس ، كون سارتر ينكر وجود ( اللاوعي ) ، الا ان شتراوس قد اعتمد ذلك المفهوم اعتماداً كلياً عند دراسته للاساطير للوصول الى ان الاسطورة ما هي الا حقيقة احتفظ بها (اللاوعي ) وما على الدارس الا ان يفض ((مغالق الانساق الرمزية للاساطير ليعيد بناء التاريخ الثقافي )) ( ص 32) . وبهذا يتعارض شتراوس مع ماركس في ان الاخير يؤكد على (( ان الثقافة مشروطة بالبنية الاقتصادية للمجتمع )) فيما يؤكد هو على ان (( الثقافة تنبثق من الابنية اللاواعية الكلية )) ( ص 34) والاسطورة هي واحدة من تلك البنى اللاواعية .. وهذا ما تريده اليهودية الصهيونية وهي تعيد الحياة الى اساطيرها التي تأسست اعتماداً عليها .

وبدافع من منظومته الفكرية ، هاجم شتراوس الوجودية والظاهراتية كونهما اعتمدا ( اوهاماً ذاتية ) (ص35 ) ذلك لانه لا يعتمد مثل تلك الاوهام الذاتية ، وانما يعتمد ( اللاوعي الجمعي ) ، وهذا ما تؤكده اليهودية الصهيونية في ان وعي الانسان الصهيوني هو ( وعي جمعي لا واعي ) ( = لا تاريخي ) اذ ان الفرد عند شتراوس لا يكتشف وعيه بالذات اثناء الممارسة وانما يعتمد على بنية داخلية تجعل البشر (( بوصفهم موجودات اجتماعية وبوصفهم حوامل لا واعية لنظام كلي " نابع من ابنية لم تكتشف بعد " ...)) (ص36) . وان التلاحم الاجتماعي، كما يؤكد شتراوس ، يعتمد اساساً على (( قوة الاساطير المشتركة )) (ص38) وليس الى غيرها من مؤسسات اجتماعية ذات فاعلية مؤثرة. وهذا ما دفعه الى التركيز على دور ( التضامن الآلي ) للمجتمعات القبلية ، وان الفرد عنده كما عند اليهودية الصهيونية (( يرتبط ارتباطاًً تلقائياً مباشراً بمجتمعه ، بكل ما في هذا المجتمع من وحدة شاملة تنتظم العواطف والمعتقدات )) (39) ويذهب الى ان الاساطير والشعائر المرافقة هي ( حقائق اجتماعية ) لتأكيد صلة الاساطير المؤسسة لليهودية الصهيونية في الوقت الحالي .

فضلا عن ذلك، فأن عدم دخول شتراوس في معترك السياسة ، يؤكد نظرته التي تعتمد على ان (( السلوك الانساني مسيراً بواسطة قوى لا واعية، تتجاوز نطاق السيطرة الانسانية )) (ص39 ) أي على قوى اسطورية .

خلاصة القول ، ترى هذه الدراسة ، ان شتراوس وهو يدرس الاساطير بنيوياً ، فأنه يدرسها من خلال منظومة فكرية مشبعة بما هو اسطوري يهودي صهيوني ، اولاً ، وثانياً ، ان ما استخلصه من نتائج قد جاءت تلبية للفكر الاسطوري اليهودي الصهيوني .. انه قد استخدم الاسطورة ليثبت ( الحقيقة التاريخية !!) للاساطير اليهودية ( الصهيونية ) ، بعد ان اوقف التاريخ عند حدود كتابة التوراة .

 

الهوامش:

1 . الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص – داود سلمان الشويلي – دار الشؤون الثقافية العامة – 2001 .

2 . يصفه البعض بأنه ( ابو البنيوية ) ص23 عصر البنيوية .

3 . ص24 بتصرف . وكل ارقام الصفحات المثبتة مأخوذة من كتاب ( عصر البنيوية ) – اديث كيرزويل – ت . جابر عصفور – آفاق عربية – 1985 .

 

 

السرد ومستوياته

 

قراءة في رواية ((زبيبة والملك ))

 

 

-1 -

 

لم تكن علاقة القادة بالشعب ، او علاقة السلطة ، بصورة عامة ، بالشعب ، -في يوم ما – عن الادب ، بمستوييه الشعبي والرسمي ، ذلك لان العديد من النصوص الشفاهية والمرونة ، قد عالجت هذا العلاقة منذ ان وجدت بين الناس ، الا انها راحت تتطور وتتعقد بتطور الحيات ، وتشعباتها ، وتقادم الزمن اذ ان تطور الحيات وتقادم الزمن يفرضان على هذه العلاقة مجموعة من الشروط التي تجعلها في حاله سيرورة مادام نبض الحياة ، وجريان الزمن مستمرين .

ان الادب الشفاهي – حتى بعد تروينه – قد قدم هذا العلاقة بصور شتى ووصفها في اكثر من عمل ، حتى ان تاريخ البشرية قد تجسد في هذا الادب ، مما جعل الادب الفني (المكتوب ) ينهل منه ، ويؤسس على ما ينهل دون وجل ، لانه الاصل .

وفي مطلع الفيتنا الثالثة ، وجد الادب المكتوب نفسه يفود مرة اخرى الى نبعة الاصلي ، لينهل منه ، لان الادب الشعبي الشفاهي – خاصة – مازال النبع الصافي الذي يرتوى به فكانت ( زبيبه والملك ) النص الروائي المكتوب فنيا قد اعاد مر اخرى صياغة تلك العلاقة صياغة جديدة ، بوجهة نظر زماننا ، لا لكي يقدم نصا ابداعيا مشوقا فحسب ، بل نصا ممتلئا بالقيم والافكار السامية التي افرزتها الحضارة العربية الاسلامية في السياسة ، الاجتماع خاصة ..

ان ( زبيبة والملك ) تعيد في الالفيه الثالثه مناقشة هذه العلاقة من جانبين :-

انها كنص روائي حديث ، يعتمد نصا شعبيا شفا هيا ((1)) بعد ان سحبة من مضان التاريخ الشعبي ،

بناء هذه العلاقة في ضوء متطور جديد يعتمد مسيرة وبنبض التاريخ . أي فحصها من خلال ثنائية التراث والمعاصر .

وانطلاقا من هذا ، سندرس العلاقة بين النص القديم (القصة ) والنص الحديث ( الحكاية ) كما قدمها النص الروائي ، والوقوف على تفرزه هذه العلاقة من ظواهر فنية وثيقة الصلة بشعرية النص الروائي الحديث ، من خلال ادوات ومقتربات نقدية حديثة تعتمد نتائج اكثر المناهج النقدية الحديثة في فحص النصوص السردية .

*** ***

-2-

      اعتمدت اغلب النصوص السردية القديمة والحديثة ( شفاهية ومرونة ) في بناء هياكلها على تداخل مستويات السرد . والف ليلة وليلة واحد من تلك النصوص السردية التي مستويات السرد ، اذ بني هيكلة التنظيمي الفني على اربع مستويات سردية ، هي :- ((2))

أ – مستوى السرد الاول، أي حكاية المفتح ، وهي حكاية الملكين شهريار وشاهزمان مع زوجيتهما .

ب – مستوى السرد الثاني ، وهي الحكاية الرئيسية ( حكاية الاطار ) التي تحكيها شهرزاد لزوجها شهريار .

ج - مستوى السرد الثالث ، وهي الجكاية المضمنة في المستوى الثاني للسرد .

د –مستوى السرد الرابع ، وهي حكايات متضمنه في المستوى الثالث للسرد ان هذا التنوع ، لم يات اعتباط ، بل منبعث من داخل نصوص الليالي نفسها . لاسباب تفرضها موضوعات الليالي ، اولا ، ولاسباب لها علاقة بالعناصر السردية للنصوص ثانيا .

ودراستنا هذه معنية اساسا بتفحص ومن ثم دراسة تنظيم البنية السردية لنص ( زبيبة والملك ) كنص روائي حديث ، اعتمد نصا شفاهيا (شعبيا ) .

ان قراءة اولية للنص الماثل بين يدي هذه الدراسة ، توكد على انه قد انبنى داخل هيكل فني اعتمد تداخل ثلاث مستويات سردية ، تولد احدهما من الاخر .

*** ***

-3-

يحكى لنا نص ( زبيبه والملك ) على لسان الراوي ( مجهول الاسم والمعطيات الاخرى ) ان ما وجده في العراق وشعبه من عظيم الامور الجليلة ، قد خرج من حدود المنطق والعجيب والمدهش ، ولما كان عراق اليوم هو امتداد لعراق قبل اكثر من ستة الاف سنة ، فان الماضي ما زال ماثلا بين جنبات الحاضر ، وما زال الحاضر يعتمد الماضي ، ليبني مستقبله ..

والماضي هذا ، هو ما حكته قبل عشرات السنين (( عجوز حكيمة ذكية )) ( ص3 ) وان ما حكته هو حكاية(( زبيبة والملك )) ، اذ ينتقل الحكي ( السرد ) من الراوي الى ( الساردة ) العجوز ، عندما تبدا حكايتها باللازمة الحكائية المعتادة : (( كان ياماكان .. كان في قديم الزمان ، ملك عظيم المكانة والشان ... الخ )) ( ص3 ) . فتخبرنا :- ان مكا خرج في يوم ما للتنزه ، وفي طريقة شاهد قصرا يشبه قصره ، وبجانبه كوخا صغيرا ، فتوجه مباشرة الى ذلك الكوخ ، وهناك استقبلته فتاة شابة جميلة تدعى ( زبيبة ) .. رحبت به ، وضيفته احسن ضيافه في كوخا البسيط ) النظيف ، المنظم .. ومن خلال حوار دار بينهما عن شؤون الحياة ، وجد فيها فتاة ذكية ، واعية ، فارتاح لمجلسها، بعد اكثر من زيارة لها في كوفها ، وعا ها لزيارته في قصره .. وفي اكثر من زيارة للقصر الملكي، ومن خلال المناقشات التي دارت بينهما ، يقع في حبها ،فيما تغير هي الكثيرمن افكاره حول علاقة السلطة بالشعب .. ونظام الحكم ، وعلاقتها هي به كواحد من ابناء الشعب .

وخلال هذه الفترة ، استطاع الملك ، وبتدبير منها كشف محاولة به .. وافشال محاولة تسمية ، ومن ثم اخماد ثورة قامت ضده .. وخلال دفاعها عن القصر الملكي تصاب بجرح بليغ تستشهد من جرائه .

يترك الملك امر شؤون المملكة بيد مجموعة من ابناء الشعب ، كمجلس استشاري ، يناقشون فيه امر الماكة ، واثناء ذلك يموت الملك .. فتنتقل السلطة الى الشعب من خلال هذا المجلس .

واذا كان النص عبارة عن نص حواري طويل ، فان تلخيصة كما في اعلاه قد أخل كثيرا بها حمله من افكار سياسية واجتماعية واقتصادية تخللت حوارات الملك و ( زبييبة ) .. اذ انه عبارة عن رسالة ذات هدف عظيم .. وهذه الدراسةغير معنية بما يحمله من مضامين فكرية لاهتمامها بينائة السردي .

 

*** ***

-4-

مستويات السرد:

ا - المستوى الاول :

يبدأالنص بمفتح عام ، تملأ سطوره اسئلة عديدة ذات طابع فكري ( سياسي واجتماعي ) عام . وهي تؤكد على أن العراق ، هو (بلد الغرائب والعجائب ،والبطولات والمعجزات ) (ص1 ) وفي الوقت نفسه ، لايفرح هذا الباد (الرجل ، ولايوجد فيه هزال ،وليس فيه صفة الهزل ) (ص3 ) ، لماذا ؟

من هنا تبدأ لأجابة .. والاجابة هذه هي نص ( حكاية ) ( زبييبة والملك ) الذي انبنى بشكل حكائي سردي يعتمد الماضي تجاربه الزاخرة بما هو غرائبي / عجائبي (( 3 )) ، أي بما هو واقعي ، لان ما هو غريب او عجيب في دينا البشر ، لايكون كذلك مالم يقترن بتغيير الواقع نحو الاحسن ، والافضل .. عندها يخرج من كونه لاواقعيا الى كونه واقعا ، حادثا ملموسا ..

من هنا يتحرك السرد ، ليقول كل هذا . الا انه يبني نفسه خارج اللحظة ( الأتية تاريخيا ، ليقول بنا الى ما مضى دون ان يخل بشروط ومواصفات الأتي .. لان الاثنين ( الأتي والماضي ) يرتبطان فيما بينهما بروابط وشيجة ، فلا الأتي ليستطيع الحركه بمعزل عن الماضي ، ولاالماضي يبتعد عن الأتي ، وهذا ليس معناه ايقاف لمسيرة التاريخ ، او الرقوع في اللاتاريخية ، وانما معناه ، ان الأتي لم يكن أنيا ، ولايمكنه ان يتجاوز لحظته ليكون مستقبا ، دون من الماضي .. واعتمادا على ذلك ، راح النص يناقش اكبر القضايا الفكرية المطروحة وعلى كافة اصعدة الحياة طرحا غير منقطع الجذور .

اذن ، فان المفتح الذي بنى نفسه من خلال التساؤلات ، كانت علاقته با حداث النص علاقة وثيقة ، لان النص ماهو الا اجابة دقيقة على تلك التساؤلات .

يتأسس النص السردي في عملية الايصال على شخصيتين سرديتين ، هما : الراوي والساردة العجوز وكلاهما لا علاقة لهما باحداث ( قصة ) النص . (( 4 )) .

فالراوي هو من يفتتح النص الروأئي ، ثم يسلم قيادة السرد الى راو أخر ، هو الجدة العجوز التي تأخذ على عاتقها سرد ( قصة ) ( زبييبة والملك ) ، وتبقى متسلكة بوظيفتها السردية حتى النهاية دون ان تسلم السرد الى راو أخر من خارج ( قصة ) النص ، وانما الى بعض الشخصيات الشاركة في صنع احداث ( القصة ) .

ومن خلال علاقة الراوي بالساردة ، يبدأ اول تحول في مستويات السردي ، اذ بتغير الراوي يتحول السرد من المستوى الاول ( حكاية المفتتح ) الى المستوحواها الثاني ( حكاية الاطار ) ، اذ تقوم الساردة العجوز بسردها امام مجموعة الاطفال لمتحلقين حولها في ليلة من ليالي الشتلء قبل عشرات السنين ، وكان الراوي واحدا من ولئك الاطفال الذي سمعوا العجوز وهي تسرد ( قصة ) ( زبيبة والملك ) .

وهكذا يكون المستوى الاول للسرد ، مولدا ل ( حكاية ) كانت قبل ان تدخل النص السردي ( قصة ) من قصص الماضي ، الا ان هذا المستوى ، لايكف عن مولدا المستوى أخر ، جاليا معه عناصر سردية جديدة ، مغارقا لسارد المستوى الثاني ، مسلما قياد السرد الى شخصية من داخله .. هذا المستوى الثالث من مستويات السرد التي صفل بما نص ( زبيبة والملك ) هو عبارة عن مجموعة من الحكايات التي اطلقنا عليها مصطلح( حكايات تضمينية ) ..

ان اسباب قيامه عديدة ، سنذكرها لاحقا .

ب ـ المستوى الثاني :

واذا كنا سنعود مرة ثانية الى تراثنا الحكائي في الليالي، فهذا لايعني وصنع مقارنة بين النص الذي بين يدي الدراسة هذه ، وبين نص الليالي ، بقدر ما نريد التأكيد على ان النص الحديث ، الى يحمل افكارا جديدة عن موضوع قديم فانة بذلك يعودالى الجذور ، وهذا يعني اصالة ما طرح من موضوع هام دون الوقوع في بعض القيود التي يفرضها ذلك التراث (الجذور) .

فنص ( زبيبة والملك ) يني نفسه داخل هيكل حكائي سردي يتطابق والهيكل الحكائي السردي لليالي ، الاانه يفترق عنه في الكثير ، على المستوى البناء وعلى مستوى المطلوب . خاصة تلك المعالجات الفكرية لملوضوعة الاساسية له .

واذا كانت الساردة العجوز قد استلمت السرد في المستوى الثاني ، فهذا لايعني انها اخذت تسرد احداث ( قصتها ) لاول مرة ، وانما الذي قام بذلك هو نفسه( راوي ) المستوى الاول ، بعد ان اعاد لها شخصيتها ( المعنوية ) وسحبها من زمن مرت عليه عشرات السنين الى الزمن الحاضر ( الاني ) ( وقت تدوين الحكاية ومن ثم وقت قراءتها ) ، وراح هو يسرد الاحداث على لسانها .

ان سحب ( الساردة ) من زمنها السردي ( القولي ) الى زمن آخر ، يقابله تغيير في جهة ( المتلقين ) فاذا كان مستمعو ( الساردة العجوز ) في وقت سردها الحقيقي هم مجموعة من الاطفال ، فانها وهي تسرد الاحداث مجددا على لسان الراوي ، فهي تسردها امام اسماع ، أو ( ابصار) متلقين جدد.

ومن الملا حظ في هذا المستوى ، ان راوي المستوى الاول لم يترك ( الساردة العجوز ) لوحدها ، بل راح يتابعها وهي تسرد ( او سبق ان سردت ) احداث ( قصة ) (( زبيبة والملك )) ، فكان يذكر لمتلقيه ما يراه من افعال تقوم بها ، وهي افعال لاعلاقه لها باحداث ( زبيبه والملك ) بل هي من صميم احداث ( الحكاية ) ، وهذا ما ندعوه ب ( تدخل الراوي ) ، وهو تدخل مشروع له وظيفة سردية مهمة ، هي وظيفة كسر زمنية ( القصه ) لبناء زمنه ( الحكاية ) ، وان هذا المستوى من السرد ، راح يقوم بوظيفة توليدية ، اذا انة ، جعل من نفسة اله لتوليد ( قصص ) جديدة ، تدخل في الية ( السرد ) لتأخذ مكانها داخل حدوده بعد ان كانت خارجه .

وهذه ( القصص ) المتولده ، هي لحمة وسدى المستوى السردي الثالث .

ج – المستوي الثالث :

تقوم ( الساردة العجوز ) بتسليم قياد السرد في هذا المستوى الى سارد جديد ،هذا السارد ليس شخصا واحدا ، وانما هو اكثر من شخصيه ، تقوم بسرد (قصت ) ها أي انة راو عليم .

ان ( القصص )التي دخلت المستوى الثاني من السرد ، تحولت مباشر الى ( حكايات تضمينية ) .. وقد جاءت هذه ( القصص ) لدوافع شتى ، كما مذكورة في الجدول ادناه :-

 

الجدول الحكايات التضمينية ( المستوى السردي الثالث )

 

ان الجدول اعلاه ، يبين ، ان كل ( قصة مضمنة ) قد ادخلت في ( حكاية ) ( زبيبة والملك ) ، أي في مستواها السردي الثاني من خلال شخصية لها علاقة باحداث ( القصة ) نفسها . وان هذا الشخصية قد موضعت نفسها مرتين ، مرة كشخصية من شخصيات المستوى السردي الثاني ، وخرى كشخصية من شخصيات المستوى السردي الثالث .

ان المستوى الثاني للسرد ، وهو يفسح المجال للمستوى الثالث ، فان ساروه لايترك الاحداث تنساب على شفاه شخصيات المستوى الثالث ، بل نجد يتدخل اكثر من مرة فية ، وكذلك ، يمكن القول على ( راوي ) المستوى الاول ، اذ ما زال صوته واضحا وجليا في المستوى الثالث . ( انضر على سبيل المثال الصفحات : 11 ، 12 ، 84 ، 85 ، 1.4 ) .

* * * * * *

- 5 -

قطع جريان السرد :

ليس جديدا على الكتابات السردية الحديثة قطع جريان السرد بين فترة واخرى ، ذلك لان الراوي او السارد اكثر فظولا من سلفه الرواي الشغبي . اذا انه لايقبل لسرد لن يسير بعيدا عن سيطرته ، فراح يوقف جريان هنا او هناك تحت ذرائع ودوافع شتى .. فمرة ليغير اتجاه السرد من مستوى الى اخر ، كما فعل راوي المستوى الاول عندما سلم قياد السرد الى ( السارده العجوز ) عندما قال : (( كان ياما كان هكذا روت عجوز ... الخ )) ( ص3 ) اوعندما راح يقطع المستوى الثاني بين فترة واخرى ليخبرنا بافعال العجوز : (( انقطعت الجدة عن الكلام لمتابعة شان من شؤونها في تلك الليلية الشتائية )) ( ص3 )

ان وصفا لافعال العجوز ، هو سحب المتلقي من الاني الى زمن ماض كانت فية العجوزهي صاحبة قياد السرد .

اما عندما كان يخبرنا بافعال من مثل : (( واصلت الحكيمة حكايتها )) ( ص4 ) او (( هنا حاولت الرواية الحكيمة ان تمزح معنا ...الخ )) ( ص4 ) فأنه يريد ان يبرهن امام متلعقيه سيطرته الكامله كل مستويات على السرد .. وهذا ما فعله كذلك على الصفحات ( 42 ، 1.2 ) الا انه ، عندما وجد ان العجوز راحت تتدخل في الكثر من موضع من مواضع السرد ، من مثل : (( اما كيف احبها فاليكم هذا ...)) ( ص7 ) او (( ومن يوميها اقسم الملك ..)) ( ص56 ) (( انتهى كلام الملك )) ( ص59 ) ، راح هو يعيد لنفسه اعتبارها السردي .. ولكن في بعض الموافق ، كان صوته يضيع في صوت العجوز ، لهذا فأن المتلقي لا يستطيع ان يفرق بين الصوتين .. هل هو صوت الراوي ، ام صوت ( الساردة ) .. وتعليقات من مثل : (( ومع انهاء امراة في وضع صعب ، ... الخ )) ( ص47 ) (( انصرف كبير موظفي القصر .. وحسنا فعل الملك )) ( ص91 ) (( الا ينزعج الملوك عندما يظهر ...)) ( ص98 ) وغيرها على الصفحات ( 1.3 ، 1.4 ، 1.6 ،112 ، 113 ، ) .. كل ذلك ، تدخلات غير معروف المصدر. 

*** ***

-6-

بعد هذا الوصف الذي قدمتة الدرسة للسرد في نص ( زبيبة والملك ) يمكننا القول ان النص السردي الحديث وهو يبني نفسه على نص سردي اخر ، فانه يأخذ منه ( القصة ) فقط ، أي الاحداث الطبيعية ، لينتج منها (حكاية ) تنبض بروح سردية جديدة ، تتكيء على عناصر شتى ، كالراوي او الرواة وتداخل مستويات السرد والتلاعب بخطية الزمن .. وهذا مايعطي للنص السردي الجديد شعريتة الجديدة ويعيد لتراثنا الحكائي الشعبي الحياة، ليكون نابضا بها في زمن ليس زمنه ، ليعاد من جديد مناقشة ما يحمله من مضامين وافكار يمكن النظر اليها من زوايا جديد .

 

الهوامش :

1 - ليس المهم ان يكون هذا النص الشعبي قد تم تداوله قبل هذا التاريخ ( شفاها ام تدوينا ) لكن المهم هو اسلوبه وطريقة معالجة الشعبيتين .

2 - انظر دراستنا (( الهيكل التنظيمي لحكايات الليالي – دراسة في فنية الشكل مجلة التراث الشعبي / العدد الفصلي الاول / 1989  .

     ليس المقصود بالعجائبي والغرائبي ماهو خارج طاقة البشر ، أي ( المعجز) .

3 - نقصد بمصطلح (( قصه )) مايدل على الاحداث حسب ترتيبها الطبيعي ، وبمصطلح ( حكاية ) ما يدل على الحدث اثناء السرد .

