حكاية مُهرة
أوقعتني مهرتي عن صهوتها فانكسر خاطري، لا تضحكوا أيها القراء، هذا
ليس زمن الضحك، انتظروا قليلا، فأنا أكتب لكم قصة من هذا الزمن، فعلا أنا
أكتب قصة، ولا أنقل خبرا، ألم أقل لكم، إن خاطري انكسر بعد إسقاط مهرتي لي
عن صهوتها؟ لو نقلت لكم نبأ إسقاطها لي لكان هذا خبرًا، اسألوا فورستر، أما
إذا ألحقت بالخبر شرحا، فإن النبأ يضحي حدثا. الحدث يتكوَّن من سبب
ومُسبِّب، هكذا تكون القصص.
تتساءلون بماذا يهذي هذا الرجل؟ الحق معكم، قد أكون أهذي، نعم قد
أكون كذلك، ألم تعلموا أن هذا زمن الهذيان أيضا؟ ثم ماذا تتوقعون من رجل
أسقطته مهرته عن ظهرها أن يقول لكم؟ أن يأخذ في الضحك، على ما جرى له؟ لا
لست أنا من يَضحك، ربما كنت أنا من يُضحك أما أن يَضحك، فإن هذا لن يكون،
في بلدتنا لا أحد يضحك لنكتة أطلقها إلاّ إذا كان أهبلَ، وأنا لست كذلك،
ألست كاتبَ قصص، كما ترون؟
كنتُ اعتقد أنني أنا من يمسك بشعرة معاوية، منذ التقيتُ بها حتى
إسقاطها لي عن متنها، وأنا أُمسك بالشعرة، فإذا شدَّت أرخيت، فوقعت وآلمها
كفلها، وإذا أرخَت، شدَدْتُ جاذبا إياها إلي، حادبا حانيا، في كلتا
الحالتين كنا، أنا وهي، متفقَين، إما أن تشد فتؤلمها قفاها، وإما أن ترخي
فتكون في أحضان الحبايب، ليس حبايب عبد الحليم حافظ، وإنما في أحضان حبايب
ملموسين وتطالهم اليد، فتسري سرى نسيم الناصرة.
هكذا كنت أعتقد، إلا أن الأمر اختلف، اختلف اختلف، فعلا الأمرُ
اختلف. شعرة معاوية لم تكُنْ بيدي أنا فحسب، وإنما هي كانت في يدها أيضا،
هذا ما تبيَّن فيما بعد. تسألون كيف، انتظروا قليلا، سأخبركم بكل ما حصل.
أَلَم نتَّفق أن القصص تحتاج إلى صبر حتى تأتي مقنعةً وحتى يقبلها القلب
والعقل؟ هل أقول إن لكل منا، أنا ومهرتي، شعرته الخاصة به؟ ربما، ولمَ لا
يكون الأمر كذلك؟ تسألون كيف؟ أجيبكم، فظاعة كم أنتم مستعجلون، أتكون
إسرائيل أثرت عليكم إلى هذا الحد، فزرعَت فيكم حب الوصول إلى النهاية
بسرعة؟ طوّلوا روحكم، نحن نروي قصة، ونقتفي الأثر رويدًا رويدا، طوّلوا
روحكم، اقتفاءُ الأثر لا يتم بسهولة، وإنما يحتاج إلى تأنٍّ وصبر، قصَّاص
الأثر يبحث عن أيةِ شعرة، على ذكر شعرة معاوية، أو عقب سيجارة، أو سيجار،
كلينتون ومونيكا.
في السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، منذ انتقلت للإقامة، في الحي
اليهودي، في نتسيرت عيليت، ابتدأت مهرتي، في إظهار شعرة معاوية، هي أيضا
ابتدأَت ترخي حينما أشد، وما أكثر المرّات التي أوقعتني فيها، أخت الشليتي،
فآلمتني عجيزتي. تضحكون؟ اضحكوا بلا أسنان، شو بضحِّك في هذا؟ إنسان يقع
على قفاه، هذا بضحِّك، اضحكوا، جعله لا حدا ضحك! أما حينما كنت أرخي، فقد
كانت تجعلني أتراخى، فأصبح مثل شريطة، لا تجد من يمسح بها بقايا ليلة
حمراء.
بين الوقوع على القفا وبين التراخي، حتى عملها في الكلسون، قضيت
وقتا طويلاً، وما زلت أقضي، ليس هذا المهم، المهم هو أننا، أنا ومهرتي، كنا
بحاجة إلى ميثاق شرف نمهره بتوقيعنا، كي نتمكَّن من مواصلة التنـزه، في
سهول المدن العربية، وعلى هضاب المدن اليهودية وجبالها الصعبة. ميثاق الشرف
ليس ذاك العربي، الذي وقعناه، في أزمان غابرة، وإنما هو ميثاق جديد "خلنج"،
له لمعة خاصة، تنبعث من عين مهرة بارحة.
لعبة الشدِّ من ناحيتي وبعد ذلك من ناحيتها، باتت مكشوفة، وأصبحَت
مع مضيِّ الوقت لعبةً مكشوفة، أقصد أنها فقدت نكهتها. وللتوضيحِ أقول لكم:
هل رأيتم من يلعب الشَّدَّة، بورق مكشوف؟ هه، والله أريد أن أضحك أنا هذه
المرة، فأي لعبة يمكن أن تكون بورق مكشوف؟ لن تكون بالطبع. لماذا؟ لأن
أحدًا لن يلقي أوراقه، وسوف يحسب حسابا لكل طارئ، هذا في أفضل الحالات، أما
في أسوئها، ونحن فيه، فإن الاثنين سيتوقفان عن اللعب، وسوف ينظر كل منهما
إلى الآخر دون أن يقذف ورقة قائلا: صُلد. لا صُلد ولا بطيخ، ما سيكون هو
أننا كنا بحاجة إلى ميثاق آخر جديد، غير ذاك الأول، الذي وقَّعناه يوم
التقينا، في المرَّة الأولى.
هكذا ابتدأت بيننا، أنا ومهرتي، لن أردِّد هذه الجملة الجاهزة،
مرَّة أخرى، أحفظوها أنتم، عندما أقول، نحن، فأنا أعني أنا ومهرتي،
أحفظوها، لن أشرح مرة أخرى، ثم إنكم تعرفون أن الشرح يقتل الفن. دعونا يا
إخوان نمارس الفن، بلا شرح ولا بلوط. أقول، وهل أنسى؟ هكذا ابتدأَت بيننا
فترة جديدة،. لا أحد منا فيها يمارس لعبة الشدِّ وما تؤدّي إليه من وقوع
على الأقفية، فلا أنا أفتعل الابتسامة في أعقاب الوقوع المدوّي، وأدَّعي
أنني أنفضُ الغبار عن قفاي، حتى لا أشمتها بي، ولا هي تأخذ في التمسيد على
كفلها، إثر وقوعها الفاضح، مدَّعية أنه لا يوجد هناك مهر يستحقه في العالم.
كان السؤال المطروح ضمنًا: هو ماذا علينا أن نفعل كي نحفظ أقفيتنا،
وحتى لا يقع أي منا، فيمارس تلك اللعبة، لعبة الألم والادّعاء بعكسه؟ وكان
كل منا يطرح على نفسه السؤال تلو السؤال، دون أن يعثر على إجابة له. على
هذا النحو، مضت الليالي، كلٌّ منّا يقف، ولا يتقدم، كلٌّ منا ينظر إلى ورق
الشدة في يد الآخر، ولا يضرب ضربته القاضية.. صُلد.
مضت الليالي، وأصبح كلٌّ منا حلمًا، بالنسبة للآخر، أنا أحلم بها..
تنظر إلى البعيد، تاركة شعرها الأسود، يتطاير، في مداه، وأركض محاولا أن
أركض كي أصل إليها، دون أن يكون لي، دون أن أصل، وتبيَّن فيما بعد، أنها هي
كانت تراني في حلمها، في صورة قريبةلهذه، مهر شرقي القسمات، ذي شعر أسود
يتطاير في مداه. هكذا عبث بنا الحلم حتى أغرانا، إلا أن أحدًا منا لم
يتقدَّم، ربما خشية من سقطة أخرى تؤلم القفا، وقد تكسر القحقوح، هذه
المرَّة لشدة ما رافقها من معرفة.
بقي كلٌّ منا يفكِّر في قحقوحه، إلى أن كفَّ عن التفكير، وشو
هالحياة اللي بدُّه الواحد يظل يفكِّر فيها بعضو واحد من أعضاء جسمه؟ شو
هالحياه، اللي بدُّه الواحد يظل يفكر فيها بقحقوحه، وهل انتهت الدنيا،
ابتدأت وتوقفت على تلك العظمة في أسفل العمود الفقري؟ ولماذا لا تتجاوزها
إلى عضو آخر، تكمن فيه نار الحياة؟ لماذا لا تنتقل إلى... وإلا بلاش، لماذا
لا تنتقل إلى الرأس، حيث يقبع شرف المهر والمهرة؟ وغيرهما من الكائنات
الثديية على الأقل؟
أحيانا تنقلنا أفكارنا بصورة هلامية، إلى حيث هي، فما أن نفكِّر في
أمر ونتعمَّق فيه، نخلص له تمام الإخلاص، نصير هو ويصير نحن، حتى يتحوَّل
إلى حقيقة قائمة وموجودة، وهذا ما حصل لنا؛ فما أن توصلت، أو توصلنا، إلى
فكرة أن نفكِّر برؤوسنا، حتى ابتدأ كل منا يتحرَّك باتجاه الآخر. الحياة
ابتدأت تبتسم، الماضي، قبل الإقامة في الحي اليهودي ابتدأت باجتياح
أطرافنا، الشعر في الحلم ابتدأ يستقبل الحياة المفقودة، الحلم ابتدأ يعود
ليكون واحدًا. اختفت شعرة معاوية، لم يعُدْ أحد يفكِّر في أي عضوٍ آخر من
أعضاءِ جسمه. بات الجسم كلاًّ واحدًا موحَّدًا، بل إنني ادَّعي أن المسافة
بين جسمي وجسمها، جسم مهرتي، تقلَّصت، بعد تأثير الحلم المشترك، وعودته.
قرّب الحلم بيننا، وهكذا بات اللقاء مجددا، امرًا مفروضا ولا بدَّ
منه، تدفَّقت الحياة بقوَّتها القديمة الماضية في جسدينا مرة أخرى. كانت
تعرف طريقها، لهذا لم تتأنَّ، ولم تجمجم، وإنما اندفعت في طريق هي صنعته
وهي من يعرفه، ومن مثلها يعرفه، واندفع كلٌّ منا اندفاعة مهر راغبٍ في
الحياة، لا يرده رادٌّ عنها. هي اندفعَت وأنا اندفعتُ. اعتليت صهوتها،
اعتليتها، وأنا أعرفُ أنني أعتليها، فانطلقت انطلاقة فرح مباغت مجنون، وكنت
على صهوتها مثل فارس عربي ثكلته أمُّه، وعاد مجددا ليعتلي صهوة مهرته.
انطلقَت بي مهرتي، جنَّ جنونها. وصلت إلى مناطق معتمة تجلت فيها ألوان
الحياة كلها، حتى أنها راحت تصهل، وجنَّ جنون محسوبكم، فراح يشاركها
الصهيل. أنا وهي رُحنا نصهل، كأنما نحن صوتان ينطلقان من حنجرةٍ واحدة،
وحّدنا صوت طالما تاق إلى وليفه الصوتي. ابتسمت وردات الحلاج، اختلفت
ألوانها، جنَّ جنون العصافير، فراحت تبتعد عن أشجارها، محلقة في فضاء
سرمديّ بعيد. طارت روحانا أنا وهي إلى أجواء سحرية لا حدود لها، فبدت مثل
جنات تجري من تحتها الأنهار، وبدَونا فيها، أنا وهي، خالدين أبدا.
وفجأة فجأة فجأة، أسقطَتني مهرتي عن صهوتها فانكسر خاطري. تضحكون
لهذا المقلب الذي نسجَتْه لي مهرتي ونفَّذته ببراعة؟ تضحكون لأنكم لستم
أنتم من انكسر خاطره. طيب انتظروا، عيشوا لترَوا، عيشوا ليحصلَ لكم مثلما
حصل لي، بعدها تعالَوا وحاسبوني، تعالَوا وسوف تجدونني بالانتظار. لن أكون
وحيدًا، ستكون هذه القصة معي، كل ما أطلبه منكم حاليا هو أن تضعوني في
ذاكرتكم، وألا تنسوني، يوم يصيبكم مثلما أصابني، ويوم تُسقطكم مهرتكم عن
صهوتها فينكسر خاطركم، تذكروا هذا جيدًا.. لا تنسوه.
تمثالان حيان
لو لم أستجب لطلب مدير المدرسة، صديقي من أيام الطفولة، لما التقيتُ
بها، ولو لم أقدِّم تلك المحاضرة العصماء عن الأدب والتجربة الأدبية ودور
المرأة فيها، لما مكَّنتُها من الدخول إلى أعمق ركن يمكن أن تصل إليه في
متاهات نفسي المتعبة، المتشوفة إلى امرأة تملأ فراغاتها الرهيبة المرعبة.
الكلام يتدفَّق من فمي مثلما يتدفق اللمى من فم امرأة اشتاقت إلى
رجل، فبدت شفتاها وكأنما هما عالم ينتظر عالمًا آخر مماثلا.
أتحدث وأتحدث وأتحدث. أكتشف أنني أتحدث إليها، إليها هي. هي من تريد
أن أواصل.
الطلاب متعبون. هي لا...عيناها تشجعانني على مواصلة الحديث. كلماتي
تلمع على نظارتها الطبية. أشعر بقوة هائلة تتدفَّق من أعماقي. لو لم يبقَ
واحد في العالم سواها فإنني سأواصل.
ينتهي اللقاء.
تنصرف. أتابع عجيزتها.
تدخل غرفة المدير. تخرج. يخرج المدير. يرحب بي. يبالغ في ترحيبه.
أفهم أنها قدَّمت شهادة إيجابية. أفكر ماذا دفعها؟ أهي كلماتي؟ أم أسباب
أخرى؟ يجب أن أعرف. أريد أن أعرف. لأدنو منها. أدنو. لأسالها. ماذا أسالها؟
عيناها تدعوانني من وراء نظارتها الطبية لأن اسأل. أشعر أن بإمكاني أن أطرح
أي سؤال كي تفتح لي أبواب الجنَّة المغلقة.
-أعجبتك المحاضرة؟!
تبتسم. عيناها تقولان كلاما لا أفهمه. أجتهد في فهمه. أعجز. أسلم
أمري للوقت. المهم أن أواصل الكلام.
أكرر السؤال. لا ترد. تطرح سؤالا لا يفصح عما في أعماقها.
-أنت من قرية مهجرة إذا؟
لا أعرفُ ماذا أقول. تتابع:
-أنا أيضا من قرية مهجَّرة. ولدت بعد سنوات من تهجير الأهل. بالضبط
مثلك.
أجواء المدرسة تأخذني. أتطلع إلى ما يحيط بي. المدرسة حافلة
بالمعلمات. أيُّهن تشبه زوجتي؟ أتحول من زوجتي بسرعة إلى مهجَّرتي. أيهن
تشبه مهجَّرَتي؟ النساء هنا سمينات. كلهنَّ سمينات. أراقب أردافهن. منذ
تركتُ زوجتي وعجيزتها الصاخبة وأنا أراقب خلفيات النساء وكأنني لم أرَ ردفا
في حياتي. بإمكانك أن تعرف المرأة من دبرها، فإذا كانت ذات فقار عريض
فأعرفُ أنها لا يهمها شيء، ومن الممكن أن تتركك وتمضي دون أن تلتفت إلى
الوراء، وإذا كانت ذات ردفين مهتزَّين، فاعلم أنها يمكن أن تلاعب العالم
عليهما دون أن يطرف لها جفن.
تستغرقك الأفكار. تحاول أن تستفيد من قراءاتك المكثَّفة في الجنس
لخلفيات النساء. ما قرأته في "الكاما سوترا" و" ألانانا رانجا" قد يسهل
عليك. في هذه المؤلفات ترتبط حركات المرأة بتعاملها مع الجنس، فإذا كانت
تحب تقبيل الأطفال، فإن لديها رغبة شديدة، ويسهل التعامل معها، وإذا كانت
ضحوكا ولا تخبئ أسنانها براحة يدها، فإنها تقبل على الرجل بسهولة. اعلم أن
لكل امرأة مفتاحا، وإذا ما رفضتك امرأة فلا تيأس. ابحث عن مفتاحها وسوف
تجده.
تختفي مهجَّرتك. أين هي؟ تفتعل الحركات كأنما أنت تبحث عن مرافق
فقدته. تصل إلى غرفة المدير، وباب المدرسة. تعود إلى داخل المدرسة. لا
تجدها. تغمض عينيك. تريد أن تتصوَّر كفلها. أي نوع من النساء هي؟ وما هو
شكل دبرها. اكتشف أنني لم أرها إلا مقبلة. ينادي عليك المدير. تذهب. تلتفت
إلى الوراء للمرة الأخيرة. تراها هناك مديرة ظهرها مدبرة. فقارها هادئ. هل
هي هادئة؟ المدير يمضي أمامك. أنت تمضي وراءها. المدير يناديك، وسؤال حائر
يناديك أيضا. تدنو منها تسألها عما إذا كانت ستأتي لمواصلة اللقاء في
الطابق الثاني. ترد عليك بأنها على استعداد لمرافقتك إلى حيثما تشاء.
حاولت في الأيام التالية أن أقرأ كفلها. لم أتوصَّل إلى أية نتيجة
وكنت كلما طرحت سؤالا يفضي إلى آخر. اكتشفت بعد أيّام أن أي سؤال يمكن أن
يكون مصيبا، وأن يكون مخطئا في الآن ذاته. هكذا وصلت إلى طريق مسدود لا
مخرج له، ثم كيف أطلب الإجابة دون أن أكون على اتصال بها؟ ودون أن أعرفَ
عنها سوى أنها مهجَّرة مثلي؟!
أسلمتُ أمري في النهاية للوقت، فإذا قدَّم إجابته، تحالف العالم على
طريقة بول كويليو وساعدني في قراءة أغرب كفل رأيته خلال ثلاثين عاما، وإذا
لم يقدِّم إجابته تركت الأمر لأنه لا نصيب لي فيه.
بعد أسبوع أغمضتُ عيني، فرأيتُ نظارتها وكفلها ولم أعد أرى بسرعة،
وما أوشكت أن أنسى ملامحها حتى تلقيت رسالة منها. أقرأ. لا أفهم. أقرأ
وأعيد القراءة. لا أفهم. أحاول أن أعيد روابط مفقودة بين الكلمات. أفهم أن
هناك سيدة تدعو رجلا ليعيش يومًا أطول من قرن، وأنها لا تريد أن تغادر هذا
العالم دون أن تجرِّب أمرًا أرادت أن تجربه، وأنها هي من سيكون الضيف
والمضيف(!!) ترى هل تمكنني رسالتها من قراءة كفلها؟
لم تمكِّني بل زادت في حيرتي.
في الأشهر الستة التالية توطَّدت العلاقة بيننا. تبادلنا الرسالة
تلو الرسالة وكنت كلما اعتقدت أنني أقرأ كفلها، أكتشف أنني سرت في طريق
الخطأ، وما أن أعتقد أنني اكتشفت الحقيقة ووصلت إلى حرها، حتى يتبيَّن لي
عبث ما اكتشفته!! كانت ما أن تفصح عن أمرها حتى تخفيه وما أن تفي باللقاء
حتى تخلفه. كانت تأتي ولا تأتي. تحضر كالغائبة وتغيب كالحاضرة. يركض كل منا
باتجاه الآخر وما أن يصل إليه، حتى يكتشف أنه ما زال بعيدًا عنه، كأنما هو
لما يغادر مكانه بعد. المسافات بيننا أضيق ما تكون وأوسع ما تكون، وكنا مثل
تمثالين حيين يسعى كلٌّ منا إلى الآخر ولا يتقدم.
ومضت سنة وتلتها سنة، وجاءت سنة جديدة وأنا أحاول أن أقرأ كفلها
الهادئة، دون أن أفلح. عدت إلى الكاما سوترا والأنانا رانجا، وسألت الشيخ
النفزاوي وروضه العاطر، ولم أجد إجابة.. وعدت إلى السنوات الماضية وإلى ما
حفلت به من مشاعر ونظرات عبر نظارة طبية، وكنت كلما مرَّ الوقت أغرق في
هدوء كفلها.. أغرق أغرق.
طيور الرغبة
صديقتي العزيزة أحلام،
وتسألين عن حالي؟
وكيف سيكون حالي بعد كل ما عرفتِه عني وما أخبرتك عنه من غربة
أعيشها ليل نهار، إلى جانب رجل في السبعين من عمره، يكبرني بثلاثين عاما،
ارتبطت به إثر انفصالي عن زوجي وتركِهِ لي بعد أن جذبته امرأة أخرى؟
آخ يا أحلام، ما أقسى الليل على الوحيد، وما أمرَّ النهار؟ أنت لا
تعرفين ماذا يمكن أن يفعل بك وجودك إلى جانب رجل يُقبّل يديك وقدمَيك ويعبد
جسدك في النهار، وينصرف عنك في الليل لنوم عميق وشخير.
صدقيني، إن لياليَ تمضي عليّ لا يغمض لي جفن ولا أكاد أنام فيها
لحظة!! وهو – زوجي- يستلقي إلى جانبي على فراش وثير لا حياة فيه.
بالأمس سمعت أنينًا قادما من بعيد بعيد يدعوني إليه، تعوَّذت من
الشيطان، وغمرت رأسي بالمخدَّة، إلا أن الأنين ما لبث أن عاد يدعوني
ويُلحِف في الدعوة.
نظرت إلى جثَّة زوجي إلى جانبي. كانت مثل خرقة بالية انتهت مدة
صلاحيتها، ربما منذ ثلاثين عاما. مدَدْتُ يدي أريد أن أوقظه، أريد أن أحسَّ
بمن يشاركني العيش في ظلام الليل، ومن يؤنس وحدتي.
تردَّدت. عدت ومدَدت يدي وعاد إليَّ تردُّدي، حتى لو استيقظ سوف
أحسُّ بوحدة أقسى وأمرّ. إنها وحدة الصدّي على تخوم صحراء لا نهاية
لحدودها. كم تخيفني هذه الصحراء بتخومها المترامية الأطراف وبرمالها
الصامتة، كم تخيفني يا أحلام.
حاولت أن أدعو سلطان النوم إليَّ فلم يأتِ. انتظرتُ أن تهبط عليّ
الأحلام من سمائها العالية، بقيت بعيدة هناك. حاولت، نعم حاولت أن أتذكَّر
زوجي السابق ولياليه الحمراء، لم أفلح. استدعيت ملائكة البر والبحر لم أجدْ
أحدًا منها يلبّي دعوتي أنا المرأة الوحيدة إلى جانب رجل نائم.
ضربتُ أخماسا بأسداس. دخلتُ في متاهات لا مخارج لها، إلا أن المجهول
كان يقذفني معيدًا إياي إلى حيث أنا، إلى جانب رجل لا قدرةَ له على إشباع
رغبة امرأة في زهر البساتين من عمرها، امرأة وجدت من يوقظ فيها ملاك
الرغبة، وما لبثت أن فقدته بعد أن غضبت عليها آلهة الكون، فجعلت ملاك
الرغبة زائرها، ينصرف إلى امرأة أخرى مفضلا إياها عليها.
أتوقَّع أن تقولي يا أحلام، كما قلتِ أكثر من مرة حين شكوتُ إليك
أمري وأولجتك أسرار ليالي، إنني لست المعذبة الوحيدة بنار الحرمان، وقد
أستمع إليك بكلِّ شعرة برزت للتو على سطح جلدي، وتدمع عيني كما تدمع الآن،
وأخبرك أنني أعرفُ أن هناك الكثيرات ممن يعانين مثلي وربما أكثر، غير أنني
سأقول لك والدموع تلمع في عيني: إن وجود العذاب لدى امرأة لا يبرِّر وجوده
لدى امرأة أخرى، وسوف أضيف فأقول لك: إذا كنت من غواة المقارنة فلماذا
تقارنينني بالمعذبات وتتجاوزين في الآن ذاته أولئك الهانئات في أحضان أزواج
حانين ومحبين يفيضون رقَّة؟
كل كلمة ستقولينها يا أحلام، ستدفعني للمزيد من التفكير في حالي،
وسوف أغادر فراشي الزوجي دون أن يشعر بي أحد، كما فعلت الآن، كي أكتب إليك
رسالة أبثّك فيها بعض ما في صدري من جوى وحلم بزندي رجل مثل زوجي السابق،
سامحه الله.
بعد ذلك سأعود إلى الفراش ذاته، ولن يشعر بي أحد، أنا متأكِّدة من
هذا. سأحاول أن أكرِّر محاولة إيقاظ زوجي وسوف أتردّد، فأنا بحاجة إليه،
حاجة وردة حمراء لقطرة ماء تبعث فيها الحياة..، حتى تأتي قطرة ماء أخرى
تجدِّد فيها حياة توشك أن تغادرها.
يعلو إيقاع الأنين الآتي من بعيد. أغلق أذني بيدي. لا أريد أن أذهب
إليه، لا أريد أن أستجيب لعوائه، أهرب منه، أهرب من نفسي. ألامس صدري، أشعر
به حارا.
أمدُّ يدي إلى أطراف زوجي المتيبسة إلى جانبي، أمدُّها للمرة
الألف، لا أعرفُ. أتجرأ هذه المرة، أهزه. يفتح عينيه ثم يغمضهما، يهتف بي
طالبا مني أن أنام، أقول له إنني قلقة وإن النوم هجرني، فيقول وهو بين
النائم والحالم: نامي يا حبيبتي، حاولي أن تنامي وسوف تنامين.
أتركه، أحاول أن أنام، لا أُفلح. ترنُّ في أذني كلمة حبيبتي،
أتساءل أي حب هذا؟ وما هو؟ وهل ينام الحب؟ لطالما قال لي زوجي السابق وأنا
أحاول أن أتملَّص من بين ذراعيه القويين، أن الحب لا ينام، انهضي الآن
بإمكانك أن تنامي في الغد، أما الآن فبي رغبة هائلة بك وبفوح رائحتك.
تلحُّ علي ليالي زوجي السابق، أشعر بشوق إليها. أقول لنفسي إنني كنت
أقبل أن أكون امرأة ثانية في حياته على أن أكون امرأة أولى في هذا الفراش
الميت، لكن هيهات أن يكون لي هذا. نحن لا نعرف طريق السعادة يا أحلام، وإلا
كنا نواصل السير مهما واجهنا فيها من نساءٍ شبقات وخطافات رجال. ما أصعب أن
تفيق الواحدة منا متأخرة، وبعد فوات الأوان.
آخ ما أصعب هذا وما أقساه!!
يتململ زوجي إلى جانبي، أشعر أنه سيستيقظ، مثلما كان زوجي السابق
يفعل، وأنه سيدني فمه من أذني، وسيطلق نفسا يوقظ الحياة النائمة هناك، يقول
لي أحبك أنت المرأة الوحيدة التي تروق لي في العالم. أنا لا أعرفُ أن أنام
وأنت مستيقظة، لا أعرفُ أن أنام يا حبيبتي. وتستيقظ الحياة في كل شعرة ظهرت
للتو على سطح جلدي، وتأخذنا ساحرات الليالي إلى أقاصٍ لا حدود لها. تأخذنا
إلى هناك حيث طيور الرغبة تشرئب بأعناقها، وتدعونا إليها فنلبي النداء
مبهورين بشبق لا يهدأ. تجذبني الرغبة إلى جسد زوجي إلى جانبي. ألتصق به،
ألتصق به. أحاول أن أخرج شهوة ما لم تخرج ستتفجر في داخلي وستفجره. ألتصق
به، آه ما أحلى أن تلتصق امرأة بجسد رجل، ألتصق أكثر. أحسُّ بالنشوة
تراودني، أنسى العالم من حولي، ألتصق أكثر فأكثر بجسد زوجي النائم إلى
جانبي، أقترب من تحقيق وجودي. يطل ملاك الرغبة من كل شعرة طالعة للتو. أشعر
أنني قريبة من جسدي، أنني أعيشه... يتململ زوجي إلى جانبي. يهتف بي طالبا
أن أنام. أرتدُّ إلى الوراء. شعور غير محدود بالوحدة يستولي علي. أبتعد عن
زوجي. يعلو أنين الرغبة مجدّدا يدعوني إليه. تعود النشوة المغادرة إلى
جسدي، فأزحف باتجاه الأنين. أزحف مخلفة ركام زوجي.. ورائي.
دويُّ الصمت
امرأة تقف قرب محطة الباص، بطن متكوِّر قليلا، ثوبها يوحي أن تحته
قدمين متعبتين، قدمين لا تتناسبان، مع بطنها المتكوِّر.
يقترب منها، إنه يعرفها، من هي يا ترى؟ ملامحها ليست غريبة عنه. هو
متأكد من أنه رآها ذات يوم، لا ليس متأكدًا مائة بالمائة. كيف يمكنه أن
يعرف؟ ماذا عليه أن يفعل؟
اقترب منها أكثر، صار بمحاذاتها تقريبا، قدماه أصبحتا ثقيلتين،
لسانه جره جرا:
-مرحبا.
افترَّ ثغرها عن ابتسامة. ابتسمت عينها. هو يعرف هذه الابتسامة.
مؤكد أنه يعرفها. ردَّت صاحبتها:
-أهلا.
أراد أن يتوقف.
قدماه جرتاه مرة أخرى، هناك بالقرب من المحطة، على مبعدة مترين أو
ثلاثة أمتار، وقف رجل يعرفه. تلبَّك، لم يعرف ماذا يفعل. أين يا ترى رآها؟
وهل هو واهم؟. صديق عرف بذكائه، قال له إننا كثيرا ما نرى وجوها نعتقد أننا
نعرفها، لشدَّة ما تبوح به من ألفة، إلا أننا ما نلبث أن نكتشف أنها
المرَّة الأولى التي نراها فيها. أتكون صاحبة الوجه، صاحبة الابتسامة من
هذا النوع من الناس؟ لا. لا. محال أن تكون كذلك.
خطرت في باله خاطرة. لماذا لا يتوقَّف، لماذا لا يدقِّر، بحيث تراه؟
دقَّر على مبعدة تمكنها من رؤيته. لم تتحرك. بعد خطوات دقَّر مرة أخرى. لم
تتحرك أيضا. يا ألله هو يعرفها، يعرفها. لكن متى وأين رآها؟ لا يعرف لا
يعرف لا يعرف.
واصل سيره.
قبل أن يدخل مكتبه القريب من محطة الباص، دقَّر للمرة الأخيرة. لم
تتحرك. لم يكن أمامه سوى أن يدخل المكتب، وأن يبدأ يوم عمله المعتاد.
فتح بريده الإلكتروني، يريد أن يعرف ما وصل إليه ليلة أمس من رسائل
وأخبار، ليحررها ويرسل بها إلى صحيفة" المدى".
بقيت ابتسامتها تلحُّ عليه. من هي؟ من هي يا ترى؟ وإذا كان يعرفها،
يعرف ابتسامتها، لماذا لم تلحقْ به؟ لماذا لم تستوقفْه؟ تراها خجلت مثلما
فعل هو؟ أم أنها... لمعت في خاطره ابتسامة، إنها هي، هي وليست سواها. تلك
الابتسامة اختفت في الذاكرة أكثر من عشرين عاما. داهمته تداعيات أشبه ما
تكون باندفاعات أوراق الصحف حين تتدافع خارجة من فم مكنة الطباعة صُورة إثر
صُورة. إنها هي، هي وليست سواها، كيف نسيها؟ هي تلك الفتاة الخجول. بقيَت
خارج مكتبه حينما دخلت صديقتاها. يومها أحسَّ أنها بقيَت في الخارج، افتعل
سببًا للخروج من المكتب. سحرته ابتسامتها. طلب منها أن تدخل. رفضت. بعد
أيام أتَت إليه. دخلت متردِّدة. شجَّعها على الحديث. أحسَّ أنها تجد صعوبة
في التأقلم مع جوٍّ جديد. شجَّعها أكثر. فتح أمامها أكثر من إمكانية
للتحدث. طلب منها، دون أن يطلب، أن تتحدَّث عن ذاتها. تدفَّق الكلام من
فمها دون جهد. ارتاحت إليه. أحسَّ أنها لن تكون امرأة عابرة في حياته. أوحى
إليها بإحساسه. بعد سنة جاءت إليه. أخبرته أنها ارتبطت بشخص آخر. أهلها
أكرهوها عليه. قالت إنها لا تستطيع أن تخالف أمرًا لأهلها. دعته إلى بيتها
ليتعرَّف على زوجها. تعرَّف إليه. لم يكن زوجها إنسانا سيئا. ذهب ليعدَّ
القهوة. اغتنم الفرصة ليسألها ما إذا كانت مرتاحة. أجابته إنها متعبة،
وإنها أخبرت زوجَها أنها لا تحبه. فردَّ عليها إنها ستحبه في يوم من
الأيام. وأنه سينتظر هذا اليوم، فهو إنسان ليس سيئا ويعرف نفسه جيدا. خرج
من بيتها. لم يعد إليه. وها هي اليوم تظهر مجددا.
نهض. ابتعد عن الحاسوب قبالته. جرّته قدماه إلى الخارج. اندفع خارجا
من مكتبه. هو ينبغي أن يذهب إليها ينبغي أن يسألها عن حالها.
خرج من مكتبه. ترك أبوابه مشرعة. سار باتجاه المحطة. أرسل نظره إلى
هناك. أراد أن يعرف ما إذا كانت ما زالت تنتظر أم أنها اختفت مجددا.
رأى طيف امرأة ما زالت تقف هناك. أخرج نظارته الطبية ليتأكد من أنها
هي ما زالت تنتظر هناك. رآها. إنها هي. ربما هي ما زالت تنتظره. ربما
ساورتها هواجس مثل هواجسه. ربما هي كانت نسيت مثلما نسي، تذكرت مثلما تذكر.
ربما توقعت أن يعود إليها.
طيف الرجل قرب المحطة أوحى إليه أن الرجل ذاته ما زال واقفا هناك.
هذه المرة سيفتعل حركة، تقرِّبه من المحطة. سيمر بالقرب منها وسوف يتحدَّث
إليها، وإلا فإنه قد ينتظر عشرين عاما أخرى حتى يراها، ثم من يضمن له أنه
سيتعرف عليها بعد كل تلك السنوات؟ الأفضل له أن يتحدَّث إليها الآن، أن
يدعوها لفنجان قهوة. أن تطمئنه. أن تقول له إنها ما زالت موجودة، وإن
أفراحنا الصغيرة تبقى ما بقي في عروقنا نبض. وأن يفترَّ ثغرها عن ابتسامة
هو متأكد أنها اختبأت هناك في ملامح وجهها، وبإمكانها أن تنشرها مثل كلمات
طيبة على صفحة دفتر أو شاشة حاسوب.
لفَّ دورة، حاول أن يجعلها قصيرة، دورة توصله إليها بأسرع ما يمكن.
اقترب من المحطة حيث رآها قبل قليل. كانت المحطة خالية، ولا أحد فيها سوى
صمتٍ عمرُهُ عشرون عاما. اختفَت مرَّة أخرى. ومرَّة أخرى اختفى الرجل
القريب من المحطة، ولم يعُد هناك سوى صمت... مُدوٍّ.
الرجل والجُعل
الليل بهيمة سوداء وجهها قمر مضيء. يرسل الرجل العجوز نظرة ليطمئنَّ
على أن أحدًا لا يعكِّر ليله، وأن الورشة ستبقى سالمة آمنة كما كانت منذ
ابتدأ في حراستها قبل سنين. يهزُّ رأسه راضيا.
يتناول عودًا من كوم الحطَب المكوَّم إلى جانبه. يلقي به إلى موقدة
النار قبالته. يزداد أوار النار اشتعالا. تسري في أطرافه نفحة من الدفء.
يفرك يديه راضيا مرضيا، الحمد لله على كل شيء، بيده مفاتيح الرضا وهو قادر
على كل شيء.
يغمض الرجل عينيه، يشعر بقليل من الجوع، بإمكانه أن ينتظر لحظات
أخرى، كي يقوم إلى البراد الصغير في الورشة، ويستخرج منها رغيفا من الخبز،
وإلى جانبه حبات زيتون اشتراها وهو في طريقه إلى مكان عمله الليلي منذ
ساعات، أما الآن فإن ليلا طويلا بطيء الكواكب ينتظره، ليلا اعتاد عليه، منذ
كان شابا غضَّ الإهاب. شعور بالوحدة انتابه، إلا أنه ما لبث أن نبذه كما
فعل دائما. الشعور عاد يلحُّ عليه. ابتدأ في النظر إلى ما يحيط به كما فعل
منذ سنوات بعيدة، لعلَّه يجد ما يتلهَّى به وما يمضي به ليلا طويلا
بانتظاره.
ما أن خطر له صديقه الجعل حتى رآه يسعى على تراب الأرض قريبا من
موقدة النار. من يعلم ربما أحسَّ الجعل بشيء من حرارة النار، فخرج يسعى،
كما حصل في ليال سابقة، أو ربما أحسَّ بوحدته في ذلك الليل البهيمي، فسعى
إليه. هذا كله ليس مهما. المهم هو أمر واحد علمته إياه الأيام جيدا، هو أن
الجعل جاء ولم يخيِّب أمل صديقه.
شرع ينظر إلى الجعل. ترى أين جعلته؟ ولم لم تأتِ؟ فرك عينيه ليتأكد،
أنه يرى الجعلة وراء جعله. فعلا هي وراءه. سبحان الله حتى هذه المخلوقات
الصغيرة تدفعها قوة الحياة فيبحث أحدها عن الآخر ويلتقي به، مهما كبر ومهما
مضى عليه من الوقت، إلا نحن بني البشر، نكبر قليلا فتهجرنا زوجاتنا وينفضُّ
عنا من أحببنا من النسوة لنبقى وحيدين مثلما أتينا إلى هذه الدنيا وحيدين.
