أُهْدَى مِنْ قَطَاة
الإهداء
تمـارى..
ما أعذبَ الضياء!
نجاح
الفيضان
عادت الحافلة القديمة
تحجلُ كبطة فوق الطريق الترابي الأجرد مثقلة بأجساد
الحصادين، مخلفةً وراءها امتداداً أصفر، يحمرُّ ببطء شديد ليكون والجلّنار
صنوين.
امتدادٌ حزينٌ، يجهر للكون أن نهاية النهار قد حانت.
تهالك الحصادون في أماكنهم متعبين متهالكين بوجوههم
المتصحرة المكتوية بلهيب الهاجرة، وشعورهم المغبرّة.
تناثرت بالقرب من أرجلهم، أدواتهم مناجل وصرر تحوي
بقايا طعام، وفتات خبز، وعلب التتن. ما إن ألقى سالم جسده الواهن، المتعب
على المقعد، حتى زفر بحنقٍ وكآبة قائلاً:
-لو قدّر لنا أن نقتني تلك اللعينة!!
وصمت متراخياً دون أن يتمّ كلامه الذي فضّل احتباسه
في داخله. ردّ خلف بتكاسلٍ بعد أن سحب نفساً من سيجارته الغليظة:
-الحال لا يسمح..
في حين نطق شيخهم بتروٍّ ووقارٍ:
-"الحمد لله يا جماعة، اشكروا المولى". كلام الشيخ
حمد إمامُ القرية دائماً ينزل بلسماً، وشفاءً مستجاباً وقاطعاً، في نفوسهم
لما له من مكانةٍ رفيعةٍ بينهم، هو رجلٌ عبر الخمسين، له مواقفٌ جريئةٌ
وصلبةٌ.
كالفراتِ أثناءَ تمرده. ينطوي على لينٍ وقسوةٍ نزقٍ
وهدوءٍ، عصيانٍ وانصياعٍ أما شكله الخارجي فجبلٌ لا تهزّه ريحٌ، تجده
صامتاً جلوداً ومع هذا تجده في أحايين كثيرة إنساناً، شفافاً، متواضعاً
يساعدُ الحصادين في مواسمهم.
وعند العشّيات..
ينضمّ إلى مجلسه في جامع القرية كلّ الرّجال
والصبية، يتداولون أحاديث شتى.
تمتم الجميع كتلاميذ، رددوا جملةً وراء معلمهم:
-الحمد لله..
أخذت "البوسطة" الهرمة تصعد هضاباً، وتنزل أودية،
وتتعرج في الدروب الوعرة أفعى مريضةً. بين أعواد الزلّ وكتل الشوك المرميّة
على حافة الطرقاتِ دخلَ النهارُ الحزيراني في مساء جديدٍ، وما يزالُ الحرّ
ناشراً أسياخه، والفرات ينبسط حلماً يهمس رقةً، وعمقاً، وسلاماً. وأجفان
الحصادين المعبأة نعاساً وكدّاً، الناشدة راحةً تتكاسل في إلقاء نظرةٍ
أخيرةٍ على النهر المستلقي في سريره طفلاً باسماً.
كلّ شيء هادئ. يدعو إلى النعاس والتراخي.
ضجر خليل وهو يقود "البوسطة" فأراد قتل الملل، بوضعه
شريطاً في آلة تسجيل قديمةٍ، متآكلةٍ. لكنّها تفي بالغرض إذ كثيراً ما
آنسته، وذهبت بالوحشة وأطربته. راح المطرب يردحُ بغناءٍ عراقيّ، قريب من
قلوب الفراتيين.
وما أن طلع بأغنيته:
"محيّرني يا البايعني
وآني اشتريتك خالي
نسمة هوى،
زف الجدايل شقرة
نسمة فجر، كانت بشفة سمرة
قدّح المشمش
وإنت من قدّاحه.."
حتى هبّ الشيخ من سهوته صارخاً:
-أخرس هذه الآلة اللعينة!
ومثل لمح البصر، امتدت يد خليل، وشنقت المطرب
لحظتئذٍ، وتموسقت آخر كلمة لفظها ثم همد الصوت.
قال خليل مداعباً:
-إنه سعدون الجابر، أما سمعت به يا شيخ؟!
ردّ بترقٍ:
-لا، ما سمعت به!
وتعالى شخير البعض .
وتثاءب آخرون، وران صمتٌ وسكينةٌ اللهمّ إلا هدير
عجلات الحافلة كانت تئنّ تعباً وصريراً كصوت رحى تجرشُ الحبّ كانت تتسلق
مرتفعات الثرى، وتلاحقُ واطئها. تكشّ من أمامها زواحف البيئة التي خرجت
لتوّها تسعى.
عينا خليل كعيني صقر تحدّقان بالطريق.
فجأةً توقف دون سابق انذار
وقد جحظت عيناه، واشرأب عنقه ممطوطاً إلى الأمام.
يكاد يخترق الزجاج الأمامي المشروخ. كان يمجّ قبل لحظةٍ من سيجارته
الملفوفة بإتقان.
لكن بعد أن رفع جزعه للأمام، عافها، ورمى بها من
نافذة الحافلة دون وعي، وسحب الفرامل بقوة، فأصدرت العجلات صوتاً جديراً
بإيقاظ النيام، ونشر الذعر في جنباتهم. بسمل الشيخ وحوقل، وراحت أصابعه
تكرُّ حبّات السبحة بسرعة وتوتر. ومما جعل قلوبهم تطمئن قليلاً ابتسامة
خليل التي احتلت وجهه، الأمر الذي دفعهم لأن يمطوا أجسادهم فوق مقاعدهم
ليستطلعوا الخبر. لكنّهم بوغتوا جميعاً بقامة امرأة تنتصب داخل الحافلة
قائلة بتظرف فراتيٍ غسل الفرات بشرتها ومنحها سمرةً خفيفةً.
-بطريقك يا خوي.
امرأة فراتيةٌ، جزلةٌ، كحيلةٌ ذات قدّ ممشوقٍ.
خبّأ "الزبون" تقاطيعه، وبانت ضفيرتاها المجدولتان
مع بعض حبّات الخرز الأزرق، والمحلب ليعطيها رائحةً طيبةً. وعند الجيد
تعانقت الجديلتان ثم ارتدتا إلى الخلف مع أذيال "العصبة الحريرية. وعلى
الأنف شعّ خزامٌ تتوسطه حبةٌ زرقاء. حينما ألقت التحية، سمعوا صوتاً
أنثوياً سرى في دمهم دبيباً متناغماً ووقعُ سلامها كان ريحاً طيبة، منعشةً
بل رحمةً في هذا القيظ اللاهب.
امرأةٌ تألقت في أنظارهم، فبانت كأنّها تختزل فيها
نساءً عدّة.
راح كلُّ واحد يتزحزح في مكانه ليؤمن لها مكاناً
قربه.
يهصرُ جسده في مساحة صغيرة لا تتسع لطفلٍ، ليفسح لها
ويتيح جلسةً مريحةً. لكنّ السائق كان له السبق في اختيار المكان المناسب
لها.
أجلسها وراح يعدّل من جلسته على كرسي القيادة،
وداخله غرور شديدٌ.
وراحت تشي به حركاته وكأنّه يقود طائرةً بل مركبةً
فضائيةً لا حافلةً قديمةً متصدعةً شهدت الحرب العالمية الثانية.
آخر من استيقظ عبودُ الأعشى. زمّ عينيه وراح بصعوبةٍ
يتبيّن ما حدث.
وبغتةً دبّ الذوق فيه، فقال لخليل:
-لو سمحت يا أبو الخل أشعل الضوء يا أخي قليلاً.
ضحك الجميع، وتعالت أصواتهم.
علّق أحدهم:
-معذور.. معذور..
انقلب حالُ الركاب، ولصقت بهم صفاتٌ، وأفعالٌ غريبةٌ
وجديدة لا تخصهم، ولم تكن فيهم قبلاً، وكأنّ المرأةَ هذه استحالت إلى يدٍ
كبيرةٍ طوّحت بهم، وقلبتهم رأساً على عقب. ومما أثار التساؤل والحيرة،
والدهشة كرم "محيو" الذي هبط عليه من السماء اللحظة، والذي قام من مقعده في
آخر الحافلة، وجاء إلى مقدمتها لينثرَ سجائرَ على الموجودين. والمعروف عنه
أنه يستلّ دخانه سيجارة إثر أخرى من جيب خفي في "ساكويته" وعند إشعالها
يخبئها في كفّه. ولم يشهد له أحدٌ باستضافته إلى بيته لشرب ولوكوب من الشاي
طيلة حياته. لكنّ حمود الذي قتله فضوله، والذي كان صفةً لصيقةً به منذ
صغره. لم يستطع أن يبتلع سؤاله، ولو ابتلعه لطقّ وانفجر، لذا قال ساخراً.
-ما هذا الكرم يا محيو؟ طول عمرك يا زبيبة..!!
قال الشيخ كاتماً فرحاً يتخبط في صدره لاوياً رأسه
إلى الوراء:
-عيب يا حمود، عيب. ثم دنا من خليل هامساً، متلكئاً،
مضطرباً:
-خليل، ما اسم المطرب الذي كان يغني قبل قليل؟
-كتم خليل ضحكة قويةً مجارياً سائله، مقدّراً
مكانته:
-سعدون الجابر يا شيخ.
-دعه يسمعنا ألحاناً.
رفع خليل صوته غامزاً بعضهم:
-تكرم يا شيخ وها...
تكور الشيخ في كرسيه، وراح يميلُ برأسه ببطء يمنةً
ويسرةً.
يهتزّ مع الألحان، يتمتم بعض المفردات. سرت تعليقات
بين الرجال، وشاعت ضحكاتٌ فتهامسوا، غمزوا ولكزوا. فهم الشيخ مارموا إليه
فقال:
-يقول أبو الفتح محمود الكاتب طيب الله ثراه:
"إن كنت تنكر يا حبيب أنّ في الألحان نفعا
فانظر إلى الإبل التي لا شك أغلظ منك طبعا
تصغي لأصوات الحداة فتقطع الفلوات قطعا".
أيّدَه الجميع وبعضهم صفق وصرخ وصفر. قال خليل
مخففاً:
-مفهوم شيخنا، مفهوم.
وراحوا يترنحون نشوةً، ويصفقون انسجاماً وطرباً على
أنغام الأغنية.
تمور رؤوسهم مثقلة بالحب والطرب واللحن، والمغني
بصوته الدفيء، الحزين يشعل قناديل الجوى والغرام والنجوى
وقدحت قريحة غنّام بالكلام، وتفتق بقصص ورواياتٍ،
ولم يعد يعرف السكوت كان يقول أشياء كالهلوسة:
-بيتي مثل قنّ الدجاج فارغ وبلا دجاج ينعق فيه
الفراغ كالبوم وليس فيه إلا ديكٌ واحد بحاجة لدجاجة تؤنسه، وتزاول فيه
عملها لكن واحسرتاه…." بعضهم سمع جزء مما قال واشتكى، والتقط أطراف الحديث،
والبعض الآخر انشغل بنفسه، ورحل بعيداً كطائر النورس فوق مياه النهر.
أصواتٌ وهمساتٌ انتشرت داخل الحافلة. وراحت الصدور تزفر زفراتٍ لاهبةً فيها
الكثير من الألم والاحتراق.
والشفاه أطلقت النفثات، واتقد داخلُ الحافلة دخاناً
وثورة وأحلاماً وضوضاء وانفلت من الركاب زمام أنفسهم، فراح كلّ واحدٍ يرجعُ
مراهقاً ولهاناً، عاشقاً يسترق النظر إليها خلسة. يدّخنُ بكثافة، ويخرج
سعيراً من داخله يمتزج بقوافل الدخان يستذكر صباه، ويستشعر نار العشق في
جسده، تلهب أحشاءه ومخيلته، وتدغدغ أحلامه.
وفاضت الأحلام
فاض الفرات
امتدت مياهه في كل الاتجاهات
تغمرُ كلّ شيءٍ، وتؤرجح كلّ شيء، الأشجار والحقول،
والزواحف، والهضاب. غسلت الوجوه والأجساد من العرقِ، ورائحةِ الزنخ. غسلت
شعور الحصادين، ودواخلهم، مياه متوهجةٌ، فضيةٌ، لامعةٌ. مسحت الدروب فبدت
نظيفة من الغبار.
ومرّت بالحقول فاكتست بالخضرة، وتألقت المرتفعات
بالنبت والكلأ فيضانٌ حنونٌ رؤوف لا كما الفيضانات التي خبرناها تدمّر،
وتفتك تأتي مزمجرةً، عنيفةً، تقتحمُ كلّ ما تجد أمامها وتلاقي.
تدور كزوبعةٍ، وتبتلع الوجود ثم ترحل بعد أن تطفئ
الحياة في النفوس. ما حصل أنّ هذا الفيضان فجرّ ربيعاً وراءه لا دماراً،
وعويلاً، ونواحاً. لذا أضمر كلّ رجلٍ في نفسه أن يعود شاباً يافعاً. يغتسل
بماء الفرات ويتطهر به تسارع الرجال في خلع ثيابهم، وجلابيبهم وتشربوا
الحماسة واللهفة لسباحة ولهوٍ وغطس. فراحوا يخوضون في الماء العالي.
راحت أنفسهم تلهث ركضاً في اغتنام فرصة الحياة،
وفرصة العودة إلى الشباب وعمل الفيضان فيهم عمله. تماماً كما تمنوا،
وأضمروا، أرجحهم، وداعبهم ولاعبهم، ورشقهم بمائه، فاغتسلوا وعاد لهم صباهم.
لم يصدق واحدهم ما جرى له بمرور هذه المرأة في أفقه،
مذ صعدت ماج عمقه وهاج. فما عاد يشعر بآلام الشقوق ووخز الشوك في الأكف ولا
الحر الحزيراني ولا بالتعب ولذعات المناجل اللاهبة. إنما تهلل الجميع
واستبشروا فرحاً ووجوداً ينضحُ هوىً. تمنى كلّ فردٍ فيهم لو تصطحبه حيث
الفرات الرحب أفقاً ليبلغها لواعج فؤاده بطريقةٍ تخصه وحده ينزلان معاً
واديه المشبع بقصب الزلّ، والحشائش الطويلة المغتسلة بنور القمر، وطيور
النورس، وأشجار الصفصاف. وأمامها قلعة جعبر شامخة ترنو إليهما بعظمةٍ
وكبرياء. داخل الحافلة فاحَ حلمُ أحدهم، همس:
-لو تنزلين أيتها الجزلة الماء، وتحلين ضفائرك
وترشقينني بحبيبات تُطفئ ظمأي وألاحقُ خيوط الغسق وهي تصبُّ فيك.
كان هذا حلم مطاوع النزال
أما سالم فكان يغطسُ في مكانه الواسع.
كان ضائعاً، مشتتاً وصغيراً ضآلة جسده ونحوله لم
يمنعانه من أن يراها ضخمةً خضراء قادمة إليه تهدرُ بردفيها الثقيلين،
خطواتها ثابتة واثقة راحت تعدو في حقله تدوس سنابل القمح تَقِدمُ تجيء،
تاركةً وراءها أكياس خيرٍ وتبر "يا لروعتك وأنت تخوضين بحرَ القمح". هذا ما
قاله حينما ترك المنجل يسقط من يده أرضاً وقد تلوّن وجهه بالفرح رفض أن يقف
مذهولاً فاغراً فاهاً وإنما راح يركض إليها، يركض ويركضُ يدنو منها تستمر
هي بالمجيء تحملُ عنه التعب وتطوي مسافات الحقول بين عجلاتها صار جبين سالم
ينز راحة وتوهجاً بدل العرق صار يخاطبها بلهفةٍ واشتياق سائراً معها جنباً
إلى جنب يقطعان الحقول ويطويان المسافات وكانت تدفع إليه شوقها بركةً
ومواسم. شعر بارتياح يسوحُ في صدره، وبمدىً أخضر يناديه بعذوبةٍ بعد لحظات
كان سالم يغفو في كرسيه إغفاءة طفلٍ يحلمُ بسكاكر العيد وأراجيحه. وخيّل
لجلّود أن عينيها الذباحتين تدعوانه علناً أمام الملأ مدّ يده ووضعها في يد
المرأة. وراحا يمشيان على حافة النهر والماء يداعبُ أرجلهما العارية
والقمرُ قرصٌ فضيٌ ينير لهما الكون.
قال بدفءٍ ووجه المرأة بين كفيه يفيض قمحاً وعسلاً.
-أحبكِ.
دفنت المرأة وجهها في صدره، واكتست خجلاً وارتعاشاً
ونشوةً بينما الفرات يصغي بهدوء إلى وشوشاتهما في حين ودّ لو يغمرهما،
ويروي ظمأ مساماتهما. جفل جلّود من حرارة ولزوجة اليد التي امتدت إلى
رقبته. استدار وإذ محيو يقدّم له سيجارة. نفخ بحرقةٍ ونزق، وانزعاج وعيناه
تقدحان غضباً، رافضاً عرض محيو الحاقد الذي اغتاله وأطفأ حلمه. أمّا "هزاع"
فقد عشقها جنيةً تشبعه حناناً وأشياء أخرى، تعجزُ امرأةٌ من البشر عن ذلك.
جنيةٌ دافئةٌ، طويلة الشعر، مستطيلة العينين. تأتيه ليلاً تزرع أناملها في
شعره الجعد، تداعبه ويسترخي في حضنها يستسلم لعبثها اللطيف وهي تقص عليه
حكايا عن عالم غريب، عجيب سمع الكثير عنه. عالم يودُّ ولوجهُ. ودليله جنيّة
لها رائحة مميّزة تقف في عتبة الغرف. تبتسم له، تهدهده إلى أن ينام بعمقٍ،
وترحل مع أول شعاع للنور، ثمّ تعاود المجيء كلّ ليلة وترحل من جديد لتعود
أما الشيخ حمد فجاءته انبلاج ضوء من كوّة النهار. تولدُ صباحاً حوريةً
مشبعة حمرة وضياء. تحمل بين يديها إبريق وضوءٍ.
تأتي إليه.
فتهلّ على وجهه أطياف مسرّة. تشعُّ وسط الدار فجراً
يستحيل إلى شمس فتكون ضحى.
-ضحى!! هتف بفرحٍ وأردف:
"اسمٌ جميلٌ يليق بها. يا لروعة هذا الاسم، وروعة
حاملته!!"
الآن عرف سرّ حبه لصلاة الضحى التي يؤديها عشقاً
وإخلاصاً ومتابعةً.
ضحى بداية نهارٍ يتمدّد في كلّ الأمداء.
فجأة قطب ما بين عينيه، وداخله يمورُ بأفكارٍ
وهواجس.
"حيطاني واطئة تكشفُ ستر تحركاتي للعيان!"
سأُعليّ الجدران، سأجبل طينةً وأحضر لبناً وأبني
حيطاني ضحى لي وحدي، وضياؤها بعيني. ضحى، ضحى، صبي الشاي وتعالي".
قال بصوت مرتفع دهش الجميع، وراحوا يضحكون خفيةً،
يسدّون أفواههم بأكفهم لكنّ أصواتهم أبت إلاّ أن تصدر شعرَ الشيخ بهم،
بغمزهم، فانكمش في مكانه مضطرباً، مجمراً يحاول ترميم نفسه وترويض الفرح
الجامح في داخله وتقييد حلمه الذي ساح وصهل وجعل لسانه ينعتق من أسره ويفضح
أمره فهذه المرأة أنسته مكانته وتدينه، وحدوده اقترب حمودٌ منه بخبثٍ
وفضولٍ قائلاً:
-يا شيخ يا جبلاً أصمَّ لا تزحزحك ريحٌ، ما الذي
غيرك؟!
ويروح غامزاً باتجاه المرأة. أجاب الشيخ، وقد احمرّ
وجهُه، وفضحه تلبكه، وبرزت عروق رقبته منتفخة، مستشهداً بالآية الكريمة:
"قال تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ
السحاب.. صدق الله العظيم.."
صرخ خليلٌ فرحاً وضحكاً، وهاجت "البوسطة" بالأصوات،
وزعيق النكات واختلط الهزلُ بالجدّ، وصدح صوتُ المغني يجلو الهمّ بغنائه.
كان الرجالُ متلهفين لسماعِ صوتِ المرأة من جديد.
لكنها في وادٍ غير واديهم بعد برهةٍ.
قامت من مقعدها. وأشارت لخليل أن يقف عند أضواء
قريةٍ مشلوحةٍ على كتف الطريق. شرقتها عيونهم وهي تنزل. أصغوا بكل جوارحهم،
وهي تشكر خليل صنيعه. غادرتهم، بضفائرها، وصمتها، وعالمها، حتى إذا ابتعدت
عنها الحافلة، وغيبتها. همدوا في أماكنهم وشبحُ الخزي على وجوههم. كأنهم
عائدون من معركةٍ خاسرةٍ أو شهدوا مذبحةً ألجمت أفواههم. بدو هياكل صفراء،
جامدة. صمتوا مرّةً واحدةً إلاّ صوت المغني غير مبالٍ بما جرى.
لعلعً صوتُ الشيخ قوياً، صلباً وآمراً:
-اخرس هذه الآلة اللعينة.
أهدى من قطاة
أحسستُ بضيق المساحة التي تجمعنا. امتداداً لفلوات
ترشحُ اتساعاً، وامداءً، وعُذريةً تشهى الوجود احتضانها.
وشعرت بسنّي عمرك الراحلة نحو الأفول شباباً طافحاً
بالنبض.
وقتها..
جئتك كعادتي قطاةً مهتدية إلى مواردِ المياه،
صامتةً، مقبلةً، أتسلل إليك من أمنيةٍ تسكنُ ضفافَ القلب. من كوةٍ في غرفة
مكتبك التي هطلت كتباً وروائع وإبداعات لأناسٍ كثيرين، مرّ بنا سرب من
القطا، وشرع يلاحقُ البعيد، تعربشت نظراتُنا بالسرب.
قلت ووجهك تنيره ابتسامة متواضعة:
-يحضرني بيتٌ من الشعر للعباس بن الأحنف
- ما هو؟
-قلت:
أسرب القطا، هل من يعيرُ جناحه
لعلي إلى من قد هويتُ أطيرُ
ضحكتُ، وولجتُ عميقاً كهف الفضول، وقلتُ:
-إلى أين تبغي الطيران؟
تجاهلت الردّ على سؤالي اللاهث، والذي قد يختصر
الكثير، ويريح قلباً معنّى أتخم بالقيود واستدرت متشاغلاً، أو أشغلت نفسك
بتقليب كتاب، وداخلك يمورُ اعترافاً وإجابة.
كانت جوارحك، ومساماتك كلّها تصرخُ: "إليك".
تلقيتُ صمتك بصمتٍ، وفي كلا الصمتين صراخٌ وفيافٍ
تحتضنُ صدى بوح.
قال صمتي:
-إني أحبُّ هذا الرجل الذي يكبرني أجيالاً، أحبه
عميقاً، تُرى ما الذي جذبني إليه، وأنا المخنوقة بحلقةٍ ذهبية تنزّ عبودية
في بنصر يدي اليسرى؟
ماذا أريد منه؟
نهلةُ ظمآنة من فيض علمٍ، أم في داخلي نقصٌ به،
أتممه؟
أم لأمور كثيرة اجتمعت فيه..؟
رحتُ أسائلُ، نفسي، وأتطلعُ إليك، وأنت قامة مشرئبة
تناطحُ السماء.
قلت:
هذا الكتاب، هل أهديتك نسخة منه؟
رفعتُ حاجبي إلى الأعلى نفياً، وأقرّ في داخلي أنك
أهديتني الكثير، الكثير .
أهديتني إصغاء، واهتماماً، وحباً خجلاً، ولحيظاتٍ
حبلى بالألم.
وبلهفة أهرقت على الصفحة البيضاء، الناصعة بضع
كلمات، وذيلتها بإمضائك العشوائي أيّ ريح حملتني إلى زيارتك؟
أي ريح بعثرت هباء الفرق بين عمرينا؟
أية أحاسيس مجنونة أحملها بين جنبي؟ وجعلتني أهرع
إليك، أحمل كتابي الأخير، يؤويني اهتمامك، وتواضعك، كما آوى كلّ الأدباء من
قبلي.
تسحبني من أناملي، جدرانُ منزلك التي احتضنت
إبداعاتهم، وأفكارهم، تسحبني بهدوء، لتجعلني ضيفاً عزيزاً بينهم، تتأمل
صورتي خلف الكتاب، تشع عيناك فرحاً.
قلت:
-الشعرُ الطويل مسترخياً أجمل من ربطه، وخنقه!
رفرف قلبي الصغير، تخبط أمام جملتك، "بدايةُ الغيث
قطرة"
رحت أمنّي النفس بمطر غزير، وببوح لا يعرف الاختناق،
لكنك سكتّ مرة واحدة وتكسّرتُ دفعة واحدة واجتاحتنا موجة صمتٍ.
قال صمتك:
-كم أحبّ هذه المرأة؟
إنها امرأة حلمي، مجبولة من فكر وثقافة وجمال، حينما
ألقاها أرى فيها كل شيء، وفي بعدها تنطفئ الأشياء، آه..
ورحت أستشعر لهب آهك، كم هو محرق، وحارق..؟
أكملت بعد أن تأوهت:
-آه.. أيتها المهتدية كقطاة، كم تخبئ عيناك من
ربيعٍ، ودفءٍ، وملاحةٍ؟
ورحتَ تنظر إلي بعينين اعتزمتا البوح، وأقبلت إلي
فكراً وقلباً لكنّك ابتعدت مسافاتٍ وخطوات وجلى.
ما بيننا واضح كعين الشمس. كلانا يعشق الآخر. يرى
فيه النصف الضائع كلانا سجن في قفص الآخر، فلا هو قادر أن يخرج، ويتحرر،
ولا أن يبقى فيه متحملاً لذعات الألم.
حبّ مفعمٌ بالحياء والألم، والحرمان ما بيننا غرامٌ
وعفة. واختزال حب بني عذرة ما معنى أن يعشق أحدنا الآخر عقداً من الزمن. ثم
يقف عند حبه موقف الصامت الكاتم الخجول والخائف؟
حبنا شجرة نمت بصمتنا، وكلّ واحد فينا راح يشذّبُ
أغصانها، ويروّيها بخضابه ويشتهيها، احتواء من هجير، وفيئاً من قيظ.
ينظرُ إليها من بعيد، ولا يجرؤ على الاقتراب منها..
يحلمُ بها، ويعجزُ عن الغناء لها أو ضمّ جذعها، وملامسة لحائها، وتطويقها.
هل هذا عقاب؟
أم أنّ احتمالنا يفوق طاقة البشر؟
بالنسبة لي نارٌ تأتي على نار بداخلي. نارٌ وقودها
نار، استعرت وأضيفت إلى ناري الموروثة عن أجدادي.
ما بك؟
يا من سرحت بداخله صحارى تندهُ بالخواء والمجهول،
وما إن التقيت بي حتى شعت وتأججت مسافاتك خضرة، وتسربلت عطاء، وصار عطاؤك
أحلى ووجهك تندى بالرذاذ.
فتحتُ عيني تلميذةً صغيرة على أدبك، أتنقل بين
سطورك، وحينما صهلتُ وشببتُ عن الطوق الذي انكسر متحطماً أمام صهيلي،
اندفعتُ عاشقةً إليك لا أفكرُ إلا بك.
حدث أحياناً أن تجاهلتُ التفكير بك، إيماناً مني أن
التشاغل بآلام كثيرة ومتشعبة يدفعني إلى النسيان، لكنك كنت الألم الأكبر،
الذي التهم كل آلامي الصغيرة والتي تضاءلت حجماً أمامك.
وشرعتُ من وهج الألم أكتبُ. تسألني كلّ مرةٍ:
ماذا تكتبين؟
في المرة الأخيرة أجبتك:
أكتبُ حالة عشقٍ بين رجلٍ يغتسل بالفرات كل يوم،
يمتطي قاربه وينقلُ الركابَ من ضفة لأخرى و.. بين شاعرة.
صرخت متسائلاً:
-وكيف يراها؟
قلت:
هي التي رأته، فأدمنت على رؤيته، وما كان منها إلاّ
أن تزوجت من الفرات وسكنت في سريره.
واكتفيت بتسجيل تلك الفكرة في دفتري، لأرحل إلى قصة
شدّني بطلها.
قلت:
-ما تكتبينه متميز.
وخلوت بنفسك تفكر بي، وفي قرارة نفسك أن هذا البطل
هو أنت، وأنّ لكتاباتي مذاقُ الرحيل إليك، فحينما أكتبُ عن الفرات الذي
يلامس شغاف قلبينا، أكتبُ عنك.
وحينما أقرأ لرواد الأدب، أقرأ لك، وحينما التقيك
أفردُ شعري سنابل قمح تضيء وجنة البادية، لأنّ البدوي فيك يعشق شعري حرّاً
منسكباً.
مرةً قلت
-أنت الفراتَ
-الفرات المدجن، المروض أم المتمرد؟
-أنت الفرات الذي ورد ذكره في القرآن.
قلتُ:
-وأنت القلاع حوله
يا لشدّ تعسي أن تندلق الكلمات. وتفيض من قلمي،
وحينما ألتقيك أو أهاتفك تجفّ ولا أقوى على بوح مفردة.
أن أحمل أبطالي ما أشاء من البوح، والهوى، ولا أجرؤ
على مصارحتك، رغم أن كل شيء فيّ يشي بما أضمر، ها أنت أمامي تتعثر بحركاتك،
ينتابك تردد وفرحٌ همجي.
فيما تفكر؟
أتراك تسأل نفسك، وتقول:
-ماذا أريد منها؟
أتريد شباباً مندفعاً أم ماضياً يذكرك بالشباب؟ أم
أنثى، امرأة حلم؟
عقد مضى، ويشاء أن يقضي بوحك في محطة الخوف،
والتلعثم، يساوره شيءٌ من عزيمةٍ مضطربة على أملِ النطق.
ياه..!!
كم صرّح قلمك بعواطف الناس على مسارح قصصك؟
وكم عرّيت مشاعرهم بجرأةٍ، ودبجت اعترافاتهم، وأنطقت
ألسنتهم، ودفعتهم لمعارك علا غبارها؟
وحينما لامس الحب جنبك، تلجلج لسانك، وعجز عن بوح
مجرد كلمة.
أتراها سني عمرك، تشعرك بالخجل، وتوشيك بالتردد؟
أم حياتك الماضية، وتربيتك الصارمة التي عشتها
متقولباً، مسجوناً ضمن قضبان العفة؟
هل الحب رذيلة؟
وأنا ما الذي يعتريني؟
أهو حياء المرأة الشرقية يكونُ لي قيداً، فيلجم فمي،
ويشلّ خطوي؟
لم نوَدُ أن نحيا حياتين، نظهر بواحدة، ونلغي
الأخرى؟
ما العيب أن نقول بصدقٍ لمن نحبّ (أحبك) وانتهى
الأمر؟
كأننا نقول لزهرةٍ أو لمكان استحقا بوحاً
واعترافاً..
أتراك تنتظر أن أقولها أنا؟
ما بك بي..
وما تشعرُ به، أشعرُ به.
لكن شاع العرفُ والتقاليدُ أن ينطق الرجل بهواه،
ولعلمك أن في داخل كلينا أهرام من التقاليد المهترئة.
بعدئذٍ يجيء دور المرأة لأن تتقبل هذا البوح، أو
ترحل من بين سياجه بهدوء قديسة. إذاً هو حبّ دون كلام.. حبّ بعيد عن الأرض،
ومتعرجاتها.. عالياً كسرب القطا يحلق، يطير بين السحاب، وفي الروح يستجدي
نوراً، واستمرارية ورحمةً وعتقاً سأقتطف من بين قصصك سطوراً وعباراتٍ
أوقدها فكرُكَ وأجاد بها قلمُك.
قلتَ:
-الحبّ يجعل المرء قريباً من الله، به تعرف الله حقّ
معرفته..
كيف لك أن تبدع هذه الحقيقة، وتضنّ بها على نفسك؟ لم
تندّى جبينك خجلاً كأنك تستحيي ضميرك؟
أما أنا، فأشعر أن الله يلتصق بي، يغسلني بنوره،
ويخصني بوهج مدرار.
وقلت أيضاً:
-((حينما تُلاقي من تحب تقفز إليك الرهبة))
ماذا أقولُ عن الرهبة التي تسكنني؟
ماذا أقول عن رجفةِ أوصالي، ورعشِ هُدُبي عندما
تتوسّد حكاياك راحتي؟
أقسمتُ كثيراً في المرة القادمة سأعترف لك، سأقلد
نفسي وسام الجرأة وحينما يأتيني صوتك رزيناً، وقوراً، دافئاً، تسأل عن
صحتي، وتتقافز كلماتك ولهى، سريعة كعصافيرَ تنطنط على لسانك، أتلعثم في
الحديث معك، وأتنصل من قسمي بجبن، فيقتلني حيائي، ويطويني خجلي، ويندحر
الاعتراف مهزوماً يتسربل بالخزي والإدبار، تصمت طويلاً، ألمح خيول حزن
لائبة في عينيك.
يقتلني حزنك، سهماً يخترق الكبد.
قلت لنفسك:
-الحبُّ بين شابين قد لا يواجه عقباتٍ، أو قيوداً.
وقلتَ:
حينما أبوح بما أحمل، تُرى ما ردة فعلك؟
أجابك نزف قلبي:
-سأرحب بك، وسأركض إلى المرآة، لا لأراقب مفاتن
جسدي، وجمال وجهي، إنما لألتقط النجوم التي سقطت على مسامي، فأنارت كل ذرةٍ
فيها، ولأعد السلال، وأتبين كم جمعت فيها من غلال المعرفة.
رعفتْ عروقك بوحاً وقلت صمتاً:
-في المرة القادمة، سأكسر الحواجز، وأعترف لعينيك.
ككل المرات تعدني، ولا تفي بوعدك.
زفرت، وخرجتُ من بين أضلاعك، أتلمظ مذاق الخيبة.
تنبت العودة زغباً خفيفاً على أفق جناحي.
أرحل لأعيش قلقاً جديداً، ورغبةً جديدةً في الرجوع.
وعدُك لي يشي بالانعتاق من الخوف والمكابرة والعادات.
مم تخاف؟
مم نخاف؟
من إله غرس فينا قلباً هفا بالمشاعر، والنبل، ثم حكم
علينا ألا نعشق ونبوح لأن في ذلك حرام؟
أنخاف ممن وهبنا فراتاً عذباً، وألقى بنا على ضفته
نتلوى ظمأ، وصرخ بنا ألا نشرب أو نغسل مساماتنا؟
مم نخشى؟
مم تخشى؟
مني؟
كيف؟ وأنا الطرف المعنيّ أكثر منك؟
أنا المرأة، الأنثى، التي على عاتقها تقع كل الجرائم
والخطايا والرزايا.
ما بنينا عشقٌ وجنونٌ، ومهارةٌ في الوأد، وتلذذ في
العذاب.
ما بنينا رهبةُ الاعتراف، وفرصة للخلود والحياة.
فرصة أن أحيا بك، وتحيا بي.
مضى الكثير من العمر ونحن نتأرجح بين إقدامٍ وإحجام.
حينما خرجتُ من عندك، بقلقٍ حملتك بين كفي، كنت تصغي
لما أقول.
كانت كلماتي متوترة، مكلومة وموؤودة قلتُ:
-أحبك بجنون امرأة يغسلها الخجل المتوارث، وينسقها
معجم من العيب والمحرمات
لكني بعد عقدٍ من وأدي في الرماد، انتفضت، وقررتُ أن
أُبعَث من العدم.
رحلتُ منكَ إليكَ، ضمن جدراني، هذا ما قدرتُ عليه
ولففتُ جانحي على رعش جسدي المحموم ورحتُ أستمعُ إليك، وأنتَ تخاطبُ روحك
مؤنباً ومعزياً:
-ما أوجعه من حبٍّ!
ولُبْتَ ضائعاً، مشتتاً في دهاليز غرفك، تلعنُ
انطواءك وصمتكَ، قبضتَ على عطري متلبساً بالانتشار، أغلقتَ النوافذ، أسدلتَ
الستائر لتحتفظ بشيء مني.
ورأيتك حينها كما أرى نفسي.
خرج منك عاشقٌ له رائحة كالحناء، قلبه وهج ضياء،
تسوقه مشاعره للفرح والركض، ركضَ وركضتَ خلفه، عجزتَ عن السيطرة عليه، نبتَ
له جناحان ملونان، حاولَ الطيران، طار..
حلّقَ، صار سرباً من القطا، مددتَ يديك المتعبتين
صوبه، وعَدْته بأشياء كثيرة، بيدَ أنه أبى الرجوع..
والآن..
أتسمعني أيها الراقدُ هنا بسكونٍ منذ عقود؟
تنعمُ برطوبة الثرى، وهدوء المقام.
هل تراني كما كنتُ، أم أنك لمحتَ زحف شعري الأبيض من
تحت وشاحي الداكن؟
سأهمس لك على استحياءٍ: اصغ إلي، وتلذذ بصمتك، فلستَ
مجبراً، أو مطالباً بالبوح بعد الآن:
-((إني ألفُ أحبّك))
نصير الأدب
كانت الصينية، الفضيّة، اللامعة تهتزّ بين يديه
أثناء تقديم الشاي لثلة الأدباء في غرفة مدير القصر الثقافي لا خوفاً وإنما
فرحاً وحيوية.
فبات كتلةً تفرز الاضطراب، والحفاوة، والفرحة.ترتسم
عليه هذه العلامات حينما تكون هناك أمسيةٌ، أو محاضرةٌ. إذ ينقلب حسن
تماماً، ويعشوشب جسده غبطةً، واندفاعاً.
واليوم بالذات خيّل إليَّ أن الريح حُبست فيه، فجاءت
حركاته أكثر سرعةً، وخفةً.
ولفتَ نظري ركامُ الابتسامات الذي على فمه.
اقترب حسن من الأديب الأول، وبصوته المرحِّب، المهلل
قال:
-أهلاً بالأديب الكبير، تفضل الشاي يا سِيْدنا.
كل الأدباء عنده كبارٌ، وهذه عبارته لهم سواء كان
المحتفى به يكتب في أي جنسٍ أدبي، مبتدئاً كان أم محترفاً.
يُرحب باستمرار، فائراً حيوية وحركة.
ابتساماته العشوائية لا تغادر فمه ذا الأسنان
المضطربة. وبعينين حريصتين على التقاط أية نأمة يقوم بها الأديب. يتابعها،
يسجلها في ذاكرته.
رحتُ أتابعه بتمعن حينما انتقل إلى أديب آخر قائلاً
له وهو يقدم الشاي الحار:
-أهلاً بكم، أدباء كبار، أهلاً.
ثم أخذ يوزع الشاي على باقي الحضور في الغرفة، ومن
جملتهم المدير الذي كان يشتعل غيظاً، ويتوهج عصبية من جرّاء تصرفاته، وصوته
المرتفع.
بعدئذ وضع حسن الصينية، الفارغة تحت إبطه، وشدَّ
بنطاله حتى أوصل حزامه إلى صدره، وانطلق ليقف أمام باب الغرفة ينتظر
الأوامر، ويراقب تصرفات وحركات الأدباء شأنه شأن كل مرة.
فإنْ تحدثوا حملق في أفواههم، وهز رأسه مؤيداً
كلامهم بإيماءات طفولية سواء فهم الموضوع الذي يخوضونه أم لا.
المهم تأييد الأديب، ونصرته.
وإنْ بحث أحدهم في جيبه عن قلم أسرع، ودخل الغرفة
كالبرق متجاوزاً الجالسين، وخطف قلمه ((الستيلو)) من جيب سترته الكاكية
وقدمه له بكثير من الفخر مع ابتسامة عريضة تنم عن احترام وتقدير عميقين.