 

 

 

مورفولوجيا الزمن في رواية ( حين تكونين مع الغيوم )

 

(1)

ليس من جديد القول ، ان الرواية ، كفن سردي ، تعتمد – حالها حال الفنون السردية الاخرى – اساساً ، على عنصرين مهمين – من ضمن عناصر كثيرة – هما الزمان والمكان ، على الرغم من نسبية هذا الاعتماد ، وتأثيره في مسيرة السرد ، . وان من السرود ما يعتمد اساساً على الزمن ، حتى صيّره بطلاً في بعض النصوص .

وقد توصلت المناهج النقدية الحديثة التي درست النص من داخله ، الى اهمية الزمن ، كعنصر فاعل فيه ، فضلاً عن ابراز تنوعاته العديدة ، وصيغ تجلياته .

ان للزمن دور كبير في عملية السرد . اذ انه يقوم بوظيفة هامة وخطيرة ، هي وظيفة تحويل ، تحويل الحدث ( الخام ) ، أي الترتيب الطبيعي للاحداث كما جرت بالفعل ، حقيقة ام تخيلاً ، الى حدث مسرود ، اضافة لذلك ، فأن وجوده في النص ، لم يكن وجوداً مستقلاً ، ذلك لأن عناصر النص الاخرى ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً به ، فالشخصية مثلاً ، لا يمكنها تعيش وتنمو وتتطور في النص خارج نطاق الزمن ومساره ، والحدث كذلك ، لا وجود له خارج النص ، اذ لولا الزمن لما كان هنالك حدث ما ، والقول نفسه ينطبق على المكان ، وعلاقته بالشخصية او الحدث .

في دراستنا هذه ، سنستخدم مصطلحين مهمين ، ونحن نحلل البنية الزمنية في النص الذي بين يدي هذه الدراسة ، هذان المصطلحان هما : ( القصة ) للدلالة على الاحداث حسب ترنيبها الطبيعي ، و ( الحكاية ) ( 2 / 46 ) ( 3 / 73 ) للدلالة على الحدث اثناء السرد .

ان تنوع وتعدد اوجه السرد ، يتأتى اساساً من تنوع وتعدد بناء الزمن في النص .

     وهكذا يحظى الزمن بالاهمية ، فضلاً عن اهمية تحليله ودراسة تركيبه كما يتجلى في النص .

واذ نقوم بذلك في هذه الدراسة ، علينا التنبيه الى مسألة هامة عند دراسة تشكل الزمن في ( الحكاية ) واختلافه كما هو عليه في ( القصة ) ، هي ان النصوص السردية الحديثة تقوم بتشكل زمنها بصورة معقدة جداً ، خاصة اذا كان النص من نوع الحكايات ذات الشكل السردي الذاتي الى حد ما ، و / او الذي يستخدم ضمير المتكلم في تقديم الاحداث ... ويكون التعقيد شديداً عندما ينبني النص على تعدد الاصوات بتعدد وجهات النظر ، او وجهة تقديم الحدث . والنص الذي بين يدي هذه الدراسة من هذا النوع .

وتأسيساً على تلك الملاحظة ، علينا ايضاً ، التأكيد على : ان نصنا – هذا – قد تكون اساساً من ثلاثة نصوص – ثلاث قصص وثلاث حكايات – على الرغم من تداخلها ... يجمع بينها :

• الحدث العام الجامع لها .

• اشتراك الشخصيات الرئيسة الثلاث ، او اثنتين منها ، في احداث النصوص الثلاثة .

وقبل الدخول في تحليل بنية الزمن في النص ، علينا التأكيد على ما يأتي :

آ – ان زمنية النص السردي ، لا يمكنها ان تتجلى بصورة ما ، الا في حالة القراءة ، اذ تبقى هذه الزمنية غير مبنيَنة ( وبدقة اكثر غير مبنية دلالياً ) لأن فعل القراءة – مهما كان نوعها – هو الحقيق بأن يعطي للنص المسرود زمنيته الخاصة .

ب – ان زمن الحكاية الذي ستقوم بتحليله هذه الدراسة ، هو زمن ( مزيف وكاذب ) كما يلو لـ ( جينيت ) ان يصفه بتحفظ ( 2/46 ) . والذي يقوم مقام زمن حقيقي ، هو ( زمن القصة ) . لأن زمن الحكاية هو زمن ( تخييلي ) ابتداء من او كلمة وضعت على خطيته حتى ىخر كلمة تنتهي بها هذه الخطية ، لأن النص ، ومهما كانت الصيغة الزمنية التي يستخدمها في تقديم الاحداث ، يقدم احداثاً قد مضى وقوعها ، وعند اعادة تشكلها مجدداً ، فأن للخيال دور في ذلك التشكل .

*** ***

(2)

منهج الدراسة :

ولكي لا يكون تحليلنا القادم للزمن ضرباً من الكلام المجاني ( علماً ان النقد بكل اشكاله وانواعه هو كلام على كلام ) ، فأن الدراسة ستعيّن حدود تحركها ، وآليات اشتغالها على / وفي النص المختار ، من خلال منهج تتراتب خطواته بحيث تفضي الاولى الى الثانية ، وتستفيد من نتائجها ، وهكذا.

هذا المنهج الذي لا تدعي الدراسة ابتداعه ، سيحلل الزمن وبنيته وفق الطريقة الاتية :

آ – دراسة صيغ الزمن حسب الترتيب الطبيعي للاحداث ( أي كما هي في القصة ) وحسب ترتيبها في النص ( في الاحكاية ) . أي دراسة الصلاة بين الترتيب الزمني لتتابع الاحداث في ( القصة ) وبينه في ( الحكاية ) ، او ما يدعى بـ ( المفارِقات الزمنية ) ( 2/ 47 ) .

ب – دراسة الصلاة بين الفترة الزمنية التي تستغرقها الاحداث ( طبيعياً ) وبين الفترة التي تستغرقها في ( الحكاية ) ، أي ( المدة ) وكذلك ( سعتـ ) ـها .

ج – دراسة التواتر . أي العلاقات الحادثة بين قدرات تكرار وقوع الحدث الطبيعي ( في القصة ) وقدرات ( الحكاية ) في تكرارها .

ومن الجدير بالتنويه ، ان الدراسة هذه لم تكن معنية - اساساً – بأطلاق اية احكام تقييمية ، لأنها دراسة وصفية ، تهدف الى فهم دقيق لبعض القضايا الفنية التي يطرحها الخطاب السردي في ادبنا الروائي العراقي الحديث ، انطلاقاً من النص نفسه ، وهذا لايعني جعل المنهج النقدي الحديث مسطرة نقيس من خلالها هذه الظاهرة او تلك ، وانما جعلنا النص هو الذي يسيّر المنهج في اكثر من مثابة ، لكي لا يكون المنهج قيداً ثقيلاً على النص .

 

*** ***

 

(3)

 

مورفولوجيا الزمن :

آ - صيغ الزمن وترتيبها في الحكاية :

في العربية ، هناك ثلاث صيغ عامة للزمن ، هي الماضي والحاضر والمستقبل ، ويعتمد الزمن ( الادبي ) على الماضي خاصة ، لأن مايريد الأخبار عنه ( او سرده ) النص الابداعي هو ما حدث في الماضي ( اذا تجاوزنا نصوص الخيال العلمي المستقبلية ) . اما زمن الحاضر ، فأنه زمن ( نصي ) وليس طبيعي . لأن النص عندما يستخدمه لكي يتحدث عن احداث قد وقعت في الماضي ( وينطبق هذا القول على نصوص التراسل والمذكرات كذلك ) .. وهكذا تأتي تسلطية صيغة الماضي على كافة صيغ الزمن الاخرى .

ولكي يكون تحليلنا لبنية الزمن دقيقا ً ، سنستخدم لصيغة الماضي تدرجات زمنية ، من مثل الماضي ، والماضي القريب ، والماضي االبعيد ، نسبة الى حاضر الزمن النصي .

ولما كان على النص ، أي نص ، ان يحدد بداية انطلاقه منذ اول كلمة ينطق بها ، فأن نقطة البداية في نصنا قد تحددت – زمنياً – من لحظة افاقة ( حازم ) من نومه عندما نادت عليه زوجته ( علياء ) اثناء القصف الجوي ( عند بدء العدوان الامريكي عام 1991 ) ، اما بقية الاحداث ، وازمانها ، فقد تمددت يمين وشمال هذه النقطة .

ولو تمعنا في الترسيمة التالية ، لعرفنا مدى الاختلاف البيّن في طبيعة الزمن ، بين ان يكون زمناً قصصياً ، وبين ان يكون زمناً حكائياً ( سردياً ) .

 

ترسيمة خطوط الزمن (الشكل - 1)

 

ان ما يعني هذه الدراسة ، هو زمن الحكاية . أي التقنية التي استخدمها النص لترتيب الزمن على خطيته ، بعيداً عن خطية الزمن الطبيعي ( زمن القصة ) .

وكمثال على ذلك ، يمكن تتبع ترتيب الزمن في القسم الاول من الفصل الاول والذي يمتد على مساحة ( 16 ) صفحة ، من الصفحة (7) ولغاية الصفحة ( 22 ) كما في الجدول ادناه :

 

الشكل- 2 ترتيب الزمن

 

ح = حاضر . م ب = ماضي بعيد (طفولة) . م ق = ماضي قريب (زمن الحرب العراقية الايرانية ) س = المستقبل ( استباق الاحداث ) .

هكذا تبدو خطية زمن الحكاية ، أي ترتيب الزمن في النص . وان دراسة هذه الخطية ، هي دراسة لـ ( المفارِقات الزمنية ) في النص .

*** ***

ب – المفارِقات الزمنية :

ونعني بها ، اشكال التنافر بين الاحداث ، او المقاطع الزمنية في الحكاية .

ولما كانت دراسة المفارِقات الزمنية لأي نص ، تستدعي معرفة درجة الصفر ( المقترحة ) بين ( القصة ) و( الحكاية ) أي حالة التوافق الزمني التام بين الحكاية والقصة ( 2/ 47) ، الا ان معرفة تلك الدرجة – رغم افتراصيتها – تحيط بها الصعوبات ، كون هذا النوع من النصوص ، ذات الطابع الاستذكاري ، لا تتوافق فيه زمنيته وزمنية القصة التي يعتمد عليها ،الا اننا سنحاول قدر الامكان الوصول اليها وتحديدها ، من خلال تحديد بداية زمن ( القصة ) لكل نص من النصوص الثلاثة المكونة للنص .

فـ ( حازم ) يسرد قصته بضمير المتكلم على مساحة فصلين (الاول والرابع ) منذ ان كان صبياً في العاشرة من عمره ، حتى انتهاء حكي هذه القصة ، الا انه يبدأ سردها من لحظة بداية القصف الجوي (عام 1991 ) عند سماعه لصوت زوجته وهي توقظه من النوم . (ص13)

اما زوجته ( علياء ) فأنها تحكي قصتها بضمير المتكلم ايضاً ( الفصل الثاني ) ابتداء من خطبتها لابن خالتها (ماهر ) عندما كانت طالبة في الكلية (ص34) حتى افاقتها من غيبوبتها .(ص59)

الا انها تبدأمن زمن لقائها بـ ( حازم ) . ( ص33)

فيما راح (ناصر) يحكي قصته بضمير المتكلم ( الفصل الثالث) من لحظة تعرفه بـ (حازم ) في جبهة القتال حتى لقائه في البستان .

اما على صعيد ( حكايته ) فيسردها من لحظة جلوسه غروب يوم ما من ايام الحرب العراقية الايرانية مع ( حازم ) حتى الالتقاء به في البستان . وهذا لايعني تطابق في خطية الزمنين ، لأن بين هذين التحديدين يأخذ الزمن مسارات ترددية .

اما بالنسبة لوقت لقاء ( حازم ) بـ ( ناصر ) فأن كل الدلائل تشير الى ان اللقاء قد تم في بداية الحرب العراقية الايرانية .

اما لقاء ( حازم ) بـ ( علياء ) فأن الدرئل تشير الى انه قد تم في السنة الرابعة للحرب . اذ بعد شهر واحد على تعارفهما ، تطلب منها امها ان تخلع ثوب الحداد ، لأن (( اربع سنوات كافية لخلع ثوب الحداد )) . (ص4.)

ومن خلال زمنية هذه اللقاءات ، يمكن وضع الترسيمة التالية لتبين الزمن الخارجي للقصة :

 

ترسيمة تبين الزمن الخارجي للقصة الشكل /3

 

من خلال المرتسم اعلاه ، يمكن حساب الزمن الخارجي ، أي زمن ( القصة ) ، وكما في ادناه :

اولاً : ان زمن قصة ( علياء يمتد على مساحة ( 13) سنة ، ابتداء من عام 1979 م عندما كانت طالبة في السنة الاولى في كلية العلوم . ولما كانت الحرب العراقية الايرانية قد بدأت في شهر ايلول 198. م ، فأنها كانت في بداية سنتها الثانية (1) . وتنتهي القصة في عام 1991م اثناء القصف الجوي الامريكي .

اما زمن ( حكايتـ ) ها فيمتد على مساحة فصل واحد ويقع في (27) صفحة من الصفحة (33) ولغاية الصفحة ( 59 ) وفي سبعة اقسام . (2)

اما درجة الصفر بين زمنها وزمن ( حازم ) فهي السنة الرابعة من القادسية .

ثانيا- ان زمن ( قصة ) ( ناصر ) ، يمتد على مساحة (12 ) سنة ، ابتداء من عام 198. ، أي من بداية ( القادسية ) وتعرفه على ( حازم ) حتى لقائه مرة اخرى بـ ( حازم ) عام 1991 في بستانه .

اما زمن ( حكايتـ ) ـه ، فيمتد على مساحة فصل واحد بـ ( 21 ) صفحة من الصفحة ( 61 ) ولغاية الصفحة ( 81) في خمسة اقسام. 

ثالثا – ان دراس زمن ( قصة ) حازم ) تلاقيه صعوبة كبيرة في مهرفة بداية الانطلاق اذ لاتوجد اشارة ، او تلميح لذلك ( لايشير الى ميلاده .. ثالا ) لهذا ، فاننا سنلجأ الى التخمين . فعلى اعتبار انه خريج كلية ، وقد تخرج فيها وهو في الثانية و العشرون من عمره ، ثم سيق الى الخدمة العسكرية ، ليقضي فيها عامين ، فيكون عمره عند التسريح منها اربع وعشرين عاما .. بعدها عين بوظيفة محاسب .. ولنفترض انه ظل في الوظيفة عامين – على اقل تقدير – فيكون عمره عند دعوته لخدمة الاحتياط ست وعشرين عاما اثناء معركة قادسية صدام يضاف لذلك سنتان فترة الخطوبة ، فيكون مجموع عمره عند الزواج ثماني وعشرين عاما ، وهو سن منلسب للزواج وقتذاك . وبناء على ذلك . يبدا زمن ( قصتـ) ـه

تمتد على مساحة زمنية قدرها سبعة و عشرين سنة .

اما زمن ( حكايتـ ) ـه ، فانه يمتد على مساحة فصلين ( الاول والرابع ) و بـ ( 45 ) صفحة من الصفحة (7) ولغاية الصفحة ( 32 ) . ومن الصفحة (83) ولغاية الصفحة (1.1) . وبواقع اربعة اقسلم ، ثلاثة منها في الفصل الاول .

ان اكبر مساحة كل قسم من اقسام الفصل الاول ، وكذلك امتداد الفصل الرابع على فصل واحد ، يدل على اهمية هذه الشخصية في النص ، خاصة وانها ترتبط بعلاقات مؤثرة مع الشخصيتين الاخريتين .

وبهذا تكون درجة الصفر بين زمن القصة وزمن الحكاية بالنسبة لـ ( علياء) هي السنة الرابعة للقادسية . اما بالنسبة لـ( ناصر ) فهي عام 198. م اما بالنسبة للنص الروائي – بصورة عامة – فان درجة الصفر هي زمن ام المعارك ، لن الثلاثة قد التقوا سوية في بستان ( ناصر ) وقد تم الاضبار بما جرى ( الحكاية ) بعد هذا التاريخ .

*** ***

اشكال المفارقات الزمنية :

بعد تحديد نقطة الصفر ، وهو تحديد خاص بقضايا الترتيب ، فان هناك العديد من اشكال المفارقات الزمنية التي تنتجها دراسة مورفولوجيا الزمن ، والتي لها علاقة بالتنافر الزمني على مستوى الترتيب ، كاللواحق والسوابق .

اولا: اللواصق :-

يذكر ( جينيت ) ان اللواصق ، اوما يسمسها ( الاسترجاعات ) ( 2/6.) تشكل ((بالقياس الى الحكاية التي يندرج فيها – التي ينضاف اليها – حكاية ثانية زمنيا )) وهي (( عملية سردية تتمثل في ايراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد )) ( 5/ 76) ، وهي على نوعين :-

 

استرجاع خارجي - يعود الى ما قبل بداية الرواية .

استرجاع داخلي - يعود الى ماضي لاصق لبداية الرواية قد تاخر تقديمة في النص . (3)

قليلة هي اللواصق الخارجية . أي الاحداث التي وقعت قبل الفترة التي استغرقها زمن النص وتذكرها الشخصية لاسباب كثيرة .

فعندما يستذكر والد( ناصر ) – عندما يطلب منه الاخير ان يخطب له ( كميلة ) الظروف التي تعرف بها على ( ام ناصر ) ، وكيف احبها ، ومن ثم الزواج منها (ص69-7. ) . فان ميذكره عبارة عن استرجاع لمامضى من الزمن . حاء ليسد ثغرة في زمن الحكاية . وان سبب ايرادها ، ما تحمله من دلالات اجتماعية ، تؤكد على ان الابن على سرأبيه .

وكذلك بالنسبة احكاية والد ( حازم ) التي يقوم بسردها ( حازم ) اذ تعتبر من اللواصق الخارجية ، أي خارج زمن ( القصة ) ( ص16- 17 ) .

والقول نفسه بالنسبة لما تستذكره ( علياء ) من معلومات عن طفولتها مع ( ماهر ) الذي يكبرها بسنوات اربع ( ص34 ).

اما بالنسبة للاسترجاع ات الداخلية ، فقد حفل النص ، وخطيته الزمنية وهي على انواع ، مثل الاسترجاعات التكميلية (( التي تضم المقاطع الاستعادية التي تاتي لتسد بعد فوات الاوان ، فجوة سابقة في الحكاية ))(2/62) . والنوع الثاني ، هي استرجاعات ( النقصان ) (2/62) .

 

ومن امثلة النوع الاول ، مايرويه ( حازم ) امام عائلة ( ناصر ) وزوجتة في دار ( ناصر ) من احداث مرت به اثنلء الهجوم المعادي في معارك القادسية ، والتي سبق ان نوه في الصفحات (8-9 ) وكذلك التي نوه عنها ( ناصر ) في الصفحات ( 71-72 ) فاعادها ( حازم ) بالتفصيل على الصفحات ( 88 – 95 ) .

اما الحذوف الجانبية ( أي النقصان ) والتي (( لها طابع زمني اقل صرامة ، والتي لا تقوم على الغاء مقطع تزمني ، بل على اسقاط احدا العنلصر المشكله للوضع ، في مرحلة تشملها الحكاية مبدئيا )) . فهي قليلة .

وكمثال على ذلك ، ما تستذكره ( علياء ) عن عائلة ضابط الشرطة ( ابو مهند ) وزوجتة المدرسة ( ص 43-44 ) . اذ ان هذا الاستذكار لايؤثر على خطية زمن الحكاية ذكر ام يذكر .

 

ثانيا : السوابق :

يسميها ( جينيت ) بـ ( الاستشراف) (2/76) . وتعرف ، بانها (( عملية سردية تتمثل في ايراد حدث ات او الاشارة اليه نسبقا ))( 5/ 76) . وهي ايضا على نوعين ، داخلية ، وخارجية ، نسبة الى المدى الزمني .

واذا كان السرد التقليدي يخلو الى صدما من هذه المفارقة الزمنية ، فانها في السرود الحديثه اكثر ملائمة كما يذكر ( جينيت ) ( 2 / 76) ولكن النص الذي بين يديهذه الدراسة شبه خال منها ، ذلك لانه يعتمد في تقديمالاحداث على ضمير المتكلم ، حيث ان الرواي ( يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء ويعلم ماوقع ، قبل وبعد لحضة بداية القص ويستطيع الاشارة الى الحوادث اللاحقة دون اخلال بمنطقية النص ومنطقية التسلسل الزمني )) ( 4/ 44) اضافة لذلك ، فان تفكير الشخصية مرتبطا اساسا بالماضي ، ولا مجال اها للتفكير بما سياتي .

ومن الامثالة القلية للسوابق الداخلية ، هو ما ذكره ( حازم ) من ان قوات العدو (( ستهاجم خلال الساعات القادمة )(ص 14 ) . الاانه ياتي متاخرا ، اذ يذكره بعد وقوع الحدث .

وكذلك ماورد من ( اعلان ) عن تعيين ( علياء ) في بداية القسم الاول من الفصل الثاني عندما يحاول والدها ان يثنيها عن عزمها في قبول التعيين في محافظة جنوبية .وتتم الموافقة في القسم الذي هو عبارة عن حوار بين علياء ووالدها يقع في النصف صفحة اماالنوع التاني من السوابق ، فهو مايذكره والد ( حازم ) من انه سيموت في مكان عمله (( كالحمار ولكنني ساترك لي ولدا يحمل اسمى في الاقل ))( ص17 ) . وقد حدث الموت في مكان اخر خارج نطاق زمن ( القصه ) أي قبل ان يكون ( حازم ) عشر سنوات . رغم ان الجزء الاول من هذه النبؤءة )) جاء مخالفا ، لموت والد ( حازم ) في مكان اخر تحت عجلات القطار ) ، الاان جزها الثاني قد تحقق .

*** ***

ج / تحليل خطية زمن حكاية :

     لما كان النص الروائي قد كتب بعد انتهاء الاحداث كلها بعملية استذكارية تشبه المذكرات ، مع انثيالات غير منظمة لها ، فان نقطة الصفر في الزمن للقياس عليها ستكون هي اخر محطة زمنية في النص ، وهي زمن احداث ام المعارك ، أي زمن الحاضر ( المستوى / آ ) . ويبدأ هذا المستوى في الثلث الاول من الفصل الاول (ص13) عندما تحاول ( علياء ) ايقلض زوجها من نومه عند بدا القصف الجوي المعادي .

    لهذا ، فان ماورد من احداث ما قبل هذا التاريخ يعتبر من اللواحق ، وما بعده فهي من السوابق .

ان محض صيغ زمن الحكاية قد توصل الى ان هذه الصيغ هي اربع : -

اولا :- زمن الحاضر ابتدا من القصف الجوي المعادي في ام المعارك . ( المستوى الزمني /أ ).

ثانيا : - زمن الماضي القريب (ويمتد بين نهاية القادسية وبداية ام المعارك )( المستوى الزمني / ب )

ثالثا :- زمن الماضي ( فترة القادسية ) المستوى الزمني / ج ).

رابعا :- زمن الماضي البعيد( زمن الطفولة ) ( المستوى الزمني / د ). اما صيغ الزمن في ( القصة ) – أي الزمن الطبيعي – فقد تدرجت حسب  التسلسل الآتي :-

1 - زمن الماضي البعيد .

2 - زمن الماضي .

3 - زمن الماضي القريب .

4- زمن الحاضر .

ولتحليل خطية زمن الحكاية لمعرفة المفارقات الزمنية والمفاصل التي تقف بين زمنين متنافرين ، سنختار القسم الاول من الفصل الاول ، لالانه اطول قسم في الرواية فحسب ، بل لانة قد تجسد فيه التنافر بصورة حادة معقدة .