يرسل نظرة استطلاع إلى الجعل. ترى أتكون ليلة ساخنة هذه الليلة؟
وماذا سيتم بين هذين الكائنين الصغيرين؟ يفاجأ بوقوف الجعلة قبالة صديقه
الجعل، كلٌّ من الاثنين يرسل نظرة إلى الآخر، يتفحصه، وربما يريد أن يعرف
ما إذا كان يريده أو لا. إن كلا من الاثنين يقترب من الآخر، وكل خطوة تقصر
المسافة بينهما. إنهما يتغازلان. مؤكد أنهما يتغازلان. آه بالضبط هكذا
اقترب منها يا جعلي العزيز. اقترب منها لتكن لك، إياك أن تدعها تذهب. لا
تطل وقت المغازلة، وعليك أن تعرف متى يحين وقت مبادأتها وإلا فإنه سيصيبك
ما أصابني، ستهيئ كلَّ شيء وستنتظر أن يلين لك كل شيء، آنذاك لن تفهمك
جعلتك، لن تفهم أنك تريد أن تظهر لها على أنك مخلوق متحضر، ولا تستعجل
الأشياء، وسوف تنتظر وتنتظر، ثم قد تأتي إليك في يوم من الأيّام، وتتحدث
إليك عن أنها بلغت العشرين وتفتَّحت للحياة، وأنها تفكَّر جديا ببناء علاقة
مع شاب زميل لها في العمل، ولا يكون أمامك إلا أن تصرفها عن التفكير فيه،
لأنه كلب كلاب ولا يستحق أن تكون له، وتسمع كلامك، وتنفضُّ عنه، وتشهد
علاقتك بها نوعا من الاستقرار الحذر، بسبب أنك تكبرها بعشرين عاما!! غير أن
هذا الاستقرار لا يلبث أن يتعكر، لتأتي إليك بعد أيام وتخبرك أنها لا تتعلم
الدرس، وأنها تشعر بالانجذاب إلى زميل عمل آخر. هذه المرة تفكِّر فيما
ستقوله لها، فأنت لا تستطيع أن تنتقص من كل من تتحدث إليك عنه ممن تحب أن
تبني علاقة معه، أضف إلى هذا أنك تعرف من يدور الحديث عنه وأنه ليس إنسانا
سيئا، وسيمضي الوقت بينكما، أنت وهي، وستأتي إليك ذات يوم لتقول لك إنها لا
تني تفكر في ذلك الشخص، وسوف تجد نفسك آنذاك في ورطة لا تحسد عليها، فقد
ابتدأ الانزلاق ولن يكون أمامك سوى واحد من أمرين: إما أن تنجرف مع
الانزلاق قليلا من أجل التغلب عليه، وإما أن تقف ضده فيجرفك معه إلى متاهة
قد لا تتمكن من الخروج منها طوال حياتك. وتأخذ الانجراف وهو أيضا يأخذك،
وتحاول أن تبدو إنسانا متحضرا، فتقول لها إنه بامكانها أن تذهب إلى أي مكان
في العالم إلا أنها ستعود إليك في النهاية، ومن يعلم ربما ستفهم من هذا أنه
بامكانها أن تذهب وتنفضّ عنك متى تشاء وأنى تريد، وأنك بتَّ مضمونا بيدها،
وهي لن تكون من الغباء بحيث تعلمك بكل حركة تقوم بها، وسوف تحسُّ بهذا، كما
أحسست أنا صديقك، وربما ستكثف من اتصالاتك بها، حتى لا تترك لها مجالا لأن
تزوغ منك، ولأن تذهب إلى من تحدثَت إليك عنه، ومن يعلم فقد تخبرك بأن
الهدايا ابتدأت تنهال عليها من ذلك الشاب، وأن يده ابتدأت تمتدُّ إلى
وجهها، ثم إلى كتفها. ويتواصل الحال على ما هو عليه إلى أن تتصل بها ذات
يوم، فتخبرك أنها أسلمت جسدها لذلك الشاب عن طيب خاطر، فتصطنع حالة من
الوقار الحضاري، وتخبرها أن هذا لا يهمُّك وأن ما يهمُّك هو أن مشاعر
الصداقة بينكما أقوى من أن تتأثر باختيار شخصي. وسوف يمضي الوقت يا جعلي
العزيز لتكتشف أنها، جعلتك أو جعلتي، إنما أجرت لك امتحانا لتعرف ماذا
ستفعل إذا ما ذهبت في اللحظة المناسبة مع أحد عرصات هذا الزمن، وآنذاك ستجد
أنك منحتها كلَّ ما لديك من إمكانيات لتبتعد عنك وأنت تعتقد أنها تقترب..
آخ يا جعلي.
ينظر إلى النار في الموقدة، يلاحظ أن النار ابتدأت بالخبو، يتناول
عودا آخر من كوم الحطب بالقرب منها، ويقذف به إليها، فيرتفع لهيبها، ويلاحظ
الرجل قبالتها الجعلين ما زالا يلفان ويدوران، فيواصل حديثه موجها إياه إلى
جعله، أرأيت؟ أرأيت يا جعلي العزيز؟ أرأيت كيف أن النار بالعودين تذكى؟
وأننا ما لم نمدّها بالمزيد من الحطب ستخبو؟ ومن يعلم فقد يأتي من هو أخبر
منا بأدواء النساء وأكثر معرفة بطبابتهن، وسوف يقذف إليها بعود أو عودين
لتشتعل أكثر، ولترتفع ألسنتها مشرئبة بأعناقها إلى عنان السماء، ونحن نتفرج
من بعيد مدَّعين أننا متحضرون وأنه لا يهمنا أن يأتي آخر ويأخذ مقعدنا إلى
جانب من نهيم بها غراما!! فتنتقل النار لتشتعل في صدورنا، بدلا من مواصلتها
للاشتعال في الموقدة قبالتنا.
يمد الرجل يده إلى جيب ساكتِه، يخرج منها علبة دخان هيشي، يشعل
سيجارة منها، يعجُّ عليها، يقدمها إلى الجعل قبالته، خذ خذ أيها الجعل
حشِّش، أشعل نار مخيلتك، اقترب منها، نل وطرك منها، حتى لا تذهب إلى سواك،
ماذا تنتظر؟ يرسل الجعل نظرة إلى الجعلة قبالته، يفهم الرجل العجوز أن نار
الشهوة ابتدأت في الاشتعال في أطراف الجعل. يضع السيجارة على واحد من
الحجارة المحيطة بالموقدة. آه هكذا أريدك. لا تتلهى بالسجائر، ركِّزْ
أفكارك ركِّزْها جيدا. ضع في رأسك همّا واحدًا هو كيف تنال وطرك من جعلتك.
ارسم صورا لكيفية مباضعتك لها، مخمخ على هذه الصور. ارسمها في عينيك. دعها
تظهر على سطح عقلك وعينيك. اصطنع إخفاءها لكن لا تخفها، وإذا فعلت فإنما من
أجل أن تظهرها. دع جعلتك تعيش حالة مناكحة متواصلة، أسكرها بنار الشهوة.
إياك أن تترك لها مساحة للتفكير بجعل آخر، بادعاء التحضر؛ لأنها ستذهب
إليه، وسوف تعيش معه ما تمنيت أن تعيشه معها، وسوف تنام، أيها الجعل
المسكين، لياليك مقهورا مثلي!!
ينظر الرجل إلى الجعلين قبالته، إنهما يلفّان ويدوران، يدوران
ويلفان. إنهما يتغازلان، في ضوء نار الموقدة، تنوس عيناه من شدة النعاس.
يرسل نظرة استطلاع إلى الورشة. الليل ما زال ممتدًا طويلا. ليغمض عينيه،
بإمكانه أن يغمض عينيه. إن أحدًا لن يأتي لسرقة ورشة فيها حارس، لا تخف يا
رجل لا تخف، نم قليلا وسوف يكون كل شيء على ما يرام وربما أكثر.
يغمض الرجل عينيه، يستسلم لكرى خفيف، يرى فيما يرى النائم، الجعل
يقترب من جعلته، هو يقترب وهي تبتعد. يدركها في النهاية. يدركها بعد أن
توقفت، وربما تأكَّدت من أنه لم يعد لديها المزيد من القدرة على المناورة،
وأنه يريدها، لأنه يريدها بدون لفِّ أو دوران، وبدون تخوُّف من أن تفكِّر
في أنه متخلِّف كما خشي هو الرجل ذاته، أن تفهمه وليفة كانت. وتستسلم
الجعلة، تستسلم كأنما هي المنتصرة على تردد في داخلها، وينتصر الجعل
ويعلوها وكأنما هو يؤكد شجاعة ترسخت في أعماقه منذ كان.. وتعلو وجه الرجل
ابتسامة وهو يتابع هذا المنظر الرائع، حقا كان المشهد رائعا وكان أولى به،
هو الرجل المتحضر، أن يتعلم من الجعل.. فعلا كان أولى به أن يتعلم.
مشهد عادي جدا
ضغط الصحفي المحترم، بعد انتهاء دوامه، على دواسة البنـزين أكثر
وانطلق بسيارته الكورتينا باتجاه بيته، في إحدى ضواحي الناصرة. قبالته على
"تابلو" السيارة كانت صور زوجته تطل إليه متوعدة مهددة، إياك إياك. إياك أن
تسرع، حياتي وحياة أولادي ليست رخيصة. إذا أسرعت أكثر سأقذف بنفسي من
السيارة وسأدبك بمصيبة، لا تخرج منها طوال حياتك. أنت تعرف ماذا بإمكان
المرأة أن تعمل في هذه البلاد. الشرطة تنتظر إشارة من امرأة، بعد ذلك تبدأ
فترة أخرى في حياتك.
الحمد لله لو كانت زوجته معه لانهالت عليه باللوم والتقريع، كما
فعلت بالأمس، حين هددته بالتوجه إلى الشرطة، وعبثا حاول أن يقنعها بأنه
يمشي على السراط المستقيم، وأنه لا يخالف رجال الشرطة لأنهم ينتظرون أن يقع
عربي بين أيديهم كي يذيقوه من المرِّ ألوانا، وكي ينتقموا عبره من جلاوزة
العرب. عبثا حاول إقناعها، إلا أنه يعرف أنها لن تُحضر الشرطة، وأن ما يدور
الحديث عنه تردَّد على مدى السنوات الأخيرة من زاوجٍ عمره ثلاثون عاما أو
أكثر قليلا.
كلا زوجته لن تستدعي الشرطة.
ضغط على دواسة البنـزين أكثر. توقَّف عند مفرق في حارته. لم ير
سيارات. انطلق. في اللحظة الأخيرة شاهد سيارة تقترب منه. ضغط أشدَّ على
دواسة البنـزين، كما يفعل في مثل هكذا مواقف. الحمد لله أن شيئا لم يحصل،
وتابع انطلاقه باتجاه بيته.
السيارات قليلة في الشارع. نظر في مرآة السيارة خلفه. شاهد سيارة
شرطة. حمَدَ الله على أنه ابتعد عن المفرق. حاول أن يخفِّف من سرعته كي
ينـزل سيارة الشرطة عن كاهله. سيارة الشرطة أسرعت قليلا. حمد الله مرة أخرى
وحاول أن يخلي الشارع بحيث تتمكن السيارة وراءه من المرور عن سيارته. نظر
الشرطي السائق إليه. هزَّ رأسه، يريد أن يقول له امضٍ بعيدا، هاأنذا أخليت
الطريق لك. أرسل الشرطي نظرة حاقدة. أمره بالتوقف. توقف نزل ثلاثة من رجال
الشرطة، واحدا وراء الآخر في البداية، ثم بصورة فيلق عسكري. اقترب منه
أحدهم. فهم أنه ضابطهم. توجه إليه مبتسما:
-لماذا أوقفتني. اعتقدت أنك تريد أن تعبر عني.
قبل أن يستمع إلى إجابة الضابط، تحسس جيبه حيث رخصة السيارة ورخصة
القيادة وشهادة التأمين، لا ينقصه شيء.
أرسل الضابط نظرة أكثر حقدا. مؤكَّد أن هذا ضابط يهودي. مؤكَّد أنه
سيلبسه تهمة. لن يتركه يمضي دون أن يُدفعه الثمن.
توجَّه إليه الضابط بقسوة:
-لم أشأ أن أعبر عنك. أنت ارتكبت مخالفة.
وأمره أن يناوله الأوراق الثبوتية.
راح الضابط يتمعَّن في الأوراق. عاد إلى سيارته وبيده الأوراق. ترى
ماذا يريد منه هذا الضابط، وأية نسمات عدوة أرسلته إليه في نهاية هذا اليوم
الحافل بالعمل؟ تمتم متمنيا أن يكون ما يحصل فحص عادي ويمر، وأن يكتفي
الضابط بفحص الأوراق، وكلُّها على ما يرام، وأن يدعه يعود إلى بيته، بعد
يوم عمل مضنٍ في الصحيفة.
عاد إليه الضابط، حاول أن يخفي جزعه. ابتسم. بقي الضابط مقطبا:
- أنت ارتكبت مخالفة.
أرسل إلى الشرطي نظرة استفهام. أراد أن يسأله. أنا. أنا ارتكبت
مخالفة، ما هي المخالفة؟ أنا أقود السيارة منذ أكثر من ثلاثين عاما. أنا
لست أزعر سير. افحص عندك. ملفي نظيف.
تابع الشرطي:
-أنت لم تعطِ حق الأوليَّة للسيارة قبالتك. عند المفرق.
ماذا يقول للشرطي؟ يقول له إنه أعطى حقَّ الأولية، بدليل أن أحدًا
لم يضغط على فرامل سيارته، لا هو ولا السائق قبالته؟ أم يقول له، من قال لك
إنني أنا من لم يعطِ حق الأولية في المرور، ألا يمكن أن يكون هناك سائق آخر
وسيارة أخرى؟ خاصة وأنك لم تكن هناك، وهاأنتذا توقفني على بعد أكثر من كيلو
متر من المفرق؟ ماذا يقول للضابط؟ أيواجهه بكل هذه الوقائع؟ أم يصمت ويحاول
أن يخفف من الضربة؟ وقع اختياره في النهاية على أن يمتصَّ الضربة. توجه إلى
الضابط:
-أنا لم أرتكب مخالفة.
أرسل الضابط إليه نظرة حقد. فهم منها أنه يريد أن يوصل إليه عبرها
أن العرب جميعهم كذابون. شد الضابط على أسنانه:
- بل أنت ارتكبت مخالفة.
أرسل نظرة متفحصة إلى الضابط. حاول بسرعة أن يخفي ما تضمنته من
تفحُّص. أراد أن يقول للضابط إنني رجل كبير، ولست شابا غريرًا حتى أرتكب
مثل هكذا مخالفة، إلا أنه ما لبث أن غير لهجته:
-صدقني، إنني أسوق ضمن القانون. انتهيت للتوِّ من عملي في الصحيفة.
صرَّ الضابط أسنانَه. كان من الواضح أنه قرَّر أن يسجل له مخالفة،
وأن لغةً في العالم لن تحميه من العقاب على ما لم يرتكبه من مخالفة.
تناول المخالفة. وضعها جانبا. أفكار جهنمية ابتدأت تطرق ذهنه. زوجته
اتهمته أمس أنه يسرع أكثر من اللازم، وهددته بإحضار الشرطة. رئيس بلديته
يناشد الشرطة بالدخول إلى البلدة من أجل تنظيم حركة السير. رئيس بلديته لا
يعرف أن شرطة المدينة تعاقب العرب، ولا يهمها أن تنظم حركة السير. ثم هو لا
يعرف أن هذه الشرطة، في حال دخولها لتنظيم حركة السير، وهو ما حصل في
الفترة الأخيرة، إنما هي تعاقب المسالمين من الأهالي، ومن يمشون على العجين
أمثاله هو الصحفي المحترم فلا يخبطونه، أما الزعران المخالفون فإنهم يعرفون
كيف يتعاملون مع الشرطة، وكيف يرتكبون المخالفة تلو المخالفة تحت عين
الشرطة وسمعها، دون أن تتمكن هذه من التعامل معهم وتسجيل مخالفة واحدة لأي
منهم. هؤلاء، وهو يعرف العديدين منهم، يغيرون الطرق حينما يرون رجال شرطة
من الممكن أن يوقفوهم، ويقودون السيارات أحيانا لفترات طويلة دون أن توقفهم
الشرطة، بدليل أن هناك شخصا قاد سيارته بدون رخصة على مدى أكثر من عقد ونصف
العقد من الزمان، ولم تلق الشرطة القبض عليه إلا بعد أن اصطدمت سيارة
بسيارته. أضف إلى هذا أن رئيس بلديته لا يعرف أنه يطالب الشرطة بتنظيم ما
هو منظم أصلا، فالناصرة هي واحدة من أقل البلدات والمدن في إسرائيل تسجيلا
للحوادث!!
ضغط على دواسة البنـزين أكثر. بعد قليل سيصل إلى البيت وسيحكي
لزوجته عما تعرَّض إليه من ظلم وإهانة، لا لسبب إلا لأنه عربي، كتب عليه أن
يعيش تحت حكم إسرائيل. سيقول لزوجته إن ضابط الشرطة حكم عليه بدون تهمة.
وإنه أشبه في هذا بما صوره كاتب يهودي مبدع يدعى فرنز كافكا، في العديد من
كتاباته، حول تهمة بدون سبب تؤدي إلى محاكمة. سيقول لها آخ لو أعرفُ التهمة
الموجهة إلي. آخ لو أعرفُ سبب محاكمة الضابط لي.
واقترب بسيارته الكورتينا من العمارة حيث بيته. كان هناك رجال شرطة
غير أولئك يقفون في سيارتهم قرب العمارة. عاصفة أخرى من الأسئلة نشبت في
رأسه، ألغت سابقتها. ترى أيكون هذا يوم الشرطة؟ أيكون هؤلاء حضروا ليذيقوه،
هو الكاتب الصحفي المحترم، ألوانا أخرى من العذاب. وخطرت بباله فكرة ما لبث
أن نبذها. فكَّر للحظة في أن يعود من حيث أتى، إلا أن رغبة دفينة في داخله
لأن يعيش العذاب حتى أقصى مداه، دفعته للتوقف بسيارته في موقفها الخاص،
قبالة العمارة، ونزل من سيارته وهو يتساءل ما إذا كان هؤلاء حضروا لمعاقبته
على ما لم يقترفه من ذنوب. وتلكأ حين وصل إلى حيث تقف سيارة الشرطة،
بانتظار ما قد يحصل، إلا أن شيئا من توقعاته، لم يحصل.
ومضى يصعد درجات البيت متثاقلا. لقد كبر فعلا، وكبرت إهانته.
عندما دخل إلى البيت، سألته زوجته عما به، فرد عليها قائلا إنه
سيحدثها فيما بعد عمّا به، وألحت عليه، فاخبرها بما تعرَّض إليه من ظلم
رجال شرطة عابرين، كان بإمكانهم أن يتركوه هو الصحفي المحترم يمضي في
سيارته دون أن ينالهم أي ضرر، إلا أنهم عاقبوه لأنه عربي متخلف.
وضعت زوجته يدها على ظهره وأرسلت إليه نظرة مواسية:
-هم المتخلفون. كان عليهم أن يتركوك لحظة عرفوا أنك صحفي ومحترم.
ومضت زوجته لتُعدَّ فنجال قهوة يعدل به مزاجه. استوقفها فجأة
متسائلا عن سبب وجود سيارة الشرطة بالقرب من العمارة، فالتفتت إليه:
-هؤلاء ينتظرون جارنا زوج جارتنا طروب، المرأة الجميلة ما غيرها.
يقولون إنه لم يمض على زواجهما سوى أشهر، وها هي تحضر له الشرطة، يبدو
أنهما غير متفقين.