وإنْ انتهى أحدهم من شرب الشاي أسرع، وأخذ الكأس منه
داعياً له بمشروب العافية.
هذه الطريقة أزعجت المدير الذي ملأ مركزه، ودعته إلى
تنبيه حسن، واضطرته مرة لأن يخرج عن طوره، ويقول له أمام الجميع:
-اتركْ كل شيء واخرج.
ومرة عاقبه بشكل أقسى. إذ صرفه لخدمة جناحٍ آخر من
القصر الثقافي.
لكن الأمر لم يطلْ فالمدير لم يستطع الاستغناء عنه
كثيراً لتفانيه في العمل ونشاطه علاوة على أنَّ الشاي من يده، ولا أطيب.
والحقيقة أن الأمر تعدّى هذا الحد إذ بات حسن مصدر
تفاؤل له. حينما يرى ضحكته التي لا تفارقه ينسى همومه.
كان يرى فيه الإنسان القانع، السعيد، المندفع، رغم
فقره وعجزه عن تأمين متطلبات أسرة كثيرة الأفواه.
ما يزال حسن واقفاً عند الباب، تدهشه بطاقة الدعوة،
التي حملها المدير ليريها للأدباء.
هذه البطاقة، البيضاء ذات الخطوط الذهبية، والتي
توزع على الناس، وهي تحمل اسم الأديب، والمحاضِر، كم تمنى لو أن اسمه كُتبَ
عليها يوماً، وقرأته العامة. تمتم في سره.
-((إيه... كنت والله ملك زماني.))
وفجأة فتح عينيه على اتساعهما، وقال لنفسه:
-حقيقة ما أُعطيت. ولا مرة مثل هذه البطاقة لأحضر
الأمسيات!.
لكنه ما لبث أن فرد حاجبيه ونشر الابتسامة على وجهه
من جديد، عدّل من وضع طاقيته وأجاب إجابة أراحته:
-أنا من أهل البيت.
كان حسن مواظباً على حضور جميع الأمسيات، والفعاليات
الثقافية، يُصفّق أكثر من الجميع، ويبتسم أكثر.
ومرات عديدة استدعته الحالة عند التصفيق إلى الوقوف،
والضغط على كفيه بشدة.
جميع من احترمهم تعاطفوا معه، وأحبوه لدروشته.
وقدروا حبه، وتشجيعه للأدب حتى أن أحدهم قدّم له
كتابه الأول هدية.
تلقفه حسن بفرحة لا توصف، وغمرته تغاريد البلابل
ابتهاجاً، وانشراحاً، وزُرع قوس قزح في عينيه.
وراح يقرأ الكتاب كل يوم من الجِلْدة إلى الجِلْدة.
وكان كلما مرَّ به المدير وجده منغمساً، ومشغولاً
بقراءته، فمازحه قائلاً:
-سأمتحنك به.
ردّ حسن بعد أن وقف وضرب سلاماً محيياً:
-بصمته يا أستاذ.
-ما دام كذلك، لِمَ تعاود قراءته.
قال المدير مستفسراً، مندهشاً.
ويكتفي حسن برفع كتفه الأيمن وإنزاله مع بسمة
عشوائية على الفم. هذا الكتاب جعله يتباهى أمام كل من يراه، داخل وخارج
القصر الثقافي، وعرَّف كل رواده، ومن قابلهم حسن بمبدعه الفلاني الذي أهداه
الكتاب مع توقيعه الغالي، المشرِّف.
وإذا صادف، وارتفعت حواجبهم ساخرة، متسائلة، مستغربة
أخرجه من جيب السترة دون أن يحول عينيه عنهم لثقة عظيمة في نفسه.
قائلاً:
-هذا هو، أديب عظيم لم أقرأ لأحد مثله، اقرؤوا له،
تابعوا كتاباته إنه، إنه نابغة.
هذا الأمر بالطبع أدى إلى شهرة الأديب، حتى أن بعضهم
راسله بعد أن نقل عنوانه من الكتاب.
وبالتالي جاءت رسالة شكرٍ إلى حسن من الأديب ذاته.
يشكره فيها على تعريف الناس بأدبه، ومجيئهم لزيارته، وشراء كتابه. وحينما
يذهب حسن إلى البيت يلقي بقبعته المهترئة ذات اللون الباهت على ((الطراحة))
الممدودة في صدر الغرفة، ويخرج الكتاب وينتشل قلمه، ويضعه قربه وينادي
زوجته بأن تُحضر الشاي وتأتي ليقص عليها كل شيء، ويبالغ في وصف الأدباء،
والشعراء كأنهم أقرب إلى الآلهة منهم إلى البشر.
يُقلد لها طريقة حديثهم، ومقتطفات من حواراتهم.
ويحضها على متابعته إن سهت عنه قليلاً، وإن خطر لها
أن تكلم صغيرها نهرها منفعلاً:
-الآن وقت كلامك مع الصغير؟! يا عمي متى ستتثقفين؟
ترد بشيء من الغنج والسعادة:
-إني أسمعك.
-لا.. لا أريدك أن تسمعيني فقط بل أن ترينني أيضاً.
تقول مداعبة:
-أنتَ هُنا في القلب.
يزم شفتيه، يدّعي الحزم، يتابع.
-اسمعي ما قال الشاعر عبد الغفور حينما سُئل عن
الشعر والقصيدة.
يصمت، يتذكر.
-آ.. أعتقد أنه قال: تعود إشكالية القصيدة الحديثة
إلى... إلى...
وتخونه الذاكرة ثانية، تنقذه زوجته بلا قصدٍ منها
بقولها:
-ما معنى إشكالية؟
ينظر إلى سقف الغرفة ذي الأعمدة الخشبية، ويفرقع
بالإبهام والوسطى بحَيْرة:
-إشكالية.. إشكالية يا بنت الحلال.. يعني
((التشربك)).
انفرجت أسارير زوجته، وضحكت بقوة وقالت صارخة:
-يا الله يا حسن!! كم أنت مثقف، وصرت تعرف ما معنى
هذه الشكلية.
والله لو بقيتُ مائة عام لا أعرف معناها، واسم الله
عليك حولك وحواليك تشرحها بسرعة.
ثم تضع يدها على كتفه، تدفعه إلى الوراء برفقٍ
مداعبة قائلة:
-الله يخليك قل لي ((شويّة)) شعر مما قاله.
يحاول حسن أن يستحضر بعضاً مما سمع، تغيب عيناه في
ملكوت وفضاءات رحبة، يعرض عليها مقدمة مناسبة.
-يا عزيزتي، قصائد هذا الشاعر ولّدت لدي الرغبة
في... في التعمق بمعاني المفردات، أجل المفردات.
تشع الفرحة في عيني الزوجة، يحاول أن يستجمع ما
عَلِق في الذاكرة يقول:
-قال الشاعر طبعاً لحبيبته: صوتُك حلوٌ وعذب رائع
كالحلم يهفو.
تصفق له مشجعة:
-والله، وبيطلع معك يا حسن!! اكتب عني شعراً.
يجيبها بثقة:
-أفكاري لم تنضج بعْد، لم تختمرْ في ذاتي.
وبسرعة تسأل:
-يعني الأفكار، تحتاج خميرةً مثل العجين!!؟
يردُّ بعصبية العارف النزق:
-لأ... يا فهمانة، ما بدها خميرة. تحتاج لفترة..
لتبقى هنا –ويشير إلى رأسه- لتنضج، ويهرع إلى وضع
قلمه، والكتاب تحت الفراش، ويستلقي.
بعد أيام قليلة.
ناداه المدير، مثل أمامه كخادم مطيع بابتسامته
المعهودة وحيويته الدائمة.
-خير أستاذ؟
-نظِّف القاعة، وجهِّز كل شيء. اليوم محاضرة الدكتور
بهيج عز الدين. أريد القاعة مثل الفل.
-حاضر أستاذ.
حمل المكنسة، وسلة المهملات، وتوجه إلى الأعلى نحو
القاعة. دخلها بهيبة ووقار، ولو تفطّن إلى حذائه لخلعه ودخل.
ملأ عينيه بمناظر المقاعد الكثيرة، البيضاء،
الناصعة.
سار حتى وصل إلى المنبر.
مسح الطاولة وما تحتويه بنظرة. تلمّس بقدسية لاقط
الصوت.
جلس ببطء على الكرسي. طاف بنظره فوق المقاعد.
ابتسم بهدوء الحكيم. نقر على اللاقط بسبابته.
تنحنح طقَّ فقرات عنقه من توتر خفيف دهمه.
ضغط بإبهامه، وسبابة يده اليسرى على أرنبة أنفه.
احمر وجهه. أراد النطق فما استطاع. تنحنح ثانية
وبصوت متهدج خفيض قال:
-آ... مساء الخير، شكراً لمدير الثقافة وحاميها في
هذه المدينة على تقديمه الرائع لنا... في الواقع محاضرتي اليوم عن... عن-
وصمتَ باحثاً عن عنوان لمحاضرته-
بغتةً تهلل الفرح، واندلق بشراسة على محياه.
تابع:
-عن النظافة، وكيفية المحافظة على بيئتنا.
وبدأ يخاطب الجمهور الوهميَّ. محركاً رأسه في كل
الاتجاهات يتحدث ثم يصمت. يحكُّ رأسه، يلوي فمه، يقول الحقيقة، يقول،
ويقول، ينطقُ بالواقع الراهن، يُكثر من ((بما أن)).
يتذكر كل المفردات التي حفظها غيباً خلال الفترة
الطويلة التي عاصر بها الشريحة المثقفة.
تنتهي المحاضرة.
يُصفق الحضور. يثني على إصغاء الجمهور، يشكر الجميع
على مداخلاتهم، وأسئلتهم.
يحمل أدواته الملقاة على الطاولة، ينحني كلما ازداد
التصفيق.
تلامس جبهته الأرض.
وبين غمرة التصفيق، ونشوة النجاح تنهمر دموعه كوابل
على خديه. تسقط على الأرض. يترك المكنسة، ويبحث في جيبه عن منديل. لا يجده.
يمسحها بظاهر كفه.
من جديد يحمل مكنسته يمشي خطوة. ما يزال ينحني لسيل
الهتافات من الحناجر، وتصفيق الأكف من جمهور أُعجب بإجاباته الشافية،
وحلوله لكل معضلة.
ينزل عن المنبر، يرفع رأسه، تصطدم عيناه الدامعتان
بعيني المدير الذي باغته بوجهه.
تموز قادم
هواء ساخن، متوهج، يلبد فوق وجهي
يثير نزقي، ويلهب الضيق في صدري، ويزيد من تأفف
الجثث المرتمية بقربي.
أسياخٌ من جهنم كان تموز يقذفنا بها عبر نافذة
السيارة التي نركب، فتُشوى وجوهنا، وأهدابنا.
والعرق اللزج حفر أخاديد في ظهورنا، ورقابنا،
وأصداغنا، فرحنا نمسحه بمناديلنا، وأكمامنا أحياناً.
صمت مطبق، جنائزي داخل السيارة يستعمرنا وأحياناً لا
يخلو من تأفف وضيق، وحنق، ورغبة في الإقياء.
بكسل شديد، ورغبة ميتة، مقتولة. مددت يدي خارج
النافذة لأقيس درجة الحرارة، وأعلل النفس بانخفاضها.
لكني كمن لسعته أفعى. أُدخلها بسرعة، وأصرخ من فرط
احتراقي:
-وو.. كأننا في تنّور!
بدت المسافات تنزلق تحت عجلات السيارة كسهام نار
تخرج من كنانة شيطانية، قاسية، لا تعرف الرحمة، ولا تبدي شفقة.
بعض التلال الصغيرة التي علتها الأشواك، والحجارة،
ونبات "الحرمل" و"القندريس" اليابس.
كنت أمرر نظري فوقها مروراً سريعاً، وامضاً لِما
تعانيه من الخطف، والابتلاع.
وكنت لا أعيرها اهتماماً كبيراً، ولا يدفعني فضولي
الخامل لأستدير وألقي نظرة على مصيرها.
ساعات بطيئة.
خانقة، رتيبة، قُيِّض لي أن أعيشها على صدر أرض
شاسعة، مجدبة، محرقة.
ويدهمني العطش كالباقين.
عطش شديد شقّق لساننا، وأحرق جوفنا.
وتمدَّد السراب أمام ناظري على إسفلت الطريق، يلمع،
يبرق، يتمرَّغ بحرية، وجبروت، ويهزأ بي فأضع علامة قريبة بجانبه.
وأتابع مجيئه إلي، ورواحي إليه.
وحينما أدرك الإمارة يفرُّ اللعين مني ليزيد من
عطشي، وتحطبي والاستهزاء بي.
يزفر رجل بعد أن حطم الصمت بقوله:
-تموز، الماء فيه يغلي بالكوز.
زفر آخر بشدة:
-معلومة قديمة وسخيفة.
لم يسمعه الأول، أو ربما سمعه، وتكاسل في الردِّ
عليه واكتفى بشعارٍ "وكفى الله المؤمنين شرَّ القتال".
شعار يصلح لهذه الآونة، لذا غلّفه الصمت، والانزواء.
المرأة التي بجانبي، المستكينة، الراقدة، فجأة ترفع
جسدها إلى أعلى لتستطلع المسافة المتبقية، تساءلت بحسرةٍ وألم:
-أما من محطة استراحة يقذفها القدر في طريقنا؟!
يدير السائق رأسه الكبير إلينا مبتسماً، وقد فاحت
رائحة عرقه ليُطَمْئِن المرأة قائلاً:
-اقتربنا.
أتمتم بكسل وسخرية:
-اقتربنا!! حلم إبليس في الجنة.
وران صمتٌ من جديد. وأظلّنا بخيمته.
نزعت حذائي من قدمي، وتكوّرت في مكاني كقطة، مؤدبة،
خائفة.
لا أدري كم مضى من الوقت.
حينما أُجفلت بسبب صراخ المرأة، المنتفضة.
مططت برأسي لأتبين مسوِّغ صخبها، وعياطها، وإذ بي
أمامها تماماً وجهاً لوجه. محطة، راقدة على طرف الطريق تنبسط مسترخية،
بوداعة طفل، وخفرِ عذراء.
تحيطها الأشجار، ويمرق من وسطها جدول ماء.
وخلفها ترتع حقول القمح، فينسال بوح السنابل شفافاً
حالماً يُعانق الأفق.
ودبّت الحياة في عروقنا.
وهرولنا إلى داخل الاستراحة كالفئران المستجيرة،
الهاربة من مخالب قطٍّ شرسٍ. صاح أحدهم فرحاً، وغير آبه بالناس:
-سأسبح.
قال آخر:
-سأطفئ لظى أحشائي.
قلت في نفسي:
"سأغسل شعري، وأرشق الماء على صدري، وأبقى بلا حذاء،
وأغمر قدميّ بالماء."
اخترتُ طاولة تظللها الأشجار، وزهرات الياسمين تتدلى
بقربي.
وشربنا المرطبات، وبعضنا ظلَّ جالساً في الجدول ينعم
ببرودة الماء.
ورحت أمسح المكان بناظري. غير مصدقةٍ بأن قطعة الحطب
التي كُنتها داخل السيارة قد ارتوت نميراً، وابتلت عروقها. وأطلقتُ أبعادي
تجوب المنطقة، الفضاء، الأفق بارتياح.
حطّتْ حمائمُ عينيّ بغتةً على شخصٍ قابعٍ قُبالتي.
يتسلحُ بالهدوءِ والابتسامِ. يرنو إليَّ بقداسةٍ.
تجاوزتُ المشهدَ إلى أمكنةٍ أُخرى، متذرعةً
بالانشغالِ لكنّي عُدتُ بها قسراً لتهدلَ من جديد قربَ ضفافِ القلبِ، ومنبع
البخورِ، والعطرِ، وصفاءِ سنابلِ القمحِ. وكان ينظرُ إلى قدميَّ الحافيتين.
وكنتُ قد نسيتُ بأني حافية.
كان يبتسمُ، ويُومئُ إليهما بنفخِ دخانٍ من
سيجارتِهِ. ويطلقُ سحائبَ البخورِ صوبي. دارت حولي، رحتُ أدورُ حول نفسي،
أتبعها، وحملتني حافيةً معبّأةً، مُكتنزةً بالوجدِ. وشعّتْ وجنتاي بحرارةٍ
رائعةٍ مخمليّةٍ، وأحسستُ بطعمِ الخمرةِ المتعتقةِ.
وتألقتْ صورتي في عينيهِ الواسعتينِ.
ابتسمُ مزهوّةً، وألفى نفسي إلهةً قديمةً يملؤها
الحنانُ، وأشرعتْ نوافذي تستقبلُ بغبطةٍ حفيفَ السنابل ووهج العشقِ.
ـ ما رأيكِ بتمّوز؟ خيّل إليَّ أنّه يسألني.
ـ تمّوزُ جدّدَ الحياةَ فيّ، وخضّبَ شراييني. أُجيبُ
بفرحٍ عامرٍ يغسلني.
ـ لِمَ انشطرتِ عني؟!
ـ لنتحدَ من جديد.
ـ حقولي نضجتْ سنابلُها.
ـ سأرشقُ شعري ببعضها.
وتعودُ بي سحائبُ البخورِ إلى مكاني.
أختلسُ من جديدٍ نظرةً إليهِ، ما يزال يرقبني.
يزرعُ ابتساماته في أرضي، وفضاءاتي.
أُحِسُّ به جزءاً منّي، وكأنّه وجهي الآخر يكمنُ
فيَّ منذ الأزل.
أضعته شهوراً، دهوراً لستُ أدري لكنّه عاد إليَّ
كالحُلْمِ.
آلافُ المرايا انتشرتْ حولي تعكسُ لي صورته واضحةً،
مضيئةً شفّافةً.
وخرجتْ من داخلي امرأةٌ بهرتني، أدهشتني.
امرأةٌ تشعُّ جمالاً وقصائدَ. وراحتْ تتلوى
بانسيابيّة بين عبقِ الياسمين تكتحلُ بضياءِ وجهه.
امرأةٌ استحالت إلى أنشودةِ حبٍّ مرفوعةٍ إليه.
تطلق أروعَ الأناشيدِ، وتتلو عليه أعذبَ المزاميرِ.
فينسالُ غناءً، وبوحاً، حفيفاً. يتدفقُ بين سنابلِ
القمحِ يرددُ اسمه بعذوبةٍ:
ـ تمّوزُ... تمّوز...
خرجتْ امرأةٌ من دفءٍ، ونجومٍ، ورغائب أمامَ أسطورةٍ
تعبقُ بالمجيء.
تقتربُ منه. تطوّقُ خصره، وتغرسُ ألفَ بسمةٍ فوقَ
هدبه ثمَّ تتوحّدُ، وتنشتلُ لغةً في حقلٍ حواره.
وأمتلكُ الشجاعةَ، وأتجرأُ لمتابعتها، وهي تحنو
عليهِ؛ وتهطلُ شروقاً ومواويلَ، وتسافرُ ذراعاه لتلملْمَ من حولها لحظات
البروقِ.
مازلتُ من موقعي.
أقضمُ أظافري توتراً، وفضولاً.
أعيشُ أَخصبَ الشهورِ.
ما زالا يتطلعان بي هو والمرأة.
ثم يخفقانِ بأجنحتهما كعصفورينِ يودّان الانزواءَ.
لاحَقَتْهما نظراتي.
رحلتُ وراءَهُ. يختبئُ، وأحاولُ اكتشافَ مكمنه.
لاحقهما همسي: "تمّوز، تمّوز".
وباتَ ندائي ترنيمةً طقسيةٍ في معبد.
وهناكَ، انفتحَ قلبُ الرجلِ كصندوقٍ حوى كنزاً
فأضاءَ ما بداخله من حكايا قديمةٍ وحديثةٍ.
حكى لها عن أسرارهِ، وخفاياه. عن جهاتِهِ وتاريخهِ.
عن هدوئه وإعصاره. عن شروقهِ، وأُفوله، عن موته
وبعثه.
ورأيتهما معاً.
يؤديان صلاةً، ويقرّآنِ تراتيلاً، ويزقزقُ كلٌّ
منهما للآخرِ.
هي تُزقزقُ حالمةً.
هو يُزقزقُ فرحاً.
ويعودُ بهمسهِ، بكلِّهِ إليَّ.
يعودُ من بين الأعشابِ القصيرةِ بعدَ رحْلةِ
اختباءٍ.
يعودُ من بين الأعشابِ الطويلةِ ليتوَسَّدَ اللقاءَ
معي.
وتدخلُ المرأةُ عُمقي. تتلبسني.
وأنتظرُ انسكابَ تمّوز على أَصابعي، وأحداقي،
وفَرحي.
يتغلغلُ بوحُهُ في مسامي حينما قطفَ ياسمينةً،
وقرَّبها من فمه.
وراحَ يَصبُّ كلاماً عذباً على بياضها.
يرتعشُ كياني.
أُسدلُ أهدابي بخفرٍ، وأتعبأُ وجداً، وحلماً،
وانتظاراً.
وأَتقِدُّ أملاً وشموعاً.
وعَربدتْ جرأةٌ في نفسي، فأجدُني أبتسمُ له، وأرفعُ
قدحي إليه ببطءٍ، وأَحتسي شرابي، وعيناي في عينيهِ يحدوني أملٌ أن يشاركني
مهرجاني.
وتحققَ لي ماكنتُ أرغبُ إذ بهِ يرفعُ قدحاً ليرتشفَ
منه.
ويشعلُ سيجارةً ويُبقي نارَ ولاعته متقدةً هنيهةً ثم
ما يلبثُ يطفئها.
تألمتُ حينما انطفأت النارُ.
شعرَ بي، فعادَ، وأشعلها ثانيةً، وحامت حولي النجومُ
والكواكبُ مساكب وردٍ نبتتْ، وتكوّنت في مسافاتي.
وكنتُ ملكةً متوّجةً ترفلُ بالنضوجِ.
مثقلة بالحبِّ، ورحتُ أمجِّدُ حَرَّ ولهيبَ تمّوز.
وتقتلني كلمة، تغتالني، تقطعني بسكينٍ حاّدةٍ،
غادرةٍ وتبعثرني أجزاءً.
ـ هيّا لنتابعَ...........
ينطقُ بها السائقُ الأرعنُ، وهو يتجهُ نحوَ
السيّارةِ.
أمتعضُ، أتألمُ، أصرخُ:
ـ "يا قاتلَ الروحِ.. شحذتَ مِنْجَلَكَ ولوّحتَ به
في وجهينا.".
وأجدني أهوي من عليائي، من جنتي، محطمةً، مهيضةً.
يرتجفُ قلبي هَلعاً.
أتخيّلُ كلَّ من هبَّ واقفاً ليتابعَ رحلته قادماً
نحو تمّوزي وفي يده منجلٌ، وسوفَ يحصدُ به رأسه.
يقولُ أحدهم:
ـ الرجال جاهزون.
وبشكلٍ هستيريٍّ محمومٍ أُكملُ:
ـ الرجال جاهزون والمناجلُ مسنونةٌ. القمحُ طويلٌ،
وقصيرٌ والسيّد يجبُ أن يُحصد رأسه .
أليست هذه أهزوجةَ الحصّادين في موسمِ الحصادِ؟!...
وأتخيّلُ سيّد المواسم يُعَزّيني بإنشادِهِ الرقيقِ
قائلاً:
ـ "ربّما سأموتُ، أتلاشى وأغيبُ.
ولكنَّ قلبي جوهرةٌ خضراء.
لذا سأعودُ أخضر، كما كنت...
ولسوفَ يولدُ البطل كرةً أخرى..".
وأرغبُ أن أبقى هنا لأدمنَ لحظات اتحادي، لحظات عشقي
مع تمّوز، وتفرُّ مني كالماءِ من بينِ الأصابعِ.
وأقفُ بصعوبةٍ ألملمُ أجزائي، وشراذمي.
ألبسُ حذائي، تجتاحني رغبةٌ قويّةٌ لأقتربَ منه،
لأودعه ولأشكره وإذ بهِ يقفُ كتمثالٍ أسطوريٍّ.
خطوط حزنٍ رفيعةٍ في وجههِ.
يفتحُ بابَ سيّارته، يدلفُ بجسدهِ داخلها.
وتدوّي صرختي لتملأ الأفقَ المخضَّبَ بالدمِ.
ـ تمّوز قادمٌ..
وتنهشني نظرات الجميع. تلوبُ ثمّ تصبُّ فوقي.
تأكلها الدهشة، وتعتصرها الحيرةُ.
أرددُ لأؤكدَ لهم أنّ تمّوزَ قادمٌ... تموزَ قادمٌ.
وتتجمّعُ النسوةُ حولي، نسوةٌ تجاوزَ عددهن المئات.
اقتربنَ بملابسهنَ السوداء، ورحن يندبنَ، ويبكينَ
تموز الذي اختطفه الغيبُ.
وارتفعَ بكائي، فصار عويلاً، وأَخذتُ ألطمُ وَجهي.
وأُمزّقُ ثيابي، وشاركتني النسوةُ بضربهن على صدورهن
ونحيبهن المؤلمِ.
وكأنَّ ذلك الشاب الذي غادرني، وغادرَ أبعادي هو
روحُ النباتِ في الأساطيرِ القديمةِ الذي قُتل وطُحنَ جسده.
بين حجري الطاحون، وتناثرتْ أجزاؤُهُ في الهواءِ.
شكرتُ النسوةَ، وقبّلتهن على تضامنهن، ورحتُ أبتسمُ
لتموز الذي لوّحَ لي بيدهِ وقد انطلقَ غرباً، بينما انطلقتُ شرقاً.
لقاء أشعل المدى
ويدعوني إليهِ .. ورُبَّ
وَعْدٍ
له نبضٌ... وأعصابٌ..
ورُوحُ...
نزار قبّاني.
ـ للّقاءِ طعم تتجدّدُ فيه الروحُ.".
قالت هذا بعد أن فاضتْ وجداً، وابتساماً، وشعرتْ
بنفسها خفيفةً كريشةٍ، حالمةً كفراشةٍ، متجدّدةً كماءِ النبعِ.
ينبتُ العُشبُ على حدقتيها، فيضيءُ الكونُ
اخضراراً، وترحلُ كمهرةٍ صوبَ الشمسِ.
ركبتْ السيّارةَ.
وفي البالِ والخاطرِ يلحُّ لقاءٌ، واتجهتْ بكلِّها
إليهِ. ترتدي النهارَ النديَّ منساباً في كلِّ مكان، والشمسُ الحيّية
تُخَضّرُ لقاءً على ضفّةِ القلبِ.
يقطنُ في داخلها.
يسكنها زغلولٌ ناعم الملمس. يتكوّرُ بين أضلاعها
هاجعاً، وديعاً بهدوءٍ وحذرٍ تسحبُ يدها لتضعها فوقَ زغبهِ وتدثرهِ بأنامل
تترصَّعُ حناناً ودفئاً.
كان قلبُ العصفور يخفقُ بانتظامٍ، يتزامنُ خفقه مع
دقّاتِ قلبها. يتحدان فيؤلفانِ ترنيمةً حميمةً تَعِدُ بمساكب وفيرةٍ من
الحبقِ وبساتين كستناء.
وحيدة، مبتسمة يبلّلُ مساماتها لقاءٌ سيشعلُ المدى
بعد سويعات.
ستقتربُ منه ويمدُّ لها يده، فتشعر بها تكبرُ وتكبرُ
لتحتضنَ كفّها الرقيق.
سيحترقُ الانتظارُ على مبسمهِ، وتلهثُ فراشاتٌ
لتحطَّ عند ثنايا قميصهِ الأبيض.
تخيّلتْ عينيهِ وهما تتوهجان على ضيقهما مثل شمسِ
الأصيلِ المائلة إلى الاحمرار مُخلفةً لوناً أسطورّياً يليقُ به.
سيقفُ طويلاً بقامتهِ الفارعة إلى جانبها.
رأسها يصلُ إلى صدرهِ، تصغي بشغفٍ إلى نبضِ الحرفِ
والوجيبِ. يقفان كعمودين من المرمر. تغمرهما النشوةُ، وترشهما أزرارَ وردٍ
تتفتّقُ.
ستخبئُ عبير الشوق في جؤنةٍ صغيرةٍ حرصاً من حسدِ
الآخرين.
وتلملمُ حرارةَ اللقاءِ، وتغزل منها أرجوحةً ترحلُ
بها إليه.
ويموجُ الكونُ بالكلام.
ويبوحُ بأشياءَ زنّرَتْ خَصْرَ الربيعِ بالعطاءِ.
ابتسمتْ...
ورفّتْ على زاويةِ فمها إشراقةٌ. دارتْ بعينيها
تجوسُ المكانَ لعلَّ الذين يجاورونها غافلون عن حزمِ الفرحِ والابتسامِ
التي تَنبعثُ من كيانها.
تساءلتْ مراراً حينما كانت تلقاهُ ماذا تقول؟..
تمتمتْ:
ـ ماذا أقولُ؟...
يأتيها صوته هادئاً، رقيقاً يطوي البعدَ ليرشَّ
الوجودَ بالمجيء:
ـ قولي شيئاً..
ـ أحبك..
ـ قولي أكثر... أريدُ أن أسمعَكِ.
ـ ...........
ـ قولي سأنتشي، ستروى حقولي، سأغنّي بين سنابلي.
بخفر تجيب:
ـ سأقولُ أكثر في لقاءاتٍ قادمةٍ.
ـ وأنتظرُ لمرّاتٍ قادمة؟ لم تطفئين وَهجي؟!
ـ ليستمرَّ ضياؤك.
يتلاشى الصوتُ، فتطبقُ السماعةَ ينكسرُ في كرسيه
طفلاً مُتْعَباً أسكره صوتها، ووشّحَ لحظته بدفءٍ ونرجسٍ.
كثيراتٌ عَبَرنَ حياته دون أن يتركنَ أثراً، أو
بصمةً.
مررنَ مروراً سريعاً، قتلنَ لحظة الوحشة والغُربة
لديهِ وتلاشينَ كالزبْدِ أَمّا هي فقد خيّل إليها أنها تجلسُ مكان الأنثى.
واعتقدتْ أنها تقبضُ على كُرةٍ بللّوريةٍ تنظرُ
إليها كلّ حين لتُعْلِمَها الكرة أنّه الرّجلُ الوحيدُ الذي تبحثُ عنه منذ
بدءِ الخليقةِ إلى اللحظةِ.
حينما طوى البعدُ صوته راحتْ تدورُ في غرفتها كراقصة
"باليه" بارعة، صارخةً من فرطِ انتشائها:
ـ "أحبّك دائرةً من ياسمين بل كرةً أرضية من ندى
ولوزٍ وحنين. وصدراً واسعاً يحتويني، أحبّك، ريحاً ممطرةً تأتي بالبروقِ،
والخيرِ والمطرِ، تسقي ظمِئي، وتؤطّرُ لوحاتي الكئيبة الملقاة في إحدى
زواياي الباردة.
تنهمرُ في داخلي تغسلني، وتوقدُ في دمي أهازيجَ
ملوّنةً وأسرابَ طيورٍ تأتي في الربيعِ، وتمضي مسرعةً في التغريدِ.
أحبّك ألقاً وكلماتٍ أعرفُ كيفَ أدوّنها، وكيف تكونُ
شموعاً فوق صفحاتي و......".
فجأةً توقفت السيّارةُ في إحدى المحطّاتِ.
نزل بعضُ راكبيها لشؤونٍ خاصّةٍ سريعةٍ.
لكنّها بقيتْ في كرسيها تنظرُ إلى الطريقِ دون
التفاتٍ تحلمُ بلحظةِ اللقاءِ. على مَدِّ بصرها، إلى الأعلى، في السماءِ
تربَّعَ مبتسماً.
وجهه يعانقُ المدى. يُطرّزُ الوجوهَ بحضورهِ، ويُضيء
الجهات.
ينظرُ كلّ حين إلى ساعتهِ يتفقّدُ الزمنَ. يزحفُ
إليه القلقُ والتوترُ ثمَّ يُكمل حديثه مع الآخرين تقطيعاً للوقتِ وزجراً
له.
ـ طالَ وقوفُ السيّارةِ!..
قالتْ في نفسها، تأففتْ لا تحتمل صبراً، لذا قرّرتْ
أن تسافرَ إليهِ مشياً على الأقدامِ، ترحلُ رحيلَ القدماءِ هذا خير من
الوقوفِ والانتظارِ.
الانتظارِ!! جمرة متقدة تكويها، ونارها تبيدُ
الأخضرَ فيها لذا لن تقفَ، وتنتظرَ لأنَّ كل شيءٍ فيها يرحلُ إلى تخومه كلّ
ذرّةٍ، كلَّ جارحة تبحرُ نحوه.
وشرعتْ تركضُ، ويركضُ معها قلبُها، وفكرها وصوتها.
صار لها ساقان طويلتان.
تستطيع بهما أن تخطو خطواتٍ أكبر.
بهما ستختزلُ الوقتَ، وتصلُ إليه باكراً.
صار لها قلبٌ يتسعُ العالمَ بأسرهِ، قلبُ بحجمِ
الشمسِ يخفقُ بقوّةٍ.
أسرعتْ أكثر علّها تصلُ قبلَ الوقتِ لتأخذَ زينتها.
ستضعُ اللونَ الأحمرَ على شفتيها، وترشُّ الأخضرَ
فوق عينيها وتسحبُ الميلَ الأسود بين أهدابها، وتسرّحُ شعرها كالملكاتِ.
هي جميلةٌ لكنّها تودُّ أن تكون الأجمل والأروعَ
لأنّ كلّ مساماتها تنضحُ عشقاً وشوقاً، وصدقاً للقاءِ تموزها.
كانت تركضُ كمهرةٍ شوقاً تغتسلُ بأشعّةِ البزوغ،
وتتشرّبُ بالضياءِ.
يتصاعدُ بخارٌ من أنفها وفمها، ويتطايرُ شعرها
ناعماً أحمرَ كالعقيقِ.
كانت تصهلُ بحريّةٍ، وينطلقُ صهيلُها غناءً في كلِّ
المسافاتِ، يصبغُ الوجودَ وجوداً، ويخرجُ من صدرها سرب من الفراشاتِ
الملوّنةِ يُلاحقُ خيوطَ الوهجِ.
كانتْ مبتسمةً، عاشقةً، حالمةً ورشيقةً.
التفتت حولها حينما هدرتْ السيّارةُ تتابعُ الرحلةَ.
فألفتْ نفسها في كرسيها تُراقبُ الشمسَ التي أخذتْ
تلوّنُ الأفقَ بألوانٍ قرمزيةٍ رائعةٍ.
بقيَ القليلُ لتستظلَّ به.
عَسكَرَ فرحٌ في داخلها وكبرت ابتسامتها، وتفتّحتْ
عيناها النرجسيتان لتلمّان هيكلَ المدينةِ من بعيد.
مدينةٌ ضمّت الرجلَ الذي قطعت أميالاً لتراه.
صحيحٌ أنَّ اللقاءَ سيكونُ بين أُناسٍ كثيرين،
والمناسبة مناسبة احتفاءٍ بأحدهم لكن يكفي أن تراه.
أن تضعَ يدها في كفّهِ وتُلامسَ دفأها.
ستتوحّد أنفاسهما حينما يقفان قبالةَ بعضهما.
ويسلّمان سلامَ المحبين.
سيصلُ رأسها إلى صدرهِ، فتسمعُ خفقَ فؤادهِ ويخرجُ
العصفورُ المتكوّرُ من صدرها ليعشش بين أضلاعهِ.
وسيحصدُ الرجلُ الحلمُ الحبَّ من عينيها الطافحتين
بالشوقِ بمنجلِ الانتظارِ.
ويفضي صوتها العذب المسكون بالوجدِ عمّا يختلجُ في
داخلها من بوحٍ وصمتٍ وغناء.
وربّما حينما تلقاهُ ستلتزمُ الصمتَ لأنّ كلّها
يفضحُ ويَشي بحجمِ الحبِّ الذي يسكنها.
يهمسُ الرجلُ بحرارةٍ، ويده ما تزال تحتضن يدها:
ـ انتظرتك طويلاً..
تردُّ بفرحٍ كبيرٍ، وارتعاشٍ:
ـ وها أنا جئتُ.
تستيقظُ من حلمها تُدركُ أنّها ما زالت قابعة في
السيّارة التي وقفت أخيراً عند منزلِ أحد أصدقائها.
أخذتْ زينتها، وأكملتْ أناقتها، ورائحة طيبةٌ انبعثت
منها.
ينتابها توترٌ كلّما نظرتْ إلى ساعتها، ووجدتْ
الوقتَ يقتربُ.
في السّاعةِ السابعةِ مساءً سيكون واقفاً في بهوِ
الصّالةِ كسيفٍ عربيٍّ يبرقُ تحت الأضواء.
كلّ مافيه ينتظرُ، عيناه صوبَ الباب ترقبانِ بلهفةٍ
قدومها.
حديثه مع الآخرين مفكّكٌ يقطعه كلّما دخلت إحداهنّ
معتقداً أنّها أُنثاهُ.
في السّابعةِ نزلت من السيّارةِ، قلبها يقرعُ
كالطبلِ، وعيناها تلوبان بحثاً عن أطولِ قامةٍ، وأرحب صدر.
تدخلُ البهوَ وابتسامةٌ زاهيةٌ تسطعُ على الثغرِ.
يهرعُ إليها أحدُ معارفها يُرَحّبُ بها، تردُّ
بأدبٍ.
نظراتها تحلّقُ فوقَ رؤوسِ الجميعِ تبحثُ عنه.
يأتيها آخر ليسألها عن أخبارها، ويثني على حضورها.
من جديد تبحثُ عن وجهٍ قمريٍّ بين أكوامِ الوجوهِ.
وجه منذ فجر التاريخِ كان لصيقاً بها.
وهنا بين هذا الركام فقدته.
شيءٌ ما بداخلها تكسّر. صار له طعم التشظّي
والانشطار ولقامتها طعم الخيبة.
لكن سرعان ما زال كل شيء حينما ظهر وشعَّ ضياؤه،
وغمرَ الدنيا سطوعاً.
خرجَ من غرفةٍ صغيرةٍ بجانب الردهةِ أنيقاً، عظيماً.
عادَ الفرحُ إليها شلالاً يهدرُ من أعلى رأسِها إلى
أخمصِ قدميها.
ينثرُ رذاذاً لطيفاً يداعبُ جلدها.
خرجَ برفقةِ امرأةٍ قزمٍ تصلُ حدَّ خصرهِ، يجمعهما
حديثٌ ما جعله منهمكاً في الكلامِ، مُكثراً من إشاراتِ يديه.
أَحنى رأسَهُ ليصبَّ القولَ في أذنها.
بينما كانت تتطلعُ إليهِ بعينينِ صغيرتين فوقهما
نظارتان سميكتان ألصقتهما كثيراً بجمجمتها.
يرفعُ رأسهُ بغتةً.
يتنفّسُ هواءً، يلتمعُ طيفُ مسرّةٍ حينما يراها.
أحسّتْ بثقلِ خطواته، وبارتباكٍ خفيفٍ يسري في
أوصاله.
أبعدت هذا الإحساس مبرّرةً أن مبعثهُ وجود أخرى
شوّهت جمالية اللقاء.
"إنّها مغسولةٌ في حدقتيهِ، ومخلوقةٌ من ضلعهِ فكيف
ينظرُ لأخرى..؟". (قالت لنفسها).
دنا منها، مَدَّ يدهُ نحوها.
يدٌ ممدودةٌ على طولها، مستقيمةٌ كسكّةِ قطارٍ.
"لم يقترب ليلامس رأسي صدرَهُ، فأسمع دقّات قلبه كما
حلمتُ!..".