وقد كانت نتائج الفحص ، كما يأتي :

 

جدول / 1

من الجدول علاه ، يتوضح لنا تساوي زمن المقاطع النصية ( د ، ج ) التي تقع ضمن المستويات الزمنية ( 1 ، 2 ) من زمن القصة .

ان المقاطع النصية (د ، ج ) ماهي الالواحقا نسبة الى احداث زمن ( أ ) وهذا يدل على ان للماضي بنوعيه ( د ، ج ) تأثير كبير على حاضر الشخصية.

في المقاطع الشخصية ( 14 ، 17 ، 19 ) المؤشرة بالاسهم ذات الرأس السفلي ( ) ترد ( استباقات ) اما في المقطع النصي ( 14) المؤشر بالسهم ذي الرأس العلوي ( ) فيضم لاحقة واحدة .

اما نتيجة تحليل الفصل الثاني كما في الجدول / 1 ، فهي :

 

 

د - نتائج تحليل خطية الزمن :

من خلال خطية الزمن ، يمكن التوصل الى النتائج التالية :

اولا: سرعة جريان زمن الحكاية :

ومن خلال النتائج اعلاه ، نرى:

1 - ان حازما قد روى قصته الممتدة على مساحة (27) عاماوبسرعة (4و12) يوم لكل سطر ، وهي سرعة عالية جدا ، ذلك لان حازما قد ااسقط من قصة حياتهفترات زمنسة كثيرة ، وهذا ما سنعرفه بعد قليل .

2 - روت علياء احداث قصتها الممتدة على مساحة (13) عاماوبسرعة (2و9) يوم / سطر . وعلى الرغم من ان السرعة هذه بطيئة نسبة لسرعة احداث قصة حازم الا انها سريعة ايضا .

3 - اما ناصر فقد كانت سرعة احداث قصته المروية سريعة ، الا انها كانت اقل من سرعة حكاية حازم واكبر من سرعة جريان حكاية علياء .

ثانيا : الحركات السردية :

ان تحليلتلك الحطية في زمن الحكاية سيعيننا كثيرا في تلمس اسباب مثل هذه السرعة ، وذلك من خلال التوصل الى نوعية الحركات السردية التي توزعت على طول تلك الخطية .

وقد توصلت نتائج التحليل الى ان هناك اربع حركات سردية استخدمها النص الروائي المفحوص ، وبعيدا عن الصعوبات التي تحدثنا فيها عن كيفية تحديد المقاطع الزمنية في النص ، يمكن القول : ان تأشير تلك الحركات يمكن الوصول اليه من خلال الرجوع الى المخططات التحليلية التي انتجتها هذه الدراسة لاكثر من قراءة للنص .

ولو اخذنا الفصل الثاني من النص - على سبيل المثال - ، وفحصنا مخططاته (التجريبية) لامكن تأشير ما يلي :

* ان زمن الاحداث - من بداية الفصل(ص33) وحتى نهايته(ص56) - يمتد على مساحة عشر سنوات ، ثمانية منها تمتد على مساحة طباعية من (ص33) وحتى (ص54) ، اما الصفحتان الباقيتان فقد خصصتا للسنتين الباقيتان (سنوات ما بعد الحرب العراقية الايرانية ).

* ان الحركات السردية التي احتواها النص ، هي :

1 - الاضمار(الحذف ) (ز ح < زق) (2/109) :

وهو: ((الجزء المسقط من "القصة"(4)اي المقطع المسقط في النص من زمن "القصة"... سواء نص السارد على ديمومة هذا الاسقاط ، كأن يقول "ومرت خمس سنوات ")) (5 / 89 ).

آ - بين الفصلين الاول والثاني يحدث (اضمار ) لسنتين ، وهو من نوع الاضمار المذكور، اذ ان تعيين (علياء) قد حدث بعد تخرجها ، اي بعد سنتين من استشهاد (ماهر) على الرغم من ان التعيين قد تم الاعلان عنه في الفصل الثاني عندما حاول والدها اقناعها بعدم التعيين في محافظة جنوبية بعيدة .

ب - في القسم الثالث (ص38) تحذف (علياء) اربع سنوات من عمرها (بعد استشهاد ماهر) لم نعرف ما فيها من احداث ، اثنتان منها وهي طالبة في الكلية ، واثنتان بعد التعيين ، (هناك احداث قليلة تذكرها ، منهاتعيينها ، ورؤيتها لحازم) وهي من الزمن المضمّر المنوه عنه في النص .

ج - بين القسم الثالث واغلقسم الرابع ، هنالك اضمار لثلاثين يوما ، تذكرها (علياء) صراحة :((لم اشاهده منذ ثلاثين يوما)) (ص43).

د - في بداية القسم السادس (ص49) تذكر لنا ان خطبتها قد مضت عليها سنتان .

هـ - كذلك في (ص54) تذكر انه قد مرت على زواجها سنتان ، وبعد اسطر تقول : ((انهينا السنة الثالثة في الزواج والحرب))(ص54).

2 - المجمل (زح < زق) (2 / 109) :

وهو : ((سرد ايام عديدة او شهور او سنوات من حياة شخصية بدون تفصيل للافعال او الاقوال وذلك في بضعة اسطر او فقرات قليلة))(5 / 85).

ان فاحص زمن الحكاية في هذا النص ، يجده عبارة عن مجمل كبير ،وان المخطط التجريبي الذي انجزته الدراسة للفصل الثاني يؤشر اكثر من مجمل ، فلاحداث المدونة في الصفحات (38 ، 39 ، 4. ، 41) هي مجامل لازمان امتدت في (القصة) على مساحة ثلاثة اشهر. اما الصفحة (42) فهي مجمل لاحداث زمنها في (القصة )ثلاثين يوما ، وفي الوقت نفسه ، نجد ان الصفحات (42 ، 43 ، 44 ،45 ، 46 ، 47 ، 48 ) هي مجمل لزمن مقداره شهرين . اما الصفحات (49 ، 50 ، 51 ، 52) فأنها مجمل لسنتين ، فيما الصفحة (45) هي مجمل لاحداث امتدت على مساحة سنة واحدة .

وان فحصا دقيقا للمخطط التجريبي لها الفصل يرينا ان داخل هذه المجامل مجملات اخرى ، من مثل :

ا - اختصار فترة ثلاثة اشهر في ستة اشهر . اذ تذكر انها قد زارت بغداد ثلاث مرات .

ب - يتقلص زمن فترة الزفاف من خمسة ايام ليكون في الحكاية في (14) سطرا، دون سرد لاحداثه .

3 - الوقفة (زح > زق) (2 / 109):

وهي : ((التوقف الحاصل من جراء المرور من سرد الاحداث الى الوصف ، اي الذي ينتج عنه مقطع من النص القصصي تطابقه ديمومة صفر على نطاق القصة))(5 / 86).

ان اهم ما يتص به النص الروائي الذي يعتمد اسلوب التذكر ،هو عدم استخدام الوصف الا نادرا، لانه معني اساسا في تقديم الحدث ، كون الشخصية التي تدون الاحداث التي مرت بها ، ليس لها المزاج الكافي لان تصف ما ترى الا ما هو ضروري وله علاقة بالحدث المروي ، وان المخطط التجريبي يبين : اننصنا يخلو من الوقفة التي اساسها الوصف الخاص ، الااننا وفي بعض المقاطع السردية نلتقي بوصف قصير ممتزج بالحدث ولا يفترق عنه ،ذلك لانه يدخل في نطاق التجربة الحسية للشخصية نفسها ، وهذا الوصف لا يدخل ضمن مفهوم الوقفة ، وانما ضمن مفهومالمشهد .

4 - المشهد (ز ح = ز ق )(2 / 109):

وهي : المشاهد التي ((يكاد يتطابق فيها زمن السرد بزمن القصة من حيث مدة الاستغراق))(3 / 78).

ومن الامثلة على ذلك : الحوار الخاص ، على الرغم من بعض الشكوك التي يبديها بعض الكتاب حول ذلك (2 / 109) .

واذا كان الحوار بين شخصيتين او اكثر يستمر لفترة زمنية محددة من زمن (القصة) ، فأن الزمن الذي يستغرقه من زمن (الحكاية) يساويه بالضبط ، اذا كان يخلو من اية توقفات زمنية طويلة .

اما النوع السردي الاخر من انواع المشاهد فهو الوصف . واذا كان المخطط التجريبي لهذا الفصل لا يحتوي على مثل هذا النوع ، فهذا لا يعني خلو النص الروائي بأكمله . فالصفحات (8 ، 13 ،21 ،83 ، 91 ،92 ،95) نحفل بمثل هذه المشاهد .

***

هـ - التواتر :

بعد تحليل البنية الزمنية للنص حسب الترتيب الزمني بين ما هو عليه في (القصة) و بين ما هو حاصل في (الحكاية ) وكذلك حسب الديمومة (الاستغراق الزمني - 3 / 75 ) ، فأن السطور القادمة ستقدم تحليلا للبنية الزمنية حسب التواتر ، اي مجموع علاقات التكرار بين (القصة) و (الحكاية) ، او ((اجترار الحدث الواحد)) (2 / 129).

ومن المعروف ان هناك اربعة انماط من علاقات التكرار(2 / 130) وان النص الذي بين يدي هذه الدراسة استخدم ثلاثة منها ولم يستخدم نمط ( رواية اكثر من مرة ما حدث اكث من مرة ) كون البنية الزمنية لهذا النص لا تتحمل مثل هذا النمط للاسباب التي جئنا على ذكرها في السطور السابقة .

ان انماط التكرار التي توصلت اليها تحليلات البنية الزمنية للنص ، هي :

اولا - حكاية تروى مرة واحدة ما وقع مرة واحدة :

اي ((الحكاية التفردية))(2 / 130). وقد حفل نصنا بمثل هذا النمط، ولا مجال لذكر امثلة لذلك اكثرتها .

ثانيا - ان يروى مرات لا متناهية ما وقع مرة واحدة :

او ما يسمى ((الحكاية التكرارية))(2 / 131). ومن الامثلة التي طبقها النص :

(1)    تكرار رواية حادثة لقاء (حازم) بـ (ناصر) في البستان (ص 8. ، 85).

(2)    (2) اعادة رواية حادثة القصف واغماءة (حازم) (ص 8 ، 71 ،88).

(3)    (3) تكرار رواية حادثة الاب المفجوع بموت عائلتهبالقصف (ص 30 ، 59).

(4)    ثالثا - ان يروى مرة واحدة (بل دفعة واحدة) ما وقع مرات لا نهائية :

(5)    (1 ) تذكر (علياء) لقاءها مع (حازم) فتقول : ((توالت لقاءاتي مع حازم عبد الحميد ...)) (ص 49) . اذ انها لا تذكرعدد المرات التي تم فيها اللقاء .

(6)    (2) تذكر (علياء) انها زارت بغداد ثلاثة مرات في ثلاثة اشهر (ص 40).

(7)    (3 ) تذكر كذلك : ((تمضي ايامنا بمودة وحب ، عشنا الساعات واللحظات والدقائق ، صديقين حميمين يلمنا الليل وحتى ساعات متأخرة من النهار في بيتنا الصغير الذي اصبح ملاذنا الامثل لحياة جميلة ))(ص 53).

(8)    (4) وكذلك قولها : ((مخرت على زواجنا سنتان، كنت احلم خلالهما بطفل يعوض ...))(ص 54).

(5 ) وتقول كذلك : ((وفي يوم من ايام التجوال المعتاد بين العوائل التي ازدحمت ...))(ص 80).

***

و - التزامن:

ان تحليل البنية الزمنية للنص الروائي لهذه الدراسة ، يبين ان تزامن حدثين او اكثر في زمن واحد يخلو منه النص ، ذلك لان النص قد اختار واصطفى بعض الاحداث التي ذكرها بسبب تأثيرها المباشر على الشخصية .

الا اننا نجد ان هنالك تزامنا حاصلا بين احداث النصوص الثلاثة التي يجمعها نص الرواية ،اذ ان المرتسم المذكور في فقرة (المفارقات الزمنية / الزمن الخارجي) يبين ان الاحداث التي مرت على(علياء) او (حازم) او (ناصر) قد تزامنت اغلبها فيما بينها.

***

 

نتائج عامة :

أ - من خلال الجدول /1 الوارد في فقرة تحليل خطية زمن الحكاية ، يمكن استنتاج الاتي :

ان التعامل الحاصل بين عدد مرات ورود المقاطع النصية (د ، ج) في النص ، يشير الى مدى التأثير الكبير للماضي على الشخصية ، اولا ، وثانيا ، يشير الى ان هذا القسم - وهو قسم استهلالي للنص - هو المكان الذي تبدأ فيه الازمان بالتحرك على مساحة النص كله ، فيما نجد المقطع النصي (ا) والذي يقع ضمن المستوى الزمني (4) يرد اربع مرات ، لانه زمن الحاضر ، زمن الانطلاق بالاستذكار .

  ب - اما الجدول / 2 في الفقرة نفسهااعلاه، فأنه يبين ان الزمن المهيمن في هذا الفصل هو زمن الحرب العراقية الايرانية ، ذلك لما لاحداثه بالنسبة (لعلياء) من تأثير بالغ الاهمية عليها، اذ انها في هذه الفترة :

د خطبت لـ (ماهر) ثم استشهاده ، وتعرفها ومن ثم زواجها من (حازم).

ج - اما الجدول ، 3 ، فيبين كذلك هيمنة زمن الحرب (المقطع ج) على حياة (ناصر) ، ذلك لان هذا الاخير راح يتحرك بين قطبين مهمين بالنسبة له ، هما :حزم وكميلة وعلاقته بهما كانت وثيقة ، وزمن تلك العلاقات هو زمن الحرب العراقية الايرانية .

د - ومن التحليلات السابقة ، والنتائج التي توصلت اليها ، يمكن القول ان المقطع النصي (ج) الخاص بالحرب ، هو المهيمن الكبيرعلى زمن النص وشخصياته ، لا لان الحرب قد امتدت لثمان سنوات فحسب ، بل لان الاحداث المهمة في حياة شخصياته قد وقعت في هذا الزمن ، فضلا عن اكمال بناء الشخصيات اجتماعيا فيه (الزواج وتكوين العائلة).

هـ - واخيرا ، فأن ما يمكن التوصل اليه بعد هذا التحليل لبنية الزمن في رواية زيدان حمود (حين تكونين مع الغيوم) هو ان زمن النص الروائي ، والذي يعتمد احداثا ممتدة على فترة زمنية طويلة يحتاج الى سعة اكثر من زمن الحكاية ، الا ان التقاليد الروائية الحديثة ، ولاسباب موضوعية ، كتراجع استهلاك النصوص الروائية من قبل القراء في زمن تطور وتقدم وسائل الاعلام المرئية خاصة ، وكذلك الحاجة الى الانتاج السريع (عصر السرعة) ، واسباب ذاتية لها علاقة بالمبدع وامكانياته الابداعية، لكل ذلك ، ولغيرها من الاسباب ، راح الميدعون يؤسسون تقاليد روائية جديدة ، اهمها قصر النص الروائي ، دون الابتعاد عن الشروط الفنية للعملية الابداعية .

***

الهوامش :

1 - من المعروف ان السنة الدراسية في العراق تبدأ في منتصف شهر ايلول من كل عام .

2 - الصحيح ثمانية اقسام ، ولا ارى سببا يدعو الكاتب الى عدم جعل القسم الاخير الذي افرده عن القسم السابع بنجوم ثلاث ، قسما مستقلا .

3 - هنالك نوع ثالث ، هو الاسترجاع المزجي الذي يجمع بين النوعين ، سنهمله في هذه الدراسة .

4 - بسبب سوء الترجمة ، يجعل مؤلفا كتاب (مدخل الى نظرية القصة ) مصطلح القصة ، (اي الاحداث الطبيعية) مقابلا لمصطلح (الحكاية) وقد قمت بتبديل كل مصطلح بأخر في كل فقرة اقتطعتها من كتابهما وردت فيها هذه المصطلحات .

***

المصادر:

1 - حين تكونين مع الغيوم - رواية - زيدان حمود - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد - 2000 .

 2- خطاب الحكاية - بحث في المنهج - جيرار جينيت - تر: محمد معتصم وعبد الجليل الازدي وعمر حلي - المجلس الاعلى للثقافة - ط2 - 1997 . ( الارقام المثبتة في متن الدراسة يدل الاول منها على تسلسل المصدر والرقم الثاني على رقم الصفحة).

3 - بنية النص السردي - د . حميد الحمداني - المركز الثقافي العربي - ط2 - 1993 .

4 - بناء الرواية - د . سيزا احمد قاسم - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1984 .

5 - مدخل الى نظرية القصة - سمير المرزوقي وجميل شاكر - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد - 1986 .

 

 

القصة في ذي قار

مقترب تاريخي ... عبد الرحمن الربيعي انموجا

الناصرية 12 / 11 / 1994

 

(1)

كان ذلك في اواخر عام 1963 م ، وبدايات عام 1964 م ... اي عندما انهيت الدراسة الابتدائية ، ودخولي عالم الدراسة المتوسطة ، في ذلك العام الدراسي وجَدَت قدماي طريقهما الى المكتبة المركزية العامة في الناصرية ( مركز محافظة ذي قارحاليا).

كانت بناية المكتبة - وقتذاك - في المكان الذي ينتصب فيه - حاليا - نصب الاول من حزيران ، مقابل بناية المحافظة . (1)

اصبحت بناية المكتبة ، بقاعاتها الواسعة ورفوف كتبها العديدة المليئة بالكتب ، بيتي الثالث الذي كنت اقضي فيه شطرا من نهار يومي بين الكتب وصفحاتها الصفراء ، فيما كان دار والدي الواقع بالقرب من محطة توليد الطاقة الكهربائية القديمة ، البيت الاول الذي اقضي فيه الليل فقط ، اما المدرسة الشرقية الابتدائية ومن ثم متوسطة الناصرية قرب بستان حاج عبود ، وبعدها اعدادية الناصرية في بنايتها القديمة التي تشغلها حاليا الاعدادية المطورة ، ومن بعدها البناية الجديدة لها قرب الاسكان العسكري ، فقد كانت هذه البنايات هي بيتي الثاني الذي اقضي فيه الشطر الاخر من النهار .

في العام الثاني لزياراتي الى المكتبة ، تعرفت على طريقة الاعارة الخارجية للكتب مقابل تأمين مبلغا من المال قدره دينارا واحدا عن كل كتاب معار خارج المكتبة ،

هكذا قرأت اغلب الكتب الموجودة على رفوفها وبشتى العلوم ، فأصبح يومي بنهاره ونصف ليله هو زمن القراءة بالنسبة لي.

قتذاك تعرفت على الاستاذ صبري حامد امين المكتبة نفسها ، ولمثابرتي على القراءة ، وامانتي ودقتي في المواعيد ، طلب الاستاذ صبري من موظف الاعارة اعفائي من الامانات النقدية.

في الايام التي سبقت الامتحانات المتوسطة العامة(البكلوريا) رفض الاستاذ صبري اعارتي اي كتاب ، ما لم اكمل الامتحان وانجح فيه ، وطلب من موظف الاعارة ذلك ، ونبهه الى ان لا يعيرني اي كتاب ما لم يشاهد وثيقة نجاحي .

هكذاكان - رحمه الله – وقتها، لم اكن اعرف ان الذي يكلمني هو احد كتاب القصة القصيرة في الناصرية ... اذ تذكر المصادر ، ان الاستاذ صبري حامد ، كان من اوائل كتاب القصة في الناصرية . (2)

***

(2)

ان عمر القصة القصيرة في العراق ، لا يتجاوز القرن الواحد ، ولكن ، وقبل اكثر من نصف قرن ، وجدت القصة طريقها الى اقلام مبدعي الناصرية ، اذ (( ظهرت بداياتها في الخمسينات ، ولو ان ثمة محاولات ساذجة قبل ذلك الزمن ، الا ان المحاولات الجادة بدأت في الخمسينات (3) ((

وكانت محاولات الاستاذ صبري حامد - كزملائه الذين جايلوه او الذين سبقوه في الابداع - من تلك المحاولات الجادة ، وكما هو الاسلوب الذي كتبت فيه القصة القصيرة وقتذاك ،وكذلك نماذجها المنتخبة ، التي كانت لا تختلف عن نماذج القصة القصيرة في العراق وقتذاك من حيث الموضوع والاسلوب ، وكذلك اختيار الشخوص ، اذ ان ما قدمه من نماذج كانت ((تتناول الواقع باسلوب واقعي نقدي ، وكانت نماذجه من اولئك البائسين والمضطهدين اجتماعيا والمحبطين جنسيا دون ان يلقي عليها ضوء كشافا ليخرجها من ازماتها الاقتصادية والجنسية ، فكانوا بؤساء دون عون ، تلطمهم موجة الفقر ويدوخهم القهر الجنسي )) (4)

لقد كان الجو في ذلك الوقت – أي بعد الحرب العالمية الثانية – مهيئا في هذه المدينة لان يولد فيها اكثر من مبدع ، فكان هناك الشاعر ، والقاص ، والفنان التشكيلي ، والموسيقي ... الخ ، وفي ذلك الجو كتب عبد الرزاق رشيد الناصري بعض نماذجه القصصية ، الا ان اعباء الوظيفة ، او لاسباب اخرى ، جعلته يغادر بيت الابداع القصصي ، كزميله خليل رشيد . (5)

وعندما جاءت الستينات ، وفي بدايتها ، وجد الربيعي طريقه الصحيح في كتابة القصة القصيرة ، كزملائه : فائق عباس ، عبد الحميد الصباغ ، نبيل حسين ، الذين انقطعت بهم سبل القصة ، فغادروها .

واذا كان عدم النشر ، والياس من ذلك الموقف ، قد دفع بـفائق عباس وزملائه الى الانصراف عن كتابة القصة ، فأن قصص خضير عبد المجيد ، كمجايله الربيعي ، وجدت طريقها الى النشر داخل وخارج العراق وقتذاك .

وما زلنا في الستينات ، فلا بأس ان نذكر مبدعين اخرين في هذا المجال : كمحسن الموسوي ، واخيه عزيز السيد جاسم ، وحسين الجليلي (6) وفهد الاسدي (7) وعبد الكاظم ابراهيم (8) ورحمن سلمان الناصري (9 ) ومهدي السماوي ، وعبد الهادي والي (10).

كل هؤلاء وغيرهم، مما لم تسعفني الذاكرة والمصادر في ذكرهم ، لنا الحق في دعوتهم برواد القصة القصيرة في ذي قار ... أي انهم واضعوا اللبنات الاولى لهذا الجنس الابداعي في هذه المدينة ذات التاريخ الابداعي العريق .

وعندما نقترب من السبعينات ، وقبل الدخول في خضمها ، كانت هناك مجموعة من الشباب الذين وجدوا طريقهم الابداعي في هذا الفن ، فكتب : احمد الباقري ، ومحسن الخفاجي ، وعبد الجبار العبودي ، وجاسم عاصي ، وحسين السلمان ، وقاسم دراج ، وحسن النصار ، وبلقيس نعمة العزيز ، وضياء خضير ، ومحمد سعدون السباهي ، (11)، وداود سلمان الشويلي (12 )

لكن السبعينات كانت حافلة بالمبدعين من ابناء المدينة ، اضافة للاسماء التي ذكرناها ، فكان هناك : محمد حياوي (13) ، ومحمد مزيد ، وماجد كاظم علي، وعدنان منشد.

وعندما اشرقت الثمانينيات ، بمناخها الحربي ، تكشفت مجموعة من الاسماء المبدعة مثل : زيدان حمود ، خضير الزيدي (14) ، جبار عبد العال ، نعيم عبد مهلهل ، على لفتة سعيد ، وجدان عبد العزيز ، ابراهيم سبتي ، اضافة لاغلب المبدعين السابقين ، كـ : محسن الخفاجي ، داود سلمان الشويلي ، ضياء خضير ، محمد سعدون السباهي ، محمد حياوي ، محمد مزيد .