ونظر إلى زوجته ممازحا:
-اعتقدت أنك نفذت تهديدك لاعتقادك أنني أقود السيارة أسرع من المصرح
به.
ابتسمت زوجته:
-إذا أسرعت في المرة القادمة سأحضر لك الشرطة، هذه المرة سماح.
وضحك الاثنان، الصحفي المحترم وزوجته، ودخل الصحفي بعد قليل إلى
غرفته المظلمة ولاحت في عينه دمعة أرادت أن تنـزل إلا أنها بقيت هناك.. في
عينه.
دجاجة زولا
مشى الكاتب الفرنسي إميل زولا في شوارع مدينته باريس، في طريقه إلى
السوق، يفكِّر في أمر واحد، هو هل سيكون الأول الذي يحقق ما يرغب فيه بين
كتاب المدينة ويصل إلى السوق؟ كعادته؟ وهل ستخرج تلك الدجاجة الملونة
الغريبة، من مخبئها في الحظيرة التابعة لمحل بيع الدجاج في السوق لترحب به،
كما أراد ورجا منذ فترة؟
نسي زولا أن السماء قد تمطر، ونسي أنه نسي أن يحمل مظلته ليقي نفسه
إذا ما أمطرت السماء، وانطلق لا يلوي على شيء، وفي ذهنه أمر واحد ملك عليه
مشاعره كلها، هو تلك الدجاجة التي استعصَت على جميع من خطب ودَّها وطلبه،
بمن فيهم هو ذاته!!
تلك الدجاجة رفضت الانصياع له، رفضت مصادقته لها، ورفضت كل عروضه
السخيَّة لها، وكان أكثر ما يشغله هو ماذا سيعمل كي يكون الوحيد المتميِّز
في باريس، الذي يمكنه أن يكون صديقا لها، يتباهى أمام أقرانه من الكتَّاب
والمبدعين، وحتى من أصحاب الحوانيت، لتمكنه من إقامة علاقة مودَّة معها؟
تلك كانت المرَّة كذا، التي يحاول فيها زولا التقرب من الدجاجة
الملونة، ولم يكن للحقيقة الأول الذي أراد أن يحصل على حظوة العلاقة معها،
وإنما كان واحدًا من عدد وفير من كتاب العاصمة، الذين بهرتهم تلك الدجاجة،
فأرادوا أن يتقربوا منها، لكن دون جدوى.
رفض الدجاجة لمصادقة زملاء زولا من الكتَّاب، جعله يقطع على نفسه
عهدا، مفاده أن تلك الدجاجة ستكون صديقته هو وليس سواه. زاد في إصراره أنه
كان واثقا من نفسه شديد الثقة، وكان إحساسه بأن الدجاجة الملونة، ستكون
صديقته، هو تلك المقدرة على التعامل مع الأفكار الصعبة، وإمكانيته غير
المحدودة في السيطرة عليها والتمكن منها، عبر جرها من عنقها ووضعها على
صفحات مؤلفاته الكثيرة.
سار زولا مثلما فعل في أصباح أيام ماضية في طريق مدينته، منتصب
القامة، يردِّد لنفسه أنه ينبغي لمن يريد أن يحصل على ودِّ الدجاجة الملونة
خاصة، أن يرفع رأسه، إذ لا يصحُّ أن يخفض المرء رأسه، ويطلب في الآن ذاته
ودَّ دجاجة متميَّزة مثل تلك.
ثقة زولا بنفسه جعلت خطاه أكثر ثباتا على الأرض، فبدا مثل منارة
مضيئة في ليل قد يهمي فيه المطر، وقد يدفع بالأمواج للارتفاع، متقاذفة
سفينة تائهة هناك، لا ينقذ بحارتها، سوى رؤيتهم للمنارة الفرنسية المنتصبة
هناك.
عندما وصل زولا إلى أحد المفارق الرئيسية المفضية إلى السوق، راودته
أفكار سوداء قاتمة، فهل سيكون له ما أراد من مصادقته لتلك الدجاجة؟ أم أن
تلك الدجاجة العصيَّة "ستتعنطز" عليه، مثلما فعلت مع آخرين من أترابه
الكتاب؟ ومثلما فعلت معه هو نفسه. ولماذا يبعد عن ذاته؟ لقد بذل زولا مع
تلك الدجاجة ما لو بذله مع أصعب الأفكار وأشدِّها استعصاء، لاستجابت لطلبه
ولرفعت راية المهادنة، ولقالت له ها أنا ذي صديقتك الأبدية. بإمكانك أن
تصطحبني إلى حيث تشاء. نحن التقينا لنلتقي، ولن يكون بيننا فراق ابتداء من
اليوم.
أحس زولا بقطرة مطر تلامس يده، فشعر أن المطر سيهمي عما قليل، إلا
أنه مضى في طريقه غير عابئ بشيء ولسان حاله يردّد: تلك الدجاجة ستكون
صديقتي يعني ستكون صديقتي، وشدَّد زولا على كلمة صديقتي كأنما هو يعلن
إصراره على ما خطَّط له وفكَّر فيه منذ رأى تلك الدجاجة، ومنذ قرَّر خوض
معركة سبق وخاضها آخرون، دون أن يكون لهم ما أرادوا.
مضى زولا في طريقه، غير عابئ بقطرات المطر التي تساقطت بصورة متدرجة
في الشدة، من شديد إلى أشد، ابتلَّت ثيابه ولم يتوقَّف.
استرخت شعرات رأسه القليلة على صلعته ولم يتوقَّف.
ابتلَّت نظارته الطبية، ولم يعُدْ يرى ما فيه الكفاية ولم يتوقَّف.
كان يقوده إصرار هائل على المضي في طريق الدجاجة الملوَّنةِ ساحرةِ
كتَّاب باريس ومبدعيها، وكان متأكدا من أنها ستستجيب له في النهاية، وستكون
صديقته، وستمشي إلى جانبه مبهرةً الجميع بمشيتها الرائعة الجميلة،
ومقدِّمةً مثالا طيبا للعلاقة ما بين أفكاره الرائعة وألوانها الخلابة.
إيمان زولا بأن الدجاجة ستكون صديقته الوفية، جعله يندفع في طريقه،
مؤمنا بأنه سيكون الفائز الأوَّل في العاصمة.
صحيح أن تلك الدجاجة، استعصت عليه، وهربت منه مقأقئة كلما رأته
قادما باتجاه حظيرتها، وصحيح أنها رفضت سماع أي كلمة منه، كل هذا صحيح، إلا
أن الصحيح بالنسبة لزولا، هو أن تلك الدجاجة ستصادقه، وسيقع اختيارها عليه
من بين جميع كتَّاب العاصمة، ليس لأنه ذو عينين زرقاوين، وإنما لأنه مصر
على أن تكون صديقته، ومثابر على خطبه لودها.
مضى زولا في طريقه، ثابت الخطوة يمشي في شوارع باريس، وكأنما هو
ملك، بلله القطر، وكان كلما مضى إلى الأمام يبدو أكبر. كانت البيوت
والعمارات على جانبي الطريق تبدو صغيرةً مقارنة به. مضى زولا في طريقه غير
عابئ بما طاله من مطر، وغير نادم على أنه لم يجلب مظلته معه. ابتلَّ من
أعلى رأسه حتى أسفل قدميه، ابتدأت الأمواه تتدفق من قدميه مثل نبع وجد
طريقه للتدفق. في تلك اللحظة فقط، وفقط في تلك اللحظة، أحسَّ أنه امتلك
صداقة تلك الدجاجة واستولى على اهتمامها، فأحس بها تقأقئ في أنحاء مختلفة
من جسده، وتطل برأسها الملون الجميل من أنحاء جسمه كلها.
في تلك اللحظة ابتسم وهو يقطر مطرًا، وأدرك أنه يقف على مشارف تحقيق
حلمه، في مصادقة تلك الملوَّنة الجميلة، وانطلق حين وقف قريبا، قريبا جدًا،
من سياج الحظيرة يقأقئ. هنا في اللحظة للتو، انطلقت دجاجته الملونة من
مخبئها العصي، وراحت تقأقئ، وراح الاثنان يقأقئان معا، مدركين أن ما أراده
كل منهما بطريقته الخاصة قد حصل، وأن لحظة اللقاء الأبدي الفريد قد بدأت.
*
إميل زولا كاتب فرنسي بارز. كان يذهب إلى السوق يوما أو يومين في الأسبوع
لشراء الدجاج كمادة غذائية أساسية له. وله العديد من المؤلفات الروائية
منها: تيريز راكان، الأرض، والفريسة.
غرام
الجسد المسجَّى، هناك في غرفة الاستقبال في بيته، جسده هو..، ها هي
لحظة الافتراق.. الابتعاد عن كل شيء، عن اللوحة الناقصة، عن التربنتين، عن
الألوان والطلاء، تأتي. طالما ردد حينما خطر في باله ما يحصل الآن، أن هذه
اللحظة آتية لا ريب فيها، فعلا إنها آتية، بل ها هي تأتي لتفرح القلة،
وتحزن الكثرة. ها هو يرى القلة بالضبط مثلما رآها قبل خروجه من جسمه. ها هو
يرى زوجته وديعة، وأمها، أم الوديعة، إنهما هما الاثنتان فقط، من يمكن أن
يفرحهما رحيله، وديعة لأنها ستقبض مخصصاتها أرملة من مؤسسة التامين
الرسمية، وأمها لأنها سترتاح من نق ابنتها، على زوجها، ومن عدم رضاها عن
حياتها معه، ومن غرامه لألوانه وطلائه.
الجو حار، والغرفة تضيق برائحة العرق، والضراط، تختلط الدموع بقطرات
العرق، فتنتج رائحة كريهة، تدفعه لأن يغادر سريعا، تضع والدة وديعة يدها
على أنفها، إلا أنها لا تلبث أن تزيلها. ربما هي خجلت من أن توجه إليها
أخريات من الجالسات حول الجسد، نظرات الانتقاد، ربما هي تريد أن تقنع نفسها
بأن الرائحة هي رائحة الميت، مهما يكن هي لن تقتنع بعد رحيله، أن الرائحة
إنما هي رائحة ضراطها وضراط ابنتها، ومن يعلم، فقد ترفع رأسها شمما
واستعلاء، وهي تعرف من هي تمام المعرفة، تعرف أن المغص المزمن حينما
ينتابها، لا يغادر إلا حينما تبتعد عن الناس، وتطلق سراحه، فينساب مثل مادة
كيماوية، تنساب ناشرة في الأجواء رائحة مقززة، اعتادت عليها، لكثرة ما
الفتها، خاصة حينما كانت ابنتها تزورها فتنتابها حالة من المغص تشبه ما
انتاب والدتها منها، فتأخذ الاثنتان في التساؤل عن سبب الرائحة، مستبعدتين
في كل الأحوال أن تكونا هما مصدرها.
يا لطيف الرائحة ذات الرائحة، إنها ما اعتاد على استنشاقها مرغما
حينا وبخاطره حينا آخر، إلا أن جسده المسجى هناك، وفر هذه المرة، لحماته
وابنتها، أن تضعا كل يديهما على أنفيهما، ولو في محاولة لإقناع الذات بأن
ما صدر من رائحة عطنة طوال مدة نافت على الثلاثة عقود من الزمن، هي مدّة
وجوده معهما، إنما كانت رائحته هو ورائحة تربنتينه، وليست رائحة أي شيء
آخر. ها هي كل واحدة منهما على حدة، تجد الفرصة للتأكد من أن ما خطر لها
حول رائحته المقززة، إنما كان حقيقة وليس خيالا، رغم محاولاته المتواصلة
لإثبات براءته من تهمة انبعاث الرائحة الكريهة منه ومن ألوانه ولوحاته.
ينظر إلى الوجوه، إنها وجوه نساء أحببنه، كل منهنَّ أتت، حينما أتت
أول مرة، من ناحية، ولسبب يختلف، واحدة أتت لتتعرَّف إليه هو الفنان الذي
ملأ الدنيا وشغل الناس، أخرى وقع في طريقها مصادفة، فأعجبتها رومانسية
الفنان الكامنة في كل كلمة قالها. أخرى لم يمنحها الله الجمال، فأحسَّت
أنها الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تفهم فنَّانا. أخرى فشلت في بناء
بيت وأسرة، وفاتها قطار الارتباط، فسعت إليه، أثناء إحدى عمليات هروبه من
رائحة وديعة وأمها وهكذا...
يتنقل بين الوجوه المحيطة بجسده، إنه يعرف تمام المعرفة أن اللحظة
دنت، وأنه لن يرى هذه الوجوه مرة أخرى، بعد قليل سيأتي الشبان من أبناء
حارته، سيأتي من يعرفه ومن لا يعرفه، سيأتي الشبان الملتحون خاصة، سيرفعونه
على رؤوس الأكفِّ، وسيمضون به بعيدًا عن بيته، بعيدا عن وديعة وأمها، بعيدا
عن اللوحة هناك في الزاوية، وبعيدا عن صاحبات الوجوه، اللواتي أحببنه كلٌّ
بطريقتها الخاصة.
سيمضون به، ستأخذه أم اللُهيم، سيغيب في أحضان هند الأحامس، هناك..
هناك بعيدا عن وديعة وأمها، بعيدا عما ترسلانه من رائحة مزعجة..، بعيدا عن
ادعائهما أنه هو وتربنتينه، وليس سواهما من يرسل تلك الرائحة، حتى الآن في
لحظة موته، سيتجول في حياض غثيم، سيضع رأسه على جلمود صخر، وسوف ينسى كل ما
أنتجه من لوحات أثارت انتباه الجميلات الهائمات بالجمال وبأهله.
ماذا يقول؟ جميلات؟ لوحات؟ فن وأهل فن؟ أما مجنون هو!! كيف يغادر
تاركا وراءه هذا كله، كيف يترك لوحته في زاوية الغرفة ناقصة؟ ومن يدريه
أنها إذا ما اكتملت، حقَّقت له ذاته، وبينتها له على الأقل؟ فعلا هو مجنون،
هو لا يرى الجميلات من صاحبات الوجوه المحلّقات حوله، لا يراهن. بل يراهن..
ها هنَّ يرنون إلى جسده المسجَّى، لقد كسرنَ كل ما هو طابو ومحرم،
تمرَّدْنَ على قيودهن، على الأهل والحارة والبلد، وانطلقن إليه، إلى فنانهن
وحبيبهن، فان كوخ فلسطين، لا يهمهنَّ سوى أن يرينَ فنانهنَّ الملهَم في
لحظته الأخيرة.
الوجوه تكبر تصبح فاتنة، بالضبط مثلما أرسلت إليه نظراتها بخفر
وحياء ورفضت أن تدخل إليه في مرسمه، مع علمها ويقينها المكتمل بأنها دخلت
قبل أن تدخل، ودخلت دون أن تدخل. آه يا صاحبات الوجوه الجميلة.
يتنقل بين الوجوه، وديعة تصرخ رافضة الرحيل، أمها أيضا تصرخ، إنهما
تعرفان أن جسده الفاني سيغادر عما قريب، وأن ما أرادتاه تحقق أخيرا. لحظات
وينتهي كل شيء. لحظة ويبدأ زمن آخر، بدونه بدون رائحته النتنة. إنه يقرأ في
عيونهما ما سبق وقرأه عشرات وربما مئات وآلاف المرات، وهو أ،ه.. إنسان غير
مرغوب فيه، إنسان تنبعث منه رائحة التربنتين والطلاء، إنسان يعيش للوحته،
وليس لأي هدف آخر.
يتوقف، عند اللوحة المركونة هناك في زاوية الغرفة، وراء النسوة
المتحلِّقات حول جسده المسجَّى. اللوحة ما زالت ناقصة، إنه يعرف. يعرف مائة
بالمائة وألف بالألف وحتى مليون بالمليون، أنه عما قريب سيضع رأسه على صخرة
في حياض غثيم، وسيصبح جزءا من لون، أو من لوحة كانت، بل هي كائنة. أنه يعرف
هذا وأكثر، يعرف يعرف يا وديعة، يعرف يعرف يا أم وديعة، يعرف الدموع
الكاذبة، بالضبط مثلما يعرف الدموع الصادقة. يعرف العيون التي تحترمه
وتقدره، مقابل عيونكما، الناكرة لكل ما هو جميل فيه، له ولفنه الجميل. هذه
العيون تستحق أن ينتج لها لوحتها الخاصة بها، أن يكملها، وألا يتركها
ناقصة، فقد عرفته، عرفت أعمق أعماقه، وصلت إلى سحر اللون القابع هناك
فانبهرت به. من أجل هذه العيون، من أجل هذه الفتنة، ينبغي أن يعود إلى
جسده، ينبغي أن يواصل، عارفا مدركا أن الرائحة الكريهة إنما تنبعث منهما
هما الاثنتين، وديعة وأمها، ومؤكدا بما لا يتحمل الهزل، أن الرائحة إنما هي
رائحة ضراطهما وليست رائحة تربنتينه، ليعد إذا، ليعد وليثبت هذه المرة
بالدليل القاطع، أنهما هما مصدر الرائحة، وإنهما هما هما وليس غيرهما.
شعور فائض بالحياة، بحب اللوحة، وبمن أحبَّها من النسوة المتحلقات
حول جسده المسجى في غرفة الاستقبال، يدفعه دفعا للتمرد على إغماضة العينين
ومغادرة الجسد، وعلى كلِّ ما في الدنيا من قرارات بأنه انتهى وبأنه عما
قريب سيتلاشى، مثلما تلاشت أجيال سابقة من الفنانين، فائض من الشعور يدفع
به للعودة، لإكمال لوحتة الناقصة.
ها هو يشعر بنفسه، يندفع عائدا إلى جسده، بالضبط مثلما اندفع خارجا
منه، ها هو الجسد يتحرك، يفتح عينيه، يمسح على يديه ويشرع في إزالة كفنه عن
جسده. حالة من الدهشة تنتاب الجالسات حول جسده، يرسل إليهن ابتسامة يريدها
أن تكون مطمئنة، يتوجَّه إلى وديعة يطلب منها شربة ماء، تنهض هذه من
مجلسها، تسير باتجاه حنفية الماء في المطبخ، تتبعها أمها، وديعة تطلق سراح
ضرطة حاولت إطلاقها بالتقسيط، منذ وضع جسده في وسط غرفة الاستقبال، تتبعها
أمها مطلقة ضرطة مدوية هذه المرَّة.
حلم ليلة عباسية
قرب شجرة الكينا، في وسط المدينة، ليس قرب شجرة الكينا القائمة،
وإنما تلك التي كانت، سمع ضرار صوتا تمنى سماعه منذ فترة لا يكاد يتذكرها،
لبعد الشقة بينهما، الصوت جاء من الناحية الأخرى للشارع، مثل أغنية حملت
أمجاد الأمة العربية كلها.
كان الصوت مطربا ناعما منعشا للروح:
- ضرار.
منذ فترة لم يناد أحد عليه في هذه المدينة العاقة، بمثل هذه
الرهافة، ضرار اسم جميل، من قال إنه سيئ؟ خاصة إذا ما فاه به فم ذهبي.
أسماؤنا تصبح أحلى إذا ما نطق بها من نحبهم أو نتمنى أن نستمع إلى أصواتهم،
فعلا اسم ضرار اسم جميل، الحمد لله أن والده اختاره له.
تكرر الصوت: ضرار.
أرسل ضرار نظره باتجاه الصوت، إنه لا يكاد يتبين صاحبته، لعن الله
خفة النظر، لو كان يرى كما ينبغي، لعرف على الأقل من هي صاحبة الصوت الناعم
الأثيل.لكن لماذا عليه أن يعرف، وهل يوجد في الناصرة أكثر من مبدع اسمه
ضرار؟ إنه ضرار واحد، جاء أهله من قرية مهجرة، قبل ولادته بسنوات، وها هو
يتوقف قرب شجرة كينا كانت، ليستمع إلى صوت تمنَّى سماعه في ليل وحدته
المتواصل. يللا يللا يا ضرار ارفع يدك، أشِر لها، لصاحبة الصوت، أشعِرْها
أنك استمعت إلى ندائها، قل لها، دون أن تقول، إنك ستمضي إليها بعد انقطاع
سيل السيَّارات بينكما، وإنك أنت أيضا كنت بانتظار أن تراها في هذه
الصحراء، وليست هي فحسب. ارفع يدك ارفعها أعلى أعلى أعلى، ارفعها لتطال بها
السماء السابعة، هي المرأة يا ضرار، هي المرأة، ارفع يدك ارفعها، ارفعها
عاليا لتصل إليها.
ضرار يرفع يده يلوح بها، إلى صاحبة الصوت الناعم، في الناحية
الأخرى. يلوح بشدة كأنما هو لا يريد أن يفوِّتَ لحظة فرح دون أن يعيشها إلى
أقصى مدى، يلوِّح بشدة، بهمة شباب ابتدأ يشعر باحتياجه إليها، يلعن دين
السيارات. السيارات تفصل بينه وبينها، أهل الناصرة يحبون السيارات. كل واحد
عنده سيارة أو يريد أن يكون عنده. لو كان حاكما لأمر أهل مدينته بأن يعودوا
إلى الخيول العربية وأيامها الرائعة، ربما لهذا هو لن يكون حاكما، ربما..
سيل السيارات يتواصل، مؤكَّد أن السيارات تتآمر عليه، وإلا لكان
انقطع خيطها قليلا، كي يتيح له أن يطير إلى الناحية الأخرى، إلى حيث هي
تلوِّح له.
يرسل إليها في ناحيتها، نظرة محب متيَّم كابد الشوق حتى عرفه. إذا
كان سيل السيارات لا يتيح له الوصول إليها فليمتع ناظريه برفعها ليدها،
وليشنف أذنيه بالاستماع إلى صوتها يلهج باسمه. يا الله ما اشدَّ الشبه بين
ما في داخلها وبين ما في داخله. لا بد أنها واحدة من المعجبات به، هو ضرار
المبدع الكاتب، وربما تكون واحدة من تلميذات صغيرات علمهن كتابة القصص في
إحدى المدارس، وانتظرت حتى كبرت، فجاءت إليه لتعبر عن رغبة واصلت التمرد
تحت عقد من الزمان حتى حانت لحظة انعتاقها.
يحاول ضرار أن يقطع سيل السيارات. يقدم رجلا ويؤخر أخرى. لو تجرا
أكثر لضربته سيارة مصرَّة على منعه من الوصول إلى المرأة، ولفقد الحلم بعد
أن لامسه بنظره الخفيف وبأذنية المرهفتين. لينتظر، لينتظر قليلا فمن انتظر
كل هذه السنوات، يمكنه أن ينتظر لحظات. فلينتظر، وليشبع من اللحظة اللائحة.
ثم ما دامت صاحبة الصوت هناك في الناحية الأخرى، تلوح بيدها، فإن الدعوة ما
زالت مشتعلة، ولا بد له من أن يشعلها هو من ناحيته.
ضرار يغمض عينيه ويصم أذنيه، يتلهى، حتى تحين اللحظة وينقطع السيل
السياراتي، فينطلق إليها، انطلاقة سهم عربي شق العصور. يغيب في عوالم قرأ
عنها في الكتاب الأثير على نفسه"ألف ليلة وليلة". يتصوَر نفسه هارون
الرشيد، ويتصوَّر صاحبة الصوت زوجة الرشيد زبيدة. من المؤكد أنه حين سيقطع
الشارع، سينعم بليلة عبَّاسية.
ضرار يشعر أن سيل السيارات خفَّ قليلا. يفتح عينيه، يضع قدمه
اليمنى. يضع خطوة أولى على الإسفلت، يرسل عينيه إلى الناحية الأخرى، يرى..
إنه يرى فعلا.. يفرك عينيه، يا للهول، إنه يرى، فعلا يرى شابا في أقل من
نصف عمره، يصل إلى حيث وقفت صاحبة الصوت، يتعانق الاثنان، ويمضيان بعيدا،
تاركين ضرارَ مهجورا قرب شجرة الكينا في وسط مدينته، بالضبط مثلما كان.
جسم الخوف
الليل كان باردًا صقعا في بيت العم أبي قاسم. كان البيت يبدو في سفح
الجبل، كأنما هو الوحيد في العالم. في الداخل، تحرك أبو قاسم على سريره،
فتحرَّكَت عصا صيد النياص لصقَه. شمَّ رائحة زوجته المغادرة دون اعتراض
حقيقي. بدا القلق على وجهه مثل علامة سؤال لامتناهية.
ترى ماذا تفعل أمُّ قاسم الآن، في بيت والديها في الجبل المقابل؟
ولماذا هي استسلمت للحظة غضب فأخذت ابنهما وغادرت، تاركة إياه وحيدا يقاسي
الليل وأشواق البعد؟ لماذا هو لم يمنعها؟ لماذا لم يواجهها؟ ولماذا لم
يواجه خوفه؟ أوَلم يكن الأجدر به أن يقتحم دائرة خوفه؟ أن يقنعها أو تقنعه،
وأن يضع حدًّا لعذاب طال مداه، وضاقت به النفس؟ أبو قاسم يعرف أن ما يجمع
بينه وبين حبيبته المغادرة مصطحبة فلذة القلب، أكثر بكثير مما يفرق، فلماذا
هو استسلم وتقبَّل انسرابها، تقبُّلَ صيادٍ عجزَ عن مواجهة نيص، تحفز لقذف
أرياشه في لحظة مواجهة. لماذا هو تقبَّل ما حصل ولم يفعل شيئا، أوَلم يكن
الأجدر به أن يتحرَّك، أن يفعل أي شيء يبقي الأمور تجري في أعنتها؟
كان أجدر به أن يواجه ترددَه، أن يبذلَ مجهودا، بدل تركها تغادر دون
مواجهةٍ تُذكر. لا لا ما كان عليه أن يدع حليلته تغادر.
استولى عليه شعور جارف بالثقة بالنفس، بالقدرة على المواجهة. هرع من
فوره إلى باب بيته المطلِّ على بحر من الظلام ناشدا نور اللقاء.
في الباب أحس بالبرد يزداد، وزأرت الرياح، ناشبة أنيابا مدماة في
كل اتجاه، فارتدَّ إلى الوراء. تناول مِعطَفَهُ بسرعة ووضعه على كتفه، ثم
ما لبث أن أحسَّ بالمزيد من البرد، فادخل يديه، في ردني المِعطَف.
شعور بالدفء يجتاح أطرافه. برزت أمام عينيه صورة عقيلته وابنه قاسم،
مناديا سائلا إياه: لماذا تركتنا يا والدي نغادر؟ لماذا تركتنا نبتعد عنك،
لماذا لم تواجه مشكلة الخلاف بينك وبين والدتي؟.
اندفع أبو قاسم إلى خارج البيت، بلغ سمعه نباح ضباع تحمله الرياح.
رغبة شديدة في المواجهة دفعته للخروج. مؤكَّد أنه لن يكون وجبة لضباع
الجبال، إنما هو سيواجهها. سيصل إلى بيت حميه وسيتفق مع رفيقة دربه،
وسيعودان إلى بيتهما يرافقهما ابنهما، لتدبَّ الحياة فيه مجددا وليغادره
البرد إلى لا رجعة.
هو لن يكون بأية حال واحدًا ممَّن ذهبوا، من أبناء قريته "سيرين"،
وجبات هنيئة مريئة للضباع، بل سوف يصل إلى بيت حميه، وسيكون له ما أراد.
ارتدَّ أبو قاسم إلى الوراء.
دخل إلى بيته، تناول عصا صيد النياص، أحكمَ يدَه على قبضتها، بدت
ملامح قوة خارقة على وجهه. الضبع لن يمنعه من الوصول إلى زوجته وابنه. لكن
لنفرض أن الضبع خرج لك من مغارته، ماذا ستفعل يا أبا قاسم؟ لا ادري، سأدع
هذا للظروف، ما أدريه هو أنني يجب أن أصل إلى حيث أريد، ولن يمنعني لا
الليل ولا الضبع. ولنفرض أن الضبع فاجأك؟ قلت لا ادري، ما أدريه أنني سأصل
وسأعود برفقة زوجتي وابني. وإذا حال الضبع دونك ودون الوصول؟ أهشِّمُ رأسَه
اسحقُه سحقا. يجب أن أزيل الخلاف مع زوجتي، ويجب أن أعيد الدفء إلى بيتي.
هذا كل ما أدريه. غير هذا أنا لا أعرفُ شيئا. شدَّ على العصا بيده: لن أعود
إلى الوحدة والصقيع، بعيدا عن غاليّي، مهما كلَّف الأمر.
انطلق أبو قاسم يضرب في شعاب الجبل، ضرب العارف المحب، وكان كلما
علا عواء الضباع، أحسَّ أنه يقترب منها، وأن ساعةَ المواجهة آتية لا ريب
فيها.
ليكن. أبو قاسم لن يتراجع، فحبيباه هناك خلف الظلام، ولا بد له من
الوصول إليهما. ثم إنه إذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العار أن تموت جبانا!
أقدِمْ يا أبا قاسم اقتحِمْ المصاعب، ومن بإمكانه أن يقتحم المصاعب مثلك،
أنت يا من صاحبت الليل، البرد والصقيع، فألفتهما؟ أقدِمْ، فإما حياة تسر
حبيبيك هناك في الجبل الآخر، وإما ممات يغيظ الضباع.
قوة هائلة اجتاحت أبا قاسم، اندفع اندفاعة بطل قادر على مواجهة
الأهوال، وصائد تمرَّس في صيد النياص. عثرت قدمه بحجر لم يره لشدة الظلام.
وقع على الأرض. رفع رأسه، بادره جسم غريب كبير، أكبر من جسم الضبع
بكثير. أحسَّ بكتلة من شعر ناعم تلامس وجهه. عبقت في الجو رائحة غير مألوفة
مُسكرة، لم يشم مثلها في حياته. شعور بالنهاية اجتاح أطرافه. صار كتلة من
الخوف. نظر حوله لم يرَ شيئا. كبرَ الجسمُ الغريب. أصبح بحجم الجبل. ابتعد
عنه. أرسل همهمات هي الخوف عينه. اندفع باتجاه الجسم الغريب، اندفع الجسم
الغريب موغلا في قلب الجبل، واندفع أبو قاسم وراءَه دون معرفة منه، كأنما
هو كتلة خوف تريد أن تتَّحدَ بأصل انفصلت عنه للتو، فبدا الاثنان كأنما هما
يتجاذبان للاتحاد في كل واحد.
ركض الجسم الغريب، وركض أبو قاسم وراءه. لم يعد أثناء الركض أهمية
للمعطَف، ولا للعصا، ولا لأي شيء. قذف أبو قاسم أشياءه كلها من عليه، واحدا
وراء الآخر، فعري أو كاد، وكان كلما ركض أحسَّ برغبة أكبر في أن يصل إلى
مُبتغاه، كي يتَّحد بالكُل، كان لا بد له من أن يكون جزءا منه.
ركض الجسم وركض أبو قاسم وراءه، كانا يتجنبان ما يعترض طريقهما،
كأنما هما يعرفان إلى أين هما منطلقان، وما هي غايتهما. كانا متفاهمين، دون
أن يتفاهما، ومتفقين دون أن يتفقا. كل ما هم أبا قاسم في تلك اللحظة، هو
أن يصل إلى قلب الخوف، خوفه، وأن يواجهه ويتحد فيه.
الاثنان يركضان، الخوف الأوَّل، يخترق الظلام دون أن يلتفت إلى
الوراء، والخوف الثاني يفعل الأمر عينه. لقد اتفقا على أن يتحدا مرة وإلى
الأبد، اتفقا على أن يتداخلا، تداخل الروح بالجسم، ضمن عروة لا تنفصم إلا
بانفصام مجدَّد، يبعد الروح عن الجسم، أو الجزء عن الكل.
لكن متى يتداخلان؟ متى ينتهي هذا البعاد غير المبرَّر بين عضوي
الجسم الواحد؟ متى يتحد أبو قاسم في كله الراكض أمامه. كان أبو قاسم كلما
ركض أكثر، شعر بهذه الرغبة تزداد، وبقي يركض، وكله يركض أمامه، إلى أن وصل
كله إلى مغارة منخفضة الجبهة، وانسرب فيها، جاذبا وراءه أبا قاسم، وهوب..
ارتطمت جبهة أبي قاسم بجبهة المغارة، فاهتز جسده اهتزازة شديدة، وانتفض
الجسد في محاولة لاستعادة الحياة المغادرة.
مد أبو قاسم يده إلى جبهته، شعر بلزوجة تعلوها. أدنى يده من عينيه.
رأى عليها دما. إنه دمه، إنه هو من يقف في باب المغارة، كانت هذه إذًا ذروة
المواجهة.
ارتدَّ أبو قاسم إلى الوراء.
ركض باتجاه بيت حميه، حيث زوجته الغاضبة وابنه، بالضبط مثلما ركض
وراء ذلك الجسم الغريب.
ركض وركض وركض، وبقي يركض إلى أن تراءى له ضوءٌ ينبعث من بيت بعيد،
هناك في الجبل المحاذي. إنه بيت حميه، كان متأكدا من ذلك، لهذا غذ الخطى
وكان كلما تراءى له وجه رفيقة دربه وسنده في الأيام القادمة غذ الخطى
أكثر، إلى أن وصل.
بقاء الياسمين
أرسلت أمي ذات صباح نظرة ذات معنى، وقالت:
-اسمع يا ولد.
أحسست في صوتها برنَّة غريبة، لم أسمع مثلها سوى مرتين في حياتي،
كانت الأولى قبل نحو الثلاثة عقود، يوم طلبت مني أن استيقظ، فاستيقظتُ
لأجدَ أبي وقد مات. وكانت الثانية يوم أخبرتني أن أختي المقيمة في بلدة
أخرى، بعيدة عن الناصرة، قد احترقت.
دق قلبي بخشية:
-نعم يا أمي.
-اسمع يا ولدي. لقد كبرتُ، وأنا لا أريد أن أكون عبئا على أحد. يوم
الخميس سأذهب إلى البلدة، سأزور مكتب الشؤون الاجتماعية، وسوف أسأل هناك ما
إذا كان بإمكانهم أن يرسلوا إلي من تقوم بمساعدتي. إذا كان بإمكانهم
مساعدتي سأبقى في هذا البيت، أما إذا لم يكن بإمكانهم، سوف أطلب أن يأخذوني
إلى ملجأ للعجزة، في مدينة طمرة، تأميني الشخصي يغطي تكاليف مكوثي، لا أريد
أن أضايق أحدًا. سأبقى هناك حتى أموت.
صمتت أمي وران صمت على الغرفة. فهمت من صوتها أنها تريد أن تقول
كلاما آخر غير ما قالته. ترى ماذا أرادت أن تقول؟ أتراها أرادت أن تمتحن
قدرتي على فراقها؟ أم أرادت أن ترسل كتاب عتب إلى أختي، المقيمة في بلدة
أخرى وتلك المقيمة بالقرب منها، وربما إلي والي زوجتي المتمردة وأخوي
وزوجتيهما؟
سألتُ امي:
-لماذا تقولين هذا الكلام؟
فردَّت:
-أنت تعرف أنني قضيت عمري لا أحتاج أحدًا، وها هو المرض يهدمني. علة
الموت يا ولدي لا علاجَ لها.
-لكنك مريضة يا أمي، ولستِ أول من يمرض ولا آخرَ من يمرض. ثم أن
الله خلق الطبَّ والدَّواء.
-أي دواء يا ولدي وأي طب. الموت هو مصير كل إنسان.
فهمت ما أرادت أن تقوله، إلا أنني تغابيت شأني في مثل هكذا مواقف:
-أعطني يا أمي يومين أو ثلاثة أيام حتى أفحص ما يمكن أن أفعله.
وهزت أمي رأسها علامة الموافقة. وسمعتها وأنا أخرج من بيتها تتمتم
كلاما مفاده: لمن سأتركك يا مهجة قلبي، لزوجة ظالمة أم لحياة لا طاقة لك
بتحمل ظلمها؟
ومضيت أحمل أحزاني وتخوُّفاتي. مضيت خارجا من البيت، لا أعرفُ إلى
أين أتجه ولا ماذا أفعل. أمّي فجَّرَت حزنا خشيتُ منه طوال أيّام حياتي،
وها هي تدفعه لأن يطرق أبواب قلبي.
سرت في الشارع كان حزينا إلى أقصى درجات الحزن، مدَدْت يدي إلى
شجيرة ياسمين استرخت على سور أحاط به الجيران بيتهم. شعرت أن الياسمين
حزين. ترى سيأتي يوم أيها الياسمين ولا أراك، ترى أتكون هذه آخر مرة أم من
أواخر المرات، لولا وجود أمي في هذا البيت ما أتيت إليه، وما أتيت إلى هذا
الحي. وتصوَّرْتُ دمعة تهمي من عيني الياسمين، وبغصَّةٍ في حلقي. إلى أين
سأذهب تاركا هذا الياسمين؟ إلى أين سأذهب. في الماضي كانت هناك شجيرة
ياسمين، تسترخي على بيت أصدقاء لي في بلدة مجاورة. بقيت الشجيرة فترة من
الزمن بعد رحيل بعضهم عن دنيانا، وبعضهم الآخر عن بلادنا، وبعضهم الآخر إلى
عالم الشيخوخة أو المرض. بعد فترة من الزمن جاء من اجتثها، كي يقيم بيتا
جديدا هناك. صدقيني يا أمي أن الشجيرة ما زالت ماثلة هنا في الذاكرة، وأن
رائحتها ما زالت تعبق في روحي كلَّما مررتُ من هناك. فاطلبي يا أمّي من
شجيرة الحارة أن تبقى حتى لا تتكرر الأحزان، اطلبي منها أن تتريَّث قليلا.
اطلبي منها.
ومضيت لا أعرفُ إلى أين أذهب، وبي رغبة في أن يبقى الياسمين، في أن
ينشر رائحته الذكية في البيت والحارة والبلدة. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ وإلى
أين اذهب في هذا الصباح؟ ماذا أفعل يا إله الكون يا فاطر الليل والنهار.
ماذا أفعل؟ أَذهب إلى أختي في البيت القريب؟ أَستجديها أن تحدب على أمي كما
رعتها أيام كنَّا صغارا؟ أم أَذهب إلى زوجتي أخويَّ؟ أم أَذهب إلى زوجتي؟
إلى أين أَذهب وماذا أَفعل؟ ماذا أَفعل وأنا أعرفُ الأجوبة مسبقا؟ أأبقى
بانتظار أن يأتي يوم الخميس؟ وأن تنتهي الأشياء من تلقاء ذاتها؟ أم أحرق
روحي رجاء ضوء لا يأتي؟
أعرفُ أن أمي أرادت أن تحضرني للحظة الأصعب في حياتي، وإلا لماذا هي
اختارتني من بين الجميع لتخبرني بما أخبرتني به؟ أعرفُ أنني أعزُّ عليها
وأنها تعيش حتى هذا الوقت، ولم تسأم تكاليف الحياة من أجلي أنا طفلها ابن
الخمسين. هي لم تخفِ إحساسَها وقالت، لابنتيَّ الشابتين يوم تكرَّمتا
وزارتاها، إنها تحبُّني أنا أبوهما، وأنها لولا وجودي إلى جانبها لكانت
ماتت منذ فترة بعيدة.. من زماااااان.
يا ألله أتكون أمي حملت كل هذه الأحزان ولم ترني بعضها إلا بعد أن
هدَّها المرض؟ أم أنها أرادت أن تقول لجميع أفراد العائلة، إنها عاتبة
عليهم، ولا تريد منهم إلا أن يتركوها تغادر عالمهم هذا بصمت؟ بالضبط مثلما
عاشت طوال أيامها ولياليها بينهم؟ ما أقسى هكذا إحساس، ما أقسى أن تكتشف أن
إنسانا عزيزا عليك يعاني، بعد فترة من المعاناة. آخ يا أمي، ماذا بإمكاني
أن أفعل، أنا الرجل المطرود المبعد المهزوم ليل نهار، إذا ذهب صدرك من أين
أجد صدرًا آخرَ يتسع لي، لأحزاني وشقاواتي.
أحقا أمي تريد أن تحضِّرَني للحظة القاسية المرة؟ ولم لا؟ إنها
تحبني ولا تريد أن ترى دمعة في عيني حتى لو كان هذا بعد رحيلها. أنا أعرفُ
كم هي رحيمة بي، وكم يؤلمها ألمي. أعرفُ هذا جيدا. هي إذن تريد أن تكتشف
مدى رغبتي في بقائها. كيف غاب هذا عن ذهني المكدود؟ كيف؟ ما أغباني، ما
أغبى الإنسان فيَّ؟ لماذا لم تخطُرْ في بالي هذه الخاطرة؟ فعلا أمي تريد أن
تعرف مدى رغبتي، أن تمتحن قوة إرادتي، فهل أوافق على أن أبتعد عنها؟ هل
بإمكاني أن أعيش بدونها؟ إذا كان بإمكاني، وهذا يتجلَّى في موافقتي على
ذهابها إلى مكتب الشؤون الاجتماعية يوم الخميس، فإنها ستذهب من هذا العالم
مطمئنة، وإذا لم أوافق، فإنها ستبقى على مضض ومن أجلي.
في تلك اللحظة فقط، عرفت إلى أين سأذهب، الآن الآن وليس غدا سأذهب
إليها، إلى أمي، سأذهب إليها هناك في بيتها، وسأقول لها، أنتِ لن تتحرَّكي
من هذا البيت، ستبقين هنا ما بقي الياسمين، وأنا وليس سواي من سيساعدك، أنا
من سيكون إلى جانبك يا أحبَّ الناس إلى روحي ويا أقربهم إلى قلبي.
الصرصار
صرير ضيفها الصرصار، وراء الغسالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلها
ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسد زوجها الملقى على السرير إلى جانبها،
جعل الليل عبئا ثقيلا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل من الخروج إلى غرفة
الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من
الوحدة، مهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتو.
بعد ثوان، حملت جسدها، كأنما هو جثمان ميت يسبح في سديم الكون،
وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع
نظرها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود
ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأب يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك
الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصرصار،
بصريره وبمواساته لها.
ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثل
ضيف ثقيل، لا ليس ثقيلا، ابتدأ عهدها به، ليلة صحت على صريره، إثر مغادرة
زوجها للبيت قبل أشهر.
حين شعرت بوجوده بحثت عن قبقاب خبأته في الجوارير القديمة، حتى
وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به،
إلا أنه كان أكثر ذكاء وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...
في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في
البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقا الليل.
فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجها حاضرا
غائبا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمردة
على المجهول، كما فعلت دائما. الفكرة الأخرى، تمثلت في الاستماع إلى صرير
الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي
الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر،
أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟
فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها
أصلا، ألم تغضب يوم فضل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا
لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في
الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من
الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له
علاجا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟
في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت
نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما
يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار،
استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلا مهلا ابتدأت تألف صريره، بات
صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا
باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره
الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرا معزوفتها بعد طول
انتظار.
الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسالة، باتت ذات
رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغير.
وطرق الأمل بابها مجددا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس
النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسالة، ولم يكن هذا يخلف ميعاده معها.
كان ما أن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يرسل صريره موقظا أجمل
ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت،
محافظتها على روحها، وزاد في محافظتها هذه، أنها أحست أنه يوجد بالصَّرصار
مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل من يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي
بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ
من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!
هكذا بات صديقها، سلوتها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت
تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في
غرفة الاستقبال، حتى يتوقف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع
جيدا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا
بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي
حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت من يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومن
يناجيني، من يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها
يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدهما الآخر وينتظره حتى ينهي كل ما
لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع
إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرا حينما تتحدث عن
شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان
يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.
حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة
الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعة كادت
أن تخبو وتتلاشى.
مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائما للقاء
الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ
الضوء، فينتشر جو شعري ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصا في
غرفة الاستقبال. وما أن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى
الأريكة، على يدها تحديدا، ما أن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها
صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض
عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر
من زبرجد، فتمدّ يدها مرحبة به ومهللة.
أمّا حينما كانت تريد أن تتحدث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها
إلا أن تتحرك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرا أن تفيض نفسها بما
اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل
على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تصارحه
بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت
أن تقوله أمام أي من الناس، وربما أمام ذاتها. هي نفسها، لم تكن باختصار
تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوت عال، وكان أشدّ ما يسعدها هو أنه كان
يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في
صحراء حياتها.
ونشأت مع مضي الوقت، لغة مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما،
كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.
*
استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت
رأسها على وسادتها الخاصة، هيأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة
النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه
الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدة مثل كتلة وحيدة تسبح
في سديم الكون، ها هو يوغل في سباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما
يفترقان مجددا، وها هو كل لقاء يتحول إلى ظل للقاء، لا معنى له.
تحركت على أريكتها. رفعت صوتها هامسة بما بها. اقتربت من غرفة
الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديق ليلها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عما
بها من ألم.
في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمام. كان واضحا أن حاجته
أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمام، سألها عمَّا
إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمَّام وأحكم إغلاق
بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقا صمت
البيت، ومواسيا إياها في وحدتها الرهيبة.
صاع الساحر
آه لو كنت معنا، أنا وسليم، عندما اتخذ كل منا مجلسه قبالة مكتب
والده. كنا أشبه ما نكون بطائرين غريبين حطا على نافذة سحرية ندر أن تقف
عليها الطيور، وربما انعدم، لقلة ما تركته من مخلفات، سواء كان من القش أو
من الشخاخ.
قبل أن ندخل إلى الغرفة، تردد سليم في الدخول، وتوجه إلي قائلا، ألا
يمكننا يا كمال، أن نذهب إلى مكتبة الرملاوي؟
لم أردّ عليه، لا أعرفُ لماذا، ربما لأنني كنت مفلسا كعادتي، ولا
أملك النقود الكافية لشراء الكتب. قوة لا أعرفُ من أين تأتي تجذبني كلما
التقيت بسليم، لأن أرافقه لزيارة والده، أنا أشبه في هذا بنحلة جذبتها
بقايا زهرة ذاوية.
سليم كان دائما يقول لي إنني إنسان أعرفُ كيف أدمر ذاتي بالكتابة
والقراءة، رغم أنه كان أقطع مني في هذا المجال، وأنا كنت أرد عليه، قائلا
وأنت اسم الله عليك، أنت تعرف كيف تتفنن في جلد ذاتك، وكنا نردد يلعن دين
الثقافة والمثقفين، كما كنا نسب الفقر ونلعنه في سرنا. هل كان هذا ما يجرنا
إلى والده، صديق السحرة، صاحب الأملاك الكثيرة والعقارات.. المتحيّن.
أبو سليم أرسل كعادته نظرة متشفية نحونا، أفادت أنه يرثي لحالنا،
نحن المثقفين الراكضين وراء وهم سرابي، نظر إلى ساعته. قبل أن يفتح فمه،
دخل إلى الغرفة، رجل ذو شاربين يمكن أن يقف عليهما صقران، دون أن تهتز لهما
قصبة.
هلل أبو سليم به ورحب، أهلا أهلا بساحرنا الجميل، وتوجه إلينا هذا
هو الساحر، إنه يقرا الحظوظ ويعرف ما يخبئه المستقبل، وغمز بعينه، مضيفا
خاصة للغامضين من المثقفين، أولئك الذين يعزفون عن الدنيا ويتركون همومها
لنا نحن المعذبين في الأرض.
تكهرب الجو، لا أعرفُ كيف ولماذا. نحن الآن أمام ساحر، صحيح أننا لا
نؤمن بالسحر، أنا على الأقل، لكن ما يدريني أن هناك سحرا وجنًّا وأباليس
أيضا؟
زاد في تكهرب الجوّ أن صاحب الشاربين، اتخذ مجلسه في موقع قريب من
مكتب أبو سليم، على العكس منا نحن الاثنين حينما اكتفينا بالجلوس قبالته
بانتظار ما لا ندريه.
لم يكن بالإمكان في مثل ذلك الموقف، لأي منا أن يتحدث فنحن لا نعرف
الساحر، ثم ما أدرانا أنه يمكن أن ينصب لنا فخا لا نخرج منه بسهولة؟ الصمت
كان أفضل. تواصل الصمت مدة دقائق وكان من الممكن أن يتواصل إلى ما لا
نهاية، لولا مبادرة قام بها أبو سليم، حين توجه إلى الساحر طالبا منه أن
يقرأ له طالع ابنه سليم.
في تلك اللحظة أشرق وجه الساحر فقد جاء وقته، وبإمكانه أن يضرب خبط
عشواء، ولمعت على خديه حمرة غريبة فيما بدت عيناه مثل بحيرة لا حدود لها،
أما سليم فقد التصق بي، يريد أن يأتنس، وألاّ يشعر بأنه وحيد. فتح الساحر
فمه، فظهرت نواجذه لامعة كأنما هي اعتادت على قرض اللحم الإنساني، وربما لم
توفَّر لحما في حياتها، سواء كان لإنس أو لجن. توجه نحو سليم، ناظرا إليه.
توتر سليم، نقل الساحر عينه عنه، أرسل بها إلى مسافة أبعد منه كأنما هو
أراد أن يشمله وأن يذهب إلى أبعد فأبعد منه، منا ومن الغرفة، كأنما هو يريد
أن يخترق حجاب الغيب، وأن يقرأ طالعا ما زال حتى تلك اللحظة في ظهر الغيب.
تزحمل سليم في مجلسه. حاول الاحتماء بي، ابتعدت بصورة تلقائية، أنا
لا أحب أن يلتصق بي أحد، حتى لو كان صديقي.
أبو سليم بقي صامتا، كذلك الساحر، بدا الاثنان وكأنما هما متواطئان،
وأنهما رتبا للعبة، دون أن يرتبا، ونسجا أطراف مؤامرة دون أن ينسجا، مبديين
قدرة رهيبة على الاتفاق، دون أن ينطق كل من منهما كلمة واحدة ودون أن
يمهدا!!
انفتح أخيرا فم الساحر، كان من الواضح أنه يمتلك قدرة غير محدودة
على الدواوين، تدفق الكلام من فمه أولا ببطء. وجه سؤالا إلى سليم وهو يغمز
بعينه، رافعا حاجبه، أنت تحب النساء هه؟
أطبق صمت على الغرفة. حاول سليم أن يتحرك في مقعده. بدا راغبا في
مغادرة الغرفة، بل إنه فتح فمه يريد أن يقول إنه يريد أن يذهب إلى
الحمَّام، أو إلى أي مكان آخر يبعده عما توقَّع حدوثه من فضيحة أمام والده
وأمامي، إلا أنه بقي في مجلسه لا يريم. لم ينقذه من موقفه إلا قول الساحر،
صحيح أنك تحب النساء، هذا واضح، واضح جدا، واضح من فضائك الروحي، إنني أقرا
هذا بوضوح، لكن يؤسفني أن أقول لك إنك ستكون فاشلا مع بنات حواء، وإن واحدة
منهن لن تكون لك. أنت فاشل يا سليم، لماذا أنت تخجل من فشلك؟ لماذا..
بدا سليم كمن سيغمى عليه، انسد وجهه وبقي منشدا. لم يكن أمامه سوى
انتظار معجزة تنقذه مما أوقعه به والده. هل كانت أعمال والده هذه هي التي
تجعله يتردد في زيارته؟ هل كانت هذه الأعمال هي ذاتها التي تجذبني إليه
لاكتشاف عوالم خبيثة وغير مرئية أحبُّ أن أراها. قد يكون الأمر كذلك.
عوالم أبي سليم بدت في تلك اللحظة متوترة متوفزة رغم ما بدا عليها
من هدوء عواصفي، وكان لا بد له من أن يفعل شيئا، ما أن بدا عليه ما بدا،
حتى توجه نحوي، مرسلا نظرة تهديد ووعيد، مرفقا إياها بابتسامة غامضة. انتقل
بعد قليل إلى الساحر مبتسما وطالبا منه أن يقرأ طالعي.
تهللت أسارير وجه الساحر لشعوره أنه وتّر الأجواء وأدخل عليها ما
أراد أن يدخله إلى حيوات آخرين ممن يقعون في طريقه، وتوجه إلي. لأول مرة
لاحظت أن شعره منفوش وأن عينيه واسعتان، وأسنانه ناصعة البياض، كأنما هي
جاهزة لمواصلة التهامها للحوم البشرية. بدا أنه شعر ببعض ما شعرت به، إلا
أنه تجاهل. السحر هو سر الحياة، لماذا أنت تمتلك كلَّ هذه القدرة على إغواء
النساء؟ أنت تعرف كيف تغوي هؤلاء، إلاّ أنك تحتاج إلى جرأة وإقدام، لماذا
أنت جبان إلى هذا الحد؟ على الإنسان، إذا أحب، أن يعلن عن مشاعره، وإلا
فإنه سيكون جبانا وستنفضّ من حوله الحسان. وانتصب القسم العالي من جسم
الساحر، لو كنت أكثر جرأة لكنت مثالا يحتذى في عالم الإغواء، إلا أنك جبان
هيّاب غير مقدام. أنت تضيع عليك فرص العمر، ومع ذلك تندب حظك. آه لو كنت
تمتلك الجرأة لكنت من العشاق البارزين في حياتنا ولركضت الحسان وراءك تطلب
ودّك وتنشده.
عند إطلاقه هذه الكلمات، ابتدأت في الغياب. لم اعد أرَ سوى فمه يغلق
ويفتح، وأسنانه تنهش في لحمي الحي، ويا حبيبك على أبي سليم، ففي تلك
اللحظة، انبسطت أسارير وجهه. ارتاح في مجلسه وهو يستمتع بعذابي، فقد كان له
ما أراد. وصحح ما وقع فيه من خطأ مقصود بتعريضه ابنه وعدوه في الآن لتلك
الحالة المركبة، وها هو ينتقل إلى بخفة طائر أدرك اللعبة وعرف كيف يحلق في
أجواء لا متناهية تشبه أجواء الساحر ذي الشاربين.
كان علي في مواجهة هكذا وضع أن أعمل عقلي، فماذا فعلت؟ قد يكون عندك
أيها الأخ الكريم أكثر من جواب، إلا أن جوابا واحدا وحيدا فرض نفسه فرضا،
فأنا تعرَّضت إلى موقف لا أُحسد عليه، تسبب فيه والد سليم، بدافع من محبته
للسخرية من المثقفين بمن فيهم ابنه ومحسوبك. لأفكر في كيفية رد الصاع
صاعين، لأرد الضربة إلى مسددها ولأعلمه درسا، لأكن أنا الذي أراد أن يكون،
هكذا تهيأت الأرضية للرد، فتوجهت إلى الساحر متجاهلا كل ما قاله، وطلبت منه
أن يقرأ طالع أبي سليم، كي تكتمل الجلسة، فرقص شاربا الساحر، وجاء صقران
ليقفا عليهما. مدَّ الساحر يديه يداعب بهما ريش الطائرين كل على حدة، ثم
معا، وأرسل نظرة تمنى أن يرسلها على ما ظهر منذ عرف أبي سليم، وراح يتحدث
عن غرام فاشل متوارث للنساء في عائلته. نهر من الكلام تدفق من فم الساحر،
تحول النهر إلى بحر من العرق فاض به أبو سليم، في تلك اللحظة فقط ابتدأ
التوازن يعود إليّ وإلى سليم.
المتمّنعة
بدا جسمها مثل بحيرة من البياض تمنيت منذ.. لا أعرفُ من كم من
السنين أن أصل إليه، دون أن يكون لي ما أردت، تلوّت تمنعت، أبدت رغبتها ولم
تبدها، لم يكن لدي وقت للتفكير، أردت أن أخرِج كل ما بداخلي من توق وحنين
إليها، إلى الالتصاق بها، إلى معانقتها.
ها هي ترسل نظرة ناعسة الطرف نحوي، إنها تعرف ما أريد، تغمض عينيها
وتفتحهما، إنها تعرف ما تريد، ابنة حواء تعرف ما تريد.
يطلع جنوني كله، أحاول أن ادخل إلى طرفها الناعس. أن استلقي هناك،
ألا أخرج، تتردَّد، أي مجنونة هي، من ناحية تطرق باب ليلي، من أخرى تتهرب
مني، بيد تفتح الأمل وبأخرى تشرع مساحة من اليأس لا تطاق.
عيناي تكادان أن تخرجا من وقبيهما، أن تخترقا الماضي إلى الحاضر
فالمستقبل، جنون أن تكون قريبا من الماء، وان يقتلك الظمأ في الآن ذاته،
جنون لا يعرفه أحد سواك، وأمل يتحول إلى سراب لحظة اقترابك من الوصول.
عيناها تدعوانني وعيناي تدعوانها، لماذا لا تقترب فأقترب، ولماذا لا
تشعل نارا تاقت إلى اشتعالها الروح، قبل أطراف اليدين؟
بدت كمن عرف مدى رغبتي في السباحة في بحر بياضها، تأودت في مجلسها
متأوهة، وتثنت تثني طلي غرير، مدت يدها إلى شاربيّ عبثت يهما، يداها
البضتان أحدثتا ما أرادته وما لم ترده من تفاعل، تكهرب الجسد المتعب مد
يديه إلى ذاته، كأنما هو يريد أن يتأكد من أنه موجود، حاول أن يمدهما إلي
بحيرتها البيضاء، ابتعدت، فأخطأت اليدان مرماهما، انتظر لتنتظر في العتم
متسع لأكثر من نجمة عاشقة.
تغمض عينيها، يتفتح عالم من الورد، جنة واسعة مترامية الأطراف،
تشترع على مد النظر، كل شيء يقترب إلا الاقتراب، كل شيء يريد أن يكون إلا
الكينونة، وكل يقبل راضيا مرضيا إلا الإقبال ذاته.
تُبادر إلى ملابسها، فتعيدها إلى حيث موضعها، تغطي بها بحيرة
بياضها، تحاول أن تشلني كما فعلت دائما، لن أسمح لها هذه المرة، سؤال يتردد
في ذهني من الماضي ومن الحاضر ذاته، إذا كانت تريد أن تذهب فلماذا هي أتت؟
ألا تعرف أن من يأتي إنما يأتي وأنه حتى لو ذهب وغادر سيبقى؟ ألا تعرف؟
لماذا هي أتت، إذا كان في خاطرها الذهاب؟
عيناي تنطقان بهذا، عيناها تنطقان بمثله، شفتاها تمتدان تمتدان
تمتدان، تقترب شفتاي منهما، ما أن يحصل التلامس بين الشفتين، حتى ترتد إلى
الوراء، كل حركة فيها تؤكد أنها تريد أن تبقى، وكل حركة تنطق بالعكس، أنا
متأكد من أنها جاءت، جاءت منذ جاءت، لماذا هي تريد أن تذهب؟ وهذه المرَّة
المجنونة، لماذا طرقت باب جسدي؟ لماذا؟ وهل أقبل ادعاءاتها السابقة
المباشرة والراهنة غير المباشرة، بأن جسدها لها وأنها حرة في التحكم فيه؟
أمدُّ يدي تتملَّص، من علم هذه الحيَّة التلوّي؟ ومن قال لها إن
جسدها ليس لها، انه لها حلال مبارك، هو لا بد من أن يتبارك، كي يتبارك،
أساسا لا توجد مباركة لا سماوية ولا أرضية بدون مثل هذه المباركة، ثم إن
التواصل المنشود هو من يجعلها تشعر بجسدها، وهو ما سيمنحه ما أرادت أن
تمنحه إياه للتأكد من أنه لها.
ها أنذا أكاد أجن، أنا متأكد من أنها تريدني أن أسبح في بحيرة
بياضها، فلماذا هي تتمّنع؟ أحاول أن أقنعها أقول لها إن الأمواه تفقد
معناها بدون السباحة، تصبح مثلها مثل أي ركود وأسن مهجور، تغمز لي بعينها،
تقول ومن يضمن لي، أن تبقى بحيرتي محافظة على لونها بعد السباحة فيها؟ ألا
يمكن أن تتعكر مياهها؟ أؤكد لها أن أمواه البحيرات البيضاء تختلف عن سواها،
وأنها هي البحيرات الوحيدة التي لا تصفو مياهها إلا إذا تمت السباحة فيها
وتعكَّرت.
تبتسم مثلما فعلت دائما في مواقف متشابهة، من يضمن لي؟ أنت تبحثين
عن ضمانات؟ من يبحث عن ضمانات لن يكون له ما يريد، لأننا لا نضمن في
أعمارنا القصية شيئا، من يبحث عن الضمانات لا يحقق شيئا في حياته، ولن يفوز
بشيء.
دائما هي تبدو مقنعة، هذه المرة تبدو كذلك، إلا أنني أحس بها حارة
أكثر منها في أية مرة سابقة، مؤكّد أن سببا خاصا أتى بها هذه المرة، وأن
الدافع كبر حتى لم يعُد بإمكانها أن تخفيه.
أضرب على الكنبة. ستكون لي. يعني ستكون لي.
هي تضرب على الكنبة. تتوجَّه نحو باب الخروج، أنتصب في طريقها. تزوغ
مني. تعدني تغمز بعينها، مؤكدة أنها ستعود، أسحبها من يدها، أسحبها
لأسحبها. أسمع صفارة سيارة في الخارج، هي لها، أبتعد عنها، أخلي لها
الطريق، تخرج.. وأبقى بانتظار أن تأتي في المرَّة القادمة.
المواجهة
أن تغادر الشيء معناه أن تعود إليه. هذه حقيقة آمنت بها إيماني
بالمدخل الجديد للحارة، بالضبط، وعليه، أن تغادر الطفولة معناه أن تعود
إليها، بواحد من المعاني.
هل جاء ذاك الطفل مفاجأة في طريقي أم قصدًا؟
هذا ما سألته نفسي وأنا اقترب منه حيث بدا حائرا، مثلي في موقف
مشابه، من مواقف الطفولة، ربما في موقع مشابه من الأرض الواسعة الضيقة في
الآن. أية قوة تجذبني إلى ذلك الطفل؟ تراه وجهها الذي أراه فيه؟ أم وجهي؟
أتقدم من الطفل، تتقدم قدماي، قوة سحرية خارقة تجذبني إليه، أشعر
بنظرة لا تخلو من خبث تطل من عينيه، لا أصدق الطفولة هي قرينة البراءة، ما
تراه عيناك هو خطأ في خطأ محض خطأ، أو تضليل بصري، أوقعك فيه كونك ساكنا
مقيما جديدا في الحي. أتقدم خطوة فأخرى، يبتسم لي الطفل، بالضبط مثلما فعل
طفل ماريو فارجاس يوسا، في " مديح الخالة"، ترى أأكون أمام طفل من النوع
ذاته، أم أمام طفل من بلدتي، يتيم، لم يعثر عليه أحد فيهديه، ولم يجده
يتيما فيأويه.
عينا الطفل تبرقان، بسحر يخطف البصر، أتقدَّم منه، أساله عما به،
تدمع عيناه، أعيد السؤال يجيبني، بأنه لا يعرف ماذا بإمكانه أن يفعل،
والعتمة تفصل بينه وبين بيته، أقترح عليه أن أرافقه، يقول لي إنه لا يريد
أن يتعبني، ما يقوله يريحني يزيح عن ظهري جبلا من الثلج المتراكم، منذ تركت
الحارة قبل ثلاثين عاما. أطمئن إليه، أطلب منه أن يمشي أمامي، ينصاع لطلبي،
يمشي بالاتجاه الآخر، اتجاه الغابة المقابلة للحارة، أتساءل أهو يقيم في
بيت أم تحت شجرة؟ أجيب دون أي تردد، هو يقيم في بيت، مؤكد أنه يقيم في بيت،
ما يمنع أن يقيم في بيت، يقع في غابة؟ أسخر من أفكاري.
أمضي أمامه أمضي مطمئنا، هو أيضا يمضي ورائي، نمضي معا في الطريق،
كلما نوغل في العتمة تزداد الوحشة، أأنا ماض في طريق صحيح؟ أم في طريق خطأ؟
أقنع نفسي بأنني سائر في طريق صواب، أؤكد لنفسي، أنني أسير في طرق صواب،
أطمئن لما أقنع نفسي به، إلا أن اطمئناني ما يلبث أن تتعكَّر أجواؤه. يهمس
الطفل من ورائي، يسألني ما إذا كنت أحببت في حياتي. يلعب الفار في عبي،
لماذا هو يوجه إليّ مثل هكذا سؤال؟ أيكون أحد سلَّطه علي؟ بعد هذه السنوات
كلها؟ أم أنه سؤال عابر وينبغي ألاَّ أتوقَّف عنده؟ لأتجاهل السؤال،
لأستعمل ذكائي المعهود ولأجيبه بسؤال، أقول له: وهل يوجد هناك إنسان لم يحب
في حياته؟ وأضيف ساخرا، هل يوجد هناك شيخ في مثل سني لم يمرّ بتجربة الضنى؟
يرسل نحوي نظرة غامضة، كأنما هو أخذ مني ما أراد أن يأخذه. أصمت في
محاولة مني للتأكُّد مما رمى إليه. إذا واصل صمته سيكون السؤال عابرا فعلا،
أما إذا خرج عن صمته وواصل طرح الأسئلة، فينبغي أن أحذرَ ساعة النهاية، وأن
أبادر إلى أخذ احتياطات طالما اتخذتها خلال الثلاثين عاما الماضية.
أسير أمامه ويسر ورائي، كأنما أنا أعرفُ إلى أين نحن ماضيان، أنا
أعرفُ وجهته، وهو عرف أنني أعرفُ، مع هذا يفتعل التغابي، ويمضي، إذا كان
هذا الطفل يعرف ما يفعله ويعيه، تكون نهايتي قد أزِفَت وما عليَّ والحالة
هذه إلا أن أهيئ نفسي للحظة النهاية، هل تقترب النهاية بمثل هكذا سرعة؟
أعود إلى انتظاري. يبدو كمن عرف أنني عرفت ماذا أنتظر. يمزِّق ستار
الصمت المخيِّم على الطريق، يفتح فمه. أشعر به يفتح فمه، يقول: أعرفُ أنك
أحببت، لكن يقولون إنك أحببت امرأة من حارتنا، هذا صحيح؟
يتوقف في محاولة واضحة منه لأخذ الإجابة التي يريدها ويتوقعها. أنا
أيضًا أتوقَّف. يكاد قلبي يتوقَّف عن النبض. غصَّة تتفجر في حلقي. هذا
الطفل لا يمكن أن يكون بريئا، مؤكد أنه شيطان تسربل بلباس الطفولة كي
يأخذني معه إلى الغابة وإلى ما وراءها، وإلا لماذا هو يطرح ذلك السؤال
اللعين؟ لماذا وجه إلي سؤالا هو الأصعب في حياتي، عن امرأة أحببتها في
الحارة، واضطررت إلى تركها ومغادرة الحي مدة ثلاثة عقود من الزمن؟ ثم ماذا
سأقول له؟ أأعترف وأُنهي ألما رافقني طوال سنوات غيابي عن الحارة، بلحظاتها
وثوانيها؟ أم أنكر؟ في كلتا الحالتين قد أُواجَه بسؤال يجرُّني للاعتراف
أمام الطفل ورائي. ماذا أفعل؟ أألجأ إلى الحيلة؟ أجل لألجأ إليها، فهي سلاح
الضعيف الخائف محدود الإمكانية، لكن ماذا أقول له؟ لأقُل له أيَّ كلام يمكن
أن يشوِّشه. لأقُلْ له مثلا، إن تلك كانت إشاعة. لأحاول أن أجيب بما أجبته
في حينها، فقد يصدّق وينتهي الأمر. أقول لنفسي وما أدراني أن الأمر سينتهي
عند هذا الحد؟ في تلك اللحظة لا يكون أمامي من مفر أن أطرح ما فكرت به
عليه، فإما تهبط درجة حرارة ما يحصل، وإما ترتفع، أمّا أنا فينبغي أن أكون
في كلتا الحالتين حذرا يقظا، وإلاّ فإن بنات آوى ستأتي من وراء الجبال
البعيدة مرتدية أرياش الجميلات الحسناوات، حوريات الجنَّة، وسوف يستدرجنني،
إلى نهايتي المحتومة.
أفتعلُ عدم الاهتمام، شأني في مواقف مشابهة مماثلة، سبق ومررت بها،
وكنت الأقوى والأكثر رجاحة فيها ممن نصبوا لي شباك الآخرة. أقول له وأنا
أمضي في طريقي، ما فكَّرت فيه، أشعر به، يسحب سكّينا يرفع يده، يهوي رويدًا
رويدًا. أحسُّ بالسكين يهوي يهوي يهوي. صوته يرافق السكين، يوقّع كلماته
على إيقاع السكين. أسمع أنفاسه تحشرج، كيف تذكرت كل هذه السنوات..، قبل أن
تنغرس السكين بظهري بشعرة، بثانية، بجزء من الألف من الثانية. أرتدُّ إليه،
بسرعة برق عاشق أرتدُّ إليه. أتمكَّنُ من القبض على يده. يبذل مجهودا هائلا
في تخليص يده وأبذل مجهودا هائلا في إحكام يدي عليها. يدور بيننا صراع.
أهتف به. أقول له إنني لا أريد أن أؤذيه، إنني في حيرة من أمري، وإنه حتى
لو تمكن من غرس السكين في ظهري، أو في أيٍّ من أنحاء جسمي، فإنني لا أملك
الرغبة في رد الضربة بمثلها، وحتى لو أنه تمكن من تنفيذ ما أراد أن ينفذه،
فإنني لا أريد أن أنتزع السكين من حيث غرسها في جسمي، لأغرسها في جسمه. لا
أريد أن أكون قاتلا، لا أريد لا أريد.
العراك يتواصل، هو يبدو مدرَّبا، وأنا كذلك. مؤكد أنه وجد هناك من
درَّبه، ومؤكد أنني لم أخطئ يوم لم أغمض عيني، ولم أنم مثلما يفعل آخرون،
مؤكَّد أنني كنت مضطرا لأن أتمرَّن كل تلك السنوات، وأن ما فعلته، هو
الصواب عينه، لأنه كان عليَّ أن أحضر نفسي لمثل هذه اللحظة.
تواصل العراك، هو كان يتشبَّث بالحاضر، وأنا كنت أتشبَّث بما حمله
الماضي من أحلام. كلٌّ منا كان كما هو واضح، مصرًّا على أن يكون هو
المنتصر. هو كانت لديه نوازعه وأنا كانت لديَّ نوازعي، كلٌّ منا يختلف في
زاوية النظر، إلاَّ أننا نتفق في الإصرار على تحقيق النصر وفتح كوَّة في
زمن أراد أن يفتحها. صراع مرير دار بيننا. كنت متأكدًا من أن قوة الحب
ستنتصر فيها على قوة الكراهية، وأنه إذا لم يكن هناك بدٌّ من النصر فإنني
أنا من سيكون المنتصر. كنت متأكدًا من أنه إذا كان هناك إنسان بإمكانه أن
يخرج سالما من هكذا صراع فإنه سيكون انأ وليس أي إنسان آخر.
زاد في قوتي، أنني حرصت خلال الثلاثين عامًا الماضية على أن أتسلَّح
بالحكمة وبرود الأعصاب، فما لم أستطع أن أحققه في هذه اللحظة، سوف يتحقق في
لحظة أخرى مناسبة، أنا من هذه الناحية لست مستعجلا النصر. لأدعه إذًا يعارك
ويبذل المزيد من المجهود العضلي. لأدعه يتعب، عندها سأسدّد له الضربة
القاضية، وسأسجل عليه نقطة الفوز، فيعود إلى من أرسله كسيرًا مهيض الجناح.
قرَّرت بعد لحظات من البدء في العراك أن أتركه يخرج كل ما ادَّخره
من قوة، بعد ذلك أبادر لانتزاع السكين من يده. أتركه وأمضي. هو بدا كمن
اعتقد أنني أسلمت أمري له، فراح يعاركني، متقلبا وزاحفا باتجاه الغابة. كان
هو يعلوني وأخرى أنا أعلوه، كأنما نحن نتبادل الأدوار. بقينا على هذه
الحالة، إلى أن أشرفنا على أطراف الغابة، حينها، ارتخت يده، وتركني أسحب
السكين من يده. حرصتُ أثناء سحبها على ألاَّ أجرحه، فأنا لا أريد أن أكون
قاتلا، فكيف أقتله وأنا لما أعرفهُ إلاَّ قبل قليل؟ وكان من الممكن أن
نُضحي صديقين، مثلما تمكنت من أن أضحي صديقا لتلك المرأة، قبل ثلاثين عاما؟
توقَّف هو عند طرف الغابة، وتوقفت أنا وظهري باتجاه الحارة. كان
واضحًا أنه أراد أن يدخلني الغابة، وأنني أردت أن أعيده إلى البيت.
لم تطل وقفتنا، متقابلين كخصمين كانا من الممكن أن يضحيا صديقين،
لولا شعرة. حتى تلك اللحظة كنت قادرا على أن أعفو عنه، وأن أفتح صفحة
جديدة، ولم أنته مما فكرت فيه إلا حين تحولت الأشجار إلى بنات آوى. أراد كل
منها أن ينقض علي، ولم يكن أمامي في تلك اللحظة، إلا أن أبادر إلى جناحين
خبأتهما لمواجهةٍ ناف عمرها عن الثلاثين عاما.. انطلقت طائرا في الفضاء
الرحب، وكنت كلما ابتعدت أكبرُ، فيما هم يصغرون إلى أن تلاشَوا ولم أعُد
أرَهم.
بحيرة اللؤلؤ
المرأة الربلة، قبالته، عند كيوسك الفلافل، بدت مثل حبَّات لؤلؤ
طازجة صاغها الخالق للتو. عيناه المتحركتان بجنون من وراء نظارته الطبية،
بدتا وكأنما هما تريدان أن تحتفظا بمنظر المرأة إلى أبد الآبدين. تحركت
المرأة باتجاه صغيرها إلى جانبها. انحنت عليه همَّت بتقبيله. لم تقبله في
اللحظة الأخيرة. حالة من الغضب اجتاحته، عبَّر عنها برفع رأسه عاليا في
الفضاء. رمت المراة بكلمات إلى بائع الفلافل، وعادت إلى صغيرها. شعرها يغطي
وجه الصغير، همَّت بالصغير، ربما قبلته، لم يتأكد. رفع رأسه إلى أقصى مدى
يمكن أن يرفعه إليه. بدا متعبا، عاد إلى وقفته الأولى غير عابئ بأحد. كان
يقف هناك في مركز البلدة، وكأنما هو الرجل الوحيد، وكأنما لا وجود لأحد
سواهما، هي وهو.
حانت منه التفاتة إلى حيث أقف. دنا مني:
-منذ متى تقف هنا؟
بقيت صامتا، تابع:
-أرأيت إلى اللؤلؤ الحي؟ إنني أكاد أجن قبالة مشهد لامرأة مثل هذه.
أطلب منه أن يخفض صوته لئلا يسمعه أحد. تتحرك عيناه، يهتف بي:
-دعك من هذه الخزعبلات. لا أحد يرى أحدًا في هذه البلدة.
يرسل ابتسامة عمرها ثلاثون عاما نحوي.
-هؤلاء النسوة سيذبحنني. كيف سأغادر هذا العالم، وأترك ورائي هذا
كله. أنت لا ترى ما أرى. لا أحد في هذه البلدة، يرى ما أرى. لا أنت ولا
غيرك يرى بحر البياض على كاحلي امرأة.
ننطلق في الشارع. نصل إلى مقهى. نجلس هناك، يرسل نظرة حافلة
بالابتسام نحوي:
-اشتقت إليك. منذ فترة لما أرك. أتذكر أيام الكتابة؟
أتذكَّر قصيدة كتبها عن موظفة بنك جن جنونه بها قبل أكثر من ثلاثين
عاما اهتف به:
-أتذكُرُ كلود؟
يشرد إلى البعيد:
-وهل أنسى؟ تلك كانت أحلى قصيدة في حياتي. بعد أن كتبتها، رافقت
الشاعر محرم النجار إلى صحيفة "المنار". كان رحمه الله ذا علاقة طيبة
بمحررها. في الطريق ناولته القصيدة. قرأها. نظر إلي، سألني ما إذا كنت
غارقا في بحور الهوى كما يظهر من القصيدة، فابتسمت وقلت له أكثر مما
تتصوَّر. أكثر مما تتصوَّر بكثير. آخ يا أستاذ لو تراها (يصمت، يضع يده على
خده ويتابع) أخ تلك كانت أيامها لها معنى. يومها رجوته أن يتوسَّط لي في
نشر القصيدة، كي أطلعها عليها، فقال لي تكرم ومازحني قائلا أعتقد أن
القصيدة أولا ونشرها ثانيا، يستحق أن تدعوني إلى عشاء، فقلت له تكرم يا
أستاذ تكرم. في مكتب الصحيفة قدم القصيدة إلى صديقه المحرر. أنت تعرف
العلاقة التي ربطت بين النجار ومحرر الصحيفة. قرأ المحرر القصيدة، فقال: ما
هذا الحب؟ هذه قصيدة حب حقيقية.
وقرأ قدماها كالؤلؤ، ومضى يقرأ. نظر يومها إليَّ وإلى الأستاذ
النجار: لكن من هي كلود هذه؟ ألا يمكن أن نواجه مشاكل مع أهلها أو معها هي؟
ويا حبيبي ع الأستاذ النجار، لما سمع هذا الكلام تصدَّى لصاحبه: "ومين
قلَّك إنو بعني كلود موظفة البنك؟ مين قلَّك هذا؟ يمكن إنها تكون كلود بنت
متخيَّلة، من عكا أو من سخنين أو من أي بلد من بلداتنا. الاسم يا أستاذ في
العمل الأدبي ممكن إنو يكون مختلق. تقلقش. هذا آخر موضوع ممكن إنك تفكر
فيه".
ويوم الجمعة طلعت الجريدة. يا حبيبك! وحملتها مثل المجنون، كان اسم
كلود يضوّي فيها زي اللولو.
وقاطعته:
-وشو صار بعدين؟ شافت القصيدة؟
-بعرفش. أكيد شافتها، أو حدا فرجاها إياها، بس اللي محيَّرني لحد
اليوم، هو إني مش قادر أنساها وأنسى اللولو في إجريها. كلود كانت مرَة
حقيقية. كل مرَّة بشوفها بتذكرني فيها. المرَة اللي كانت قبال كيوسك
الفلافل قبل شوي ذكَّرتني فيها. كل ما بشوف مرَة في ضو أبيض في إجريها بحس
بكلود. بحس إنو ضَو كلود فات على بيتي. أنا كنت على استعداد لو إنو أبوي
وافق إنو ييجي معي ويزوجني إياها، إني أكون متل الخاتم بإيدها. الله يسامحو
أبوي مخلنيش أفرح وتركني أعاني قدام كل مرَة بتذكِّرني إجريها بجرين كلود،
وعشان هيك بدي أقُلَّك، اكتب عن هذا الموضوع اكتب عن حرمان الآباء لأبنائهم
من النسوان اللي بحبوهن. أنت اليوم كاتب مشهور وممكن إنهم الناس يتأثروا
بكلامك...
وتوقف عن التحدث فجأة، وتمعَّنت في وجهه. كانت عيناه تتحركان بسرعة
هائلة وراء نظّارته، وكان يرسل نظرة عبر زجاج باب المقهى. أرسلتُ النظر إلى
حيث نظر. كانت هناك المرأة ذاتها، المرأة التي وقفت قبالة كيوسك الفلافل،
قبل قليل. رأيت طرف قدمها المضيء، وهو يختفي، من زاوية النظر، وشبَّ من نظر
إليها على قدميه، وهو يقول: كم كنت مجنونا، كما كنت مجنونا، ومضى. أردتُ أن
أسأله عن سبب لومه لنفسه ورميه لها بالجنون، إلا أنه مضى، تاركا إياي
لأفكاري وتساؤلاتي. ترى أتكون هي كلود ذاتها ظهرت بعد ثلاثين عاما؟ واكتشف
صاحب القصيدة عنها، بعد أن رآها من زاوية باب المقهى أنها هي؟ أم تراها
امرأة أدركت ما به من وجد، فافتعلت المرور من باب المقهى، كي تشعل المزيد
من النار في قلبه.
أيا كان الأمر، سار عاشق كلود، باتجاه الفضاء في الخارج. سار تاركا
إياي لأسئلة حول النساء والرجال، ومخلِّفا وراءه بحيرة من اللؤلؤ الأبيض.
صورة باقية
اللحظة لحظة عتم وليل، ليس مهما ما الساعة، الطريق كانت قصيرة جدا،
حملتني ذكرى أربعينها لأطير هنالك، إلى حيث كنا بالأمس، قبل أربعين يوما
فقط، حملتني دون إرادة مني، ليئن الليل في خاصرتي، ولأسمع أنينها كأنما هو
مولود للتو، وكأنما الأيام لم تبعد أحدنا عن الآخر ولم تفرِّقْنا بَدَدًا،
لتذهب هي في عتمتها الأبدية ولأبقى أكابد ظلام الوجود.
البيت القديم ما زال هو هو. لم يتغيَّر فيه إلا أمر واحد، هو أنها
لم تعُد هنا، وأنني لا أستطيع أن أراه بعدها، لأنه مات ولم تعُد فيه
رائحتها تشعل نار الفرح الأبدي المبتور في روحي وقلبي.
أقترب من الباب، أراه مواربا. من فتحه؟ أنين يأتي من وراء الباب.
أنا في حلم أم في علم؟ أنا هنا في بيتنا القديم، أم في مكان آخر يخيل أنني
فيه؟ من هي صاحبة الصوت؟ أتكون هي بقيَت ولم ترحلْ وكل ما حصل هو أننا قمنا
بتمثيلية باهتة لا لون ورائحة لها دارت أحداثها حول وفاة ودفن؟ أتكون ضحكت
من القدر وغافلته لتعود إلي ولتواصل قصة حب أبدية لا تموت؟ ما الذي يحصل؟
من أنا وماذا يحدث؟ الأنين يرتفع، يرتفع أكثر فأكثر، أذني تعرف هذا الأنين
تعرفه جيدًا إنه أنينها، في أيامها الأخيرة.
أشق الباب.. أشقه أكثر قليلا، أراها مسجاة هناك على أرض الغرفة.
جسمها ابتدأ بالتحلل، غصَّة تجتاح حلقي، تفتح عينيها، جئت؟ لقد أنتظرتك
طويلا. لماذا انتظرت أربعين ليلا، كي تأتي؟ لماذا تركت الشوق يحرق قلب أمك؟
ألم تعد تحبها؟
تنساب دموع حارَّة من عيني. أحاول أن أفتح فمي، أن أقول لها ما هذا
الكلام، من قال إنني لم أعد أحبك، من قال إن الشوق يموت؟ آه يا أمي لو
تعلمين ماذا يفعل الشوق بنا، أحاول لكني لا أستطيع. للموت رهبة لا يعيها
إلا من مرَّت جيوش النمل على لسانه.
ماذا أفعل؟ أهرب؟ كلا لست من يهرب. لست أنا من يهرب من أمه، حتى لو
كانت في عالمها الآخر، وهل بإمكاني أن أفعل؟ وإلى أين أهرب؟ وأنا أعرفُ
أنني سوف أهرب من نفسي إليها. علي أن أفعل شيئا، وإلاَّ فإنني سأجن. سأفقد
ما تبقَّى لي من عقل.
أنظر في المساحة المحيطة بالبيت القديم. أبحث عمَّن يخرجني مما أنا
فيه. لا أحدَ هناك، جميعهم غابوا، لم يعد منهم أحد.
تستغرقني أفكار وأفكار. أتوه في مغائر قابعة هناك في أعماق الروح.
أحاول أن أربط الحاضر بالماضي، لأتأكد من أنني هنا. من يؤكَّد لي أنني هنا،
ولست في مكان آخر وزمان آخر، وبيت آخر أبعد من بيتنا القديم؟ من يؤكَّد لي
هذا؟ أفكار وأفكار بعضها يلاحق بعضًا، لا يخرجني منها، إلاَّ دبيب قدمين
مقبلتين من النـزلة القريبة. الدبيب يتحوَّل إلى حفيف، يحف بأطراف روحي.
ينتابني قلق، أهي النهاية، أم بداية من نوع آخر؟ أيكون هو ملاك الموت صنع
كل ما صنعه ليلتقي بي لقاءَه الأولَ والأخير؟ أم أنها لحظة كابوس تفرضها
الذِّكرى الأربعون لرحيلها؟ أم ماذا تكون؟ الإجابة تتأخر. أمسك أنفاسي،
أتوقَّف عن الحركة. القدمان القادمتان، على ما يبدو ذكيَّتان وتعرفان كيف
تتفنَّنان في تعذيب روح فنّان لا ينقصه عذاب مضنٍ، ولديه منه الوفير. أمامي
أمر واحد هو أن أعود إليها لأتأكد ريثما أعي ما يدور.
أشقُّ الباب الموارب مرة أخرى. هي ما زالت هناك في مكانها ذاته.
جسدها يواصل تحلله، إلا أنها ما زالت قادرة على فتح عينيها. تدرك ما بي، لا
تخَفْ يا حبيبي، أنا أمُّك، أمُّك لا تخف. أنت تعرف أنني عشت ما عشته،
وأنَّ عمري امتدَّ، فطال كل ما طاله من سنوات لأنني أحببتك. لا تخَفْ. كل
ما في الأمر أن شوقك أتى بي وشوقي أتى بك. الشوق يجمع بين المحبين يا ولد.
هو الشوق فلا تخَفْ.
أحاول أن أتمتم. أن أقول لها إنني لست خائفا، إلا أن الكلمات تستعصي
على النطق. أعجز عن الكلام، أستسلم لحالة من العجز لا يدرك مداها من لم
يعرفها. شيءٌ ما، خوف ما، يشدُّني إلى الحياة، يحاول أن يقذف بي بعيدا، إلا
أن البيت القديم وصوتها المنبعث منه يشدُّني ويدفع بي للبقاء.
القدمان المقتربتان تصبحان أقدامًا، أقدامًا تعرف طريقها إلى البيت
القديم، تعرف جيدا. أحبّاء يطلون واحدًا بعد الآخر. ها هي أختي الصُّغرى
تأتي من بلدتها البعيدة. ها هو أخي يأتي من بلدته المجاورة. ها هم الأبناء
والأحبّاء يأتون واحدًا وراء الآخر. إنهم يقفون واحدًا إلى جانب نظيره.
يبدون واثقين من أنفسهم. كلهم واثقون إلا أنا. أنا الوحيد غير الواثق. ماذا
أفعل كي أثق؟ ماذا أفعل كي أكون واحدًا منهم؟ أأسألهم ما إذا كانوا يرون ما
أرى؟ أجل هذا هو الحل لأتوجه إليهم لأسألهم، لأستمع إلى ما يشفي الوجع أو
يدخلني فيه أكثر. أتوجه إلى أختي، أسألها ما إذا كانت ترى ما أرى، تهزُّ
رأسها بالإيجاب.
أمدُّ رأسي إلى داخل الغرفة، جميعهم يفعلون مثلما أفعل. نكتشف أنها
غادرت، ذهبت امحت، أضحت أثرًا بعد عين.
تنتهي اللعبة، يمضي كلٌّ منهم باتجاه، كلٌّ منهم يعود إلى البلدة
التي أتى منها. نبتعد عن البيت القديم، بيت الشوق الحارق. كلٌّ منا يفكر
فيما حملته عيناه منها في لحظاتها الأخيرة. كلٌّ منا يبتعد، باستثناء
صورتها، فإنها هي تقترب تقترب منا، تلتصق. تبقى في عيوننا و.. لا تغادرها.
مقتل حنا السكران
نعم يا سيدي. أنا من قتل حنا السكران، ليس في أغنية فيروز المعروفة،
وإنما في الواقع، واقعي أنا وأنت وهو. أنا قتلته لأتخلَّص منه ومن كبر
رأسه، أما ختيار مش عارف شو بدّو، كل ساعة بنط بين إجْرَي، عشان يعذبني،
أيهو مفيش حدا استأجر عند حدا غيري، وشو بفكر هو إنه إذا أجرني بيته، يعني
صار في عنده ملك تاني، هو أنا؟
أنا قتلته، لأنه عرف طريقه لبابي. منعني من النوم ومن الكتابة ومن
كل شيء أريد أن أفعله في هذه الحياة، قال وإيش؟ كل ما بشوف أشي ع الأرض
بيجي وبسالني: "ليش في هون وسخ؟ وليش أنت بتظنفش الأرض، ليش؟". أنا سكتت
اله كل الوقت، بس انت بتعرف إنه لكل إشي في حد، وإنه لا ظلم بستمر، ولا صبر
ببقى على حاله، زي ما بتقول أم كلثوم، أنا بحب الغناني، شايف؟ ما أشطرني؟
أنا بعجبك يا سيدي، أنا بحب الأدب العربي كمان، وبحب كل إشي عربي، إلا هداك
الشخص اللي قتلته بإيدَيّ هدول. قتلته عشان أريِّح مرته منه، وعشان أريِّح
الجيران كمان. هو ما ضايقنيش أنا بس، هو ضايق صاحب الدكانه أُسامه كمان،
وضايق صاحب الكراج ابن أبو أسعد وغيره وغيره.
بتسأل ليش أنا اللي قتلته؟ طيِّبْ هذا سؤال بنسأل؟ طبعا كان في هناك
سبب. صحيح هو ضايق كل الناس، بس أنا كنت القتيل رقم واحد في حياته. كل يوم
بنط بين إجرَي، قلت لوينته بدّي أسمح لهاي البهدله إنها تستمر؟ أنا لازم
أحط إلها حد، أنا لازم أتخلَّص من هذا العذاب المستمر.
فكرة قتلي إلُه، ابتدت من هون، ابتدت من نقطة صغيرة غايبة في عقلي،
نقطة كبرت مكنتش مبينه، وكبرت شوي شوي تنها صارت مبينه، وبإمكان كل واحد
إنه يشوفها. هاي النقطة بديَت لما صرت أتضايق منه، ولما صرت كل الوقت
أفكِّر فيه وفي مضايقاته إلي وللجيران، ساعتها قلت أنا لازم أقتله وأخلِّص
الحارة منه ومن تدخُّلاته، في الرايح والجاي. متذكر يا سيدي أغنية صباح، ع
الرايح والجاي؟ والله بنفسي إني أغنيلك إياها، بس صوتي مش مساعدني، طيب
المهم إني صرت أفكِّر فيه كل الوقت واحتل مساحة واسعة من عقلي، زي مساحة
الاحتلال في عقول جماعتي الفلسطينيين. ساعتها صرت استنى اللحظة المناسبة
عشان أنفِّذ عمليّة القتل،. يعني القرار حضر، وانت بتعرف ومين بعرف زيَّكْ
إنها الأمور الكبيرة بتبدا بقرار، بعدين بيصير التنفيذ مجرَّد إجراء نتخذه.
محسوبك بقي يستنَّى اللحظة المناسبة تنها حانت. كانت هاي اللحظة
الساعة الثانية ودقيقتين بالضبط. بعرفش إذا كانت هي نقَّت حالها والا أنا
نقِّيتها، وللا إحنا نقِّينا بعض، وللا القَدَر هو اللي نقاها. ساعتها
مَكَنش حدا في الحارة. كانوا أهل الحارة كلهن نايمين. ويمكن كانوا مسافرين،
أو بعرفش وين كانوا. ساعتها دخل عليّ في المكتب. كنت اكتب. إنت بتعرف إنها
الكتابة عندي أمر مقدَّس. أوَّل شغلة عملها، هي إنه ما دَقِّش على الباب.
بتعرف يا سيدي؟ كنت بتمنى إنك تكون معنا في هديك الساعة، عشان تشوف بعينك،
كيف أنا نَطَزْت منه، لما حسيت إنه قاعد علي كرسي قريب مني وأنا بطبع قصّة
على الكمبيوتر. في البداية فكَّرت انه شيطان أجا وقعَد بحدي.
دِرْت راسي باتجاهه شوي شوي، وأنا ميِّت من الخوف. وظلِّيت أحرِّك
راسي باتجاهه تنّي شفته. ساعتها بدي الريق يرجع لحلقي، واللون لوجهي. هو
كشَّر عن أسنانه الصفرا، ضحك وظل ساكت. عرف إني خفت. أنا ماكَنْش قدامي إلا
إني اطلب منه بأدب إنه يدق علي الباب مرة تانية. بتضحك يا سيدي؟ طيِّب
اضحَك شو كان بدَّك أعمل؟ شو يعني أضربه؟ لا مضربتهوش. أنت بتعرف إني أنا
كاتب مش أزعر. أنا بضربش حدا، بتسأل كيف قتلته وليش؟ طوّل روحك، القصص
بتصرش بسهولة. أنا واصلت صبري عليه، بس هو مخلهاش حلوة، فات علي المطبخ
وصار يتطَّلع هناك على بقع قهوة على المصطبة، ويمد إيده لقدّام يأشِّر فيها
للنقط ويسألني شو هذا الوسخ؟ شو هذا، ليش إنت بتنظفش الوسخ؟ أخو الشلن
مَكَنش عارف قدّيش هو بيوسخ عليِّ بكلامه هذا، هو كان يفكّر كيف ينكِّد
عليِّ، بس كيف ينكَّد. ساعتها قلت لنفسي أنا لازم أخَوّفه. لازم أقتله
وأخلِّص أهل الحارة منه. عرف هو شو أضمرت لُه. يمكن حَسّ، مَهو ختيار
وبحِسّ شو ممكن إنه يصير لما بضايق حدا.
ابتعد عني، قرَّبت منه. تصوَّرْت إني لازم أمدّ إيدي لجوزته. لازم
أخنقه. تصوَّرْت حالي بمد إيدي، وبخنق بخنق بخنق. ظليت أخنق تنها طلعت
روحه. أنا مكنتش بدّي أخنقه في البداية. كنت بس بدي أخَوفُه. بس اللي حصل
هو إني كنت بدي أشفي غليلي. بدي أطلع كل الغضب اللي جوّاي. ظليت أشد وأشد
تنها طلعت روحه. ساعتها، تصَوَّرْت إني بولِّع نار علي مصطبة المطبخ، وبحرق
جسمه النجس. ويا حبيبك، لما ولَّعت النار، وصار جسمه يذوب وشحمه يسوخ،
وظلَّت النار مولعة تنها حوَّلَتُه لرماد. ساعتها لمِّيت الرَّماد، وقُلت
بَسَمِّد فيه أرض الحكورة، بحد البيت. بعدين خطر ببالي إنه بستحقش إنها
الأرض تتسمَّد فيه، وحملت رماده وكبِّيته. بديش أقُلَّك وين. يمكن تعرف
لحالك، بس مني مش رايح تعرف.
بتسألني إذا كان رجع ينكِّد علَيّ؟ لا لا يا سيدي هو مرجعش لأني
زرعت فيه خوف مش رايح ينساه لأبد الآبدين، ورايح يحكي عنه لولد الولد إذا
أعطاه الله العمر وخلفوا ولاده وهو حي.
بدك أحكي أكثر؟ كلامي عنه حلو؟ طيب الله يجبر خاطرك، جبرت خاطري
اللي كسره هذا السكران ثقيل الظل، أنا رايح أحكيلك كثير عنه، بس طوِّل
روحك. الحكي مناقلة، وبصرش كيف ما أجى ييجي. الكلام الحلو في إلُه مناسبات،
لازم نستناها إحنا الكتَّاب، ولازم تستنوها انتوا القرّاء. بدكاش تستنى؟ من
حقَّك يا سيدي، بس استنى شوي. أنا قاعد بسمع طرق على الباب، إذا رجعت
وواصلت الحكي، هذا بكون إنه على الباب واحد تاني، بوليس أو من الضريبة. أما
إذا مرجعتش، هذا بكون هو صاحب البيت ثقيل الدم، هاي المرة يمكن إني مرجعش
أكتب القصص الحلوة عشان تقروها انتوا القرّاء، لأني رايح أقتل حنا السكران
بالحقيقة مش بس بالخيال.
|