اتجهتْ يدها إليه، تركتها في كفّه، سَحَبَ الكفَّ،
وراحَ يُعرِّفها على المرأةِ الأخرى.
لم تسمعْ ما قال، ولا حفظت الاسم الذي ذكره، إنّما
لبسها الجمودُ، والذهولُ حينما وجدتُ نفسها أمامَ مرآةٍ تعكسُ بوضوحٍ
ذهولها.
وقفت مشدوهةً، واجمةً، مطفأةً.
تبحثُ عن خطوطِ وجهٍ جميل مَرَّ بها.
مَدّتْ أصابع مرتجفةً، مضطربةً إلى صدرها تتحسّسُ
عصفوراً صغيراً له زغبٌ خفيفٌ.
وجدته يغطُّ في سُباتٍ، وسكونٍ. أيقظتهُ، وامتلأتْ
فرحاً، ولهاثاً، ورغبةً في لقاءٍ يُشعِلُ المدى.
امرأةٌ تجيدُ الانتظار
ميناء..
ثمةَ امرأةٌ ذاهلةٌ تقفُ على الشرفةِ المطلّةِ على
البحرِ المتماوجِ، تلوّح بيدها لرجلٍ ركبَ السيّارة وتدثَر بالسفرِ.
وباليد الأخرى تمسحُ الدمعَ الهادئَ ولقد بانت كصاري
لسفينة صمّاءَ تبوحُ بالعجزِ. تكالبتْ عليها الريحُ فتهفهفَ الثوبَ وتثنّى.
"ـ هل أنتظرُ ستّة أشهر أخرى ليعود؟..
كلُّ مرَةٍ تذهبُ برفقته إلى الميناء، تزرعُ قبلةً
على الخدِّ وتباركُ الرحيلَ.
ولا تعودُ حتى تغيبَ السفينةُ عن الأعين ويبتلعها
الأفق، وهي تدعو له بالسلامة.
تمكث في بيتها النصف الثاني من السنة، وحين يقتربُ
موعدُ المجيء تفتحُ النوافذَ والأبوابَ تسهرُ على الشرفة ليال متتاليةٍ،
تعَبئ الصدرَ بهواء رطب مُرسل من البحرِ، رافل برذاذ مالح.
تستقبل كلّ الجهات التي تصبُّ عند تخومِ شرفتها.
"ما الذي جرى يا ترى؟!"..
لوداعه هذه المرّة لذوعةٌ في الحلقِ، وزبدٌ يغشي
منارةَ الأهدابِ قبل أن تغيّبه السيارة، نظرت في وجهه مليّاً كأنما تراه
لأوّل مرّةٍ، وتودُّ من كلّ قلبها المتشاقي أن تخزّنه في ذاكرتها بإتقان،
وفي اللحظة التي أصدرت السيارة صوتاً مزعجاً، وانطلقت لتخلفها وراءها،
أحسّت المرأةُ بيدها شلاءَ، متحجَرة، وبجمودٍ يستوطنُ الجسدَ، لكن بعد أن
ابتعدت لوّحت كثيراً.
في المرّات السابقة كانت نظراتها تحملُ من الفرحِ
والدعاءِ ما يكفي.
كانت عكس نساء البحّارة اللواتي يودعن أزواجهن في
كلّ مرة الوداع الأخير.
هذه المرّة صارت مثلهن تماماً.
تحسُّ به في خضمّ بحرٍ أهوج تتآلبُ عليه الرياحُ
تدرسُ المعالمَ، وتطمس الجهاتِ،
تراهُ ضائعاً، مذعوراً يسوطه المطرُ والعتمةُ، يحاول
استقراء السمات، ويحلم بمرافئ قادمة لها رائحة الدفء والاحتماء.
أحسّت بوجهه المتغضّن تفرُّ منه كلُّ الموانئ. حينها
ودّت لو تكون لـه ميناء، فتبثّه احتواءً ويأتيها محمَلاً باللجوءِ..
هذه المرّة....
بحثت في وجهه المملوءِ بالنوِّ والموجِ وزعيق
الصّواري عن جزيرةٍ يؤمّها.
لكن..
لا جزر فيه بل أشباح هاربة، فارّة، ولا سواحل تلمّ
ذلك الشريد الطريد.
ـ 2 ـ
الهواء في الشرفة حارٌّ، لاذعٌ ورطب. يتمدّدُ على
السواحلِ المتعرجةِ والشوارعِ، وأرصفةِ الميناءِ سيغيب رجلها طيلة فترة
الصيف، وسيجلدُ الانتظارُ المرأةَ، ستمتدُّ أصابعه لتمتصَّ العمرَ ثم تذروه
وجعاً، وقلقاً ورماداً على عريّ الإسفلت.
ستُّ أشهرٍ ستقضيها مابين الشرفة وغرفة النوم
يرافقها فنجانُ القهوةِ راتعاً بين أصابعٍ باردةٍ وسيجارةٌ تتمطّى بلا
استحياءٍ من حين لآخر بين شفتيها المسكونتين بالانتظار والرغبة.
هواءٌ ساخنٌ يجلدُ الصدرَ، والعينان تحدّقان في
البعيدِ، يترنّحُ الغسقُ كطيرٍ ينتفضُ.
مازالت وحيدة، حزينة وساهمة في مدى واسع أزرق
الجنبات تستعيدُ حواراً جرى بينهما:
ـ هل تحملني في رحلاتكِ؟
ـ أنت معي أنى اتجهت.
ـ أشتاقك..
ـ 3 ـ
تمدُّ يدها المتألقة إلى حافةِ الشفة، تنتابها
قشعريرةٌ، فتنطوي على ذاتها، وتلملمُ أطرافها.
لم ترتوِ بعد من دفءِ الصدرِ، ولا من حكاياتهِ عن
بلاد مرّ بها، عن حوريات جلسنَ على حواف الجزر بأناقةٍ بالغةٍ يوقدن قطوفاً
من مرجان وأحلاماً نرجسيّةً.
كانت تتلهف لسماع المزيد. تركضُ في الأصقاع التي
يتحدّث عنها، تهدل حمامةً من ريحان حين يطيل الوصف تتكئ على أفاريز المدن
النائية، تغرقُ في وسائد الضباب الناعمة، تتوحّد في البعد وتترك أنفاسها
المتلاحقة بين دهاليز ذاكرةِ الأمكنة.
تنهدّت بحرقةٍ، أحسّت بدوار دهمها، استندت إلى جدار
الشرفة تبكي بصمتٍ وضعفٍ وألمٍ.
انهمر الدمعُ حنوناً على عشب الخد.
بدا بكاءً داخليّاً، خاشعاً ثم رافقه صوتٌ واهن ما
لبث أن ازدادَ حتى صارَ عويلاً ونشيجاً.
كان بكاؤها مزيجاً من لوعةٍ وغربةٍ وقهرٍ.
رعفت كلُّ أعضائها بالبكاءِ والارتجافِ حتى أحسّت
بقلبها يتصدّع.
ـ مع السلامة.
تمتمت، ثم انسلّت إلى الداخل، وعند أقرب كرسيٍّ هبطت
بجسدها، مطفأةً وساكنة.
ـ 4 ـ
في هذا المساء الساكن، قادتها قدماها لأن تجوبَ رصيف
الميناءِ، فحالة الاختناقِ التي تعيشها تكادُ تقضي عليها، ولا شيء يسرّي
عنها سوى المشي والنظر في مياه البحر المتراخي علَّ ذلك يوقظ ذبول الجسد
والروح.
جابت الشارعَ الطويلَ من أوّلهِ إلى آخرهِ.لم تكترث
بالنّاس المتناثرين ولا بالأراجيل في أيديهم، ولا بالمقاعد المغروسةِ
بالقرب من الشاطئ.
لم تسحرها القوارب الصغيرة البيضاء ولا السفن
الكبيرة الرّاسية في الميناء، مادخلت أصوات العمّالِ وهم ينزلّون البضائع
أذنيها.
كانت شاردة وذاهلة، وكثير من البكاء ما يزال يعصف
بداخلها ينتظرُ لحظة انزواءِ ليخرج هادراً عاصفاً وشرساً.
قبالة البحر يرقدُ مقهى امتطت درجاته ودلفت إلى بهوه
الزجاجي ذي الأضواءِ الملوّنة انزوت جانباً وطلبت قهوة راحت تحتسيها بهدوء.
***
ميناء بشري.
حين لمحها، انبهر لتلك الكتلة المهدودةِ العائمةِ في
ردهةِ الصمتِ.
خمّن من تكون؟
ـ أتكون هي؟..
أية ريحٍ دفعتها للخروجِ؟
انسحب من كرسيه واقترب منها.
ـ سيدتي.
ارتعدت المرأةُ، وتندّى الوجهُ بالمباغتة..
ـ ماجد...
ـ خير مابكِ؟
ـ سافر زياد..
ـ ككلْ المرّات فلمَ الحزن؟
ـ لا أعرف.
ـ لا مبرر لذلك، إنه بحّار يمتطي البحرَ كفارس يجوب
العالم ثم يعود إليك...
ـ...........
راح ماجدٌ يثرثرُ ، يخلق أحاديثَ مفرحة وماتعة وهي
تلوذ بصمتها، كانّ أسواراً من اللا مبالاةِ والجليد تقام بينها وبين
الإصغاءِ.
لكنّه لم يتعب، أو يداخله يأس، بل ظلَّ يتكلم عسى أن
تنفذ كلماته إليها فتجدَ ثغرةً دافئةً تذيب الجليدَ وتنأى بغيمة الحزن.
بيد أنها كقطةٍ متفجّعةٍ لطأت في كرسيها، حزينة،
راعشة، وعزلاء إلا من حبٍّ عاصفٍ لمن غادرها هذا الصباح.
قال ماجد:
ـ البحّار ما إن يركب السفينة ويُولي قفاه للميناء
ينسى كلّ شيء، المدينة ومن فيها.
انتفضت كأنما لُذعت وقالت محتدّة:
ـ لا ، هذا غير صحيح.
استفزها ماجد بقوله، فأثقل العيار إذ أردفَ:
ـ وفي كلّ ميناء له امرأة تنتظره، وربّما أمسكت
بيدها ولد راح ينتظرُ أباه أيضاً.
ـ ماذا تقول؟ أتعني صديقك زياد بهذا؟...
ولم تنتظر جواباً، وإنما وقفت تستجمع حوائجها من فوق
الطاولة وحينما مدّت يدها إلى حقيبتها أمسك بها وقال بثقةٍ:
ـ أعرفُ زياداً أكثر منك..
شدّت يدها من قبضته ورمقته بعنفٍ وولّت هاربة.
***
ميناء قصيّ:
كانت امرأة جميلة، فرحة مستبشرة ترقبُ بشغفٍ سفينةً
قادمةً من الشرق.
على خاصرتها خُطَّ بوضوحٍ اسم "أدونيس".
وهي "أفروديت" عاشقة ومنتظرة، نزعت عنها القلقَ
وتجلّت بأبهى حللها على رصيف الميناء الإغريقي.
نصف عام وهي تنتظر حركة النجوم والأفلاك والأمواج
وهاهي تباشير الصيف تلوّحُ، فيأتي معها الحبيب المرتقب، التقى أدونيس
بأفروديت في احتفالات "الآدونيا" تعارفا ورقصا ومضيا يداً بيد.
في صباحٍ باكرٍ لذلك اليوم الاحتفاليّ، الأسطوريّ
كانت أفروديت ككلّ نساء الإغريق الحالمات تصنعُ دُمى من شمعٍ وطينٍ مشويٍّ
تمثّلَ الحبيب الغائب.
حملت الدمى، ووضعتها عند مداخل البيوت ترمز بذلك
لرغبتها الجامحة أن يأتيها رجلها ويجمعهما بيت خاص بهما.
ثم تتحلق مع سائر النساء بثياب الحداد حولها وتشرع
بالبكاءِ والندبِ على ذكرها الذي قضى نصف سنة في بلاد أخرى قصية.
ثم تبدأ بنشيد حزين على أنغام الناي وتبقى طيلة
يومها على هذا المنوال إلى أن يطل الحبيب، فتمسك بيده ويذهبان إلى
مباءتهما.
وهاهو أدونيس الغائب قادم إلى أقبعة الإغواء والخدر
يلوّح بيديه، تسبقه ابتساماته وعيناه لمعانقة المرأة المسكونة بالرؤى.
***
ميناء له طعم الانتظار:
في إحدى الشرفات في المشرق تتسلل امرأة من بين
غلالات الوحدة تمسح البحر بعينيها، وتتلمس ما ضاع من العمر في الذبول، ترقب
عرائس البحر لتأتي مع تكسرات الموج.
تحرق الأيام في انتظار الشتاء وتزداد التصاقاً
بالصبر.
الرياح تكنس الشوارع وتجلد المارة، والأرض لها رائحة
المطر والبرد.
والمرأة تجدد سيجارة أحرقت شفتيها، ولبثت تنتظر
وتنتظر إنها حقاً تجيد الانتظار ببراعة.
الثورة في
29/12/2000.
منصور المهزوم
منصور الأول
(البداية)
هيئة زريةٌ، يستولي التعبُ عليها، شَعرُ رأسٍ مشعّثٍ
يندرجُ الإهمالُ فيهِ فبدا متناثراً بشكلٍّ مرعبٍ.
لحيةٌ طويلةٌ، وثيابٌ رَثّةٌ، ووجه كاب يميلُ إلى
الصفرة.
قسماتٌ متوحشةٌ يغلُفها جلدٌ خشنٌ تغلبُ عليهِ
أخاديدٌ كثيرةٌ متبعثرةٌ، وفمٌ يابسٌ يلوكُ علقماً.
رجلٌ ذو قامةٍ نحيلةٍ يتأبّطُ حيرةً وقلقاً. تسكنه
انكساراتٌ ويرافقهُ ذهولٌ، وكلُّ مافيهِ يُعلن عمّا في داخلِهِ من اضطرابٍ
وخيبةٍ وشكٍّ.
أَسبابٌ مجتمعةٌ تدفعُ المرءَ لأن يتساءَلَ بشراسةٍ:
"أين كان هذا الرجلُ؟
أية دهاليزٍ حوته؟ أهو أحدُ أصحابِ الكهفِ، ومن
رقادٍ عتيقٍ قامَ، وانزرعَ في هذا الشّارعِ؟"..
أخذَ النّاسُ يتقوّلونَ من حولهِ، وانْصَبّت
أحاديثُهم، واحتمالاتهم في أُذنهِ خوفاً ونفوراً، وزادته شكّاً واضطراباً.
تطلّعَ حوله بريبةٍ، بعثرَ نظره فوقَ وجوهٍ أكلته
بلا رحمةٍ.
خُيّلَ إليه أنّه تسمَّرَ، ولم يعدْ قادراً على
الحراكِ.
رَفَعَ رِجلاً تحرّكت معه بصعوبةٍ، حَرّكَ الأُخرى
تمتمَ:
"آه... الحمدُ للهِ، لقد عشتُ طويلاً كالكسيحِ أصابه
الصمم والعمى والخرس كيلا أعايشَ أوغاداً، وزعانفَ، وحشرات. أليسَ كذلك يا
زرادشت؟ تبّاً أتبتسم!؟..
ـ يُخيّلُ إليه أن زرادشت يقفُ أمامه ويهزأُ به ـ
وتهزُّ برأسك موافقاًِ؟
يُكمِّلُ بقهرٍ وانكسارٍ:
ـ "أنا ما اخترتُ لنفسي فَقْدَ حواسي، ولا وضعتُ
نفسي موضعاً كهذا، وإِنّما أُجبرتُ على ذلك..".
لذا فأنا مقهورٌ حتى انطفائي، مقهورٌ وأشعر بذلٍّ
كبيرٍ ينصبُ خيامه في أعماقي، ويستولي على مساحَاتٍ في داخلي.".
يُخيّلُ إليه أن زرادشت يُحاورهُ، يتميّزُ منصورُ
غيظاً وانشطاراً.
يصغي باهتمامٍ لصوتٍ قادمٍ إليه:
"آه... يا منصور، عليك أن تصالح نفسكَ عشرمراتٍ في
النهارِ لأنّهُ إذا كان في قهرِ النفسِ مرارة فإنّ في بقاءِ الشقاقِ بينك
وبينها ما يزعجُ رقادك."..
صَرَخَ منصورٌ مصعوقاً، مستغرباً:
ـ أصالحُ نفسي!! سُحقاً سأبتعدُ عنها قَدْرَ ما
أستطيع..
سأهربُ منها هروب السرابِ من ملامسةِ أرض الواقعِ
إنّكَ.. إنّكَ تطلبُ المحال، ونظرياتكَ لا تهمّني ـ يصرخُ ـ لا تهمّني.
ويطلقُ قدميهِ للريحِ. كان منصورُ رجلاً واقفاً،
فبات كتلة هروبٍ تفرُّ من ذاتها. راحَ يركضُ بلا هوادة في شارعٍ مزدحمٍ
بجثثٍ تتقنُ السيرَ، والاندهاشَ، ولا تملُّ من الفضولِ.
يرتفعُ صوته، وهو يركضُ لاهثاً، متعباً، منطفئاً:
ـ سأبتعدُ قدرَ ما أستطيع.
يسرقُ نظرةً إلى الخلفِ عَلّهُ يقنعُ زرادشت
باستحالة المصالحة بينه وبين نفسهِ، لكنه لا يتعثَر إلاّ بتلكِ الجثث التي
ترعبهُ، وهي حاملةً أكياساً، وتتجهُ إلى قبورها لتقتاتَ بقيةَ يومها وجزءاً
من ليلها.
منذ زَمنٍ لم تعرف قدماهُ الركضَ، ولا سيطرَ عليه
اللهاثُ، فقد كان مُكبّلاً، مخنوقاً في مساحةٍ صغيرةٍ، مظلمةٍ يعيثُ فيها
التعفنُ والجرذانُ، ويجترُّ ضمنَ جدرانها الوحدةَ والانزواءَ.
أمّا اليومَ فقد أطلقَ لقدميهِ سراحهما. كسرَ القيدَ
وقرّرَ العَدْوَ. سيعدو طويلاً لن يقفَ أبداً مخافةَ أن يخلوَ مع ذاتهِ.
لن يقفَ رغم تعبهِ، وعطشهِ، وجوعهِ وانكسارهِ.
كان مخنوقاً فَفُكَّ محبسه وأعطيَ حريته، ويقلقهُ أن
يجلسَ ويفكّرَ ويستذكرَ. سيظلُّ يركضُ كقطٍّ بريٍّ حتى يغيبَ عن الوعي.
وإنْ أفاقَ سيعاود رحلةَ الهروبِ، والفرار إلى ما لا
نهاية.
في خضمِّ هذه اللحظاتِ تنتابه حالةُ سعالٍ حادّةٍ
تُمزّق صدراً ملتهباً وتأكل قسماً من رئتيهِ. لكنه بالرغمِ من كلِّ ذلك
يَعْدو..
رغبةٌ دفينةٌ، قديمةٌ يحاول إشباعها.
أخذَ يَرسِلُ بيديهِ إيماءاتٍ غير مفهومةٍ، مضطربةٍ،
تندلقُ في وجهِ كلِّ من يراه، فيديمُ النظرَ إليه.
يهلوسُ بذعرٍ: "ابتعدوا... ابتعدوا من أمامي."..
يصرخُ، وتصرخُ رئتاه ألماً ودماً.
أخذ بعضُ المارّةِ يبتعدُ لا شعوريّاً معتقداً أنّه
مجنونٌ مما راح يُفسحُ له الطريقَ تلقائياً، والبعضُ الآخر يحاولُ مَدَّ
يده لإيقافهِ مدفوعاً بفضولهِ لمعرفةِ ما ألمَّ بهِ.
ـ "إيَّاكم أن تقتربوا، لا أريدُ لأحدٍ أن يقتربَ.
قد أنفجرُ بأيّةِ لحظةٍ وأدمرّكم."..
زعق منصورٌ لإخافةِ مَنْ في طريقهِ. تراكضَ النّاسُ
وتَفرّقوا، وسَرت فيهم عادةُ القطيعِ، وتخبّطوا، واندفعت أرجلهم في حركاتٍ
عشوائيةٍ، وراحوا يتدافعون بصخبٍ، ويتلاطمون ويختبئون وراءَ أي شيءٍ
يصادفهم.
وعلى الفور انبطحَ رجلٌ في حين شدّت امرأةٌ ابنها
إلى صدرها ووَلولتْ متَوسلةً:
ـ "أرجوك لا تنفجر الآن، ويلتاه."..
وأسرعتْ تتخبّطُ في ركضها، وتتعثّر، وعلا صراخٌ
وجلبةٌ، وتوسَّعت الضجّةُ وتشعّبت حتى شملت شوارعَ المدينةِ، وبيوتها،
وأزقتها وسكّانها.
عَلَّقَ رجلٌ: "هل هو ديناميت!؟"..
ردّ آخر: "إنّه مجنونٌ، ألا ترى هيئَتهُ؟"...
وازدادَ منصورٌ ألماً، وغصّةً والتمعتْ عيناه
مرارةً، وحاولَ الوقوفَ لكنّه ترنّح، وشعرَ بالأرضِ تميدُ من تحتهِ، وكأنَّ
زلزالاً قادمٌ من رحمها سيبتلعه، ويُجهزُ عليه.
وبُوغِتَ بترنحهِ هذا يودي به إلى وقوفٍ ضعيفٍ،
مضطربٍ بعض الشيء بيد أنّه قد منحه القدرةَ على أن يُشيرَ بإصبعهِ إلى ذلك
المتفوّهِ الأخيرِ قائلاً:
ـ لستُ مجنوناً كما تزعمُ، وإنّما سأتناثرُ شظايا لو
مسّني أحدٌ. سأحرقكم، سأفنيكم، سأبيدكم عن بكرةِ أبيكم.
وانطلقت تعليقاتٌ وقهقهاتٌ، من هنا وهناك. بينما
استمرَّ منصورٌ في الركضِ، وراحت الفُرقةُ واللا مبالاةُ تظهرُ بين
الجموعِ، وتعودُ الجثثُ إلى السّيرِ نحو هدفها. باستثناءِ رجلٍ آثرَ
اللحاقَ بهِ، ونزلَ كلامُ منصورٍ في عمقهِ سكيناً حادّةً، وغرسَ فيه
تصميماً على إتلافِ تلك القنبلةِ الموقوتةِ التي تسكنُ منصوراً.
من خلفهِ حاولَ أن يُناديهِ عَلّه يستدير. لكنَّ
منصوراً كان يقتلُ نفسَهُ في الركضِ والهَربِ.
صرخَ الرجلُ: هِيْ، أنتْ.
استدارَ منصورٌ بلا توقف وأشارَ إليهِ أن يرجعَ.
ذكّرهُ الرجلُ بأنّ مسافةً تفصلُ بينهما، وإذا خفّفَ
من ركضه يستطيع أن يلحقَ به. ليطمئنَ لأنّه سيوازيهِ فقط، ولن يقفا البتّة
فيعرقلَ مسعاه. ما عليه سوى التمهّلَ.
انزاحَ القلقُ، وانقشعَ عن منصورٍ، وتشرّبَ
الطمأنينةَ من كلامِ الرجلِ فخففَ من سرعتهِ، وصارا على بُعدِ نقطتينِ
متوازيتَين لكنّهما استمرّا في الركضِ.
سألَ الرجل: إلى أين؟..
رَدَّ منصورٌ: لحقتني لتسألني؟!..
قالَ الرجلُ:أينَ نقطةِ وقوفِكَ؟!..
أجابَ منصورٌ لاهثاً: لا أعرفُ.
كرّرَ بنزقٍ، وحيرةٍ ـ لا أعرف، لا أعرفُ.
سألَ الرجلُ: متّى تُقرِّرُ الوقوفَ؟..
أجابَ منصورٌ: لا أستطيع، كلُّ شيءٍ يدفعني لأن
أنكرَ نفسي.
انغرسَ الصمتُ واللهاثُ والتعبُ في كلا الرجلين،
والسعالُ الشرسُ ينبحُ من رئتي منصور بقوّةٍ.
تتقاتل الأفكارُ في رأسيهما، وتتّسعُ الجهاتُ من
حولهما.
تملُّ المدينةُ من صوتِ نعالهما فتلفظهما خارجَ
أسوارِها مطرودين من أجوائها.
لكنّ البادية أرحمُ إذ تستقبلهما بترحابٍ فاتحةً
صدرها البتول، هاشّةً وباشّةً بهما.
لاشيء فيها سوى رملٍ، وترابٍ عذريٍّ، وهواءٍ،
وأشواكٍ قصيرةٍ ولا صوت فيها إلا صوت اللهاثِ، والسّعُالِ، والنعالِ.
شهقةٌ قويةٌ أطلقها الرجلُ للتوِّ حينما رأى فمَ
منصورٍ يُفتحُ ويخرجُ منه مهرٌ، يصهلُ بعذوبةٍ، ويهزُّ رأسه مستمتعاً
بهواءٍ نقيٍّ متنعِّماً بشمسٍ تغمرُ جلده. مُهرٌ انطلقَ سريعاً، وابتعدَ عن
منصور.
تلعثمَ الرجلُ، وقال بصعوبةٍ وهو ما يزال بمحاذاتهِ
يركضُ:
ـ سبقَ المهرُ!..
ـ .............
"ألحقهُ بسؤالٍ آخر عَلَّهُ يردُّ.
ـ إن أردتُ مناداتك فبماذا أُناديكَ؟
ـ منصور..
تفرَّسَ الرجلُ فيه، وابتسمَ خفيةً، وقالَ في
سرِّهِ:
"منصور، وكلُّ هذه الهزائم، وقبائل الخوفِ
والتشرّدِ، وآثار جحافل التتار على جسدك، وأنتَ منصور.. هه يالك من
منصور!"..
قرأَ منصور مايدورُ في خاطر الرجل وقال بلهجة
العارف:
ـ تستغربُ اسمي أليسَ كذلك؟ في الحقيقة أنني لستُ
منصوراً واحداً وإنّما قافلة من المنصورين، ولكلّ منصور عندي له قصّة.
قالَ الرجلُ:
ـ لعليّ أناصرك، هلا جَلسنا، وتحدّثنا، فقد نال
التعبُ منّا فارحم تعبي.
ـ رَدَّ منصورٌ بعصبيّةٍ.
ـ ما طلبتُ منكَ مرافقتي. إنْ أحببتَ الرجوعَ فما
عليكَ سوى أن تُديرَ لي قفاكَ.
ـ إنك تهمّني..
ـ لا تؤثرّ عليّ.
ـ ومن الجُبنِ تَستُرِك علىجرحٍ ذي قَيحٍ.
ـ أَهْوَنُ من أن أكشفَ سترهُ، فتنتشرُ رائحةٌ
عفنةٌ، فيزداد قهري، وتنزّ جراحي.
قال الرجلُ وهو يدنو منه ليزرعَ فيه ثقةً،
وطمأنينةً:
ـ لنقف يا منصور.
ونظرَ في عينيه بحبٍّ عميقٍ، فرأى عينيّ منصور
تُبشّرانِ بانتصارِ هذا الجرّاحِ الغريبِ الذي سأله على الفورِ:
ـ بمَ تشعر؟..
صمتَ منصور قليلاً، ثمّ بكى بحرقةٍ وألمٍ، وحينما
هَمَّ أن يجيبَ تعالى نشيجُهُ، فشعرَ الآخرُ به مكسوراً، مكدوداً ومهزوماً.
وأخذ يربتُ على كتفهِ، ويبثّه مواساةً، وصبراً.
وابتلعَ منصور بكاءَهُ وقال:
ـ أشعرُ بقلعةٍ كبيرةٍ في داخلي تتهاوى، وتنهدمُ.
كلُّ ذرّةٍ فيَّ ترغبُ بالانطلاقِ والتلاشي، والتبعثرِ، أشعرُ أن قلبي هذا
ـ يشيرُ إليه ـ يدقُّ كأنُّه... كأنَّه ذئبٌ، وأنا أخافه بشدّةٍ، يؤكّدُ لي
في كلِّ دقّةٍ أنّه بين جانحي يُشهرُ أنياباً حَادةً تحاول افتراسي.
أشعرُ بدوّارٍ يلفُّ بي، وأنني متعبٌ، متعبٌ
ومهزومٌ.
ثمَّ زفرَ زفرّةً طويلةً، وتهاوى على الأرضِ بلا
حراكٍ، كتلة هامدة غادرتها الحياة.
جَرّهُ الرجلُ حتى أوصلهُ إلى صخرةٍ كبيرةٍ، وضعه في
ظلِّها ثم تهاوى بجانبهِ.
طير ضعيف
منصور الثّاني
[وترى الشمسَ إذا طلعتْ تُزاورُ عن كهفهم ذاتَ
اليمينِ، وإذا غربتْ تقرضهم ذات الشمالِ...صدقَ اللهُ العظيم].
تحرّكَ منصورٌ من غيبوبتهِ، فتحَ عينيهِ، امتدادٌ
واسعٌ، ورمالٌ تُغطي كلَّ شيءٍ.
ريحٌ باردةٌ تعصفُ،وذرّاتٌ رمليةٌ تراقصُ الريحَ من
حولهِ.
ونهارٌ يولدُ بهدوءٍ ووقارٍ من رحمِ الليلِ.
قفل المهرُ راجعاً لينامً بقربهما، وحينما أشرقتْ
الشمسُ لاحقَ خيوطها بفرحٍ.
نظرَ منصورٌ في وجهِ الرجل التعبِ، فرآهُ مُغبّراً.
مَدَّ يده ومَسَحَ عنه حُبيبات الرمل،تحرّكَ الرجلُ، وفركَ عينيهِ وقالَ
متثائباً:
ـ كم لبثنا؟
أجابه منصور:
ـ لبثنا يوماً أو بعضَ يومٍ.
ـ من أين نبدأ؟
رَدَّ منصورٌ مُتنهّداً، وقد بدا مستريحاً،هادئاً:
ـ لكلِّ شيءٍ بداية، سأبدأُ مُذْ نظرتُ في المرآةِ
ذاتَ مرّةٍ ورأيتُ زغباً خفيفاً تحت أنفي، فتحتُ بابَ الغُرفةِ بسرعةٍ
وعشوائيةٍ، وزَففتُ الخبرَ لأَبي، الذي كانَ يرممُ سطحَ المنزلِ بكُتَلِ
الطينِ، اتقاءَ مطرِ الشتاءِ القادمِ.
فَرِحَ وعبّر عن فرحهِ بابتسامةٍ ما أَثنتهُ عن
متابعةِ عمله، وَهَزَّ رأسه قائلاً:
ـ لقد صرتَ رجلاً وآنَ الأوانُ.
لم أفهم أوانَ ماذا قد آن!! في هذه اللحظة تركتْ أمي
"طشتَ" الغسيلِ، ووضعتْ يدها فوق فمها، وزغردتْ بعفويةٍ وفرحٍ.
بعدَ عِدّةِ مساءاتٍ خريفيةٍ أَدخلوني غرفةً
طينيّةً.
كانت مستودعاً لجذوعِ الأشجارِ اليابسةِ نحتفظُ بها
لتكونَ طعاماً لموقدنا المُزمجرِ في الشتاءاتِ.
كما كانت مخبأً لأكياسِ "البرغل والكشكِ"، كانت
واطئةَ السقفِ صغيرةَ المساحةِ، نظفتها أمي، وألقتْ في وسطها فراشاً
مُزَهّرَاً نام عليهِ معظمُ ضيوفنا الذين يضطرون للمبيتِ.
ولجتُ الغرفةَ، والدهشةُ تفترسني، وزغاريدٌ ترافقني
وحبات أَرزٍّ تُنْتَثرُ فوقَ رأسي.
عَلى طرفِ الفراشِ المزهّرِ قرفصتْ فتاةٌ صغيرةٌ لا
تبلغُ الثانية عشرة. بجديلتيها الحمراوين، وبثوبها الطويلِ ذي الأَكمامِ
العريضةِ.
كانتْ ترتجفُ برداً وخوفاً، وكنتُ أَرتجفُ حيرةً
ودهشةً وأُغلقَ البابُ على كلينا، فَسَرَى الخوفُ إليَّ.
صمتنا طويلاً، أَحببتُ أن تقول شيئاً، لكنَّها ما
نَبستْ ولا نظرتْ إليَّ، فقلتُ بعدَ لأَيٍ بصوتٍ مُترجرجٍ:
ـ بإمكانك أن تنامي.
ثمّ أخرجتُ كتابَ التاريخِ، وبدأتُ أُحضِّرُ للفحصِ،
فقد كنتُ في نهايةِ المرحلةِ الإعداديةِ.
في الصباحِ استيقظتُ،وتهيّأتُ للخروجِ لتقديمِ تلك
المادةِ، وإذ بأبي يُناديني، ويقذفني بسؤالين اثنين:
ـ إلى أين، وهل؟
أَجبتُ عليهما بصدقٍ، وبوغِتُّ بلطمةٍ على وجهي،
وأَخذَ مني الكتابَ وقال بخشونةٍ:
ـ عُدْ إلىغرفتكِ يا كلب، بناتُ النّاسِ لَسنَ
لعبة!..
وعدتُ كجروٍ مُحْبَطٍ. أَجرُّ خَطوي بانكسارٍ،
وأتساءلُ بدهشةٍ ماذا فعلتُ لبناتِ النّاسِ؟!..
بعدئذٍ، دخلتُ بامرأتي الصغيرةِ، وشعرتُ بوهْجِ ذلك
الصباحِ، وأسكرني البقاءُ معها، واستمتعتُ بالاختباءِ في غُرفتي أيّاماً.
ومّرَّ أسبوعٌ، والطعامُ يأتيني على طبقٍ مغطّى
بقطعةِ قُماشٍ تطرقُ أمي البابَ بعدَ أن تضعهُ أرضاً وتذهبُ.
بعدّ دقائقَ أفتحُ البابَ، وأتناولُ الطبقَ. أكشفُ
غطاءَه.
فألفي طيب الطعام. أتناول وصغيرتي ما نشتهي، ونسيتُ
الفحص وأحلامي و.. و..
ومضتْ أيامٌ وأنا على هذه الحال.
في صباح أحد الأيام، هزني نداء أبي، لبّيت النداء،
وقفت قبالته مبتسماً، وفي داخلي نهر رضا يختلجني شعور مليء بالمسرة فقد
عملتُ بنصيحة أبي، أو بالأحرى بأوامره، وانتظرتُ ليبدأ كلامه، وأحصد ثناء
وتقديراً.
فقال وهو مطرق الرأس:
-خُذْ عروسك، وارحل يا منصور.
تلقّفتُ الأمر بصعوبة، أذهلني قوله، تطلعت إلى وجهه.
كانت قسماته صارمة، جافة. حرتُ ماذا أفعل أو أقول.
تجمّدتُ وشعرت بنفسي أختنق وأتلاشى.
تلوكني الحيرة وتستبيح قتلي وإتلافي. وجرجرتُ نفسي
نحو الباب الخارجي تتبعني طفلة بيدها ((بقجة)) ويمّمتُ شطر المدينة وجهي.
استقبلتني المدينة. غولٌ تهتُ في فمه، واحتضنتني
عائلة مسنة تفتقر لوجود آخرين حولها.
عائلة قامت على تربيتي أنا وزوجتي، إلى أن نلتُ
شهادتي الثانوية، وعملت بإحدى الشركات.
سأل الرجل:
-هل كان الذي طردك وأنت مقصوص الجناح أباك حقاً؟!
أجاب منصور:
-أجل أبي لسببين أولهما: أنني لا أشك بأمي، ثانيهما:
أن أبي فعل ذلك ليشتد عودي، وأعتمد على نفسي، فحينما لُذْتُ بغرفتي أياماً
لا أسأل عن أحد، ولا أمدُّ رأسي حتى من الباب، إذ طاب لي الكسل أيقن أبي
أنني فاشلٌ ولا ريب.
فقد نعمتُ بدفءِ الفراش، لذا فعل كما تفعل العصفورة
الأم إذ تدفع بصغيرها من العُشِّ إلى الأرض بقوةٍ وهو ضعيف الجناحين لا
يقوى على فردهما ليتعلَّم ويتقن الطيران.
لوى الرجل فمه جانباً، وقال:
-هكذا إذاً فسّرتَ الأمر؟!
أجاب منصور:
-هكذا فضّلتُ أن أُفسّره.
منصور الثالث
"لعبة الكراسي"
في قاعة الاجتماعات، تحلّق الموظفون حول المدير، وهو
بشكله الطاووسي قد ملأ الكرسيَّ بقعْدته، وفرش ريشه، وزها بألوانه المتعددة
شاغلاً رأس الطاولة الكبيرة، فارضاً هيبة ووقاراً مصطنعين.
كنتُ قبالته تماماً. وجهي يقابل وجهه، وعيناه تنظران
إليَّ كل حين. وتلهبان نار حرب البسوس التي بيننا.
تلك الحرب التي لم يهدأ أوارها أبداً. حربٌ اندلع
سعيرها من أيام الطفولة. وقفنا ندّين. كلٌّ منا يمدّها حطباً ووقوداً،
وينظر مِنْ بعيدٍ إليها وهي تزحف إلى الآخر، ويمنّي النفس في إحراقه
وتدميره، والقضاء عليه.
نظراته الخبيثة تجوس المكان لتحطَّ عليّ. رحت أشاغل
نفسي بكتابة وهمية لا تعني شيئاً، سخافات على ورقٍ تناثر أمامي.
كنت بارد الحركات، ثقيلها، أقبع في مؤخرة الطاولة،
يسكنني الخوف، ويجترّني القلق.
أنظر إليه حينما يتحدَّث، وأحياناً أرشق ابتسامة على
فمي فيظنّ أنني أسخر من كلامه، ويروح ليلغّزَ جمله التي باتت مكشوفة لي
أفهم منها ما يرمي إليه.
وحينما تلدغني عباراته أعاود النظر إلى الورق، لكنه
وبخبثه المعهود كان يجبرني على النظر إليه من جرّاء خبطة لقبضة يده على
الطاولة بشكل مفاجئ، أو طرقه بسلسلة المفاتيح.
كان الموظفون كلُّهم معه، مع حركاته، ونأماته،
وإشاراته.
يضعون بهزّةٍ من رؤوسهم النقطة، والفاصلة، وإشارتي
التعجب والاستفهام يضعونهما بأعينهم على سطور خطبته أثناء استماعهم إليه.
وشربنا الشاي، وتلونا قراراتٍ، وذيلناها بتواقيعنا،
وأكلنا ((الكاتو)) ونظرة حضرة المدير تطوفُ فوق الجميع لتحطَّ رحالها عليَّ
مراقباً كل نأمة أقوم بها.
وكعادتي أكون حذراً ويقظاً في مثل هذه الاجتماعات
التي تضمُّ معظم الموظفين، ورؤساء الدوائر
تجنباً للإحراج.
أما إذا كان الاجتماع يقتصر على كلينا، فالوضع يختلف
إذ ألغي من مفهومي أنّه المدير، وأُجردّه من منصبه، وأعود به إلى ساحات
القرية طفلاً أمام طفل.
فإذا نظر أنظر بحدةٍ، وإن سخر أرد له السخرية بمثلها
في موضعٍ آخر، وأطعّم كلامي بمفرداتٍ تُنبئ عن كُرهي له، وحقدي، وخُبثي
فأنا أعترف أن الحرب بيننا كلانا مسؤول عنها.
أما الآن في اجتماعنا هذا، فأنا حذر للغاية لأن
المؤمن لا يلدغ من جحره مرتين هذه حكمتي المفضلة، وقد كتبتها بخطٍّ كبيرٍ
على رقعة سوداء ذات إطار مذهب، وعلقتها في مكتبي وكان السيد المدير يمتعض
كثيراً كلما مرّ بمكتبي، وقرأ العبارة فيتمتم جاحظاً عينيه في وجهي:
((أنت مؤمنٌ أنت؟! ومن يلدغك يا.. منصور بيك؟)).
حينئذ ألتزم الصمت تحسباً من انكشاف أمر العداوة
التي بيننا أمام الآخرين.
انتهى الاجتماع، ووقفنا دقيقة صمتٍ على روح من حكمنا
عليه بالاستغناء. يكللنا الأسى لما حصل له.
بعدئذ خرجنا جميعاً إلى البهو الفسيح نضحك ونراقب
بعضنا خلسة.
كل واحد يحفرُ للآخر إن لم يكن قبراً يكتفي بحفرةٍ
تطمّه لحين. وطوبى لمن يمسك على زميله ممسكاً، فتقع روحه في يده يضغط عليها
كلما أراد وحينما يحلو له.
أثناء ذلك طرح علينا حضرة المدير أن نلهو قليلاً
فأبدى الجميع الموافقة لهذه الفكرة التي ستبعث الراحة في نفوسنا بعد عناءِ
الاجتماع المبرم.
واقترح أن نلعب لعبةً قديمةً قائلاً:
-يا جماعة، يضجُّ في صدري حنينٌ لتلك اللعبة، لعبة
الكراسي كنا نلعبها ونحن صغارٌ، ورمقني بنظرةٍ حاقدةٍ، عميقةٍ عمق السنوات
الطويلة التي تفصلنا عن مدارج الطفولة.
نظرة قاسية من زاوية عينه، وراح يتضاحك ثم أكمل:
-لعبةٌ تذكرني بأترابٍ لي لعبوها معي، ولم يحصدوا
سوى الفشل والهزيمة.
أعجبتني الفكرة فهي فرصة أتتني على طبق من ذهب. ضجَّ
الانتقام في صدري، وكبر حتى غطى البهو والموظفين، والمديرية بأسرها وراح
داخلي المتألم المهزوم يصرخ:
((سأهزمُك، وأكسر أنفك أمام موظفيك، سأجعلك تحصدُ
فشلاً ذريعاً، ومتى؟ الآن في لحظةٍ أنت اخترتها.))
خطوتُ خطوتين
ورفعتُ صوتي بثقة ليسمعني الجميعُ:
-لعبة الكراسي!! حقاً إنها لعبة، والجلوس على الكرسي
مجرّد لعبة. تصوّروا ومضة بسيطة وهوب على مَنْ سلف. إيه.. لا تدوم لأحدٍ،
الكرسي دوّارٌ، دوّار ها.. ها.
وارتفع ضحكي عالياً.
كنت أحس بحلقي طعم المرارة، والجبن رغم تظاهري
بالقوة.
قوافل قلقٍ، واضطراب تقترب من مسافاتي رغم خطوتي
الثابتة.
ديمة دمعٍ تسكن عينيّ، تنتظر نفحة هواء لتحرّكها.
لم يضحك أحد غيري. أنا فقط أضحك من شدة الألم،
والخوف والانتقام المعشش في داخلي.
حدجني المدير بنظرة قاسيةٍ، ولسان حاله يقول:
((هوب على مَنْ سلف!! وكأنك تعنيني بقولك هذا،
سأريك، الله لا يخلّيني إن جعلتك الخلَف)).
ثم تنحنح وقال:
-هيا يا شباب.
جمعنا كراسي المديرية، على عددنا بل نقصتْ واحداً،
وجعلناها على شكلٍ دائري تتقابل ظهورها، وتحلقنا حولها، ونادى المدير على
المستخدم ليضغط على زرِّ الجرس.
بقرارٍ سريعٍ من حضرة المدير أصبح هذا ((الصعلوك))
الآمر، النّاهي. يتحكّم بتصرفاتنا، ويُمسك بأقدارنا.
يضغط متى يشاء، ويوقف الرنين متى شاء.
وعلينا أن نتراكض للجلوس على الكرسي، ومن يكون له
السبق يفوز.
أما الأخير الذي يبقى بلا كرسيٍّ، فهو الخاسر يخرج
من اللعبة ووجهه كظيم.
وهكذا دواليك...
يخرج واحدٌ، فينقص عدد الكراسي كرسياً واحداً.
وبدأنا.
لحظاتٌ حاسمة، متوترة، معبأة اندفاعاً وأمنياتٍ تزخم
بالإصرار على اعتلاء الكرسي.
لحظاتٌ، فيها تبيض وجوهٌ، وتسوَدّ وجوه، وكأننا في
معركةٍ حقيقيّةٍ حيث كرٌّ وفرٌّ، نصرٌ وهزيمةٌ، وتراجعَ أكثرهم وبقيتُ
رابحاً حتى الدور الأخير.
ويا لسخرية القدر بقي المدير نداً لي. قلبه امتلأ
حقداً، وعدوانية وامتلأتُ إصراراً وتصميماً لأثبت لذاتي أنني لست مهزوماً
في كل الأوقات.
وما عليّ الآن سوى انتهاز فرصةٍ قدِمتْ إليَّ
متبخترة، جاهزةً.
الجرس يرنُّ يؤجج الحماسة في داخلي، والرغبة في
النصر.
نظرتُ إليه، رأيت أوداجه قد انتفختْ، والشرر يزأر
شرساً من عينيه.
ركضتُ حول الكرسي اليتيم في وسط الغرفة، بعزيمةٍ
قويّةٍ وركض معي انتقامي يحثّني على النصر. وركض المدير باندفاع.
كلّ منا يسبقه إلى الكرسي التحدي والرغبة في
الانتقام.
التفاتة بسيطة مني، وأكون قاعداً على الكرسي مُشرئب
الرأس. أنظر بتعالٍ إليه. أكبر وأكبر بينما يتقزّم هو ويصغرُ.
ثانية واحدة تفصل بين النصر والهزيمة. حسبتها قد
امتدّت وتطاولتْ، فضغطتُ على نفسي أزيدها تحمّلاً وصبراً، وصوت خفيّ في
داخلي يؤكّدُ لي أنني سأنتصر وأمسك بيدي صولجاناً وآمر، وأنهي، وأُلقي
بقرارٍ لا يقضُّ عليَّ مضجعي كلَّ ليلةٍ، وربما أتحرر من شبكة العنكبوت
التي أحاكها لي، وإنْ كان تحرري هذا يجيءُ نتيجة لعبةٍ سخيفةٍ ذكّرنا بها
هذا الحاقد عليّ من أيّام الدراسة، أيام كنتُ أتفوّق عليه بكل شيءٍ.
كنت أحظى باهتمامٍ كبيرٍ من قِبَل المعلّم. يخوّلني
هذا الاهتمام لأن أكون خلفاً له أثناء غيابه حتى في ضرب التلاميذ.
كان المعلّم يقول دوماً: ((منصور له الصلاحية في كل
شيء)).
وحينما تركتُ المدرسة في المرحلة الإعدادية،
واختفيتُ من القرية فوجئ بي كموظفٍ في هذه الشركة، فتجدّدت العداوة وراحتْ
تتعرّش على حياتينا، وكبر الحقدُ بدل أن يتلاشى مع الأيام، راح يتشعّب
ويتجذّر.
كأن نواة صغيرة أُلقيت في تربة طفولتنا؛ نبتتْ،
وصارتْ شجرةً نستظلها، ونُحيك بفيئها الضغائن بدل أن نقطعها ونحرقها
لعقمها.
وها نحنُ الآن نجني ثماراً طعمها مرٌّ، ومع ذلك أصمم
على كسر أنفه، والفوز عليه. وحدسي يعود لأسبابٍ كثيرةٍ أهمها رشاقتي،
وسرعتي في الركض قياساً ببدانته، وثقل كرشه.
وحبستْ الأنفاس، وخيّم صمتٌ رهيبٌ في القاعة.
الأنظار كلها تشجّع سيادة المدير، وتدعو لحضرته
بالفوز العظيم.
لم أرَ الوجوه، وهي تنطق بذلك لأنني كرّستُ جلَّ
حواسي للحظة وقوف الرنين، إنما لمحتُ ذلك خطفاً.
وفجأةً توقف الرنين.
وأسرعتُ بالجلوس، وأسرع هو، ووجدتني بين لحظةٍ وأخرى
أقتعد الأرض، بينما سيادته تنصّب على الكرسي، وكرشه يرتفعُ وينخفض بسرعة من
شدّة التعب.
تربّعت على الأرض، ورحتُ أتضاحك، وأنا ألهثُ، وأحسست
بشيءٍ حار يلامس خدي.
لم يعرف داخلي بكاء قدر اللحظة. تمزّقتْ نياط قبي
بكاء وخوفاً، وقلقاً. واعتراني خجلٌ.
عزّيت نفسي بأنها مجرد لعبة، وكلها ضحك بضحك. لكن
سؤالاً كبيراً آلمني راح يدور في رأسي، ويحتاج لإجابة شافيةٍ: ((كيف ربحَ
هذا الدلفين؟ كيف استطاع الظفر؟))
شغلتُ نفسي عن هذا بهراء آخر أمام الحشد المتعاطف
معه وقلتُ:
-يا سلام على لعب أيام زمان.
بعد أن قلتُ هذا خطفتُ نظرةً إلى وجهه، فرأيت الشرر
يتطاير من عينيه، ويكاد يتمزّق غيظاً وحنقاً.
مشى إليّ.
اقتربتْ خطاه منّي، وأنا ما زلت قاعداً على الأرض،
والجميع واقفون.
أرسلتُ ابتساماتٍ عجلى لأموّه عني ما أشعر به من
حرجٍ واضطرابٍ.
اقترب أكثر، وركلني بقدمه. أمسكتُ بها، أوقفتها،
فتحتُ عينيّ على اتساعِهما سألته:
-ما بك يا سيادة المدير غاضب وقد ربحت؟!
-عليك بمبارزتي.
-مبارزة؟ لِمَ؟
-...
ساعدني على الوقوف شدّه لي من قبّة قميصي بقوّة،
وقال بصوتٍ مزمجرٍ أجشٍّ:
-كيف تجرؤ على الصمود أمامي كل هذه المدّة؟
ورمى إليّ بسيفٍ، واستلَّ آخر وقال:
-هيّا.
تطلعتُ بدهشةٍ، وانبهارٍ لبريق سيفه الذي بدا لامعاً
في كفِّهِ بينما أخافني لون سيفي الخشبيِّ النخر ذي اللون الأجرب.
أعْمقُ من الموت
منصور الرّابع
بعد سنين، نضجتْ زوجتي على نارٍ هادئةٍ، وأصبحت
امرأة بمعنى الكلمة، وقد استطال قدُّها، وتدوّر نهدها، وبات لصوتها رنة
ساحرة، ولردفيها رجّة.
وصارت تقلّم أظافرها، وتطليها بألوان زاهية.
كانت تحبني لدرجةٍ، وتبالغ جداً في إظهار حبّها لي،
مما أرَّقني هذا الأمر، وورّث في داخلي عقدة شعور بالذنب كلما رأيتها.
وكنت أحاسب نفسي، وأبصق في سرّي عليها، وأقتصّ منها
بهذه العبارات:
((إنك مقصّرٌ يا منصور، ما عليك أن تفعل لأجلها؟
لأجل هذا الحبِّ الكبير. ألا يكفي أنها لم تُرزق منك بطفلٍ، والمرأة من فمٍ
ساكت؟!))
وتأكّد لي أنه لو ساحَ دمي من أجلها لم أفِها حقّها،
فقد كانت تعشقني بولهٍ، وتصبر على السراء والضراء معي.
طفلةٌ صغيرةٌ دخلتْ غرفتي، وتاهت مع جديلتيها في
أزقّة العاصمة تبكي حينما تجوع، وتنام على فخذي حينما تنعس، أما الآن
فطفلتي نضجتْ وصارتْ امرأة.
ذات صباح دقّت الساعة السابعة، ولم أستيقظ كعادتي
للذهاب إلى العمل، وإنما تراخيت، وأسبلت يديّ، ولويتُ رأسي وادّعيت الموت،
أجل ادّعيت الموت.
لا أعرف!! أحببت ممازحتها في ذلك الصباح، وإن كان في
مزاحي هذا الكثير من الغلاظة، وثقل الدم.
فبمجرد ادعائي الموت يسبب لحبيبتي جلطة قد تقضي
عليها.
أفاقت هي، وراحت تهزّني برفقٍ وتهمس برقة:
-منصور، هيّا استيقظ يا عزيزي.
لم أستجب لندائها، وإنّما ازددتُ تراخياً، وموتاً.
لكزتني بشكلٍ قويٍّ، فقد اعتقدتْ بأنّي غارقٌ في
حلمٍ عميقٍ.
ولكن هيهات أن أستجيب لضربات كوعها، ولطمات كفّها
على خدّي، وأخذتْ تُحركني أكثر، وتركتُ جسدي ينسابُ كيفما أرادتْ.
مدّت أصابعها.وفتحت عيني اليُسرى، فرأتها غائرةً،
وحمدتُ الله أنّها لم تضع رأسها على صدري لتسمع دقّات قلبي، أو تضغط على
زندي لتتعرّف على نبضي.
انتابها بعض جمودٍ.
وارتبكتْ قليلاً، وقفتْ متردّدة تُسائِل نفسها بما
تفعل.
أخذتْ تفكر.
عادتْ وحرَّكتني، وكنتُ كخرقةٍ بالية، وعجبتُ كيف لم
تشد شعرها، وتخمش وجهها بأظافرها، وتصرخ ملء فمها وتقول ((ولي))
تساءلتُ:
((لِمَ لمْ تُجلط؟!إيه لِمَ تأخرّتْ في الصراخ؟!.))
دارت في أرضِ الغرفة. تبِعَتْها نظراتي، وهي تذهبُ
وتجيءُ.
ثم رأيتها تبتسم. اللعينة هل كشفت أمر موتي المزيّف؟
هل تدّعي القلق؟ أو فضّلت الاستمرار بالتمثيلية حتى النهاية؟ تباً لها إنها
تُجيد التمثيل أكثر مني.
تساءلتُ كثيراً، وانتظرتُ ما ستفعله، وخمّنتُ بأن
صمتها هذا سيجيء بعاصفةٍ هوجاء إما من البكاء أو الضحك.
بعد قليل.
خرجتْ من الغرفة مسرعةً، رفعتُ رأسي ألاحقُ خروجها.
قاطعه الرجل:
-إي.. ماذا فعلتْ؟
احتقن وجه منصور، وكزَّ على شفته وقال:
-راحتْ تطرقُ باب جارنا بعنفٍ، وتزفُّ له خبر موتي.
قالت له: ((جابر.. جابر. افتحْ لقد مات منصور، أقسمُ
أنه مات.))
قفز الرجل أمام منصور وصرخ:
-العمى، أحقاً ما تقول؟
وكيف ألغيتَ فكرة موتك؟!
قال منصور بانكسارٍ:
-أيقظني جرح كان أعمق من الموت.
-وراح يضربُ بقبضته على صدري- أتفهم، أيقظني جرحٌ
أعمق من الموت.
صرخة منصور الخامس
كانت عتمةٌ قاهرة، وبرد الخارج يُفتّت العظام.
كنتُ وحيداً، جائعاً، منطفئاً. أصارع رطوبة نفذت إلى
مسامي وحيداً تداهمني هواجسٌ وغربة.
أفتقد امرأة خلا فراشي من دفئها، فرحتُ أضع المخدّة
بجانبي أمطرها قبلاتٍ وشوقاً.
امرأة تُدخل أناملها في شَعري، فتشيع فيّ حرارة،
وحناناً، وطمأنينة.
وتوهّمت أنها بقربي فشرعتُ أسحب اللحاف، وأُغطي
ساقيها، تكوّرت على نفسي.
وكنت أرتجف بشدة. وفجأة وجدتُني أشتعل ناراً وأرتجف
من شدة البرد.
وبدت عظامي يصطكُّ بعضها ببعضٍ، وانفلتَ لساني من
عقاله. كفرس، وانطلق يهلوس محموماً، ويحدّث أخبار الأولين وفعائل الآخرين.
أخبارٌ عتيقةٌ، مهترئةٌ، وأخرى كانت مكبوتة بين
الضلوع.
لكنَّ لساني الحقير هذا نبش الرُّفات، وذراها في وجه
الريح. والريح قاسيةٌ لا ترحم.
انفجرتُ من تلقاء نفسي كبركانٍ احتقن داخل الأرض
طويلاً ثم انعتق من قيده.
حمى باغتتني، وساحتْ في جسدي الواهن، وأطلقت قريحتي
بعدها كلاماً وكلاماً وثرثراتٍ عجفاء خرجتْ من فمي.
بعدئذٍ خفّت الرجفة في أوصالي، فغفوتُ كطفلٍ.
وعند الفجر، تململتُ في فراشي المبلل. نظرتُ إلى سقف
الغرفة رأيتهم. أشباحاً تقف حولي، وفوقي، مثل أعمدة الكهرباء. طوال، غلاظ
الوجوه، تسلّلوا إليَّ خفية.
تلمستُ جبهتي، وعاودت النوم لا شكَّ أن ذلك كان
نتيجة الحمى التي قاسيتها قبل سويعاتٍ لكنَّ أحدهم شد اللحاف عني وأبعده،
فجلست في سريري، وألفيتُ نفسي محاطاً بركامٍ من الوحوش الكاسرة.
ذُعرتُ، وسألتُ على الفور:
-مَـ.. من، من أنتم؟ كيف دخلتم؟!
-...
-ألا تراعون حرمة البيوت؟
لم يجبْ أحدٌ، وإنّما وقفوا مكتوفي الأيدي، وأنا في
الوسط قزمٌ، منهكٌ ومرتجفٌ وضائعٌ.
أنظر إلى زنودهم المنتفخة، وعضلاتهم البارزة،
وعيونهم الشرسة.
كرّرت سؤالي:
-من أنتم؟ ما تبغون منّي؟.
تبرّع أحدهم وقال:
-((شيءٌ بسيطٌ للغاية يقع في رأسك. ويشكّل خطراً على
المجتمع.))
هممتُ بالوقوف. لكنّ يد أحدهم ضغطتْ على كتفي،
فأرجعتني حيث كنتُ حجماً ومكاناً، وسألتهم مُستجدياً، مذلولاً:
-ما هو أنا فداءٌ للمجتمع؟!.
قال رجلٌ ببرودٍ:
-ذاكرتك.
-ماذا؟
-ذاكرتك، نشطة للغاية، خاصةً هذه الليلة!!
يا رجل كم تحفظ من التوافه في هذا الرأس-
-وراح ينقرُ بإصبعه عليه-
قفزتُ من مكاني فزعاً وقلتُ:
-هل كان لجدراني آذانٌ؟! يا جماعة أنا رجلٌ محمومٌ،
مريضٌ أتحاسبون رجلاً محموماً؟!
وجاءتني لطمةٌ على فمي، أخرستني ثم انتُزعتُ من
فراشي الذي ازداد البللُ فيه، وأنا أصرخ بقهرٍ:
-((ما حسبتُ أنَّ لجدراني آذاناً!!))
منصور السّادس
"أكونُ أو لا أكون"
الشمس تربّعت في صدر السماء، ومنصور ما يزال يلقي ما
بداخله من قصصٍ وآلامٍ وجراح.
والرجل أمامه يفيضُ إصغاءً، ودهشةً، واستيعاباً.
بينما الريح حولهما تعوي بلا رحمة، والرمال تلسع
جلدهما وخزاً وحرارةً.
كطيرين متعبين التجأا إلى الظلّ من الهجير، مثقلين
ومكدودين.
رانت فترة صمتٍ، وغاص كلٌّ منهما فيها كما يشاء.
-أكون أولا أكون.
قال منصور مُبدّداً الصمت، ويده اليمنى كانتْ تلعب
بكومة رملٍ حارٍّ.
-جملة شكسبير الشهيرة.
قال الرجل.
ردّ منصور، وابتسامة ساخرة صفراء على فمه:
-جملة نطقت بها فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
بانَ الفضولُ على وجه الرجل، فزحف حتى اقترب من
منصور قائلاً:
-هات من البداية.
نفخَ منصور بعمق وقال:
-أكونُ محموماً كعادتي حينما يحاصرني الضيق،
ويقطّعني التشظّي.
يا رجل لا أرتعد حرارةً إلاّ حينما تمرّ بي لحظات
الضيق، والقلق والحيرة، وتنفصم شخصيتي، ويركبني الجنون فأشعر بدماغي يسبح
في جمجمتي كسمكةٍ لعينةٍ لا تعرف السكون.
فأُحسُّ بأني لست أنا. لذا تتآلب سكاكين الجزّارين
على ذبحي. ذلك اليوم..
كانت غرفتي باردةً، متعفنةً، وسريري يصرُّ صدأً
ووحدةً.
كلّ شيءٍ حولي باردٌ وساكنٌ مرّ به الفناء إلاّ فمي
المرتجف يخرج منه زبدٌ، وجملةٌ هي تلك.
قلتها بلا شعورٍ، فقد كان داخلي يضطرم كجذوة نارٍ.
رأسي يغلي كمرجلٍ، وعيناي حمراوان مستعرتان.
وبخارٌ ساخنٌ يخرج من أنفي.
"أكون أولا أكون" دارت هذه العبارة في رأسي تلاحق
السمكة اللعينة، واختلطت مشاعري وآرائي، وأفكاري ببعضها وصمّمت في تلك
اللحظة أن أجد لنفسي مكاناً.
كنت حديث العهد شعوراً بالحريّة التي ذقتها قبل
أياّمٍ فقط. إذ خرجت من سجني الأخير، وألقيت في رحم بيتي البارد أفكّر
وأفكّر كيف أصنع حياتي من جديد، وأبدأ من جديد فأنا كقطٍّ بسبع أرواحٍ
فإمّا أن أكون هذه المرّة كما أريد وأستحق أولا. لا داعي للحياة.
ذلك اليوم.
كان ليله مُرعباً، ناشراً عباءته في كلّ مكان.
وكنت ألازم سريري الحديديّ المنفرد الشبيه
بأسرّة السجون والمستشفيات. وتُلازمني الحمى، والجوع
والحيرة.
وإذ بقدمٍ سوداء كبيرة تدفع باب منزلي بقوّةٍ.
ما سمعت صوتاً قط وإنّما كان جسدي مستمرّاً
بالارتجاف، وفمي يُهلوسُ بتلك الجملة اللعينة.
وتكررتْ القصّةُ نفسها، قصة منصور الخامس، الغريق
الوحيد في بحر أسود هائج.
تلتفُّ حولي هياكل داكنة، مرعبة وموحشة توزّعت حول
السرير وبتّ كبقعةٍ صغيرة تافهةٍ في الوسط تحبو للنجاة.
لكزني أحدهم بإصبعه. الإصبع كان كمسلّةٍ اخترقت
خاصرتي.
أفقت كمجنونٍ ألملمُ نفسي، وأُخرس بيدي فمي المزبدِ.
دَبَّ الرعب في أوصالي فهذا المشهد عشته تماماً،
وشريطه يُعادُ الآنَ.
-ماذا هناك؟
قلتُ بفزعٍ.
حرّكوا أرجلهم كأنّهم يتوعدونني. الوجوه ذاتها
رأيتها فيما مضى.
والعيون المليئة بالشرر، والأوداج المنتفخة
والعصبيّة و.. و.. حاولتُ النهوض لكنّي لم أستطعْ.
سألتهم:
-يا جماعة أنتم مخطئون، قبل أيّامٍ كنتُ في ضيافتكم،
فهل اشتقتم إليّ بهذه السرعة؟!.
لم يُجبني أحدٌ، وإنّما ظلّت العيون الملأى بالغضب
والحقد تحدّق بي قلت مرتجفاً:
-ما الذي عاد بكم؟.
أجابني أقربهم إليَّ:
-ألا تعرف؟.
-وحياة الأنبياء لا أعرف. ذاكرتي!! وتدبّرتُ أمرها،
لن تعيد سيرتها الأولى..
تجاهلوا حيرتي وتشظيّي، وألمي. ولحظت الدماء تفور
وتغلي في عروقهم مما جعل أكثرهم غضباً ينطق:
-اختر ميتتك.
-العمى حانَ وقتُ الموت!!.
قلتُ وأنا أبتلع ريقي بصعوبةٍ وقد شلّني الرعب
والخوف مما سمعت.
ازداد ارتجافي، وحرارتي، ورغا الزبد على فمي وذقني.
وحاولتُ أن أسكّن أيّ عضوٍ في جسدي ليهدأ لم أستطع.
وتدفقت ذاكرتي المكتوفة تفيض وتنبع.
وتذكرتُ على الفور وبشكلٍ قويٍّ ما قرأت يوماً عن
إنسانٍ وضع الموضع ذاته قبل مئات السنين.
وممّا أحزنني، وزاد عليّ غمّاً وقلقاً أنّه مهما
طلعت ونزلتُ، وصلتُ وجلت لا أتجاوز بأقوالي، وأفعالي قدم ذاك.
فما للسهروردي ومكانته، ونظراته الفلسفية ورسائله
وكتبه العديدة وإبداعه، ومالي!!.
فإن عَظُمت فلسفتي وآرائي، فستبقى سطحية، متواضعة
تُقاربُ "طنّش تعش".
تسرّب خيط طمأنينةٍ إلى قلبي، فقد خلتُ أنّهم وقعوا
في خطأ وخلطٍ بيني وبين السهروردي.
فقلت لهم وقد رفعتُ عقيرتي وسلطت قليلاً:
-يا جماعة تعتقدون بأنّني السهروردي، وجئتم من جدران
التاريخ لتلقوا القبض عليّ.
الحقيقة أنكم مخطئون ذاك رجلٌ ذاع صيته وفي الأعالي
رتع، مما جعل نار الغيرة تشتعل في قلوب منافسيه… أمّا أنا.. ها ها…
-ورحتُ أضحك ساخراً من نفسي، وعندما حطّت قبضة أحدهم
في بطني واستقرّت أكملت خنناً:
-أين الثرى من الثريّا!.
جلجل صوت آخر:
-ها.. ماذا قلت؟ أعطيناك مطلق الحريّة لتختار ميتةً،
لا أن تقصّ قصص الآخرين.
أجبتهم:
-ذاك أودته أفكاره، وعلومه، وهديه إلى أن يختار موته
أمّا أنا فكلّ ما أكونه محدوداً ومتقزّماً، ويدفع إلى الشفقة لا إلى
الاختيار.
ما يدفعني للتساؤل بقوّةٍ موتي، بماذا يفيدكم؟!.
أجابوني:
-قلنا لك حينما أخذناكَ للمرّة الأولى.
قلتُ كالملسوع المتألمِ:
-لقد خَرّفت، لم يبقَ منها شيءٌ.
كالحراب امتدّت صوبي الأيدي لتضربني، واتسعت رقعة
الأصوات من حولي، وضاع صوتي فيها:
لطمني أحدهم قائلاً:
-كاذب، والدليل أنّك تتذكر أحداث السّهروردي وحياته
بحذافيرها، فهل هناك دافعٌ لموتك أكثر من ذلك؟.
قلت متألّماً، محشرجاً:
-حتى تكتمل فصول المسرحيّة، أريد مقابلة السلطان على
غرار ما فعل صاحبي. نسقوا لي موعداً معه.
-السلطان في الأستانة، مسافرٌ.
-أنتظر عودته.
-بل تنتظر عندنا.
عصبوا عينيّ، وانطلقوا بي يجرجرونني ككلبٍ بدا
خاوياً، وَهِنَاً. تاركين باب منزلي مفتوحاً للهوام، وصفير الريح تنعق في
جوانبه الوحشة.
قذفت في بئرٍ مظلمةٍ، ضيّقةٍ، وصوت الريح وباب داري
الذي يصطفق لا يفارق مخيلتي.
خواءٌ تركته خلفي. "لو أنّ مريم حيّةٌ! مريم"!!
وتذكرتها زوجتي الثانية، الفقيرة، المسكينة التي تزوجتها بعد أن التقيتها
في أحد شوارع المدينة تعاني هروباً وضياعاً، ويتماً وتمنّي النفس بكوّة
فرجٍ وخلاصٍ تفتح لها وتنتشلها من براثن زوجة أبيها.
احتضنتها وهرعت بها إلى قريتي أضمد جراحها وجراحي.
تحت سقف غرفتي الطينيّة القديمة.
المسكينة موتها كان مأساوياً. طعم فراقها مرٌّ مازال
في حلقي. خسرتها لأنني رفضت الاستماع لنصيحة أبي.
آه، لو كانت حيّة لولولت خلفي، ولربّما رقّ قلب
هؤلاء عليّ فأرجؤوا أمري إلى حين عودة السلطان من الآستانة.
وصمت منصور يغصّ بالدموع. مسح الرجل عينيه وقال:
-على رسلك، أريد أن أسمع حكايتها.
ابتلع منصور جراحه وقال:
-"ذات صباحٍ أخذت الريح تصفرُ وتزعق شرسةً، حاقدةً
قلت في نفسي جاء الشتاء باكراً، وراحتْ نوافذ الغرفة تصطكّ وتضطرب.
قمت من فراشي، وأغلقت درفتي النّافذة.
لكنّ الهواء أبى إلاّ الدخول من الشروخ.
نظرت إلى زوجتي، وهي نائمة كانت تتمسّك بالغطاء
وتتكوّر على نفسها مقاومةً البرد.
لبست ثيابي، وخرجت إلى الحقل –عملي ريثما أعود إلى
المدينة- خارج الدار لمحت جدار بيتي المطلّ على الشّارع كان متشققاً وقد
يفضي إلى سقوطٍ غير متوقع.
شرخٌ كبيرٌ بادٍ للعيان يخترقه. كل يوم أراه. أقف
عنده، أقذفه بنظراتي، وأخطط لترميمه وفي كلّ مرّةٍ أرجئ عملية ترميمه إلى
حين.
أمّا هذا الصباح الذي أخذت الريح، تزأر، وتتلّوى،
وتتحدّى فقد رأيت الوضع بأمّ عيني كان خطيراً. إذ شعرتُ بالأرض تميد من تحت
قدميّ لشدّة الإعصار.
وقفت أمام الشرخ تؤرجحني الريح المجنونة أتساءل إن
وقع ماذا سيحدث لنا؟ ستقتل زوجتي إن كانت في الداخل، وسيمزّق جسدها إن كانت
واقفةً بقربه.
وإن لم تمت فيكسر عظامها، ويجعلها مقعدة وربّما
يفقدها ذاكرتها أو أحد حواسها، ويحطمها فتقع في وجهي طيلة العمر وهذا مالا
أطيقه إضافةً إلى إرهاقي بنفقات علاجها وتمريضها طويلاً. لا.. لا سمح الله
زوجتي كتلة من الأحلام الصغيرة والخرافات والهروب من مآسٍ وويلات.
وسأخسر الغرفة وألجأ مضطرّاً إلى غرفة أبي الأكثر
اهتراءً. بعدت بأفكاري كثيراً، وصممت أذني عن نصيحة أبي إذ قال لي لحظتئذٍ:
"-أما رأيت الشرخ في جدارك يا منصور؟!.
قلت له: سأقوم بإصلاحه.
حدجني بنظرةٍ قاسيةٍ، حازمةٍ:
-لن يفيدك إصلاح الجدار، فالشرخ عميقٌ عليك بنسفه
وهدمه. ابنه من جديد، إطلع بجدارٍ قويٍّ يا ولدي.
ولم يتمّ أبي كلامه حتى دوّى صوت انهيار الغرفة
كلّها فوق زوجتي.
قال الرجل متأثّراً:
-وفقدتها يا صاحبي.
تأوّه منصور بعمق:
-حسبتهم يصغون إليّ، هؤلاء الذين عصبوا عينيّ وما
دريت أنّهم ألقوا بي في الزنزانة، ورحلوا عني منذ زمن.
مددت يدي ونزعت الغطاء عن عينيّ لا أحد غيري في هذه
المساحة القذرة لا أحد حولي، سوى جدران باردة، مظلمة، ومتعفنة وفئران تنتشر
حولي بحريّة.
اخترق البرد عظامي، وحلمت بدفءٍ يسير إليّ. كنت
تعباً، لاهثاً وخائفاً من المجهول.
ومادت بي الأرض وقتها لم أعد أحِسّ بما بي. دورانٌ
وجوعٌ وخواءٌ، وخوفٌ هذا ما كنت أشعر به.
بعد أسابيع، شهورٍ، سنينٍ. لم أعد أعرف وقفت مرتجفاً
أمام السلطان.
فتح الرجل عينيه متسائلاً:
-السلطان!.
ردّ منصور:
-نعم أمام السلطان، وقد نسيت أن أنحني وأقدّم الطاعة
وإنّما سألته على الفور: هل أنت الملك الظاهر.؟.
أجابني:
-بدأت كلامك قبل سلامك ما الذي أتاك على ذكره؟.
ارتعدتْ أوصالي وقلتُ في نفسي: "أتاك الموتُ يا تارك
الصلاة… على الحالتين أنّا ميّتٌ فلِمَ لا أقول ما عندي؟.
نهرني أحدهم قائلاً:
-يسألك السلطان فلم لا تجيب.
-الملك الظاهر تعاطف كثيراً مع السهروردي، وأتوسم
فيك خيراً وتبرئةً لي. آه.. يا سيدي. الملك الظاهر حاول تبرئة صاحبي لكن
–ورحتُ أنظر إلى هؤلاء القساة- خلصاؤه أدانوه وأفلحوا في طمس الحقّ
والنور….
في هذه الأثناء هجم عليّ أحدهم، وأراد طعني ولكنّ
السلطان أوقفه بقولـه: لا.. انتظر لم يختر ميتته. لا تستعجل. له الحق في
الدفاع عن نفسه.
وألفيت رحمةً ورأفةً على وجه ذلك السلطان، فها هو
التاريخ يعيد نفسه، وتجري أحداثه كما جرت سابقاً وقلت مستجدياً رحمةً
وعطفاً:
-يا مولاي السلطان، أنا رجلٌ عاديٌّ لست بمكانةٍ
رفيعةٍ حتى يخشى مني، لست خطراً ولا منافساً.
جُلّ غايتي العيش مستوراً لكنّ ذاكرتي نشطتْ –قاتلها
الله- لحمّى دهمتني، ولبستني وهذا أمرٌ خارجٌ عن إرادتي.
ولم أنتصر على أحد، لأزال من الوجود كلّ ما هنالك أن
أبويّ أسمياني منصوراً تيمنّاً بنصرٍ قد أُرضي به طموحهما وحلمهما والحقّ
يقال أنني مهزومٌ ومشبعٌ بالانكسارات والانهزامات، والإحباطات، فما الذي
يخيف الآخرين مني؟!.
إنّ كلّ خطوة أقوم بها نتيجتها الهزيمة.
ضحك بعض من في القاعة بخبثٍ، واختلطتْ الأصواتُ
وانتشر لغطٌ.
قال رجلٌ كان يقف جانب كرسي السلطان بعد أن صفّق:
-ويدّعي بعدم ملكيتك لحجّةٍ تدافع بها عن نفسك. لم
نرَ ألحن من هذه الحجّة، ستكون دافعاً آخر لقتلك.
دار السلطان نظره بينه وبيني ثم ابتسم ابتسامةً
خفيفةً وقال:
-إن استحقّ القتل سيقتل.
قال حاقدٌ:
-لو لم يكن هناك شيءٌ خطيرٌ يستحقّ قتله لما انتهج
سياسة طنّش، فتطنيشه معناه أنّه يخفي شيئاً.
صرخ آخر:
-هناك شيءٌ باطني خطير تتستّر عليه بالتطنيش
لتتجاوزنا وتستطيع العيش. وما نريده الآن معرفة ما تبطن.
وامتدتْ أصابعهم، طويلة، حادّة كحرابٍ مسنونةٍ.
اقتربت مني تحاول فقء عيني.
لاحظت القسوة في وجوههم الغليظة، البشعة، والتي تنبئ
عن نصرٍ قريبٍ قد يحرزونه، بينما ارتسمت الهزيمة على وجهي.
قلتُ لنفسي: "لقد أُُدنت، وهاهم يبيحون قتلي.
هزّ السلطان رأسه، وأغمض بهدوءٍ عينيه كأنه سلّم
بالأمر فصرخ الوزير بجانبه: أيّها السيّاف.
ارتعدت، وغامت الأشياء من حولي، وجفّ حلقي، وخارت
قواي ووجدتني تهرب الحياة من جسدي، وتنسلّ من بين أعضائي بهدوءٍ في هذه
الأثناء رفع السلطان يده مشيراً أن كفّوا عن الكلام والثرثرة، وقال:
-دعوه يختار ميتته.
سألوني مراراً، لكنّي لم أقوَ على الردّ أو التكلّم.
مما اضطر الوزير لتهديدي بهذه العبارة:
-"إن لم تخترها سيختار السيّاف رقبتك.
جمعت أشلائي بصعوبةٍ، ونطقت:
-لتكن نفس ميتة صاحبي، السهروردي.
فأجاب:
-إذاً حبسٌ مظلمٌ، وامتناعٌ عن الأكل والشرب إلى أن
يجيء الموت.
وزجّ كياني في الأسود، وادلهمّ كلّ شيءٍ حولي.
بردٌ، وجوعٌ، ووحدةٌ ومكانٌ مرّ فيه الفناء إلاّ فمي
المرتجف يخرج منه زبدٌ وجملةٌ أكون أولا أكون.
وفجأةً تسرّبت أشعةٌ من شقّ الباب إلى وجهي تعلمني
أنّ النهار طلع.
قال الرجل:
-كنت تحلم؟!
-كنت أقتل، وأُهزم حتى في الحلم.
عود ثقاب هاجـم الغابة
منصور السّابع
صباحاتٌ ومساءاتٌ مرّت على منصور وذلك الرجل، وهما
تحت رحمة الريح والشمس، وكثبان الرمال الهوجاء، الحارقة.
صمت منصورٌ، تمدّد ثم اتكأ على حجرٍ وراح يصيخ السمع
إلى كل شيء.
بعد قليلٍ وضع ذلك الحجر تحت رأسه، وحدّق إلى
السماء، فرآها زرقاء صافية.
قال الرجل:
-"قاسَ التاريخُ قامته بقامة أحزانك
كانت أحزانك أعلى من همومه بفترٍ
أو فترين
وحين أراد البحرُ أن يقيس عمق جراحاته
بعمق جراحاتك
صرخ وكان على وشك أنْ يغرْق فيك".
*
تنهّد منصور بعمق وقال هامساً:
-الله!!.
سأل الرجل:
-أعجبتك القصيدة؟
-أتكتب الشعر؟.
-لا أحفظه، وهذه لشاعرٍ أحبّ.
قال منصور بتوسلٍ:
-زدني.
قال الرجل:
-عود ثقابٍ مشتعلٍ
هاجم العتمة في الغابة
طاردها، وطاردها
لكنّ العود ذاته
عاد..
وأضرم النار في الغابة.*
فكّر منصور وراح يتمتم:
-"عود ثقابٍ.. هاجم العتمة في الغابة
طاردها و… طاردها…
وعندما انتهى من ترديد القصيدة استوى في جلسته، وسأل
الرجل بفضولٍ قويٍّ ورغبةٍ:
-ما اسمك؟.
قال الرجل وهو يهمُّ واقفاً متأبطاً الرحيلَ
-منصور السّابع.
انتفض منصور واقفاً، اقترب من الرجل، حدّق في وجهه،
وضع يده اليمنى على كتفه ثمّ غطسا في موجة ضحكٍ هستيريٍّ.
ضحكا طويلاً وتعانقا، وقفلا راجعين إلى المدينة.
*القصيدتان مترجمتان
عن الكرديّة للشاعر شيركوبيكوس.
|