لكن التسعينات ، او بتعبير اخر ، وادق ، قد انضجت ما انجبه الربع الاخير من الثمانينات ، مثل : حسن عبد الرزاق ، حسن البصام ، عبد الامير الوليد ، كاظم حمود ، كاظم حسوني ، محمد سلطان ، علي عبد النبي ، حيدر عوده ، وشباب غيرهم ما زالت اقلامهم تنحت لها نماذج قصصية ، ستدرج – حتما – على مسار القصة القصيرة في العراق وفي هذه المدينة المبدعة .

ان مسيرة القصة القصيرة في هذه المدينة ، لا تفيها هذه السطور حقها ، لكن ما يجعلني متفائلا وانا اكتب هذه السطور ، هو انها – على اقل تقدير – ستبقى شهادة يمكنها ان تكون بداية الطريق ، او الخطوة الاولى لمن يريد ان يتصدى لكتابة تاريخ المنجز القصصي في هذه المدينة .

***

(3)

اذا كانت السطور السابقة قد تحدثت بصورة عامة عن القصة وكتابها ، فلا بأس ان نقترب من منجز اخر ينتمي الى جنس (القص) الا وهو (الرواية) ، هذا العالم الواسع والرحب الذي يؤسس قوانينه الذاتية المختلفة عما هي في القصة القصيرة .

ان اول من كتب الرواية من مبدعي هذه المدينة الكاتب المبدع عبد الرحمن مجيد الربيعي ، اذ كتب بعد ثلاث مجاميع قصصية ناجحة ، روايته الاولى (الوشم - 1972) التي احدثت ضجة في الوسط الادبي والثقافي – وقتذاك – لانها سجلت طفرة نوعية ليس في مجال ابداع هذا القاص حسب ، وانما في المنجز الروائي العراقي ايضا .

لكن قاسم خضير عباس ، سبق كتاب القصة الاخرين في كتابة الرواية ، اذ نشر روايته الاولى (الراحلون - 1975).

وعندما وجد كتاب القصة القصيرة انفسهم يدافعون عن البوابة الشرقية للوطن العربي ضد ايران ، كانت هذه الحرب الدافع الاساسي لكتابة الرواية ، فكانت (رمال تحرقها الاجساد- 1983) ،و (ليل الخنادق- 1984) لزيدان حمود ، و (وشم على حجارة الجبل – 1983 ) لمحسن الخفاجي ، و (في الارض الحرام - 1983) و (غرب الكارون - 1985) لاسماعيل شاكر ، و (شرنقة الجسد – 1983) لخضير الزيدي ، و (ثغور الماء 1983) و (طواف متصل - 1988) لمحمد حياوي ، و (مدار اليم - 1984) لشوقي كريم ، و (ابابيل - 1988) لداود سلمان الشويلي . (15)

***

(4)

ولد عبد الرحمن مجيد الربيعي عام 1939 م، في مدينة الناصرية . تخرج من معهد الفنون الجميلة ، ومن ثم من اكاديمية الفنون الجميلة . عمل مدرسا للرسم عام 1963 ، ثم في الصحافة عام 1968 . اقام سنوات في القاهرة وبيروت وتونس . نشر اولى قصصه عام 1962 .

* لماذا الربيعي ؟

تحدث الكثير – داخل العراق وخارجه – عن المنجز الابداعي – القصصي والروائي – لهذا الكاتب ، لكنني اجدني هنا مضطرا في اختياره عند الحديث عن الفن القصصي في ذي قار ، ذلك من باب الاحتفاء به ، ككاتب مبدع ، ما زالت – الناصرية – هاجس كبير في دواخل نفسيته الابداعية ، ومن يقرأابداعه الروائي والقصصي يجد ذلك واضحا ، وخير مثال على ذلك روايتيه (الوشم) و (القمر والاسوار) والكثير من قصصه القصيرة .

اضافة لذلك ، اعتبارات موضوعية في تقديم هذا المبدع عند الحديث عن المسار التاريخي لفن القص في هذه المدينة ، ومن تلك الاعتبارات :

آ – المنجز القصصي الذي قدمه في الستينات ، خاصة مجموعته القصصية الاولى (السيف والسفينة) ، التي اعتبرت – وما زالت- فاتحة لكتابة نموذج قصصي جديد ومغاير عن المنجز الذي سبقه ، وكذلك القول عن روايته الاولى ( الوشم - 1972) ، اذ ان الربيعي كما يقول احد دارسيه : ((من اوائل الكتاب العرب الذين استطاعوا ان يتمردوا – كتمرد الواقع ذاته – على النص القصصي في شكله ومضمونه التقليديين ، وان ينجحوا الى حد بعيد في مغامرة القصة القصيرة ))(16)

ب – النوع والكم الذي يتصف بهما انجازه الابداعي ، مما يؤهله لان يكون انموذجاعند الحديث عن مبدعي هذه المدينة ، والعراق على السواء ، وكذلك الوطن العربي .

ج – استمراره المتواصل في الابداع ، والابداع المنوع في القصة والرواية والشعر – قصيدة النثر خاصة – والنقد .

د – اهتمام النقاد والدارسين في انجازه الابداعي ، وكذلك الجامعات في انحاء العالم في دراسة هذا المنجز الابداعي دراسة اكاديمية .

***

(6)

المؤلفات : (17)

آ – المجاميع القصصية :

1 – السيف والسفينة – 1966 .

2 – الظل في الراس – 1968 .

3 – وجوه من رحلة التعب – 1969 .

4 – المواسم الاخرى – 197. .

5 – عيون في الحلم – 1974 .

6 – ذاكرة المدينة – 1975 .

7 – الخيول – 1977 .

8 – الافواه – 1979 .

9 – سر الماء – 1983 .

1. – صولة في ميدان قاحل – 1985 .

11 – نار لشتاء القلب – 1986 .

ب – الروايات :

1 – الوشم – 1972 .

2 – الانهار – 1974 .

3 – القمر والاسوار – 1976 .

4 – الوكر – 1980 .

5 – خطوط الطول خطوط العرض – 1982 .

ج – الشعر :

1 – للحب والمستحيل – 1983 .

2 – امرأة لكل الاعوام – 1985 .

3 – شهريار يبحر – 1985 .

د – الدراسات الادبية :

1 – الشاطيء الجديد – 1979 .

2 – اصوات وخطوات – 1984 .

3 – الفرس الاخر – 1985 .

 

***

(7 )

    اما ما كتب عن ابداعه من دراسات وبحوث ، فكان كم هائل ، نذكر منه :

آ – الوشم ، رواية الربيعي والقصة العراقية الحديثة – للمستشرقة الايطالية ماتيلدا غالياردي – رسالة دكتوراه – 1979 .

ب – عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي في القصة العربية – د . افنان القاسم – رسالة دكتوراه من جامعة السربون – 1985 .

ج – عبد الرحمن مجيد الربيعي بين الرواية والقصة القصيرة – عبد الرضا علي – رسالة دبلوم عليا من معهد الابحاث التابع لجامعة الدول العربية – 1976 .

د – دور الربيعي في تجديد قصة الستينات – للمستشرقة ماريسا بريتو كونثالث – رسالة ماجستير في قسم الفلسفة في كلية الاداب والعلوم الانسانية – لبنان .

***

(8)

في (الوشم) يكشف الربيعي عن شخصية السياسي المأزوم والمهزوم في آن معا داخل كيان كريم الناصري ، ومن ثم الطريق الذي يسلكه بعد سقوطه السياسي غب توقيعه على ورقة البراءة من التنظيم الحزبي الذي كان ينتمي اليه والذي سجن بسببه.

ان جديد هذه الرواية ليس موضوعها السياسي الحساس والنابض بالصدق ، فحسب ، بل كان جديدها متمثلا في تقنيتها الفنية ، في مزاوجة الحاضر بالماضي ، وكذلك ، استحضار احدهما من خلال الاخر .

لقد اتسمت هذه الرواية ، وهي الاولى للكاتب ، بصدقها ، وقدرتها على معايشة الواقع الذي تتحدث عنه ، وكذلك الوضع الاجتماعي الذي اخذ منه الكاتب شخوصه.

في (الانهار) الرواية الثانية للكاتب ، نلتقي بالشخصية المتمردة ، التمرد عن الواقع بكل تناقضاته ، وعلى جميع الاصعدة ، تمرد على القيم البالية التي راحت تنهار امام كل جديد .

في هذه الرواية ، نلتقي بتمازج الوطني والقومي ، انها رواية تجعل من الفكر الثوري التقدمي اساسا لمنطلقاتها ، خاصة ان نكسة حزيران ماثلة فيها .

خرج بناؤها الفني بين المذكرات التي سجلها قلم بطلها الرئيس ، والتي نقل فيها الحاضر بضمير المتكلم ايتداء من (ايلول - 1971) ونقل الماضي ابتداء من (ك2 - 1968).

ان المذكرات تتقدم زمنيا نحو الامام ، فيما اوراق الماضي تنسحب من الماضي البعيد – نسبيا – الى الماضي القريب ، أي من (ك2 - 1968) الى (5 تموز- 1968) ، هذا التقدم المطرد – زمنيا – منح الرواية حيويتها وتميزها عن المنجز الروائي العراقي والعربي وقتذاك .

في (القمر والاسوار) الرواية الثالثة ، يعود الربيعي الى الواقع العراقي ، إبان الخمسينات ، ليس كمؤرخ ، وانما كفنان يلتقط من التاريخ بعض مساراته ليصبها في قالب روائي مبدع ، اذ نجد هذه الرواية ترصد الاحداث على المستويين السياسي والاجتماعي اللذين يتأثر احدهما بالاخر .

انها رواية عن مدينة الناصرية (مدينة الكاتب) إبان تلك الفترة ، واذا كان (زقاق) نجيب محفوظ نقطة الانطلاق في تصوير فترة مهمة من تاريخ مصر الحديثة على الصعيدين السياسي والاجتماعي ، فقد كان (زقاق) الربيعي في هذه الرواية هو الاخر نقطة الانطلاق في ذلك ، ليبرز القومي من الوطني ، والوطني من المحلي .

واذا كان الربيعي في (الانهار) قد اختار طلبة الكلية كنماذج انسانية تتحرك داخل روايته لتعيش الاحداث ، فأنه يعود مرة اخرى لهذه النماذج في روايته (الوكر) التي يمتزج فيها الحب بالسياسة .

في هذه الرواية ، يقترب الربيعي من الخصوصية السياسية ، اذ انه يجعل من اطار تنظيم سياسي نموذجا للمجتمع البديل الذي ينشده .

ان (الوكر) كباقي روايات الربيعي ، تصور ما اهمله التاريخ ، وهذه ميزة تحسب له ، لان مثل هذا يجعل من الرواية فنا قائما بذاته بعيدا عن التاريخ ، فهي ليست رواية تاريخية ، ولا يمكن ان تكون كذلك .

في رواية (خطوط الطول ... خطوط العرض ) (18) تبرز قضيتان مهمتان عند دارسها ، اولهما : هو هذا الشكل المعقد الذي صبت فيه ، الشكل الذي يجمع بين التقطيع ، والفلاش باك ، والتلخيص ، وكذلك التلاعب بالزمن .

اما القضية الثانية ، فلها علاقة بما طرحه الكاتب من وجهة نظر خاصة به ، كثيرا ما تبناها في قصصه القصيرة ، وروايته الاولى خاصة ، تلك هي : ما المدى الذي يمكن فيه ان تكون المرأة ، وكذلك الخمرة معوضا عن الفشل بالسياسة ، او السقوط السياسي ؟ في هذه الرواية ، يتجلى البناء الروائي في بناء الشخصية الروائية ، والعكس صحيح ،اذ ان بناء روائيا مثل هذا البناء ، بتفككه وتوزعه بين صور عدة من ابنية فنية ، جاء ليعبر عن تشظي دواخل الشخصية الرئيسة ، خاصة ذلك الاستخدام الواعي للضمائر وتجلياتها في عدة صور ، بين ضمير الغائب ، وضمير المخاطب ، وضمير المتكلم ، مثل هذه التقنية ، جعلت من الرواية ذات حيوية واقتدار.

ان الربيعي قاص مجيد ، كما هو روائي مجيد .

 

الهوامش :

1 – البناية القديمة للمحافظة التي هدمها القادمون من خارج الحدود ومن عاونهم من العملاء عام 2003 عند سقوط بغداد .

2 – انظر (ذي قار بين الماضي والحاضر) نشرة خاصة بمناسبة يوم ذي قار – 1985 –ص6. .

3 ،4 – المصدر السابق .

5 – والد الفنان المسرحي الدكتور فاضل خليل .

6 – انظر (القصة – سلسلة قصصية ) اصدار جماعة ديالى – ع :1 : 1968 .

7 – بدأ النشر عام 196. ومجموعته الاولى عدن مضاع – 1969 – انظر الاقلام ع: 11 : 12 : 1968 .

8 – مجلة الناصرية – ع : 2 : 1969 .

9 – نشر العديد من القصص القصيرة في جريدة المستقبل والانوار وملحق الجمهورية ، كما ذكر لي ذلك الزميل عبد الهادي والي .

1. – اول قصة نشرها – كما ذكر لي ذلك شخصيا – هي (المثل الاعلى) في جريدة المستقبل عام 1962 ، ونشر اكثر من اربعة عشر قصة حتى عام 1994 .

11 – نشر اول قصة عام 1969 ، انظر مجلة الكلمة ع : 6 : 1974 .

12 – اول قصة نشرها كان في العام 1968 .

13- نشر اول قصة عام 1975 – انظر الاقلام – مصدر سابق.

14 – كما اخبرني ، نشر اول قصة عام 1979 ، في ملحق الجمهورية بعنوان (القطيع).

15 – كتبت هذه الدراسة قبل اصدار كثير من المنجز الروائي للكتاب انفسهم وغيرهم ، لهذا نسترعي الانتباه .

16 – عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي - د . افنان القاسم – ص 169 .

17 – اعتمدت في ذلك على الثبت المنشور في مجموعته القصصية الاخيرة (نار لشتاء القلب) المهداة لي من قبل القاص نفسه الذي يعيش حاليا في تونس بتاريخ 17 / 6 / 1994 .

18 – من الطريف ان نذكر ، انه في المناقشة التي جرت بعد قراءة هذه الورقة في كلية تربية ذي قار ، ابدى احد اساتذة قسم الجغرافية ملاحظة مفادها انه لاتوجد ما يسمى بـ (خطوط العرض) وانما دوائر العرض ، وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام علميا ، الاان مثل هذه التسمية جاءت بعيدا عن المفهوم الجغرافي ، وانما جاءت بمفهوم فني روائي

 

 

 

قصة الحرب

القضايا والسياقات العسكرية (*)

 

 

ملاحظات اولية:

1 – قبل كل شيء يجب التنويه الى مسألة مهمة ونحن نقرأ هذا الكم الهائل من النتاج القصصي الذي كتب عن الحرب العراقية الايرانية ، الا وهي:ان القاص العراقي لا ينتلك – وكذلك لا يستند الى – اية تجربة كتابية في هذا المجال ، اذا استثنينا ما اطلع عليه من قصص وروايات عالمية تحدثت عن حروب سابقة ، كان اهمها الحرب العالمية الثانية ، والتي تختلف في كل تفاصيلها العسكرية والتعبوية والسياسية عما خاضه العراق من حرب دفاعية ضد عدوان توسعي كبير .

لذا نرى ان القاص العراقي قد  وقف امام تحد كبير وهو يسطر اول كلمة من نصه القصصي والذي حاول فيه تمثل صفحات الحرب ، وبطولات العراقيين ، ان كان ذلك في ساحة المعركة مباشرة او في عمقها الخلفي ، فكان الذهن وكانت التجربة بزمنها القصير ، او  في انيتها المقرة والقاتلة ، قد اغصبحا امام امتحان كبير ، لان ساحة المعركة في هذه الحرب لم تكن هي الشريط الحدودي الشرقي للعراق فحسب ، بل امتدت تلك الساحة حتى حدود العراق الغربية ، فأصبحت مساحة العراق الجغرافية المعروفة هي ساحة الحرب كلها ، فشملت البي والسوق والشارع والمدرسة والدائرة والمقهى والمكت الانيق ... الخ ، وكذلك ذهن المبدع نفسه .

واذا كنا نؤمن او لا نؤمن بالفكرة القائلة : بأن الابداع القصصي ، وكذلك الروائي الخلاق يكتب بعد ان تسكت المدافع ، فأننا لا يمكن الركون لهذه الفكرة في الوقت الحاضر وننفض ايدينا عن هذا النتاج القصصي لننتظر ما سيبدع بعد وقف الحرب ،لهذا كانت لنا هذه الرحلة الممتعة مع ما ابدعه قصاصونا عن هذه الحرب على الرغم من تفاوت القيمة الفنية والابداعية لهذه النتاجات ، ومن هذا المنطلق يمكن تفحص هذا النتاج ، وفي نفس الوقت ، يمكن الانتظار الى حين يبدع – مستقبلا – قصاصونا نصونا يمكن ادراجها تحت لافتة نصوص عن الحرب .

2 – ان هذه الدراسة غير معنية في تفحص النص القصصي فنيا ، بقدر ما هي قراءة يمكن تسميتها (القراءة العسكرية) لهذه النصوص ، أي انها معنية بتفحص ما احتواه النص القصصي من امور وقضايا لها علاقة بالسياقات الفنية والتعبوية ذات الطابع العسكري البحت ،  للوصول الى حقيقة امكانية المبدع عند تعامله مع تلك السياقات، ان كانتتلك السياقات خاصة بالتعامل مع الاسلحة والمعدات والاجهزة العسكرية اثناء المعركة ، او كانت لها علاقة بالخدمة العسكرية بصورة عامة .

ان قراءة متفحصة لاغلب النصوص القصصية التي تعامل القاص فيها القاص مع تلك السياقات والقضايا العسكرية سيجعلنا نقف امام الكثير من الاخطاء التي وقع فيها القاص عند تعامله معها ، مما يجعل هذه الدراسة الجرس الذي سينبه المبدعين الى الكثير من القضايا التي غابت عنهم وهم يضعون نصب اعينهم اثناء العملية الابداعية كل ما يتعلق بفنية القصة ، والمضمون التعبوي الحافل بما هو انساني وشخصي .

3 – لكل كاتب قصصي مرجعيته الخاصة التي ينهل منها ما يعزز المتن الحكائي لنصه القصصي ، وهذه المرجعية عبارة عن مصادره المادية والمعرفية (الواقع / الخيال) (المشاهدة العيانية / التذكر) التي ينهل منها بعض مكونات المبنى الحكائي لنصه ، (1) خاصة ، ان قصة الحرب التي ابدعها قصاصونا لم تأت من خيال محض ، اذ انها كانت وليدة الواقع القائم ، هذا الواقع الذي اثر كثيرا في المبنى الحكائي للنص القصصي ، فكان الواقع له وقعه الكبير في مثل هذه النصوص .

ومن خلال هذا التصور ، فأن القاص العراقي قد ابدع نصه القصصي اعتمادا على مرجعية متحصلة من :

آ – داخل المؤسسة العسكرية .

ب – خارج المؤسسة العسكرية .

ان ما نقصده بالمرجعية المتحصلة من داخل المؤسسة العسكرية ، هو ان القاص واحد من منتسبي هذه المؤسسة ، لهذ فأن ما ثبته في المبنى الحكائي انصه من قضايا لها علاقة بالسياقات الفنية / التعبوية العسكرية لها مرجعيتها المعروفة .

اما المرجعية المتحصلة من خارج المؤسسة العسكرية ، فنقصد بها ان القاص لم يكن من منتسبي تلك المؤسسة ، وانما تعود مرجعية المتن الحكائي لنصه الابداعي الى :

آ – استذكاراته للسياقات و القضايا العسكرية (الفنية والتعبوية) ، ولما تعلمه سابقا عندما كان من منتسبي تلك المؤسسة ، ومثل هذه المرجعية لا يمكن الركون اليها لما اصاب القوات المسلحة من تطور كبير اصابها في التدريب والتسليح .

ب – عن طريق السماع .

ج – عن طريق قراءة القصص والروايات المنشورة ،عراقيا او عربيا او عالميا.

واذا لم تكن الدراسة هذه معنية – اصلا – بعزل ما هو مكتسب من خلال القراءة عما هو عن طريق السماع او التذكر ، فأنها معنية بالتوصل الى عزل ما هو صحيح ودقيق عما هو خاطيئ عند استخدام القاص لتلك القضايا والسياقات في نصه الابداعي القصصي .

4 – في هذه الدراسة لن اناقش النصوص القصصية التي تتمحور حول معركة حقيقية او هجوم ما ، ان كان المتن الحكائي لذلك النص قد اعتمد الواقع او الخيال المتحصل مما يشاهده على الشاشة الصغيرة او على شاشة السينما من افلام او مسلسلات اجنبية تنقل بعض مشاهد المعرك الحربية ، والسبب يعود الى كون هذه القصص كتبت لاسباب تعبوية / دعائية ، مما ادى الى فقدان المصداقية الواقعية لسير المعارك ، وكذلك لما فيها من اخطاء فنية وتعبوية تعود اما لاختلاف العقيدة العسكرية للجيش الذي صورت معاركه عن العقيدة العسكرية لقواتنا المسلحة ، او لاخطاء معلوماتية لتلك السياقات والقضايا العسكرية ، كما حدث في قصة ذكرى محمد نادر (النجيمات لم يقطفها الموت) على سبيل المثال (2) .

***

مناقشة النصوص :

ان الصنفين المهمين من صنوف المؤسسة المسلحة التي تعامل معها القاص العراقي تعاملا فنيا / تعبويا ، هما : صنف الدروع ، وصنف القوة الجوية ، وقد كانت للسياقات الفنية / التعبوية العسكرية المعمول بهما في هذين الصنفين صداهما داخل النص القصصي ، اض   افة للقضايا والامور العسكرية الاخرى كما ستبين السطور القادمة .

 

1 – قصة الحرب والقوة الجوية :

للقوة الجوية ، سياقات فنية / تعبوية خاصة ، وقاموس لغوي خاص يحتوي على مصطلحات ومفردات ذات اصل انكليزي ، ومثل ذلك القاموس لا يمكن التعامل به في صنوف اخرى ، لهذا السبب نجد بعض الزملاء القصاصين وهم يتحدثون عن مآثر رجال هذا الصنف يجدون صعوبة في استخدامه مما يدفعهم الى التعويض عنه بصطلحات عربية لا تمثل الحقيقة ، وايضا فأن هذا القاموس يجعل التخاطب بين رجال القوة الجوية (الطيارون خاصة) يتميز بلغة ذات جمل قصيرة (برقية) وحاوية على مصطلحات تعطي معنى كاملا بدلا من جمل طوال ... مثل هذا الامر يجعل من القاص غير دقيق وهو ينقل السياقات الفنية / التعبوية الخاصة بالقوة الجوية في نصه القصصي .

اما الامر الثاني في عدم دقة القاص في هذا الجانب ، هو : تلك الحوارات الطويلة التي يضعها القاص على لسان ابطاله طياري القوة الجوية .

ان الصمت اللاسلكي ، والاستخدام الامثل له وكذلك الترشيد في استخدام اجهزة الاتصال اللاسلكي ، كل ذلك من متطلبات امن وسلامة المهمة القتالية في سماء وارض العدو .

هناك نصان قصصيان ستتناولها الدراسة على سبيل المثال ، احدهما للدكتور ضياء خضير (نسر بين جبال الثلج) (3) ، والاخر للقاص خضير عبد الامير (الامل الصامت العظيم) (4) ، وهما نصان يتحدثان عن بطولة طيارينا الشجعان .

