أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتب: د. عبد الهادي أحمد الفرطوسي

الزمن الحديدي

عن الكاتب

لقراءة الرواية

 

 

الرواية

الفصل الثالث

الفصل الثاني

الفصل الأول

هذه الرواية 

الفصل الرابع

الفصل الخامس

 

 

الزمن الحديدي

 

هذه الرواية

 

كنت أتوقع إني سأكون  الصحفي  الوحيد الذي يحضر جنازة  السيدة  سلوى فتاح ، وستكون  كل الوثائق في حوزتي  وحدي. و ذلك بناء على ما قاله  السيد رئيس التحرير هاتفيا هذا الصباح . كان يهمس خلال الهاتف انه  الوحيد في الوسط الصحفي الذي يعرف عنوان السيدة سلوى  . و ان  أحد  معارفه  أبلغه بالخبر بعد دقائق من موتها … و لكنني حين وصلت دارها وجدت  ثلاثة من مراسلي الصحف قد سبقوني ألى هناك . كان أفراد عائلتها  منشغلين في الإعداد لمراسيم الدفن و استقبال المعزين ,غير آبهين بمطالبة الصحفيين بفتح الغرفة الخاصة بالسيدة سلوى و اطلاعهم على أوراقها و مذكراتها . و حين انصاع  أهل الدار إلى رغبة الصحفيين كان عددنا قد بلغ العشرة .. فكان نصيبي مما تركته السيدة سلوى فتاح هذه الوريقات القليلة التي تشمل قسطاً يسيراً من مذكراتها . و كانت قد دونت هذه المذكرات في دفتر رسائل معطر ومرصع بالورد والمناظر الطبيعية وقد رسمت على بعض صفحاته قلوبا تخترقها سهام  ورسمت على كل قلب حرفي السين والجيم لعلها كانت تعني بهما الحرف الأول من اسمها والحرف الأول من اسم الفنان الكبير جودة الساير ورغم أن السيدة سلوى فتاح غنية عن التعريف لما تملكه من مواهب خارقة وللضجة الإعلامية التي أحدثتها حول نفسها بسبب هذه المواهب قبل اكثر من عشر سنوات … لكن لا بد من التعريف بشخصيتها في مقدمة نشر هذا الجزء من مذكراتها

بدأت السيدة سلوى فتاح حياتها ممرضة في مختبر الرازي ، وخلال عملها تعرفت على جمعية للمعنيين بالباراسايكولوجيا فانضمت أليها وقد كشفت خلال انتمائها لتلك الجمعية عن مواهب عالية في التخاطر وقراءة الأفكار .. حيث أجريت عليها تجارب مختبريه معقدة تمخضت عن اعتراف كبار الباراسيكولوجيين بموهبتها التخاطرية . ولكنها بعد عدة سنوات قطعت صلتها بالجمعية واستقالت من عملها في المختبر المذكور . معتكفة في بيتها لا تسمح بزيارة أحد إلا في أوقات نادرة . وقد اختلف أصدقاؤها في تحديد شخصيتها وأسباب اعتكافها على نفسها . فادّعى  البعض أنها لم تكن بذلك المستوى المرموق ، الذي أضفى عليها هالة من الأهمية … وأنها كانت تنسق مسبقا مع مَنْ تتخاطر معهم ، ومع المشرفين على التجارب، لتحدث  حولها  ضجة زائفة .  وأفاد آخرون أنها قد أصيبت بالجنون والهلوسة ، فكانت تتخيل أشياء لا وجود لها.. بينما أكد فريق ثالث أنها كانت تمتلك قابليات هائلة . في مجال التخاطر . وقد اعتكفت على نفسها ، حيث أحست بالهوة التي تفصلها عن الناس . وعجزهم عن فهمها وتصديقها .   الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الجميع ، أنها كانت تدّعي خلال فترة اعتكافها أنها كانت تتصل تخاطريا بمخلوقات بعيدة عن كوكبنا الأرضي ، وأنها كانت تحدثهم وتستمع إليهم ، بل وتملي عليهم أفكارها في بعض الأحيان . ثم ادعت بعد ذلك أنها استطاعت التخاطر مع مختلف الحيوانات البعيدة والقريبة…

وفي أيامها الأخيرة أعلنت أنها توصلت إلى إمكانية التخاطر مع أناس يعيشون في أزمان بعيدة عن زمننا . منهم من مات منذ مئات السنين. ومنهم من لم يولد بعد .

والصفحات التي بين يدينا هي جزء من مذكراتها تدعى السيدة سلوى فتاح أن الفنان جودة الساير ( الذي جمد في مختبر الرازي عام 1985 ) قد أملى عليها هذه المعلومات تخاطريا ، من  زمانه الطاعن في المستقبل و العهدة على السيدة سلوى فتاح في صحة المعلومات الواردة في هذه الرواية .

 

 

-1-

 

 

استيقظت من النوم شاعراً بإعياء شديد ، حاولت أن أخمن الوقت، لكن الظلام مازال يلف المكان إلا بصيصاً من النور الأزرق المنبعث من المصباح في السقف . أعدت الغطاء إلى وجهي . واستغرقت باسترخاء لذيذ .

ليلة أمس فرض الدكتور أنيس النوم عليَ  مبكراً . ولكن ممرضتي الخاصة تسللت خلسة إلى غرفتي. وأنا في سنة من النعاس شعرت بشفتيها تحطّان دافئتين على خدي . ثم جاء صوت الدكتور أنيس عبر مكبر الصوت زاجراً :

-كفى تنغيصاً يا سلوى … أخرجي فوراً، ودعيه ينام.

 انسحبت من الغرفة ملوحة بيدها، هامسة (( وداعاً)) والدموع تنساب على خديها.

كان يوم أمس زاخرا بالمقابلات الصاخبة فقد زارني صباحا مسؤول كبير .و اكبر في روح التضحية من اجل العلم ، و قال إن التاريخ سيخلدني كرمز للبطولة والإيثار .. ثم تعاقب الزائرون .. و كان من بينهم علماء كبار ، من مختلف الهيئات العلمية العالمية و المحلية .. و الدكتور أنيس يرافق كل واحد من هؤلاء مستقبلاً ومودعاً والبهجة تغمره . ولا يفوته أن ينوه أمام كل منهم انه يشعر بالزهو والسعادة إن أول من يلبي نداء ه مطرب شهير مثل جودة الساير .

   حقا انه حدث مثير وغريب .. ولكنها نزواتي التي لا تنتهي، فحين قرأت نداء الدكتور أنيس في الصحف ، بزغت في رأسي صور متلاحقة لعالم المستقبل، ومثل ما تنزو في نفسي رغبة في زيارة بلد بعيد ، فاحزم حقائبي فوراً واستقل الطائرة ، وجدت نفسي ذلك اليوم امسك القلم ، واكتب الرسالة التالية :

 ((  إلى الدكتور أنيس..

إيمانا مني في خدمة العلم ، أتطوع لإجراء تجربتكم العلمية عليّ ، وذلك بتجميدي .. ولأجل غير محدود .. ولكم الشكر )) كانت دهشة الدكتور أنيس شديدة، فقد يتطوع رجل تجاوز السبعين، ولم يبق من عمره بقية.. أو مصاب بمرض عضال لا أمل لشفائه في الوقت الحاضر، فذلك أمر ممكن.. أما أن يأتي رجل في الخامسة والثلاثين وبكامل صحته ، وفوق ذلك هو فنان شهير له جماهيره الغفيرة فهذا ما لا يصدقه العقل . لم يحاول الدكتور أنيس إخفاء أي شئ عني، بل صارحني قائلاً:

-إن احتمال عودتك إلى الحياة ثانية لا يتجاوز الثلاثين بالمائة . قلت له بإصرار :

-مع ذلك موافق .

ودخلت المختبر وأجريت الفحوصات اللازمة وها أنا استقبل يومي الخامس في هذا المختبر ، بانتظار لحظة الصفر .. ولم انس أن اسأله ليلة أمس وهو يأمرني بالنوم المبكر، عن موعد إجراء التجربة …. قال مطمئنا :

-لا داعي للعجلة .. أمامنا  أكثر من أسبوع لاستكمال كافة الترتيبات اللازمة .

أويت إلى الفراش وصور من قابلتهم ليلة أمس تتلاحق في مخيلتي .. حتى غبت في سبات عميق وها إني استيقظ منهك القوى .. حاولت أن احكم لف الغطاء على جسدي فاكتشفت أني عارٍ تماماً. نهظت مذعورا برغم الإجهاد الشديد الذي يعتري مفاصلي . لكن ضوء ساطعا بهر عيني وجاءني صوت من جهاز قريب يقول :

- استرح في فراشك يا سيد جودة الساير .

اعترتني رجفة مباغتة . وجلست على حافة السرير خائر القوى . وألقيت نظرة خاطفة على أنحاء الغرفة . لم يكن الجهاز الذي كلمني الآن موجوداً ليلة أمس . والى جانبه جهاز آخر على شكل صندوق مستطيل . وعليه مجموعة متشابكة من القضبان ذات الأشكال والأطوال المختلفة. وخلف رأسي جهاز ثالث ذو أزرار معقدة وأسلاك كثيرة وجاءني الصوت ثانية:

-تمدد على فراشك.. وتدثر بغطائك جيداً صحتك تتطلب ذلك .

 نفذت ما قاله الجهاز . والحيرة تغمرني . قلت متمتما مع نفسي إنها الخطوة الأولى في رحلة ألف الميل إذا!!

- بل الخطوة الأخيرة يا سيد جودة.

لم افهم ما أراده الجهاز بالضبط .. هل يعني أنها الخطوة الأخيرة في رحلة الفحوص التي تجرى عليّ منذ أربعة أيام ؟! أم ماذا ؟!

 

 

*   *    *

 

 

فتح الباب . ودخلت فتاة ذات شعر أشقر ، وبنطلون قصير ، وقميص بغير أكمام اتجهت دون أن تنبس بكلمة ، إلى الجهاز المنتصب خلف رأسي سحبت منه مجموعة من الأسلاك وبدأت تلصقها على مفاصلي ، وجانبي رأسي ، ضغطت على عدد من الأزرار ، ثم انتقلت إلى الجهاز المنتصب الذي كان يكلمني حركت أحد أزراره فبدأت سلسلة من الأضواء المختلفة الألوان ، تبرق في الجهاز و الفتاة تتوسط المسافة بيني و بينه …         

لقد اعتدت أن أرى وجه سلوى كل صباح فهي المسؤولة عن رعايتي طيلة الأيام الأربعة الماضية. كانت الابتسامة تطفح على شفتيها , وعيناها تفيضان بالحب .. والحق ، لقد تعلقت بها . وتعلقت بي منذ الساعات الأولى لدخولي المختبر . أما هذا الوجه المتجهم الواقف أمامي  فلم أره من قبل وبادرتها بالسؤال :

- أين سلوى هذا اليوم ؟

-أية سلوى ؟ 

-الممرضة المسؤولة عن رعايتي .

-لا توجد هنا امرأة بهذا الاسم .

 زاد الآمر حيرة . وسألتها باستغراب :

-منذ متى وأنت تعملين هنا ؟

-منذ سبع سنوات وسبعة اشهر .

-ولا تعرفين سلوى !

-قلت لك لا توجد امرأة هنا بهذا الاسم أبدا

-حسناً … والدكتور أنيس ؟

-لا أعرفه أبدا .

-كيف ؟! أليس هذا المكان هو مختبر الرازي للبحوث الطبية ؟!

-بلى انه هو .

-والدكتور أنيس هو مدير المختبر .

-مدير المختبر الدكتور عاطف . والمسؤولة عن رعايتك أنا . وأسمي زينب لا سلوى.

-ولكن الدكتور أنيس هو الذي سيجري التجربة عليّ.

-أية تجربة؟

-أية تجربة!! إذاً فأنت لا تعلمين شيئا .

-لا اعرف عم تتحدث .

وبعد لحظة صمت سألتها .

-  كم هو تاريخ اليوم ؟ يا زينب

- الخامس من شباط . عام …

وقبل أن تكتمل عبارتها صدر عن الجهاز الناطق صفير حاد . ثم قال : 

- ستعرف كل شيء بأوانه . يا سيد جودة . لا داعي للعجلة .

عندها اصفر وجه الفتاة . و بادرتني قائلة :

- سيدي أنا هنا في مهمة محددة . لا داعي لاْن تثقل رأسي بأسئلة لا اعرف الإجابة عنها .

-آسف لإزعاجك يا زينب .                                                                        

ولذنا بالصمت , وبعد لحظات جاء صوت الجهاز يعلن نتائج الفحص :

- نبضات القلب اعتيادية .. الضغط اعتيادي تخطيط الدماغ طبيعي جدا . نقص بالمواد الغذائية ….

واستمر الجهاز يتلو نتائج الفحص . والفتاة تبعد الأسلاك عني  وتعيدها ألي مكانها السابق . وحين سكت الجهاز . غادرت الفتاة الغرفة . ثم عادت تحمل مجموعة من القناني الصغيرة . وضعتها في فوهة الجهاز الناطق . فبداْ الجهاز المستطيل يصدر صوتا مثل تكتكة الساعة .. قالت الفتاة :

-آسفة يا سيدي .. لا تستطيع مغادرة الغرفة قبل أن يقابلك الدكتور عاطف مدير المختبر. وأنا مضطرة إلى مغادرتك الآن.

-ومتى سيأتي الدكتور عاطف ؟

-بعد ساعة وربع .

غادرت الغرفة.  توقف الجهاز من التكتكة . انفتحت في أحد جانبيه  فوهة صغيرة خرج منها قدح من البلاستك .. مملوء بسائل بني تحرك أحد الأذرع المتصلة بالجهاز . حمل القدح . و امتد باتجاهي ، متأنيا، حتى   صار قبالة وجهي . وجاء صوت الجهاز الناطق :

-تناول فطورك يا سيد جودة .

تناولت القدح وبدأت اشرب كان يحمل رائحة البرتقال . وطعمه مزيج من المرارة و الملوحة  . و حين فرغت من احتسائه ، تركت القدح في يدي قليلا .

 عندها خرجت من اسفل الجهاز المستطيل اسطوانة بيضاء تشبه حية طويلة . و في مقدمتها كلاب حديدي . انسابت نحوي بهدوء . حتى وصلت قرب يدي و نهايتها مازالت متصلة بالجهاز . 

كل شيء قد تغير اليوم !!.. خزانة  الملابس و التلفزيون و جهاز التسجيل .اختفت تماما من الغرفة . وحلت مكانها هذه الأجهزة اللعينة. التي لم تطرأ على خاطري يوماً . أيمكن أن أكون قد نقلت إلى مكان آخر أثناء نومي؟ وندّ من بين شفتي سؤال محير

-أين أنا الآن يا ترى ؟!

- في مختبر الرازي للبحوث الطبية. الجناح السـابع والأربعين .

أجاب الجهاز الناطق على الفور . وكأنه ينتظر مني بفارغ الصبر هذا السؤال . ليتلقفه من بين شفتي فيجيب ويستريح … هكذا إذاً نفس الجناح الذي دخلته قبل أربعة أيام . ما هذه الطلاسم يا رب !!… أتتغير الأمور إلى هذا الحد بين عشية وضحاها!!… أمس في الرابع من شباط عام 1985 كان يزورني الوزراء والعلماء . الكاميرات تختطف صوري والصحفيون يتسابقون على تدوين أقوالي . والدكتور أنيس يتباهى بي أمام كل زائر. وسلوى الحلوة الرقيقة تحضر كاميرا وتقول متضرعة :

- صورة تذكارية معك يا أستاذ جودة.. أنا وأنت لوحدنا .

وما تكاد تضع الكاميرا الأوتوماتيكية في مكانها المحدد وتهيئها للتصوير.. حتى يزدحم علينا العاملون في المختبر . كل ينادي ((صورة تذكارية يا أستاذ جودة)).

وما أكاد اغمض عيني وافتحها في الخامس من شباط ((كما تقول الممرضة البلهاء)) حتى أجد نفسي بين هذه الأجهزة اللعينة . لا أتحرك إلا بإرادتها …. وقطع سلسلة أفكاري نداء الجهاز قائلاً:

-أرتد ملابسك يا سيد جودة وتهيئ لاستقبال الدكتور عاطف.

وقبل أن أسال عن مكان ملابسي ظهرت من الصندوق قطعة منها. تناولها أحد الأذرع وقربها مني . ثم ظهرت قطعة ثانية. وتناولها ذراع ثانٍ . تريثت في تناول القطعة . برهة من الزمن. فجاءني صوت الجهاز ثانية:

-أرتد ملابسك ، يا سيد جودة. وتهيأ لاستقبال الدكتور عاطف .

آثرت أن أكون عنيداً . ولا أنصاع لأوامر الجهاز . فجاءني الصوت من جديد:

-هل تنوي أن تقابل الدكتور عاطف بهذه الهيئة يا سيد جودة؟.

ارتديت ملابسي . ودخلت الممرضة البلهاء ، تفحصتني جيداً. ثم قالت:

الدكتور عاطف سيقابلك الآن . فهل أنت مستعد لذلك ؟

-نعم

-حسناً

وفتحت باب الغرفة قائلة :

-تفضل يا دكتور عاطف.

      

دلف أربعة رجال يتقدمهم كهل أشيب الشعر نحيف القامة . يرسم ابتسامة عريضة على وجهه استطعت أن أخمّن أنه الدكتور عاطف على الفور .صافحني بحرارة ، مكبرا فيّ روح التضحية والإيثار . ثم التفت الى صاحبه. قائلا:

-هذا هو السيد جودة الساير الذي تم تجميده قبل أربعمائة عام بالضبط على يد الدكتور أنيس انظروا له إنه بكامل صحته . وما زال يتمتع بشبابه . نحن اليوم - يا سيد جودة – في الخامس من شباط عام 2385. لقد تمت التجربة بنجاح باهر …

لم استطع تحمل الصدمة . فتهاويت على السرير وتداركني الدكتور عاطف :

-لا داعي للقلق ، من المؤكد أنك ستعيش بين أصدقائك، إنك انتقلت الى عصر العلم والازدهار الحضاري . لن تجد أي منغصات في عصرنا هذا.

 

أثناء حديثه كان أحد الأذرع الحديدية يتحرك نحوي حاملاً قدحاً مملوءاً بسائل اصفر . وجاء صوت الجهاز :

-أشرب يا سيد جودة . أنه سيهدئ أعصابك . ويعيد لك توازنك .

 استمر الدكتور عاطف في حديثه:

-تأكد أنك ستجد الحياة جميلة في عصرنا ، وإنا سنحرص على تلبية كل احتياجاتك .

ثم أكمل مخاطباً الجهاز الناطق :

-تقرير عن حياة جودة الساير سابقا، وعلى الفور تكلّم الجهاز :

-تقرير عن حياة السيد جودة الساير الاجتماعية كتبه الدكتور أنيس عام 1985. ولد جودة الساير عام 1950 . تخرج في معهد الفنون الجميلة قسم الموسيقى دخل عالم الغناء . وحقق شهرة عالية . كأفضل مغنًّ في البلد . له ملايين المعجبين من ابناء بلده والبلدان المجاورة . يكتب الشعر أحياناً له علاقات عاطفية متشعبة . يميل الى المغامرة . ويهوى السفر الى المناطق البعيدة والمجهولة . آخر مغامراته تطوعه لأجراء تجربة التجميد عليه . تمّ تجميده في الساعة الثانية صباحا في 5 شباط 1985 .

د. أنيس

 

لاحظت علامات الخيبة والأسف ترتسم على وجه الدكتور عاطف وهو يستمع الى التقرير . وحين سكت الجهاز قال:

-على كلٍّ. سنبذل قصارى جهدنا لتحقيق السعادة لكَ في حياتكَ المقبلة ثم أن لك ثلاثة رفاق آخرين ، من أبناء عصرك . سيتم بعثهم إلى الحياة هذا اليوم . وستعيشون معا . ويسدون عليك بعض الفراغ .

 

وأكمل حديثه مخاطباً الممرضة :

-وأنت … عليك أن ترافقيه في التجوال في أنحاء المختبر . حتى يتم نقله إلى العاصمة بعد ثلاث ساعات . أرجو أن تكوني لطيفة معه وتلبي كل طلباته .

-سمعا وطاعة يا دكتور .

وأضاف موجهاً الكلام الى الجهاز الناطق

-هل يستطيع السيد جودة مغادرة الغرفة ؟

-ليس قبل أن يكمل غذاءه.

ثم التفت أليّ وقال :

-أنا مضطر لمغادرتك الآن . وسنلتقي قريباً في العاصمة . حيث ستقابل الدكتور مشين وأعضاء المجلس العلمي . وأرجو أن تظهر أمامهم بجأش ثابت ومعنويات عالية ….وإلى اللقاء .

وقبل أن يغادروا الغرفة ، ألتفت واحد من مراقبيه ، وكلم الجهاز الناطق :

-أنقل كافة التفاصيل الخاصة بالسيد جودة إلى العقل الأكبر.

 

*   *   *

 

خلت الغرفة إلا مني والممرضة البلهاء ، وهذه الأجهزة اللعينة . ورغم أن ما شربته أعاد ألي توازني . وهدأ أعصابي - كما قال الجهاز - لكن هول المفاجأة ظل مسيطراً عليّ . فمن الصعب أن يصحو الإنسان من نومه فيجد نفسه قد كبر أربعمائة عام  دفعة واحدة . وأن هؤلاء الكهول الذين كانوا أمامي قبل قليل هم بمثابة أحفاد أحفادي … وسلوى الممرضة الحلوة التي مازالت حرارة شفاهها تحرق خدي قد أضحت عظامها رميما … وقطع شتات أفكاري نداء الجهاز وهو يقدم لي القدح الثالث وما أن شربته حتى قال :

-تستطيع مغادرة الغرفة الآن .

اقتربت الممرضة من الجهاز وخاطبته.

-وجبات الطعام للسيد جودة الساير .

ضغطت أحد أزراره . فخرجت منه وريقة صغيرة اختطفتها الممرضة . ودستها في جيبي . ثمّ تأبطت ذراعي وغادرنا الغرفة .

 

*   *    *

 

كل شئ نمر عليه جديد على عيني . وزينب تحدثني عن تاريخ وجغرافية المختبر . قالت إن هذا المختبر قد اعيد بناؤه قبل ثلاث وتسعين سنة.وهو يعد اليوم من أكبر ثلاثة مختبرات في العالم . واستمرت تحدثني عن كل ردهة أزورها …. ذراعها ما زالت تتأبط ذراعي . وفجأة امتدت  اصابعي تداعب اناملها الرقيقة ، وتضغط على كفها. تماما مثلما فعلت مع سلوى قبل اربعة أيام . عفوا اربعة أيام واربعمائة سنة على وجه الدقة ، كان ذلك في اليوم الاول من دخولي المختبر …. جاءت تحمل كوب الشاي الى غرفتي . وجلست بجواري …. وكعادتي مع كل انثى يأسرني جمالها أهجم بكل اسلحتي ، وبلا مقدمات . فأنا من الذين يؤمنون ان الحب ما هو  الا جنون ورعونة وعنجهية … وهكذا انزع عقلي من رأسي واقيده بسلاسل ثقيلة .. وأرميه ورائي ! لئلا يقفز الى رأسي ثانية . فأتلعثم , وتخور قواي . وتلحق بي هزيمة ماحقة . كل غزواتي لا تعرف المناورات والدبلوماسية والخطط البعيدة المدى …. هجوم مباغت أشنه فأعبر إلى مرافئ العشق مكللا بالظفر …. انطلاقا من هذه الفلسفة ، بدأت مغامراتي مع سلوى ، (أول ممرضة  التقيها في المختبر ) … وضعت كوب الشاي وجلست بجانبي . بدأت تتحدث عن عبقرية الدكتور سالم ومكانته العلمية …. ويداها تحطان قرب كوب الشاي ، على الطاولة الصغيرة ، مثل حمامتين وديعتين . ومع الدقائق الاولى امتدت اصابعي لتعصر الكفين البضتين ، وسرى بي تيار من كهرباء النشوة اللذيذة . غمر كل كياني …. سحبت كفيها بهدوء . وهمست :

-عيب … يا استاذ جودة.

غرزت نظراتي فيها . كان الاستحياء الطفو لي يضرج خديها بحمرة قانية …  عيناها تفيضان بساتين من الشوق المكتوم . ومجامر متوهجة بالرغبة الجامحة … واطبقت ثانية على الكفين المذعورتين . جاء الرد هامسا :

-ما هكذا يا استاذ جودة ؟

ولم تمض دقائق حتى رفعت راية الظفر خفاقة .

كل هذه التصورات طافت في رأسي ، وأنا أتأبط    ذراع الممرضة زينب في اروقة المختبر … وقررت أن أعيد التجربة معها . فراحت اصابعي تداعب اناملها وتعتصر كفها … وانتظرت رد الفعل … كانت مستمرة في الحديث دون أن تكترث لما أفعل . تسللت يدي الى كتفها العاري . فاعتصرته .  حاولت أن أقرأ الاستجابة في عينيها .. ولكن عينيها كانتا تحملان برودة الجليد . وقطعت حديثها قائلا :

-ا تعلمين انك رائعة الجمال .. يا زينب ؟

-أعلم ذلك .

-وأن جمالك يفقدني صوابي؟

-ولماذا ؟

دلفت أمامي الى المصعد الكهربائي . ودلفت في اثرها . واختطفت قبلة سريعة من رقبتها . فاستدارت في مواجهتي مندهشة . فأردفتها بقبلة أخرى على شفتيها … ابعدت فمها بسرعة . ثم مسحته بظهر كفها … وسألتني و علامات الاشمئزاز ترتسم على وجهها :

-ما الذي تفعله ؟

-لم استطع مقاومة جمالك .

-وما علاقة جمالي بما تفعله ؟

حاولت أن أقرأ عينيها .. لم تكن غاضبة . ولم تكن راضية … كانت تمط شفتيها استخفافا من هذا البدوي القادم من فيافي القرن العشرين الى عالم الحضارة والإزدهار… وتوقف المصعد . وانفرج بابه . خطت هي الى الامام . وآثرت أنا الاستمرار في اللعبة . فتسمرت في مكاني . التفتت الي قائلة :

-هيا  تحرك .

-لا أتحرك من مكاني ، حتى تمنحيني قبلة أخرى .

تساءلت مستغربة :

-… ما هي القبلة ؟

-مثل الذي فعلته قبل قليل.

-ولماذا ؟

-لأنك جميلة ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍1

تريثت لحظة ثم اطبقت فمها بسذاجة على جانب رقبتي . وهزت كتفيها استهجانا وهي تقول :

-حسنا … والان هلا تحركت من مكانك ؟

سرت الى جانبها في أروقة الطابق الاعلى . وعلقت هي دون أن تلتفت الي :

- انها عادة ضارة … فهي تسهل نقل الجراثيم من شخص الى آخر .

وفجأة انفجرت في براكين الغضب . وودت لو أرد عليها بصفعة تعيد لها صوابها . وتعلمها من أكون .

آه . لو تعلمين الى جانب من تمشين الآن ايتها البلهاء . أنا جودة ألساير  ايتها الغبية . جودة الساير الذي تتزاحم عليه المئات من أمثالك . جودة الساير المطرب المحبوب الذي تتهافت عليه النساء من كل صوب …. يصحو كل صباح ، فيجد صندوق بريده يزدحم بعشرات الرسائل من المعجبات . وكل رسالة تحترق بحرارة الكلمات … أنا معجبة بغنائك يا جودة . صوتك ينقلني الى عالم آخر . أحبك يا جودة . شعري أنعم من الحرير …. عيناي خضراوان واسعتان … هذه صورتي … رقم تلفوني كذا … عنواني كذا … حتى وأنا أمشي في السوق . مئات من الاعين الساحرة ترصد كل حركاتي … تحاول اثارة انتباهي….

وتنبهت على حركة الممرضة زينب . وهي تعتصر يدي بشدة وتقول :

-ما لك شارد الذهن ؟

قلت باقتضاب مفتعل :

-لا شئ .

كانت منذ ان غادرنا المصعد تتكلم باسهاب عن كل ردهة نمر بها . ولكني لم أكن أعي ما تقول . فقد كان شعوري بالهزيمة قد شغلني عن ثرثرتها .. وبدأت اتأملها من جديد . فهذا الجسد المتدفق أنوثة لا يعقل أن يكون لم يجرب الحب حتى الآن . وعدت الى سؤالها :

-كم عمرك الآن يا زينب ؟

-27سنة .

-هل انت متزوجة ؟

-أجابت بانفعال مكتوم .

-كلا طبعا .

-ولماذا طبعا ؟

-………..

-وهل تعيشين مع والديك؟

اعترتها سورة غضب  . وصرخت في وجهي :

-مع والدي !!  … وهل أنا من أبناء الارحام ؟

كان الشر يتطاير من عينيها . واردفت بعد لحظة صمت :

-سيدي أنا مكلفة بأن ارافقك . وأكون لطيفة معك . لكن هذا لا يبرر لك اهانتي .

-ولكني لا اجد في كلامي أية اهانة لك .

-كيف .. وانت تسأل عن والدي ؟!.. وعلى كل أؤكد لك اني لست من أبناء الارحام . أرجو أن تكف عن توجيه هذا النوع من الإسئلة .

-آسف كثيرا .

 

*   *   *

 

أمامي نصف ساعة ، وأغادر الى العاصمة . هذا ما  أخبرتني به الممرضة زينب ، ونحن نعتلي الطابق الاعلى . وسألتها عن المسافة التي  تفصلنا عن العاصمة . فأجابت :

-حوالي 10000كيلومترا .

-والزمن الذي تستغرقه الرحلة ؟

-كالمعتاد اربع دقائق ونصف .

-ولماذا كالمعتاد. ؟

-لأن السفر الى اية نقطة على الأرض لا يزيد و لا يقل عن اربع دقائق ونصف .

-وبأي واسطة يتم السفر ؟

-بالكبسولة .

وبعد لحظة صمت اضافت .

-لعلها غير موجودة في زمانكم ؟

-كلا .

-وما هي وسائط النقل عندكم ؟

-السيارة . القطار . الطائرة .

-رأيتها كلها في متحف العاصمة .

صعدنا سلما قصيرا دخلنا على اثره ردهة متوسطة المساحة ، محاطة بالشبابيك . سحبت زينب من درج قرب الباب منظارين كبيرين .. اعطتني واحدا . ووضعت الآخر على عينيها . وبدأنا ننظر الى المدينة …كانت العمارات رصاصية اللون متشابهة الريازة والمعمار . تتخلل كل بناية عدد من الفوهات ، تدخل وتخرج منها مركبات معدنية .. ذات شكل مغزلي . قالت زينب عنها انها الكبسولات التي يسافر بواسطتها الناس  …. ومن بعيد لاح برج شامخ تنتصب عليه اجهزة معقدة . قالت عنه الممرضة انه الجهاز الدفاعي ولم اطلب المزيد من الايضاح .. لأن ما حصل منذ دقائق ما زال يرن  في أذني … واستدرت الى الجهة الاخرى … ولاح في الافق خلف العمارات الرصاصية شبح عملاق يرفع ذراعين الى السماء ,,, وتابعت بمنظاري امتداد الذراعين السوداوين حتى غابتا في زرقة السماء … ورأيت ستة أقمار حمراء ترصع سماء المدينة . حيث غابت الذراعان وهتفت دون وعي :

-يا الهي … أقمار في رابعة النهار!!

وجاء ردها تزاحمه كركرات عالية :

-  ليست أقمارا . بل مجرد بالونات لامساك جهاز الطقس .

وكانت دهشتي الكبرى وأنا اسمع كركرتها الطفولية ، و هي  ترد على سؤالي الساذج .. وقفز الى ذهني سؤال محير حقا : أيضحك الناس في زمن العلم والازدهار الحضاري!!

ولكن السؤال امّحى من بين شفتي ، وأنا اتذكر احتجاجها العنيف ضد سؤالي السابق عن والديها .     ودوت في الافق صفارة عالية فقالت :

-حان وقت الغداء .. هيا الى المطعم .

 

*    *    *

 

هذا هو المطعم أيها السادة … قاعة كبيرة ، الكراسي والطاولات والصحون واواني الطبخ ورائحة الشواء والتوابل وكل أثر للطعام لا وجود له ، كل ما في هذا المطعم لوحات معدنية مربعة ، ملصقة على الجدران على كل لوحة عدد من الازرار البارزة الشبيهة بأزرار الآلة الكاتبة . وقد نقش على كل زر رقم أو حرف أو إشارة . ويقف أمام كل لوحة نفر من الناس بانتظار طعامهم.

ساد القاعة جو من الهرج والمرج ، وأنا أدخلها فقد ترك الناس صفوفهم واتجهوا الي  بعيون تملؤها الدهشة  من منظري الغريب … صاح بعضهم : (( هذا انسان القرن العشرين ، الذي ذكرته جريدة الصباح)) … وتحلقوا حولي بعيون مبهورة تتفحصني من أخمص قدمي حتى قمة رأسي , فحذائي الجلدي الاسود ، وبدلتي التي تغطي كامل جسدي والقميص ذو الياقة المنشاة ، وربطة العنق الحريرية ذات الالوان المتعددة … كلها كانت مصدر دهشة لهم . تفحص احدهم ربطة العنق بيده . وأخذ آخرون يعدون قطع ملابسي . وعلق احدهم :

-من يدري ؟ … فلعله يخفي قطعا اخرى تحت هذه الملابس .

وكانت دهشتي بهم أكبر فقد كانوا جميعا بزي موحد : بنطلون قصير يغطي نصف الفخذ . وقبعة و قميص دون اكمام بلون ازرق باهت . وحذاء رقيق له سوار من القديفة الزرقاء . هذا كل ما يلبسون . وتذكرت ان اليوم هو الخامس من شباط …. وانقذني صوت زينب وهي تنادي بصوت عال :

 

-أرجو عدم مضايقة السيد جودة الساير . . تفرق الجميع متجهين الى اللوحات المعلقة على جدران القاعة … قادتني الى إحدى اللوحات . واوضحت لي :

-أرجو أن تتعلم منذ اللحظة تحضير طعامك بنفسك . انه عمل بسيط جدا ,

وأخرجت من جيبي الورقة الزرقاء التي التقطتها من الجهاز الناطق ، قبل مغادرتنا الغرفة . بسطتها أمامي كانت تحمل أسماء الوجبات الثلاث . وأمام كل وجبة كتبت بعض الاشارات والارقام… وطلبت مني أن أقرأ الاشارات . وأضغط على ما يقابلها في ازرار اللوحة .. وبعد ان انجزت العملية ، خرج من فوهة تحت اللوحة قدح يحمل سائلا ساخنا لا أعرف له طعما , تناولته على الفور . ثم تقدمت هي وصنعت لها قدحا ، ولعلها قرأت حالة الاستغراب على صفحة وجهي ، فقالت موضحة :

-على هذه الورقة وجبات طعامك اليومي وعليك التقيد بها . كلما سمعت صوت الصفارة تهرع الى أقرب مطعم . فتحصل على طعامك بهذه الطريقة .

-والى متى استمر على هذا الحالة؟

اجابت بعد لحظة تأمل واستغراب  :

- طيلة حياتك طبعا .. وإلا كيف تبقى على قيد الحياة دون طعام ؟

-أقصد : متى أعود الى تناول الطعام الطبيعي .. الخبز ، اللحم ، السمك ، الفواكه  وغيرها .

-ردت بنفاذ صبر :

-ماذا ؟ هل تريد تناولها بشكل مباشر ؟

ثم وجهت الكلام الى كهل كان يصغي لحديثنا .

- عجيب أمر هذا الرجل .

رد الرجل عليها :

-مهلك سيدتي . فهو ما زال يفكر بطريقة متخلفة . لا تنسي انه من أبناء القرن العشرين . ثم أردف موجها كلامه ألي :

-كل هذه الاطعمة التي ذكرتها وغيرها الكثير موجودة في هذا القدح الذي بين يديك .كل اسبوع تعرض نفسك على جهاز الفحص الطبي . وهو يحدد لك ما يحتاج جسمك من طعام … ان هذا القدح الذي بين يديك . يضم مئات الاصناف من الاطعمة التي كنتم تتناولونها في الازمنة الغابرة.

 

وقطع حديثه صوت زينب معلنة حلول وقت الرحيل الى العاصمة  .

 

 

-2-

 

 

امرأة على مشارف الخمسين . عرفتها من الوهلة الاولى من فستانها الأخضر الطويل ، وشعرها المنسدل على كتفيها ، والاقراط المتدلية من أذنيها . عرفتها واحدة من الرفاق الثلاثة الذين وعدني بهم الدكتور عاطف هذا الصباح . ويبدو انها عرفتني من النظرة الاولى . فنهضت من كرسيها فور دخولي الصالة . ومدت يدها مصافحة بحرارة وهتفت :

-لا شك . انك واحد من الذين تم بعثهم الى الحياة هذا اليوم .

-نعم . وانت ؟

-وأنا كذلك . ان ولادتي الجديدة تمت قبل ثلاثة أيام فقط .

-اذا . فعمرك بقدر عمري اربعة وعشرين مرة.

-كيف؟

-لقد تمت ولادتي قبل اربع ساعات فقط .

-حقا ؟

-وبعد لحظة صمت سألتها .

-وكيف  وجدت العالم الجديد؟

-أبدا . لم ار منه شيئا . لقد قضيت الايام الثلاثة في المستشفى .

-وهل انت مريضة ؟

-نعم . كنت مصابة بالسرطان . وهذا ما دفعني الى الموافقة على تجميدي.

-وكيف حالك الآن ؟

-بخير . فقد اجريت لي عملية جراحية بعد ثلاث ساعات من بعثي الى الحياة . وخرجت اليوم من المستشفى بكامل صحتي .

وقطع حديثنا دخول المضيفة ، برفقة شيخ تجاوز السبعين ، له لحية بيضاء . وبدلة عريضة بنية اللون , وقدم نفسه لنا باسم جورجي تونغ.

وهتفت السيدة بدهشة :

-آه. تونغ العالم النفسي الشهير . أليس كذلك ؟

-نعم أنا هو( قال الشيخ )       

-لقد قرأت لك الكثير فأنا من المؤمنين بآرائك العلمية . ولكن ما الذي دفعك الى تجميد نفسك ؟

-جنون العلماء .. يا ابنتي .. فقد شعرت بنضوب ينابيع الفكر في رأسي ، بعد ان تجاوزت السبعين . واحسست بلهفة شديدة لمعرفة مدى صمود نظرياتي العلمية  عبر التاريخ . فأقدمت على ذلك .

وصل الينا رفيقنا الرابع وكان رجلا في الخمسين من العمر . قدم نفسه لنا قائلا :

-البرتو ساليك .. من الارغواي .

وقبل ان نتعرف عليه بشكل واضح ، وقفت المضيفة أمامنا ، قالت :

-معذرة أيها السادة . قبل تقديمكم لأعضاء المجلس العلمي الاعلى ، لا بد من اطلاعكم على بعض الامور التي تجهلونها : ان المجلس الذي ستقابلونه بعد قليل هو السلطة العليا في كوكبنا الارضي . وهو مشكل من أكبر العلماء والمفكرين .  ويرأسه الدكتور مشين وهو عالم كبير في الفيزياء وعلم السياسة  وقد اثبت نجاحا باهرا في سياسته لهذا الكوكب ، منذ ان ترأس المجلس قبل عشرين عاما ، وحتى الآن . كما ان في هذه القاعة يوجد العقل الأكبر . وهو جهاز الكتروني ضخم . يعرف كل صغيرة وكبيرة . ويعد المستشار الأول والأخير للمجلس العلمي الأعلى . والآن ارجو التفضل الى قاعة المجلس ، حسب الترتيب التالي : جورجي تونغ ، البرتوساليك ، ماري كوين ، جودة الساير.

دخلنا قاعة الاجتماع . وأجلستنا المضيفة على منصة عالية ، أمام أعضاء المجلس . كان المجلس يضم أكثر من مئة شخص ، بنفس الزي الذي رأيته في مطعم المختبر قبل أقل من ساعة . يتصدر المجلس رجل قوي البنية ، اصلع ، قارب السبعين من العمر . كان يتكلم بهدوء ، بنبرة واضحة . حدجنا بطرف عينه عند دخولنا . وواصل حديثه … وخمنت انه الدكتور مشين الذي تحدثت عنه المضيفة قبل قليل. وإلى يساره كان الدكتور عاطف يجلس مصغيا . ولم يفته أن يرسم ابتسامة مؤدبة . ويحيينا بانحناءة خفيفة ونحن نجلس في مكاننا المقرر. 

كم كانت خيبتنا مريرة ، ونحن نكتشف من خلال الدكتور مشين المبرر الاساسي لبعثنا للحياة … لقد عرفنا اننا لا نزيد في نظرهم عن فئران تجارب .لقد أرادوا أن يعرفوا مدى التطور التشريحي الذي تعرضت له السلالة البشرية خلال القرون الأربعة الماضية . وكم صارت خيبتنا أشد ونحن نستمع لأوامر العقل الأكبر. لقد أمرهم أن يحيطونا بمراقبة شديدة , وأن يكيفونا للواقع الجديد بأقصر ما يمكن من الوقت وألا يتهاونوا معنا في حالة مقاومتنا لظروف التكيف الجديدة .  ثم حذرهم من إمكانية تأثيرنا على عامة الناس سلوكيا . كما حذرهم من امكانية إتصال التخلفيين بنا . لا سيما أن أحدنا ، وهو جورجي تونغ يعتبر أول من زرع بذرة التخلفية وأعطاها طابعا علميا .

بدت علامات الاستغراب على وجه تونغ وفتح فمه  محاولا الاستفسار عن مدلول التخلفية , ولكن الدكتور مشين أشار بيده أن اسكت . فأطبق الدكتور تونغ فمه قبل ان تغادره الكلمات . وسمعته يتمتم محدثا نفسه :

-أي استقبال سيئ أعد لنا الأحفاد !!

وبعد ان سكت العقل الأكبر ، علق الدكتور عاطف قائلا :

-فاتنا أن نرحب بضيوفنا الكرام القادمين الى عصرنا من القرن العشرين . آمل أن يجدوا السعادة بين أحفادهم . وأرجو أن يتعاونوا معنا في تذليل كافة الصعوبات التي تواجههم .

ثم تكلم مشين :

-وقبل أن، نواصل اجتماعنا ارجو ان يتفضل ضيوفنا الى المكان المقرر لاستراحتهم .

أشارت المضيفة لنا بمغادرة المكان .

 

*   *   *

 

يقع محل اقامتنا في الطابق الاعلى من المختبر الاول للأبحاث الطبية .وهو أضخم مختبر على سطح الكوكب الأرضي - كما أخبرتنا المرافقة - قد خصصت لكل واحد منا شقة صغيرة تضم غرفة نوم ذات شباك عريض يطل على حديقة واسعة . وصالة للجلوس ، وحمام صغير ، ومرفأ للزورق الفضائي . ولم يكن في كل شقة غير أثاث بسيط ، لا يتعدى سرير نوم ، وعدة كراسي وخزانة ملابس لا يزيد عرضها على المتر . وصندوق صغير يتصل بشاشة تلفازية  قالت المضيفة انه المكتبة .

قالت لنا ونحن ندخل أول الشقق الأربع وهي شقة الدكتور تونغ :

-لقد هيأنا لكل واحد منكم مكتبة  نأمل ان تتعلموا كيفية استعمالها بسرعة .

جلست قبالة الصندوق ، وبدأت تنقر بأصابعها على بعض أزراره  فارتسمت على الشاشة رسوم وكتابات مختلفة  ، قالت :

- قبل كل شيئ عليكم أن تقرؤوا هذا الكتاب الذي يتحدث عن تاريخ الكوكب الأرضي خلال السنين الأربعمائة الماضية .إنه سيساعدكم على فهم طبيعة الحياة العصرية .

سألت السيدة توين ضاحكة :

-وماذا سنقرأ على هذه الزجاجة ؟

-انه كتاب وليس زجاجة.  والآن سأريكم كيف تقرؤونه .

ضغطت على بعض الأزرار فارتسمت كتابة على الشاشة ، وبخط واضح قرأنا جميعا موجز تاريخ البشرية الحديث . ثم اختفت الكتابة الأولى وحلت محلها كتابة جديدة  …. وأغلقت المضيفة الجهاز قائلة :

-والآن علكم بالاستحمام وتبديل ملابسكم . لقد هيئنا لكل واحد بدلتين تلبسون يوميا واحدة وتغسلون الأخرى  . ومن اللحظة أرجو أن تودعوا ملابسكم الحالية

توجه تونغ الى خزانة الملابس فوجد فيها بدلتين زرقاوين على غرار ما يلبسه الجميع .. نشر أحدها أمامنا لم تكن أكثر من بنطلون قصير وقميص دون أكمام .

-ولكن كيف تحمينا هذه الملابس من البرد ؟

أطلقت المضيفة ضحكة عالية وعلقت :

 

-في عصرنا لا يوجد في المدن حر ولا برد ولا مطر ولا عواصف .

وأشارت بيدها الى النافذة المفتوحة. وتنبهنا الى النسيم العليل القادم من خلالها . وتذكرنا جميعا ان  اليوم هو الخامس من شباط . وتذكرنا الموقع الجغرافي للعاصمة .. انها تقع في شمال غربي أوربا . والمفروض أن تكون ملبدة بالصقيع والبرد القارص خلال هذا الشهر … تذكرت ما شاهدته في مدينتي خلال الصباح … ذلك العملاق الشامخ الذي يمد الى السماء ذراعين طويلتين . وتحيطه الاقمار الحمراء .. وسألت المرافقة :

-كيف استطعتم التحكم بالطقس ؟

أجابت :

-المسألة في غاية البساطة . في كل مدينة يوجد جهاز للطقس فيه أنابيب طويلة تصل الى طبقات عليا من الهواء . حيث يكون الهواء خفيفا وباردا جدا تسحبه الانابيب بسرعة فائقة فيتدفق على كل المدينة صيفا .. أما في الشتاء فيمرر الهواء عبر أنابيب اخرى .. تغوص الى طبقات سحيقة تحت الأرض   فيسخن الهواء، ويعود الى الارض الدفء الذي تحسونه الآن . .

-والتحكم بالمطر والعواصف ( سأل السيد ساليك )

-في جهاز الطقس جزء يبعث الأشعة الكونية بطريقة معقدة  يستطيع تغيير الريح ودفعها عن المدينة  .

دق جرس الطعام فهبطنا الى المطعم بملابسنا الجديدة . فوجدته لا يختلف قيد شعرة عن الذي رأيته صباحا في مدينتي . اللوحات المثبتة على الجدران والازرار المثبتة على جانبيه والطوابير الواقفة بانتظار طعامها .

وبعد أن فرغنا من احتساء عشائنا وقفنا برهة وسط القاعة الكبيرة . تجمع حولنا عدد من الواقفين وأدركوا أننا من أبناء القرن العشرين  … لا نعلم كيف عرفوا ذلك . فهيئاتنا صارت مثل هيئاتهم بعد أن فرضت علينا المضيفة أن نلبس الملابس الجديدة وأن نحلق رؤوسنا . ووقتها قد عارضت السيدة توين بشدة . لقد كانت تعتز بشعرها الطويل المنسدل على كتفيها .. ورضخت أخيرا حين هددتها  المضيفة بعقوبات جزائية مشددة في حالة مخالفة الأوامر ..

سألني أحد الواقفين :

-كيف وجدتم عصرنا ؟

قالت السيدة توين بتذمر شديد :

-لم نر بعد غير وجهه الشاحب المريض .

سأل الرجل باستغراب :

-  وجه من ؟

-وجه عصركم ، انه يبعث على الضجر ،

-لماذا ؟

-هذه الملابس المتشابهة ،  الحذاء المتشابه ، تسريحة الشعر ، البنايات المتشابهة … كلها تبعث على السأم القاتل … قل لي ألا تمل رؤية زوجتك ، وهي تواجهك كل يوم بهذه الملابس ؟ وهذه التسريحة الباهتة ؟

هتف الجميع بصوت واحد:

-  زوجته !!

بدا الامتعاض الشديد على وجه الرجل فقال :

-ومن قال لك ان لدي زوجة !!

انطلقت ضحكات عالية من الواقفين وغادر الرجل غاضبا . بينما سألها أحدهم ساخرا :

-وهل أنت متزوجة ؟

أجابت :

-كنت متزوجة . وكان لي طفلان وسأبحث عن ذريتهما حين يستقر بي المقام .

انطلقت من الجميع قهقهات ساخرة وسألها آخر :

-وهل لك أبوان ؟

-توفي أبواي وأنا في الثلاثين من العمر . ضحك الجميع وعلق بعضهم :

-أذن فأنت من بنات الارحام ؟

-لم أفهم .

انطلقت ضحكات عالية من الواقفين وتدخلت المضيفة وبحزم قالت :

-لا داعي لإهانة ضيوفنا أيها السادة . أرجو الانصراف عنهم .. وتركهم لحالهم .

قالت السيدة توين  :

-أبدا ليس في كلامهم اية إهانة . انهم يسألون عن أمور عادية وان كنت لا أجد المبرر لضحكهم الكثير.

تذكرت غضب الممرضة زينب وأنا أسألها  عن أبويها وعباراتها التي أطلقتها في وجهي محتجة ( هل أنا من أبناء الارحام ؟ ) ،  وسألتها :

-ما المقصود من عبارة أبناء الارحام ؟

-انها شتيمة نابية ستعرفون كل شئ عنها حين تقرؤون الكتاب الذي طلبت منكم قراء ته .

توجهت بنا الى قاعة أخرى وجلسنا في زاوية جانبية .. كانت المشكلة لتي تشغل بال رفاقي الثلاثة هي البحث عن أحفادهم .أما أنا ، ولم يكن لدي أحفاد ولا أخوة ، فلم يكن لي شان بذلك …

قال ساليك :

-أنوي غدا الرحيل الى بلادي بحثا عن ذريتي .

وعقبت السيدة توين :

-وأنا كذلك … والمسألة سهلة ما دامت الرحلة لا تزيد على اربع دقائق ونصف .

والتفتت الى المضيفة تسألها :

-أيمكن الرحيل غدا ؟

هزت المرافقة رأسها نفيا . فتساءل الثلاثة .

-لماذا ؟

-لأنكم لن تعثروا لذريتكم على أثر . وتبذلون جهدا ضائعا ..

-وكيف عرفت اننا لن نعثر عليهم .

قالت المضيفة بحزم :

-في الغد سأريكم ( مركز الولادات ) وستعرفون كل شئ…  والآن لا بد أن اوضح لكم حقيقة هامة . منذ مائة عام - أيها السادة - دخلت التكنولوجيا الحديثة الى الانجاب … فلم تعد البشرية بحاجة لأن تتزوج المرأة . وتحبل تسعة أشهر ثم تضع وليدها . وتربيه في دارها …. هناك في  ( مركز الولادات ) توجد ملايين الملايين من البويضات البشرية المخصبة . وبناء على تقرير يرد من العقل الأكبر يحدد حاجة الكوكب الارضي الى العدد المطلوب من المواليد الجدد لذلك العام .. فتحتضن الآلات المخصصة لهذا الغرض العدد المطلوب من البويضات … وبعد تسعة أشهر يخرجون الى الدنيا أطفالا اصحاء بعيدين عن الضعف والمرض … وتتسلمهم مراكز خاصة للتربية . فتربيهم وفق المنهج الصحيح وتوصلهم الى عالم الحياة العملية .. ألاحظتم قبل قليل كيف كانوا يسخرون من السيدة توين ، وهي تتحدث عن أبنائها وأبويها .. ( والتفتت الى السيدة توين موجهة الكلام لها ) انهم يعتبرونك قد شتمت زميلهم حين سألته عن زوجته لذلك عاملوك بذلك الاسلوب اللاذع . لذا أرجو أن تتنبهوا الى هذه الملاحظة وانتم تتعاملون مع الناس . ان أبشع شتيمة في عصرنا هي أن يقال للانسان انه من أبناء الارحام أي خرج الى الدنيا من رحم امرأة ( وواصلت الحديث ملتفتة الي )أأدركت معنى العبارة يا سيد جودة ؟

هززت رأسي إيجابا . وتذكرت وجه الممرضة زينب . وهو يحمر غضبا . وكيف واجهتني بخشونة غير متوقعة وأنا أسألها عن أبويها … سألت المضيفة ثانية :

-هل جميع الناس ولدوا بطريقة آلية في عصركم ؟

-الاغلبية الساحقة منهم … لقد طبق هذا النظام منذ مائة سنة وقد لاقى معارضة أول الامر . لكن العقوبات الصارمة التي اتخذت بحق المخالفين . ثم النبذ الاجتماعي الذي يتعرض له أبناء الارحام جعلهم يبتعدون عن الزواج ولم يبق في ايامنا هذه من أبناء الارحام الا نفر قليل في طريقهم الى الانقراض .

سألها الدكتور تونغ:

-كيف يقاوم الناس رغبتهم للزواج طيلة السنوات المائة ؟

-أي ناس ؟ نحن أم أبناء الارحام ؟

-كلاكما .

-أما نحن فمشكلتنا محلولة . فتلك الرغبة معدومة عندنا أصلا .

قاطعها الجميع باستغراب :

كيف ؟ ألستم بشرا ؟

-بلى . بشر . ولكن البويضات المخصبة التي حدثتكم عنها . قبل أن توضع في أجهزة الانجاب تتعرض الى تعديلات كثيرة . وتغيرات في آلياتها الوراثية . تجعل الاجهزة التناسلية والغدد المتعلقة بها عاطلة . والرغبة ميتة . وأنا واحدة من اولئك الناس . لا أشعر بتلك الرغبة التي تتحدثون عنها بل لا أستطيع أن أتصورها في مخيلتي …أما فيما يخص أبناء الارحام . فقد عولجت مشكلتهم بتناول مادة مهدئة تمزج بطعامهم تؤدي الى البرود الجنسي.

خيم علينا وجوم داكن للحظات ، وأصداء كلمات المضيفة تتردد في اذهاننا خشنة جشاء . ولا حظت عيني  ساليك تتسمران على وجه ماري كوين باستفهام حزين . وفجأة انطلقا بسؤال واحد :

-أيحق لنا أن نطلب تجميدنا ثانية ؟

وسألت المضيفة :

-تطلبان تجميدكما ؟ لماذا ؟

رد ساليك :

-لأن الحياة في عصركم لا تطاق .

وأكملت السيدة كوين .

-ولعلنا نبعث في عصر أكثر إشراقا

اعتدلت المضيفة في جلستها وقالت بلهجة رقيقة :

- تذكروا ايها السادة . ان بعثكم للحياة في هذا الزمن بالذات ، لم يأت اعتباطا . بل هو ضرورة علمية . وقد سمعتم هذه الحقيقة من الدكتور مشين شخصيا هذا اليوم .

وقاطعها بتذمر شديد

-تعنين أن نكون فئران تجارب فقط .

-سمها ما شئت . ولكن الحقيقة تبقى واحدة . انكم اعدتم الى الحياة لنعرف بواسطتكم مدى التطور الذي تعرض له الانسان خلال السنين الاربعمائة الماضية . ومن جانب آخر فقد أمر العقل الاكبر أن نسعى الى تكييفكم للحياة الجديدة . وأنا مكلفة بهذه المهمة .

قاطعتها السيدة كوين بانفعال شديد :

-لا يعنيني كل ما قلت . غدا سأقدم مذكرة الى المجلس العلمي الأعلى ، أطالب فيها بإعادة تجميدي .

-قد يتسلم المجلس المذكرة  منك . ولكني متأكدة ان العقل الأكبر سيرفض طلبك .

علق الاستاذ تونغ الذي ظل مصغيا طيلة هذا الحوار :

-وما شأن العقل الاكبر . اذا وافق المجلس الأعلى ؟

-المجلس الاعلى لا يوافق ولا يرفض . ان ذلك من صلاحيات العقل الاكبر .

-وما هي مهمات المجلس الأعلى اذا ؟

-انه ينفذ أوامر العقل الأكبر فقط .

لأول مرة يطلق الاستاذ تونغ قهقهة عالية تفيض مرارة . ثم يقول :

-ما أضيعكم أيها الاحفاد !! آلة صنعتموها بأيديكم . وجعلتموها تتحكم بمصائركم !!

-انها آلة حقا . ولكنها عاقلة . لا تسيرها العواطف والاهواء . والآن ارجو أن تخلدوا الى النوم .

 

 

-3-

 

 

اليوم نحتفل بمرور اسبوع كامل على ولادتنا الجديدة 

كما نحتفل باستقبال أول يوم نتحرر فيه من ملازمة مضيفتنا . حيث أخبرتنا مساء أمس انها ستقضي عطلتها الاسبوعية بعيدة عنا . وقد سمحت لنا بالتجوال في طرقات المدينة . ولكنها حذرتنا من السفر الى مدينة أخرى . وقد استقبلنا النبأ بفرح غامر . حيث ان الفرصة ستتاح لنا لمناقشة امورنا بعيدا عن رقابتها . كان اشدنا فرحا بهذا النبأ هو السيد ساليك والسيدة توين . فالمضيفة بالنسبة اليهما تعني العذول الحاسد الذي يقف في طريق حبهما ، ويفسد عليهما لحظات الصفاء . لقد وقع البرتو ساليك في غرام السيدة توين منذ اليوم الاول . وبادلته السيدة توين الشعور نفسه . وكانت مشاكلتهما مع المضيفة شائكة لهذا السبب . فقوانين هذا العصر تحرم هذه الظاهرة تحريما قاطعا , وقد انذرتهما أكثر من مرة بتقديمهما الى المجلس الأعلى ، وفرض عقوبات قاسية عليهما …. ونجدهما اليوم يستغلان غياب المضيفة ليقضيا ساعات جميلة يستعيدان بها شبابهما الآفل ؛ فما ان تناولنا افطارنا حتى غابا في إحدى الحدائق بعيدا عن انظارنا . وقد علق الاستاذ تونغ على ذلك :

-انها مرحلة النكوص الى المراهقة .

بقيت برفقة الاستاذ تونغ تاركا له زمام قيادتي ، مادام ليس لي هدف محدد . و لا انتظر حصول شئ يثير البهجة . فليس امامي ما هو أجمل من مرافقة هذا العجوز الحكيم . والحقيقة ان الكآبة كلكلت علي منذ اليوم الثاني ، حين طلبت من مضيفتي احضار آلة موسيقية اتسلى بها وقت فراغي . غير ان المضيفة لم تفقه معنى كلامي . واضطرت لمراجعة معجم باحثة عن معنى كلمة ( موسيقى ) . وبعد مراجعة طويلة أجابت :

-الآلة التي تبحث عها ستراها في المتحف المركزي ، وزيارة ذلك المتحف مدرجة ضمن برامجنا .

-ولكني أريد امتلاكها ، والعزف عليها ، فأنا مطرب شهير كان لي ملايين المعجبين في زماني .

-سأراجع المختصين وأجيبك غدا .

-ولي طلب آخر .

-ما هو ؟

-لم أجد في الصندوق الذي تسمينه المكتبة كتبا للشعر  والقصة والرواية . ألا يمكن احضار مثل هذه الكتب؟

-وهذا ، سأسأل المختصين عنه أيضا .

وفي اليوم التالي صدمتني الاجابة :

- الأمور التي طلبتها امس لا وجود لها في عصرنا . لقد انقرضت منذ مئات السنين . والعقل الاكبر لا يشجع على ممارستها ان الموسيقى والشعر والرقص ، وكافة الامور التي كنتم تسمونها الفنون ، ما هي الا تبديد مجاني للطاقة الانسانية . لقد وجد الانسان لينتج لا ليبدد وقته هباء .

وقاطعتها منفعلا :

-من وضع هذا الهراء ؟

-انها توجيهات العقل الاكبر . وتعليماته لا تقبل الخطأ أبدا .

-فهي ضمن الممنوعات اذا ؟

-نعم

-وليس في عصركم من يمارسها ؟

أجابت بعد لحظة تفكير :

-ربما ما يزال يمارسها التخلفيون . فهم خارج سيطرة العقل الاكبر .

تلقف جوابها الاستاذ يونغ . وبادر الى سؤالها :

- ما المقصود بالتخلفيين   ؟ وكيف هم خارج سيطرة العقل الاكبر ؟

-التخلفيون هم البقية الباقية من الناس الذين رفضوا التكيف مع متطلبات العصر . وقاوموا ارادة العقل الاكبر . وبعد شن حملة تأديبية عليهم . هربوا الى جبال الهملايا . واعتصموا هناك . و ما يزالون يعيشون حياة بدائية متخلفة . ولكن مصيرهم الانقراض .

وسألها الاستاذ تونغ ثانية ؟

-لقد وصفني العقل الأكبر يوم مثلنا أمامه بأني زارع البذرة الاولى للتخلفية . فما علاقتي بهذه الجماعة ؟

لقد ورد في أحد مؤلفاتك ان الانسان يمتلك طاقات كثيرة قد انقرضت بحكم التطور الحضاري ولكن بعثها ممكن . وقد ذكرت من بين تلك الطاقات قراءة الافكار والتخاطر ، و رؤية البعيد وغير ذلك من الامور ، وأنت أعرف مني بها . والحقيقة ان هذه الافكار لم تلاق رواجا في القرن  العشرين . وحين حل القرن الحادي والعشرون . صارت هذه الافكار مهيمنة على شريحة كبيرة من الناس ومع بدء الانعطافة الحضارية أقام دعاة هذه الافكار حزبا سياسيا معارضا لحركة التطور الحضاري . وكانوا في معارضتهم يستندون الى نظريتك هذه . وقد ظهر بينهم علماء ادخلوا هذه النظرية حيز التفكير العملي . وجعلوها سلاحهم في مواجهة التطور الحضاري . ووحدة العالم . وما زالوا متمسكين بها الى اليوم .

لقد حفز هذا الحوار الاستاذ تونغ وجعله يعكف على قراءة ما تقدمه له المكتبة . بينما جعلني  حديث المضيفة ارزح تحت وطأة سأم قاتل . فالحياة قد أصبحت بالنسبة لي لا طعم لها . حيث نصحو كل يوم على زعيق صفارة النهوض التي تدوي في فضاء المدينة صباحا . فنستيقظ ونستحم ونتهيأ للخروج  . فتزعق صفارة الافطار فنتوجه الى المطعم برفقة مضيفتنا . وهناك نصغي ربع ساعة لجريدة الصباح تتلو علينا أهم الاخبار ثم نتوجه الى المختبر لأجراء الفحوص علينا وبعد ساعتين نغادر الى مكان معين على سطح الكوكب الأرضي . لنطلع على آخر ما توصل اليه الانسان الجديد  من منجز حضاري … وحين تدوي صفارة الغداء نتناول طعامنا على الطريقة ذاتها ( قدح لا طعم ولا رائحة وضعته لنا لوحة في الجدار ) ونصغي الى جريدة الظهيرة ثم نتوجه الى مكان آخر . لنعود بعد العشاء الى مقر اقامتنا …. وبهذه الطريقة تعرفنا على أماكن مختلفة : مركز الولادات ، المتحف المركزي ، المناجم ، المصانع ، وزرنا مدنا عديدة في قارات مختلفة . بعضها يقع على مشارف القطب . والبعض الآخر على مشارف خط الاستواء . وكانت متشابهة في طقسها وريازتها ومعمارها وشوارعها ، القليلة المارة ، الخالية من السيارات والمحلات التجارية و صخب المدن . ورغم ولعي الشديد بالسفر وزيارة الاماكن المجهولة ، خلال حياتي الماضية . صارت هذه الرحلات عبئا كبيرا حين أصبح كل شئ مألوفا. لا يثير دهشة ، وفي اليوم التالي علمتنا المضيفة قيادة الكبسولة . فوجدناها بسيطة لا تحتاج الى  جهد . فيكفي أن تدخلها وتبرمج جهاز القيادة على احداثيات المكان الذي تريد الرحيل له حتى تنطلق بنا وبعد أربع دقائق ونصف يأتلق ضوء اخضر معلنا وصولنا الى المكان المطلوب.

 

*   *   *

 

جلس الاستاذ تونغ على كنبة في الحديقة العامة بانتظار ساليك وتوين اللذين غابا عن أنظارنا منذ تناول الافطار . وجلست الى جانبه صامتا . بادر الى سؤالي :

-هل قرأت شيئا في المكتبة ؟

-ليس لي رغبة في القراءة . وانت ؟

-قرأت الكثير وانوي قراءة المزيد  .

-وماذا أفدت منا ؟

-توصلت الى نتيجة هامة : ان من يسمون انفسهم علماء في هذا العصر مزيفون . لم يحققوا أي إضافة علمية .

-كيف ؟ وهذه المخترعات الجديدة  ؟

-كلها تعتمد على معارف القرن العشرين . طبقوها عمليا بتوجيه العقل الأكبر . أما على الصعيد النظري فلم أقرأ أي جديد .

انضم ساليك وتوين الى مجلسنا . وقلت معقبا على كلام الاستاذ تونغ :

-سواء أقدموا جديدا أم لم يقدموا . فالحياة في عصرهم لا تطاق .

-لا تتعجل بالحكم على الاشياء . فهناك وجه آخر لم نتعرف عليه بعد .

-أي وجه ؟

-التخلفيون . يبدو انهم قوة لا يستهان بها . وتهدد النظام القائم بخطر قريب .

سأل ساليك :

- وما أدراك ؟

-من خلال قراءة ما يكتب عنهم . لاحظت ان أتباع العقل الاكبر يولونهم أهمية كبيرة . ويخشون تغلغلهم بين الناس . ويحاولون قمع أي ظاهرة تذكر الناس بهم .

ودوت صافرة الغداء  فتوجهنا الى المطعم .

 

 

*   *   *

 

حين دخلنا المطعم  وجدنا الدكتور عاطف بانتظارنا . صافحنا بحرارة صديق قديم . والابتسامة العريضة لا تفارق شفتيه . واحسست لأول مرة اني اواجه انسانا يختلف عن ابناء هذا العصر . انسان ينتمي الى زماننا . وبادرنا بعد التحية الى القول :

-اعلم انكم ستأتون الى هنا فجئت لزيارتكم .

-مرحبا بك انى جئت وحيثما حللت .

-قال ذلك الأستاذ تونغ . وتوجهنا لاحتساء غذائنا … ثم عدنا الى الحديقة برفقة الدكتور عاطف . قال لنا فور جلوسه :

-أرجو الا تكونوا متضايقين من الاقامة بيننا .

ردت السيدة توين :

-مضيفتنا تضطهدنا . يا دكتور عاطف .

-انها التعليمات الصارمة يا سيدتي .

-ولماذا تضعون هذه القيود الصارمة علينا ؟

-المسألة أصعب مما تتصورين . وقد جئت الى هنا لأقدم ما أستطيع من عون لكم .

-نشكرك على هذه المبادرة .

قال الاستاذ تونغ . وبعد فترة صمت قصيرة تحدث الدكتور عاطف  مخاطبا الاستاذ العجوز:

-ما رأيك بحضارتنا ؟

-قبل الاجابة . لدي سؤال هام ؟

-ما هو ؟

-مجلسكم الأعلى يتكون من مائة عالم كما تقولون فما هي الاضافات العلمية التي قدمها هؤلاء العلماء ؟

فكر برهة ثم أجاب :

-كل ما قدمناه هو تنفيذ توجيهات العقل الاكبر في كافة الميادين .

-والعقل الاكبر ما الذي أضافه على الصعيد النظري ؟

اطرق الدكتور عاطف طويلا . ولم يجب . فعقب الاستاذ العجوز تونغ :

-الان أجيب على سؤالك . ان اعتمادكم على العقل الاكبر في تفكيركم قد بلد أذهانكم وصيركم أدوات منفذة فقط ، عاجزين عن الابتكار والاكتشاف .

-الحقيقة يا استاذ تونغ ان هذه هي آرائي منذ أكثر من عشرين عاما . فقد أدركت الضرر الذي الحقه العقل الاكبر على الانسان خلال هذه الفترة الطويلة . ولكن التصريح بهذه الآراء يسبب المتاعب الشديدة لذا آثرت أن احتفظ بآرائي لنفسي حتى تحين اللحظة المناسبة. وكنت اهيئ نفسي لأكون رئيسا للمجلس الأعلى . وعند ذلك أكون قادرا على التغيير . وحين حانت لحظة اختيار الرئيس قبل عشرين عاما ؛ كان العقل الاكبر يقف دوني حائلا . لقد رفض اختياري لهذا المنصب لأنني من أبناء الارحام  وهذا سر لا يعرفه الا العقل الاكبر وأعضاء المجلس العلمي الاعلى . ثم تم اختيار الدكتور مشين فصار عبدا مطيعا لهذه الآلة التي يسمونها العقل الاكبر . ورغم مجاراتي لهذا الجهاز وتكتمي على آرائي الخاصة . أجد نفسي محاصرا من قبل هؤلاء الناس وما زلت انتظر اللحظة المناسبة للتغيير .

وبادرت الى سؤاله :

-ولم لم تتعاون مع التخلفيين ؟

-التخلفيون لهم آراؤهم الخاصة التي لا أقرها . انهم ينادون بعدم الاعتماد على الآلة ويدعون الى تفجير الطاقات الكامنة في الانسان . واحياء القابليات المندثرة … لقد قادتهم هذه الافكار الى خوض حرب خاسرة مع اتباع العقل الاكبر . وهم اليوم محاصرون في جبال الهملايا . يعيشون حياة بدائية تنتمي الى طفولة الانسانية . ونحن هنا لا نعرف عن منجزاتهم شيئا .وبعد صمت اضاف :

-والحقيقة اني بين آونة وأخرى . تحدثني نفسي أن ألجأ اليهم .

وسألت السيدة توين :

-وهل الوصول لهم ممكن ؟

لاذ الدكتور عاطف بالصمت للحظات ثم وجه كلامه الينا جميعا :

-أرجو أن يكون لقاؤنا هذا سرا . لا تخبروا أحدا عما دار بيننا . وخاصة مضيفتكم . انها عين من عيون العقل الاكبر . والآن علي أن اودعكم متمنيا لكم السعادة في عصرنا .

وحين نهض من مكانه تأبط ذراعي . مشيرا لي أن ارافقه . فامتثلت لأمره . تلفت يمينا وشمالا ثم همس في اذني :

-ربما لا نلتقي ثانية . فأنا معرض للاعتقال بين لحظة وأخرى . ولكني اوصيك اذا ضاقت بك الامور هنا عليك بالرحيل الى التخلفيين .

-كيف ؟

-هذه هي احداثياتهم .

دس في جيبي ورقة صغيرة دونت فيها الاحداثيات التي تمكنني من السفر اليهم بالكبسولة ان أردت  ذلك.

 

 

*   *   *

 

حين غادر الدكتور عاطف . انصرف ساليك متأبطا ذراع السيدة توين . وغابا بين أشجار الحديقة . وتوجهت برفقة تونغ العجوز الى النهر  . قال لي :

-اذا كان الدكتور عاطف وهو عنصر قيادي كبير ناقما على العقل الاكبر . فكيف حال عامة الناس ؟

-لا بد ان الجميع ناقمون على هذا الوضع .

-ألم أقل لك : هناك وجه آخر لم نتعرف عليه بعد .

-فعلا .

-أرى ان أمورا كثيرة ستحصل في المستقبل القريب . وقد نكون قادرين على فعل شيئ ما  يخص احفادنا البائسين .

-وماذا نستطيع أن نفعل ؟

-لا أدري . فالمسألة تحتاج الى تفكير  .

وصلنا النهر وحطت أنظاري على القصب النابت على حافته . وبزغت في ذهني فكرة خاطفة : لماذا لا أصنع شبّابة ؟  اختطفت قصبة على الفور . وبدأت بمعالجتها . بينما جلس العجوز على كنبة في مواجهة النهر . ظل غارقا في صمته ؛ ربما كان يفكر في تفجير ثورة على العقل الاكبر . ربما يخطط لاحتلال مقر المجلس الأعلى . ربما كان يحلم بنسف مركز الولادات . يداي منهمكتان في حفر القصبة وتثقيبها ، وشفتاي تتمتمان بكلمات وألحان كنت الحنها خلال الاسبوع المنصرم … وبعد أكثر من ساعتين تنبه لي تونغ العجوز وسألني :

-ماذا تفعل بهذه القصبة ؟

قربتها الى فمي ونفخت فيها من أحزاني . فانساب صوتها دافئا رخيما .

عدت الى الحديقة العامة فوقفت على ظهر كنبة ومثلما كنت افعل في عصري الذهبي . قبل اربعمائة عاما . بدأت بالعزف على الشبابة فتدفقت الاغنيات ساخنة . وتدفق الناس الى الحديقة مذهولين وما هي الا دقائق حتى كان الناس يجلسون أمامي على العشب صفوفا . كان حزن شفاف لذيذ يغلف وجوههم وهم يتمايلون مع ايقاع الاغنية . ورأيت عيني ماري توين تغرقان بالدموع ، فغيرت اللحن عزفت لهم لحنا راقصا . وفجأة نسيت ماري توين حزنها . مسحت دموعها . وسحبت رفيقها ساليك من ذراعه . وضعت يدها على كتفه . وأمسكها من خصرها وبدأا رقصة رشيقة , تدفقت حنجرتي بالغناء . وبدأت حمى الرقص تنتشر بين الناس . كان رقصا عفويا دون قواعد مسبقة . ولكنه مفعم بالنشوة . وكلما توقفت لاسترد أنفاسي طالبوني بالاستمرار بالغناء . حتى دوت صافرة العشاء .  وفي المطعم كان البعض يتفحص الشبابة محاولا العزف عليها . والبعض الآخر يرجوني أن أصنع واحدة مثلها . وآخرون يسألونني عن سر السحر الكامن في هذا النشاط . وفي الساحة المواجهة للمطعم استمر السهر حتى منتصف الليل ، ربما هي أول مرة يبقى الناس ساهرين الى هذه الساعة من الليل . ، في عصر الازدهار الحضاري . ولم يسمحوا لي أن آ وي الى النوم الا بعد ان وعدتهم أن أحيي لهم حفلة اخرى في الليلة القادمة .

حين عدنا الى مقر اقامتنا كان الإعياء قد أصاب السيدة توين وصاحبها ساليك من شدة الرقص . وقال الاستاذ تونغ :

-اصحاب العقل الأكبر يتصورون انهم أحدثوا تغيرات جذرية في الانسان . انهم لم يغيروا غير القشرة الخارجية . انظروا الى هؤلاء الناس كيف أعادتهم هذه القصبة الى حال أجدادهم القدامى . الانسان هو الانسان.

وعقب ساليك :

- ان هذه الخطوة قد منحتنا شعبية كبيرة بين أبناء هذا العصر .

رد تونغ :

-هذا ما افكر به . بواسطة هذا النشاط قد نسهم في احداث تغيير مهم .

 

*   *   *

 

في اليوم التالي طالعتنا جريدة الصباح بالنبأ العظيم ( ردة الى عصور التخلف ) كان هذا عنوان الخبر الذي نشرته جريدة الصباح منددة بالحفل الغنائي الذي أقمناه ليلة امس . فوصف بأنه عمل هدام وتبديد للطاقات البشرية . وعند الانتهاء من سماع الخبر . همس في اذني الاستاذ تونغ :

-أتعرف محرر الجريدة ؟

-لا أعرفه ؟

-انه العقل الاكبر عينه . فهيئ نفسك لاستقبال المتاعب .

بعد دقائق وصلت المضيفة . وسألتني غاضبة :

-ماذا فعلت ليلة امس ؟

-لم أفعل شيئا .

-العقل الاكبر غير راض عنك . ألم أخبرك بأنه لا يشجع على ممارسة الفنون ؟

وبعد دخولنا المختبر لأجراء الفحوص اليومية وصل شخصان غريبان . وهمسا في اذن المضيفة فاستدعتني من بين جماعتي . وسلمتني لهما . سألوني عن مكان الشبابة . ونقلاني الى مبنى لم أدخله سابقا . وهناك وجدت لجنة تحقيقية تنتظرني . وكانت الشبابة أمامهم يتفحصونها بدقة ..استجوباني طويلا .

قبل مغيب الشمس اطلقا سراحي . وأعادوني الى مقري بعد ان أخذوا تعهدا علي الا أعود الى ممارسة هذا النشاط ثانية …. وجدت رفاقي الثلاثة ينتظرونني بفارغ الصبر . أجبتهم بالتفصيل . ولم نستطع تحليل الامور لوجود المضيفة بيننا .

في المطعم وجدت نظرات الناس متعاطفة معي الى أبعد الحدود . حاول بعضهم ان يقترب مني ليعلن عن رغبته في اقامة حفلة جديدة . ولكن المضيفة ابعدت الجميع محذرة من عقاب العقل الاكبر لهم . ولأول مرة الاحظ كلمات الاحتجاج تصدر عن أفواه هؤلاء الناس ، واصفين هذه الاجراءات بالظلم والتعسف . وهمس الاستاذ تونغ في غفلة عن المضيفة :

-لقد بدأت علامات التحدي تظهر عليهم . انها الشرارة الاولى .

وعلى مقربة كان آخرون يتحلقون حول البرتو ساليك وماري توين . يتحدثون بحماس عن الليلة الممتعة التي قضوها في الاستمتاع الى الغناء وصوت الشبابة .

وحين عدنا الى مقرنا وتهيئنا الى النوم بعد ان غادرتنا المضيفة . فاجأني ساليك والسيدة توين باخراج قطع من القصب من تحت ملابسهما . وطلبا مني أن أصنع لهما شبابات . لقد دسها لهما الناس أثناء تواجدنا في المطعم ، وفي غفلة عن عيني المضيفة . وسهرنا الى ساعة متأخرة ، نحفر قطع الخشب ونثقبها  فتصير آلات موسيقية . في الليالي اللاحقة تكرر الامر . فكنا نقضي ساعات السهرة في هذا العمل … وخلال أيام قلائل صارت الشبابة موضة شائعة بين الناس . ليس في العاصمة وحدها بل امتدت الى كل مدن الارض : فكنا نرى الناس أينما ذهبنا ينفخون بشباباتهم محاولين تعلم العزف . …

كان رد فعل العقل الاكبر عنيفا . فقد أصدر أمرا الى المجلس الاعلى بإنزال قوات تصادر هذه الشبابات من أيدي حامليها . وتهشمها  … ومع ذلك ظلت موضة الشبابة تزداد اتساعا .

وذات يوم فوجئنا بجريدة الظهيرة تعلن نبأ اعفاء الدكتور عاطف من عضوية المجلس الاعلى ومن كافة مناصبه الاخرى . وتعيينه موظفا صغيرا في مذخر للأدوية وحين سألنا المضيفة عن سبب اعفائه . أجابت بأنه قد اعترض على قرار العقل الاكبر بقمع موضة الشبابات . وطالب بحرية نشاط الناس . ما دام هذا النشاط لا يؤثر على عملهم . عندها قالت لي السيدة ماري توين :

-انظر . ماذا فعلت شبابتك في عصر الازدهار.

                       

 

*   *   *

 

انقضى اسبوعان على بعثنا للحياة وحلت العطلة الاسبوعية الثانية لمضيفتنا . وتنفسنا الصعداء ، لأننا سنقضي يوما كاملا بعيدا عن مراقبتها . ومع دخولنا المطعم التف الناس حولنا مرحبين . بعضهم يخفي شبابته تحت ثيابه , والبعض الآخر يمسكها بيده ، متحديا سلطان العقل الاكبر . اقترب مني أحدهم وعرض علي شبابته  راجيا أن اعلمه العزف . وبدأت اعلمه كيف يمسكها ، وكيف يحرك أصابعه . وبدأ آخرون يخرجون شباباتهم ويحاولون تعلم العزف … ازداد الحشد اتساعها فخرجنا الى الحديقة العامة … وهناك أزداد الحاح الناس علي طالبين الغناء … وتدفقت الأغنيات شجية خضراء واشتبكت الجموع برقصة جماعية .

لكن الحفلة الجماعية لم تدم طويلا … فقد فاجأنا رجال العقل الاكبر . أمروني بمرافقتهم . وطالبوا الآخرين بالانصراف . تعالت أصوات الجماهير غاضبة . لقد رفضوا الانصياع لرجال العقل الاكبر . وطالبوهم بإطلاق سراحي .بل رأيت البعض من الجماهير يتقدم نحو قوات السلطة ويحاول أن يخلصني من أيديهم . بدأ الشجار بين الطرفين . ثم انطلق في الحديقة دوي قنبلة تنفجر . وتعالى دخان كثيف . كانت قنبلة مسيلة للدموع . . تفرق الناس على غير هدى . واقتادني رجال العقل الأكبر .. وادركت ان الامر لن يمر بسلام هذه المرة .

وفجأة تذكرت نصيحة الدكتور عاطف . تلمست الورقة التي دسها في جيبي . قلت لرئيس المجموعة التي القت القبض علي :

-لكنني بحاجة الى تبديل ملابسي ، قبل أن أذهب معكم .

-اذا كان الامر يتوقف على تبديل ملابسك . فهو أمر هين .

أمر اثنين من أتباعه أن يرافقاني الى شقتي ريثما أبدل ملابسي ، وأعود معهم . دخلت شقتي وبقي الاثنان ينتظراني عند الباب . كانت الكبسولة بانتظاري . وبرمجت لوحة قيادتها على وفق الاحداثيات التي زودني بها الدكتور عاطف . وبعد أربع دقائق ونصف … اتقد الضوء الاخضر معلنا وصولي الى بلاد التخلفيين على جبال الهملايا.

 

 

-4-

 

 

قرية من قرى العصر الحجري نساها التاريخ على سفوح الهملايا ، تلك التي واجهتني … كانت لا تزيد على مجموعة كهوف تفغر أفواهها على سفح الجبل الذي هبطت كبسولتي عليه . كانت الشمس الجاثمة على المغيب تزيد فوهات الكهوف عتمة . وبينها تتبعثر قطعان الاغنام والماعز والدجاج على غير انتظام . وأمام المغارة تحتشد مجموعة من النسوة يمارسن أعمالا يدوية مختلفة … هتفت أقرب امرأة الي كانت تمسك مغزلا خشبيا وحفنة صوف :

-عباد الآلة قادمون .

خرج من إحدى المغارات شاب يلبس فراء نمر وصاح بي :

-ما الذي تفعله في ديارنا يا عابد الآلة ؟

كانت نظراته مرعبة لدرجة جعلت ساقي تعجزان عن حملي . فأقعيت على الارض . كرر الشاب سؤاله :

-ما الذي تفعله في ديارنا يا عابد الآلة ؟

من بعيد هف شيخ يتجه نحونا :

-مهلا . انه صديق .

فجأة خفت النظرة المرعبة من عيني الشاب وحلت محلها نظرة وديعة مسالمة . ووجدت نفسي قادرا على الوقوف على ساقي … اقترب الشيخ بخطى حثيثة . كان ذا لحية طويلة بيضاء . وشعر منسدل على كتفيه . يلبس دثارا صوفيا اسود قال بصوت رصين :

-أهلا بالصديق جودة الساير .

يا إلهي كيف عرف اسمي !! . صافحني وقال :

-كيف حال الاستاذ تونغ

-وتعرف الاستاذ تونغ أيضا ؟

-والبرتو ساليك وماري توين كذلك .

وأطلق ضحكة عذبة ثم قدمني الى الشاب الذي يلبس فراء النمر قائلا :

-واحد من أبناء القرن العشرين . الذين أعيدت لهم الحياة قبل اسبوعين .  لقد جاء هاربا من ظلم عباد الآلة .

رافقاني الى باب احدى المغارات . وقبل أن نجلس تقدمت امرأة تحمل ازارا صوفيا سميكا ودثرتني به . وتذكرت حينها ان اليوم هو الثامن عشر من شباط . وأنا في قميصي القصير الذي لا أكمام له .

جلسنا على حصير من الأعشاب قدمت لي امرأة لبنا خاثرا بإناء فخاري . وقال الشيخ :

-لا شك انك لم تأكل طعاما منذ اسبوعين .

قلت مصححا :

-بل منذ اسبوعين واربعمائة عام .

توافد رجال عديدون واتسع مجلسنا . وبعد فترة قصيرة غابت الشمس .و حل الظلام تدريجيا على القرية . سألت نفسي : اذا كان رجال العقل الاكبر قد القوا القبض علي في الصباح ، والرحلة في الكبسولة لا تستغرق غير اربع دقائق ونصف . فكيف ينقضي النهار بهذه السرعة ؟

وقبل أن أفكر بالجواب بادرني رجل يجلس قبالتي الى القول :

-يبدو انك نسيت خطوط الطول في درس الجغرافية .

نظرت اليه مستفهما عن مغزى كلامه وأضاف :

-تذكر : انك قد جئت من غرب اوربا . ونحن هنا في شرق آسيا . أليس هذا ما تفكر به ؟

-بلى . ولكن كيف عرفت اني افكر بهذا الموضوع ؟

-قرأت أفكارك .

وبعد فترة قصيرة وبأمر من الشيخ الذي استقبلني . دخلنا المغارة . وقدم لنا العشاء . ويبدو انه أدرك رغبتي الشديدة للطعام ، بعد الفترة التي قضيتها على طعام العقل الاكبر ، فجاء عشاؤنا منوعا من اللحم والرز واللبن  وأصناف الفواكه والخضروات .

وحين فرغنا من تناول العشاء اجلت النظر في أنحاء المغارة . كانت واسعة ومقسمة الى أجزاء عدة يفصل كل جزء عن الآخر ستارة من القش . يبدو أنها تنسدل عند النوم . وكانت تتكئ على جدرانها جرار كبيرة متعددة . عرفت فيما بعد انها مخصصة لحفظ الحبوب وصناديق لحفظ الملابس . وصف من الفراش البسيط  مرصوف بعضه فوق بعض . وكانت تتوسط مجلسنا ذبالة كبيرة في قارورة فخارية . فتضئ المغارة بأكملها . جلس الرجال والنساء في حلقة دائرية كبيرة . وخلفهم جلس صف من الاطفال والفتيان والفتيات . وسألت نفسي اذا كان القوم بهذه الدرجة الكبيرة من التخلف . فكيف تمكنوا من الصمود أمام هجمات العقل الأكبر ؟

مرة أخرى تحدث الرجل الذي حدثني قبل قليل عن خطوط الطول ودرس الجغرافيا . قال :

-غزونا مرارا وهزمناهم . حتى يئسوا من الاقتراب الى مضاربنا .

قلت باستغراب :

-من هم ؟

-أتباع العقل الأكبر . أليس هذا ما تفكر به ؟

وأضاف موجها الكلام الى أصحابه :

-انه يتساءل كيف صمدنا أمام عباد الآلة ونحن على هذه الدرجة من التخلف .

قال آخر :

-قوتنا تكمن هنا  .وأشار بيده الى رأسه . بينما أردف ثالث :

-منذ خمسين عاما لم يجرؤوا على الاقتراب من ديارنا وقبل ذلك شنوا عشرات الحروب علينا . معتمدين على أحدث الاسلحة العملاقة . فتهاوت قواهم أمام سلاحنا .

قلت :

-وما هو سلاحكم ؟

-هذا

-واشار بيده الى رأسه . فأفلت من فمي سؤال ساخر :

-ماذا أتناطحونهم ؟

أغرق الجميع بالضحك وبعد ان عاد الهدوء الى المجلس ، بادرني الشيخ صاحب المغارة الى القول :

-أظنك لم تتعرف جيدا الى الاستاذ تونغ؟

-فترة اسبوعين لا تكفي لمعرفة الآخر معرفة دقيقة .

-ولم تقرأ كتبه في حياتك الماضية ؟

-لا

-لو قرأت كتبه لفهمت معنى كلامي بسهولة ، وأدركت سر قوتنا .

-أفدني اذا .

اعتدل الشيخ في جلسته . وواصل حديثه :

-قبل اربعمائة عام صدرت كتب الاستاذ تونغ تحمل أفكارا علمية جديدة عن الطاقات المندثرة في الانسان . وامكانية احيائها والاستفادة منها في الحياة العملية . وفي الوقت الذي كان عباد الآلة ( وهو الاسم الذي يطلقه هؤلاء القوم على اتباع العقل الأكبر ) يبذلون جهودهم في تطوير آلاتهم . كان آباؤنا قد جعلوا من نظرية الاستاذ تونغ منطلقا لهم في تطوير القدرات الانسانية . وأحياء ما اندثر من طاقات لمواجهة الطبيعة القاسية وتطويعها .

-وما هي هذه الطاقات ؟

-أ لاحظت هذا الشاب ؟ ( وأشار بيده الى الشاب الذي يلبس فراء النمر ) كيف أرعبك بنظراته القاسية وجعلك تتهاوى على الارض ؟

هززت رأسي إيجابا فواصل كلامه :

-هذه واحدة من الطاقات … لدينا مئات من اشباهه ينظرون الى اشجع الرجال فترتعد فرائصه ويتهاوى خائر القوى . في حروبنا السابقة كان الاعداء يأتوننا بطائراتهم العملاقة , وكان الواحد من رجالنا يقف على قمة جبل . وعلى بعد مئات الامتار يسلط نظراته الخارقة على الطيار فيشل حركته . ويترك طائرته في مهب الريح . حتى يتهاوى محترقا بها . …..  أ لاحظت كيف سميتك باسمك أول نزولك من كبسولتك ؟ وسألتك عن رفاقك الثلاثة  باسمائهم ؟

هززت رأسي إيمانا فأكمل :

-لكنك لم تسألني كيف عرفت اسك وأسماء رفاقك ؟

-ربما لديكم اجهزة اتصال بالعاصمة . عرفتني بواسطتها .

-هذه كل اجهزتنا كما ترى .

وأشار بيده الى أنحاء المغارة فقلت :

-وكيف عرفتني اذا ؟

-لأنني متخصص برؤية البعيد .

-لم أفهم .

-كما كنت تجلس في غرفتك أمام التلفزيون فترى مسابقة بكرة القدم تجري في بلد  ناء . أنا أمتلك مثل هذا الجهاز في داخل رأسي ، فأرى أي مكان أريد رؤيته . رأيتك من مكاني هذا . وأنت تعزف بشبابتك في الحديقة العامة . ورأيتك والدكتور عاطف يدس ورقة الاحداثيات في جيبك . ورأيتك تهرب من رجال العقل الأكبر لاجئا الينا . لقد استفدنا من هذه القدرة أيضا ، في مواجهة أعدائنا لقد كنا نعلم بكل ما يخططون أولا بأول .فنضع الخطط المناسبة لها .

استرد أنفاسه . ثم واصل حديثه :

-أ لاحظت هذا الرجل ( وأومأ الى الرجل الذي حدثني عن خطوط الطول ودرس الجغرافية ) كيف كان يجيب على سؤالك قبل أن تنطق به ؟

-نعم

-انه قارئ الافكار ، ينظر الى وجه الانسان فيعلم ما يفكر به ، لذلك فالكذب لا وجود له في ديارنا . لأن الكثير منا يعرفون ما يبطن الانسان .

ثم أشار الى رجل ذي لحية كثة ورأس حليق . قال :

-أ ترى هذا الرجل ؟ انه قادر على الاتصال بالتخاطر مع أناس يبعدون عنه آلاف الكيلومترات . ولذلك فالتلفون وأجهزة الاتصال الآلية لا قيمة لها عندنا . ماذا نفعل بها اذا كنا قادرين على الاتصال بعقولنا ؟

سكت قليلا . ولما لم يجد عندي التعليق المناسب ، أكمل :

- وأزيدك علما أنه قادر على الاتصال بأناس لم يولدوا بعد ،  وآخرين ماتوا منذ زمان بعيد .

ازداد شكي بصحة الكلام الذي يقوله الشيخ . وانبرى قارئ الافكار يخاطب الشيخ :

-انه لا يصدق كلامك .

-الايام القادمة ستجعله يصدق .

قالها العجوز . بينما اعتدل الرجل ذو الرأس الحليق واللحية الكثة . وخاطبني :

-سلوى فتاح تخصك بالسلام .

لسعني اسم سلوى فتاح كتيار كهربائي . قفزت من مكاني هاتفا بصوت عال :      

-كيف عرفتها ؟

ضحك الحاضرون لحركتي المفاجئة . وعلق ذو الرأس الحليق :

-انها حبيبة القلب .

استعدت توازني وسألت بهدوء :

-أهي حية الى اليوم ؟

-مع الاسف . توفيت بعد تجميدك بثلاثين عاما .

-فكيف تسلم علي اذا ؟

-بالتخاطر الذي حدثك عنه الشيخ .

-ربما .

وأكمل هو دون أن أطلب المزيد :

-حين علمنا بإعادتك الى الحياة اتصلت تخاطريا بسلوى فتاح أطلب منها معلومات عنكم . فهي الوحيدة من أبناء القرن العشرين التي تستطيع التخاطر عبر الازمان . فكانت فرحتها ببعثك لا توصف . ,أظن انها قفزت من مكانها حين سمعت باسمك مثل قفزتك قبل قليل … لقد حدثتني عنك كثيرا . وقالت انك كنت أعظم مطرب في زمانك . والآن نريد أن نتأكد من صدق أقوالها .

رحب الجميع بالفكرة ونهض بعض الفتية الى الصناديق فأخرجوا آلاتهم الموسيقية استعدادا للحفل الغنائي . بينما قال الشيخ صاحب المغارة الى الرجل الحليق الشعر :

-أدع اخواننا للحضور .

هز الرجل رأسه ايجابا دون أن يغادر مكانه . وتسلم بعض الرجال الآلات الموسيقية . أعدوها للعزف . وكانت آلات بسيطة ، دفوفا وشبابات و درابك وطبول و ربابات … ولم أر بينها آلة معقدة … وقبل أن نبدأ بالغناء كانت المغارة تحتشد بالقادمين الجدد من رجال وأطفال ونساء .

 

*   *   *

 

إذا كانوا على هذه الدرجة من التخلف ، فكيف صمدوا أمام أتباع العقل الأكبر ؟ …. وإذا كانوا يملكون كل هذه الطاقات كما يزعمون فلماذا لا يطورون مستوى معيشتهم ؟؟

أ حقا ما ادعاه الرجل ذو الرأس الحليق ؟؟ أ فعلا هو يتصل بسلوى  فتاح ؟ . ويسمع حديثها الدافئ ، وينعم بضحكتها الناعمة ؟ ما أسعده هو إذا !! وما أتعسني !!

وأتباع العقل الأكبر ،  هل علموا بمقري الجديد ؟ أم  تراهم يبحثون عني في مدنهم الكبيرة ؟ ورفاقي الثلاثة هل  تعرضوا  للإيذاء بسبي ؟ لو أني اطلعتهم على الاحداثيات ، لكانوا هنا معي يبددون وحشتي .

دوامة من الاسئلة تدور في رأسي . وأنا أجلس على سفح الجبل أمام باب المغارة ، مستمتعا بشمس الضحى ، بعد تناول افطاري الشهي . كان الناس حولي منهمكين بأعمالهم . بعضهم يحوك . والبعض الاخر يصنع جرارا من الطين  وآخرون يجلبون الحطب من أطراف القرية الى مغاراتهم … ودوامة الاسئلة تدور في رأسي . سألتني زوجة الشيخ صاحب المغارة :

-مالك شارد الذهن ؟

-اني قلق على رفاقي الثلاثة تونغ وساليك   وتوين . ربما سببت لهم مشاكل :

-بعد قليل سيأتيك الشيخ بأخبارهم .

-وأين هو الشيخ الآن ؟

-في عمله .

-وما عمله ؟

-الاستطلاع . يذهب كل يوم الى قمة الجبل ويسرح البصر في الافق البعيد . ثم يرى ما  يريد رؤيته . انه يراقب نشاط عباد الآلة ، في العاصمة والمدن الأخرى . ويأتينا بأخبارهم أولا بأول . أ تظننا غافلين عما يدبر عباد الآلة ؟

لا أدري أصدق مزاعم هؤلاء الناس أم أكذبها ؟ وسألتها ؟

-اذا كنتم تملكون مثل هذه الطاقات فلماذا لا تطورون حياتكم المعاشية ؟

-وماذا ينقص حياتنا ؟

-أ عني أن تبنوا بيوتا . أن تشيدوا المصانع . أن تؤسسوا المستشفيات . وغير ذلك من الأمور .

-أ تظن ان الانسان بحاجة الى هذه الحياة المعقدة ؟

-انه خلق ليعيش سعيدا .

-وما ذكرته… وسائل لتحقيق الحياة السعيدة  ؟

-طبعا .

-أبدا . السعادة تكمن في أن يعيش الانسان حياته بدون منغصات . السعادة تكمن في خلو المجتمع من الامراض . كل أمراضكم الاجتماعية قد اختفت من حياتنا . الكذب لا مكان له بيننا لأننا قادرون على كشفه بسهولة . الجريمة لا وجود لها . لماذا يسرق الانسان ؟ ولماذا يقتل ما دام قادرا على الاستفادة من أي شئ موجود بين أيدينا ؟ لذلك لا ترى في قرانا سجونا ولا محاكم ولا رجال شرطة ، لأن الجريمة لا وجود لها بيننا . حتى الامراض الجسمية انقرض الكثير منها بفعل اعتمادنا المباشر على الطبيعة….  أما في مجتمع عباد الآلة ، فقد ولدت أمراض جديدة لم تكن موجودة في زمانكم … بعضها نشأ بسبب تلوث البيئة . والبعض الاخر بفعل التفاعلات الكيمياوية المعقدة التي يصنع بها غذاؤهم ، ونشأت أمراض أخرى نتيجة اشعاعات تبثها آلاتهم المعقدة ..

أثناء حديث المرأة أقبل الرجل ذو الرأس الحليق واللحية الكثة . فسلم وجلس قبالتي على الأرض . أردت أن أسأله عن صحة ما قاله ليلة امس حول اتصاله بسلوى فتاح . وقبل أن أسأله قال لي :

-اتصلت بي اليوم سلوى فتاح ، ورجتني أن أعلمك التخاطر . انها شديدة اللهفة إلى الاتصال بك .

-وهل تعلم التخاطر ممكن ؟

-أنا مستعد أن أعلمك هذا الفن خلال شهر واحد ، اذا كنت متحمسا لتعلمه .

فكرت في الامر مليا . ما الذي اخسره  لو تعلمت هذا الفن ؟ وإذا صدق ادعاء الرجل ، فسأحظى بالاتصال بسلوى ، بعد هذه الرحلة المضنية في العصر المجدب . وتلك امنية غالية . قلت بحماس :

-انا مستعد .

-حسنا , سأمر عليك بعد الغداء ، وأرافقك الى المدرسة ، لنبدأ درسنا الاول .

-أ عندكم مدارس ؟

-في قريتنا مدرستان : أحداهما لتدريس المعارف العامة. والاخرى لتدريس معارفنا الخاصة . وأنا معلم التخاطر في المدرسة الثانية .

أقبل صاحب المغارة الذي يلقبه الجميع بالشيخ . نهض صاحبي لاستقباله . ونهضت معه . كان يحمل طيرا بحجم البطة البرية . قال انه اصطاده في طريق عودته . ولم أسأله عن كيفية اصطياده . غادر معلم التخاطر وجلس الشيخ الى جانبي . وبادرت إلى سؤاله عن رفاقي الثلاثة . فرد :

-لا تسر لقد ادخلوا السجن .

فاجأني النبأ فقلت :

-ادخلوا السجن ؟ ما ذنبهم ؟

-عباد الآلة يقولون ان شخصا ما اعطاك احداثياتنا . وإلا كيف وجهت كبسولتك الى ديارنا . وهم يريدون معرفة ذلك الشخص .

-لكن رفاقي لا يعرفون عن أمر الاحداثيات شيئا .

-العقل الاكبر يقول انهم لا بد أن يكونوا على معرفة بالامر . وهو يريد انتزاع هذه المعلومة منهم .

-لكن .. كيف عرفوا اني لجأت اليكم ؟

-لديهم اجهزة رصد دقيقة ترصد حركة كل الكبسولات .

-أتظن ان سجنهم سيطول كثيرا ؟

-أظن انهم لن يطلقوا سراحهم . إلا اذا عرفوا الشخص المطلوب .

 

 

*   *   *

 

 

بعد تناول الغداء مر علينا معلم التخاطر . ورافقني الى المدرسة . صعدنا الى القمة ، فوجدت المدرسة لا تزيد على كهوف مبعثرة . كل كهف مخصص لتدريس علم من العلوم . ودخلنا الكهف المخصص للتخاطر . وجدت عددا من الفتيان والفتيات بانتظارنا قال عنهم صاحبي  انهم طلابه الذين يعلمهم التخاطر . أول ما لفت نظري في هذا الكهف . . موقد في احدى زواياه انبعث منه دخان كثيف ورائحة نفاذة . قال عنه المعلم انه ينمي الخلايا المسؤولة عن التخاطر في الدماغ . وأمرني بالاقتراب من الموقد . واستنشاق اكثر ما استطيع استنشاقه من ذلك الدخان ثم أوصاني بتناول مجموعة من الاعشاب والثمار البرية بعد سلقها كل يوم . زاعما انها تعيد الحياة للأجهزة المندثرة في الدماغ …. وأمر احد تلامذته بمرافقتي بحثا عن تلك الثمار .. على أن أقوم بجمعها في الايام القادمة بمفردي . وبدأ الدرس الاول .

 

 

*   *   *

 

الايام التي قضيتها مع هؤلاء الناس لا تقارن مع حياتي بين اتباع العقل الاكبر . كنا نسهر كل يوم في كهف . ونواصل العزف والغناء … وفي الصباح كنت أقضي وقتي خارج القرية بحثا عن الثمار والاعشاب التي وصفها لي معلمي . مبددا السأم برفقة رعاة الاغنام و حاملي الحطب . وأعود في الظهيرة الى مغارة الشيخ لأتناول الغداء وأسمع نشرة الاخبار على لسانه .. وكانت أخباره سارة تبعث على الأمل في النفس . عرفت من خلاله ان اسمي كان كثير التداول بين المدن التي يهيمن عليها العقل الاكبر . واني قد صرت محط اعجابهم . والشبابة ما زالت الموضة السائدة بينهم . وان بعض الناس تعلم العزف عليها . وصارت اصواتها تسمع من النوافذ بعد العشاء . وان قوات المجلس الاعلى ازدادت ضراوة . فصارت تداهم المنازل التي تسمع منها الشبابات …  وفي كل مرة يذكر اسم جودة الساير مقترنا بعبارات الاعجاب والتقدير … كما ان الدكتور عاطف يغذي روح التحدي بين الناس ويحاول ان يكشف عيوب العقل الاكبر بين صفوفهم . وكنت كلما نقل ألي خبر من هذه الاخبار يزداد اعجابي بنفسي وبقدراتي الخارقة بالتأثير على الناس وصرت أفكر جديا بتغيير العالم الذي صنعه العقل الاكبر .

ازداد اهتمامي بمعلم التخاطر . فكنت أقضي الساعات الطويلة للتمارين التي يفرضها المعلم وأنا بكامل حيويتي ونشاطي . على أمل الاتصال بسلوى … تطورت قدراتي التخاطرية . وصرت قادرا على استقبال الأفكارالتي يبثها معلمي …. وقد أخبرني ان أمامي اسبوعا واحد لأكون قادرا على التخاطر عبر الازمان فأستطيع الاتصال بسلوى فتاح . فرقصت فرحا وقبلت معلمي وشكرت له صنيعه الجميل .. لكن خبرا نقله الشيخ غير مسار الاحداث .

 

*    *    *

 

كلما تذكرت حياتي الماضية ، في القرن العشرين ، ومغامراتي العاطفية بعنفوانها وصخبها ، ازدادت رغبتي لتجديدها … لكنني لما نشرت شباك الحب على احدى الفتيات ، واجهتني بالصد . فعادت شباكي خالية , فأتذكر وجه الممرضة زينب أول فتاة أقابلها في حياتي الجديدة . كيف واجهت عواطفي بالاشمئزاز والاحتقار …. ثم اسائل نفسي : المفروض ان الامر مختلف بين هؤلاء  و أولئك فهؤلاء اناس يتزوجون وينجبون ، ويحب بعضهم بعضا . فلماذا اواجه من قبل فتياتهم بهذا الرفض ؟! …. وسألت معلمي مرة :

-أرى ان الحب لا مكان له في قلوب فتياتكم ؟

ابتسم ابتسامة ماكرة وقال :

-لا مكان في قلوبنا للحب الزائف . المرأة عندنا تحب في حياتها رجلا واحدا . تحبه بكل جوارحها . وتخلص له . وتمنحه كل ما تملك . والرجل كذلك . إن غريزة الحب عندنا قد عادت الى سجيتها الاولى ، في طفولة الانسانية وتخلصت من الانحرافات التي خلفتها حضارة الآلة واستغلال الانسان للانسان . فتعدد العشاق ، والخيانة الزوجية ، والنزوات العاطفية العابرة … لا مكان لها بيننا . الحب الذي تتحدث عنه ليس حبا حقيقيا . انه نزوة مؤقتة . لا تعرفها نساؤنا ولا رجالنا .. أما انت فقد أحببت في حياتك مرة واحدة . سلوى فتاح هي حبك الأول والاخير . أما مغامراتك الاخرى فكلها زائفة . ولن تتكرر في مجتمعنا .

عرفت لماذا كانت سلوى أول وجه يطل على ذاكرتي في اللحظات الاولى من حياتي الجديدة . ولماذا كان طيفها حاضرا أمامي دون الفتيات الاخريات اللواتي عرفتهن في حياتي الماضية . سلوى فتاح اذا هي قدري المكتوب . وليس أمامي اذا الا ان أحتفظ بكلماتي الرقيقة وقصائد الغزل حتى أجيد التخاطر عبر الازمان ،  فأصبها في اذنها الغالية التي بليت عظامها منذ مئات السنين .

 

 

  

-5-

 

 

قال لي الشيخ المتخصص برؤية البعيد بعد تناول العشاء :

-غدا سيحصل حدث مهم في عاصمة عباد الآلة .

-ما هو ؟

-في الغد يحتفلون بعيدهم الاكبر .

-أي عيد ؟

-انه الذكرى المائة والخمسون لصناعة العقل الأكبر . تلك هي سنّة ساروا عليها منذ قرن ونصف . يتجمع الملايين في الساحة الكبرى ،أمام مقر المجلس الاعلى . وتتلى عليهم الخطب الطويلة، التي تعدد منجزات العقل الأكبر في خدمة الحضارة .

قلت مقاطعا :

-وهل هذا حدث مهم ؟

-ليس هذا هو الحدث المهم . لكني الاحظ ان الدكتور عاطف ، منذ أكثر من اسبوع ، يخطط لشئ ما . انه يتصل بالكثير من الناس ، وخاصة حملة الشبابات ويدعوهم الى العزف على شباباتهم اثناء الاحتفال . وأتوقع ان له خططا اخرى لم استطع اكتشافها . ربما يهدف الى احتلال المجلس الأعلى بتعاونه مع الجماهير المحتفلة :

-اذا كان الامر كذلك فما هو دوركم ؟

-نحن لا علاقة لنا بما يجري هناك . ان سياستنا تقتضي عدم التدخل في شؤونهم . وهم أحرار في اختيار سياستهم  ونظام حياتهم .

-لكنني لا بد أن اسهم في هذا الحدث .

-وماذا تستطيع أن تفعل ؟

-قد أفعل الكثير . والان دعني أفكر في الامر .

غادر الشيخ وافراد اسرته الى الحفل الغنائي . واعتذرت عن الذهاب معهم . وبقيت في المغارة افكر بما يمكن أن أؤديه في هذا الحدث العظيم … فكرت في الامر مليا . ووصلت الى النتيجة التالية :

اذا كانت جماهيرتي قد صارت بهذه السعة التي أخبرني بها الشيخ وصار الناس يلهجون باسمي في جلساتهم . واذا كان الدكتور عاطف عضو المجلس الأعلى سابقا ، والعقل المدبر للثورة الجديدة اليوم ، يستعين بالشبابة التي اخترعتها للناس . فكيف يكون الأمر حين أكون شخصيا بين صفوف الجماهير ؟ لا شك ان تأثيري سيكون أكبر . وأن حماسهم سيزداد . وسيكون النصر حليفنا في اسقاط سلطة العقل الاكبر .

وفي الصباح أخبرت الشيخ بنيتي ، فلم يقتنع بكلامي وقال لي : ان الامور لا تحسب بهذه السهولة . وأن اشياء كثيرة أجهلها ولم أحسب حسابها … لكن كلامه لم يجد عندي اذنا صاغية . وأصررت على رأيي .

كانت المشكلة التي تواجهني هي : في أي مرآب سترسو كبسولتي ، حين وصولي الى العاصمة ؟ بعد تفكير قليل سألت الشيخ أن يتأكد بقدراته الفائقة . عما اذا كانت الشقة التي كنت أشغلها مع رفاقي الثلاثة قبل هروبي من العاصمة أما زالت فارغة أم لا ؟  فكان جوابه ايجابا . عند ذاك قررت أن تكون هي مرآبي .

ولكي يكون وصولي الى العاصمة متزامنا مع بدء الاحتفالات التي تبدأ في الصباح حسب توقيت العاصمة . فلا بد أن يكون انطلاقي من جبال الهملايا عصرا . وقبل موعد المغادرة اتصلت بمعلمي تخاطريا واخبرته بنيتي على السفر وهدفي من هذه الرحلة المفاجئة . فكان ان ترك المدرسة وجاء ليودعني أو ليثنيني عن عزمي . وبعد ان عجز عن اقناعي بالعدول عن السفر ، ودعني أمام باب الكبسولة . ووعدني بأن تتواصل الاتصالات فيما بيننا تخاطريا .

 

*   *   *

 

انطلقت الكبسولة متجهة الى العاصمة . وحين اتقد الضوء الاخضر معلنا وصولي ، تسلمت رسالة تخاطرية قصيرة من معلمي يدعونني فيها الى العودة الى دياره فورا . لأن فخا ينتظرني . ولم يذكر التفصيلات .. لم أحمل نداءه محمل الجد . بل تصورت الامر خدعة منه يثنيني عن المشاركة في تلك الحركة الثورية فلم أأبه برسالته .

فتحت باب الكبسولة وهبطت منها فوجدت الشقة فارغة وبابها مواربا … اجتزت الممر وهبطت بالمصعد الى الطابق الأرضي . ومع مغادرتي المصعد وجدت اثنين من القوات  التابعة للمجلس الأعلى بانتظاري . القيا القبض علي ونقلاني الى مقر المجلس .

بعد تحقيق سريع أمر المحقق بإيداعي السجن . وأمر كاتبه أن يدون أن عدد السجناء قد بلغ المائتين . ورافقني شاب من قواتهم الى قاعة السجن . وفي الطريق القصير أخبرني أنه من المعجبين بي . وأنه قضى أمتع ليلة في حياته في الاستماع الى غنائي وعزفي على الشبابة . ووصلنا قاعة متوسطة الحجم فأخبرني ان هذه القاعة هي السجن … كانت القاعة مليئة بصناديق مستطيلة ترتفع الى السقف . وقدمني الشاب الى رجلين آخرين قائلا :

-هذا هو جودة الساير الذي امتعكم في الليلة العظيمة .

جردني الرجلان من ملابسي وأحضرا انابيب مطاطية ذات رؤوس زجاجية مدببة . وحين سألت عن سبب ذلك . أجابني أحدهم :

-من الآن . سيكون غذاؤك عن طريق الدم . وتقضي حاجتك عن طريق هذه الانابيب . حتى تخرج من السجن .

ربطا تلك الانابيب بجسمي . ثم ضغط احدهما زرا كهربائيا ، فاندفع درج كبير من أحد الصناديق  كان بحجم التابوت . وضعاني داخله وربطا الانابيب في مواقع خاصة منه . وأعاداه الى الصندوق الكبير . وغرقت في ظلام داكن وصمت ثقيل .

 

*   *   *

 

بعد زمن لا أستطيع تحديده وصلتني رسالة تخاطرية من معلمي . يلومني فيها  على عدم اصغائي لتحذيره . قلت له :

-الرسالة لم تكن واضحة . كانت قصيرة جدا .

رد علي تخاطريا :

-كان الامر مستعجلا وحرجا . فعند انطلاقك من أرضنا سرح الشيخ بصيرته الى مقر المجلس الأعلى حيث يربض الجهاز الذي يسمونه العقل الأكبر واكتشف الشيخ ان العقل الأكبر قد رصد كبسولتك وحدد اتجاهها . وعرف المرفأ الذي سترسو عليه . فأوعز الى رجاله بالتحرك الى ذلك المكان . وإلقاء القبض عليك . اكتشف الشيخ هذه الحقائق بعد أربع دقائق من مغادرتك . فأخبرني بها . وكان أمامي نصف دقيقة فقط لأبلغك الرسالة قبل أن تغادر الكبسولة . فلم يكن أمامي أن أنقل لك التفاصيل .

قلت له :

-ما حصل قد حصل . ولكن هل تعرف كم سأبقى في السجن ؟

-امامك مائة وتسعة وتسعون سجينا . ينتظرون دورهم في التحقيق . أي انك ستبقى على هذه الحالة أكثر من شهرين . ثم يخرجونك ليحققوا معك .

-وكم قضيت منها الآن ؟

-اربع ساعات فقط . لقد دخلت السجن في العاشرة صباحا - بتوقيت العاصمة - والآن هي الثانية بعد الظهر  .

انتهت الرسالة . يا الهي . اربع ساعات فقط كل هذا الدهر الطويل الذي قضيته بين اضلاع هذا التابوت المظلم …. تنتظرني الف واربعمائة وأربعون سنة اخرى !! كنت مسجى على ظهري . ساقاي ممدودتان ، وذراعاي مسبلتان الى جانبي . حاولت أن انقلب الى جنبي . لكن اضلاع التابوت لا تسمح بذلك . أردت أن أثني ساقي . أن انقل احدى ذراعي من موضعها . وجدران التابوت لا تسمح بذلك . الحركة الوحيدة المسموح بها هي أن أحرك نهايات أصابعي ، لأبدد بعضا من الخدر الذي كان يثقل جسمي المسجى في فضاء السكون المخيف . صرخت بأعلى صوتي . وصلت الصرخة لمسامعي صدى لنداء مخنوق . فأدركت بأن صراخي لا يتعدى جدار التابوت .

بعد دهر آخر وصلتني الرسالة التخاطرية الثانية من معلمي يخبرني فيها عن الحركة التي كان يدبرها الدكتور عاطف قال: ان العقل الاكبر قد تنبه للخطط في اللحظة الاخيرة . فأمر باعتقال الدكتور عاطف والمتعاونين معه . كما أمر بتعزيز مداخل القاعة الكبرى . وهكذا مرت الاحتفالات بسلام ، دون أن يعكر صفوها أحد .

ولم أنس أن أسأله عن المدة التي قضيتها داخل التابوت . فأخبرني أن يوما كاملا قد مر على دخولي السجن .

هكذا صارت رسائل معلمي مقياسي الوحيد للزمن ، في ظلمة هذا التابوت . كلما وصلتني منه رسالة علمت أن اربعا وعشرين ساعة قد انصرمت . وصرت أبدد ما تبقى من الوقت ببعث رسائل تخاطرية الى زملائي في مدرسة التخاطر . اولئك الفتية والفتيات الذين تتراوح اعمارهم بين العاشرة والسادسة عشر ة . اسألهم عن كل شئ : كيف يقضون نهارهم ؟ في أي الكهوف سهروا ليلهم ؟ ومن غنى لهم ؟ وعن أحوال اصدقائي الآخرين : الشيخ المتخصص برؤية البعيد ، وأفراد اسرته ، وقارئ الافكار . والشاب الذي يلبس فراء النمر . وأسألهم عن حالة الطقس . أ مشمس أم ممطر ؟ وعن اتجاه الريح …. ودرجة الحرارة وتأتي اجاباتهم تفصيلية . معزى فلان ولدت تؤما . وفلانة ذبحت أثنين من دجاجاتها . وصديقنا الفلاني اصطاد أرنبا … بهذه الطريقة صرت أشعر باني على قيد الحياة .     

   

*   *   *

 

في لحظة من لحظات زمني الراكد وصلتني رسالة من معلمي . قال لي :

-سلوى فتاح تسعى للاتصال بك منذ عدة أيام . لكن قدراتك الطرية لم تتعود التخاطر عبر الازمان . والآن عليك أن تكف عن بث الرسائل الى هؤلاء الفتية والفتيات . وتركز ذهنك في سلوى فتاح وحدها . بانتظار رسالتها . وتقيد بالدروس التي اعطيتها لك سابقا .

يا الهي … سلوى فتاح بعد اربعمائة عام ؟! انها قدري الذي لا مفر منه . (( سلوى فتاح حبك الوحيد ))  هكذا قال معلمي حين سألته عن الحب … هل احببت رجلا بعدي يا سلوى ؟ معلمي يقول : (( سلوى فتاح ماتت عذراء في الخامسة والخمسين من عمرها …. ))

ووصلت الرسالة . أطل وجهها علي شاحبا حزينا ملوثا بالغضون .. معلمي قال لي مرة (( وفر غزلك الى سلوى فتاح حين تتقن التخاطر عبر الازمان )). تدفقت‘  بقصائد الحب وقصائد الغزل  .. لم يتضرج وجهها حمرة . ولم تنبلج الابتسامة على ثغرها .. ظلت نظرتها ساهمة عميقة . ورأيت دمعتين تترقرقان بين أهدابها . كانت تنتظر أن أحدثها عن حياتي الجديدة … وحكيت لها كل شئ … وصفت لها شكل مدينتها بعد اربعمائة عام … مختبر الرازي والممرضة الجديدة التي اخذت مكانها في الجناح السابع والاربعين . ولكنها لم تأخذ مكانها في قلبي …. حكيت لها كيف صار الحب جريمة في زمن الازدهار الحضاري . وكيف وصلت الى هذا التابوت المظلم  لأن الناس قد رقصوا على أنغام شابتي.

هذه قصتي يا سلوى فتاح انقليها الى أهل زمانك . وأخبريهم عن أحوال مطربهم المحبوب جودة الساير في اخريات زمانه .

تمّت

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 904 لسنة 2001

 

 

أضيفت في 01/05/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية