عزف على أوتار قلب
إهــداء
إلى مَنْ عرفتُ من خلالهم ذلك الإحساس المبهر
المسمى أمومة
ومن بدأتُ بحبهم أعرف معنى الحياة
إلى حب لا ينضب.
وأمل لا يخيب..
عزف على أوتار قلب
بداية الشتاء في دمشق، والصباح يعزف نشيده الصامت...
الشمس واهنة تتمدد باسترخاء في مناحي السماء، والغيوم مبعثره تغطي
الشمس حيناً وتبتعد عنها لتسطع من جديد، وتنشر الدفء في المدينة العطشى
التي تستجدي المطر، وأنا أسير منذ ربع ساعة...
الطبيب قال: "يجب ألا تقل مدة السير عن ساعة في الصباح، وأخرى في
المساء".
حرارة الشمس تغمرني بالدفء...
أقطع الشارع نحو الرصيف الآخر مبتعدة عن أشعة الشمس، وأنا أتساءل:
ترى هل ستجود علينا السماء هذا العام بخيراتها لننعم بصيف محتمل...
أم سيظل الناس يرددون...إنه غضب الله علينا لكثرة ذنوبنا؟
أسير وذكريات شتاءات دمشق بأمطارها، وثلوجها تجول في رأسي فأهمس
لنفسي: ليتها تعود.
سأغذ السير، وأبطئ: "المهم ألا تتعبي".. هذا ما قاله الطبيب.
منذ تأكدت أنني حامل، لم أعد أشعر بالتعب، ولا بالتعاسة، وأصبحت
أتساءل... أيمكن أن تُصبح رؤيتي للأشياء، وإحساسي بالحياة بحجم الأحلام
التي أحققها؟... وهل يشعر كل البشر مثلي؟..
أيمكن أَنْ يملأ رفيف كائن يمتلكه الغيب أيامي بالغنى؟"...
تخيَّلت طفلي فطربت فرحاً، وهمست لنفسي.. طفلي قادم.. قادم.. سأصبح
أماً... لا... بل أنا أم لهذا الطفل الحبيب الذي يحتضنه رحمي...
أمه منذ اللحظة الأولى لوجوده.
"منذ التصق بي لقب مطلَّقة. احتلني الحزن الصامت كاحتلال عاصفة
هوجاء لمدينة صغيرة مستكينة، فاستسلمتُ له، وصرتُ أجوب معه مدن اللامبالاة،
والضجر، وأتوه فيهما.
أمي كانت تشعر بي. يخفق قلبها معي. أسمعها وهي تدعو الله أَنْ يهبني
زوجاً يعوِّضني وينسيني. لكنها تذوب أسى كلما طرق بابنا خاطباً رجل يرغب
بالزواج مني وهو يحمل على كتفيه عبء كهولته، أو عقدة زواج فاشل خلَّف
أطفالاً يحتاجني لتربيتهم"...
أشعر بألم بسيط... أتوقف عن السير، وأسند ظهري إلى جدار...
عيون المارة بدأت تنظر، وتتساءل...
لو بقيت دقيقة أخرى سيحيط بي الناس، ففي بلدي القلوب كلها حانية.
محبة..
"لا.. لا ليس كلها. ألا يعتبر طليقي أحد أبناء هذا البلد؟..".
أصرخ بصمت: لماذا أذكره..؟
ألا يجب أَنْ أنزعه من ذاكرتي، وأعتبره مجرد نقطة سوداء وقعت خطأً
على صفحة حياتي البيضاء، ثم محوتها؟..
لماذا أذكره؟ ألم يهبني الله زوجاً محباً.. رائعاً؟...
أوه.. مصطفى. حبيبي الغائب..
أعود للسير، فالساعة لما تنته بعد..
عقلي لا يتوقف عن التفكير. هو عمله، وطبيعته، ولو توقف عن عمله
انتهى، وانتهت حياتي معه، فليعمل، وليهبني من الأفكار، ما يسعدني لا ما
يشقيني..
بضعة أيام وحسب ويخرج طفلي إلى دنيانا...
تُرى أسعادتي بقدومه أنانية وأنا أعرف حق المعرفة أنَّ الحياة ليست
سوى زحف دؤوب فوق حقل أخضر مزروع بالألغام..
"يبدو أنَّ الإنسان أناني بطبعه، وضعيف أيضاً"..
طفلي يتحرك بعنف.. بقوة.. تراه احتجاج؟...
أتوقف لأرتاح من جديد.... أرفع رأسي للسماء أرجوها أن يكون طفلي
ذكراً..
نعم أريده ذكراً، فالأنثى حياتها معاناة دائمة.
دمشق تنصت لحنيني، ولهفتي، أشعر بها، وأحبها.. لكنني أمقت العادات
البالية المتأصلة في نفوس الكثير من أبنائها... أعشقها، وأعتب عليها، كانت
ستحرمني متعة أَنْ أكون أماً...
أشعر بالتعب.. أتوقف عن السير، لكنَّ سيل الأفكار لا يريد أنّ
يتوقف...
"كل الذكور في مدينتي يتزوجون، حتى مَنْ لا يملك عقلاً يجد مَنْ
تقبل به، لأنه الذي يختار، أما الأنثى فلا تملك إلا الانتظار، والاختيار
لديها محدود، وهي تريد الأفضل لها، والأحب لقلبها، والأحلى لعينيها، ولكن
هيهات فهي لابد أَنْ ترضى قبل أن يفوت الأوان.."
الألم يزداد...
"تُرى أثورة قلبي هي السبب؟...
وكيف لا يثور قلبي وحياتنا كلها تناقضات؟ المرأة مازالت تتخبط،
وتصارع أمواج الحياة العاتية... مرة تطفو على السطح سالمة قوية، قادرة على
درء القهر والظلم عنها، ومرة تهن، وتستسلم بسبب تراكم الضغوط والأعباء
فتسلِّم صاغرة.
طفلي عاد ليرفرف، ويشعرني أنه يُنصت لأنين قلبي، ويذكِّرني أنَّ
الساعة قد انتهت، وأنني تعبت ليس من السير وحسب بل ومن تذكِّر ماينبغي أَنْ
أنساه، فلا أمل.. لا أمل...
أسير إلى سيارة أجرة لأعود إلى بيتي... بل إلىجنتي...
"حين قررنا شراء بيت... طلب زوجي أَنْ أختار أنا المكان. كان يعرف
أنني لن أختار إلا ما يحب، واشتريت مملكتي الصغيرة في حي الروضة حيث ولدت
ونشأت.. اخترته بحديقة تسوِّره تحوي شجيرات مثمرة، ودالية عنب، وزرعت فيها
الفل والياسمين والورد البلدي، ونثرت أصص النباتات الخضراء في كل مكان،
داخل البيت، وخارجه.. طفلي يتحرك بعنف..
أيود الخروج؟!...
أسئم الوحدة، ويريد التعرف على دنياه؟
ليت والده هنا؟ أكد لي أنه سيأتي، فهو يريد أَنْ يرى ولده لحظة
قدومه، وأنه قد اشتاق رؤيتي، وأنه يود أَنْ يشاهد بيته، وقال سأمضي معكما
أشهراً، وأعقب بلهفة... أحبك.. بل أحبكما...
ازداد الألم، ألم شديد.. هذا النوع من الألم لم أعرفه سابقاً....
الألم يتوقف، ويعود.. قوي.. ضعيف.. لا... بل قوي... ولا يحتمل...
لابد أن الوقت قد حان...
السائق يلحظ التغير الذي طرأ عليَّ. يسألني... سيدتي... أتودين
الذهاب إلى المشفى يخفف سرعته، ويضيف... ما اسم المشفى الذي تودين الذهاب
إليه؟
أعطيه عنوان بيتي فقد زال الألم، وأنا لا أريد الذهاب إلى المشفى
وحدي، والأمل ما زال يهمس لقلبي أَنْ قد أجد زوجي هناك ينتظرني ليرافقني
إلى المشفى كما وعد. تُراه عاد؟ كم أحبه... صوته في أذنيَّ حتى وهو غائب،
ونظرة عينيه الحانية المحبة في قلبي وملء عينيَّ في كل لحظات يومي...
كم أشتاقه... لا أريد أَنْ ألد وهو بعيد...
قد أموت.. أأمضي عن دنياه دون أَنْ أراه؟..
الألم يعود، والسائق يقود ببطء شديد خوفاً عليَّ من مطبات الطريق،
لكنه حين سمع آهتي أسرع وهو يهمهم.... لحظات ونصل... لحظات وحسب... المشفى،
والوجوه الحبيبة. أمي. إخوتي، والطبيب، والألم شديد لا يُحتمل، وهو لم
يأتِ...
الخوف يفرد جناحيه، ويبني عشه في قلبي، والطبيب يقول... يجب أَنْ لا
تفكِّري إلا في طفلك القادم. ركزي تفكيرك بالطفل، ويضيف.... ثوان وتسمعين
صوته..
سيدة لبنى.... لا أريد منك إلا القليل من الجهد...
أحاول المساعدة. لكنَّ جسدي لا يتعاون معي فهو مُتْعب، ورأسي لا
يُنصت للطبيب، بل ويشحنني بالأفكار...
"حين لثمت عجلات الطائرة التي حملتني وأعضاء الوفد أرض اليابان...
أدركت أنَّ الحلم غدا حقيقة، وأنَّ الخيال صار واقعاً ملموساً...
ثلاث سنوات وأنا أعمل بجد واهتمام لأثبت جدارتي أمام رؤسائي في
المؤسسة التي اخترت العمل فيها منذ البداية لأنها تُرسل المهندسين العاملين
فيها إلى الدول الأوروبية، والآسيوية للتدريب...
كانت السنوات تمضي سنة تلو الأخرى، وأنا أنتظر ولا أنصت لمن يهمس
لي...
"تحتاجين للدعم من أحد المسؤولين يا آنسة لبنى"... بل ويؤكدون أَنْ
لا سفر دون دعم... لم أطلب من أحد دعماً أو توصية، وتحقق الحلم صباح يوم
أخبرتني إحدى الزميلات قائلة....:"لبنى لقد وقَّع المدير قرار سفرنا معاً،
وأردفت مؤكِّدة. لقد رأيت القرار على طاولته..
خفت وقتها أَنْ أصدِّق...
خفت أن أصدق فتتمرَّد حواسي وتفكُّ قيوداً كبَّلْتها بها منذ زمن
بعيد..
خشيت من حواسي أنْ تتحرر فجأة فتمارس أعمالاً فوضوية لم تعتدها،
وتخطئ.
خفت يومها أَن أصدق فيجتاحني الفرح، وأموت..
خرجت من المؤسسة.. ركضت في شوارع المدينة كلها.. صرخت.. بكيت
فرحاً.. ضحكت ملء قلبي..
هذا كله فعلته، لكنْ بصمت، بسكون كعادتي، فالانفعالات الصاخبة
نسيتها، نسيتها منذ زمن طويل... منذ....".
ألم.. ألم... والطبيب مازال يردد... فكِّري بطفلك القادم وحده. انسي
كل ما عداه..
أفكر بطفلي القادم وحده... لماذا يقول هذا؟..
تُراهم أخبروه أَنَّ زوجي لن يأتي، وأنني أحبه، وأنتظره؟
تُراه حقاً لن يأتي؟
أيعقل هذا؟..
كيف لم أفكِّر بهذا الاحتمال؟
ولكن... لماذا أفكِّر فيه؟..
ألأنَ مَنْ ارتبطتُ به من جنسية أخرى؟..
يا باني... وماذا في ذلك..؟ الحب والتفاهم هما الأساس، والأهم...
ألم أتزوج من بلدي، وبيئتي وكان الفشل هو النهاية؟
لقد اعتنق مصطفى الإسلام، واقتنع به..
أحاول فتح فمي لأبتسم، لكنَّ الألم يمنعني.ألم شديد لا أستطيع تحديد
موقعه، أو وصفه...
تهاجمني الرغبة في الابتسام، فأفتح فمي لكنَّ صرخة الألم تنطلق..
"يوم أعلن إسلامه أراد أَنْ نختار له اسماً عربياً، فصار الأهل،
والأصدقاء يقترحون؛ كل يذكر اسماً، لكنني دون أن أشعر قلت له مصطفى، فقال
الجميع... لا يا لبنى إنه اسم يصعب عليه لفظه، لكنه قال... أريده، هو اسمي
منذ الآن، وأخذ يردده حتى استطاع إتقانه.
أوه.. مصطفى.. أيها الحبيب... أين أنت؟
ألم.. ألم لا يحتمل...
مصطفى.. ألن تأتي أيها الغالي؟
ألم، وصوت الطبيب يهمس العملية لابد منها لإنقاذ الاثنين...
الخطوات سريعة، وقلبي يردد... يارب..
"التجأت إلى الدين منذ مدة طويلة. التجأت إليه منذ اكتشفت أنَّ
السعادة في الدنيا وهم، وأنَّ أيامنا نبدؤها بأمل، وننهيها بحلم نصحو منه
على وهم، وقد قال كثيرون أنَّ أفكاري هذه كانت أحد أسباب طلاقي إِنْ لم يكن
السبب الرئيسي، لكنني لا أوافقهم الرأي، فموافقتي على إنسان لا يناسبني،
وسلبيتي وحدهما السبب"..
ألم.. ألم.. ألم.. الوجوه باهتة، والأصوات خافتة، خافتة، ولا شيء..
أحاول فتح عينيَّ، وتحريك جسدي المثقل بالتعب فلا أستطيع..
أسمع صوت الطبيب يقول... الحمد لله على سلامتك..
أحرِّك فمي لأجيب.. يقول الطبيب... سأخرج لأطمئن الأهل.
أبذل جهداً لأخرج الكلام من فمي، فأنا أريد أَنْ أسأل... هل طفلي
سليم...؟
وهل جاء ذكراً كما تمنيت؟ وهل رآه زوجي لحظة قدومه كما تمنى؟
لكن أأتى مصطفى؟!..
لا.. لا يمكن ألا يأتي. هو يحبني كما أحبه بل أكثر، وزواجنا كان
مثالياً، فقد كان القلب والعقل بالنسبة لكلينا هما الأساس في حدوثه...
ثلاثون يوماً منذ قدومي مع الوفد إلى بلده، والحب لحن رقيق بديع
الجرس يُعزف لنا بقدرة خارقة، فيمنحنا الغبطة، والرضى، ويجعلنا نرى وجه
الحياة بشكل لم نعهده. لم يقل شيئاً.. ولم أقل.. لكن حين آنَ وقت السفر قال
بتصميم، ولهفة... لبنى أنا أحبك.. أحبك....
وقفت أمام فيض الفرح الذي غمر قلبي صامتة..
نظر في عينيَّ بحيرة وخوف وقال... ماذا؟... لماذا أنت صامتة؟! ألا
يعني هذا لك شيئاً؟.. تكلمي.. قولي أي شيء إلا أنك لا تبادليني مشاعري،
وإلا أنك تودين الرحيل...
تأملته وهو يستعطفني كطفل، تمنيت لو أستطيع أَنْ أضمه إلى قلبي،
وأقول له أحبك.. لكنَّ الأفكار كانت قد بدأت تتصارع في قلبي، وفي عقلي...
فعليَّ أَنْ أقول كلمتي.. أَنْ أقرر.. أَنْ أختار بين حياة خاوية مع رجل
يكبرني بسنين لا حصر لها يريد أَنْ يجعل مني عكازاً لشيخوخته، وبين حياة
تمتلئ بالحب والتفاهم والمشاركة مع شاب من جيلي... وصرخت بصمت لكنه ليس أي
شاب، إنه من بلد آخر، ودين آخر، ودنيا لا أنتمي إليها
أمي.. أبي.. معارفي... مدينتي كلها.. وماذا سيقول الجميع... كنت
أنظر إلى عينيه المتسائلتين... المنتظرتين.... وأهمس لنفسي... ولم لا؟!..
حسم هو الأمر كله حين وجدته إلى جانبي في الطائرة التي أعادتني
والوفد إلى دمشق. احتضن يدي بين يديه، وقال… :"لبنى أنت جبانة.. لذا سأتصرف
أنا"..
غرفتي في المشفى تعجُّ بالأحبة.. أمي... أبي... إخوتي... أما هو
فعيونهم تجيب عن استفساراتي الصامتة. تقول لي إنه لم يأتِ.. لكن تراه لن
يأتي؟...
قالوا.. اتصل وقال سيتأخر لأنه مسافر من أجل عمل ضروري...
ابني أسميته مصطفى. حملته وعدت إلى بيتي، وبعد بضعة أيام وصلت
رسالته، رسالة زوجي الغائب...
بضع صفحات تزخر بكلمات تقطر رقة، وعذوبة، وحباً...
بدأ كلامه بكلمة أحبك، وأنهاها بها، أقسم أنه أحبني، ويحبني، وسيظل
يحبني إلى نهاية عمره، ..........لكنه أدرك أنه لن يستطيع أَنْ يعيش
بقلبين، وعقلين، وجسدين، زوجته هناك وولده، وطنه، ودنيا اعتادها...
"قال... لن أستطيع رؤية ولدي.. أخاف أَنْ أحبه، وأرتبط به.. يكفيني
حبك يا لبنى، وحرماني منه. سأذكرك وطفلي ما حييت. من خلال طفلي وذكرياتنا
أذكريني"..
رسالته بين يدي، وطفله إلى جانبي، وهو لن يعود..
تراه وهم؟
أأحبت إنساناً نسجه خيالي، وأنجبت طفلاً من رجل ليس له وجود إلا في
أحلامي؟...
ألأنه رائع تسرب من دنياي كشعاع شمس غاربة؟..
رسالته بين يدي، وطفله إلى جانبي، وحبه في قلبي، وذكريات أيام
عشناها معاً تسكنني..
رسالته حقيقة، وطفله حقيقة، وحبه حقيقة، والذكريات أحلى حقيقة
لن يعود...
قالها بحب، وأنا سأتلقاها بحب أيضاً..
لكنه حب منسوج بالتفاؤل، ومغزول بخيوط الأمل...
أوراق الزمن الآتي
تائهة... تفترسني الحيرة. يلفني الخوف. تجتاحني رغبة للابتعاد.
للهروب... ولكنني أظل ملتصقة بالكرسي. أتمنى لو أغلق عينيَّ وأموت، ولا
أظلُ محملقة في وجهه. أمتص كالإسفنجة كل كلمة يقولها لأتضور ألماً تحت
سياطها..
أعانق حزنه. ألثم كلماته. ألوب صامتة علّي أضم عينيه إلى قلبي
وأبتعد. وأبقى عاجزة عن الحركة، مستسلمة لأنامل مجهولة تتحكم بي.
حاول أَنْ يهبني ما اعتاد من حنان. أَنْ يحجب عن عينيَّ ما يعتمل في
أعماقه فلم يستطع.
قلت: مابك يا أدهم...
قال: غاليه.. أم ابنتي تود العودة..
تأملت وجهه وأعماقي تصرخ... تراني سأفقده...؟
ـ أرسلتْ ابنتي ترجو..
*سيعود الكون شاحباً كئيباً يا أدهم، ويعود للذكريات طعم المرارة
والسقم.
ـ تُراها أحست حقاً بقيمة ما فقدت أم. هو التحدي..؟
*إنه حبٌ لم يعرف قلب كلينا أصدق منه. فكيف سيغدو مذاق الحياة بعد
فراقك؟
ـ أحقاً دعاها الواجب تجاه ابنتنا.. أم هي الأنانية؟
كان حائراً لم يستطع امتلاك الحقيقة.. كل ما حصل عليه دعوة مفاجئة
ملحَّة للعودة من زوجة كان ارتباطها به جحيماً. دعوة مغلَّفة بالحب، تذوب
لهفة لنسيان الماضي، والتسامح لأجل ابنته.. أو هكذا تدَّعي.
قال وعيناه تائهتان: كانت الحياة خاوية حتى التقيتك، وأحببتك حباً
أكبر من طاقتي.. وطاقة الكلمات أن تعبر عنه، إنما....
وقرأتُ في عينيه قرار إعدام لأجمل أمنية حققتها. كان الحزن يصرخ في
عينيه، والقلق يعربد فيهما وهو يتساءل... لكنَّ حيرته تعني لي الكثير فأنا
أحبه، وأعرف أنَّ الحقيقة التي يبحث عنها لن يحصل عليها، فمنذ أقفرت الدنيا
حولي أيقنت أنني قد أقرع أبواب الكون كله، فألمس حقيقته، أجوس خلالها،
وأرتوي حتى الثمالة. لكنني سأظل مسربلة بالعجز... ممزقة بعتمة الوهم، أهيم
عبثاً للوصول إلى حقيقة ما يهمس في قلب إنسان على بعد شبر مني. تمنيت لو
صرخت به قائلة:
ـ أتعانق الأمل الكاذب يا أدهم، وتتوه في دوامة الحيرة من جديد..؟
لكنني كنت أعلم أنَّ مجرد التساؤل كان يعني اتخاذ قرار... قراره
هو... وليس لي الآن إلا أَنْ ألتجئ إلى الصمت وأمضي..
حين خرجتُ لأنضم إلى قطيع التائهين. اخترت الأماكن المزدحمة لتكون
مأوى للأفكار التي تضج داخل رأسي، فوجوه المارة تُلهي...
وجوه مجهدة محبطة تتوه إشارات الاستفهام حيرى في عيون بعضها،
وإشارات التعجب في بعضها الآخر، وعيون تموج بالحزن، أو اللامبالاة، أو
الغضب، وأخرى تصرخ بعبث الحياة، وأتساءل أين يمكن أن أرى وجهاً يرقص الفرح
في عينيه. أيكون لهؤلاء عالم حدوده عالية.. عالية على أحزاننا، ومشاكلنا،
وتشاؤمنا..؟
تائهة والدروب تضيق… تهمي السماء رذاذاً منعشاً..
"في ذلك اليوم. يوم التقيته في مطعم صغير في حي أبي رمانة كانت
السماء تسقي الأرض العطشى، وأنا أعشق الانتماء للحياة، والمشاركة بها حين
تمطر..
قال: قد لا تعرفين مَنْ أكون، لكنَّ قرابة ما تجمعنا..
كانت عيناه تحتويانني وهو يعرِّفني بنفسه، ثم مضى وهو يقول
سنلتقي... لم أدرك يومها أنَّ عينيه ستغدوان يومي وغدي، وتصبحان الشمس التي
تشرق عليَّ كل صباح"...
تائهة مسربلة بالضياع.... خائفة والدروب متشابهة مثل الوجوه
المقهورة بالحاجة، والتي تقف كل يوم على باب الجمعية المقابلة لمكان عملي..
لن أعود إلى البيت. أريد أن أغتسل تحت سياط المطر فتتضَّح رؤياي..
لن أعود.... أريد أن ألتصق بالناس... بالحياة لأدرك المجهول...
لن أعود إلى حيث السكون والصمت... حيث تترصد عيون الأهل ضعفي ويأسي.
لتذكرني بيوم قالوا لي فيه ستندمين..
أتوّغل في الحزن وأنا مضرجة بالفزع فالليل بدأ يحتويني. أختبئ بين
ذراعيه بثيابي المبتلة، وجسدي المسكون بالغربة، وأفكاري اليقظة، لكن لا
مفر... أعود لألجأ إلى الدفء بين جدران غرفتي.. أهوي على سريري مجهدة..
أرتعد كطفل وحيد يفتقد أحضان أمه، وأحن إلى النوم ينسيني اليوم ويمحو من
ذاكرتي الأمس... ولكن هيهات... فالزمان هذا الكائن الجبار يعود ليلفني
بالحيرة من جديد، ووجه أدهم الحائر ماثل أمامي...
لقد طويت أوراق تلك الفترة من حياتي وأخفيتها في زاوية منسية حين
التقيتك يا أدهم.. وهاهو الزمان يُبعثر تلك الأوراق وينثر أحداثها أمام
عيني فتجثم التساؤلات إلى جانبي، وتتواثب الصور. "حين طرق صلاح أبواب
حياتي. احتل عقولهم وقناعاتهم كأفضل زوج لابنتهم.. علم ومال وفي زمن مسَّ
القحط، فيه حتى الأحاسيس..
تأملت وجوههم الطافحة بالفرح وأنا أمتطي زورق الحياة الزوجية بعد أن
مُلئ بأحلام وآمال وكلام كقصائد الشعر بوعود لا تنتهي..
ومضى الزمان يا أدهم.. القيم تحطمت، والمثل انهارت، سنة... الثلج
استوطن جسدي، وفمي أغلقته القروح، رجل هو وأنا امرأة..!
لا وجه للمقارنة. عليه الأمر وعليَّ الطاعة. سنة.. وأنا أعيش مع رجل
لا أعرفه.. رجل كنت أنتظر بغباء أَنْ أغوص في أعماقه، وأقطع الجسور الفاصلة
بين قلبي وقلبه.. سنة مضت وأنا أعيش في جحيم ذلٍّ لم يستطع إدراكه أحد..
وعقلي متطرف لا يرضى بأنصاف الحقائق، ولا قلبي يرضى بأنصاف الحلول. استلبت
التساؤلات راحتي يا أدهم كما تفعل بك الآن: أتكون الحقيقة وهماً كلما
أمسكنا به انزلق من بين أيدينا.. أم سراباً نحثُّ الخطا عبثاً للوصول
إليه؟..
ولِمَ يَعتبر الرجل الزوجة جزءاً من أملاكهْ تنقص قيمتها بعد فترة
من الزمن لتحلو كل الأخريات بعينيه؟..
كانت حياتي كحياة آلاف من النساء. التوحد الموحش.. والزواج المقهور
بالإهمال..
لذا حين قررت أَنْ أعيش الحياة، واستعيد كرامتي، واسمع إيقاع الصدق
والمشاركة، انهالت على وجهي صرخات الاحتجاج..
أتدوسين نعمة تحلم بها الكثيرات...؟
"وماذا لو كان يحرِّم عليك ما يحلله على نفسه..؟ متع الحياة زائلة،
ومَنْ رضي عاش"..
يا امرأة رجل هو ألا تدركين.. احمدي الله فزوج فلانة لا تسلم منه
امرأة. وزوج فلانة يبعثر أمواله كل ليلة على طاولة القمار وووو.....
وتصعقني المفاجأة والألسن المهيأة لوأدي... الطلاق.. مجتمعنا ظالم لا يرحم
المرأة المطلقة.. الذنب ذنبها دائماً...
زوجك أبدلته فهل أبدلت حظك..؟
ويتطوع الكل لإبداء الرأي وإعطاء أمثلة مدعَّمة بمأثورات القدماء
والتي لم تُقل عبثاً. أنصتُ والأسى يمور في عينيَّ وأنا أفكر. ليته حاول أن
يفهمني. أن يستوعب أحاسيسي. أن يتعرف إلى حاجاتي المتواضعة. أن يلمس مدى
حاجتي لحبه واهتمامه. مدى ضعفي أمام كلمة حلوة صادقة. ليته حاول ...
ليته...
ولم تقهره أوهام عبودية كان يتلذذ بها وأفزعه صوتي المطالب
بإلغائها.
ليته أحس معي.. حاورني.. حاول أن يصل معي إلى حل"..
الليل ينسلُّ هارباً ليفسح مكاناً لنهار جديد يا أدهم.. ولما أزل
يقظة أطل من شرفة غرفتي وأصغي لصوت يغرق الكون بأحلام ضبابية تشعرني بروعة
الوجود. فأتابع العتمة المنزلقة نحو المجهول. وأشعة الشمس الواهنة القادمة
من البعيد. يتسرب السكون إلى جسدي. ويغمرني خدر لذيذ وأنا أنظر للبعيد،
وعقلي يفكر بتلك الآلة البكماء القابعة إلى جانبي ويتساءل: متى سيصلني صوتك
عبرها.
أتذكر يا أدهم حين كنا صغاراً كانوا يحصلون على الحقيقة من خلال
إيهامنا أن جبيننا صحيفة تكتب عليها أفعالنا وأقوالنا. وصدَّقنا ما قالوه..
فليت الجبين كان مرآة الحقيقة حقاً..
حين تسلقت أشعة الشمس الصفراء، نافذة غرفتي.. تلمست طريقها إلى
وجهي، وطبعت عليه قبلة صباحية. استقبلتها بفرحة طفل تفاجئه أمه بهدية عيد
ميلاده..
لن أذهب إلى عملي اليوم سأبقى وأنتظرك يا أدهم فنحن الحب صهرنا وجعل
الحقيقة في وجداننا واحدة، والعالم خارجنا غامضٌ، مزيَّفٌ، مجهولٌ.. أستلقي
والآلة السوداء بجانبي.. تذكرت فجأة لم أنتظر.. سأتصل أنا..
وأدير سبعة أرقام.. يصلني الصوت بعد أول رنين قائلاً:
ـ أأنت يا غالية كنت أنتظر الصباح لأقول لك انتظريني... سآتي
لاصطحابك....
الحب لا يعرف المستحيل
أَنْدَسُّ بين الداخلين، الجمهور المنَّصت كبير جداً، وأنا بينهم،
الكل يحبه، وأنا أكرهه، بحقد يتحدث عن وطني، فكيف لا أكرهه، بل كيف لا أحقد
عليه، أو أقتله...
نعم أقتله أنا الرجل الهادئ المتزن الذي لن يتوقع أحد أن أفعل
هذا.... سأقتله. له وجه حَمَل، وعينا صقر، وخبث ثعلب، كلماته قطرات سامة
تصيب العقول بخدر لذيذ، وأنا وحدي بينهم الحقد يغلي في دمي، وأنتظر التصفيق
لأرميه برصاصتي..
صوته يدوي حيناً، وحيناً يغدو حشرجة مقيته...
يدي على الزناد. عيناي تحملقان به.. وإصبعي ينتظر اللحظة الآمرة..
سيعانق الموت جسده، وجسدي..
الموت.. وأغصُّ بالكلمة، لهوت عنه بدنيا اخترت وداعها بنفسي.
اللحظة تقترب، الموت يلتصق بي. يسير معي حيث الرجل. رصاصتي في رأسه
قاتلة، وجسدي على الأرض جريح..
أصوات.. ضجيج، وأنا بينهم أعي كل شيء.. لقد مات الرجل فماذا بعد؟!
أأغدو في نظرهم مجرماً، ويرتفع هو إلى مرتبة العظماء؟ تراني أخطأت؟..
ولكنه يستحق القتل، وكثيرون مثله، وعملي مجرد دليل على وجود اعتراض،
ومقاومة، وتذكير بالوطن الذي كادت بقية أجزائه أَنْ تُلْتَهم...
صمت لا يقطعه إلا خطوات الحراس. وأصوات تنبعث من بعيد..
طالما كرهت الأماكن المغلقة، وها أنا ذا وحيد بين جدران سجني. هم
يخشون على الآخرين مني لذا حكموا علي بهذه القطيعة، ولكن إلى متى؟؟..
ألوب في أرجاء الغرفة الضيِّقة، والعجز يوهن قدرتي على التفكير.
توحدي موحش وزمني يفوق المدى، وغربتي عن وطني وأحبتي انسحاق لأعز مشاعري..
ليتني أستطيع الحصول على قلم وأوراق، فعقلي بركان يكاد ينفجر بما
يعتمل فيه...
"لقد كنت خلال عملي كصحفي ألملم قروح أبناء وطني وتوجعهم وأخطها
صرخات تفضح. تُؤلم.. وتلطم العالم بحقائق تُطمس معالمها بإتقان من قبل أيدٍ
قادرة بترت أنا إحداها، وسيفعل مثلي آخرون...".
ليتني أحصل على الأوراق والقلم، فعبر الكلمات سأشعر أنني حي، فأقهر
أيامي الممتدة أمامي بلا نهاية، وأتنهد بعمق بعد أَنْ أفرغ مخزون عقلي الذي
يعمل كمرجل، وقلبي الذي يتوق إلى رؤية أولادي وزوجتي... ترى ماذا حلَّ بهم؟
وكيف كان تقييمهم لما فعلت؟ تُراهم أدركوا غايتي. أم تأثروا بآراء الغير؟
لا .. لا لابد أَنْ أمهم ستجعلهم يفهمون، ويعون الأسباب التي جعلتني أفعل
ما فعلت... سارة إنسانة عاقلة...
سارة... الزوجة والحبيبة..."يوم التقيت بها كانت المرأة بالنسبة لي
موضوعاً لقصة جديدة يجب أَنْ أعيشها لأستطيع الكتابة بصدق... لحناً يلهمني
مئات الأفكار، لكن ساره لم تكن أية امرأة، فلم أعرف أنني مجرد عابر سبيل في
عالم يضجُّ بالحياة إلا حين عرفتها، ولم أكتشف أنني أعيش على عتبة وطني إلا
حين أحببتها، سكن قلبي إليها، واستسلمت مشاعري." فكيف طاوعني قلبي أَنْ
أدعها تحتمل غربة عن وطنها وعني، وحمل مسؤولية ولدينا؟! كيف استطعت وأنا
المحب أَنْ أفعل بها هذا؟...
الوقت بالنسبة لي ليس له وجود. حيرتي بلا حدود..
ترى ماذا ستفعل هي والأولاد؟ هل ستعود إلى الوطن؟
أوه... وطن.... ما أجملها من كلمة، وما أروعه من إحساس. فلسطين. هي
الوطن، ولكن أليست دمشق التي احتضنت طفولتي، وشبابي، وأحلامي، وطناً لي
ولأولادي أيضاً....
دمشق موطن الحب والحنان. كيف هانَ عليَّ أَنْ أغادرها... أولادي لا
أريد لهم أَنْ يغتربوا... ليتهم يوافقون على العودة إلى حضنها. أريدهم أَنْ
يكونوا قرب فلسطين... أَنْ يعملوا لأجلها... لأجل عودتهم إليها، هي أمهم.
هي أملهم. هي. هي وحسب..
صورة ولديَّ لا تغيب عن عينيَّ. أشتاق رؤيتهم. ضمهم إلى صدري..
"نوال وصلاح.. أصرت سارة على تسميتهم أسماء تذكرهم بعروبتهم.
وحاولنا جاهدين الاحتفاظ بعاداتنا، وتقاليدنا، ولغتنا، ولكن هيهات فمجتمع
الغرب لا يقاوم.
لقد شعرتْ نوال بالتشتت وهي تعيش ازدواجية الحياة. بين أخلاقيات
أردنا إلزامها بها، وبين حياة تعيشها، فكيف تستطيع التعايش مع مجتمع نريدها
أن تنفر من عاداته. كانت محقة حين صرخت... لماذا يحق لأخي ما لا يحق لي؟...
وأجبتها بحيرة ولكن بحزم، أنت فتاة وهو شاب..
قالت بتحد.. هذا كلام لا أستطيع الاقتناع به...
قالت أمها برقة... ديننا وعاداتنا لا تسمح..
أجابت بجرأة... لي وحسب، أم لنا؟
قلت بيأس.... لكما، ولكن.....
قالت بهدوء... لا تقل يا أبي ولكن...، بل تذكَّر أنني غدوت غريبة
بين أصدقاء أحتاج صداقتهم. لم أعد طفلة، وحديثكم عن مجتمع الشرق المعبأ
بالحب لن يستطيع أن يمحو من ذاكرتي أنني سأبتعد عنكم يوماً، وأحيا حياة
عالم اخترتموه لي يوم هاجرتم إليه وتركتم ذلك العالم المثال"...
رأسي بين يديَّ يكاد ينفجر، أركن جسدي إلى السرير المتكئ بوحشة على
الحائط المواجه للنافذة...
"ليتني لم أغادر بلدي، ولكنني يومها كنت إنساناً آخر، ما تغيَّرت
إلا يوم عرفت سارة، قابلتها في إحدى زياراتي لدمشق بعد هجرتي لأمريكا بعدة
سنوات. كنت في زيارة لأسرة صديق...صحفية شابة... جريئة... وطموحة... حياتها
فلسطين.. وقلمها لفلسطين... وحلمها العودة إليها، متحمسة إلىحدَّ التهور
أحياناً...
جلست صامتاً أنصت لحديثها، كانت تتحدث بغضب عن المغتربين من أبناء
الوطن، وكيف نسوه، وحين علمت أنني أحد مَنْ تهاجمهم أخرجت دفتراً وقلماً..
وقالت: ... لنبدأ حواراً عقلانياً إما أَنْ تقنعني، وإما أَنْ تؤمن بوجهة
نظري، وتعود...
استمر الحوار ثلاث ساعات وفي نهايته قلت لها... سارة هل تتزوجينني،
وتمضين معي إلى بلاد الغربة لتقنعي بقية المغتربين بالعودة؟...
صمتت سارة وابتسمت.. ثم غدت زوجتي...
تذوقت طعم الحب الرائع، وأحسست بلذة الأبوة فما عاد يُغريني في
الحياة شيء، لكنها ظلّت تخشى عليهما مستقبلاً نجهله....
كانت تقول لي... جهاد أخاف عليهما. ستقهرهما الأفكار السائدة،
وسيغدوان جزءاً من هذا المجتمع يؤمنان بما يؤمن. وقد يصبحان أعداء
لوطنهما...
فأهدئ من روعها قائلاً... في أعماقهما تترسب المثل والقيم التي
علَّمناهما إياها. ولكنها لا تتوقف فتقول وكأنها تحادث نفسها... المغريات
هنا قوية، والوطن بعيد. ولو وصل أحدهما يوماً إلى مركز سياسي كبير ترى هل
سيعمل لنصرة وطنه؟ وأي وطن سيعتبره يومها وطنه؟...
وكنت أتهرب من تساؤلاتها بالصمت..".
مشتعل الأحاسيس يسحقني الانتظار... وعدتني سارة أن تقنعهم بالعودة
إلى الوطن، سأراها اليوم مع الأولاد. لابد أنه الوداع، وستبقى القيود،
والوحدة علقماً يمتص سنوات عمري الباقية..
دوامة الحيرة تُحكم ضغطها على أعصابي، وسؤال أرفضه ثعبان يلتفُّ حول
رأسي.
أنادم أنا؟ لا.. لن أجيب.. لا بد أنه الانتظار، والشوق إلى مَنْ لم
أعتد فراقهم، ولكن صدري سيحتمل ثقل الأيام الباردة، وقلبي سيعتاد رائحة
الجمر المشتعل أبداً في أرجائه...
نعم سأعيش الحياة التي اخترت، وأرضى حرماناً عايشه أبناء وطن أحببته
ونذرت أَن أفديه. وطن بدأتْ مأساته يوم ولدت، ولما تنته بعد... حاولت نزعه
من قلبي بالانتماء لغيره فلم أستطع.. فكيف أكون نادماً؟..
السيارة تجوب بسارة الشوارع... اقترب موعد لقائها به..
"خائفة أنا من المواجهة، كيف أقتل آخر أمل لديه. هما أمله، وعودتهما
إلى حضن وطنه وأهله أمنيته الوحيدة المتبقية... هو نادم على فعلته بشكل
ما.. كان يمكن أَنْ يساعد وطنه أكثر لو بقي خارج أسوار سجنه، وموت ذلك
الرجل لم ينه الاحتلال، ولا جبروت العدو، ومن يحمل أفكاره كثيرون جداً"...
السيارة تسير بناء على طلبها دون هدف، وهي تائهة حائرة مع
أفكارها..."الندم غدا بالنسبة لنا ومنذ وضع القيد في عنقه طائراً قبيح
الوجه ينقر رأسينا باستمرار ورتابة.. صار طبلاً بين يدي كاهن إفريقي يدوي
صوته في أرجاء قلبينا... أصبح علقماً في فمي وفمه، ولكن إلى متى؟! وما
الفائدة؟
ما حدث حدث، ولابد من تقبِّل الواقع والحقيقة. لن يفيد الندم، ولن
يعيد الزمان. لن أستسلم، ولن أدع أولادي يضيعون مني. سأضمهم إلى حضن قلبي
ثم إلى حضن الوطن... دون أن يعوا سأجعلهم يعشقونه، ويعودون إليه. لن أجعله
يخسرهم...".
خطوات تقترب. لابد أَنَّ الموعد قد حان.. سارة بثوبها الأخضر الذي
أحب تدنو...
ـ الأولاد.. أين هم؟ ألن أراهم قبل الرحيل؟
ـ لن يرحلوا أيها الغالي..
ـ هذا ماكنت أخشاه.. ألم تحاولي إقناعهم؟...
ـ ذاك الوطن لم يعرفوه..
ـ ولكنهم منه فيجب أَنْ يعشقوه، وأَن يعملوا من أجله.
ـ هذا ما تشعر به أنت. ولدت به، وعشت... لك فيه أهل وأصدقاء،
وذكريات، أما أولادك فلم يعرفوه، ولكنني أعدك أنَّ حلمك سيتحقق بهم.
ـ ساره.. أحتاج احتضانك..
أنظر إلى وجهها خلف الزجاج. أتضرع إلى عينيها.. صوتها الحاني يتغلغل
خلال مسامات قلبي..
ـ مازال الأولاد صغاراً.. سيغدون مثلك يوماً أيها الحبيب. أقسم
سأعمل على جعلهم يفخرون بك كعهدهم دائماً..
أمضي مرفوع الرأس.. أغزل من كلماتها أملاً جديداً، وأردد...
سيأتي ذلك اليوم.... لابد سيأتي....
الغد يأتي متأخراً
خطوات سريعة، وأيدٍ تحمل الحقائب المثقلة بالتُّحف الدمشقيَّة
الجميلة. تضعها بعناية في العربة المنتظرة عند مدخل البناء...
كل شيء يتم بإشرافه، ومنذ البداية، فهو يفكِّر كي لا يدع للمصادفات
أية فرصة لتتلاعب بتخطيطاته.. التحف انتقاها باهتمام...بعضها سيزيِّن
بيته المؤسس على النظام الشرقي، وبعضها الآخر يُقدم كهدايا، فالأعمال
التجارية لها متطلباتها والشرق بالنسبة لأبناء الغرب عالم خاص. غامض،
ومشوِّق بكل مافيه...
"دقائق وينتهي كل شيء يا عاليه".. قال حامد لابنته.. وهو يُعطي
الحقيبة الأخيرة للسائق، ثم مُعقباً، وموجهاً كلامه إلى السائق: "سننزل
بعد قليل"...
وقفت ندى تنظر بعينين مشدوهتين، وتُحدث نفسها بفزع... بعد قليل
سيغيبان. أُسرتي وحياتي كلها، فماذا سيبقى؟"..
كان حامد يتحرك بحماس مُتجنباً عينيها، وعالية تتبعه. تستمع إليه.
تُلبي كل ما يطلب ببنطالها القصير، وسترة زاهية دون أكمام انتقاهما والدها،
وقدمهما لها بفرح قائلاً: "ستعيشين يا عاليه مثل بنات أمريكا. كفانا
تعقيداً للحياة. هناك يحيا الإنسان كما يحلو له، حرية، ولا شيء سوى
الحرية"..
احتوى الحزن ندى، والتصق بها، فالتجأت صامتة إلى كهفه. نظرت إلى
الجسد الحبيب لابنتها، وأسفت لأنها عاجزة عن تقبُّل حرية لم تعتدها فهي
تخاف بل وتغار على ابنتها مع أنه قال: "هناك كل إنسان لاه بنفسه. العيون
المحملقة الفضولية لا توجد إلا عندنا"...
صوته في أذنيها قوي مقيت، وصوت استنكارها أقوى...
حين مضى بابنهما علي عذرته لأنَّ ابنها سيدخل الجامعة هناك، ولأنها
مرحلة وحسب، وستلحق هي وابنتها بهما.. لاذت بحب عاليه تعوِّض حرمانها من
وجود عليّ الذي كان يؤنس حياتها بصخب شبابه، وأحاديثه الشيِّقة، وطلباته
التي لا تنتهي، والآن يأخذ عاليه.. مستحيل......
وهي ما مصيرها؟
كيف ترضى وعاليه كل مَنْ بقي لها؟
لِمَ لا تصرخ في وجهه، وتطالبه بحقوقها؟ هي ما زالت زوجته، ولها
عليه حقوق، فلم لا تسافر معه؟
أسبابه واهية، وخداعه لها واضح وجلي.
ولكن لماذا هي مستسلمة، خانعة؟
أهو الخوف من مواجهة الحقيقة، حقيقة أنه لا يريدها، وأنه يقول لها
مالن يفعله.. أم تُراها رغبة كامنة في أعماقها تؤيِّد أفعاله كلَّها؟
هو لا يريدها… وهي أتريده؟...
أترغب بمرافقته إلى تلك البلاد البعيدة؟
إنّما… أتقوى على الحياة دون ولديها وقد اعتادت على تنسُّم عبق
حبهما كل لحظة من لحظات يومها؟...
أتستطيع ألا تغفو في حضن اهتمامهما، وحنانهما؟
أتحتمل الحياة دون أَنْ تضمهما إلى قلبها المحب؟..
تلهت ندى عن الفكرة، وأبعدتها عن ذهنها وهي تتلقى ذراعي ابنتها،
وقبلاتها فوقت الرحيل قد حان...
قالت عاليه... سنجتمع قريباً، والتفتت إلى والدها قائلة... أليس
كذلك يا أبي؟...
أجاب بثقة.. نعم... نعم قريباً جداً...
"ما زال يكذب.. يستهزئ بي. يعتبرني غبية ساذجة لا أدرك أبعاد حقيقة
ما يفعل...".
رمقته ندى وهي تغمغم..."لن يفعل يا ابنتي.. لن يفعل. لم أعد أرضيه
منذ بدأ يفكِّر بالهروب من وطنه، وأنا جزء من هذا الوطن"...
"اكتبي لي يا عاليه. أحتاج الاطمئنان عنك".. قالت ندى وهي توصل
ابنتها نحو الباب الخارجي، واستطردت.. "اعتني بنفسك، وبأخيك يا حبيبتي"....
ودعت ندى الوجه الجميل لحياتها، وأغلقت بابها خلف آخر نسمة حب كانت
تنعش عمرها..
تلفتت حولها، فاصطدمت عيناها بالفراغ، وبقسوة الحقيقة، فبكت كما لم
تبكِ يوماً، بكت خنوعها وتقبُّلها للظلم كي تهيئ لأولادها الاستقرار وهاهي
الآن وحدها فقدت حتى مَنْ من أجلهم ضحَّت.
هو قال... لم أستطع احتمال فراقهم، فكيف ستستطيع هي؟..
"أألوم قدري: أم كبريائي المخضب بالغباء؟.. لقد صنع ضعفي قوته،
واستسلامي أوجد قدرته، ومن خلال تفوُّقه عليَّ تفوق على الآخرين"..
كانت ندى تفكر وهي تتأمل مناحي البيت الخالي إلا من أطلال عمر
أمضته فيه عمر أجوف خال من الحب، فماكان يؤمن بتأثير الكلمة الحلوة، ولا
بأثر الكلمة الجارحة: لم يكن يشغل حياته أي شيء من هذا، المال هو المهم،
وما عداه تفاهات...
المال وحده سبب السعادة، لا الحب، ولا الحنان، ولا المشاركة
والاهتمام.. وأية وسيلة للحصول عليه ممكنة مادام يوجد تبرير وتفنيد، وهو لا
يكتفي فأمريكا امرأة لعوب تغريه، وتحتاج الكثير كي تقبل به..
أرسل المال إلى بنوكها، ولحق به.
"فليذهب، وليفعل ما يشاء، ولكن الولدان"...
قالت ندى لنفسها وهي تهوي على الأريكة بجسدها الواهن وتبكي..."
"سلب كل مقاومة لديهم بحديثه المشوِّق عن مجتمع يتمتع بكل ما حُرم
منه، وتمناه"...
تتقوقع داخل جمجمتها، وتجتر ذكريات طويت، تستسيغ إحساسها بالمقت...
"استغل طيبتي، وقلة معرفتي بالحياة. ما عرفت معنى الحب، ولا متعة
التفاهم فهو إنسان أناني"...
الغرف تئن تحت وطأة الصمت بعد أن غادرا
يومٌ مضى، يومان، عشرة لم يعد للزمن وجود بالنسبة لها فما أهميته
وليس لحياتها وجود، ولا لقلبها نبض...
أوقفت ندى أفكارها المتأججة حين سمعت رنين جرس الباب...
تمتمت: "عبثاً.. أتذكر كل هذا... لقد انتهى كل شيء"...
الطارق يلح..
فكَّرت وهي تتجه نحو الباب...."لابدَّ أنَّ أحدهم قد أخطأ"...
ترددت لكنَّ إلحاح القادم أجبرها...
تأملت باستغراب الوجه المبتسم للسيدة المنتظرة، هي جارتها سهاد.
تقيم في البيت المجاور، وقد ألقت عليها التحية عدة مرات لا أكثر، ولا أقل،
فماذا تريد؟
شُحن عقلها في لحظة بأفكار عديدة وتساؤلات، لكن الجارة لم تترك لها
فرصة للتفكير ولا لطرح الأسئلة فقد قالت لها وهي تدخل ببساطة إلى البيت...
"لم تخرجي منذ سافرا"، لم تكن ندى تختلط بالجيران.. اقتصرت على التحية كلما
صادفت إحداهن عند مدخل البناء، فحامد لم يقبل فكرة الزيارات..
قالت ندى....... أهلاً وسهلاً. اعتبري البيت بيتك.... اتجهت نحو
غرفتها وما زال السؤال حائراً في رأسها... تُرى ما سبب مجيئها؟..
سمعتها تقول.. سأضع ركوة القهوة.. أتمانعين؟..
لم تُجب، فقد سمعت خطواتها في المطبخ...
ارتدت ثوباً بيتياً بسيطاً، ومضت إليها..
وقفت بالباب تنظر.. كانت الجارة تتحرك بنشاط، والابتسامة لا تفارق
شفتيها...
قالت وهي تضع البن... الحزن... الندم... الكره... مجرد كلمات لا
معنى لها إنْ أردنا، وسبب للشقاء إنْ قصدنا...
وانتظار الفرص ضياع وقت لا مبرر له، يجب السعي نحوها بحزم كي نحقق
ما نريد.
صدقيني يا ندى لا أحد يستحق...
الأحسن من الماضي هو الحاضر، فدعينا نحياه..
ثم أردفت القهوة انتهت. أتفضلين الشرفة؟...
"مَنْ هذه المرأة؟" سألت ندى نفسها وهي تتبعها نحو الشرفة...
"أهبطت عليَّ من السماء؟"... بسيطة ومرحة.. كم أحتاجها...
"أأحظى بالألفة والود من الغريب، وأفتقد حتى الاهتمام منه؟"...
"لا تكثري التفكير يا عزيزتي" قالت سهاد بمرح، وأعقبت: "استمعي.
استمعي وحسب"..
نظرت ندى إلى الوجه المفعم بالحيوية وفكرت: "لابدَّ أنَّ الحياة قد
وهبتها كل ما تتمناه"...
تشردت أفكارها وهي تلتقط كلمات سهاد: "أأعجبتك القهوة؟"...
ابتسمت وقالت لها بلهفة: "رائعة أنت.. وقهوتك سائغة.. سائغة"...
واستأنفت..
"كم أنا سعيدة بزيارتك"...
اكتست ملامح سهاد بالفرح، وقالت لندى.."يكتسب المرء من الناس مثلما
يتعلم من الكتب، فيجب أَنْ تخرجي إليهم..
أجابت ندى ـ سأفعل، ولكني أمقت الأحاديث التافهة.
فكرت سهاد قليلاً ثم قالت.. حسناً يناسبك النادي سأصطحبك إليه هناك
النخبة المثقفة.. لن تسمعي إلا ما تستسيغين، والآن يجب أن أمضي..
أغلقت ندى الباب خلف جارتها، ومضت بهدوء نحو الشرفة.
فكَّرت وهي تتأمل السماء الصافية... زيارة سهاد حقيقة أم وهم؟ هذه
المرأة مَنْ تكون؟ تراني أتخيل مالا وجود له؟..
عبَّت من نسيم الصباح البارد ملء رئتيها فشعرت بالانتعاش..
رنت لصمت الكون...
استكانت للهدوء، ولكلمات قرأتها يوماً: "إنَّ كل شيء خاضع للإرادة
"رددت الكلمة بتحفز عشرات المرات. الإرادة.. الإرادة..
"وعاجز الرأي مضياع لفرصته"... العجز ضياع بل موت، وأنا لن أضيع بعد
اليوم.
رمت الأفكار كلها جانباً، وأغمضت عينيها، واستسلمت لخدر لذيذ تسلل
إلى جسدها المتعب مع الهواء المعبأ بالبرودة..
خاطبت السماء. شكرتها، وقالت لها بصمت.. سعيدة أنا سعيدة.. فسهاد
حقيقة، والحياة لم تنته بالنسبة لي كما أراد زوجي، وأيده ضعفي... وولداي
حتى وإنْ ابتعدا، سيظل حبهما ملء قلبي وروحي وبيتي.
قد تصفو السماء غداً
الليل يضطجع في أحضان الربيع، وجميع أهل القرية نيام... إلا أنا
الهاربة بولدي من قرية تمتلك الجمال، وتفتقد الحب. هبَّ الليل لمقدمي،
وتبعني حتى تجاوزت حدود القرية الجائرة، ثم مضى ليصافح النهار القادم من
بعيد...
أركض وصوت الطلقات التي أصابت قلبه في أذني..
"ليتهم رموا قلبي بطلقاتهم لا قلبه، فالذنب ذنبي أنا، لقد كان أعقل
مني وأعرف بهم. قال: ـ سيحقدون يا زينب، ولن ينسوا. آه كم أكره هذه القرية،
وكم أحبها، فكل مكان منها شاهد على ذكرى لأغلى ما وهبتني الحياة. حب أحمد.
أركض. أريد أن أختفي قبل أن يكتشفوا غيابي. أخاف منهم على ولدي، فهو
الثروة التي وهبني إيّاها مَنْ أحببت، وهو مَنْ تبقى لي في هذه الحياة.
أحمله. أضمه. أمضي وهمس الكون للقرية الغافية الممتزج بنقيق الضفادع، وصياح
الديكة يخترق دماغي، ويسربل عقلي بصور تمثل عمراً عشته فيها ...
"وعيت الحياة وهو إلى جانبي، فهو ابن الجارة المفضلة لدى أمي،
والبيتان متجاوران..، ولا قيود على عواطف الأطفال. كبر الحب معنا، والبعد
اتسع فالأهل أعطوا كلمة لابن عمي المسؤول عن حقل الأسرة، ومصدر رزقها،
ولكنه غريب عن مشاعري التي منذ حبت تسللت نحو قلب أحمد، ولم يعترض أحد، أو
يضع المتاريس إلا بعد فوات الأوان، غريب عن عقلي الذي تواءم مع عقل أحمد.
فقد غرس فيه ثقافة يعشقها، وعلماً جعله هدفه، ورغبة في الترحال لتحصيل
المعرفة. أصبحتُ مثله أحب ما يحبه، وأكره ما يكرهه دون أن أعي أو يعي هو
كيف حدث هذا، ولكن الأهل لا يعرفون إلا أنَّ لهم كلمة يجب أنْ تُسمع،
ورأياً يجب أن يُطاع"..
أدخل العاصمة بجسد واهن يتلفع بالسواد، وقلب يغوص في ظلمات القلق،
غدوت أرملة، وأحمل مسؤولية طفل. فماذا أفعل..؟.. أسير على غير هدى، والطريق
بلا نهاية، ولكنني يجب ألا أضعف فأنا أحمل الثانوية العامة، وأتقن لغة
أجنبية اكتسبتها خلال إقامتي معه في الغربة، كما كنا ندعوها، ألوك الكلمة
والأسى يملأ قلبي فلقد تبين الآن أنَّ الغربة حيث لا أهل تحب، ولا قلوب
تسامح، ولا عقول تعي.
أتجه نحو فندق في وسط المدينة، أرفع رأسي، وأنفض عن جسدي التعب،
وأمضي نحو الموظف. أحجز غرفة، وأستجدي قدمي الكليلتين لتوصلاني إليها،
والطفل نائم بين ذراعي. يجب ألا يشعر أحد بعذابي. لابد أن أبدو قوية
كعهدي..
"يوم سمع أحمد صوتي عبر أسلاك الهاتف اعتقد أنني قد تدبرت وسيلة
للذهاب إلى دمشق للتحدث معه...
قال: كيف استطعت الذهاب للعاصمة..؟
قلت: لا تُكثر من الكلام. أنا في مطار لندن. أنتظرك..
قال: وهو ينظر إلي، ويضمني إلى صدره. كم أنا سعيد لأنك استطعت أن
تكوني أجرأ مني، وأقوى، لقد اتخذت القرار الصعب، ونفذته"...
كم أنا ضعيفة الآن، وعاجزة حتى عن الحركة، والشريط مازال يتحرك
أمام عيني. أحمد كم أحببته، وكم أسعدتني تلك السنوات القلائل. لست نادمة
إلا على عودتنا إليهم. ليتنا بقينا هناك... أتقلب على جمر كلما تذكرت.
فلماذا لا أنسى ولو لساعات؟ نادمة على ما لا ذنب لي في صنعه، ولا قدرة لي
على تغييره، ولا مكان للندم فيه. أعذب نفسي ولا أستطيع أن أتوقف. لماذا
تبعته...؟ لو لم ألحق به، وأتزوجه لما قتلوه...
"لقد وجد أنَّ ابتعاده سيطفئ شعلة قد تمتد لتغدو حريقاً، فالعقول
متحجرة، والقلوب صلبة، ولن يلين أحد لنداء أي منا. فسافر ليتم تحصيله
العلمي في أوربا، ويحاول التناسي، ولكنني لم أفكر في التغاضي عن قسوتهم،
والرضى بمن لن أستطيع احتمال الحياة معه، وأنا أحب غيره، ولا ذنب له
لأظلمه.
في السفارة عقدنا قراننا، واعتقدنا أنَّ مشكلتنا انتهت يوم أرسلنا
إلى القرية رسالة نخبر فيها الأهل أنَّ زواجنا قد تمَّ، ونتمنى أن يرضى
الجميع عنا. وصلت رسالة مقتضبة تعلن الموافقة. ملأت الفرحة قلبينا، وأسكرت
مشاعرنا، فنسينا في غمرة الاستمتاع كل ما كان. ثم عبق بيتنا برائحة
الطفولة، فاحتوينا الحب بامتنان، وأنهينا سنوات خمساً كانت العمر الذي
عشت"..
يستسلم جسدي لخدر التعب، وعقلي مصر على الاستمتاع بتعذيبي، يفتح
نوَّاف عينيه. يراني. يلتصق بي ثم يغطُّ في نوم عميق.. هذا الطفل البريء
ضحية التخلف، والحقد، والعادات البالية.. يجب أن أبعده، أن أمحو من ذاكرته
كل ما التصق بها، لابد أنْ يعيش لا ليكون أداة في يد أهل أبيه لينتقم كما
أرادوا له...، إنما ليصبح رجلاً عظيماً كأبيه
"لقد عدنا، والحب يملأ القلب، والشوق يزغرد في العيون، ولكن الحب لم
يستطع أن يمحو عادة... إرثاً... حقداً ملأ قلب ابن العم المنتظر سنوات ابنة
الأسرة التي جلبت العار. خانت وتستحق الموت. ولكن الطلقة أخطأت...
أصرخ وصوت الرصاص يدوي في أذني. أضع يدي على فمي لأُسكت الصرخة.
أستسلم لقهر الكوابيس حتى صباح اليوم التالي.. أتوه في دوامة البحث عن مكان
إقامة، وعمل...
أتقوقع داخل آلامي كلما خلوت إلى نفسي، فولدي ليس له ذنب وكذلك
الناس الذين عرفت. أهرب من نوم الكوابيس، ومن أسئلة طفلي. لقد سألني يوماً
بحزم:
ـ لماذا لكل أصدقائي آباء إلا أنا...؟
أجبته والألم يعتصر قلبي:
ـ لقد ذهب إلى الجنة يا ولدي..
فقال بوجه عابس، وهويهم بالذهاب:
ـ قولي له: أن يعود أو اشتري لي أباً آخر..!
يسكنني الفزع، والقلق يستلب طمأنينة أحتاجها لأعيش، فالطفل لن يبقى
طفلاً، والطريق صعب وطويل، والثأر كلمة بشعة أرددها بخوف ويقين، فمن يحيا
في عتمة الحقد، وعبودية عادات قاتلة لن يثوب، وأنا ولجت الدوامة الحارقة
بزوجي وولدي يوم تحديتهم. لقد تحديت قدري..
أهاب زمني المصفد بالغموض، وأرجوه علهم ينسون.. لأجله ينسون...
رحلة عمر مجنون
قلت يوماً.. العهد أمانة، وعاهدت نفسي ألا أتراجع، وألا أتوقف حتى
أصل إلى هدفي. مضت السنوات سريعاً وأنا مازلت أعمل دون توقف لأحقق ذلك
الهدف، فهل حققت؟ وإلى ماذا وصلت بعد كل هذه السنين؟...
"فكرت أم أحمد وهي تسير بخطوات متئدة نحو البيت الذي ستعمل به هذا
اليوم جسدها صار ضعيفاً، فالزمن وضع بصماته عليه، وهو لا يدع أحداً دون
أَنْ يهبه من آثاره الكثير، وهي قد حصلت منه على النصيب الأوفر، لأنَّ
الجهد الذي بذلته يفوق قدرتها على التحمل، ومن أجل هدف ما عادت تدري ما
هو".
البيت قريب، لكنني تعبة... أأعتذر، وأعود لأرتاح؟ لكنهم ينتظرون
قدومي، وإِنْ لم أصل سيجلبون أخرى فأخسر أنا بيتاً تعودت العمل به، ويد
أهله سخية.
"يا الله كم كانت آمالي واسعة، وكم حلمت.. في ذلك اليوم البعيد منذ
عشرين سنة، يوم قررت النزول من قريتي الجبلية إلى العاصمة، بعد أَنْ قدمت
استقالتي من عملي كمستخدمة في مدرسة القرية.
يومها لم أستطع النوم.. انتظرت ضوء النهار بصبر، ذهبت إلى المدرسة
لأستلم التعويض الذي أستحقه عن خدمتي في الدولة. كان المبلغ كافياً لأصل
وأسرتي إلى العاصمة، وإلى أَنْ أجد عملاً هناك..
لو كان زوجي يعمل ككل الرجال لحمل عني المسؤولية، ولما غادرت
الضيعة... لو كان يعمل؟ بل لو كان يملك ضميراً وقلباً...
مديرة المدرسة. تلك الإنسانة الرائعة، ترى ماذا حل بها؟.. كانت
رحيمة بي.. نصحتني، وساعدتني كثيراً... أمضيت عشر سنوات عندها. حاولت أَنْ
تعلِّمني الكتابة والقراءة في أوقات فراغها، لكنني لم أستطع. لم أكن غبية.
لا.. لا... لكن عقلي كان ميتاً، وقلبي كان سيموت مثله لو لم أفكر
بالهروب"..
آه كم أشعر بالتعب... ماذا أذنبت حتى أُعذب كل هذا العذاب. الذكريات
اليوم تهاجمني بشدة. كنت آمل بتعب قليل، وراحة دائمة بعد ذلك.
لو كنت أعلم أنَّ النتيجة ستكون... لو كنت أعلم، ومَنْ يعلم
الغيب؟..
"بعد خروجي من المدرسة، لم أعد إلى البيت. كنتُ أريد أن أودِّع كل
حجر.. كل بيت، وكل ركن في القرية. تسلقت الجبل الذي نقيم في حضنه، وتربعت
على حجر أملس من أحجار قمته. أردت أَنْ أملأ رئتيَّ من الهواء النقي الذي
قالوا لي... لن تجدي مثله في العاصمة، كانت السماء تتأملني وقلبي يدعو الله
أَنْ يحقق أمنيتي وأملي في تأمين حياة كريمة لابني، كان البرد ينخر عظمي
متسللاً عبر ملابسي القليلة البالية إلى جسدي، لكنني لم أتأثر فقد اعتدت
البرد، وكل شيء ممكن تعوده إلا الذل. كنت أنظر إلى السماء. وأقول يا رب
ساعدني لا أريد لابني أَنْ يحيا كأبيه، ولا كأمه، ولا كأبناء قريته، أريده
أَنْ يتعلم. أَنْ يحيا بكرامة...
الفقر قاتل، ومذل. أخذت الغيوم تحوم فوقي، فأسمع لها صوتاً حانياً،
وأشعر بها غطاءً طرياً لجسدي الذي اعتاد قسوة الحياة.
استلقيت، وتأملت السماء، جمال لم أجد يوماً أي وقت لرؤيته، ولم أجد
بعدها وقتاً"...
اشتد الألم... صاحب البيت الذي سأعمل به اليوم طبيب.. سأطلب منه أن
يفحصني، ويصف لي الدواء.
"الذكريات الحلوة قليلة في حياتي، فمنذ البداية عشت يتيمة في حضن
زوجة أب قاسية، وحين زوَّجتني وأنا ما زلت طفلة. قلت لنفسي قد يكون أحسن
منها.. ثم تبين لي أنه أسوء، بل وأحقر بكثير. تمنيتُ أن أنفصل عنه، لكنني
كنتُ أعرف أنه سيحرمني ولدي... لو فعلت، فأنا مَنْ يعوله، ويخْدمه، وها قد
ظلَّ ملتصقاً بي كعلقة حتى الآن، حرارة الشمس ذكرتني بالوقت... قمت، وبسرعة
اجتزت المسافة الفاصلة بين أعلى الجبل والقرية والبيت. كل شيء كان معداً
للرحيل. حملت طفلي، وبقجة الملابس الصغيرة ومضيت يلحق بي زوجي نحو
الحافلة"..
البيت في الطابق الثالث، أرجو أن يساعدني هذا الظهر البائس فأصل.
سآخذ حبة مسكِّن حالما أدخل..
"كانت العاصمة هي المكان الوحيد الذي أراه بعد القرية. العاصمة
الدنيا الحقيقية. العالم الكبير، المخيف بالنسبة لي، تساءلت حين وصلت
إليها...
أفي هذا المكان الغريب سأحيا؟... يا إلهي كيف.. كيف؟.. وكيف سأجد
عملاً وأنا الجاهلة الضعيفة؟ لو كنت متعلمة... حملي ثقيل، ومسؤوليتي كبيرة
فماذا أفعل؟... وصرخت... هل أعود إلى قريتي، وعملي، وحياتي الذليلة؟..
نعم.. نعم.. لابد أن أعود.. الحياة هنا صعبة.. بل مفزعة لأمثالي.
وترددت من جديد، وأنا أنظر إلى طفلي وأتذكر كلمات قالتها لي مديرة
المدرسة وهي تودعني... قد تخشين الحياة في العاصمة في البداية، بل ربما
تصابين بالرعب، لكنك ستعتادين كل شيء بعد ذلك، لا تتراجعي. كوني قوية.
صلبة، واصمدي، وقررت أَنْ لا أعود... استأجرت غرفة، ووجدت عملاً لا أصلح
وأنا الجاهلة إلا له...(لفَّاية)... فكرت كثيراً قبل أن أرضى به، ولدي حين
يكبر ويتعلم ألن يخجل من عملي، لكنني وجدت أنه لن يحصل على التعليم إلا إذا
حصلت على عمل ولن أجد إلا هذا، وبواسطته صارت الغرفة بيتاً امتلكته في
ضواحي المدينة، وبه أيضاً اشتريت أرضاً في ضيعتي وبنيت بها بيتاً، وزرعتها،
وصار لدي المال، فماذا أريد أيضاً؟"...
دخلت أم أحمد إلى البيت الذي تراكم الغبار في أرجائه، وشملته فوضى
الإهمال، وانتظار يديها المتعبتين لإعادة الأمور إلى نصابها فيه، أصحابه
يريدون أَنْ يستردوا مالهم عملاً، وهي لا تريد أن ترحم نفسها...
آهة الألم والعجز مكتومة في أعماقها، وجسدها يعمل بسرعة، وإتقان،
فعينا صاحبة البيت تراقبها، وفمها لا يتوقف عن الطلبات، عجلة زمانها دارت
بسرعة خارقة، فطحنت الشباب، والقلب، دفترها الصغير الذي رافقها طوال سنوات
عملها، والمتخم بالعناوين، وأرقام الهواتف، والمواعيد صفحاته بُليت، وهي
ظلَّت كعهدها تنظر إلى الأحرف، والأرقام، ولا ترى إلا طلاسم، والوقت لم
يتسع لتعلم كيفية فكها، فالعينان معصوبتان، والعقل مكفوف عن التفكير، وظلم
النفس دائماً يُغتفر.
السنوات مرَّت سريعاً. وهي ما زالت تعمل بدوامين في بيوت يملك أهلها
المال، ويعشقون الراحة.. يحبون النظافة، ولا يملكون الهمة. زوجها لم
تغيِّره العاصمة كما حلمت إلاّ للأسوأ، وابنها الذي خافت أن يخجل من عملها
حين يتعلم، ويغدو مهماً في المجتمع، لم يتعلم، ولم يخجل، بل صار كأبيه
يحثها على العمل لتجلب لـه المال، وتُرضيه....
آهة ألم متمردة تخرج من فمي.. صاحب البيت غصباً يوقفني عن العمل.
يفحصني. يصرخ... يجب أَنْ ترتاحي.. ظهركُ مُتعب. ستعجزين حتى عن الحركة
يوماً إِنْ لم ترحمي نفسك...
هو أرحم بي من زوجي، وابني، ونفسي..
ماذا حل بي؟ لماذا كل هذا العذاب؟ هل أكره نفسي؟ هل أنتقم منها؟
لم يبق من سنوات عمري إلا القليل، عوّدت زوجي على التواكل، وكذلك
فعلت بابني.. لم أفعل الخير لهما. ذاك لا أمل منه، لكنْ ابني ظلمته بإعطائه
ما يريد من مال. لم يفكِّر يوماً بي كأم واجب عليه أَنْ يعمل بدلاً منها.
يرحمها. ويحمل عنها عبء نفسه على الأقل. أنا عودته. أنا ظلمت نفسي به،
وظلمته، فهو لم يتعلم، ولم يتقن مهنة، ولم يعتد العمل، عودته على الكسل،
ماذا سيحل به حين أموت؟.... هل سيبيع كل ما اشتريت، ويعود فقيراً من
جديد؟... أيمكن أن يقتنع بالفقر. أم سينحرف؟..
يا إلهي.. أيصبح سارقاً.. مجرماً يلاحقه القانون؟..
لا.. لا يارب.. ماذا فعلت بنفسي، وبه..؟
تعبي، وعذاب السنين. أيُرمى، ويداس؟...
لا.. سأنهي عملي الآن، وأذهب إليه، أعاتبه. أحدِّثه عن مرضي، وعن
واجبه تجاهي، وعن مستقبله، وأنه يجب أن يحمل عبء العمل عني، لابد أنّه
سيفهم، ويقدِّر. ألست أمه؟.. لابد أنَّ حبي في قلبه حتى لو لم يُشعرني به
يوماً...
خرجت أم أحمد من عملها ومضت بسرعة إلى بيتها. نظرت في عيني ابنها
وهو يطلب منها المال.. تأملته، فلم تستطع التحدث معه. خافت أَنْ تسمع ما لا
تريد، فتفقد الأمل الضعيف الذي ما زال يسكنها بوجود حب في قلب مَنْ عاشت
لأجله.
مدَّت على السرير جسدها المجهد، وغفت...
فجر اليوم التالي قامت، وبنشاط خرجت كعادتها نحو بيت جديد في حي
جديد.. تناست مرضها، وبدأت العمل وهي تسأل نفسها ـ تُراني اعتدت العطاء
الدائم دون أخذ، واعتدت قلبي الجاف، وأحاسيسي الميتة، واعتدت جمع المال...
أجابت بصمت.. لا أدري..
كل ما أدريه أنني لن أستطيع التوقف عن العمل...
ولا عن تلبية طلبات زوجي وابني...
ولا عن البقاء في العاصمة...
قهوة على نار هادئة
أطرق بابها، وأدخل...
أخلع معطفي الشتوي، وأجلس على الأريكة قرب المدفأة...
أحرك الجمرات، وأدفع بقطعة حطب داخلها، تتوهج النار، وتتسلل حرارتها
إلى جسدي...
تصب أم حنان القهوة. أمدُّ يدي، وتعانق عيناي التواقتان لحديثها
وجهاً مرحباً. أرشف القهوة، وأنصت لحديثها بشغف....
"منذ ذلك اليوم.... يوم التقيتك يا أمجد في طريق عودتي من بيتها
هذا... قررت العودة إليها. يومها أتيت لأستعيد ذكرياتنا، فاستعدتك... أكانت
صدفة. أم أَنَّ القدر منذ الأزل حدد لنا هذا اليوم، وهذا المكان، لنلتقي؟..
كم رائع غموض وجودنا، وكم ممتعة مفاجآت القدر.
أم حنان (وجه السعد) بالنسبة لي... أدمنت قراءتها لفنجان قهوتي،
واستسغت استسلامي لأنامل الحنان تحتضنني في بيتها العتيق المعبأ بالحب،
والعابق برائحة القهوة المضطجعة أبداً على نار هادئة، في منقل فحم يحتل
زاوية الغرفة.
الناس كلهم هجروا مناقل الفحم، ومدافئ الحطب إلا هي...
تذكرني هذه الإنسانة الرائعة بك وبجدتي يا أمجد، أحب بيتها، وأحبها،
وكيف لا أفعل وهي التي يوم أتيتها للمرة الأولى قلبت فنجان قهوتي، ثم حملقت
به، وبي، وقالت لي بثقة... مَنْ تفكرين به قريب منك أكثر مما تتوقعين...
خرجت من بيتها مشدوهة. أرتجف.. وأسأل نفسي بغضب.. كيف أتيت إلى مكان
كهذا؟… أين عقلي، وتربيتي، وعلمي؟.. طبيبة أنا، أَأُؤمن بالخرافات؟ أآتي
إلى امرأة جاهلة لأستشفَّ من كلماتها مستقبلي؟...
لكنَّ وجهك الذي أشرق فجأة في سماء وجودي جعلني أعجز عن تحديد أية
ماهية لما يحدث...
ماذا أتى بك إلى هذا المكان وفي هذه اللحظة؟ ومن أين أتيت؟...
وأين كنت؟! وكيف عرفت هي؟...
هذه الأسئلة، وكثير غيرها لم أسألها لك، ولا لنفسي، لكنني فيما بعد
فكرت وتساءلت وأنا أجد نفسي أعود إليها...
لم أؤمن يوماً أنَّ لها قدرات غيبية خارقة، لكنني أحببتها...
فهي وجه سعدي... عدت لي يوم رأيتها، والحي الذي تقيم فيه موطن
ذكرياتنا، أول مرة رأيتك.. وأنا أغادر مدرستي كان هنا، وبعد اجتماعنا في
الجامعة كنا نهرع إلى هنا لنحتسي قهوتنا في البيت القديم الذي جعلوه
مطعماً، وكنا نقول لم ينصفنا زماننا في السكن كآبائنا في جنة من جنان
الأرض، فلنمض ولو ساعة كل يوم فيها، فكيف لا أجعل من بيت أم حنان مرفأً
لي... ألتجئ إليه من رياح الحياة اليومية الرتيبة حيناً، والعاتية حيناً
آخر، وأستعيد فيه أجمل الذكريات"....
أنصت لها باستمتاع، وصوت انهمار المطر في الخارج يزيدني إحساساً
بجمال ومتعة هذه اللحظات...
أصب من ركوة القهوة المزيد... هي ما زالت تتأمل خطوط فنجاني
السابق.. اعتادت ألا تقول لي الكثير، فهي تعرف أنني آتي إليها لسبب آخر لا
تعرف ما هو، ولا تريد أَنْ تعرف، فهي قد أدمنت أيضاً مجيئي إليها،
واهتمامي بها، قد يكون السبب وحدتها، وقد يكون كبر سنها، وضعفها، وإحساسها
بالأمان، لوجود طبيبة إلى جانبها، وقد يكون السبب إحساسها أنَّ هناك من
يحتاجها...
أقول لها... دعي فنجان القهوة، ومدي يدك لأطمئن على ضغط دمك... ترفع
كم ثوبها، وتسلمني ساعدها بارتياح...
أخرج من بيتها ولما تتجاوز الثامنة والنصف صباحاً...
أدخل سيارتي المنتظرة خارج الحارة الضيقة، وأمضي نحو المشفى الذي
أعمل به، الأمطار تغسل دمشق منذ الفجر، صار الهواء نقياً منعشاً... أعبُّ
منه، فرئتايَّ تحتاجان للاغتسال بهواء نقي مثل دمشق..
أفكر... جميل أنْ يجد المرء فيما يحيط به نوعاً من أنواع السعادة
تحبب إليه الحياة، وتفيض على الآخرين، والأجمل حين تكون الأعماق هي المنبع
الحقيقي لها..
"سنوات يا أمجد منذ رفض والدي زواجي بك، وسفرك للعمل في الخليج،
وأنا كلما هطلت الأمطار أنزل إلى شوارع دمشق التي شهدت حبنا، وأطوف بها
كلها، أسألها عنك، وأستعيد الأحداث الرائعة التي عشناها، وها أنا الآن
بسيارتي اليوم، أعود إليها، كم أشعر بالخوف كلما تذكرت فترة فراقنا وأفكر
لو لم ينصفنا القدر... لو لم ينصفنا، وأتوقف عن التفكير هلعاً أَنْ يكون
ارتباطنا، وحتى وجود طفلنا مجرد حلم...
سامحك الله يا أبي، أمن أجل المال حرمتنا متعة الحياة معاً سنوات،
وسنوات...
فقير وطامع.. أأمجد طامع، لا رجل كأمجد يا أبي...
ليتك تشعر وأنت في عالمك البعيد أنَّ رأيك به كان خاطئاً...
وليتك تدري مدى سعادتي...
أمانيك يا أبي حققتها من خلالي، فأردت الاستئثار بعقلي، وقلبي،
ووجودي كله، كنت تعتقد أنك تفعل كل ماهو خير لي، لكنك نسيت أنني كائن لـه
رغبات، وأحاسيس وأماني، وأحلام خاصة به هو.
أحببتني حباً كبيراً لم تستطع إيصاله إلي، وبقدر حبك كانت قسوتك،
وتعاستي...
المال كان بالنسبة لك هو الأمان.. هو العرش الذي تتربَّع عليه،
فتحلم، وتحلم، لكنك كنت تخشى أَنْ يتحقق أيٌّ من هذه الأحلام فتفقد ذاك
العرش"...
الأمطار ما زالت تنهمر برقة، وأنا أجوب مناحي المدينة التي أحب.
أصل إلى المشفى. أدخل، ومثل كل يوم بين وجوه محبة، وقلوب متلهفة
خائفة تستجدي كلمة طيبة مطمئنة، وتبحث عن أمل. أبدأ عملي...
العودة إلى أرض الأوهام
أحب الحرية... حلمي الوحيد في هذه الحياة أَنْ أمتلكها...
"أمي تنظر إليَّ، وتدعو الله أَنْ يهديني، فهي تعتقد أنني سأعاني
حين أتزوج.... هي لا تريد أَنْ أصبح مثلها إنسانة سلبية وضعيفة، لكنها ودون
أَنْ تشعر تدفعني نحو ركنها المظلم الذي تتقوقع فيه هي ومَنْ تبقَّى من
النساء الحريم أمثالها، والذي يقوم على حراسته رجال هاربون من عصور
الجاهلية، ويتسترون بأقنعة التحضر"...
النهار ما زال في أوله، وأنا أعبُّ من هواء دمشق المعشَّق بالتفاؤل،
جميل أَنْ يحمل القلب كل هذا الفرح. لابدَّ أنَّه الأمل... هذا البلبل
المغرِّد الذي يجب أَنْ يشجينا بغنائه دائماً كي نستطيع الاستمرار في مسيرة
الحياة..
ألقي نظرة عجلى على الملابس المصفوفة بكسل وملل في الخزانة.
أتذكر...
"لن أرتدي ثوباً بنياً".. الأخصائية النفسية قالت في أحد البرامج
أنَّ للَّون البني تأثيراً سيئاً على اللجنة الفاحصة، لكنها لم تذكر
لماذا... معرفة السبب لا يهمني المهم أنني سأنفذ كلامها، فأنا أريد أن يكون
تأثيري على اللجنة جيداً لأحصل على العمل الذي سأذهب اليوم لأقابل
أربابه...
ليتني أنجح.... ليتني، فالعمل هو الخطوة الأولى للوصول إلى مَنْ
أحب... حريتي، أليس بالاستقلال الاقتصادي أقطع نصف المسافة نحوها...؟
خزانة ملابسي تضيق بما تحتويه. كل الألوان متوفرة فماذا أرتدي؟..
نسيت تتمة ماقالته الأخصائية النفسية. ترى أيَّ لون فضَّلته؟..
أُخرج الثوب الأسود. أتأمله... أكمام طويلة، وياقة عالية. أرتديه.
أعقص شعري نحو الخلف. أتأمل نفسي بالمرآة. أفكر. ياه حشمة ووقار. أتذكر
أعضاء اللجنة وأقول لنفسي... لابدَّ أنَّ اكتئاباً حاداً سيصيبهم جميعاً
فيتوقفون عن العمل، وأرسب أنا.. لا.. لا لن أرتديه...
عيناي تغازل ثوبي الليليكي... أتناوله، أحدق به، وأقول لنفسي...
أأرتديه فيلهيهم تأمُّله عن سؤالي؟؟
أضع الثوب. تضحك عيناي بخبث.. أفكر... لم لا أليست الغاية تبرر
الوسيلة عند البعض؟..
أنزع الثوب الأسود، وأرتدي الليلكي، أتأمل نفسي في المرآة، وأنصت
لصوت سيف.... كتمثال إغريقي بديع تبدين في هذا الثوب يا داليا"....
أراه بقلبي، عيناه تضحكان لي بحب. تضمني بحنان...
"تلقيت الدعوة من أخته ساره ذلك اليوم. قالت... كل الصديقات مجتمعات
وانتهاء عام دراسي أهم مناسبة بالنسبة لنا، وخاصة أنَّ النتائج لم تبدأ
بالظهور، ارتديت ثوبي الليليكي هذا، وذهبت، كنت أشعر بوجوده وأنا أتحدث
وألهو مع الصديقات، وفي النهاية أتى ليلقي التحية ويمضي... بضع دقائق
أمضاها معنا... وبضع كلمات قالها وحسب، لكنها بالنسبة لي ظلَّت تساوي
الكثير حتى الآن"...
دقات الساعة في الصالة أعادتني لحيرتي.. أدركني الوقت. شكل الملابس
ولونها لم يعد يهم. مايهم الآن هو الوصول في الوقت المناسب...
خرجت ودعوات أمي في أذني قبل أَنْ تُغادر إلى عملها، أَنْ تكون هذه
الوظيفة من نصيبي. هي تخشى أَنْ يكون مصيري كمصيرها موظفة في إحدى دوائر
الدولة التي ما زالت تطبّق أنظمة العصور الوسطى. تجرد الموظف من أحاسيسه،
وعلمه، وثقافته، وتجعله آلة صدئة كل ما يهمها منه أَنْ يُمضي الساعات الست
المقررة له خلف طاوله.. عمل لا إبداع فيه، ولا تقدير...
ولا تكسي.. سأتأخر إِنْ لم أجد سيارة أجره..
بدأت أشعر بالاضطراب، لكن لا. أعصابي يجب أَنْ تظل منضبطة، وإرادتي
هي المسيطرة..
ها قد وجدتُ سيارة الأجرة.. دقائق وأكون مع اللجنة...
"سيف ساعات قليلة. وأكون معك. واثقة أنا أنَّ قلبك وأفكارك معي، مع
أنّك غير مقتنع بما أفعل. تريدني أَنْ أعمل معك في مجال اختصاصنا هندسة
العمارة، وأنا لا أرغب إلا في العمل بشركة خاصة، وبالديكور حصراً...
كم أحبك يا سيف، فأنت رقيق ومتفهم لم تحاول الضغط عليَّ لتحقيق
رغبتك. ليتك تظل هكذا..".
هاقد وصلت. ساره بانتظاري بابتسامتها الحلوة، ولهفتها، ويدها
الممتدة نحوي.. قالت... حان دورك...تعالي..
أسير معها وأنا أفكر.... كم تشبه سيف. لابد أَنَّ أولادي سيكونون
مثله، فأراه بوجوههم حتى وهو غائب"..
رهبة.. خوف.. سعادة... وأنا وحدي مع أعضاء اللجنة. الأسئلة كثيرة
ومكثفة. لابدَّ أَنْ أكونُ مُتقنة لكل المهارات علم وثقافة. كمبيوتر ولغة
أو اثنتان: والعيون تحملق. تدقّق. تستشف يريدون الكمال..
النتيجة بعد أيام. أودع ساره. وأخرج إلى الشارع. مازال في الوقت
متسع لموعد سيف.
أوراق التخرج لم تنته بعد... سأنهي بما تبقى لدي من وقت بعضها.
المشفى قريب.. سأذهب لأحصل على وثيقة تبرع بالدم. نصف ساعة وينتهي
الأمر وأكون مع سيف..
يدي بين أيدٍ أمينة تقوم بالواجب. عيناي تتابعان الدم المتدفِّق من
يدي عبر الأنبوب.. دائماً كنت أشعر أنَّ من واجب كل مَنْ يتمتع بصحة جيدة
أَنْ يهب لبنك الدم كمية من دمه تساعد الآخرين عند الحاجة. أفكار مثالية
أحملها ومثلي كثيرون، ولكن وقت التنفيذ لا نتبرع إلا إذا أُجبرنا..
وجوههم مكفهرة.. فماذا حدث؟..
أخذوا الدم، وأجروا التحاليل، وأخبروني فئة دمي فماذا بعد؟..
أسأل الطبيب..
بتردد يجيب... لا شيء... سنجري تحليلاً آخر للتأكد من أمر ما..
بخوف أقول.. لماذا؟...
يقول باقتضاب... لا شيء... لا شيء مجرد تأكد..
الطبيب مضى، والحيرة ثعبان التفَّ حول عقلي، وبدأ يضغط بقوة..
الممرضة قادمة. أوقفها. أسألها. تنظر إليَّ باستغراب، وتجيب... لِمَ
هذا الخوف.. كل مافي الأمر أنَّه يريد أَنْ يتأكَّد من عدم وجود فيروس
التهاب الكبد في دمك كي لا نحتفظ به..
توقف الزمان، والرؤيا صارت ضبابية في عيني...
قلت وأنا أستوقفها... أهذا كل ما يهمكم...وأنا؟...
قالت وهي تلتفت إليَّ...غداً، أو بعد غد تظهر النتيجة فتسألين
الطبيب.
المشفى صحراء شاسعة تتلفع بالبياض وأنا ضائعة. لا أدري من أين أتيت،
ولا إلى أين أمضي..
ماذا حدث؟ ما هذا المرض؟ وهل أنا مصابة به حقاً؟ وهل هو خطير؟ أيمكن
أَنْ يكون مميتاً..؟
قدماي تقوداني خلف طبيب. يدخل إلى غرفه. أدخل خلفه، وأقف بثبات.
أسأله.. مرض التهاب الكبد ماهو؟
ينظر إليَّ الطبيب باستغراب، ويسأل... أأنت...؟
أقاطعه قائلة... لا هو مجرد تساؤل..
يجيب... ليس لدي وقت للشرح، لكن هو مرض خطير، ويتطور بشكل سريع
و.....
توقف الطبيب عن الكلام. اعتذر ومضى...
ذهب هو إلى شأنه، وأنا فهمت أَنَّ الموت مصيري لا محالة..
أسير مشدوهة.. حائرة..
ياالله كم تحمل لنا الحياة من مفاجآت.. كساحر يخرج من قبعته ما لا
نتوقعه من أشياء قد تكون مفرحة مسلية، وقد تكون مفزعة أو مزعجة..
سأموت.. سأموت.. المدينة تغتسل بالحزن من أجلي..
يا إلهي... أحقاً سأمضي عن الدنيا؟..
سيف، والحب، والأحلام، وقصور الأوهام التي بنيناها معاً، والوظيفة
الرائعة التي طالما تمنيتها، والمستقبل العظيم الذي كنت أخطط له...
المستقبل.. ياه... حرف السين يجب أَنْ يُمْحى من لغتنا، وكذلك سوف،
فالمستقبل لا سلطة لأيِّ منا عليه. هو ليس لنا. نحن نملك اللحظة التي
نعيشها وحسب..
أسير... رأسي يضجُّ بالأفكار، ولكن لماذا أفكر؟
التفكير، والتخطيط لأبناء الحياة أما أنا فمغادرة.. مغادرة...
أشعة الشمس الذهبية تلفُّ جسدي بحنان وأنا أسير في شوارع المدينة
دون هدف... إلى أين أذهب؟..
سيقهر الأسى أمي لو عرفت.. لن أجعلها تعلم...
سيف ينتظرني.. لن أذهب إليه...
سيف هو الأمل والمستقبل، وأنا فقدتهما، كم أتمنى أَنْ أرتمي فوق
صدره.. وأبكي..
تُراه يحبني. أم هو ككل الرجال لا يعرف الحب إلا من خلال مصالحه..؟
ياه.. لماذا هذا التشاؤم، والتشرد؟
لماذا لا أنتظر نتيجة التحليل ثم أبدأ باليأس والتفكير بالموت؟
ولكن.. أقادرة أنا على التحكم بأفكاري، وعواطفي، وأعصابي حتى
الغد؟..
سيف.. تُرى لو أخبرتك ماذا ستقول؟..
بل ماذا ستفعل؟.. أتتحدى المرض والموت والدنيا معي.. أم...؟
سيف، وتقتحمني الذكريات.. تعصف برأسي المستسلم للضياع...
"في ذلك اليوم حين تحدثت معه للمرة الأولى كان التحدي هو السبب. كان
يوماً رائعاً لن أنسى لحظة من لحظاته.. سأل الدكتور.... مَنْ حصل على أعلى
درجة في مادته، فقام سيف وقال بفخر. أنا، حصلت على
(94) درجة...
فقال الدكتور... لكنني علمت أنَّ أعلى درجة كانت
(98) وحصلت عليها طالبة..
جلس سيف بخجل، وقمت أنا باعتزاز وقلت... أنا مَنْ حصل على الدرجة
التي ذكرت...
التفت الجميع نحوي، وهنأني الدكتور، فمادته هي الأصعب بين المواد
والأهم.
وجَّه الطلاب كلامهم لسيف وهم يضحكون، ويقولون... أخجلتنا يا رجل،
وجعلت الزميلات تشمتن بنا...
حاول سيف ألا يُظهر انزعاجه بابتسامة لا معنى لها، وبالتجاوب مع
مُزاح الطلاب، وضحكهم..
حين خرجنا.. مضيت إليه.. نظرت في عينيه. كنت أريد أن أتحدى. أن أقول
كلاماً كثيراً اختزنته في عقلي، لكنني لم أفعل شيئاً، ولم أقل شيئاً. كل ما
فعلته أنني استنجدت بالصمت، وحملتُ قلبي الذي صار يدق بعنف، وهرولت
بعيداً...
تجنبت لقاءه خلال الأيام التالية، وفي يوم ربيعي، والشمس تختبئ خلف
غيمة رمادية غطَّت كل السماء. اتجه نحوي. اعتذر من زميلاتي قائلاً...دقيقة
وبضع لحظات، وتعود. ثم أضاف موجهاً كلامه لي... أتسمحين؟
مشيت إلى جانبه دون أَنْ أعي...
سمعت صوته يردد... داليا أنا أحبك.. ثم سأل... وأنت؟..
وقفنا.. ضحكت عيناه لي، وضمَّتني بحنان"...
سأفتقد لضمة عينيك يا سيف، وحنان يديك، ورقة كلامك...
تُرى هل سيمحو الزمان صورتي من ذاكرتك؟...
أشعة الشمس تقبِّل جبيني، وتضمني إليها لتهب جسدي البارد الدفء...
لماذا كل هذا؟..
أخائفة أنا من الموت.. أم حزينة على الدنيا؟..
أشعر أَنَّ حواسي كلها مشتعلة... لا ... لا حواسي مسجاة على أرض
الواقع الذي غدوت أحياه، والموت أصبح توأمي الحقيقي...
لن أحزن... لن أحزن.. أليس الموت هو الحرية الأبدية لمن لم يرتكب من
الذنوب إلاَّ أقلِّها مثلي؟...
والحرية.. ألم تكن النجمة القابعة في البعيد، والتي طالما رنت روحي
إليها؟..
لو كان قدري أَنْ أحيا.. أكان بإمكاني أَنْ أحصل عليها؟...
وهم ما كنت أسعى إليه... وهم، فأنا أنثى، وأنثى تعني القيد،
والعبودية المبطنة..
الرجال وضعوا أقنعة الشهامة، والبراءة، وشجعوا المرأة لتأخذ حقها في
العلم والعمل ليسلبوا كل حقوقها الأخرى...
فمن أين تحصل المرأة العاملة على الحرية وقيدا العمل والبيت في
يديها؟..
وكيف تشعر بمتعة الأمومة وهي لا تملك الوقت ولا الراحة.؟...
لماذا أفكِّر.. أنا ماضية نحو عالم نقي جميل لا مصالح فيه... ولا
استعباد..
الوقت عفريت دون ملامح يعربش فوق رأسي، ويمد لسانه لي مشاكساً...
أمشي دون هدف.. خطواتي فوق أرصفة كل الشوارع... أأودعها؟
كل الطرقات في مدينتي متشابهة.. أمي محقة في رأيها...
أسير وصورة سيف ملء قلبي. تقهر قدرتي على الاحتمال. صدر أمي هو
الملجأ. لابدَّ أَنَّ القلق حلَّ في أركان قلبها فحرمها الطمأنينة
والراحة...
أمضي نحو البيت... أمي والقلق.. أتجنب عينيها، وأدخل غرفتي لابد
أَنْ أنام حتى يأتي الغد بسرعة. تدخل أمي تدعوني لتناول الطعام. عيناها
تغوصان إلى أعماقي...
تبحثان في خوف عن جواب لسؤال يتأرجح حائراً في فمها.. هي تشعر بي...
تنتظرني لأرتمي في حضنها واضع مافي صدري بين يديها الحانيتين كالمعتاد....
لا يا أمي... اليوم ليس ككل الأيام، وحريقي اليوم ليس كحرائق الأمس،
لن أخبرك وأنا أعانق الخوف والترقب... لن أحدثك عن قسوة إحساسي وأنا أذعن
لليأس...
ملهوفة أنا لمعرفة الحقيقة. وعاجزة عن التحرك للوصول إليها..
أعانق القلق والانتظار. وأنت الآن مثلي.. نتساءل معاً، ولكن لكل منا
سؤال مختلف...
أتى الليل... أتى الظلام الحنون القادر على إخفائي عن أعين الجميع
في عباءته السوداء الدافئة...
يتحداني الزمان.. هو مَنْ يحاول قتل قدرتي على التحمل...
الليل ساعاته بلا نهاية.. لمن تتهاوى الحياة أمام عينيه...
أصلّي... أدعو الله، أستغفره. أستنجد به من خوفي، وضعفي... أشعر
براحة...
أغفو.. أصحو فزعة.. تتضاءل رغبتي في التحمل... تتلاشى، فأبكي...
أبكي...
أمي بجانبي... كيف أتت؟...
هل كان صوتي عالياً، أم أنها تسمع أنين قلبي؟..
تراجعت كل الوحوش التي استوطنت قلبي وعقلي لحظة ضمتني إلى صدرها،
وحملت علي مخاوفي..
قالت... لن ننتظر نتائجهم، لكن ثقي أنهم مخطئون...
صدَّقها قلبي الذي غدا فارغاً إلا من القلق والخوف. صدَّقها لأنه
يريد أَنْ يصدق...
يريد أَنْ يرتاح.. أَنْ يهدأ.. أَنْ ينسى.. أَنْ يرمي حمله الثقيل
فوق أيَّ وهم. أمل، أو حتى هذيان..
استيقظت، وكان النهار، قد بزغ هادئاً.. متفائلاً.. فاتحاً ذراعيه
لضمِّ الكائنات إلى حضنه الحاني... لفحات الهواء الصباحي الرطيبة تلامس
وجهي بدعة وأنا أسير عبر الشوارع الفارغة نحو مركز التحليل...
أمي إلى جانبي بمرح تسير... تحدثني.. تحاول إبعاد عقلي عن
التفكير... لكنني واثقة أنَّ قلبها مسربل بالخوف مثلي...
يدي بين أيديهم من جديد، والدم الذي سيحدد المصير ينتقل من شراييني
إلى الأنبوب...
الساعة الخامسة تظهر النتيجة...
أأعود إلى دوامة القلق، والانتظار؟...
لا.. لن أفعل.. سأنفذ المخطط الذي وضعته سابقاً.. أنهي بقية الأوراق
اللازمة للعمل، وأنزل إلى السوق، و... ولكن... ماذا لو كنت سأموت حقاً،
بماذا سيفيد كل هذا؟...
ملجومة الأحاسيس أمكث في البيت. أبتعد عن الهاتف، والباب، وأمي..
أذعن للصمت، وأسدل سحب الخوف المشوب بالأمل على عقلي، وقلبي إلى
الخامسة.
ربع ساعة كانت المدة التي يقتضيها وصولنا للمخبر، فلماذا لم نصل حتى
الآن؟
أستنجد بآخر قطرة للصبر فلا أجدها. أقف... أصرخ... أماه لا أريد
أَنْ أعرف...
قلبها يبكي، ويصرخ معي، لكنها تتحامل على المستحيل، وتقول... بضع
خطوات، ونصل أيتها الحبيبة...
ثوان وحسب. التقرير في يد الطبيب المبتسم المؤكد أنَّ النتيجة
سلبية..
أنظر إليه، وأتناول الورقة من يده، وأقرأ الكلمة الوحيدة المتربعة
على عرش الصفحة "سلبي" أغمغم بذهول... أهذا يعني أنني لن أموت؟..
يضحك الطبيب، ويؤكد... أنت سليمة... سليمة...
تضمني أمي بعينيها، وتقول للطبيب... شكراً لك...
نخرج معاً...
الغبطة تغطي وجه الكون، والسكون يُسدل خماره عليه، ويتسلل إلى أغوار
نفسي، فيتوارى القلق، وينكفئ الخوف مبتعداً...
أشعر بالأمل كطيف يتفجَّر في عقلي وقلبي، فتعود الأفكار المسربلة
بالأحلام، والأساطير لتعتمل، وتتشاحن فيهما من جديد...
صورة سيف تطفو على السطح. صوته.. حبه...
أعتذر من أمي، وأهرع نحو أول هاتف..
أطلبه.. أنصت لكلمات الحب، والعتاب...
يهفو قلبي له..
أقول... سيف... سأراك غداً، وأعود برفقتك لمعانقة الحياة...
انكسار نجمة
تنتظر، والانتظار استلاب، استلاب لأفكارها، لأعصابها للحظات أو
ساعات من عمرها. ضائعة في حجرات بيتها العالي الجدران. الصامت صمت الموت.
الانتظار تمزق مهين...
تصرخ بصمت من قاع بئر وحدتها: متى ينتهي زمني؟ متى يعتقل غول
ترقبي؟.. يمزِّق الجهاز الأسود الصغير بجانبها السكون... تسمع الصوت
المحبب... تشع البسمة، وينبض القلب. قالت: إنها ستأتي. هي مشغولة الآن،
ولكنها ستأتي...
أنهت غالية مكالمتها الهاتفية، نظرت حولها. أحست بثقل الصمت، ففتحت
التلفاز، واستلقت على الأريكة المواجهة له، فهو يبدد وحشتها، ويملأ بيتها
بالحياة ليلاً، والمذياع يؤدي المهمة نهاراً..
كانت الصور تتلاحق أمام عينيها، والأصوات تملأ أذنيها، ولكنها لا
ترى ولا تسمع فهي لا تريد أن تُشغل عن سماع صرير الباب الخارجي حين يُفتح
وتدخل منه ابنتها والأولاد.
تبدأ رحلة الانتظار من جديد. انشغال يديها بالإبر وخيطان الصوف لا
يكفي.. ففكرها لا يَمَلُّ قهر الترقب وذله مع أنها لم تعتده... لم يكن
زوجها أبو الحكم يجعل أحداً يقف هذا الموقف. فهو يحترم النظام، ويُحبُّ
أَنْ يُتَّبع في بيته فلكل عمل وقت، والحرية وهم، وحالة من الفوضى.
تبتسم حين تذكر كيف كان يحلو لهم أن يلقبوه بأبي نظام! ودود هو ومحب
ولكن...
تلقي نظرة هنا وأخرى هناك إلى صور حياتها الماضية، والمنثورة في
أرجاء المكان. تتراقص الدموع في عينيها. شهد هذا البيت فرحها وحزنها. فيه
وُلدت آمالها، ومنه شُيِّعت أحلامها.
تتكاثف الصور. تنسلخ عن الماضي، وتتجسَّد أمام عينيها. صور تغطي
مساحات زمن عاشته. صغيرة كانت حين جَمَع القدر بينها وبينه، وكان كبيراً.
لم تكن السنوات هي الفارق الوحيد بل الأفكار، والأماني، والخبرة، فتولى بكل
هذا القيادة، ووهبها منصب المنفذ المطيع، زوج وأربعة أطفال، وليس بيدها
اتخاذ قرار، ومع هذا ظلَّ الأمل يراودها في تحقيق حلمها المؤرق الساذج، كيف
لم يندثر تحت ركام المسؤوليات والمحيط المحبط...؟
تنظر لساعة الحائط. لقد تجاوزت الثامنة وابنتها زينب لم تصل.
تدع مافي يدها وتنهض. تخشى أن يخدعها النعاس، ويسيطر عليها. تنزع
إلى السير!.. متوحدة تتأمل سنوات عمرها الغارب..
صدى صوتها في كل أرجاء البيت ينادي: زينب لتراقب الطعام، وهادية
لتنظم المائدة، وحَكَمْ ليجلب الخبز، وسحاب لـ....
صوت الحياة يطرد الصمت. يتسلل إلى الماضي، فتقلب صفحاته أمام
عينيها. تنتفض استمتاعاً. تلامس الحب في ملابس وحاجيات أولادها المنسيَّة
منذ زمن. في آلة الخياطة التي استكانت تحت ضربات إلحاحها لتحقيق الحلم
الموعود. في الركن الذي كان يقبع فيه أبو الحكم كل ليلة ليشرب الشاي. في
رائحة القهوة يعبق البيت بها الساعة الخامسة مساء كل يوم. في أصوات الأولاد
يتنازعون في غياب والدهم على توافه الأمور ثم يصرخون ماما. في صوت أبي
الحكم الحاد مؤنباً.. معاتباً، وموجهاً.. في نقاشهما العقيم الذي تردِّد
أصداءه جدران المنزل كله. لم يكن النقاش يبدأ إلا وينتهي فما كان يقبل
معارضة من أحد...
تلمس وجهه في الصورة. تتأمل نظرة عينيه... تخاطبه.. تعاتبه... غدوت
يا أبا الحكم امرأة مستهلكة. جدباء. متوحدة. يسكن اليأس والمرض جسدي.
أستجدي حب من أعطيناهم نبض قلوبنا.. وفلذات أكبادنا. ما تعودت العالم
الخارجي قط.. فاغتربت حين غادرت بعدك بيتي إليه.. فعدت أتقوقع بين جدرانه
الأربعة.. أترى..؟
قهرك سيدي طرح ثماره، وحلمي الذي جاهدت طويلاً لتحقيقه انطلق
أخيراً من وجداني، وتلاشى أمام عيني. كان حَكَم أملي، وأقول كان يا أبا
الحكم لأنني امرأة الماضي البعيد. البعيد.. كم أحببته، وكم ارتبطت به. كلما
افتقدته بك أردته منه، وكل ما احتجته منك طالبته به. جعلته صديقاً أشكو له
معاناتي، وأذكِّره بحلمي الصغير الذي لم ولن يتحقق معك بالسفر لرؤية
الدنيا. فيضمني إليه ويُقسم أن سوف، وسوف، وسوف..
أرأيت لقد تأخرت زينب يا أبا الحكم، وقد لا تأتي وأبقى ككل يوم
وحيدة... وحيدة، كم أفتقدك. أفتقد احتساء قهوتنا معاً...
وصوتك يناديني حتى وأنا بجانبك مستأنسة..
تضع الصورة جانباً، وتذهب باتجاه الباب الخارجي. تصغي..
لعل أحداً يطرق الباب وهي لا تسمع. تعود خائبة.. متى ستأتي..
أترى البنات يا أبا الحكم لكل منهن زوج يجب أن تطيعه ومسؤولية
أولاد، وأنا لا أريد أن أثقل عليهن، وحَكَم أراد أن ينفِّذ وعوده فحملني
على جناحي طائرة إلى المدينة التي يعمل بها لنسافر بعدها إلى مدن أحلامي
أنا وهو وزوجته. وأحسست بتمزق أعماقه بين محاولة إرضائي، وإرضائها،
وإقناعها بذلك.. عرفت يا أبا الحكم أنه يعاني القهر والاستلاب على يدي
امرأة. على يدي زوجته وأم أولاده. وهو يرغب الاستقرار لحياته، وكذلك أنا،
عرفت أنه مثلي لا يملك حرية ليهبني. مقهور بالعجز.. مُدان بالخيبة...
وحتى لا أمزق ستر انسحاقه. حملت حقائبي وعدت..
عدت بروح خاوية... للوحدة... للخوف... للسأم وللانتظار...
التشرد... في مدن الوهم
أخرجُ من البناء الكبير الذي يعمل به أصحاب العقول المبدعة، بقلب
مفعم بالحماس...
"العمل الأدبي يحتاج بالإضافة إلى الموهبة... لوقت، وهدوء، وجهد،..
هذا ماقاله الناقد.. لابدَّ أَنْ أحصل على إجازة من العمل كي يتوفر لي كل
هذا... سأبقى في البيت...
لا.. لا.. لن أجد في البيت وقتاً، ولا هدوءاً، العمل فيه لا ينتهي،
وزوجي... هل سيدعني أكتب، وأتركه وحيداً؟؟... حين يعلم أنني أخذت إجازة، لن
يغادر البيت، ولن يتوقف عن الطلبات...
الرجل يحب احتكار زوجته.. يريد أَنْ تهبه وقتها كله. قلبها كله،
وتفكيرها كله، وكذلك المرأة التي
لا تجد ما يشغلها تفعل مثله، ولهذا يكون الصراع
شديداً بين الزوجين... تنافس على مَنْ يملك حريته
هو، ويحكم الآخر...
سأذهب إذاً إلى مكتبة المركز الثقافي. هناك هدوء، وصمت، قدسية
المكان تُعين على التركيز...
كان مكان التقائنا أنا وزميلات المدرسة في الإجازة... جميل أَنْ
يعود الإنسان إلى موطن ذكريات حلوة. ذاك الزمان العذب. زمان البراءة،
والأمل. كنا نتوقع، ونأمل، وأتى الواقع متسلقاً جدران عمرنا ليهبنا بعضاً
مما أردنا...
المركز الثقافي... نصف ساعة وأكون هناك قصصي. دفاتري. وقلمي معي،
وعقلي مختزن لكل كلمة قالها الناقد... سأسجل كلماته كلها. نصائحه...
ملاحظاته..
قال: "لديك الموهبة، وتكتبين بشكل جيد، وأسلوبك في القصِّ جميل،
ولكن تنقصك الشجاعة، وسألني: "مم تخافين سيدتي؟ مم تخافين؟"...
مم، وممن أخاف؟ ليتك... ليتك تدري؟
لكنني سألبي طلبك، وأقتل خوفي ثم أكتب...
هاهو المركز... أوقف سيارة الأجرة، وأنقد السائق أجره، وأدخل...
لم يتغير فيه إلا القليل. يالذكريات الماضي الجميل. المراهقة
الحلوة، وأيام الجامعة الرائعة.
أصعد إلى الطابق الثاني. أدلف عبر الباب إلى القاعة، يا إلهي هذا
الكم الهائل من البشر.
أهاربون من صخب الحياة.. أم من عدم تقدير البشر؟...
سألتجئ معهم إلى متعة المعرفة، وروعة الإحساس بعظمة القادرين على
التعبير.
طاولة يتيمة في آخر القاعة.. هي لي..
تهاجمني الذكريات، وتحاصرني، لا أريد الاستجابة لها. لا أريد، فهنا
يكمن الخوف أيها الناقد، هنا يكمن الخوف، جمال الذكرى، وبراءتها. روعة
الإحساس في ذاك الزمان... حاصرني أشرف باهتمامه، ورقة معاملته، وفي يوم قال
بهمس أحبك، وقام مخلياً مكانه لي، ولزميلتي في الطاولة ذاتها التي وهبتني
إياها الصدفة الآن، وجمعتنا كلية واحدة ثم فرَّقنا القدر، وظل السؤال
حائراً.. تراه كان حباً؟..
لكن أفي الحياة إحساس اسمه حب كما يصفه الشعراء، ويتحدث عنه
الأدباء، ويشعر به كل اثنين في بداية الزواج؟…
أعود لكلمات الناقد وأنا أفكر… الحب في الواقع.. وكما أراه، شيء آخر
أسمى، وأحلى مي كل ما سطروه أحلى بكثير...
"حين تمسكين القلم. انسي دنياك كلها، وعيشي دنيا أبطالك، انعزلي عمن
تعرفين، وهبي أبطال قصصك الحياة التي يريدون جيدة كانت أم سيئة، واقرئي،
اقرئي الثقافة ضرورية جداً.. اقرئي أدباً.. تاريخاً.. وعلوماً إنسانية، ولا
تبتعدي عن الدنيا.. انصتي لمشاكل الناس، واسمعي أخبار العالم كله، فالحياة
هي المعلم الأول"..
يا الله كم رائع هذا الكلام، هاقد سجلته كلمة.. كلمة... لن
أخالفه... ولن أحيد عنه.. هاهو الهدوء، وهاهو القلم بين يديَّ، والورق ناصع
البياض ينتظر الأحرف السوداء لتزيِّن أسطره.. "مم تخافين انسي البشر كلهم،
وأنت تكتبين..افتحي قلبك... وأطلقي أحاسيسك من عقالها، واكتبي... اكتبي...
وحسب"..
سأكتب. نعم سأكتب، لديَّ من الأفكار الكثير. سأختار بعضها موضوعاً
لقصص، وبعضها الآخر لمقالات، فالمقالات تكتب بأسلوب مباشر، فتعبِّر عن
الفكرة بشكل أوضح، وقد أكتب الرواية..
الفكرة واضحة في عقلي... الأبطال معالمهم محددة، أفكارهم، أقوالهم،
أفعالهم كلها.. مجسدة في ذهني لا أحتاج إلا إلى يدي الممسكة بالقلم لتخطَّ،
وتسطر أحرفاً تتجمع كلمات تشكل أحداثاً لعالم أنا سأوجده. لبشر كونتهم
شكلاً، وفكراً، وقلباً.. القصة بأحداثها كلها في عقلي من المقدمة، وحتى
الخاتمة، فلماذا تعجز يدي....
الهدوء.. الصمت.. المكان المثالي للإبداع، مم أخاف؟.. وما الذي
أخشاه؟..
القصة من خلقي.. صحيح أنَّ الحياة هي الأصل، وهي تضم المثيل لكل
شخصية فيها، ولكل حدث، ولكل فكرة، لكن القصة تظل مجرد أفكار، وخيال خصب
يُصبُّ في قالب كلمات منمَّقة تسطرها يد إنسان يمتلك الموهبة، فلماذا هذه
الرهبة؟...ولماذا الوجل؟
الفرصة الآن أمامي لأكون أديبة، أو لا أكون...
أكون أديبة يشار لها بالبنان أينما حلَّت. أديبة يتحدث النقاد عنها،
وتتربَّع كتبها الكثيرة الرفوف في معارض الكتب، وتترجم كتبها إلى اللغات
كلها، وتتنافس دور النشر لطبع هذه الكتب مرات، ومرات...
ها قد جمح خيالي، وحلَّق عقلي دون قيد، فاجتاز الأزمنة، وحقق
المعجزات... مع أَنَّ القلم مازال في يدي عاجزاً، والورقة لما تزل بيضاء...
بيضاء...
لا... لا... سأكتب، وأكون الأديبة التي أريدها، ولن أبالي بأي شيء..
الكلمات قطرات ندى تتساقط برقة على الصفحات. عقلي. قلبي.. حواسي
كلها مع الدفق الرائع للأفكار المتناغمة مع الكلمات المتسلسلة بعفوية
الحياة الحقيقية، وبساطتها... بأسلوب أسطوري الجمال.. خيالي الروعة أكتب...
أتوقف عن الكتابة.. أتذكر كلمات كاتب لا أذكر اسمه: "إذا بهرك ما
كتبت فمزقه، وابدأ الكتابة من جديد"... لكنني لن أتبع نصيحة الناقد، ولن
أمزق ما كتبت... فدماغي وحده توقف عن العمل، وأعماقي بدأت تصرخ عجزاً...
ماذا حدث؟... يدي مغلولة، وعقلي صاح متوثب يجلدني بصرامة، وجبروت
كلما حاولت التحرر من قيده. يصرخ بي... الحذر.. الحذر... مرارة الخوف أحلى
من النقد اللاذع والشك.. سيقول الناس، ويهمسون، ويكتب النقاد، ويحللون...
احذري، وابتعدي عن ثلاث... السياسة، والحب، والمجتمع بما يحويه من
شرور ..
أرمي قلمي، وألملم أوراقي، وأنصرف وأنا أفكر... اقترب موعد وصول
طفليَّ من المدرسة، لابد من الذهاب إلى البيت لأهيِّئ الطعام لهما،
ولزوجي..
بيتي قريب..سأمشي... الحوار مع النفس وسيلة جيدة للتخلص من الكبت،
والاكتئاب، فأنا إِنْ لم أتخلَ عن جبني سأصاب بهما معاً، فإن لم أكتب عن
الحب، والمجتمع، وعن السياسة، فماذا سأكتب؟..
أسير.... أنظر إلى الساعة اقترب موعد وصول الطفلين... الحب الذي
يغمر قلبي ويسعد أيامي...
أسرع... عقلي يعود للموضوع.... الشر وشم محفور على وجه الحياة كما
الخير ضوء نهار، وأنا أعي أَنْ لابد من التحدث عن وجهي الحياة، فهي كلٌّ لا
يتجزأْ، والمدينة الفاضلة حلم لم، ولن يتحقق، والحب الأفلاطوني وهم جميل،
كل هذا أعرفه فإلى متى التردد.
الزوج، والأولاد الآن هم الأهم، صوت تغريدهم حين رؤيتي يثلج صدري،
يحيطون بي، ونحن ندخل البيت...
الطقوس اليومية لي، ولهم، ويأتي زوجي، فتبدأ مهام جديدة، وأصل إلى
نهاية اليوم بجسد متعب، وعقل لا يتسع لأية أفكار...
صباح يوم جديد، الأولاد، الزوج، البيت، والعمل.. لا وقت.. لا وقت،
ولا هدوء... فمتى أكتب..
كابوسان. قلة وقت.. وخوف...
أديبات كثيرات يبدأن كتابة القصة، أو الشعر ثم يتوقفن، أو تستمر
إحداهن لفترة، تكتب فيها طلاسم لا يفهمها إلا هي، ثم تتوقف، ويتساءل كثيرون
لماذا؟...
وتتهم الأنثى بأنها تفتقد الموهبة الحقيقية...
زميلات العمل لا يتوقفن عن الكلام، وسماع الأغنيات..
أحتاج للهدوء كي أستطيع التفكير، إجازة يوم آخر هي الحل الوحيد
المتوفر، لكنني الآن أشعر برغبة قاهرة في إنجاز القصة التي بدأتها.
أحصل على إجازة ساعية، وأهرع نحو المركز الثقافي، أختار المكان،
وأجلس، ألملم أفكاري المبعثرة، أحاول الكتابة... أكتب... أمزِّق... أكتب..
أكتب... أكتب...
ثم أمزق كل الأوراق، فأشعر بسكون مقيت...
خائفة.. مازلت خائفة، الجبن يتشبث بي كتشبث طفل خائف بيد أمه..
أأكسر قلمي، وأمزق أوراقي، وأنهي صلتي بالحلم الجميل، الأدب؟...
أتساءل بحيرة... هل سيمضي زماني كله قبل أَنْ أحطم قيود مجتمعي،
وأمحو رواسب تربيتي؟... وهل سأقوى على استخدام إرادتي في قتل الرعب الذي
يعربد في أعماقي؟؟
وهل سأعود يوماً من تشردي في مدن الوهم؟
فقيود مجتمعي وهم، وكثير من عاداته وهم، وعيون أبنائه المترصدة
لأخطاء الآخرين وهم..
أقوم بهدوء، وأستعير من الموظف ديوان شعر، وأعود مرددة بصمت..
سأكتفي بالقراءة...
أجلس، وأقلِّب الصفحات.. منذ البداية ثورة، وتحريض...
"ثوري... أحبك أَنْ تثوري"... يُحرِّضني على الثورة...
"ثوري على شرق السبايا، والتكايا، والبخور"... أأنا من سبايا
الشرق؟... لا أنا أنثى الحضارة الحديثة. متحضرة بكل معنى الكلمة...
متعلمة... مثقفة... وعاملة... أكسب مثل أي رجل... ولكن.. أأحيا مثل أي
رجل؟...
لو كان زوجي مبدعاً...؟ أكان يحتار حيرتي، ويخاف خوفي؟...
أيمكن أن يفتقد الوقت، والهدوء مثلي؟
ثوري... يالها من كلمة، ولكن على مَنْ أثور؟ وعلى ماذا؟
نحن نحيا ضياعاً، وحيرة.. لا الرجل يعرف ماذا يريد من المرأة، ولا
تدري المرأة ماذا تريد؟
نفوسنا أولى بالثورة، وقلوبنا... بل حياتنا كلها..
أقرأ قصيدة أخرى، وأخرج..
"حين تمطر في بيروت، أحتاج إلى بعض الحنان"..
يالكلمات الشاعر رائعة... مرهفة...
الإبداع عمل سامٍ.. بديع..
موهوبة.. قال الناقد: ...."أنت إنسانة موهوبة"..
أأتنازل عن موهبتي بهذه البساطة؟
أخطو نحو بيتي، والسؤال ملحاح في عقلي... أأتنازل؟
أسرع، والكلمات صرخات.. لا... لا لن أتنازل عنها، ولن أدع زماني كله
يمضي، ولا حتى بعضه، وأنا مجرد ديمة تائهة بين السماء، والأرض.
مجرد صدى لطموح عابر... صرخة تحدٍ يائس، وخيبة مريرة..
سأخرج من دوامة ترددي، وأغدو كما أردت دائماً...كاتبة... كاتبة..
صادقة كرسالات الأنبياء..
واضحة كنور الشمس...
جريئة كحد السيف...
قوية كالحق المبين...
|