ومن المفيد قبل مناقشة هذين النصين ، ان ننبه على مسألة مهمة ي : ان القاصين قد كتبا نصيهما بعد ان سمعاها من افواه ابطالها الحقيقيين ، الا ان السؤال الذي يثار ، هو : كيف كان تعاملهما مع هذين الحدثين ؟

ولان الدراسة هذه غير معنية – كما قلت سابقا – بفنية النص ، فأن مناقشتنا لهذين النصين سيعتمد على فحص قدرة القاص في التمثل الحقيقي والدقيق للسياقات الفنية والتعبوية داخل النص . (5)

ان قارئ (نسر بين جبال الثلج) تبهره تلك القرة الفذة في استخدام القاص للسياقات الفنية / التعبوية للقوة الجوية ، وقد تجلى ذلك في اكثر من مقطع من مقاطع النص القصصي .

ينقل القاص صورة عن فحص طائرة مضروبة في الجو ، فيقول : ( لقد خرج الجميع سالمين ولكن قنابر رقم (2) لم تسقط ، وكان تأخري قليلا عنهم مدعاة لقلق شديد بالنسبة لهم ، احدهم وهو رقم (3) اقترب من طائرتي لفحصها حين علم اني اصبت ، ولكني طلبت منه الابتعاد لان ذلك يجعلنا هدفا سهلا للعدو ، ولم اره يبتعد الا بصعوبة بعد ان اكمل فحص الطائرة من الخلف والجانبين . وقد قال انه لم ير شيئا في الطائرة ) (ص 51).

انه سياق دقيق وعلمي عند القيام بمثل هذه الفحوصات .

اما في المقطع الخاص بعطل الطائرة ، فأن القاص يرسم بتمكن كبير حال بطل قصته منذ ان فقد السيطرة على الطائرة حتى قراره بتركها ، فها هو يقول : (ارتخت اصابعي على مقبض عصا القيادة وشعرت بألم فظيع وبالأس يتسرب الى اعماقي واستعذت بالله وبقيت هكذا لحظات مفكرا فيما ينبغي عمله قبل ان اتخذ قرارا ما محاولا خلال ذلك ان امر بعيني على المقاييس والمؤشرات لاستعين بها في تحديد الخلل في الطائرة ومقدار الضرر الذي اصابها . ولكن عيني كانتا غائمتين فلم استطع ان ارى شيئا فعمدت الى فتح الاجنحة الى اقصى مدى متوفر للحصول على توازن وسيطرة اكبر ، بيد ان الطائرة استمرت منفلتة من عقالها تهدر هديرا عارما ...(...) واذ ذاك اتخذت قراري بترك الطائرة واخبرت قاطع السيطرة ورقم (2) ...) (ص53)

في هذا المقطع ، كان القاص وفيا لما سمعه من فم الطيار نفسه ، وكلن وفيا في جعل بطله يطبق السياقات الفنية / التعبوية في مثل هذه الحالة .

ان القاص ضياء خضير ، وهو يسجل حيثيات الحادث من خلال سماعه للححادثة من فم الطيار ، فأنه – في الوقت نفسه – قدم نصا قصصيا يستجيب لكل فنيات القصة القصيرة المبنية على حادثة واقعية دون الوقوع في شرك المباشرة والتقريرية ، ذلك لان ادواته القصصية ما زالت تعمل جيدا في النص ، وعكس ذلك لقرأنا تقريرا اخباريا عن هذه الحادثة .

اما النص القصصي الاخر (الامل ...)فقد سجل هو الاخر بصورة فنية واحدة من مآثر ابطال قوتنا الجوية ، حيث يحكي قصة اثنين من طيارينا وهم يؤدون واجب قتالي في سماء العدو وضد دفاعاته الارضية ، واثناء العودة تضرب احد الطائرات.

منذ البدء ، يقع القاص خضير عبد الامير في خطأ فني ، تعبوي ، فهو لا يعرف نوع الطائرة التي يتحدث عنها ، فيذكر ان ابطال قصته من طياري طائرات الاستطلاع ، اذ يقول :(قبل يوم واحد كلف النقيب كنعان بطلعة استطلاعية عبر سلاسل جبلية موغلة في العمق )(ص313) ومثل هذا النوع من الطائرات اما ان يكون خاصا بالاستطلاع ، او انه من نوع الطائرات المقاتلة الاستطلاعية ، ولها اجهزتها وتقنياتها القتالية الخاصة والتي تختلف عن اجهزة وتقنيات الطاءرات القاصفة ، او طائرات الهجوم الارضي ، (GROUND ATTAC) ، اذن فالطائرة التي تحدث عنها القاص هي من نوع الطائرات المقاتلة – الاستطلاعية ،الا انه يعود مرة ليقول عن الهدف الذي رآه النقيب كنعان قبل يوم : (وعاد اليه في اليوم التالي ، اذ كانت طلعته ملائمة تماما ، وكان معه ملازم اول طيار نهاد الذي يشكل بالنسبة اليه رقم (2) وكان واجبهما يتحدد بضرب رواقم محددة في ارض العدو ) (ص313).

اذن الطائرة هي من نوع الطائرات الهجوم الارضي ، لان مثل هذه الطائرات تحمل القنابر الخاصة بمثل هكذا واجبات .

يعود مرة اخرى ليقول ص317 :(استعمل نقيب كنعان كل اسلحته في مواجهة المدفع حتى صليات العتاد).

لا اعرف بالضبط أي نوع هي طائرة النقيب الطيار كنعان ، واي اسلحة تحمل ؟لان مثل هذه الطائرات (نوع G. ATT. ) سلاحها الذاتي هو المدفع الرشاش (عدد/2 )   فقط ، والقنابر المحملة ، اما اذا كانت من نوع الطائرات المقاتلة ، فأن سلاحها اضافة للمدافع الرشاشة تحمل بصواريخ جو - ارض .

في المقطع السابق نفسه ، يقع القاص في خطأ اخر او سوء فهم للسياقات الخاصة في تنفيذ الاوامر القتالية ، فهو يجعل طياريه يقومون بواجب قتالي هو ضرب مدفع معاد شاهدوه اثناء عودتهم من الواج ، اذ يقول : (وعاد اليه في اليوم التالي) وكأن اتخاذ مثل هذه القرارات تعود الى الطيار نفسه لا الى مراكزقرار اعلى منه بعد دراسة اهميته .

ومن الامور الهامة – كما قلت سابقا – هو الصمت اللاسلكي ، سوى ما تستدعيه الضرورة ، الا ان القاص يجري حوارا مطولا بين رقم (1) ورقم (2) ، اذ ان رقم  (1) يعطي تعليماته وارشاداته الى رقم (2) بعد ضرب طائرته لكي يسهل له عملية النزول ، وهذا  خطأ في السياقات الخاصة بالقوة الجوية ، لان الضرورة تستدعي :

1 – ان من يعطي الارشادات والتعليمات هما : امر جناح الطيرا ن، او ضابط اخر له تجربة طويلة بالطيران .       

2 – ضرورة الاقلال من استخدام جهاز الاتصال (R . T راديو - تلفون) لاعطاء فرصة للطيار التركيزالشديد لما يدور في المقصورة ، وتوجيه كل فكره وذهنه الى الحالة الاضطرارية التي حدثت له .

ومن الامور الهامة التي على القاص الانتباه لها وهو يجري حواراته بين الطيارين ، ان يعرف ان اللغة التي يستخدمونها – كما ذكرت سابقا – عبارة عن مصطلحات وجمل قصيرة ، لاكما جاء في هذه القصة .

( وكانت المسافة بينهما من ثلاثين مترا الى عشرين ، نادى نقيب كنعان ملازم اول نهاد وسأله :

- نهاد ... ربما لا تستطيع عجلاتك النزول في حالة هبوطك ، عليك بأنزالها ضمن اجهزة الاضطرار.

اجاب نهاد مؤكدا :

- حاضر سيدي ، سأفعل .

- ربما وهذا افتراض ، ان مقللات السرعة لا تعمل بصورة جيدة ، عليك بمجال الحالات الاضطرارية ايضا .

في ذهني يا سيدي .

كانت القاعدة الجوية التي انطلقا منها تحتهما تماما واستعدا للهبوط .

ارتفع صوت نقيب كنعان :

- نهاد ، اريد منك ان تزيد من سرعة الطائرة اثناء نزولك عشرين كيلو مترا من سرعتك الاعتيادية .

- كنت سأفعل سيدي .

وفي الضلع الاخير من المدرج عمل الطيار رقم (1) دورانا جديدا وكان في نيته عدم النزول اولا لكي يتطلع الى الطيار رقم (2) وهو يهبط بطائرته سالما .

جاء صوت نهاد فرحا :

- سيدي لقد نزلت العجلات .

احس كنعان بأرتياح وقال :

- عظيم فهي حتما ستنزل .

اخبر كنعان نهادا بأن الطيران الاخير عنده ، وسوف يطلع مرة ثانية لاجواء القاعدة ، وهذا ما عرفته السيطرة ايضا . 

قال نهاد وثقة :

-اوكي سيدي .

ثم دار حول المدرج وقال:

-سيدي ان مقللات السرعة لا تعمل جيدا .

اجاب كنعان :

-الم اقل لك ؟

اكد نهاد :

-نعم وسأعمل بأجهزة الحالات الاضطرارية فورا .

-حاول .

-لقد نزلت جميع الاجهزة سيدي .

-حسنا ، حافظ على سرعتك القصوى وانزل ) (ص320 - 322)

***

2 : قصة الحرب وصنف الدروع :

    صنف الدروع من الصنوف التي حضت بأهتمام كتاب القصة ، ربما جاء هذا الاهتمام لكثرة المعارك الناجحة التي اشترك فيها هذا الصنف ، او ان عدد لا بأس به من القصاصين كانوا قد جندوا في هذا الصنف لحاجته الى اشخاص ذوي تعييم جيد.

وكما للقوة الجوية سياقاتها الفنية / التعبوية الخاصة بها ، فأن لصنف الدروع سياقاته الخاصة .

فلا يمكن ان يكون طاقم الدبابة شخصا واحدا ، مهما كانت الضروف ، لان مثل هذا السلاح لا يمكن ان يشترك في اية معركة الا بتكامل طاقمه ،  لان أي عضو من اعضاء هذا الطاقم له دوره الخاص في الدبابة ، مثل :

1 – قائد الدبابة .

2 – السائق .

3 – الرامي .

4 – المقاتل .

الا اننا نجد القاص حامد الهيتي وفي قصته (انهار)(6) يجعل من شخص واحد هو كل شيء في الدبابة ، يقول القاص عن بطله :

( ظل لفترة طويلة يقود الدبابة الى امام متوغلا في عمق منطقة (تلول الله اكبر) في الشوش ). (ص11)

لنتساءل : اين بقية افراد الطاقم ؟ هل استشهدوا ؟ ام ان القاص ظن ان البابة كالسيارة ؟

والخطأ الاخر الذي وقع فيه القاص ، خلافا للتقنيات الفنية الخاصة بهذا السلاح ، هو ان بطله وهو يقود دبابته ، ولنقل انه (السائق) يرى (سرفات) الدبابة نفسها - لا عجلاتها كما يقول القاص – ولنتساءل : كيف يرى من في داخل الدبابة ما في خارجها ، هل ان الدبابة لها شبابيك كم في السيارة ؟ علما ان السائق لا يرى الا ما هو امامه من خلال (الزلفة) ، يقول القاص : (اما هو فقد بقي ينظر الى امام والى عجلات الدبابة وهي تخترق اديم الارض الرملية الهشة بأتجاه المرتفع الترابي القريب) .(ص12)

لمننا ونحن نقرأ نص القاص زيدان حمود (الدقائق الفاصلة)(7) نجد ان هذا النص القصصي استطاع ان يرسم صورة دقيقة لرجال وسلاح صنف الدروع ، ذلك لان القاص زيدان حمود – وهو واحد من الرجال الذين خدموا في هذا الصنف اثناء الحرب – كان متمكنا من تمثل السياقات الفنية / التعبوية لهذا الصنف ، فهو يعرف اعداد طاقم المدرعة وواجب كل واحد منهم ، وكذلك من يصدر الاوامر ، وكيف تكون السياقات .

فأبطال زيدان حمود كما يقول في نصه :

( طاقم دبابتي في البرج يتكون من نائب ضابط مكلف مظفر الياس ، مدرس رياضيات لم يلتحق بالوظيفة ، وعريف مكلف كريم الشطري خريج اعدادية الصناعة . وانا ) (ص149 - 15.)

وفي حوار موجز ، بين قائد الدبابة وسائقها ، نتعرف على الكيفية التي نقل فيها القاص سياقات هذا الصنف :

( اما مظفر الياس الذي يبدو للوهلة الاولى عندما ينفث دخان سيكارته التي لا تفارق فمه انه لا يريد الكلام ولكن الكلمات سرعان ما تجد طريقها اليك ، نستقبلها بهدوء واطمأنان (...) اوامره لا تسبب اشكالا وكلامه يمكن الاعتماد عليه بشكل دقيق لذا فأنني في هجوم تلك الليلة اسلمت قيادي اليه واخذت احرك عتلات الاستدارة بالشكل الذي يريده دون ان اعطي اهمية للطريق التي باتت الرؤيا فيه مستحيلة .

-صاحب .

-اجل .

-ادر دبابتك في مكانها بسرعة .

-حاضر .

كان الاتصال بيننا بوسطة جهاز الاتصال اللاسلكي ، وكان علي ان اتكلم مع مظفر فقط ، ولا يحق لي ان اجيب على النداءات الخارجية التي تصلنا تباعا ). (ص151)

هذا النص ، يجعلنا امام عمل فني مكتمل المواصفات التي يتطلبها صنف الدروع دون الوقوع بالتقريرية والمباشرة .

***

3 -  اخطاء اخرى :

آ – عن سياقات التدرج  بالرتب العسكرية :

لا تسمح القوانين العسكرية العراقية للنائب الضابط الترقي بالرتبة العسكرية لان يكون برتبة ضابط الا في الحالات التالية :

1– الحصول على شهادة جامعية (في حالات خاصة).

2 -  التكريم .

الا ان القاص عادل عبد الجبار في نصه (بعد هذا الزمن)(8) يذكر ان بطله النقيب مزهر العلوان  ، قد: (بلغ اعلى رتبة يمكن ان يتدرج نائب ضابط في الجيش ليصل اليها ).(ص118)

عندما نناقش هذه المعلومة من الناحية القانونية العسكرية ، نجد ان مثل هذا القول لا يستقيم والقانون العسكري ، خاصة اذا عرفنا ان المقدم عدنان سعيد كان تلميذا في الكلية العسكرية  التي كان يعمل فيها مزهر العلوان برتبة ملازم .

يقول المقدم عدنان : (لا اعتقد ان احدا من دورتنا قد نسيك يا عمو مزهر ... كنت ملازما في حينها اليس كذلك ؟) (ص127) أي قبل خمسة عشر عاما (ص128) ... واذا حسبنا الاعوام ، فأن النقيب مزهر يجب ان يكون برتبة عميد اوعقيد.

***

2 – سياقات القبول في الجيش :

ان التطوع على أي صنف من صنوف الجيش ، يتطلب بعد تقديم المستندات المطلوبة واجراء الفحوصات الطبية ، الاشتراك في دورة تخصصية ، ومن ثم يمكن التنسيب الى الصنف الذي درس علومه .

الا ان بطل قصة (ذو الوجه الشاحب) للقاص عبد الاله رؤوف (9) يتطوع على صنف البحرية ، واثناء الفحص الطبي يحول طبيب لبعيون المختص للعمل كرامي على الزورق (ل19) لما وجد فيه من حدة بصر ، وهذا مخالف لكل سياقات التطوع والعمل في الوحدات العسكرية ، لان الطبيب غير معني بذلك ، وكذلك ليس الفحص الطبي هو الذي يقرر صنف المتطوع .

***

الخلاصة :

من كل ما ورد اعلاه ، نقول : على القاص وهو يتعامل في نصه القصصي مع السياقات الفنية / التعبوية العسكرية ، عليه يتأكد قبل كل شيء من صحة تلك السياقات ، ولا بأس ان يستشير احد زملائه ممن يعمل في الصنف الذي يريد ان يتناوله في نصه ، وهذا ما فعلته عند كتابة روايتي (ابابيل) حيث جمعتني مع الزملاء الضباط الطيارين جلسات خاصة اسألهم فيها عن قضايا وامور خاصة تحدث للطائرة والطيار في الجو .

 

الهوامش :

(*) تلي هذا البحث في الجلسة الثانية لندوة القصة العراقية القصيرة / قصة الحرب بتاريخ 21 / 4 / 1993 .

1 – عن مصطلحي (المتن الحكائي) و (المبنى الحكائي) يمكن مراجعة (نظرية المنهج الشكلاني – نصوص الشكلانيين الروس ) ت : ابراهيم الخطيب – 1982 – بيروت .

2 – قصص تحت لهيب المعركة – ج4 – ص325 .

3 – المصدر السابق – ج3 – ص37 .

4 – المصدر السابق – ج4 -  ص 311 .   

5 – ابعدت عن هذه الدراسة القصص التي كتبها كاتب السطورعن ابطال القوة الجوية ، كون كاتبها احد منتسبي هذا الصنف .

6 - قصص تحت لهيب المعركة – ج2- ص7 .

7 - قصص تحت لهيب المعركة – ج7- ص 147 .

8 - قصص تحت لهيب المعركة – ج2- ص118 .

9 - قصص تحت لهيب المعركة – ج4- ص 473 .

 

 

ما الأدب ؟

 

شهادة ابداعية(*)

 

 

السؤال الذي الح كثيرا على ذائقتي الابداعية ، هو : هل الادب محاكاة للواقع ام هو انعكاس له ؟ على الرغم من انني ارى ان العمليتين متشابهتان ، اذا اخذنا بنظر الاعتبار المعنى الحرفي من مصطلحي المحاكاة الارسطية ، والانعكاس الماركسي .

وخلال اكثر من ثلاثين عاماً من القراءة الواعية والكتابة الابداعية ، المتنوعتين والذكيتين ، وجدت ان الادب ليس هو محاكاة محض للواقع وفي الوقت نفسه ليس انعكاسا محضا له .

ان الواقع الذي قال عنه ارسطو انه المثال المحاكى في الادب ، او الذي قالت عنه الماركسية قد انعكس فيه ، لم يكن هو الواقع نفسه ، لان الادب ليس آلة تصوير فوتغرافية ، وفي الوقت نفسه لم يكن مرآة تعكس هذا الواقع ...وانما هو عالم قائم بذاته ، على الرغم من اقترابه من الواقع الذي ينهل منه ... ومن هنا تأتي صعوبة الدخول فيه (اي في عالم الادب ) على المستوى الابداعي .

الادب ، والفن القصصي ( القصة والرواية ) خاصة ، هو محاولة تفكيك ذلك الواقع ومن ثم اعادة بنائه من خلال نبذ بعض عناصره غير الفاعلة واستثمار عناصره الفاعلة ،وادخال عناصر اخرى جديدة ذات فعالية ابداعية مثمرة ، اذ تقوم عناصر النص بهاتين العمليتين ( التفكيك واعادة البناء) بالتضافر مع عناصر الواقع المجتلبة اليه ( كالشخصيات ، والزمان ، والمكان ...الخ ) ، لان للواقع ازمانه غير ازمان النص ، ويمكن القول نفسه على بقية عناصر النص والواقع ... وكل ذلك ( التفكيك واعادة البناء) يتم داخل اللغة ومن خلالها ، اذ يصبح النص بعد ذلك مدونة لغوية ، كما يقول البنيويين .

هكذا فهمت الادب بصورة عامة ، وفن القص بصورة خاصة .

اذ لو كان الادب محاكاة ، او انعكاس للواقع ، لكانت عناصر النص تعمل ضمن آلية محددة المسار ، اما وهو غير ذلك ، فأن تلك العناصر ستعمل وعناصر الواقع ضمن آلية متجانسة متضافرة بدعم من النص نفسه الذي يحدد مسارها وكذلك بدعم خلاق من مخيلة ابداعية ، تقوم بتفكيك الواقع لتبني واقعا جديداً، خاصا ً بالنص ، متجاوزا ًللواقع العياني .

ان عملتي التفكيك والبناء ، متداخلتان ، متضافرتان ، تتمان عند الانشاء ، وكذلك عند القراءة التي تنتفي فيها الحاجة الى معرفة المنشيء .

ومن هذا الفهم للادب ، ولعملياته الابداعية ، كانت نصوصي القصصية والروائية ( ابابيل ، طريق الشمس ، التشابيه ،طائر العنقاء ، احلام المغني الصغير ) .اذ ان الواقع الذي قدمته ليس هو الواقع العياني ، المعيش ، الملموس ، المشخص امام حواس الانسان في لحظة زمنية معينة ... انه واقع ابداعي ، قريب من سلفه العياني ، وبعيد عنه في الوقت نفسه ، ومن هنا يأتي القول عند النقد ، النقد الذي يهتم ببناء النص وليس بمحتواه ، او مضمونه ... اذ النقد - والحالة هذه - هو عملية ابداعية مختصة بفحص بنية النص ... اي ان الآليات النقدية (الفاحصة ) تعمل لدراسة وفحص علاقات الترابط بين العناصر ، وعلاقات الاختلاف والاتفاق كذلك بين عناصر الواقع وعناصر النص .

ومن هذا المنطلق ، كانت دراساتي النقدية ، والتي يحلو لي دائما - وبوعي تام مني - ان اسميها ( دراسات فحص النص ) او ( تمارين في القراءة ) ، تلك الدراسات التي عنيت ببناء عناصر النص ، وتركيب بُناه العديدة ، اما غير ذلك ، فأراه من نافل القول .

ومن هذا المفهوم للنقد ، خرجت دراساتي النقدية عن ما هو سردي في الابداع .

اما بالنسبة لرواياتي وقصصي القصيرة التي ابدعتها ، فهي تطبيق حي لما قلته سابقا في  هذه الورقة ، اذ انطلقت تلك النصوص من الواقع العياني الملموس والمشخص ، الا انها خرجت وهي بعيدة عنه ، لانها ليست محاكاة له ولا انعكاس .

(*) القيت هذه الورقة في امسية لاتحاد الادباء والكتاب فرع ذي قار.

 

 

الاختيار الصعب

 

شهادة في الابداع (*)

 

الناصرية ، مركز محافظة ذي قار ، الواقعة جنوبي العراق من جهة الغرب ، وارثة حضارة سومر ، الحضارة الاولى التي علّمت البشرية الحرف ، والكتابة ، ومن ثم التاريخ .

الناصرية ، مدينة الاهوار والغبار ، المدينة التي تقع على تخوم الصحراء ، ويشطرها الى نصفين الفرات الخالد ، الفرات العذب دون ان تشرب منه قطرة واحدة ، لهذا فهي المدينة الوحيدة في العالم التي تقع على نهر وتشرب من آخر ... الفرات هذا تكلل ضفافه هامات النخيل ،ذلك الشجر الذي باركه الله سبحانه وجعله دواء شاف للام النفساء ولوليدها عندما خاطبهما بقوله : ((وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ))[ مريم 25 ] فيما اوصانا الرسول الكريم (ص) بأن نكرم عمتنا النخلة .

والناصرية ، مدينة النخيل والفرات والهور والغبار ، مدينة الحرف الاول والاحزاب السياسية ومدينة الادب والفنون ، والمسرح، مدينة الشعر عاميه وفصيحه ، مدينة القصة والرواية ، مدينة المبدعين وجوائزهم في القصة والرواية و الشعروالمسرحية، مدينة المناخ القار ، فمناخها حار صيفا وبارد شتاء ، وما زالت ارضها تحتفظ بأرث السومريين وبيت خليل الله ابراهيم والرأس الذهبي لشبعاد واسطورة جلجامش.

في هذه المدينة التي انجبت العشرات من السياسيين والكتاب والادباء والفنانين والمثقفين ، كان لقائي مع الحياة في يوم من ايام شهر تموز عام 1952 كما يذكر والدي ، وكما هو مدون في بطاقة الاحوال المدنية الخاصة بي ... حتى اذا جاء عام 1958 الذي ثار فيه العراقيون ضد الحكم الملكي ، عرفت قدماي الطريق المؤدي الى( المدرسة الشرقية الابتدائية ) ومديرها الاستاذ قاسم افندي الذي كان يضع على رأسه ( السدارة ) السوداء المسماة بـ ( الفيصلية ) .

كانت القراءة الخلدونية هي اول واهم مفاجآة المدرسة لي لما تحويه من صور وحروف بألوان زاهية ، عندها امتلأ الجدار الشرقي لغرفة دارنا الوحيدة بنسخ  صور كتاب القراءة الخلدونية وقد استنسختها اناملي الراجفة بالكاربون ، وكان والدي - رحمه الله - مزهوا بها ، لا لانها زينت الجدار وانما لانها من نتاج انامل ولده ذو السنوات الست .

في الصف الثالث الابتدائي ، اجبرتني ادارة المدرسة - كالكثير من طلابها - على شراء مجلة خاصة بالاطفال بسعر خمسين فلسا ، اي بقدر مصروفي اليومي خمسة مرات ، لظنها انني من عائلة ميسورة ، كون والدي - رحمه الله - كان يعمل بناءً ومقاولا في الوقت نفسه ، ولا اكتم سرا اذا قلت انني كنت راغبا بأقتنائها ، اذ اصبحت هذه المجلة - التي فقدت مني -  نواة لمكتبتي الشخصية ، حتى اذا جاءت السنة الرابعة ، حصلت على ( الكرين كارت ) من معلم اللغة العربية بالدخول الى مكتبة المدرسة التي تحمل رفوفها مئات الكتب وبشتى الاختصاصات .

في درس الانشاء ، طلب منا معلم اللغة العربية اختيار احد الكتب ( القصص خاصة ) لقراءته ومن ثم كتابة مختصرا له، فوقع اختياري على قصة طويلة للاطفال بعنوان ( حقل البرسيم ) فقمت بتلخيصها ، فكان هذا العمل هو الذي جعل االمعلم يسمح لي بالدخول الى المكتبة ، ومن ثم لاكون مسؤولا عنها.

وهكذا بدأت رحلة القراءة والتثقيف الذاتي لدي .

في مرحلة الدراسة المتوسطة ، وجدت قدماي طريقها الى المكتبة العامة في مدينة الناصرية ... حتى اذا نجحت الى الصف الثاني متوسط ، بدأت بكتابة قصائد من الشعرالعامي تحت تأثير قصائد شعراء العامية المشهورين في المدينة - وقتذاك - كالشاعرين مجيد جاسم الخيون ، وزامل سعيد فتاح ، واستجابة لدواعي الحب الذي طرق شغاف قلبي .

وكذلك ، رحت اكتب قصيدة الشعر الحر  تأثير السياب والملائكة  و قباني.

لقد فتحت تلك المكتبة افاقاً جديدة وواسعة امامي ، فتعرفت على كتابة القصة في مصر والعراق ولبنان ، حتى اذا التقيت على الصفحات  الصفراء بجبران خليل جبران ، راح قلمي يخط اولى القصص القصيرة ، واكتملت عدتي في كتابة القصة حسب رأيي في ذلك الوقت بعد ان قرأت الكثير من نماذج القصة القصيرة عند كتاب تلك الفترة .

نشرت اول قصة لي في جريدة الاماني التي كانت تصدرفي الناصرية في منتصف عام 1968 ، وكنت مزهوا بها ، وفي الوقت نفسه قد اججت - تلك القصة المنشورة - في نفسي جذوة التحدي لان استمر في الكتابة الادبية ، فرحت اصرف جل وقتي في تلك المكتبة ، مما دفع بأمينها العام الاستاذ القاص المرحوم صبري حامد الى ان يوصي مسؤول الاعارة بألا يعيرني اي كتاب حتى انهي الامتحانات الوزارية للمرحلة المتوسطة ، وان يرى بنفسه وثيقة نجاحي ، اذ كنت اطالع الكتب الادبية في فترة الامتحانات فيما يطالع زملائي الطلاب الكتب المنهجية استعدادا للامتحان.

وهكذا بدأت بذرة الابداع تنمو شيئا فشيئا .

وقبل ان انهي المرحلة المتوسطة ، تجمعت لدي نصوص شكلت مجموعتي القصصية الاولى التي اسميتها ( الحب الخادع ) والتي مازلت احتفظ بها مخطوطة بخط يدي، وعلى الرغم من بساطتها ، هذه المجموعة التي اعتذر مدرس اللغة العربية المصري الجنسية الاستاذ مصطفى من كتابة مقدمة لها لانه -كما اخبرني- غير مؤهل لكتابة مثل تلك المقدمات .

وعندما جاءت السبعينات ، راح اسمي يتردد بخجل وحياء على صفحات الشعر العامي ، والقصة القصيرة ، والدراسات الفولكلورية ، والدراسات النقدية ، حتى انجزت كتابي الاول الذي نشر اولا على صفحات مجلة التراث الشعبي عام 1977 ، وفي الموسوعة الصغيرة عام 1986 ، وكان بعنوان ( القصص الشعبي في ضوء المنهج المورفولوجي ) .

والدراسة هذه اعتبرت بشهادة الدارسين اول دراسة للقصص الشعبي العراقي تعتمد منهجا علميا ، هو المنهج المورفولوجي .

وعندما جاءت الثمانينات ، والحرب العراقية الايرانية بأدب الحرب ، كان لي اسهامافي ادبها ، فنشرت مجموعتي  القصصية الاولى ( طائر العنقاء ) ورواية ( ابابيل ) عام 1988 .

كانت تجربة ادب الحرب في العراق من التجارب المهمة في الادب القصصي والروائي في الوطن العربي، على الرغم من ان الادباء العرب لم يملكوا ارثا - او ما يشكل ارثا مثل الشعر مثلا - في هذا الجنس الادبي ، ولا اية خبرة ، الا ان الادباء العراقيين قد تمكنوا من المسك بناصية هذا الجنس القصصي والروائي بعيدا عن تأثيرات الادب العالمي في هذا المجال .

لقد ظهر جيل جديد ، بنى عدته الادبية في اتون الحرب ، بين الخنادق ، وتحت ازيز الرصاص والقصف المدفعي والجوي ، فنشرت العشرات من الروايات والمجاميع القصصية التي تحكي للاجيال القادمة قصة شعب دافع عن وطنه وعن هويته.

اما التسعينات ، فقد جاءت بأدب الحرب في ملحمة ام المعارك الخالدة ، اذ صور لنا هذا الادب ( القصة القصيرة والرواية على الاخص ) صمود وبطولة وتضحية ابناء العراق وهو يخوض حربه الدفاعية امام الهجمة العدوانية الشرسة لثلاث وثلاثين دولة بأمرة امريكا والصهيونية العالمية ، فكانت قصص وروايات ام المعارك شاهدا على كل ما احدثه العدوان في صفحتيه العسكرية والاقتصادية .

وكنت واحدا من الذين شاركوا في الكتابة ، ففازت قصتي ( الموت حياة ) بالجائزة التقديرية في المسابقة الاولى لادب ام المعارك عام 1992 ، فيما فازت قصتي ( النهر يجري دائما ) في المسابقة ذاتها لعام 2000.(1)

ان ما كتب من نصوص ابداعية ( قصصية وروائية ) عن ام المعارك ، قد اسس هو الاخر لفن قصصي عن الحرب والعدوان والدفاع .

لقد كانت القصة القصيرة وكذلك الرواية ، شهادة امام العصر والتاريخ لشعب يناضل في سبيل امته وفي سبيل تقدمها وتطورها .

وبعد هذه الرحلة القصيرة مع البدايات في الشعر العامي والقصة والرواية ، يأخذني القلم وهو يسطر كلماته على الورقة الى ان استذكر منجزي النقدي الذي بدأ في السنوات الاولى من سبعينات القرن الماضي من خلال كتابة المقالات النقدية عن الشعرالعامي والتي كنت انشرها في جريدة الراصد الاسبوعية التي كانت الصحيفة الوحيدة التي تهتم بنشر الشعر العامي ، وكذلك دراسات عن القصة والرواية والشعر ، وكانت تلك المقالات تندرج تحت ما يسمى بالنقد الانطباعي ، وكانت لا تخلو من بعض الاراء القيمية .

الا ان التسعينات قد فتحت الابواب امامي لكتابة الدراسات النقدية ذات المنهجية الواضحة اعتمادا على بعض المناهج النقدية الجديدة ، وقد ضم كتابي المنشور( الذئب والخراف المهضومة)( بغداد - 2001) مجموعة من هذه الدراسات ، اذ اعتمدت دراساته على الية التناص كمقترب نقدي لدراسة النصوص ، اما كتابي ( الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية ) ( دمشق –2000 فقد ضم دراسات عن الف ليلة وليلة.

لم تكن رحلة الابداع ، ان كانت على المستوى الشخصي ام على المستوى العام ، رحلة سهلة كما يحلو للذين خارج عالمها ان يظن بها، وانما هي معاناة ، ومخاض صعب .

فأذا كان الحرف - وهو اساس الكتابة - قد اخترع في وقت متأخر من عمر البشرية على ايدي السومريين ، فأنني اجزم ان هناك فترة معاناة ومخاض صعبتين قد مرا على البشرية حتى توصلت الى ذلك ، فكيف بالابداع ؟

اذ اقدم شهادتي هذه بأعتزاز ، فأن كل سطر قد كتبته منذ ان عرف قلمي كتابة النص - اي نص - حتى هذه اللحظات ، هو جزء من كياني المادي والروحي دون ان انسى من سبقني ممن تتلمذت على كتاباته ، واستميحه العذر عندما قررت في لحظة قوة - ولا اقول في لحظة جنون - ان اخرج من ردائه ، لان الحق معي عندما اختار طريقي ، وهو اختيار صعب .

(*) قرأت هذه الورقة في الجلسات الصباحية التي كان يقيمها اتحاد الادباء والكتاب في ذي قار بتاريخ19 / 7 / 2000.

(1) فازت روايتي ( طريق الشمس ) بالجائزة الثالثة في مسابقة الرواية لعام 2001 ، اي بعد القاء هذه الورقة .    

 

 

القصة العراقية ومكانة قصة الحرب(*)

 

هناك تساؤلات كثيرة حول قصة الحرب التي ظهرت ابان الحرب العراقية الايرانية ومن ثم بعد الحرب العدوانية الامريكية الصهيونية على العراق ، وهذه التساؤلات تنصب حول مدى قدرة هذا الجنس القصصي على الصمود ، اولا ، وثانيا ، حول مكانته الابداعية والتاريخية في مسار القصة القصيرة في العراق خاصة .

عندما توقفت الحرب ، وسكتت المدافع في 1988 وجد كتاب القصة انفسهم في موقف حرج ، فقد اخذت الصحف والدوريات المعية بالادب تنشر نوعا اخر من القصص بعيدا عن اجواء المعركة ، وكذلك فأن القاصة نفسه – بعد ان انتهت المعارك وخفت متطلباتها التعبوية – وجد نفسه هو الاخر يبتعد شيئا فشيئا عن كتابة قصة لها علاقة بالحرب ، لهذه الاسباب وغيرها بدأت التساؤلات تثار حول المكانة الابداعية لمثل هذا اللون القصصي ، ما كتب منه وما سيكتب لاحقا .

***

مثل هذه التساؤلات اخذت تتردد في بعض المجالس الادبية ، وطرحي افكار خاطئة حول سبب كتابة قصة الحرب ، والبعض الاخر من تلك الافكار كانت تعزو كتابة القصة الى ان القاص كان مطالبا بكتابتها ، ومثل هذه الافكار تحاول ان تجعل من المبدع اداة تنفيذية متناسية ان القاص نفسه لم يكن مطالبا من اية جهة بأن يكتب مثل هذه القصة ، وانما كان مطالبا من ذائقته القصصية في ان يشارك بقلمه في الحرب العدوانية التي طالت بلده فكان حسه الوطني قد دفع ذائقته القصصية الى انتاج مثل هذا الجنس الادبي ، فكان المقاتل والقاص على السواء في الدفاع عن الوطن ان كان ذلك بواسطة البندقية او من خلال القلم ، انه ابن عصره ، وعليه ان يعيش زمانه بحق وجدية ، ولما كانت القضايا الوطنية والقومية هي واحدة من مسائل هذا العصر الذي يعيشه ، كان لزاما عليه ان يتجاوب ومسألة ان تكون مثل هذه القضايا قد وصلت الى حالة الانتهاك من خلال العدوان عليها من قوى خارجية معادية .

لذا فأن المئات من القصص التي كتبت عن الحرب ، وبما حملته من سمات ظرفية ، او بدافع من متطلبات التعبئة الاعلامية ، مثل هذه المئات قد تحصلت على مشروعيتها الادبية والتاريخية من ذاتها .

اذا كان ما كتب من قصص تحت لهيب المعركة قد حصل على مكانته الابداعية والتاريخية ، فأن ما سيكتب من قصص تتناول اجواء الحرب بكل جوانبها الداخلية والخارجية سيحصل هو الاخر على مكانته الابداعية والتاريخية ، ذلك لان الحرب ليست هي العمليات العسكرية التي يقوم بها الجنود في ساحات المعركة فحسب ، وانما هي ابعد من ذلك ، فهي في الشارع كما في المدرسة وفي السوق كما  في المكتب ...الخ ، وهي كذلك قد تملكت نفوسنا ، وتفكيرنا ، وذاكرتنا ، وان اجواءها العامة – بعد ان سكتت المدافع – ستظل غائرة في عمق النفس البشرية ، ليس كذكريات فحسب ، وانما كآثار عميقة احدثتها سنوات الغليان تلك .

ان الكتابة عن الحرب عند توقف القتال ليس معناه الكتابة عن العمليات العسكرية التي حدثت فيما مضى ، ذلك لان القاص غير مطالب في ان يكتب عن اجواء المعارك وانما الكتابة التي ستأتي مستقبلا ستفرض مضامينها الجديدة التي تأخذ من الاجواء التي خلفتها الحرب ... ان قصة من هذا النوع  مطالبة بالكشف عن تلك الجوانب غير المرئية عند الانسان العراقي الذي كوته نار الحرب .

واذا كان ما كتب قد جاء بسبب الظرف الآني للاحداث ، فأن ما سيكتب يج ان يأخذ مداه غير الظرفي ، وليكون شهادة اثبات عن معاناة الانسان العراقي النفسيةوالاجتماعية والاقتصادية .

انها مهمة صعبة بحق ، وهي مهمة تاريخية لا يمكن تحقيقها الا بأقلام قصاصينا المبدعين.

وهي دعوة مخلصة لجميع الاخوة القصاصين في ان يقدموا نصا ابداعيا عن معاناة الانسان العراقي خارج اجواء ساحة الحرب وبعيدا عن اصوات ازيز الطائرات ، وانفجار القنابل ، وانما من داخل النفس البشرية .

 

 

عالم الرواية (*)

 

 

ان الحكايات والقصص الشعبي ، هي اللون الادبي - رغم شفاهيته - الذي استطاع ان يتخطى حاجز الواقع الى ما بعده ، فأصبح قادرا على تقديم مادة حية وجميلة لما هو مخالف للعالم الواقعي الذي تعيش فيه الشخصية ( بطل النص ) ، فأصبح عند ذلك يمتلك عالمين ، احدهما عالم الواقع ( العالم المعلوم ) والاخر عالم اللاواقع ( عالم اللا معلوم) والذي مثلته مدرسة التحليل النفسي بـ ( عالم اللاشعور) .

كان الانتقال بين العالمين من السهولة بمكان ، كالانتقال بين سطح  يابس ، واخر ملئ بالماء ، او كأنتقال انسان حالم . او انسان يقرأ في كتاب ما ، او يتسلى بلعبة ما ، ودون ارادة منه ينتقل  تفكيره الى عوالم اخرى ( ذكريات ، رؤى) .

سهولة الانتقال من العالم الواقعي الى العالم الاخر في القصص الشعبي قد اتاحتها قدرة التفكير الشعبي في الاعتقاد بالعالم الاخر الذي لا يبعد عن العالم الواقعي (المعلوم ) بشيء... يكون الارتحال اليه سهل بسهولة دخول الدار من بابها .

ان المقدمة القصيرة عن هذين العالمين افرزتها رحلة جميلة وممتعة اثناء قراءتي لرواية ( مذكرات من نجا ) للروائية الانكليزية ( دوريس لسنغ ) وقد جمعت هذه الرواية هذين العالمين ، اضافة لما يرمز له العالم الاخر ( عالم اللاواقع ) جمعا لا نشاز فيه ، حتى ان القاريء لهذه الرواية لا يقع في التباس الانتقال ، وانما يترك البطلة - وهي تنقل له الاحداث- تنتقل بخفة ويسر ، وهو يتابعها في ذلك .

ان بطلة ( مذكرات من نجا ) لا تجد صعوبة في ترك عالمها الواقعي وهي تعيش في احدى الشقق السكنية والانتقال الى ما يقع بعد ذلك الواقع ( العالم الاخر ) اي الانسحاب الى منطقة اللاشعور ( الدخول في عالم التذكر ) كما كان يفعل بطل القصص الشعبي عند انتقاله بكل سهولة ويسر .

واذا كان القصص الشعبي لم يطرح مباشرة ثيمة العالم الاخر ، كون هذا العالم الاخر هو رمز لشيء لم تفصح عنه ، فأن بطلة الرواية - التي لا اسم لها - هي الاخرى لم تفصح عما يرمز اليه العالم الذي يقع خلف جدار شقتها ، ذلك الجدار الذي تخترقه بكل سهولة ، كما يحدث في افلام ( كاسبر ) ، الا انها كانت تلمح الى ان ذلك العالم ما هو الا رمز لشيء اخر ، هذا الشيء هو ما تقوم بتشكيله في هيئة شقة بغرف متعددة لكنها شقة قديمة تحتاج الى شيء من الترميم والترتيب ... انه ( اللاشعور ) ... غور في الماضي ... ذلك الماضي الذي يحتاج الى ترميم هو الاخر ليبدو نظيفا مرتبا .

ان الانتقال لما هو خلف الجدار ، والذي يتم دائما اثناء تدخين سيكارة ما بعد الفطور ، والتي هي السيكارة الوحيدة التي سمحت البطلة لنفسها بتدخينها ، ما هو الا انتقال لمرآى مشاهد وصور حية نابضة بالحياة ، انه عالم الذكرى المنسي ... هذا العالم الذي نحتاجه كلنا لنرمم به سيرة حياتنا الآنية والمستقبلية بما هو مخفي وماض من تلك السيرة ... وهي مهمة صعبة ، الا ان اسلوبها كان مبتكرا الذي استطاعت الكاتبة استخدامه لتقدم لنا حياة بطلتها الماضية ، بعيدا عن اسلوب الرسائل ، او المونولوج الداخلي او الفلاش باك وغير ذلك من اساليب العودة الى الماضي التي استخدمها فن كتابة الرواية منذ نشأته .

انه عالم فني جديد ومبتكر ، يعيدنا الى عوالم الحكايات والقصص الشعبي .

 

 

يوم حرق العنقاء

 

ملاحظات اولية في المكان والشخصية(*)

قبل كل شيء، علينا ان نتفحص جيداً واحد من اهم المصطلحات الادبية التي شاعت في العراق (خاصة) منذ عشرين عاماً... ذلك هو مصطلح (ادب الحرب) لكي نصل الى هدفنا ونحن نقرأ واحدة من الروايات التي تنتظم تحت هذا المصطلح الذي اسيء فهمه كثيراً عندما تحول مفهومه الى ان يكون مصطلحا دالا على ما هو تعبوي والدي من اهم مميزاته : سرعة الذيول في الذاكرة ، وتسجيليته التوثيقية المباشرة لبعض جوانب الحرب .

ان مصطلح (ادب الحرب) مصطلح عالمي ، كتب تحت رايته الكثير ، وفي كافة الاجناس الادبية : كالرواية ، والقصة القصيرة ، والشعر ، والمسرح ...الخ ، وما زلنا نقرأ روائع هذا الادب ، وعلى سبيل المثال : (الحرب والسلم) و (صمت البحر) و (الساعة الخامسة والعشرون) و (للحب وقت وللموت وقت ) و ( لمن تقرع الاجراس) و (افول القمر) ، وكذلك الكثير من الروايات لبعربية ، هذه الروايات وغيرها الكثير في الادب الانساني العالمي ، جعلت من الحرب (كحالة آنية او كأثر فيما بعد) وعلى كافة الجهات ، وكذلك لصور المقاومة الشعبية التي تبديها الشعوب للتحرر من الاستعمار او الطغاة ، مدارا لها .

وقد كان للحرب العراقية الايرانية دورا كبيرا في تأسيس (ادب حرب) اصيل في العراق... اذ ظهرت مئات الروايات والقصص القصيرة (1) التي صورت نضال وجهاد ومقاومة ابناء الشعب العراقي في البر والبحر والجو ، في ساحات الوغى او في ساحات الجهاد الداخلية، بين الجنود في خنادق القتال ، او بين ابناء الشعب في الشارع و البيت و المعمل والجامعة والحقل ...الخ .

وعندما جاء العدوان الامريكي عام 1991 م ، راحت اقلام المبدعين تخط سطور الروايات والقصص القصيرة عن معاناة الشعب العراقي تحت ظل هذا العدوان وما بعده من حصار ظالم ... وقد قدم الكثير منهم منجزات ابداعية ذات قيمة فنية عالية ، لانهم قد امتلكوا ناصية هذا النوع الابداعي ، فأخذ هذا المصطلح على ايديهم حدوده الفنية والفكرية ، وتركز في مفهوم خاص به ،هو انه (( ادب المجابهة الشاملة مع العدو (...) ادب الحرب العادلة التي يخوضها المرء دفاعاًعن تطبيق ايمانه بالحياة لوطنه كريماَ مستقلاَ)).(2)

فيما يقول الناقد عبد الله ابراهيم عن هذا المصطلح ، وهو يتحدث عن الرواية حصرا، انه يشمل على : (( جميع النصوص الروائية التي جعلت الحرب موضوعاَ لها وعبرت عنها بصورة مباشرة او غير مباشرة  )). (3)

ومن الكتاب الذين قدموا اسهامات ابداعية في مجال القصة والرواية ، القاص المبدع محسن الخفاجي، الذي فازت روايته الاخيرة (يوم حرق العنقاء) بالجائزة الاولى في مسابقة الاعمال الابداعية عام 2... .

ان (يوم حرق العنقاء) صورة من صور الصمود والمجابهة العراقية ابان الصفحة العسكرية للعدوان الامريكي الثلاثيني ، وما رافقها من حصار ظالم ، وما خلفته تلك الصفحة من آثار مدمرة في البنية التحتية ، اذ لم يبق مرفق من مرافق الحياة العامة إلا وطاله العدوان ، فجاءت هذه الرواية لتصور جانباً من جوانب هذا العدوان وآثاره المدمرة .

ان قاريء (يوم حرق العنقاء) يشعر بأحباط كبير وهو ينتهي من قراءتها ، ذلك لان الرواية تحمل اسم احد كتابنا المبدعين ، الا ان ما يغفر له ذلك هو انه قد انجزها في فترة زمنية قصيرة اولاً، وثانيا ، ان موضوعا ً مثل هذا الموضوع ،  يحتاج الى وقت طويل لانجازه ، لما يحتاجه من عمق فكري – فني ، الا ان الروائي الخفاجي ، راح يعالج موضوعنه على اساس انها قصة حب عادية ، على الرغم من ان الحب شعور انساني عظيم.

الرواية تتحدث عن فترة العدوان العسكري الجوي على العراق ، ابتداء من 17 ك2 ولغاية انتهاء القصف الجوي (وربما قبل ذلك بأيام) ، تلك الفترة التي لم يبق شبر من الارض العراقية لم تطلها قنابر وصواريخ (البرابرة) كما تصفهم الرواية ، فضلاً عن المعاناة جراء الحصار الظالم بكل انواعه .

يختار الخفاجي بطلا سلبيا وبكل معنى الكلمة لهذه الصفة ، والسطور هذه تنطلق من فهم لـ ( البطل ) يعتمد الانسان العادي ، بعيدا عن الخصائص الجسدية ، او ما هو خارق للطبيعة البشرية ، التي يتصف بها البطل التقليدي ، ان كان في الروايات التقليدية ام كان في الاساطير والحكايات .

ان ( البطل ) الذي تعنيه هذه السطور هو : (( وحدة تناقضية تتعايش فيها الانانية وحب الاخرين ، الخوف والشجاعة ، الفردية والالتزام ، التفاؤل والتشاؤم ، النزعة المثالية والنزعة الواقعية ، تتعايش كل هذه المعيير في الانسان ، لتعطي ، في النهاية ، حصيلة ايجابية في مجملها، اذا وجد هذا الانسان في شرط ايجابي )) .(4)

هذا البطل السلبي ، هو : ( مدرس ، ويحمل في جسده جرح سببته حرب سابقة ، في الاربعين من عمره ، غير متزوج ) يراقب الاحداث عن بعد ، عبارة عن كاميرا تصور بعض جوانب الحياة المعيشة وقتذاك تحت ظل القصف الجوي والصاروخي والحصار ، تختار بعض اللقطات ببرودة ثلجية ، وهي في عملها هذا غير معنية اساسا بما تريد ان تصوره ، وانما كان همها الاساس البحث عن الفتاة – الحبيبة ، الخطيبة الموعودة .

ان الهم الاساس لهذا البطل ، وهو الراوي نفسه الذي ينقل الاحداث مستخدما عينيه فقط ، هو الوصول الى المرأة التي افتقدها بسبب العدوان ، فراح يبحث عنها في دارها ، وفي المناطق التي خرج اليها ابناء المدينة لتفادي القصف المعادي .

اما الهم الاخر له ، هو كيفية ايصال رواتب زملائه المعلمين الى اصحابها ، وهي صورة تعبر عن تأثير العدوان على الناس وخروجهم للبحث عن مكان آمن بعيدا عن القصف ، الا ان الروائي يبقي هذه الثيمة الانسانية مبتورة .

اما الهم الثالث ، والذي اقحم في الرواية ، هو كيفية ( مدارات ) تصرفات الفتاة ( حنان ) ومن ثم كيفية تقديم يد العون لوالدتها الراقدة في المستشفى ، لمرضها .

في الهموم الثلاث ظل البطل اكثر حيادية تجاه قضية العدوان على بلده ، حتى اذا صدرت منه ادانة ما ، فأن مصدرها ذاتي ( انظر ص 113 – 114 ) وهو يصف نفسه بالضعف والهشاشة ، وبأن كل ما حوله ( سيهدد وجوده ) و (( الجوع  يفترس معدتي واكاد اسقط من الاعياء ، صرت ابحث عن لحظة صفاء واحد تنعش اعماقي ))(ص114).

وحتى بارقة الامل التي يرجوها ، فأنه لا يصرح بماهيتها ، ومن اين تأتي ، وما هو مصدرها ، او فاعلها .

سلبي ، حتى في بقائه في المدينة (( في انتظار ما سيأتي وحشا كان ام عصفورا تائها)) (ص114) ليس المهم عنده الاتي ، وانما ( ان يتأتى).

متناقض مع نفسه ، بين قوله انه سيتشبث بالمدينة (( ولن ادعها تموت وتستحيل الى جثة هامدة )) (ص114)، وبين تلذذه بمشاهدة موتها (( سأقف هناك لاشهد المدينة وهي تحترق )) (ص115) ، ينتظر موتها ليكب نرثيتها . ( ص115)

اما مشاركته للاخرين محنتهم ، فأنها ذات دوافع ذاتية نفعية بحت ، وليس بدافع الحس الانساني الاجتماعي الذي يربط الناس فيما بينهم عند المحن والكوارث والحروب . فهو يقدم يد العون لوالدة ( حنان ) ليس بدافع انساني بقدر ما هو دافع ذاتي ، علاقته غير المحسومة مع ( حنان ). 

اما مساعدته للاب المفجوع بإبنته الشهيدة ، ومن ثم مساعدته في دفنها ، فكان الاساس كان دافعا ذاتيا ، اذ بدأ بطابه من والدها الماء ، ومحاولته مقايضته بالتمر . هكذا هو ، اعطي لتأخذ .

اما الاعداء – بالنسبة له – لا اسم لهم ، ولا وطن ، وانما هم ( برابرة ) حسب . وان ما يزعج البطل من كل هذا الدمار الشامل والوحشي ، ليس العدوان على الوطن والارض والشعب ، وانما هو القتل الفردي ، لهذا نراه يتساءل : (( من يقدر ان يمسك بالقاتل ويضعه بين ايدي اهالي الضحية  )).(ص136)

انه غير معني بالمجابهة والمجاهدة والصمود لرد العدوان ، وانما هو معني بـ (البحث) عن (قاتل) وليس عن معتدي ، عن (شخص ) وةليس عن مواقف ذات دوافع عدوانية اقتصادية ، سياسية حضارية ، ذات ارث تاريخي .

دائما كان يبحث عن ملجأ يحتمي به ، في داره ، او دار اخيه ، وكل همه الاكل وشرب الشاي وتدخين السكارة واكل العسل والبسكت في مثل تلك الظروف ، وهذا يذكرنا بجواب ملكة انكلترا عندما اخبروها بأن الطحين قد نضب ، فردت قائلة :  ليأكلوا الكيك .

***

اما على مستوى المكان في الرواية ، ذلك العنصر الهام من عناصر بنائها الفني والذي لم يكن (( يوما ما الا امتحانا ذاتيا لمواجهة النص المعقد ، وكانت مواجهة فيها من احكام الات الشيء الكثير ، وكشفت عبر الممارسة النقدية ان الفن اذا ما ابتعد عن احتواء المكان فقد واقعيته. وان الفن اذا ما تنكر للمكان عاش في تاريخ اللاتاريخ (...) وعموما يمكن التكهن ان فاعلية الوعي بالمكان جزء من فاعلية الوعي بالمواطنة ))(4) والمكان في الفن (( اختيار والاختيار لغة ومعنى وفكرة وقصد )). (5)

المكان في ( يوم حرق العنقاء ) غائما عائما ، مدينة لم تعرف ملامحها بالضبط ، حتى جغرافيتها ظلت هي الاخرى غائمة ، غير مرتيطة بالجذور ، فهي توصف بالجنوب وبالغرب ... الخ . واذا كان اختيار الخفاجي لهذه المدينة اريد بها ان يرمز الى كل مدن العراق التي طالها العدوان ، فأن هذا الاختيار لم يكن موفقا ، وظل بعيدا عن الواقع ، وهنا لا نقصد مطالبة الكاتب بأن يكون اكثر واقعية ، على الرغم من ان موضوعة الحرب تتطلب ذلك بنسبة ما ، الا ان للمكان بحدوده الجغرافية ، وبمواصفاته ، دور مؤثر في الشخصية ، والعكس صحيح ، ان لم يكن من خلال تغييره ، فأنها تؤثر فيه من خلال الباسه لبوسات عدة ، وان قارئ الرواية ، من ابناء مدينة الناصرية ، سيتعرف عليها مباشرة ، اما غيرهم ، فلا يمكنهم ذلك . الا ان هذه المعرفة بها او عدمها ، سوف لن تفيد بشيء من مجهولية هذه المدينة ، على الرغم من كل شيء .

واذا كان العنوان يوحي لمن يقرأ الرواية ، ، على ان ( العنقاء ) رمزلشعب ، او للمدينة التي تدور بها الاحداث ،  الا ان خيبة امل القارئ كبيرة عندما يتعرف في الفصل الاخير على ان العنقاء هي رمز لـ ( مريم ) الحبيبة ... وليس هذا من باب كسر توقع القارئ حسب نظريات القراءة الحديثة ، وانما سببه اختيار عنوانا كبيرا رمز الى مرموز لا يطابقه.

وعندما تنتهي الرواية بموت ( مريم ) ، فأن القارئ لا يعرف بعد ذلك أي شيء عن الحرب والمدينة وناسها .

واخيرا ، ان من الامور المهمة التي يمكن لرواية الحرب ان تتناولها ، هو دور الوعي عند الشخصية ( البطل ) على اقل تقدير ، وما يكوّنه من رأي عما يدور حوله ، الا ان ( يوم حرق العنقاء ) لم تلتفت لذلك ، فجاءت دون ان تطرح رأ او وجهة نظر ( البطل ) او غيره من الشخوص بعمق حول الحرب ، فظل( البطل ) يتحرك دون وعي بما يحدث ،  انه عبارة عن اشنهعلى سطح الماء لا جذور لها في الارض .  

 

الهوامش:

1- بادرت الكثير من المؤسسات الثقافية مثل وزارة الثقافة والاعلام  ونادي الكتاب في دار الشؤون الثقافية العامة ومجلة الاقلام الى اجراء مسابقات في فنون الابداع كافة وخصصت الجوائز للفائزين ، حتى باتت مثل هذه المسابقات سنوية ،ان كان ذلك ابان الحرب العراقية الايرانية او كان ذلك ابان العدوان الثلاثيني على العراق . ومن الطريف ان نذكر ان الكثير ممن لم تكتمل عدتهم الابداعية اثناء المسابقات تلك وردت اعمالهم لاسباب فنية ، والكثير من هؤلاء – خاصة من محافظة ذي قار -  نعرفهم انا والزميل المبدع محسن الخفاجي الذين كانوا يرسلون اعمالهم الروائية او القصصية او المسرحية معنا لكي نتدخل لاشراكها في تلك المسابقات، من اخذ يتهم مثل هذه المسابقات بعد احتلال العراق في 2003 بالسطحية ، وان الاعمال المشاركة فيها هي لكتاب السلطة وانهم لم يشاركوا فيها لموقف من السلطة او لعدم تطبيله لها،ونسوا ان افضل مبدعي العراق قد شارك فيها مع اختلافهم الفكري مع الدولة وقتذاك .      

2- النار والزيتون – باسم عبد الحميد حمودي – دار الرشيد للنشر – بغداد – 1982 – ص11 .

3- البناء الفني لرواية الحرب في العراق – عبد الله ابراهيم – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1988 – ص5-6 .

4- عبد الرحمن مجيد الربيعي والبطل السلبي في القصة العربية المعاصرة – د. افنان القاسم – عالم الكتب – بيروت – ط1 – 1984 – ص29 .

5- اشكالية المكان في النص الادبي – ياسين النصير - دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1986 – ص8 .

* يوم حرق العنقاء – محسن الخفاجي - دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – ط1-  2000  .

 

 

الثقل الابداعي للقصيدة

 

كثيرا ما نقرأ القصيدة – أي قصيدة – وتعجبنا أي اعجاب فنسأل انفسنا ، او لنقل ذائقتنا النقدية ، او ذائقتنا الاعجابية ، ما الذي اعجبنا فيها ؟ فيأتي الجواب – ربما – سريعا:  انه البيت الفلاني او الفكرة الفلانية او ما فيها – جميعا – من نظرة مأساوية او مفرحة ، او ... الخ .

ومن الاجابات السريعة : اعجبتني . افرحتني . احزنتني . حركت في نفسي (كذا) من المشاعر . اجابات كثيرة ، الا انها عامة .

ان السطور السابقة ليست من باب وضع نظرية خاصة لما يسمى في النقد الحديث (استجابة القاريء) ولا هي اجابة لسؤال : كيف تتذوق الشعر؟ وانما هي استجابة لسؤال طرحته على ذائقتي النقدية ، هو : ماذا اعجبك بقصيدتي الفرزدق وجرير ؟ ولهذا كتبت هذه السطور ،

ان ما كتبته هنا اسميته (الثقل الابداعي للقصيدة ) أي لو وزنا القصيدة فأننا سنجدها مبنية على بيت واحد هو الذي دارت حوله فكرة –افكار- القصيدة بأجمعها ، وارى ان الذي دعانا للاعجاب بهذه القصيدة او تلك ، ودون شعور ، هو هذا البيت ، اما القصيدة فهي عبارة عن ابيات جاءت تحف بهذا البيت ، او تدور حوله ، او تنوع لصوره .

1

جرير والفرزدق:

هما شاعران معروفان ، ومهما كتبت عنهما لا افيهم حقهما ، الا انني اذكر :

جرير:

(28 - 110 هـ / 648 - 728 م)

هو: جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي، أبو حزرة، من تميم.

أشعر أهل عصره، ولد ومات في اليمامة، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم فلم يثبت أمامه غير الفردق والأخطل. كان عفيفاً، وهو من أغزل الناس شعراً.(1)  

***

الفَرَزدَق:

(( ...(38 - 110 هـ / 658 - 728 م).

هو :همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس.

شاعر من النبلاء، من أهل البصرة، عظيم الأثر في اللغة.

وهو صاحب الأخبار مع جرير والأخطل، ومهاجاته لهما أشهر من أن تذكر. كان شريفاً في قومه، عزيز الجانب، يحمي من يستجير بقبر أبيه.

توفي في بادية البصرة، وقد قارب المئة .)).(2)

وقال الفرزدق:  ((أنا عند الناس أشعرُ العرب، ولرُبَّما كان نزْعُ ضِرسٍ أيسرَ عليَّ من أن أقول بيت شعر )).(3)

لقب بالفرزدق لجهامة وجهه وغلظه. ومعنى الفرزدق ((جمع فرزدقة وهو قطع العجين غير مخبوزة ويقال بل الرغيف فرزدقة ويقال إنه فتات الخبز.)).(4)

وجاء في(الحلل في اصلاح الخلل في كتاب الجمل)

((واختلف كلام ابن قتيبة في تلقيبه بالفرزدق:

فقال في أدب الكتاب: الفرزدق: قطع العجين، واحدها فرزدقة، وهو لقب له؛ لأنه كان جهم الوجه.!

وقال في كتاب طبقات الشعراء: إنما لقب بالفرزذق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي تشربها النساء، وهي الفرزدقة.

والقول الأول أصح؛ لأنه كان أصابه جدري في وجهه، ثم برئ منه، فبقى وجهه جهماً)).(5) 

***

قالوا عن الفرزدق :

قال صاحب(الاغاني)

  (( قال ابن سلام: وقال ابن دأب: الفرزدق أشعر عامةً وجرير أشعر خاصةً. وقال أبوعبيدة: كان أبو عمرو يشبه جريراً بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة، قال أبو عبيدة: يحتج من قدم جريراً بأنه كان أكثرهم فنون شعر، وأسهلهم ألفاظاً، وأقلهم تكلفاً، وأرقهم نسيباً، وكان ديناً عفيفاً. وقال عامر بن عبد الملك: جرير كان أشبههما وأنسبهما.

ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني: قال خالد بن كلثوم: ما رأيت أشعر من

جرير والفرزدق)).(6)

 

وقال(( النُّميري:

يا صاحِبيّ دنا الرّواح فسِيرا         غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهجاءِ جريرا)).(7)

وقال المبرد : ((وقيل لبشر بن مروان: أيُّما أشعر، جرير أم الفرزدق أم الأخطل؟ فقال: والله ما كان الأخطل مثلهما، ولكن أبت ربيعة إلا أن تجعله ثالثاً، قال: أجرير أم الفرزدق؟ فقال: إن جريراً سلك أساليب من الشعر لم يسلكها الفرزدق، ولقد ماتت النوار وكانوا ينوحون عليها بشعر جرير. وكان الأصمعي يقول: قال أبو عمرو بن العلاء: الأخطل ثم الفرزدق ثم جرير، وكان أبو عبيدة يقول بمثل قول أبي عمرو. ويروى أن الفرزدق قال للنوار: أنا أشعر أم جرير؟ قالت: إنك لشاعر وإن جريراً والله لشاعر، قال لها: أتُقسمين على جرير! قالت: إنه والله غلبك على حُلوه وشاركك في مُرّه. وسئل ابن دأب عن جرير والفرزدق فقال:

الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة. وسئل يونس بن حبيب عنهما فقال أبو عبيدة

للسائل: أنا أخبرك عنه، الفرزدق أشعر. )).(8)

***

القصيدتان :

1- قصيدة جرير:

هي قصيدة رثاء ، يرثي زوجته (( خالدة بنت سعيد بن أوس بن معاوية بن خلف بن بجاد بن معاوية بن أوس بن كليب، وهي أم حزرة وكان جرير يسمي هذه القصيدة الجوساء - وقيل الحوساء - لذهابها في البلاد.)). (9)

 

لولا الحياء

جرير يرثي امرأته أمّ حَزْرة:

لولا الحياءُ لـــــهاجَني استعبارُ     ولزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ

وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّعُ نَظــــرَةٍ         في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ

فَجَزاكِ رَبُّكِ في عَشيرِكِ نَظــرَةً         وَسَقى صَداكِ مُجَلجِلٌ مِدرارُ

وَلَّهتِ قَلبي إِذ عَلَتني كَــــبرَةٌ         وَذَوُو التَمائِمِ مِن بَنيكِ صِغارُ

أرعَى النُّجومَ وقد مضتْ غَورِيَّةٌ         عُصَبُ النُّجوم كأنَّهنَّ صِوارُ

نِعمَ القَرينُ وَكُنتِ عِــلقَ مَضِنَّةٍ          وارى بِنَعفِ بُلَيَّةَ الأَحجارُ

عَمِرَت مُكـَرَّمَةَ المَساكِ وَفارَقَت          ما مَسَّها صَلَفٌ وَلا إِقتارُ

فسقَى ثرَى جدثٍ ببُرقة ضاحكٍ         هزِمٌ أجشُّ وديمةٌ مـــِدرارُ

هَزِمٌ أَجَــشُّ إِذا اِستَحارَ بِبَلدَةٍ         فَكَأَنَّما بِجِوائِها الأَنهارُ

متراكب زجِـلٌ يُضيءُ وميضُهُ        كالبُلقِ تحت بطونها الأمـهارُ

كانتْ مُكارمةَ العَشير ولـم يكنْ        يخشَى غوائلَ أمّ حَزْرةَ جـارُ

ولقد أراكِ كُسيتِ أجــملَ منظرٍ       ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقــــارُ

وَالريــــحُ طَيِّبَةٌ إِذا اِستَقبَلتِها        وَالعِرضُ لا دَنِسٌ وَلا خَوّارُ

وَإِذا سَـرَيتُ رَأَيتُ نارَكِ نَوَّرَت         وَجهاً أَغَرَّ يَزينُهُ الإِسفارُ

صــلَّى الملائكةُ الَّذين تُخيِّروا          والمُصطفونَ عليك والأبرارُ

وعليكِ مـن صلواتِ ربّك كلَّما         ضجَّ الحجيجُ ملبِّينَ وغاروا

يا نظرة لك يوم هاجـتْ عبرةً         مِن أُمّ حَـرزة بالنُّميرةِ دارُ

تحيي الرَّوامـسُ ربعَها فتجدُّهُ         بعد البــلَى وتُميتُهُ الأمطارُ

وَكَأَنَّ مَنزِلَةً لَـــها بِجُلاجِلٍ         وَحيُ الزَبورِ تُجِدُّهُ الأَحبارُ

لا تُكثِرَنَّ إِذا جَعَلتَ تَــلومُني         لا يَذهَبَنَّ بِحِلمِكَ الإِكثارُ

كانَ الخليطُ همُ الخليطُ فأصبحوا        مُتبدِّلين وبالدِّيار ديـــارُ

لا يلبثُ القُرنــــاءُ أنْ يتفرَّقوا      ليلٌ يــــكرُّ عليهمُ ونهارُ

أَفَأُمَّ حَزرَةَ يا فــــَرَزدَقُ عِبتُم          غَضِبَ المَليكُ عَلَيكُمُ القَهّارُ

كانَت إِذا هَــجَرَ الحَليلُ فِراشَها          خُزِنَ الحَديثُ وَعَفَّتِ الأَسرارُ

لَيسَت كَأُمِّكَ إِذ يَعَضُّ بِقُــرطِها          قَينٌ وَلَيسَ عَلى القُرونِ خِمارُ

سَنُثيرُ قَينَكُمُ وَلا يوفى بِــــها          قَينٌ بِقارِعَةِ المِقَرِّ مُثارُ

وُجِدَ الكَتيفُ ذَخيرَةً في قـــَبرِهِ          وَالكَلبَتانِ جُمِعنَ وَالميشارُ

يَبكي صَداهُ إِذا تَهَزَّمَ مِرجَـــلٌ          أَو إِن تَثَلَّمَ بُرمَةٌ أَعشارُ

رَجَفَ المِقَرُّ وَصاحَ فــي شَرقِيِّهِ           قَينٌ عَلَيهِ دَواخِنٌ وَشَرارُ

قَتَلَت أَباكَ بَنــــو فُقَيمٍ عَنوَةً           إِذ جُرَّ لَيسَ عَلى أَبيكَ إِزارُ

حَدراءُ أَنكَـــرَتِ القُيونَ وَريحَهُم           وَالحُرُّ يَمنَعُ ضَيمَهُ الإِنكارُ

لَــــمّا رَأَت صَدَأَ الحَديدِ بِجِلدِهِ          فَاللَونُ أَورَقُ وَالبَنانُ قِصارُ

قالَ الفَرَزدَقُ رَقِّـــعي أَكيارَنا       قالَت وَكَيفَ تُرَقَّعُ الأَكيارُ

رَقِّع مَتاعَكَ إِنَّ جَدّي خـــالِدٌ       وَالقَينُ جَدُّكَ لَم تَلِدكَ نِزارُ

وَسَمِعتُها اِتَّصَلَت بِذُهلٍ إِنَّـــهُم       ظَلَموا بِصِهرِهِمُ القُيونَ وَجاروا

دَعَتِ المُصَوِّرَ دَعوَةً مَسموعَةً       وَمَعَ الدُعاءِ تَضَرُّعٌ وَحِذارُ

عاذَت بِرَبِّكَ أَن يَكـونَ قَرينُها       قَيناً أَحَمَّ لِفَسوِهِ إِعصارُ

أَوصَـــت بِلائِمَةٍ لِزيقٍ وَاِبنِهِ       إِنَّ الكَريمَ تَشينُهُ الأَصهارُ

إِنَّ الفَضيحَةَ لَــو بُليتِ بِقَينِهِم       وَمَعَ الفَضيحَةَ غُربَةٌ وَضِرارُ

هَلّا الزُبَيرَ مَنَعــتَ يَومَ تَشَمَّسَت       حَربٌ تَضَرَّمُ نارُها مِذكارُ

وَدَعا الزُبَيرُ فَما تَحَرَّكَتِ الحُبى       لَو سُمتَهُم جُحَفَ الخَزيرِ لَثاروا

غَـــرّوا بِعَقدِهِمُ الزُبَيرَ كَأَنَّهُم       أَثوارُ مَحرَثَةٍ لَهُنَّ خُوارُ

وَالصِمَّتَينِ أَجَــــرتُمُ فَغَدَرتُمُ       وَاِبنُ الأَصَمِّ بِحَبلِ بَيبَةَ جارُ

أَخزاكَ رَهطُ اِبنِ الأَشَدِّ فَأَصبَحَت    أَكبادُ قَومِكَ ما لَهُنَّ مَرارُ

باتَت تُكَلَّتُ ما عَلِمــــتَ وَلَم تَكُن     عونٌ تُكَلَّفُهُ وَلا أَبكارُ

سَبّوا الحِمارَ فَسَوفَ أَهجو نِسوَةً      لِلكيرِ وَسطَ بُيوتِهِنَّ أُوارُ

إِنَّ الفَرَزدَقَ لَن يُزاوِلَ لُؤمَــهُ      حَتّى يَزولَ عَنِ الطَريقِ صِرارُ

فيمَ المِراءُ وَقَد سَبَقتُ مُـجاشِعاً      سَبقاً تَقَطَّعُ دونَهُ الأَبصارُ

قَضَتِ الغَطارِفُ مِن قُرَيشٍ فَاِعتَرِف  يا اِبنَ القُيونِ عَلَيكَ وَالأَنصارُ

هَل في مِئينَ وَفي مِئينَ سَبَقتُها        مَدَّ الأَعِنَّةِ غايَةٌ وَحِضارُ

كَذَبَ الفَرَزدَقُ إِنَّ عودَ مُجاشِعٍ       قَصِفٌ وَإِنَّ صَليبَهُم خَوّارُ

وَإِذا بَطِنتَ فَأَنتَ يا اِبنَ مُجاشِعٍ       عِندَ الهَوانِ جُنادِفٌ نَثّارُ

سَعدٌ أَبَوا لَكَ أَن تَفي بِجِوارِهِم         أَو أَن يَفي لَكَ بِالجِوارِ جِوارُ

قَد طالَ قَرعُكَ قَبلَ ذاكَ صَفاتَنا       حَتّى صَمِمتَ وَفُلِّلَ المِنقارُ

يا اِبنَ القُيونِ وَطالَما جَرَّبتَني          وَالنَزعُ حَيثُ أُمِرَّتِ الأَوتارُ

ما في مُعاوَدَتي الفَرَزدَقَ فَاِعلَموا       لِمُجاشِعٍ ظَفَرٌ وَلا اِستِبشارُ

إِنَّ القَصائِدَ قَد جَدَعنَ مُجاشِعاً          بِالسُمِّ يُلحَمُ نَسجُها وَيُنارُ

وَلَقوا عَواصِيَ قَد عَيِيتَ بِنَقضِها       وَلَقَد نُقِضتَ فَما بِكَ اِستِمرارُ

قَد كانَ قَومُكَ يَحسَبونَكَ شاعِراً         حَتّى غَرِقتَ وَضَمَّكَ التَيّارُ

نَزَعَ الفَرَزدَقُ ما يَسُرُّ مُجاشِعاً           مِنهُ مُراهَنَةٌ وَلا مِشوارُ

قَصُرَت يَداكَ عَنِ السَماءِ فَلَم يَكُن       في الأَرضِ لِلشَجَرِ الخَبيثِ قَرارُ

أَثنَت نَوارُ عَلى الفَرَزدَقِ خَزيَةً          صَدَقَت وَما كَذَبَت عَلَيكَ نَوارُ

إِنَّ الفَرَزدَقَ لا يَزالُ مُقَنَّعاً                وَإِلَيهِ بِالعَمَلِ الخَبيثِ يُشارُ

لا يَخفَيَنَّ عَلَيكَ أَنَّ مُجاشِعاً               لَو يُنفَخونَ مِنَ الخُؤورِ لَطاروا

قَد يُؤسَرونَ فَما يُفَكَّ أَسيرُهُم             وَيُقَتَّلونَ فَتَسلَمُ الأَوتارُ

وَيُفايِشونَكَ وَالعِظامُ ضَعيفَةٌ              وَالمُخُّ مُمتَخَرُ الهُنانَةِ رارُ

نَظَروا إِلَيكَ وَقَد تَقَلَّبَ هامُهُم             نَظَرَ الضِباعُ أَصابَهُنَّ دُوارُ

قُرِنَ الفَرَزدَقُ وَالبَعيثُ وَأُمُّهُ             وَأَبو الفَرَزدَقِ قُبِّحَ الإِستارُ

أَضحى يُرَمِّزُ حاجِبَيهِ كَأَنَّهُ               ذيخٌ لَهُ بِقَصيمَتَينِ وِجارُ

لَيسَت لِقَومي بِالكَتيفِ تِجارَةٌ             لَكِنَّ قَومي بِالطِعانِ تِجارُ

يَحمي فَوارِسيَ الَّذينَ لِخَيلِهِم             بِالثَغرِ قَد عَلِمَ العَدُوُّ مُغارُ

تَدمى شَكائِمُها وَخَيلُ مُجاشِعٍ       لَم يَندَ مِن عَرَقٍ لَهُنَّ عِذارُ

إِنّا وَقَينُكُمُ يُرَقِّعُ كيرَهُ                 سِرنا لِنَغتَصِبَ المُلوكَ وَساروا

عَضَّت سَلاسِلُنا عَلى اِبنَي مُنذِرٍ    حَتّى أَقَرَّ بِحُكمِنا الجَبّارُ

وَاِبنَي هُجَيمَةَ قَد تَرَكنا عَنوَةً       لِاِبنَي هُجَيمَةَ في الرِماحِ خُوارُ

وَرَئيسُ مَملَكَةٍ وَطِئنَ جَبينَهُ       يَغشى حَواجِبَهُ دَمٌ وَغُبارُ

نَحمي مُخاطَرَةً عَلى أَحسابِنا       كَرُمَ الحُماةُ وَعَزَّتِ الأَخطارُ

وَإِذا النِساءُ خَرَجنَ غَيرَ تَبَرُّزٍ     غِرنا وَعِندَ خُروجِهِنَّ نَغارُ

وَمُجاشِعٌ فَضَحوا فَوارِسَ مالِكٍ   فَرَبا الخَزيرُ وَضُيِّعَ الأَدبارُ

أَغمامَ لَو شَهِدَ الوَقيطَ فَوارِسي    ما قيدَ يُعتَلُ عَثجَلٌ وَضِرارُ

يا اِبنَ القُيونِ وَكَيفَ تَطلُبُ مَجدَنا       وَعَلَيكَ مِن سِمَةِ القُيونِ نِجارُ

***

قصيدة الفرزدق :

    جاءت هذه القصيدة ردا على سؤال طرح في وقت ما وفي زمن ما ومن شخصية معروفة عن شخصية معروفة ايضا ، الا ان السائل اراد انكاره مما شاهده من اكبار للناس لهذه الشخصية ، انها قصيدة مدح وتعريف بشخصية .

السائل : هو : هشام بن عبد الملك ابن الخليفة الاموي المعروف عبد الملك .

المكان : بيت الله ، اثناء مناسك الحج .

الزمان : عهد الدولة الاموية .

المسؤول عنه : هو الامام عليّ بن الحسين بن علي السجاد. (10)

المجيب : الشاعر الفرزدق .

تذكر كتب الاخبار:

((وقيل: إنه لما حج هشام في أيام أبيه طاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أهل لشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟

فقال هشام: لا أعرفه! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان أبو فراس الفرزدق حاضراً فقال: أنا والله أعرفه، فقال الشامي: من هذا يا أبا فراس، فقال ( القصيدة)

فلما سمع هشام ذلك غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين رضي الله عنه، اثني عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله لا للعطاء والصلات. فقال زين العابدين: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نعود فيه. فقبلها الفرزدق.)).(11)

***

هذا الذي

 

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته         والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم         هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله         بجده أنبياء الله قد ختموا

وليس قولك من هذا بضائره         العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما         يستوكفان ولا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره         يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا         حلو الشمائل تحلو عنده نعم

ما قال لا قط إلا في تشهده         لولا التشهد كانت لاءه نعم

عم البرية بالإحسان فانقشعت         عنها الغياهب والإملاق والعدم

إذا رأته قريش قال قائلها:         إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يغضى حياءً ويغضى من مهابته         فما يكلم إلا حين يبتسم

بكفه خيزران ريحه عبقٌ         من كف أروع في عرنينه شمم

يكاد يمسكه عرفان راحته         ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

الله شرفه قدماً وعظمه         جرى بذاك له في لوحه القلم

أي الخلائق ليست في رقابهم         لأولية هذا أوله نعم

من يشكر الله يعرف أولية ذا         فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت         عن نيلها عرب الإسلام والعجم

من جدُّه دان فضل الأنبياء له         وفضل أمته دانت له الأمم

مشتقة من رسول الله نبعته         طابت مفارزه والخيم والشيم

ينشق ثوب الدجى من نور غرته      كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

من معشر حبهم دين وبغضهمو         كفر وقربهم منجى ومعتصم

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم         في كل بدء ومختوم به الكلم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم         أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم         ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت         والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم         سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

يستدفع الشروالبلوى بحبهم         ويسترقُّ به الإحسان والنعم (12)

***

    جاء في كتب الاخبار :

    (( قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو يعقوب الثقفي عن الشعبي: أن الفرزدق خرج حاجاً، فلما قضى حجه عدل إلى المدينة فدخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فسلم.

    فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت! أشعر منك الذي قال:

بنفسي من تجنبه عـــزيزٌ         علي ومن زيارته لمــام

ومن أمسي وأصبح لا أراه           ويطرقني إذا هجع النيام

     فقال: والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. قالت: أقيموه فأخرج ثم عاد إليها من الغد.

     فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس. قال: أنا. قالت: كذبت! صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول:

لولا الحياء لعــادني استعبار         ولزرت قبرك والحبيب يزار

كانت إذا هجر الضجيع فراشها          كتم الحديث وعفت الأســرار

لا يلبث القرنــاء أن يتفرقوا          ليلٌ يـــــكر عليهم ونهار

     فقال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه، فأمرت به فأخرج. ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولداتٌ لها كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها. فقالت له سكينة: يا فرزدق، من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت:

كذبت! صاحبك أشعر منك حيث يقول:

إن العيون التي فــي طرفها مرضٌ         قتلننا ثم لــم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به         وهن أضعف خلق الله أركانا )) . (13)

     ويذكر صاحب الصناعتين :

    (( والمقدّم في صنعة الكلام هو المستولى عليه من جميع جهاته، المتمكّن من جميع أنواعه، وبهذا فضّلوا جريراً على الفرزدق. وقالوا: كان له في الشعر ضروب لا يعرفها الفرزدق.

    وماتت امرأته النّوار فناح عليها بشعر جرير:

لولا الحياءُ لها جنِى استعبارُ         ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ

    وكان البحتريّ يفضّل الفرزدق على جرير، ويزعم أنه يتصرّف من المعاني فيما لا يتصرّف فيه جرير، ويورد منه في شعره في كلّ قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى. قال: وجريريكرّر في هجاء الفرزدق ذكر الزبير، وجعثن، والنوار وأنه قينُ مجاشع. لا يذكر شيئاً غيرهذا.

    وسئل بعضهم عن أبي نواس ومسلم، فذكر أن أبا نواس أشعر، لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، قال: ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغيّر عنها.

    وأبلغُ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرّة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتدّ إذا أراد. ومن هذا الوجه فضّلوا جريراً على الفرزدق، وأبا نواس على مسلم. )).(14)

    (( وقيل لبشار: من أشعر الثلاثة؟ فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه، وكان لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق. ولقد ماتت النوار فكانوا ينوحون عليها بشعر جرير، الذي رثى به أم حرزة، وهو:

لولا الحياء لعــــادني استعبار     ولزرت قبرك، والحبيب يزارُ

ولقد أراكِ كسيت أجمل منظرٍ         ومع الجمال سكينةٌ ووقــارُ

لا يلبثُ القرناء إن يتفرقـوا      ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونــــهارُ)). (15)

***

 اين الثقل الابداعي ؟

      لو تفحصنا قصيدة جريرالتي يرثي بها زوجته التي كان يحبها ، وحسب ذائقتي النقدية ، اوذائقتي الاعجابية ، ان الثقل الابداعي في هذه القصيدة هو بيت ، اما ما تبقى منها فهو ما دار حوله ، أي ان هذا البيت هو قطب الرحى .

يقول :

فلقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ         ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقارُ

    في هذا البيت يظهر ان جوا سكونيا يلفها ، فهناك الموت واجوائه السكونية ، وهناك الجمال والوقار اللذين تلفهما السكينة، فالسكون هو عالم مسيطر على الجو العام الذي يلف القصيدة ، وهو عالم الموت الذي لف الزوجة بأجوائه .

     فالشاعر – الزوج المفجوع يرى تحت الكفن جمال ، ويرى كذلك الوقار الذي كان يلفه في حياتها وهو الان اثناء الموت يلفها ايضا ، انها – حسب نظرة الشاعر / الزوج المفجوع اجمل ما راه .

     اما ما تبقى من القصيدة فهو زائد عن الحاجة ، ذلك لان القصيدة حذت حذو ما قبلها من قصائد بوجود مقدمة استهلالية، بالنسبة للابيات التي تقدمت على هذا البيت ، علما اننا لا نعرف العدد الاصلي لابيات القصيدة فالروايات لها تختلف بهذا الجانب ، اما الابيات التي جاءت بعد هذا البيت فهي تنوع للحزن الذي لف الشاعر .

     واذا كانت المقدمة الطللية قد استهلت بها القصيدة الجاهلية ، فأن هذه القصيدة وغيرها عند اكثر من شاعر قد استخدمت ظواهر الطبيعة كالمطر والرعد اجواء استهلالية، ما زجتها بما تحمل احاسيس الشاعر / الزوج من مشاعر جياشة تجاه الموت ، وموت زوجته خاصة .

    ارى ان ما ثبت في الديوان من قصيدة ذات 82 بيت ليس صحيحا ، وانما الصحيح من القصيدة هو ما ثبته صاحب ( الاشياه والنظائر) والتي جاءت بـ 13 بيتا ، اضافة لما اضافه صاحب (الحماسة البصرية ) من بيت يقول :

    كانَتْ إذا هَجَر الضَّجِيعُ فِراشَها         صِينَ الحَدِيثُ وعَفَّتِ الأَسْرارُ

    والقصيدة التي ذكرها صاحب ( الاشياه والنظائر) هي :

لولا الحياءُ لهاجَني استعبارُ         ولزُرتُ قبركِ والحبيبُ يُزارُ

فسقَى ثرَى جدثٍ ببُرقة ضاحكٍ         هزِمٌ أجشُّ وديمةٌ مِدرارُ

متراكمٌ زجِلٌ يُضيءُ وميضُهُ         كالبُلقِ تحت بطونها الأمهارُ

صلَّى الملائكةُ الَّذين تُخيِّروا         والمُصطفونَ عليك والأبرارُ

فلقد أراكِ كُسيتِ أجملَ منظرٍ         ومع الجَمالِ سكينةٌ ووقارُ

فعليكِ من صلواتِ ربّك كلَّما         ضجَّ الحجيجُ ملبِّينَ وغاروا

كانتْ مُكارمةَ العَشير ولم يكنْ         يخشَى غوائلَ أمّ حَزْرةَ جارُ

ولَّهتِ قلبِي إذ عَلَتْني كبرةٌ         وذَوو التَّمائمِ من بَنيكِ صغارُ

أرعَى النُّجومَ وقد مضتْ غَورِيَّةٌ         عُصَبُ النُّجوم كأنَّهنَّ صِوارُ

يا نظرة لك يوم هاجتْ عبرةً         مِن أُمّ حَزْرة بالنُّميرةِ دارُ

تُحيي الرَّوامسُ ربعَها فتجدُّهُ         بعد البلَى وتُميتُهُ الأمطارُ

كانَ الخليطُ همُ الخليطُ فأصبحوا         مُتبدِّلين وبالدِّيار ديارُ

لا يلبثُ القُرناءُ أنْ يتفرَّقوا         ليلٌ يكرُّ عليهمُ ونهارُ

    اما ما تبقى من ابيات كثار عن الفرزدق الشاعر والزبير فلا علاقة له بأجواء القصيدة ، بل ارى انه دخيل عليها .

***

قصيدة الفرزدق:

     اما لو قرأنا قصيدة الفرزدق فأن قطب الرحى فيها هو :

ما قال لا قط إلا في تشهده         لولا التشهد كانت لاءه نعم

     مدار هذا البيت هو لفظة (لا) التي تعني النفي ، فالشخص الممدوح (علي بن الحسين السجاد) يتصف بهذه الصفة دون سائر الناس ، فهو لا يلفظ هذه اللفظة عندما يسأل ، واذا لفظها لسبب ما فهي لا تأخذ المعنى نفسه – النفي ، وانما تعني الايجاب ، الا ان هذه اللفظة تأخذ معناها الاصلي في موضع واحد وهو عندما يلفظ الشهادة ، عندما يقول لا اله الا الله .

    ولو عدنا للقصيدة ذاتها ، فأن كل الابيات المتبقية والتي اختلف عدد ابياتها حسب اختلاف الروايات فأنها مدح عادي .(16)

***

2

أيظن

قصيدة نزار قباني

 أيظن أني لعبة بيديه؟

أنا لا أفكر في الرجوع إليه

اليوم عاد كأن شيئا لم يكن

وبراءة الأطفال في عينيه

ليقول لي : إني رفيقة دربه

وبأنني الحي الوحيد لديه

حمل الزهور إليّ .. كيف أرده

وصباي مرسوم على شفتيه

ما عدت أذكر .. والحرائق في دمي

كيف التجأت أنا إلى زنديه

خبأت رأسي عنده .. وكأنني

طفل أعادوه إلى أبويه

حتى فساتيني التي أهملتها

فرحت به .. رقصت على قدميه

سامحته .. وسألت عن أخباره

وبكيت ساعات على كتفيه

وبدون أن أدري تركت له يدي

لتنام كالعصفور بين يديه ..

ونسيت حقدي كله في لحظة

من قال إني قد حقدت عليه؟

كم قلت إني غير عائدة له

ورجعت .. ما أحلى الرجوع إليه ..

    هي قصة بثوب شعري كغالب قصائد قباني الغزلية ، وهي من قصائد السهل الممتنع كما يقول نقادنا العرب القدماء كباقي شعر نزار. فهو يروي لحظة لقاء فتاة لحبيب سابق كان ان تركها ثم عاد اليها ، فماذا تفعل ؟ الا انها تضعف في تلك اللحظة اما هذا الحبيب الذي جعل منها لعبة .

    الا ان البيت  الثالث عشر هو محور هذه القصة – القصيدة .

 حتى فساتيني التي أهملتها

فرحت به .. رقصت على قدميه

    فهذا البيت يصور لنا حالة الجفاء التي كانت بينهما عندما تركها الحبيب، فعندما نسأل لماذا اهملت الفساتين ؟ فأننا نعرف بداهة ان السبب هو الجفاء في علاقة الحب بينهما ، الا ان هذه الفساتين التي كانت متروكة في مكان ما بأهمال قد فرحت ورقصت عند قدمي المحبوب عندما عاد مرة اخرى .

    لنتساءل : لماذا رقصت هذه الفساتين ( والبيت يوحي بأن الفتاة قد غيرت اكثر من مرة فساتينها اثناء اللقاء لفرحها يه ) على قدمي الحبيب ؟

    ان قاريء شعر نزار قباني يصدمه شيء فيه ، وهو امتهان المرأة . خاصة الحبيبة ، والامثلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا ، الا ان هذا البيت يختصر هذه السلبية من قبل المرأة – الحبيبة وهذا الامتهان لها من قبل الرجل – الحبيب ، حنى وصل الحال بالفساتين ان ترقص على قدميه لا في مكان اخر اكثر احتراما او اكثر شوقا .

 

الهوامش:

1- حسب تعريف قرص الشعر

2- حسب تعريف قرص الشعر

3- البيان والتبيين

4- المبهج في تفسير اسماء شعراء الحماسة – ابن جني

5- الحلل في اصلاح الخلل في كتاب الجمل

6- الاغاني

7- (التذكرة الفخرية)

8- الفاضل في اللغة والادب – المبرد

9- ( منتهى الطلب في اشعار العرب – القصيدة طويلة تكمل )

10- هو: (( علي بن الحسين - زين العابدين ( عليه السلام ) كنيته أبو محمد ، أمه شاه زنان بنت كسرى بن يزدجر بن شهريار ، ولد يوم الخميس الخامس من شعبان 38 ه‍ قبل استشهاد جده أمير المؤمنين بستين. )). انظر: ((الإمام الحسين عليه السلام - الحاج حسين الشاكري  ص 7))

 

11- (اعلام الناس بما وقع للبرامكة )وكذلك: (الجليس الصالح الكافي) وكذلك: الحماسة المغربية)وكذلك : (المحاسن والمساوئ)وكذلك: (المستجاد من فعلات الاجواد) و(ثمرات الاوراق في المحاضرات)و( مراة الجنان وعبرة اليقظان )

12- ( وللقصيدة روايات اخري جمعتها في بناء واحد :

هذا سليلُ حُسين وابنِ فاطمةٍ         بنتِ الرَّسولِ الَّذي انجابَتْ بهِ الظُّلَمُ

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته         والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا عليُّ رسولُ الله والدهُ أمستْ         بنورِ هداهُ تهتدي الأممُ

هذا الذي عمهُ الطيارُ جعفرُ         والمقتولُ حمزةُ ليثٌ حبهُ قسمُ

هذا ابنُ فاطمةَ الغراءَ ويحكمُ         وابنُ الوصيّ الذي في سيفهِ النقمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلهُ         هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلهمُ

هذا ابن خير عباد الله كلهم         هذا التقي النقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها:         إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت         عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته         ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

في كفه خيزران ريحه عبقٌ         من كف أروع في عرنينه شمم

يغضى حياءً ويغضى من مهابته         فما يكلم إلا حين يبتسم

ينشق نور الهدى من نور غرته         كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم

مشتقة من رسول الله نبعته         طابت مفارزه والخيم والشيم

ينجاب نور الهدى عن نور غرته         كالشمس ينجاب عن إشراقها الظُّلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله         بجده أنبياء الله قد ختموا

الله شرفه قدماً وعظمه         جرى بذاك له في لوحه القلم

من جدُّه دان فضل الأنبياء له         وفضل أمته دانت له الأمم

وليس قولك من هذا بضائره         العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عم نفعهما         يستوكفان ولا يعروهما عدم

سهل الخليقة لا تخشى بوادره         يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم

لا يخلف الوعد ميمونٌ نقيبته         رحب الفناء أريبٌ حين يعتزم

حمال أثقال أقوام إذا فدحوا         حلو الشمائل تحلو عنده نعم

ما قال لا قط إلا في تشهده         لولا التشهد كانت لاءه نعم

عم البرية بالإحسان فانقشعت         عنها الغياهب والإملاق والعدم

من معشر حبهم دين وبغضهمو         كفر وقربهم منجى ومعتصم

يستدفع السوء والبلوى بحبهم         ويسترقُّ به الإحسان والنعم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم         أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم         ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت         والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطاً من أكفهم         سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

مقدم بعد ذكر الله ذكرهم         في كل بدء ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم         خلق كريم وأيد بالندى هضم

أي الخلائق ليست في رقابهم         لأولية هذا أوله نعم

من يعرف الله يعرف أولية ذا         فالدين من بيت هذا ناله الأمم

  النص الاصلي بالاسود من (اعلام الناس بما وقع للبرامكة )

النص الازرق من النص الاخضر (الحماسة المغربية)

النص الاحمر نبحث عنه

13-الاغاني

14- الصناعتين

15- المذاكرة في القاب الشعراء

16- انظر : (اعلام الناس بما وقع للبرامكة )و (الجليس الصالح الكافي) و (الحماسة لمغربية)

 

أضيفت في 01/05/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية