الفصل الرابع
حتمًا
نأتي الحب متأخرين قليلاً، متأخرين دومًا.
نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب
نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام.. وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف
ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا.
حتمًا.. نضج الحلم. ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب
رشدًا سريعًا؟!
جاء العيد.. ولقسنطينة عيد آخر.
أعود إليها بقلب متعدد الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس من تحت
ركام هائل من الأوهام.
وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه . وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد
أن أضرب فيها عمّال البلديّة والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم
المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي
المحتفلة الوحيدة بالعيد.
أستعجل العودة إلى بيتي. حيث أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ
لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر فجرًا موتها.
أكره الأعياد. وهذا العيد كان أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب.
انتابني هذا الإحساس، وأنا أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده
عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي
زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي بالذنب تجاهها.
زوجي كان قد غادر البيت باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد
صلاة العيد. فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد
عادت بعد من الحجّ.. وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان
نفسها التي كانت في البيت، لم تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على
الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها.
ماذا يفعل الناس صباح عيد الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً..
وتقسيماً. فهنا لا يمكن لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت
إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت الذي يسكنه.
ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو
المطابخ، يقسّمن أجزاء الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ.
هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف،
العشرة دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي
لا يكلّف هذه الأيام أكثر من رصاصة..
أطلب زوجي على الهاتف لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان
أرسل شيئًا إلى بيت عمّي أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه
أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف
بيننا الكلام.
أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه
أن يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة.
لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليه وحدي. كما
نذهب إلى موعد حبّ.
أكره أن أزوره في المناسبات. ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات
التي أعبر فيها شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد
يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه.
كان بيني وبين هذا الرجل، الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له
ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي
سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر مما حولي من أحياء.
كنت أجلس إليه بين الحين والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون
همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات على مصائب الحياة.
وأحيانًا أغلق على نفسي باب غرفتي. وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي. وأدعوه إلى
الجلوس على طرف سريري. أقص عليه بعض ما حلّ بي. أستشيره. وأتوقع أجوبته.
وعندما لا يأتي جوابه، وتبقى صورته صامتة، أجهش بالبكاء.
أخاف أن أكون قد قلت له الكثير عني. أخاف ألا أكون عند حسن ظنه. فلا أصعب من أن
نبقى عند حسن ظن الأموات.
اليوم أيضًا، ككل المرات التي كان يضيق بي فيها القدر، وتخذلني الحياة، تقودني
خطاي نحو هذا الشبر من التراب ، أنبش فيه عن جواب لأسئلتي الكثيرة.
ولكني هذه المرة لم أعثر على جواب. وإنما عثرت على ناصر، وهو يهم بمغادرة
المقبرة.
ومما زاد من اندهشي، ألا تكون زيارة قبر أبي في الأعياد إحدى عاداته. بل نقلت لي
أمي منذ مدة ، أنه أفتى لها بأن زيارة القبور والأضرحة غير مستحبة.
وكعادتي، لم أجادله في معتقداته، ولا في وجوده هنا ، حيث لم أتوقعه.. كالعادة.
اكتفيت بإبداء اندهاشي لوجوده، وفرحي بلقائه.
ولكنني لم أمنع نفسي وأنا أقبله، من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير، دون
أن أتمكن من معرفة ما تغير فيه بالتحديد.
رد بشيء من السخرية:
_لقد فقدت كثيرًا من وزني في الفترة الأخيرة..
ثم أضاف:
_كي لا أفقد معتقداتي!
لم أفهم ما يعنيه. أجبته بلهجة فرحة:
_هذا أفضل.. أنت تبدو أكثر شبابًا هكذا..
أجاب بالسخرية نفسها:
_وواش اندير بشبوبيّتي..؟
هوذا كعادته ، يستدرجني إلى موضوع لن يكون من السهل الخوض فيه. كتلك المرة التي
طلبت منه فيها، منذ سنوات أن يأخذ الساعة الجدارية لإصلاحها، لأنها تتأخر
عدة دقائق كل مرة، ولكنه رد هازئًا:
_ روحي.. يا بنتي روحي، إحنا رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن. وأنت قاعدة
عقاب الساعة، تحسبي لي في الدراج والدقائق. قرن كامل ما قلقكش.. وقلقوك
الدقائق. حتى الراجل إذا نديها لو يموت من الضحك.. في هاذ البلاد.. الناس
ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس!
أتفادى الدخول معه في جدل سيهزمني فيه لا محالة. لأنه يرد على منطقي في الحياة،
بمنطقه في معايشتها. وهو ما يجعل الحق دائمًا إلى جانبه.
أقول كمن يعتذر:
_كنت على سفر. ولم أعد سوى منذ يومين. طلبتك هذا الصباح لأعايدك.. ولكنني لم
أجدك.
ردّ:
_أنا لا أقيم في البيت. كلنا على سفر كما ترين، وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان
ثابت هذه الأيام!
يواصل بعد شيء من الصّمت:
_لأنه لم يعد لهم من شيء يخافون عليه.. أو يخافون منه.
أسأله مستفيدة من هذا السياق:
_وممّ أنت خائف؟
يرد بثقة وكأني وجهت إليه تهمة:
_من الله.. من الله وحده.
أرد:
_كلنا نخاف الله..
يجيب:
_كيف يخاف الله من يطيع أعداءه؟
أصمت. لا لأنني لا أقدر على جوابه. ولكن لأنني أجد جدلنا هذا، أمام مقبرةٍ ذات
عيد، ضربًا من الجنون. فنحن لم نأت هنا لنتناقش ولا لنتشاجر.
جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر والدنا، وهاهي ذي السياسة تطاردنا الآن في كل مكان،
حتى في أسرتنا، وحتى في دفاترنا، وحتى في المقابر.
أقول:
_ناصر خويا.. الناس تلتقي اليوم لتتعايد، وتتصالح، وتتسامح،وأنت لا أكاد أسلم
عليك حتى تنفجر في وجهي.. كن أخي ولو صباح العيد.
يقول متذمّرًا:
أي عيد؟ أنظري حولك القبور كلها جديدة، كلها طريّة، تستقبل كل يوم دفعة جديدة من
الأبرياء.
_وما ذنبي أنا؟
_ذنبك.. أنك تقتسمين مع الشيطان بيته وسريره.
أرد:
_لا أدري إن كان هذا الرجل ملاكًا أو شيطانًا. لا أعتقد أنه يختلف عن الآخرين،
سوى بكونه ضابطًا ساميًا تقع على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن، هذا
الوطن الذي أؤمن به أكثر من إيماني بالملائكة.. والشياطين.
_ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ
هذه القبور، ما فائدة ما تعلمته إذن، عن حريّة الناس في اختيار مصيرهم؟
_ما تعلمته لم يفدني في شيء. ولا حتى في اختيار مصيري، فكيف تريد أن أقرر مصير
الآخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً معترفاً بها رسميًا. ومهمتها تمثيل الشعب،
والدفاع عن اختياره. أما أنا فلا يوجد حزب ليدافع عني. وحتى أنت.. لم
تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء، فلماذا تعجب أن لا يكون لي اليوم رأي؟
يصمت. وكأنه لا يجد ما يقوله، أو لا يجد جدوى من الكلام. يستعيد لهجة أكثر
حناناً. ويقول وكأنه يودعني سراً.
-حياة.. انخاف عليك
أتمتم:
-من واش؟
يجيب:
-من كلّ شيء!
أرد بالحنان نفسه:
-لقد خفت عليّ دائماً من كلّ شيء.
يجيب:
-ولكن هذه المرة أدري تمامًا ما أقول. أتركي هذا الرجل، اطلبي منه الطلاق ما دام
ليس لك أطفال منه.
أبتسم ثم أضحك لكلامه.
يسألني عاتباً:
-ما الذي يضحكك؟
أقول:
-تذكرت "ما" لو كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطلاق لجنّت. هي التي تعتبر زواجي من
هذا الرجل أكبر مفاخرها.
يردّ:
-لا تهتمي بأمي. إنها تعيش حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (الآخرين). في الواقع هي
تستند إلى جدار من الوهم الكبير. استندي إلى الله في أي قرار تتخذينه فهو
لن يخذلك.
أقول:
-لقد استندت إليه دائماً.. وإلى هذا القبر. وقدري نتيجة هذا. وكنت أتمنى أن تكون
أنت أيضاً سندي. إنك كلّ ما أملك في هذه الدنيا. ولكن ها نحن كالغرباء
نلتقي مصادفة في المقابر.. لا تطلبني ولا تزورني، وعندما أزورك لا أجدك.
يقاطعني بشيء من المرارة:
-ذات يوم.. لن تجدي صعوبة في العثور عليّ. سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا.
أصرخ:
-ما هذا الذي تقوله.. أجننت؟
يقاطعني:
-الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون
مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها
شيئًا، على مقربة من شرطيّ. عندما قتلوه، اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه
شيئاً. تصوري: الآن بإمكانك أن تموتي لا بسبب جريمة ارتكبتها، وإنما لأن
هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة. حسب المكان، أو الزمان، أو الهيئة التي
يصادف أن تكوني عليها وقتها. أي أننا جميعاً متهمون مفترضون. يكفي أن
تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات.. وتتطابق مع "أعراض إرهابية"!
أقول:
-لا أطن أن أحداً يحب إيذاء الآخر، أو قتله لمتعة القتل. ولكن كلّ واحد أصبح
يعتقد أنه إن لم يكن القاتل، فسيكون القتيل. إنها قضية ثقة. لقد فقدنا
الثقة ببعضنا بعضاً. إنه زمن الانجراف نحو الشر. يجب أن لا ننساق فيه إلى
ركوب هذا القطار المجنون. الحياة جميلة يا ناصر، صدقني.. يكفي أن نضع فيها
شيئاً من الحب.
يصمت ناصر. ثم يحتضنني ويقول:
-أحياناً أتمنى أن أشبهك
-وأنا أتمنى دائماً أن أشبهك. لقد باعدتنا الحياة أحياناً. ولكن لن يفرقنا شيء.
أليس كذلك؟
يجيب:
-لا.. لن يحدث هذا.
يمشي خطوات ثم يعود، وكأنه تذكر شيئاً. أو كأنه قرر أن يقول لي شيئاً، تردد في
قوله. يهمس:
-حاولي أن تأتي لزيارتنا في البيت خلال اليومين القادمين. إنّ أمي ستعود بعد غد
من الحج. إنني أنتظر عودتها لأسافر. وأود أن أودّعك قبل سفري.
أسأله دهشة:
-تسافر إلى أين؟
-سأقول لك هذا في ما بعد. لا تخبري أحداً بهذا الأمر.
ما يكاد يختفي، حتى أجلس منهارة عند أقدام ذلك القبر. ويفاجئني البكاء.
أيّ زمن هذا الذي أصبح فيه الإخوة، يلتقون فيه مصادفة في المقابر صباح العيد.
فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع من الموتى. ثمّ يفترقون، دون أن يدروا متى
سيكون لقاؤهم القادم.. وفي أي عالم!
* * *
أنا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في
مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا
ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت
طرفًا ثالثًا بيننا.
أثمّة في هذا البلد، عدوى انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام
نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟
في المساء، جلست لياقةً لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن
لا آكل شيئًا من لحم تلك الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب
ما عانته من دوار البحر، لقضائها شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية
لباخرة.
زوجي كان مرهقًا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة،
عن أشياء عامة دون تحديد. وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم
ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على
السرير.
قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب:
_كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي.. لا أفهم لماذا لا بد ان تقضي كل الأيام في
مكتبك ..حتى الأعياد.
أجابني:
_إذا قضيت معك العيد، فمن يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة
23 ألف طالب. أما مساجدها فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم..
قلت:
_كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيها كل على
حده.
أوصلني هذا السياق إلى ناصر. تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي.
ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم
علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها.
ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو يقول بشيء من الارتياح:
_حسنًا أن تكوني قد التقيت به..
ثم يضيف:
_كيف وجدته؟
أعجب لسؤاله.. أجيب:
كالعادة.. ربما نحف بعض الشيء، ولكنه بصحة جيدة.
يسألني :
_ألم يخبرك بشيء؟
أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى كل الاحتمالات.
تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ
أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟
أجيب:
_لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها.
يسألني وهو يصلح من جلسته مستندًا على السرير:
_ألم يخبرك أنه اعتقل؟
أصرخ دهشة:
_اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟!
_أثناء غيابك. لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك.
أصاب بحالة ذهول.
أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم
لم يعثروا على حجة كافية لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه.
أسأل:
_ماذا فعل؟
يجيب:
_إن كثيرًا من الشبهات تدور حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية..
أجبت بعصبية:
_ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح
ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي.
يقاطعني بلهجة صارمة:
_إن أخاك يتكلم كثيرًا . ولولا لسانه لوفر عليّ وعليه كثيرًا من المتاعب. إنه
يعتقد أن الاسم الذي يحمله يمنحه حصانة. ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض
الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا
دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب ألا يكون فيها استثناءات حتى
لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا!
ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل.
تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير.
لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد
بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته بالتشاجر مع أخي.
رأيته فجأة يغرق في نوم عميق. فلم أملك إلا أن أنزلق جواره.
وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري.
لا أدري كيف مات غضبي.
الآن فقط اكتشفت أنه مات. وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل
قلمي وأشعلني في وجه الآخرين.
ألا تكون لك قدرة على الغضب، أو رغبة فيه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن
تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في
شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في السابق من الأهمية، أو من
المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها!
كانت عودة أمي من الحج، هي كل ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني
أستعجل لقاءها: شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة
ما يخبئ لي من مفاجآت؟
وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون
بزيها الأبيض، وغطاء رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون
حاشيتها من النساء، اللاتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب.
ولذا سعدت بالانفراد بها.. وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها،
قبل أن تعود امرأة عاديّة.
لا تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال:
هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟
أرد:
_لا
تواصل:
_لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك.
أرد:
_بلى هو يناسبني.. ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني.
فتعود إلى حديثها عن الحج، وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها.
تحكي عن الحرارة التي لا تطاق هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا..
وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار.. وعن أسعار الذهب التي ارتفعت..
أستوقفها:
_"مّا" .. هل رفعت لي دعاءً هناك؟
تجيبني متعجبة:
_طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل ذلك دائمًا..
أقاوم رغبة جارفة في البكاء، وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛
أواصل الاستماع إليها تحكي.. وأنا سرًا أبكي.
أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر..
كعادتي.
أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثه من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو
لي أكبر من عمره.
أحسه رجلاً فوق العقد، فوق الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في
الأصولية حلاً لكل عقدهم الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم
ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة
وطنيّة.
لقد أثار هذا الطريق تاركًا كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا
يملكون شيئًا ليخسروه!
كان بإمكانه الحصول على أية بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين
كان يجد ثروته الداخليّة. ومع أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يهاجر كل
يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب،
واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه،
ونجحوا في حياتهم.
نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين
البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات
شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل
المناسبات لتجدد خزانتها.
لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها.
وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن
الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه!
أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة
شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين.
جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في
القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟
نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون
بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب.
أسأله بنبرة منخفضة:
_أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟
يجيب:
_إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي..
فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري.
ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي.
_ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟
_طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت
المباغت.. والاغتيالات الملفقة.
أقول:
_لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي.
يقاطعني:
_وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني.
_وهل هذا غير صحيح؟
_نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه
الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية
معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ،
وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ
بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن،
تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟
استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن
صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا
"آمنًا" أسميته الوطن!
فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر،
ريثما يمر قطار الجنون.
أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة
الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك.
عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من
هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة،
تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي!
في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم.
وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا
أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث
حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه.
أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة
عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما
كان اسمه: هو.
وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية،
والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر
عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها،
لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق.
المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من
هذه الحواس.
بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه،
أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق.
ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي
وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل
في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في
كتاب.
أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك
في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون
في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري
مهنتك الأخرى.
ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب
ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي
مارسها، والأماكن التي يرتادها.
تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من
مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته!
إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا
عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق!
سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب
ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما
أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه
كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية
على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز
الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات
شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال
حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى:
"في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من
يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث"
على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون"
ثم خاطرة أخرى:
" في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد"
وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" .
ثمّ:
"إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا
كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!".
أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن
يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع .
الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من
الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي.
بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب
قراءتين ، في وقت واحد.
أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف
على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف
منفرد على إيقاع "هنري ميشو":
"في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع
أن تدنس كل شيء ! "
ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " .
أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة
"ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" .
وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو .
ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته.
"لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ "
أو
" لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه"
أو
"النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر،
تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن
؟".
ويصمت الأزرق.
قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة
بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود
الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى
كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا.
اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية
كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً
حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال .
ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟
ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن
تعرفها.
و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا
أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت :
"لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء"
وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم
الطاهر عبد المولى؟
كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن
تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ
حياتك.
قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية،
والنصف الآخر للذاكرة الوطنية.
قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح له بمتابعة الأخبار، أو بطالعة جريدة، فتح عينيه
على غياب والده، وعلى الحضور الدائم لعبد الناصر، مبتسمًا ومحييًا في صورته
الشهيرة. ليس فقط لعدم وجود جهاز للتلفزيون في بيتنا في تلك الأيام، ولن
لأنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ، تزين غرفة متواضعة للاستقبال.
وأذكر تمامًا أن تلك الصورة وصلتنا إلى منفانا بتونس. عن طريق صديق لوالدي كان
يدعى سي عبد الحميد، وكان يتردد علينا أثناء وجود والدي في الجبهة، محملاً
بالهدايا وبمبلغ من المال، لا أدري إن كان منه أو بتكليف من الجبهة.
ذات مرة زارنا، وراح يلاعب ناصر كعادته. ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" وإذا
بناصر، و لم يتجاوز الرابعة من عمره، يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد
الناصر". وتروي أمي أن سي عبد الحميد ظل مذهولاً للحظات قبل أن يجيبه بمنطق
الأطفال" سآتيك به في المرة القادمة".
ولأنه كان يتردد على القاهرة لإجراء بعض المشاورات السياسية، وكان أيضًا مسؤولاً
عن متابعة شؤون الطلبة الجزائريين هناك، والذين كان من بينهم طالب لم يكن
يدعى بعد هواري بو مدين، فقد أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر، مع جملة
من الهدايا التذكارية.
منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا في بعض الأمسيات أن تستمع من تونس إلى" صوت العرب من
القاهرة"
وهو يبث خطابات لجمال عبد الناصر، وأناشيد عربية ملتهبة، لازلت أحفظ بعضها، كما
يحفظ الطفل في ذلك العمر أناشيد تعلموها في روضة، وعلقت بذهنهم إلى الأبد .
ثم ننام سعيدين، دون حاجةٍ إلى التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا
بعد.
لقد كنا نتفرج على العالم من شاشة جداريّة.مثبتة عليها صورة عبد الناصر، قبل أن
يأتي يوم تجاور فيه صورة أبي على الجدار صورة عبد الناصر، بحجم أصغر، ولكن
بالحجم الكبير ذاته الذي نقلتها به الصحافة وهي تعلن في صيف 1960 على
صفحاتها الأولى، مقتل أحد قادة الثورة على يد المظليين الفرنسيين، بعد
معركة ضارية في مدينة باتنة.
أذكر أنني احتفظت أيامًا بتلك الجريدة، كنت خلالها أفتحها بين الحين والآخر على
الصفحة الأولى، وأقضي وقتًا طويلاً في تأمل ملامح أبي. كما توقف عندها
الزمن إلى الأبد، قبل أن أفاجئ نفسي يومًا أقتطعها بمقص، وأقنع أمي بوضعها
هي، ولا أية صورة أخرى في إطار، لتصبح هي الصورة الثانية في بيتنا.
ربما ولدت لدّي يومها تلك الهواية السري، التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي،
إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة، والتي استيقظت فجأة داخلي على أيام الانتفاضة
الفلسطينيّة، عندما بدأت أقضي وقتًا طويلاً في تأمل صور الشهداء. تلك التي
درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل أية عملية انتحارية. والتي
كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم. وكنت أنا أحتفظ بتلك
الصفحة من الجريدة.. عملية بعد أخرى. ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في كيس
وأضعها بعيدًا عن متناول يدي.. ومتناول نظري، كي أرتاح.
وكنت قد نسيت أمر تينك الصورتين، اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر، لم
تعودا جزءًا من ديكور غرفة استقبالنا، التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها
صورتان في تلك البساطة. قبل أن أعثر عليهما مصادفة ، منذ سنة تقريبًا، في
غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ، حيث تعودت أمي أن تخبئ أشياء تحتفظ بها ، منظمة
ومرتبة و"مدفونة " في حقائب وصناديق حديدية ، من ذلك النوع الذي اندثر ،مذ
أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة ، والتي أتوقع أن تكون أمي قد
استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة 1962 غداة استقلال
الجزائر.
أذكر أنني عثرت على تينك الصورتين بفرح كبير، فقد أيقظتا في شيئًا ما ، أو زمنًا
ما ، لفرط بعده، ولفرط صغري، بدا لي وكأنه لم يكن.
كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ أمي بها هكذا، لكونها أهم من أن ترمى، وأقل أهمية من
أن تشغل مكانًا في بيتنا.
ترددت يومها في تركهما لغبار النسيان، وكأنني لم أصادفهما. ثم ترددت في أن آخذ
واحدةً دون الأخرى. فقد كانتا ذاكرة لزمن واحد. حتى إنه لم يكن بإمكان
ذاكرتي البصريّة أن تفصل إحداهما عن الأخرى. ولذا قررت أن آخذهما معًا إلى
بيتي، حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي.. أمام احتجاج أمي ودهشة زوجي.
لم أشعر برغبة في تقديم أية شروح أحد. فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي. وربما
أنا وناصر لا غير.
ولكن ناصر أيضًا فاجأني بتعامله الصامت مع تينك الصورتين . وكأنه لم يكن ثالثهما.
ولم أشأ أن أستدرجه إلى اعترافات طفوليّة قد يكون ألغاها منطق الرّجولة تأملت فقط
صمته أمامها، واستنتجت أنه ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما، وولع الآخر
الأبوي به، وأنه تركهما لي، ليصبحا قضيتي وحدي.
ولكن هاجسي الأول ظلّ هو. فهو رحل منذ أكثر من شهر، وأمي تطاردني بأسئلة عنه، لا
أجد لها جوابًا.
_لماذا ذهب إلى ألمانيا؟ الناس يذهبون عادة إلى فرنسا.. أنا لم أسمع بأحد سافر
إلى ألمانيا..
ولا ادري ماذا أقول لها. أنا نفسي لم أعرف بوجهته إلا منذ أسبوع.
كان ذلك عندما حدثني على الهاتف. وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما
يريد. أجاب :" الحمد لله" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليه
فرد أنه سيتصل بنا كلما استطاع ذلك. فهمت أنه لا يريد أن يقول شيئًا على
الهاتف. ثم سألني إن كانت أمي تقيم معي منذ سفره. أجبته أنها تصر على
البقاء في بيتها . قال" لا تتركيها كثيرًا بمفردها إذن.." ثم أضاف للتأكيد
" أرجوك..".
أمي رفضت منذ البدء، فكرة الانتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر. فهي ترفض ذلّ
الإقامة عند صهرها. خاصّة أنها تملك شقة جميلة، وأنها متعلقة بكل أشيائها
الصغيرة.
ولكنها، منذ ذلك الحين، أصبحت تزداد تعلقً بي. لا تكفّ عن زيارتي، أو طلبي
هاتفيّاً ، واستشارتي في كل شيء، ومرافقتي إلى كل مكان، حتى بدأت أشعر من
فرط حاجتها إلي بأنني أصبحت أنا أمها.
وكنت أتفهم حاجتها الدائمة إلى حناني. فهي التي ترمّلت في سن العشرين، وتيتّمت
قبل ذلك في طفولتها، لا تفهم أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها، وأن يكون
قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر.. وابن غائب.
وهكذا أصبحت أستمع برحابة صدر، إلى تذمرها، وشكواها، وثرثرة أمومتها. ولا أملك
إلا أن أستسلم مكرهة لكل نزواتها. حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم
إلى " الحمّام التركي" برغم أنني لم أكن أشاركها يومًا حماسها لطقوس
النظافة الأسبوعية، في هذا الحمّام الجماعيّ.
في الواقع كنت أتفهم منطقها. الحمّام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيه بكل نساء
المدينة. ومثلهنّ يمكنها أن تثرثر وتحكي ماجدّ في حياتها، وهي تباهي
بمشترياتها الجديدة، وصيغتها، وثيابها التي لم يرها رجل.
تمامًا كما كانت في زمنٍ مضى تستعرض أواني الحمّام الفاخرة. من طاسة فضّيّة، ومشط
من العاج والفضة بأسنان دقيقة، ومناشف فاخرة مطرزة، و"صابون ريحة" مستورد،
وعطور، ومستحضرات لإزالة الشعر أو صبغة، وكثير من التفاصيل النسائية التي
تعودت أن أراها في طفولتي مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة، موجود
دائمًا في ركن من الخزانة. جاهز للاستعراض الأسبوعي.
بعد عشرين سنة، لم تتغير الأشياء كثيرًا. صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل
الآن من خزانة أمي إلى الصالون، ليتحول وعاءً فاخرًا يحتوي نبتة خضراء تزين
قاعة الجلوس.ولكن عقل أمي لم يفرغ تمامًا من محتوياته.. ولا من عقليّته
الأولى. لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر. ولم يعد هناك من ضرورة الآن لتلك
الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان السماويّ، بأثواب أمي
الحميمية، وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل.
وأذكر أنني في طفولتي، كثيرًا ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً، كما نفتح صندوق
العجائب. وأجلس على طرف السرير. أحلم بذلك العالم النسائيّ الذي لم أكن
أعرفه بعد.
أتفرج على أشياء أمي الصغيرة.. أحلم أن يكون لي يومًا جسد يشبه جسدها تمامًا،
أملأ به كل تلك الأثواب الحميمية.
أحلم.. أحلم.ثم أغلق على جسد أمي في حقيبة. أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة. وأغادر
مسرعة تلك الغرفة قبل أن تفاجئني أمي الأخرى. تلك التي لا جسد لها.
هيذي أمي" الحاجة" بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين، تسبقني كما في طفولتي. فألحق
بها من قاعة إلى أخرى داخل الحمام دون جدل.
في تلك القاعات المتفاوتة التدفئة، والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو الأبعد،
تصر أمي على القاعة الثالثة، الأشد حرارة. ولا أجادلها، رغم كراهيتي لهذه
القاعات بالذات.
ألحق بها. أمشي رويدًا رويدًا على بلاط مائيّ، جاهز للتّزلج والتهشم.
أذكر أنني شاهدت يومًا امرأة، تقع أمامي.. وهي ممسكة برضيع، فيفلت من يدها، ويسقط
ليموت بعد ساعات في مستشفى.
أدخل قاعة، يتصاعد البخار فيها من البرك الجدارية. ويعلو صراخ طفل هنا.. وضحكات
نساء هناك.
أمام أول بركة، أجلس أرضًا،دون سؤال. أو بالأحرى بسؤال واحد:
لماذا منذ طفولتي الأولى، كنت أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إلا من البخار
والماء، والتي لا تؤثثها سوى أجساد نساء عاريات؟
ترى احترامًا للأنوثة، التي كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ، ولا
تضاريس "طبيعية"؟
أم لأنني منذ البدء، خلقت لأكون كائنًا من ورقٍ وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة
من الماء والبخار؟
تجلس أمي جواري. تضع أشياءها. أما أنا فلا أشياء لي، سوى ما تركته في الخارج من
أثواب أحضرتها إكرامًا لها.. فيما لو التقينا بمن يعرفني.
تزعجني هذه الفكرة. فألف حول جسدي تلك الفوطة من جديد، وأعيد ربطها حول صدري
تلقائيّاً.
ولكن صوت أمي يباغتني، يعيد كلمات أعرفها تمامًا، لفرط ما سمعتها في هذا الحمام
نفسه، مذ أصبحت صبية تستحي من أنوثتها، وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد
عنه تهمة.
هنا أنت تتعلمين من عيون الآخرين، كيف تنكرين جسدك، وتضطهدين رغباتك، وتتبرأين من
أنوثتك. فقد علموك أن ليس الجنس وحده عيبًا. وإنما الأنوثة أيضًا.. وكل ما
يشبهني ولو صمتًا.
تصرخ أمي بي كعادتها" انزعي عنّا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة.
تراها تظن جسدي أحد أملاكها الخاصة، لأنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه
أيضًا على الناس، كأحد إنجازاتها، واجدة فيه عزاءً وتعويضًا عما آل إليه
جسدها هي؟
فجأة، وجدتني أعي أحد أسباب علاقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان. ففي هذه المدينة
التي ليس فيها أي مكان لما هو حميميّ وخاص، الحمام هو المكان الذي تنتهك
فيه حرمة الجسد وحياؤه. تسلط عله الأضواء، والنظرات الفضوليّة للنساء.
تتالى عليه الأيدي حكّاً ودلكًا وتشطيفًا، ساكبة عليه كميّات هائلة من
الماء. وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته.
فهل الأنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤلاء النساء اللاتي يولدن ويمتن غالبًا، دون أن
يتعرين تمامًا أمام رجل، علاقة شبقية ما بهذه الكميات الهائلة من الماء،
التي يسكبنها على أجسادهن سطلاً بعد آخر، ساعات بأكملها دون توقف، بلذة
غامضة ما، وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية، وكأنهن جئن هنا، ليكنّ على
موعد مع أجسادهن لا غير؟ أم أن جميع النساء، هن على اختلاف أجناسهن
وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك الأنثى التي حكمت بلدًا في عظمة مصر، دون
أن تغدر حمامها تمامًا!
.. وأنهن يعتقدن ، عن صواب أو عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات،
على عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش سيحملن تاجه لبضع لحظات_في العتمة_ ويعدن
بعدها لحياتهن العاديّة.
العتمة..!
اكتشف الآن إحدى نعم العتمة. وأنا أتفرج على أجساد مشوهة الأنوثة، مترهلة البطون،
متدلّية الصدور. وأفهم أن يكون الله ، بحكمته تعالى، قد خلق _ العتمة_
أيضًا ليمنح كل مخلوقاته حق ممارسة الحب في الظلام.
وإلا..فمن من الرجال، مهما جمحت به رغبته الجنسية.. أو حالته المتقدمة من السكر،
سيقدر على مضاجعة نساء على هذا الشكل.. في عز النهار؟
أحتفظ بتلك التعليقات لنفسي، تمامًا كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي، وكأنني أرفض
أن أختلط أو أحسب على هذا الرهط من النساء، اللاتي تجلس كل واحدة منهن الآن
جوار بركة ماء، وحولها سيول سوداء، أو بلون الحناء، حسب الصبغة التي وضعتها
على شعرها، والتي تقوم الآن بغسلها، محولة هي وغيرها بلاط الحمام، إلى
"دانوب" متعدد الألوان.
وفجأةً، تدخل الحمام ثلاث نساء. متوسطات العمر، متوسطات الجمال، لكن بإغراء
وبمظهر "مميز". فقد دخلن عاريات. شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع، بينما
العادة هنا أن تدخل جميع النساء بالفوطة ولا يخلعنها إلا وهن جالسات.
وفي لحظة، التفتت نحوهن الأعماق، وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب.
أفهم من مسبات أمي ونعوتها لهن، أنهن مومسات. مومسات،
وهل مازال في هذه المدينة مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة
الحركة، حيث يحدث لبعض البائسات أن يقفن.
ينقسم تلقائيا، قاعة الحمام، إلى شطرين . النساء" الشريفات" من جهة، والنساء"
المشبوهات" في الطرف الآخر.
الطرف الأول يلاحق الطرف الثاني بالتعليقات.. والغمزات.. ونظرات الازدراء، التي
مصدرها إحساس مفاجئ بفائض عفة وشرف. بينما يتجاهل الثاني تمامًا وجود الطرف
الأول. وتتصرف النساء الثلاث، وكأنهن بمفردهن. ويضحكن بصوت عالٍ ،
ويتغاسلن.. ويتغازلن استفزازًا للأخريات.
وجدت لذة في وجودي الشاذ بين طرفين، دون أن أنحاز أخلاقاً لأحدهما دون الآخر.
وربما كنت سرًا أتسلى بكتابة بعض التعليقات في ذهني. هنا، وسط البخار والماء
والشهوة.. والنفاق النسائي. فقد كنت على مسافة وسطية من العفة.. والخطيئة.
هناك حيث يقف الكاتب.. وحيث يقف أي إنسان طبيعي.
فأنا أدري أن كل إنسان عفيف، يحمل في داخله قدرًا كافيًا من القذارة، قد تطفو
يومًا فتغرق حسناته، تمامًا كما أن في أعماق كل إنسان سيء، شعلة صغيرة
للخير، ستضيء داخله يومًا ، في اللحظة التي يتوقعها الأقل .
وأدري قبل كل هذا، أن بإمكان أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة. لقد
خلقت بنصفين معًا. ولكنها كلما انحازت إلى أحد نصفيها، تمادت في السخرية
والتشهير بالنصف الآخر.
تهجم أمي على ذراعي، وتبدأ في دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها، رافضة أن تسلمني
إلى "طيابة".
تواصل متحدثة إليّ شتم تلك "الفاجرات". تقول إن العائلات الكبيرة، تعودت أن
تستأجر الحمام وتحجزه مرة في الأسبوع، لتدعو القريبات والصديقات على
حسابها.
كل هذا، حتى تضمن عدم اختلاطها بالغرباء، وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة
فانتهكت حرمتها، وأهانت أهلها.
لا أجيب. أتظاهر بالاستماع فقط.
فقد كنت مشغولةً عنها، بمقولة لساشا غتري: " ليس هناك من نساء غير شريفات..
وأخريات شريفات. ثمة فقط، نساء غير شريفات.. وأخريات قبيحات!".
يومها غادرت الحمام، دون أن يغادرني ساشا غتري تمامًا حتى أنني عدت إلى البيت
عصرًا تحت المطر. وأنا أستعيد إحدى مقولاته الساخرة: " لا تمارس الحب مساء
السبت.. إذ ما الذي تفعله لو أمطرت السماء صباح الأحد؟".
وهي غمزة ساخرة، عن الأزواج الذين يمارسون الحب عن ضجرٍ جسدي مساء السبت، ثم لا
يدرون بعدها، ماذا يفعلون بأنفسهم طوال الغد، عندما يبقون في البيت.. في
يومٍ ممطر!
ورغم أنه كان يوم سبت ممطرًا، فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ،
بكون السبت ليس نهاية أسبوع عندنا بل بدايته. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في
الغد ليقاسمني ضجري، لكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، وبي رغبة في أن
أهدي أنوثتي إلى رجل.
طبعًا.. لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسًا على عقب. ولا
توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس
الشاذلي بن جديد، سيختار ذلك السبت بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساءً من
ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحله البرلمان.. ومن ثمة دخول البلاد في
متاهة دستوريّة.
لم أعتب على الشاذلي بن جديد إهداره ليلتها رغبتي.
فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب.
الفصل
الخامس
قطعًا
وحده الزمن سيدلك على الصواب، عندما يفقد الآخرون صوابهم.
أمّا التاريخ.. فلا تتوقع في هذه الحالات أن يقول كلمته على عجل.
هو أيضًا ينتظر.
ثمانية وعشرون عامًا من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية
والسبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجاد أحمر، مذهولاً من أمره.
أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون
عامًا ليقطعها؟!
رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً،
وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه.
قبل قليل.
قبل التاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب.
يدير بيديه اللتين اخشوشنتا مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كلّ
عمل سياسيّ. سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من
كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى
للثورة التحريرية.
اللّحظة لم يعد له اسم.
مذ خطا على تراب الوطن، أصبح اسمه هو "التاريخ".
أليس التاريخ "هو ما يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء"؟
الآن.. لم يعد له من عمر.
لقد أصبح له أخيرًا عمر أحلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر.
الآن.. في هذا العمر، هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليه يوماً
بحرية ولا بأمان. فقد طاردته فرنسا فوقه أرضًا وجوًا. ولم تجد من سبيل
لإلقاء القبض عليه هو ورفاقه سوى خطف طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر أجواء
البحر الأبيض المتوسط، في رحلة تقلهم من المغرب نحو تونس، فحوّلت وجهتها
نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: أحمد بن بللّة وآيت أحمد
ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، أمام اندهاش العالم
الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي
ومظاهراته، والذي كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية،
وملأه عنفواناً وغروراً قوميًا.
حتى إن إذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم
العربي بألحان حماسية تطالب بإطلاق سراح الزعماء الخمسة، أناشيد تلقفتها
أفواه أطفالنا، وحناجر رجالنا، وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها:
"باسم الأحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا.."
كنّا نبكي.
ووحده التاريخ كان يضحك. فهو وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد.
فما كادت الجزائر تنال استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً، حتى أرسل بن
بللّة وقد أصبح رئيساً، من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران
1963، وهو يغادر بيته. واقتيد بوضياف من مكان إلى مكان. حتّى انتهى به
المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية
الأول، قبل غيره، مهانة أن يكون لك وطن، أقسى عليك من أعدائك.
وهو ما اكتشفه بعده بسنتين، بن بللة نفسه. عندما جاءه بومدين ذات حزيران (أيضًا)
من سنة 1965 فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر
عامًا عجوزاً.
أمّا بو ضياف الذي لم يطالب يومًا بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح
ليحرر وطنًا من الاستعمار، كي يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى
عنده الحاكمان.
يوم اختفى، لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به!
كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة.
فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور.
تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم
وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك
الدوليّ –مع كثير من التمني- لعدة أجيال فقط.
فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس
يومًا حول طاولة الصفقات المشبوهة للسلطة.
كان لابد من اسمه ليعيد الثقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه
حكمًا بعد آخر، علي بابا والأربعون حراميّاً.
جاؤوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته "الجزائر في حاجة إليك..
أنت الرجل الذي سينقذها".
فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا أنه لا
يمكن ان تبني شيئاً بالكراهية. وكان له مقدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من
نفوه ومضى نحو "وطنه".
فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها.
ها هوذا..
يرتدي بذلة لم يتوقع أنه سيرتديها لمناسبة كهذه.
يتعلّم المشي أمامنا. يتعلم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن
يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى السلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيأة لمثل هذا
الدور.
ها هوذا.. بوضياف.
يأتينا مشيًا على الأقدام، مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية،
وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في
عظمتها الخرافية.
ها هوذا..
ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنما تراب الجزائر، هو الذي
كان يحتفي بخطاه، ويقبّل حذاءه.
فلا تملك القلوب إلا أن تهتف: أيها التاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك.
كان يوم 14 يناير 92 يومًا استثنائيًا، حتى في طقسه. فقد توقفت فيه الأمطار التي
هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر
الجزائريين، أو كأنها أرادت أن تتواطأ مع التاريخ، وتهدي إلى بوضياف يومه
الأجمل.
طوال الظهيرة، تعلقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون؛ الكلّ يريد أن يرى ويسمع هذا
الرجل الذي دخل حزب الصمت، منذ ثلاثين سنة. ماذا تراه سيقول؟
الكلّ يريد أن يقبل، ولو بعينيه، هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي
تناديه قلوبنا اليوم "أبي".
فمنذ موت بومدين ونحن يتامى. نعاني إفلاسًا عاطفيًا، يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزًا
وطنيًا في المحبة، يفوق عجز مزانيتنا.
نحن نبحث عن رجل له قامة عبدالناصر، وكلمات بومدين، ونزاهة بوضياف، رجل في بساطة
أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على أكتافنا، يقول لنا أشياء بسيطة
نصدّقها. يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها، يبكي أمامنا عن كلّ من
ماتوا، دون أن يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن موتاهم.. وللموتى عن
اغتيال احلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على
مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم.. بإذلال وطن.
يقول "الجزائر قبل كلّ شيء" فيوقظ فينا الكبرياء.
وتصبح كلماته البسيطة شعارنا.
قطعــًــا.. منذ الأزل، كنّا ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه
كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من
اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء".
وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر "إنه
الواجب.. كلّ أملي أن يمهلوني بعض الوقت".
* * *
في اليوم التالي استيقظت المدينة بمزاج جاهز للجدل. واستيقظتُ بمزاج جاهز
للكتابة، وكأنني لم أجد من طريقة للاحتفاء بعودة بوضياف، سوى العودة إلى
ذلك الدفتر.
فتحته حيث توقف بي الحبّ. وتوقف بي الحبر، منذ أربعة أشهر، عند قبلة.
كانت نيتي أن أكتب شيئًا عن الحاضر، أن أصف اندهاشي الجميل أمام بوضياف.
ولكن كانت عواطفي تلوي عنق قلمي نحو الماضي، وتوقظ داخلي رجلاً آخر، رجلاً أكاد
لا أفتح هذا الدفتر حتى يحضر.
رجل قال لي "تمنّيت أن أموت وأنا أقبلك. إذا كانت كلّ القبل تموت. فالأجمل أن
نموت أثناء قبلة".
ورحل.
من وقتها، وأنا أغذي الذاكرة بكلماته المحمومة. كي لا تنطفئ في انتظاره نيران
الجسد.
أهي الرغبة؟ أم حاجة إلى الكتابة؟ أم.. قدر يجعل دائمًا كلّ قصة فردية، موازية
لقصة جماعية، لا ندري أيتهما تكتب الأخرى؟
وإلا فما تفسير تلك المفاجأة التي كانت تنتظرني بعد ثلاثة أسابيع من عودة بوضياف؟
وإذا بي، أنا التي لم يفارقني هاجس اللّقاء به، في كلّ مكان ذهبت إليه أو مررت
به، أعثر عليه حيث لم أتوقعه، في بيتي، على صفحات جريدة مهملة.. ملقاة عند
أقدام مكتب زوجي!
أحبّ تلك الهدايا التي تقدمها لك الحياة، خارج المناسبات، فتقلب بمصادفة حياتك،
حتى تلك التي كهذه يرمي لك بها القدر أرضًا.
فتنحني لالتقاطها ممنونًا، لأنك تعثّرت دون قصد.. بالحبّ!
وماذا لو تكون قد تعثرت بشيء آخر؟ فلم يحدث للحب أن كان مجاوراً للسياسة إلى هذا
الحدّ.
* * *
في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع أعضاء من "التجمع الوطني" أراه، وأكاد لا أصدق
عيني.
يتسمّر نظري عند وجهه بالذات: هذه الملامح أعرفها تمامًا، وهذه النظرة الغائبة،
إنها نفسها التي استوقفتني يوم خلع ذلك الرجل نظاراته السوداء في موعدنا
الأخير، ليقبلني. وهذا الشعر.. هذا الفم.. هذا الكل.. أعرفه. إنه..(هو)!
أعيد قراءة ذلك المقال المرافق للصورة بعجل، ثمّ بتأنَّ، كي أجد تفسيرًا لوجود
هذا الرجل هنا.
أفهم أنّ بوضياف قررّ إنشاء المجلس الوطنيّ الاستشاريّ، وهو تجمّع يضمّ عددًا
كبيرًا من شرائح المجتمع الجزائري، معظمهم من المثقفين والسياسيين
الجزائريين المعروفين بنزاهتهم، وغيرتهم الوطنيّة. وغير المحسوبين على أيّ
نظام سابق، كي يساعدوه في إخراج الجزائر من مأزقها السياسيّ والتشريعيّ.
أواصل قراءة المقال في الصفحة الثالثة، التي تملأها عدة صور، مرفقة ببطاقة تعريف
بعض الأعضاء. فأعجب لنسبة الكتّاب والمثقفين، اللذين اختيروا ليكونوا
أعضاءً في هذا المجلس. حتّى أن أحد الذين سيتناوبون على رئاسته، لن يكون
سوى الكاتب عبد الحميد بن هدوقة. وإن من أعضائه كثيراً من المثقفات
والأساتذة الجامعيين والصحافيين. في بلد لم يسأل فيه المثقفون ولا النساء..
يوماً عن رأيهم.
أطالع كلّ الأسماء.. وكلّ المهن. ولا أعثر على أي رسّام بين كلّ هؤلاء، حتى أكاد
أقتنع أن بي هوساً، وأنني أصبحت أرى صورته في كلّ مكان، خاصةً أنني أدري
بوجوده في باريس. وتبدو لي مشاركته في تجمّع كهذا أمرًا مستبعدًا، إلا إذا
كان قد عاد من السفر..
ثم تخطر في ذهني فكرة، وأجدها قادرة على أن تحسم شكوكي، فأتجه نحو الهاتف وأطلب
تلك الأرقام التي ما زالت يدي تحفظها عن ظهر قلب، أو قلبي عن ظهر يد.
كانت الساعة التاسعة صباحاً. لم أتساءل حتّى إذا كان الوقت مناسبًا، أو إذا كان
ذلك الرجل نفسه هو الذي سيردّ على الهاتف،بل إذا كانت تلك الأرقام التي كنت
اطلبها بيد مرتبكة، وقلب يتضاعف نبضه.. صحيحة حقاً.
فجأة أصبحت على عجل. لا وقت لي حتّى للتحقق من صحتها. أريد أن أسمعه، أو أسمع على
الأقل ذلك الهاتف وهو يرنّ في بيت عرفت فيه الحبّ، فيوقظ أثاثه، ويتحرش
بذاكرته.
ولكن في الدقة الثانية رُفعت السماعة، وكاد قلبي معها يتوقف عن النبض.
أوشك أن أقول شيئًا، ثم أنتظر أن يردّ أحد قبل أن أنطق.
بعد شيء من الصمت، يأتي ذلك الصوت الذي لم أعد أنتظره لفرط ما انتظرته.
تراه عرفني من أنفاسي كي يسأل دون مقدمات:
-كيف أنت؟
أكاد لا أصدق ما يحدث لي. أردّ:
-أأنت هنا؟
ثمّ أواصل بالاندهاش نفسه:
-كيف عرفتني؟
يجيب بسخريته المحببة:
-من صمتك.. الصمت كلمة السرّ بيننا.
ولا أجد شيئاً أرد به سوى كلمات محمومة.. أردّدها كيفما اتّفق كمن يهذي:
-اشتقتك.. كيف تخلّيت عنّي وسلّمتني إلى هذه المدينة المجنونة.. أريد أن أراك..
كيف أراك؟ أجبني. أتدري أن الحياة لا تساوي شيئاً دونك.. ماذا فعلت بي
لأحبّك إلى هذا الحدّ؟
ولا يجيب بشيء، وكأنّ كلماتي لم تصله. يسألني فقط:
-من أين تتكلّمين؟
أجيب:
-من قسنطينة..
يواصل:
-من أيّ مكان بالذات؟
أجيب:
-من البيت.
يردّ:
-اطلبيني من مكان آخر.
أسأله:
-لماذا؟
لا يردّ.
أسأله:
-متى؟
يجيب:
-متى تشائين.. أنا باق هذا الصباح في البيت.
ويضع السماعة.
حدث كلّ هذا في دقائق. ولم يكن يلزمني أكثر من هذه الدقائق لأعود تلك المرأة
الأخرى التي كنتها قبل أشهر.
ها أنا أدخل الدوّامة نفسها من الفرح والخوف والترقب والتفاؤل.. والتساؤل.
لماذا يعود هذا الرجل دائمًا عندما أكفّ عن انتظاره؟ لماذا يعود دائمًا بتوقيت
الأحداث السياسية الكبرى؟ لماذا لم يعطني إشعاراً بوجوده، مادام قد عاد من
فرنسا؟ ولماذا يسألني من أي مكان بالتحديد أتحدث إليه؟ ولماذا.. كما عَبْرَ
نهر، يأخذني إليه دائمًا تيّار الرغبة الجارف. يدحرجني من شلالات شاهقة
للجنون.. يمضي بي من شهقة إلى أخرى.. يجذبني عشقه حيث لا أدري.
جميل ما يحدث لي هذا الصباح. كأن تستيقظ من نوم شتويّ، تزيل ستائر نافذتك بكسل،
وفضول من يريد أن يعرف ماذا حدث في العالم أثناء نومه. وإذا بالحبّ، يطالع
جريدة على كرسيّ في حديقة بيته وينتظره!
بينك وبينه، لم يكن سوى زجاج النافذة المبلل.. وفصل.
وحيثما كنت، ستستيقظ حتمًا، على حبّ لا علاقة له بالفصول.
المطر لن يمنعني من مغادرة البيت، فلي هذا الصباح نشرتي الجوية الخاصة. وهكذا في
أقلّ من نصف ساعة، كنت قد ارتديت ثيابي.. وتهيأت للخروج.
أمّي التي لم تتعود زياراتي الصباحية، فاجأها حضوري في ساعة قلّما أكون غادرت
فيها السرير.
ولكنّها راحت تستفيد من وجودي الذي لم تجد له من مبررا عدا ضجري، واشتياقي إليها،
كي تحجزني أمام فنجان قهوة، وتبدا بسرد همومها ومتاعبها الصحية.
استمعت إليها بما أوتيت من صبر، وبما أوتيت من ذكاء أيضًا.
فقد وجدت لمتاعبها حلاً فوريًا على قياسي: أن نسافر معًا إلى العاصمة للاستجمام!
طبعًا قبلت أمي فكرتي بحماس. فإضافة إلى كلّ الأقارب والأصدقاء الذين بإمكانها
زيارتهم هناك.. سيكون بإمكانها أن تحجزني معها في بيت واحد لعدّة أيام.
وهذا في حدّ ذاته، تسمّيه أمي "تغيير جو"!
كان لهذا المشروع الذي ارتجلته تواً مفعول منشط على أمي، التي ذهبت نحو المطبخ،
تعدّ غداءً يتناسب مع مفاجأة زيارتي.. ومفاجأة سفرنا.
أمّا أنا.. فاتجهت نحو الهاتف بالتوتر والفرحة نفسها.. لأطلب ذلك الرقم إيّاه.
وبالهدوء نفسه، عاد ذلك الصوت نفسه يسأل:
-كيف أنتِ؟
أجبته كمن يحلم:
-الآن فقط بإمكاني أن أقول إنني جيّدة.
-وكيف كنت من قبل؟
-كنت أعيش فراغًا في كلّ شيء.
-احذري الفراغ.ز إنه يصنع الرداءة.
-ولكنه زمن رديء على كلّ حال.
-قد يصبح أجمل.. يكفي أن نثق بذلك.
-أنت نفسك سبق أن قلت إنك لم تعد تثق بشيء.. أتذكر؟ قلت هذا في ذلك اليوم الذي
التقينا فيه عند بائع الجرائد.
-أذكر.. ولكنني اثق برجل. ولأنه عاد، عادت ثقتي بالقدر.
أسأل:
-أعدت من أجله أم..؟
أصمت وكأنني أمنحه فرصة اعتراف عاطفيّ ما.
ولكنّه يجيب متجاهلاً إيحائي:
-أجل.. عدت من أجله.
-وأنا ..؟
يصمت قليلاً وكأنه لم يتوقع سؤالي ثمّ يقول:
-أنتِ..؟
ويغرق في صمت آخر.
أواصل:
-في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد. أتذكر؟ نصحتني أن لا أطالع
الجرائد. ومنذ ذلك اليوم.. لم أطالع جريدة. ولو لم أتصفح جريدة هذا الصباح
مصادفة، لما كنت عرفت بوجودك هنا. أيعقل أن تعود دون أن تعطيني علمًا بذلك؟
-ولكنّني فعلت.. أتعتقدين أنك عثرت مصادفة على تلك الجريدة؟ لا شيء يحدث مصادفة
حقًا. ثمّة أشياء لفرط ما نريدها بإصرار وقوة تحدث. حتّى يبدو لنا في ما
بعد كأننا خططنا لها بطريقة أو بأخرى.
-ولكنك تبدو فاتر العواطف.. غير مشتاق!
ردّ بنبرة ساخرة:
-بلى. أنا مشتاق وعندي لوعة.. ولكن
-ولكن ماذا؟
-ولكن هاتفك في البيت مراقب.. وربما هذا أيضًا. تحاشَيْ طلبي من البيت. أفضّل أن
تأتي إلى العاصمة. سيكون ذلك أفضل.
أجبته بثقة امرأة:
-سآتي..
ثم أضفت قبل أن ينقطع الخطّ:
-حتمًا.
النساء أيضًا كالشعوب؛ إذ هنّ أردن الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر. حتّى إن كان
الذي يتحكم في أقدارهنّ ضابط كبير، أو دكتاتور صغير في هيأة زوج.
حتّى الآن، لا أدري كيف استطعت إقناع زوجي بفكرة سفري إلى العاصمة للاستجمام على
شاطئ البحر، في عزّ الشتاء!
وكيف لم يجد في سفر كهذا شبهةً ما.
أتذكّر تلك المقولة الساخرة "ثمّة نوعان من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كلّ
شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء!".
أمّا زوجي الذي يملك من التذاكي المهنيّ ما يجعله دائمًا على حذر، فقد بدأ حياته
الزوجية معي، كأيّ عسكريّ، بالتجسس والتحري والاشتباه في كلّ شيء.
ثمّ أمام غياب الأدلّة، أعطاني من الحرية ما فاجأني، أو ربّما بقدر ما يلزمه من
الوقت كي ينصرف عنّي إلى مهامه، واثقًا من سطوة نجومه الكثيرة.. عليّ.
وهذه المرة ايضًا، من الأرجح أنه مشغول عنّي بالمستجدات السياسيّة، وأن لا وقت له
للتجسس على مشاغلي النسائيّة، التي حتّى الآن، لم يكن فيها ما يستحق
الإخفاء والحذر.
مشكلتي الآن مع "الآخرين"، أولئك الذين عوض التنصّت إلى الإرهابيين.. يتنصّتون
إلى هواتف العشّاقّ!
ساعة في طائرة، لا أكثر، وإذا بي أبتعد عن قيودي بمئات الكيلومترات. وأعود إلى
ذلك البيت نفسه الذي جئته منذ أربعة أشهر مع فريدة.
بيت أسميته بيت الحلم، فهنا كلّ شيء يصبح ممكناً كما في الأحلام.
ما كدت أصل، وأضع شيئًا من الترتيب حولي حتّى أسرعت إلى الهاتف. وجاء ذلك الصوت
بحرارة هذه المرة يؤكد لي أنني لا أحلم.
-أخيراً أنتِ.. لو تدرين كم افتقدتك.. سأراك غدًا.. أليس كذلك؟
كلمات، وسؤال لا أكثر، ويصبح العالم أجمل، وتصبح الأسئلة أكبر. ولكن لا وقت لي
للإجابة عنها؛ مأخوذة أنا بهذه الحالة العشقيّة.. مأخوذة حدّ الأرق.
مقولة لبودلير منعتني من النوم.
"كلّ إنسان جدير بهذا الاسم، تجثم في صدره أفعى صفراء، تقول (لا) كلما قال
(أريد)".
قضيت ليلتي في محاولة قتل تلك الأفعى.
اكتشفت قبل الفجر بقليل أنّ "لا" أفعى بسبعة رؤوس، وأنك كلّما قتلتها، ظهرت لك
"لا" أخرى، شاهرة في وجهك –لأسباب أخرى- أكثر من حرف نهي وتحذير.
وبرغم ذلك، غفوت وأنا أقرض تفاحة الشهوة، على مرأى من رؤوسها.
لي موعد مع "نعم". وكلّ شيء داخلي يعيش على مزاج "نعم".
صباح "نعم" أيها العالم. صباح "نعم" أيها الحبّ.
يا كلّ الأشياء التي تصادفني والتي اصبح اسمها "نعم".
يا كلّ الكون الذي يستيقظ جميلاً على غير عادته: من نقل إليك خبر "نعم"؟
أيّتها الأغاني التي يردده المذياع هذا الصباح.. وكأنه يدري ما حلّ بي. أيتها
الطرقات المشجرة التي تمتد أشجارها حتى قلبي، أيتها الطاولات التي تنتظر
على رصيف شتويّ عشاقها، أيتها الأسرة غير المرتبة، التي تنتظر في مدن "نعم"
متعتها.
أيّها الليل الذي مساؤه "ربّما". صباحك "نعم". فكم كان مساؤك "لا" يا أيها
المساء!
في اليوم التالي استيقظت من ليل تقاسمته مع بحر شتويّ هائج. وبداته بصباح مفخخ
بأسئلة أمّي ومشاريعها.
ولكنني نجحت في إحباط كلّ برامجها المشتركة بكذبة. وذهبت نحو مشروعي الأجمل.
انطلقت بي السيارة ظهرًا، سالكة طريق الحبّ نفسه. الذي بدا لي أطول رغم سرعة
السائق، ورغم خلوّ الطرقات هذه المرّة، من حواجز التفتيش.
شعرت بالاطمئنان، وأنا أرى الشوارع قد عادت إلى حياتها الطبيعيّة.
وفرغت من المتظاهرين، والملتحين، واختفت منها اللافتات، والهتافات.
ولذا، نزلت عند ساحة الأمير عبد القادر. وواصلت طريقي مشيًا على الأقدام.
رقم.. رقمان.. بناية.. بنايتان. وطوابق أربعة أصعدها بسرعة سارقة، وبلهفة عاشقة.
شوق يركض بي.. قلب تسرع دقّاته. وباب ينفتح من دقة واحدة، وينغلق خلفي.
باب يفصلني عن مدينة "لا" ويدخلني عالم "نعم".
رجل لا اسم له ينتظرني. يتأملني. يضمني. وقبلة خلف باب مغلق توّاً على فرحتي
تسمّرني بين عالمين.
يسألني وهو يراني ألتقط أنفاسي:
-هل وجدت صعوبة في الوصول إليّ هذه المرّة؟
وأجيب:
-الأصعب كلّ مرة أن أجتاز هذا الباب..
ثمّ اواصل بعد شيء من الصمت:
-دخولاً .. وخروجًا!
يردّ بشيء من السخرية:
-ابقي هنا إذن!
أرتمي متعبة على الأريكة. أقول:
-احجزني رهينة عندك.. أيمكنك هذا؟
يجيب ساخرًا:
-كلنا رهائن.
-رهائن من؟
أتوقع أن يقول "رهائن الحبّ".. ولكنّه يقول:
-رهائن الوطن..
أردّ بشيء من العصبية:
-أرجوك.. دعني من السياسة. أنا لست هنا لأحدثك عن الوطن. أنت لا تعي كم أنا أجازف
للوصول إليك.. فقط لأعيش لحظة حبّ.
-ولكن ليس ثمّة من حبّ خارج السياسة. ألم تفهمي هذا بعد؟
أصمت لأنني لم أفهم. ولا أريد أن أفهم. لماذا تصبح السياسة طرفًا ثالثأ في كلّ
علاقة؟
لماذا تنام في سرير الأزواج، وفي سرير العشّاق؟
لماذا تتناول معنا فطور الصباح.. وكلّ وجبات النهار. وترافقنا إلى زيارة الأحياء
والأموات من أهلنا؟
لماذا تسبقنا إلة مدن الحلم، وحال وصولنا، تجلس معنا على الأريكة. ولماذا تبعث
بقريب إلى الغربة، وتعود متى شاءت بمن نحبّ؟
أقول:
-ربّما كنت على حقّ.. في النهاية السياسة هي التي عادت بك.
ثمّ أواصل:
-لحسن حظّ الحبّ.
-وماذا لو كان العكس؟
-لا أصدّق أن تكون قد عدت من أجلي..
-أنا لم أقل أنني عدت من أجلك.. لنقل إنني عدت كي نواصل كتابة الرواية معًا..
أليس هذا الذي يعنيك؟
-ربّما.. ولكن لا أفهم أن يعنيك أنت إلى هذا الحدّ.
يضحك:
-طبعاً يعنيني.. لأنني لا أريد أن أخلف نهايتي، أريد لنا نهاية جميلة.
-حقًا؟
-طبعًا.. مهمّة هي النهايات، في الكتب كما في الحياة.
أقاطعه:
-أتدري ما يعنيني الآن بالتحديد؟ يعنيني أن أعرف من تكون. ولا شيء غير هذا. منذ
ذلك اليوم وأنا أشتري كلّ الجرائد، أتفحّص كلّ الصور، أطالع كلّ المقابلات
السياسية التي يدلي بها أعضاء المجلس الوطنيّ. أعرف حياة الجميع. أقرأ
تصريحاتهم جميعًا حول كلّ شيء، ولا أقرأ شيئًا لك.. لماذا؟
يردّ ساخراً:
-لهم نياشين الكلام.. ولي بريق الصمت.
-ولكن مع ايّ جهة أنت؟ إلى أيّ حزب تنتمي؟
يردّ:
-السؤال الحقيقي. هو عمّ انت منشق. وليس إلى أي حزب تنتمي.
لا أملك إلا أن أتبع منطقه في قلب الأسئلة. أسأل:
وعمّ انت منشق؟
يصمت وكأنّ السؤال فاجأه. ثمّ يجيب:
-لي أكثر من جواب عن سؤال كهذا. لنقل إنّني منشق عن أحلامي. أنا الشاهد الأخير يا
سيدتي على الأفول العربيّ. قضيت عمري على شرفة الخيبة. أتفرج على غروب
أحلامي وطنًا.. وطنًا، بما في ذلك وطني. أفهمت لماذا كان لابدّ أن لا أخلف
نهايتي في هذه القصّة؟ تسألينني عن سرّ صمتي، أنا رجل كنت قبل مجيء بوضياف
فارغًا بلا أحلام. كلّ أحلامي كانت خلفي.
-وأنا؟
-أنتِ؟
-أين تضعني في كلّ هذا؟
-أضعك تمامًا حيث أنتِ الآن.
-أي..؟
-أي على ورق. أحلامي معك، كمشاريعك معي لا تتجاوز مساحة صفحة. حتّى عندما تكون
هذه الصفحة في حجم سرير. إنه قدرنا.
هذا الرجل يتقن الكلام، إلى درجة يمكنه معها أن يمرّ بمحاذاة كلّ الأسئلة، دون أن
يعطيك جوابًا، أو هو يعطيك جوابًا عن سؤال لم تتوقع أن يجيبك عنه اليوم
بالذات، وأنت تطرح عليه سؤالاً آخر.
وهكذا ها هو يجيبني عن سؤال كان يشغلني في البدء. بل كان سببًا لبدء هذه القصة،
يوم كان همّي أن أعرف لماذا دخل هذا الرجل دير الصمت، واختصر اللغة حتّى لم
تعد تتجاوز بضع كلمات تراوح بين "حتمًا" و"قطعًا" و"طبعًا" و "دومًا" وكأن
كلّ الحياة يمكن أن تختصر بها.
لماذا حوّل العالم كلماتٍ قاطعةً، والحبّ كلماتٍ متقاطعةً، يصعب على أية امرأة أن
تجاريه فيها أو تهزمه؟
وأنا التي دخلت معه هذه المبارزة اللغوية، ككاتبة تحترف الكلمات، وترفض أن يهزمها
"بطل" في عقر دارها، وفي كتاب هي صاحبته، ها أنا أهزم أمامه شوطًا بعد آخر،
وأتورط معه سؤالاً بعد آخر، بعدما أصبح كلّ سؤال يوصلني إلى أسئلة أخرى.
ومنذ البدء كنت أدري تمامًا أن الأسئلة توّرط عشقيّ. ولكن.. لم أكن أعرف أنه، مع
هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة أيضًا انبهاراً لا يقلّ تورطًا.
أحبّ أجوبته، وأعترف أنني كثيرً ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد. كثيرًا ما يبدو لي
وكأنّه يحدّث امرأة غيري عن رجلٍ آخر. ولكنني أحبّ كلّ ما يقول، ربّما
لأنني مأخوذة بغموضه.
أقول وأنا أعبث بيده:
-أحبّك.. حرّرني قليلاً من عبودّيتك.
يحتضنني ويسحبني نحوه قائلاً:
-الحبّ أن تسمحي لمن يحبّك بأن يجتاحك ويهزمك، ويسطو على كلّ شيء هو أنت. لابأس
أن تنهزمي قليلاً.. الحبّ حالة ضعف وليس حالة قوة.
-ولكن..
-ولكن.. لأنك لم تعي هذا، أن تتكررين خطأً سبق أن ارتكبته في كتاب سابق.
أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أيّ كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي وتذهبان بي
في قبلة مفاجئة.. كأجوبته. فأستسلم لاجتياح شفتيه لي. وكأنني أريد أن أثبت
له، مع كلّ مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم، كم أنا أحبه.
في الواقع، لم أكن املك القوة، ولا الرغبة في مقاومته. كنت أجد متعتي في اندهاشي
به، وهو يضع مفاتيحه في الأقفال السرّية لجسدي.
في المتعة كلمة سرّ، وشيفرة جسدية، تجعل من شخصٍ عبداً للآخر دون علمه. وهذا
الرجل الذي لم يستعمل معي سوى شفتيه، من دلّه على متعتي، كي يسلك ممرات
سرّية للرغبة، لم تعبرها شفتا رجل قبله؟
ثمّ فجأة وضع قبلتين متلاحقتين على فمي. كما يضع نقاط انقطاع بعد جملة مفتوحة،
ونهض ليبحث عن علبة سجائر.
اغتنمت فرصة انشغاله. فاتجهت نحو الحمّام كي أجدّد هيأتي.
تأمّلت دون اهتمام تفاصيل أشيائه الرجالية، التي استوقفني منها على رفّ المغسلة،
زجاجتا عطر من النوع نفسه، إحداهما مفتوحة، والأخرى مازالت مغلفة بورقها
الشفّاف.
سحبت تلك المفتوحة. ورحت أتأملها بفضول من وقع على سرّ. تذكّرت كلّ تلك المرات
التي كنت سأسأله فيها "ما اسم عطرك يا سيّدي؟".
تذكّرت أيضاً أن قصتي مع هذا الرجل، ولدت بسبب كلمة وعطر. وربما بسبب هذا العطر
وحده. الذي لولاه لما استدللت عليه.
كنت لا أزال ممسكة بتلك القارورة، عندما عبر الممر، متجهاً نحو المطبخ.
سألته ممازحة، وأنا أجرب العطر على كفّي:
-ألأنني أبديت إعجابي بعطرك، أصبحت تشتري منه قارورتين دفعة واحدة؟
ردّ ضاحكاً:
-لا.. لقد أحضرت معي هاتين القارورتين من فرنسا.كلّما سافرت أحضرت واحدة لي،
وأخرى لصديقي عبد الحق. في الحقيقة، هو الذي جعلني اكتشفه. إنه لا يستعمل
غيره.
كنت على وشك أن أغادر الحمّام عندما عاد وكانه تذكر شيئاً. ثمّ قال وهو يمدني
بتلك القارورة المغلقة:
-أعتذر، لأنني لم أحضر لك شيئاً معي. لقد عدت على عجل. هل تسمحين لي بأن أهدي
إليك هذا العطر؟ يقال إن المرأة تحبّ استعمال عطر الرجل الذي تحبه.. ضعيه
كلّما اشتقتِ إليّ.
قلت وأنا أتسلم منه تلك القارورة:
-لم أكن اعرف هذا.. تبدو لي الفكرة جميلة. ولكن أخاف أن تلزمني قارورة كلّ أسبوع
إذا كان الأمر يتعلّق بالشوق!
ثمّ أضفت مستدركة:
-وصديقك؟
أجاب:
-لا تهتمي.. سأتّدبر أمره.
سعدت بتلك الهديّة. شعرت أنني أطوق هذا الرجل موعداً بعد آخر. أتسلل إلى عالمه
الحميميّ من حيث لا يتوقع، وأسطو على كلّ ما قد يدلّني عليه.
عدت إلى قاعة الجلوس. كان يدخّن بهدوء على الأريكة المقابلة لي. وكأنه قرّر أن
يتأملني. أو يتأمل ما فعله بي في عمر قبلة.
أخفيت تلك القارورة في حقيبة يدي، بفرحة تشبه تلك التي احسست بها يوم أخذت منه
كتاب هنري ميشو. عساني أكتشف أخيرًا من يكون.
وجدتني أقول له دون تفكير وأنا أعيد الحقيبة إلى مكانها.
-أتدري ماهو اجمل شيء يمكن أن تهديه إليّ؟
ردّ وهو يواصل تدخين سيجارته، واضعًا قدميه على طرف الطاولة:
-ما هو..؟
قلت:
-الحقيقة! أيمكنك أن تهدي إليّ الحقيقة؟ من حقّي أن أعرف من تكون.
ردّ ساخراً:
-أجّلي خيبتك قليلاً!
واصلت بإصرار:
-ما اسمك؟ هل صعبٌ إلى هذا الحدّ أن تبوح لي باسمك؟
ردّ ضاحكاً:
-لا.. ولكن أيّ الاسمين يعنيك؟
قلت:
-وهل لك اسمان..؟ لماذا؟
ردّ:
-لأننا نعيش في عصر، حتّى الدول والأنظمة والأحزاب، غيّرت فيه أسماها في ظرف
سنوات قليلة، وبجرّة قلم. أي بما يعادل لحظة من عمر التاريخ. في روسيا
وحدها توجد ثمان وعشرون مدينة غيّرت اسمها. بما في ذلك لنينغراد. ولماذا لا
نستطيع، نحن الناس البسطاء، أن نفعل ذلك عدما نغيّر معتقداتنا.. أو عندما
يطرأ على حياتنا ما يغيّر مجراها؟
أتدرين.. تعجبني حكمة الصينيين، وذلك التقليد الجميل، الذي يتّبعونه في اختيار
اسم جديد لهم، في آخ حياتهم. كأنهم، وقد خبروا الحياة، أصبح بإمكانهم أن
يختاروا اسما يناسبهم لحياة أخرى. في النهاية، إنّ الأسماء التي تشبهنا
تهبنا إيّاها حياتنا. أمّا تلك التي نأتي بها الحياة، فكثيراً ما تجور
علينا. لنقل أنني أعجبت بهذه الفكرة، وقرّرت أن أكون رجلاً باسمين.
جوابه كالعادة لا يحمل أيّ جواب. وإنما قدرة مدهشة على تحاشي الأسئلة.
ولكنّني لا أستسلم. بل أطارده بإصرار.
-أعطني أيّ اسم شئت. أريد اسماً أناديك به.
يجيب بنبرة عادية:
-اسمي خالد بن طوبال.
أرددّ مذهولة:
-خالد بن طوبال؟ ولكن..
يقاطعني:
-أدري.. إنّه اسم بطل في روايتك.. أعرف هذا ولكنّه أيضًا اسمي..
أجلس على طرف الأريكة. أتفرّج على رجل أتعرّف إليه. وأستعيد آخر، عرفته يومًا في
كتاب سابق. كان أيضًا رسامًا من قسنطينة.
رجل أعرف كلّ شيء عنه، كما لو كان أنا. ولم تفصلني عنه سوى الرجولة، وجسد شوّهت
الحرب ذراعه اليسرى.
أيعقل أن يكون هو؟ أتأمله دون أن أصدق هذا. أتوقع أن يقول شيئاً. ولكنّه لا يفعل.
يواصل تدخين سيجارته بالهدوء نفسه.
في لحظة ما، أشعر أنني أقترب من الحقيقة، ولا يفصلني عنها سوى سؤال واحد. "هل
خالد بن طوبال هو اسمه الأول أم اسمه الثاني؟".
والجواب عن هذا السؤال سيكون مخيفًا وحاسمًا، لأنه سيقلب كلّ مقاييس هذه العلاقة،
ومعها هذه القصّة. ولذا تماديًا في الغموض والمراوغة.. لا أتوقع أن يجيبني
عنه بسهولة.
أسأله:
-هل هذا هو الاسم الذي يناديك به أصدقاؤك وزملاؤك في الشغل؟
يردّ:
-طبعاً.. وهو أيضًا الاسم الذي أوقع به مقالاتي.
ثمّ أمام دهشتي. يمدّني بجريدة على مقربة منه. ويدّلني على مقال سياسيّ يحمل
توقيع خالد بن طوبال.
آخذ منه الجريدة غير مصدّقة لما أرى.
طبعًا، كنت توجست من مطالعتي لكتاب هنري ميشو أن يكون صحافيّا وأذكر تماما، ذلك
البيت لهنري ميشو:
"في انتظار الشمس، تعلّم أن تنضج في الجليد".
والذي أضاف أسفله، بقلم أزرق (أو في جريدة)!.
ولكنّني لم أتوقف طويلاً عند البيت الآخر.
"ليس لي اسم
اسمي تبذير للأسماء"
والذي وضع تحته سطرين. وكأنه البيت الذي يشبهه الأكثر.
بقيت ممسكة بالجريدة، بينما واصل هو تدخين سيجارته متجاهلاً نظراتي. وربّما
تماديًا في التجاهل، أشعل جهاز التلفزيون. وها هوذا يغرق في متابعة تحقيق
أخباري حتّى كاد ينسى وجودي معه.
كان التلفزيون يعرض تغطية مباشرة للجولة التي يقوم بها بوضياف في الوطن، لشرح
مبادئ التجمّع الوطنيّ. كان بوضياف يخطب ملوحًا بيده:
"إنّ في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. اعدكم بإعلان حرب
حقيقية على هؤلاء. إن العدالة ستدرس كلّ الملفات. وستقوم بدورها. وإنني
أطلب من المواطنين أن يساعدوا العدالة في ذلك.. أن يكتبوا إليها.. ويزودوها
بكلّ ما لديها من معلومات..
لن يكون هناك بعد الآن من أحد فوق العدالة، العدالة ستطول الجميع. فمن حقّ الشعب
أن يعرف الحقيقة. من حقه أن يعرف أين ذهبت أموال هذا الوطن.."
كان لكلمات بوضياف المرتجلة، في ذلك النقل المباشر، والتي ألهبت الحضور هتافات
وزغاريد، ما جعل مزج جلستنا يتغيّر بعض الشيء، قبل أن يكسر ذلك الرجل الصمت
بيننا.. ويتوجّه نحوي معلقًا:
-لن يتركوه ينجز ما جاء من أجله.. أنا واثق من هذا..
لا أدري بالتحديد ماذا كان يعني. فقد كان ذهني ما يزال مشتتّاً، ولكنّني سألته
بنية مدّ الحديث:
-لماذا؟
أجاب بلهجة تهكمّية:
-لماذا؟ لأنهم لم يأتوا به ليفتح الملفات الملغومة، وإنما واجهة يواصلون خلفها
حكم الوطن ونهبه. ولذا يقول المقربّون منه، إنه يغلق على نفسه ساعات طويلة
في النهار والليل. إنه يبحث عن الحقيقة التي يريد أن يهديها إلى الشعب بعد
ثلاثة أشهر.. بمناسبة عيد الاستقلال.
ثمّ يواصل بعد شيء من الصمت:
-تبحثين عن الحقيقة؟ الكلّ يبحث عن الحقيقة.. ولكنّ الكلّ يخافها. أتدرين لماذا؟
أتمتم:
-لماذا؟
يطفئ سيجارته في المنفضة ببطء، وكأنه يسحقها. ثمّ يقف فجأة، ويشرع في فكّ أزرار
قميصه الواحد تلو الآخر بيد واحدة.
أتذكّر أنّني لم أره يومًا يستعمل معي إلا يده اليمنى. يذهلني هذا الاكتشاف
المتأخر، والذي يعيدني إلى ذلك البطل في روايتي. وقبل أن اتمادى في تفكيري،
أراه يلقي بقميصه على الأريكة المجاورة. ويواجهني بصدره العاري قائلاً
وكأنّه يواصل الحديث عن أمر آخر:
-لأنّ الحقيقة تعبّر عن نفسها دائماً بشكل رديء!
ثمّ يتابع بعد شيء من الصمت:
-وأحياناً بشكل قاتل، حتّى عندما لا تتعدّى جريمتها قتل أوهامنا.
أنتبه فجأة لذراعه اليسرى. التي تبدو مصابة بشلل يمنعها من الحركة، بينما تظهر
أعلاها بعض التشويهات، وكأنّ عملية جراحية أجريت لها في موضعين أو ثلاثة،
دون أية مراعاة جمالية.
تنتابني قشعريرة، وحالة من الذعر، ليس مصدرها ما أرى. وإنما خوفي من أن أكون قد
بدأت أجنّ، ولم أعد أعرف الفاصل بين الكتابة والحياة.
...أو كأنني حلمت يومًا بأن ما يحدث لي سيحدث. وها هوذا يحدث فعلاً. وإذا بي أمام
رجلٍ خلقته، وشوهته بنفسي.
كنت أعي أنه يختبرني. ويتابع وقع المفاجأة عليّ بحساسية مفرطة. فتداركت ارتباكي
وقلت بنبرة صادقة:
-لا يعنيني ما تعتقده اللحظة. ولكن ثق أنني أحبك كما أنت. وإلا لما كنت خلقت
رجلاً يشبهك تماماً لأعيش معه سنوات في كتاب.
ردّ ساخرًا:
-لقد مارست دائمًا بجدارة صلاحيات الحبّ في التدمير!
قلت:
-بل مارست صلاحيات الكاتب في التخيّل ليس أكثر.
ردّ:
-كفّي عن التخيل.. كلّ الذي أجهدت نفسك في خلقه.. قد سبقتك الحياة إليه. الإنجاز
الوحيد بالنسبة إلى كاتب، هو ما يتركه في كتابه من بياض.
كلّ صفحة بيضاء في كتاب، هي مساحة مسروقة من الحياة، لأنها تصلح بداية لقصّة أخرى
أو كتاب آخر. ومن هذا البياض جئتك.. وليس ممّا تتوقّعينه أدباً.
قلت متحاشية الدخول معه في جدل:
-لا يعنيني أن أعرف من أين جئتني.. كلّ ما أدريه أنني أريدك.
ردّ ساخرًا:
حقًا.. توقعت أنك تريدين الحقيقة !
أجبته بشيء من العصبية:
-أيّ اعتراف تريد منّي بالتحديد؟
ردّ بالسخرية نفسها:
-أنا لا أريد منك أيّ اعتراف؛ يعنيني فقط أن تكوني صريحة مع نفسك، وتعترفي ولو
لها، أن ما يحدث بيننا كرجل وامرأة يعنيك بالدرجة الأولى. وأنّ هذه القصة
من دونه لا تستحقّ مشقة الكتابة.
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء.. عدا كونك تمّرين بمحاذاة هذه الحقيقة الكبرى، وتنشغلين بالبحث عن
حقيقة أخرى، أقلّ أهمية، تدور كلّها حول سؤال واحد "من أكون؟".
السؤال الأهم في اعتقادي هو "لماذا أنتِ هنا؟".
حشرني في المربع الأخير للاعتراف. ولم أجد ما أجيب به سوى:
-أنا هنا.. لأن واجبي ككاتبة هو البحث عن الحقيقة.. وكامرأة.. من الطبيعيّ أن
أبحث عن الحبّ. ولكنني معك لم أعد أحسن التمييز بينهما.
ردّ بنبرة أستاذ:
-سأدّلك على طريقة، تتعرفين بها عليهما دون خطأ. فالحقيقة تعبّر دائماً عن نفسها
بشكل بشع، والحبّ يبدو دائماً أجمل مما هو!
كان يتحدّث إليّ، وهو يرتدي من جديد قميصه، ويده اليمنى تحاول بصعوبة إدخال تلك
الأزرار.
وبدل أن أساعده على تزريرها، امتّدت يدي تخلع عنه القميص. وراحت شفتاي تتدحرجان
على مساحة صدره. ثمّ تنزلقان نحو ذراعه الثابتة مكانها، فتكسوها قبلاً،
بشراسة العشق الذي هو وحده قادر على جعل أية حقيقة.. جميلة في بشاعتها !
عندما غادرته، انتابتني أحاسيس متناقضة تراوح بين المتعة، والخيبة، والاندهاش
الجميل والمؤلم في الوقت نفسه.
أن تذهب إلى موعد حبّ، وإذا بك مع شخص خارج توًا من كتابك، يحمل الاسم نفسه،
والتشويه الجسدي نفسه لأحد أبطالك، وأن تبقى برغم ذلك على اشتهائك نفسه له،
لا بدّ أن يترك في نفسك كثيرًا من فوضى المشاعر.. وفوضى الأسئلة، خاصة
عندما ترى اسمه، كما اخترعته أنت، وأجهدت نفسك للعثور عليه، قد غادر كتابك،
وأصبح مكتوبًا، أسفل مقال صحافيّ على جريدة، كاسم لرجل لا علاقة له بك،
لولا تلك الخصوصية الثانية التي تذهلك: كيف يمكن أن يكون معطوب الذراع
أيضًا.. كبطلك؟
ما يدهشني هو كون هذا الرجل، يواصل معي قصة بدأت في رواية سابقة، وكأنّه يعيد
إصدارها في طبعة واقعيّة. من نسخة واحدة.
حتّى أنّه يوم قبّلني لأوّل مرّة، أمام مكتبته، قال "نحن نواصل قبلة.. بدأناها في
الصفحة 172 من ذلك الكتاب.. في هذا المكان نفسه".
وعدت إلى كتبي، بحثًا في رواياتي عن الصفحة 172 في كلّ كتاب. وعثرت على تلك
القبلة، مطوّلة مفصلّة، مرتجلة، كما حدثت ذات يوم بين ذلك الرسام، وتلك
الكاتبة.
ثمّ عندما استعرت منه كتاب هنري ميشو، قال إنّه يخشى أن يكررّ معي حماقة حدثت في
كتاب سابق، ملمّحاً إلى حبّ البطلة في تلك القصّة لصديق البطل.. بسبب كتاب.
أمّا أنا فانتبهت أنّني كنت أكرّر في الحياة تصرّفات تلك البطلة بعد قبلة،
وأستعير كتابًا.
كلّ شيء كان يعيدنا منذ البدء، إلى تلك القصّة، بما في ذلك المدينة التي جمعتنا.
بل حتّى في حديثه عن الجسور.. وعن قسنطينة، ثمّة رجوع ما، أو تراجع متعمد، عن كلّ
ما قاله ذلك الرسّام في تلك الرواية. وكأنّ المسافة الزمنية قد جعلته يراجع
أراءه، ويصحّحها، عن خيبة وتطرّف عشقيّ.
وبرغم كلّ هذا، يبقى الأمر مربكًا. فأنا لا أريد أن أصدق أنّ ذلك الرجل الذي ما
انفك منذ ستة أشهر يقلب حياتي رأسًا على عقب، هو خالد بن طوبال، ذلك الكائن
الحبريّ الذي خلقته منذ عدّة سنوات. ثمّ نسيته داخل كتاب. ألقيت به إلى جوف
مطبعة كما نلقي بجثة إلى البحر، بعد أن نثقلها بالصخور، حتّى لا تعود إلى
السطح، ولكّنه عاد.
هذا الكائن أعرفه عن ظهر قلب. فقد عشت معه أربع مائة صفحة وما يقارب الأربع
سنوات. ثمّ افترقنا. انتهى عمره مع آخر سطر. وبدأ عمري دونه منذ ذلك الحين.
ولكن من منا كان يبحث عن الآخر، خلال كلّ ذلك الوقت؟ ومن منّا ترى كان الأحوج إلى
الآخر؟
أذكر مقولة لروائيّ سئل "لماذا تكتب؟" فأجاب ساخرًا "لأن أبطالي في حاجة إليّ..
إنّهم لا يملكون غيري على وجه الأرض!".
طبعًا كان يرواغ. ويقدّم اعترافًا بيتمه دونهم. فكلّ روائي هو في النهاية يتيم..
ومخلوق عجيب، تخلّى عن أهله، ليخلق لنفسه عائلة وهميّة، وأصدقاء وأحبّة،
وكائنات حبرّية، يعيش بينها، مشغولاً بهمومها، محكوماً بمزاجها، حتّى
لكأنّه لا يملك على وجه الأرض غيرها !
فأين العجب في أن يصبح هذا الرجل كلّ عائلتي، ويشغل مكان زوجي، وأخي، وأمي.. وكلّ
من يحيطون بي؟!
في الواقع، كان عجبي الوحيد أن أتعلق بهذا الرجل بالذات، من بين كلّ من خلقت من
أبطال، وإن يقع بيغماليون في حبّ تمثال خلقه بيده، وكان آية في الكمال،
فهذا الأمر يبدو منطقيّاً، كما جاء في الأسطورة. أمّا أن يحبّ نحّات
التمثال الذي أخفق في خلقه، ويحبّ روائي البطل الذي شوهه بنفسه.. فهنا تكمن
الدهشة.
ذلك المساء.. توقّعت أن يكون في جلوسي إلى أمي الحلّ الأمثل للهروب من نفسي؛ فقد
كنت أهملتها بعض الشيء، بعد أن أغريتها بالاتصال ببعض معارفها في العاصمة..
وأعددت لها برنامجًا على قياس حرّيتي.
كانت سعيدة، أو ربما بدت لي كذلك، وهي تحدّثني عن قريبة بعيدة، تعقد قران ابنها
في نهاية الاسبوع، وتدعونا لحضور احتفال الزواج، ولم يعد صعبا أن أتوقع
برنامجها للأيام القادمة.
أمّي تعيش دائمًا بين عرسين، أو حجتين، أو نذرين. وحيثما حلّت، تعثر على من يوشك
أن يزوّج قريبًا، أو من له قريب عائد توًا من العمرة أو الحج. أو "شيخ"..
يدعوها ل"وعدة" أو "زردة" !
وبرغم هذا، لم تكن سعيدة تماما، قد كان ينقص سعادتها شيء اسمه "ناصر".
قبل اليوم كانت تتمنى أن تزوجه، ويمتلئ البيت بكنّة تتحكم فيها. وبأحفاد تربّيهم
وتتسلّى بهم.
أمّا الآن وقد رحل ناصر، فقد أصبح كلّ زواج يعيدها إليه، بل أصبحت لا تريد أكثر
من عودته ليقاسمها ما بقي من العمر.
وأكثر ما كان يؤلمها في سفر ناصر أنّها لم تكن مهيأة له. فلا شيء في طبع ناصر ولا
في نمط حياته، كان يوحي بأنه قد يأخذ قراراً مفاجئاً وحاسماً كهذا.
منذ سافر ناصر، من ثلاثة أشهر، وأنا أحاول أن أجيب أمّي عن السؤال نفسه الذي أخفي
عليها دائمًا نصف حقيقته.
هي تسأل:
-لماذا سافر أخوك يا ابنتي؟ أخبريني؛ أنت يقول لك كلّ شيء.
وأنا أجيب:
-لقد سافر لأنه غير مرتاح في هذا البلد..يريد أن يجّرب حظه في الخارج مثله مثل
الآخرين.. ولكنّه سيعود.. لقد وعدني بذلك.
-ولكن متى؟ بعد أسابيع؟ بعد أشهر؟ بعد سنوات؟
ولا أملك إلا أن أجيبها:
-عندما تهدأ الأوضاع قليلاً.. وتتحسن الحاله..
فتردّ:
-أية أوضاع؟ وأية حالة هذه التي ستتحسن؟ ألم تسمعي بما حدث منذ يومين في
البليدة.. لقد روت لنا امرأة اليوم أنهم..
وأقاطعها:
-لا أريد أن أعرف.. لا تقصّي عليّ أيّ شيء أرجوك..
لم أكن أريد أن تفسد عليّ أمي ليلتي بأخبار الموت، كما تعودت أن تفعل ليلا، بين
حين وآخر، عندما كانت تطلبني هاتفيا عن ضجر، أو عن خوف، ولا تجد ما تقصه
علي إلا قصصا لم أشاهد مثلها حتى في أفلام الرعب.
وكانت قد شاعت فجأة بدعة تشويه الجثث، والتمثيل بها، كي لا ترتاح نفوس أصحابها،
ولا تدخل الجنة، وكي يعتبر بها "الكفار" أو أولئك الذين يعملون في خدمة
"الدولة الكافرة".
وهي صفة لا تعني غالبا، سوى رجال الأمن، وبعض البائسين من شرطة السير، الذين
انقرضوا في بضعة أشهر رميًا بالرصاص، وذبحًا ومطاردة حتّى المقابر، حيث
اغتيل العديد منهم وهو يرافق قريبا إلى مثواه الأخير.
أما أولئك "الأذكياء" الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر. فقد فوجئوا
بمن ينتظرهم ليلا ونهارا خلف القبور، وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة، فكل
القبور هنا مفتوحة تنتظر تهمة لتنغلق على أحد.
فماذا يمكن لأمي أن تضيف إلى مسلسل الرعب الذي أتابعه مذهولة كل يوم، مثل كل سكان
هذا البلد؟
فجأة سألتني أمي وقد عادت إلى هاجسها الأهم:
-هل ترك لك ناصر عنوانا في الرسالة التي بعث بها مع ذلك الصديق؟
قلت:
-أجل
قالت:
-اكتبي إليه إذن..
قلت:
-سأفعل حال عودتي إلى قسنطينة. فقد سألني عن أمور لا بدّ أن أراجعها هناك.
في الواقع، لم يكن قد سألني سوى عن أخباري وأخبار امي. ولكنني كنت فقط أريد إرجاء
هذه الرسالة إلى ما بعد. فقد كان ذهني مشغولاً بأمر واحد: ذلك الرجل، تماما
كانشغال أمي بأمر واحد هو ناصر. ناصر الذي أصبح يذكرها فجأة بأبي الذي غاب
هكذا منذ أكثر من ثلاثين سنة مع حفنة من الرجال كي يخططوا لما سيسمى في ما
بعد "ثورة نوفمبر".
ربما منذ ذلك الحين، أصبحت أمي تخاف الرجال الذين يرحلون هكذا فجاة، دون أن
يتركوا عنوانا لغيابهم، ولا تاريخا لعودتهم؛ فقد لا يعودون، أو قد يعودون
عندما لا ننتظرهم، لفرط ما انتظرناهم. في ذلك اليوم الذي لا نصدق ذلك الصوت
الصغير الذي يردد على مقربة منّا، أنهم سيأتون، اليوم.. وربما الآن. ثمّ
فجأة تحدث المعجزة، وتدقّ يد على الجرس. وينفتح الباب، على رجل متعب، مغبّر
الثياب، يرفعنا كدمية نحوه، يضمّ جسدنا الصغير إلى صدره. يقبلنا.. يقبلنا..
ولا ندري لصغر سننا، أكان لحظتها يبتسم أم يبكي.
كتلك الحادثة المذهلة التي تحكيها أمّي، والتي حدثت يوم كنت طفلة في الخامسة من
عمري، وكنا في شهر رمضان، وكانت أمي تعد "البريك" للإفطار، فرحت ألاحقها
طالبة منها أن تعدّ واحدة لأبي، لأنه يحبه. وكانت تجيبني أنه غائب، ولا
يمكنه أن يحضر. وأجيبها بعناد الأولاد "بلى سيحضر.. أعدّي له واحدة"!".
وما كدنا نجلس حول طولة الإفطار، حتّى دقّ الباب، وجاء أبي قادمًا من الجبهة، بعد
غياب سنة تماماً. فقد كانت زيارته الأخيرة تعود إلى رمضان الفائت. لحظتها
أجهشت جدّتي بالبكاء وهي تردد "لقد قالت لنا حياة إنك ستأتي.. ولم نصدّق!".
ولذا أتوقع أن تطاردني أمي بعد الان بالسؤال "متى يعود ناصر؟" معتقدة أنني ما زلت
أملك تلك الحاسة السادسة أو ذلك الحدس الذي يملكه الأطفال دون غيرهم، والذي
يدلهم على ما يجهله الكبار.
طبعاً، فقدت ذلك الحدس منذ زمن بعيد، من جملة ما فقدت من أشياء جميلة، تركتها
خلفي، كلّما تقدم بي العمر.
ولو كنت ما زلت أملكه، لوجدت الجواب عن أسئلة كثيرة أخرى. كان أحدها في الماضي
"متى يعود ذلك الرجل؟" وأصبح الآن "من يكون؟" و "متى أراه؟" وأين هي ذاهبة
بي هذه القصة الغريبة؟
ما كدت أتذكره حتى انتابتني رغبة جارفة في الحديث إليه، وحاجة عجلى إلى سماع
صوته، فانتظرت أن تنام أمي وذهبت لأطلبه.
ولكن طوال ربع ساعة، كان خطّ هاتفه مشغولاً دون توقف. وهو ما فاجأني وأزعجني.
كأنني لم أتوقع أن يكون في حياة هذا الرجل شخص آخر، قد يتحدّث إليه ليلاً.
ثمّ دقّ الهاتف اخيراً، وجاء صوته:
-كيف أنتِ؟
-بي شوق إليك. رأيت أن أطلبك وكان خطك مشغولا طول الوقت.
-كنت في حديث مع قسنطينة.
-أما زال أهلك هناك؟
-لا.. كنت أتحدث مع صديقي عبدالحقّ.
-تتحدث إلى صديق؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل!
ردّ كمن ينفي شبهة:
-إنه رجل الوقت ليلاً.
-ماذا تقصد؟
-إنه صحافي يعمل ليلا في الجريدة.
-وهل ثمة من جديد؟
بدا لي وكأنه كاد يقول شيئاً. ولكنّه بعد شيء من الصمت، أجاب وكأنه يخفي أمراً:
-لا.. لا شيء
ثمّ.. بصوت غائب:
-وأنتِ؟
-أنا.. كنت أريد أن أسمعك.
صمت قليلاً. ثمّ قال:
-وأنا أريدك.
فاجأتني مباشرته. سألته متعجبة:
-حقًا؟ لماذا إذن استمتّ البارحة في الدفاع عن جمالية الحرمان؟
أجاب:
-يحدث أن نقول كلاما.. ليس تماما ما كنّا نريد قوله.
-وما الذي تريد قوله حقًا؟
-الليلة.. لا شيء. إنّي ثمل بالأضداد. لا تتوقعي منّي كلامًا منطقيًا.
-أمّا أنا.. فلي كلام كثير إليك. ولكن أصبحت أتحاشى المكاشفة. قد خوّفتني
بالهاتف؛ ربّما كانوا يتنصّتون إلينا الآن.
ردّ ساخرًا:
-لا تهتمي.. ما فائدة السرّ إذا لم يسمع به الآخرون!
صحت:
-هل جننت؟
-لا.. ولكن ألا تحبّين جمالية الفضيحة في الحبّ؟
فاجأني استهتاره.. قلت:
-ولكنّني متزوجة..
ردّ قائلاً:
-أدري.. ولهذا أنا في كلّ لحظة أتزوجك وأقتلك.
-لماذا؟
-كي أشرّع حبك.. أريدك حلالي كي أمارس معك كلّ الحرام.
-وهل أنت في حاجة إلى كلّ هذا كي تحبّ امرأة؟
-طبعًا.. لقد حدث أن كنت رجلا بكثير من المبادئ.. وقتها كنت أشهى ما أرفض.
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء. الآن أريدك دون أسئلة. لم يبق من الوقت الكثير.
يصمت قليلا ثمّ يواصل:
-تعالي غداً. أريد أن أسرب إليك جنوني.
أسأله:
-وهل تعدني لو جئت أن تخبرني من تكون؟
يردّ:
-لا أعدك بشيء عدا المتعة.. وستأتين.
-لماذا أنت واثق إلى هذا الحدّ بقدومي؟
-لأنّ ثمة من يحوم حولي.. وقد يسرقني منك. ألا تشعرين بالغيرة من كائن قد يستحوذ
عليّ إلى الأبد؟
أسأله غير مصدّقة:
-هل ستتزوج؟
يردّ بحزن مستتر:
-بإمكانك أن تسمّي هذا زواجاً.. مع اختلاف في بعض التفاصيل. إنه الارتباط الأبدي
الوحيد الذي لا ننجو منه ولا نختاره.
لا أفهم ما يقوله. أستنتج أنه يمازحني، كي يحثني على المجيء.
أقول:
-سأجيء.. وبرغم هذا احذر غيرتي. أنا امرأة من برج الحمل. إنه برج يشكّل أكبر نسبة
من مرتكبي الجرائم العشقيّة. وسآتيك بتحقيق يؤكد قولي..
يضحك.. يقول:
-تعالي.. قد أكون أنا من سيقتلك..!
لماذا يصرّ هذا الرجل على إضرام النار في جسدي وفي دفاتري؟ وما الذي غيّر
قناعاته، هو الذي كان يقف دائماً على حافة الحرام، مكتفيًا بقبلة؟ وهل حقًا
ثمة امرأة تحوم حوله؟ من تراها تكون؟ وكيف حدث هذا.. وأنا أتحدّث إليه
يوميًا؟
حاولت أن أنام، وأنا أبحث عن أجوبة عن هذه الأسئلة. ثمّ تذكرت قوله "انتهى وقت
الأسئلة" فأخفيت علامات استفهامي تحت الوسادة.
ورحت أحلم بالموعد القادم.
كان في انشغال أمي بذلك العرس هدية نزلت عليّ من السماء. فأمام معرفتها بمزاجي
المضادّ للأفراح، وبعد اليأس من مرافقتي لها، ذهبت لحضوره بمفردها، وتركتني
أستعدّ لتلك الأفراح السريّة التي كانت وحدها تعنيني.
كان الوقت ظهرًا عندما وصلت إلى ذلك البيت.
فتح لي ذلك الرجل الباب، بمزاج بحريّ. فقد بدا لي غامضًا، وغير متوقّع كما هو
البحر.
قبّلني دون أن يقول شيئًا.
فجلست على الأريكة المقابلة له أتأمله.
قلت:
-فيك شيء من البحر.
قال:
-أكان لقبلتي مذاقه المالح؟
قلت:
-لا.. بل كان لها هدوؤه الكاذب.
لم يجب.
كان الصمت يجعلنا أكثر فصاحة. ذبذبات الرّغبة التي تعبرنا صمتًا تضعنا دائمًا في
كلّ موعد في منطقة حزام الزلازل.
الشهوة حالة ترقّب صامت للجسد. ولذا كنّا نحبّ صمتنا المفاجئ هذا، ونخافه.
كان أذان الظهر يأتي من مئذنة بعيدة، بدا لي كأنّه يستمع إليه باهتمام خاصّ. فلم
أجرؤ على التحدّث إليه.
ما كاد ينتهي حتّى وقفت. رأيته مشغولاً عنّي بتدخين سيجارة. قلت وأنا أهمّ
بالتوجه نحو المطبخ:
-أيمكن أن أحضر ماءً؟ إنني عطشى.
ولكنه لم يجب.
امتّدت يده تستوقفني، وتجذبني نحوه. ثمّ سألني فجأة:
-أما زلت تحبّين زوربا؟
فاجأني سؤاله. بدا لي شبيهًا بتهمة حبّي لرجل آخر.
قلت:
-ربّما.
أجاب:
-بل تحبّينه. ما زال بك افتتان بكلّ ما هو رائع ومهلك. وبتلك الخسارات الموجعة
التي تقلب المنطق.
قلت:
-أجل.
قال:
-تعالي إذن.. عندي لك ما يناسب مزاجك من متعة.
كان في نبرته شيء من الحزن الساخر الذي لم أفهمه.
كنت سأسأله ماذا كان يعني. ولكن، كان قد سحبني من يدي. وذهب بي نحو أسئلة أخرى.
في غرفة مجاورة، يؤثثها سرير شاسع، وتفترش الجرائد والكتب الملقاة أرضًا، زاوية
من سجّادها المتواضع، تركني واقفة للحظات، واتجه نحو جهاز على مقربة من
السرير وراح لدقائق يبحث بين الأشرطة عن شيء ما، قبل أن يضع شريطًا لديميس
روسوس ويعود.
قلت وقد أربكني وجودي في غرفة نومه:
-يبدو أنك تحبّ الموسيقى.
أجاب وهو يسدل بإمعان ستار النافذة الوحيدة:
-إن الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل... ألا تعرفين هذه المقولة؟
قلت:
-لا.
قال:
-إنها لرولان بارت.
ثمّ واصل:
-وهذا الشريط هل تعرفينه؟
قلت:
-أنا أعرف معظم أغاني ديميس روسوس... وأحبّ كلّ ما يغنيه.. ولكن لا أدري أيّ شريط
هو هذا..
أجاب:
-أنا أيضًا لا أدري.. فقد وجدته هنا مع أشرطة أخرى.. ولكن على أحد وجهيه أغنية
ستحبينها حتمًا.
لم أسأله أية أغنية يعنيها. فقد شعرت فجأة. أننا كنّا نستنجد بالموسيقى في محاولة
لإنقاذ ما قد يلحق بنا من دمار إثر متعة قد تفضي بنا إلى حزن، لأكثر من
سبب.
غير أنّ رغبة مخيفة في صمتها، وحواسّ في حالة تأهّب، كانت تجعلنا دون مناعة
عاطفية، أمام صوت يوناني يغنّي بالإنكليزية، ببحّة الألم، خيباته العاطفية.
كنّا على مشارف قبلة، عندما جاءت تلك الموسيقى إيّاها. مباغتة لنا، زاحفة نحونا،
متباطئة، كسلى، ثمّ متقاربة الإيقاع، بمزاجيّة الرغبات الطاعنة تناقضًا.
كخطى راقص على أرصفة الشغف، تحت مطر المساء، كانت الأقدام الحافية تنقل لنا
إيقاعها العشقيّ منتعلة خفّة شهوتنا.
في حضرة زوربا.. خلع البحر نظاراته السوداء وقميصًا أسود، وجلس يتأملني.
رجل نصفه حبر، ونصفه بحر، يجرّدني من أسئلتي، بين مدّ وجزر، يسحبني نحو قدري.
رجل نصفه حياء.. ونصفه إغراء، يجتاحني بحمّى من القبل.
بذراع وحدة يضمّني. يلغي يديّ ويكتبني. يتأملني وسط ارتباكي. يقول:
-إنّها أوّل مرّة أطلّ فيها من نافذة الصفحة لأتفّرج على جسدك.. دعيني أراك
أخيرًا.
أحاول أن أحتمي بلحاف الكلمات، يطمئنني:
-لا تحتمي بشيء. أنا أنظر إليك في عتمة الحبر، وحده قنديل الشهوة يضيء جسدك الآن.
لقد عاش حبّنا دائمًا في عتمة الحواسّ.
أودّ أن أسأله:
-لماذا أنت حزين إلى هذا الحدّ؟
ولكنّ زوبعة بحرّية ذهبت بأسئلتي. وبعثرتني رغوة.. على سرير الشهوة.
كان البحر يتقدّم، يكتسح كلّ شيء في طريقه. يضع أعلام رجولته، على كلّ مكان يمرّ
به.
مع كلّ منطقة يعلنها منطقة محتلّة وأعلنها منطقة محرّرة، كنت اكتشف فداحة خسائري
قبله.
كمن يتململ داخل قفص الجسد، انتفض واقفًا. كان يريد أن يغادر ذاته ويتّحد بي.
أسأله:
-ماذا أنت فاعل بي؟
يجيب:
"لا تملك الأشجار إلا
أن تمارس الحبّ واقفة
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيع فيك صديقي
إلى مثواه الأخير"
أسأله مستغربة:
-ماذا تقول؟
يجيب وهو يحاول الإمساك بي.
-إنّي أضمر لك قصيدة.
فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه، أعواد كبريت تشعل كلّ شيء يمرّ به. ولا أفهم
ماذا يعني. ولا.. لماذا يريد لنا حريقًا كبيرًا ومخيفًا إلى هذا الحدّ؟
رجولته تباغتني، فأنتفض بين ذراعيه كسمكة. ثمّ أدخل طقوس الاستسلام التدريجيّ.
فجأة يستوقفني:
-هل تحبينني؟
كانت ذراعه الوحيدة تنقل إليّ عدوى شراسته العشقيّة، في محاكاة جسديّة ملتبسة،
فأجبته مذعورة:
-طبعاً أحبك.. لم يحدث للحبّ أن أوصلني إلى الخطيئة قبلك.
ولكنّه أجاب بحسرة ساخرة:
"حتّى متى سأبقى خطيئتك الأولى
لك متسع لأكثر من بداية
وقصيرة كلّ النهايات
إنني أنتهي الآن فيك..
فمن يعطي للعمر عمرًا
يصلح لأكثر من بداية؟"
كان لصوته مذاق متأخر للبكاء.
كدت أسأله "أيحدث للبحر أن يبكي؟". ولكنه اختفى.
تنتهي العاصفة.
يتركني البحر جثة حبّ على شاطئ الذهول. يلقي على جسدي نظرة خاطفة.
قبلة.. قبلتان
موجة.. موجتان
وينسحب البحر سرًا.. مع الدمعة القادمة.
البحر أيضًا يرحل على رؤوس الأصابع. بعدما يكون قد أتى صاخبًا.. هائجًا، على عجل.
أيحدث له أيضًا، أن يمارس الحبّ عن ألم؟
انسحب البحر إذن. غادر جسدي بين قصيدتين ودمعتين. وبقي الملح.
وبقيت هنا إسفنجة بحرية.
لحظتها كان زوربا، بوعي الخذلان المبكر، يواصل الرقص حافيًا على شاطئ الفاجعة،
فاردًا ذراعيه إلى أقصاهما كنبيّ مصلوب، يقفز على مقربة منّي، على وقع
الطعنات المتلاحقة، بشراسة وجع يجعلك مازوشيًا حدّ النشوة. فرُحتُ أواصل
الرقص معه، منتفضةً كسمكة خارجة توًا من سطوة البحر.
عندما تنتهي العاصفة.. يشعل البحر سيجارة. يدخن متكئًا على الأسئلة.
ثمّ عندما يعثر على الأجوبة، يكون قد أصبح رجلاً من جديد.
دومًا، بعد الحبّ، تعود أسئلة ذكورية أبديّة، يصوغها الرجال حسب ذكائهم،
ليطمئنّوا إلى دوام رجولتهم:
-لقد خفت عليك دائمًا من لحظة كهذه؛ على سرير الواقع تصبح المشاعر اقلّ جمالا!
أطمئنه:
-جميل ما حدث بيننا. ولا أريد أن أعرف، إذا كان كذلك حقًا، أم أنّ الحبّ جعله
يبدو أجمل ممّا هو.
أحاول أن أتحاشى الانتباه لذراعه وأنا أحدثه. ولكن كنت في انشغالي عنها أتأمله.
في الواقع، مشكلة الروائيّ أنّه لا يستطيع إلا أن يراقب كلّ شيء، حتّى أولئك
الذين يقاسمونه سريره.
سألني وهو يصلح من جلسته:
-ما الذي تريدين رؤيته؟
فاجأتني نبرته الساخرة. قلت وكأنني أبررّ ذنبًاً:
-أريد أن أطالع التاريخ السريّ لجسدك، كي أعرف إن كنت حقًا خالد بن طوبال. أنت
تتصّرف مثله في كلّ شيء. عجيب كم تشبهه!
أرحني.. قل لي من تكون.
أجاب ساخرًا:
-رجالك جميعًا يتشابهون.
ثمّ أضاف بعد شيء من الصمت..
-ولكنني لست هو.
لفظ هذه الكلمات الأخيرة بهدوء. بالوقع نفسه الذي يقول به بقيّة الكلام، وكأنّه
لم يلفظ شيئًا يغيّر مجرى قصتنا.
قلت:
-ولماذا أخفيت عنّي الحقيقة كلّ هذا الوقت؟
أجاب:
-ليس هناك من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنّها تتغيّر فينا.. وتتغيّر
معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة.
وأضاف:
أتذكرين.. كنت تقولين "أحبّ جسدك" وكنت أجيب "إنّ جسدًا قد يخفي جسدًا آخر" ولا
تصدّقين. وكنت تقولين "أحبّ الرجال في الأربعين" وأصحّح؛ أقول "لست الرجل
الذي تتوهمين" ولا تصدقين.
بل تماديًا في الخطأ، وقعت في حبّ يديّ. وكنت تطاردينني عنهما بالأسئلة. تقولين
"أحبّ يديك.. ما عمرهما؟" وأجيب " لقد أحببت دائمًا عُقدي.." ولا تفهمين.
ولا أملك الآن سوى هذا الجسد. لأردّ به على كلّ أسئلتك.
أجيب:
-ولكن لم يكن من داعٍ للمراوغة. فأنا أحبه كما هو..
يبتسم.. يقول:
-أنت تتوهمين
ثمّ يواصل:
-الحقيقة الوحيدة هي أنّك كنت جاهزة للحبّ. وكان يمكن أن آتيك متنكرًا في أيّ
شخص، وفي أيّ زيّ، أن أقول كلامًا كنت تنتظرينه، أو لا أقول شيئًا. كنت
ستحبينني.
تابع قائلاً:
ذلك أن الحبّ يتأقلم مع كلّ الحالات. وله هذه القدرة الخارقة على إضفاء جمالية
حتّى على الأشخاص العاديّين. والدليل أنّك عندما ستكتشفين من أكون، ستجدين
أيضًا في تفاصيل قصتنا ما يذهلك، ويقنعك بأنّك تحبينني أنا.. وليس ذاك الذي
كنت تتوقعين!
-ولكنك أريتني جريدة عليها اسم خالد بن طوبال.
-تلك حقيقة أخرى. إنه اسمي. أو إذا شئت إنه الاسم الذي اخترته لأنه يشبهني. ولأنه
مذ وصلتني تهديدات بالقتل. كان لا بدّ أن اختار اسمًا جديدًا أوقع به
مقالاتي. ولا أشعر أنني سرقت هذا الاسم من احد. كل كلمة وقّعتها في تلك
الجريدة، كنت أشعر أنه كان بإمكان ذلك الرجل الخارج من كتاب أن يقولها.. لو
أنه نطق.
يذهلني كلامه. ألأننا كنّا نعيش وضعًا روائيًا، كلّ ما ينتج عنه أصبح روائيًا
أيضًا؟
سألته:
-ما عدا هذا.. من أنت؟
ضحك.. أجاب:
-أنا قارئ جيّد..
-لا أفهم.
-لنقل أنني قرأتك جيدًا، قرأتك دائمًا، وإنّني أعرف عنك ما يكفي لإدهاشك. أنا
ذاكرة أخرى لك.. أعرف عنك ما نسيت..
-ولكن في الحياة.. من أنت؟
-في الحياة.. اعمل صحافيّاً. ولن تصدّقيني لو قلت لك إنني منذ ثلاث سنوات كان
هاجسي أن أتعرف إليك، بحجّة إجراء حوار للجريدة.
أضاف قائلا بعد شيء من الصمت:
في الواقع، كنت أريد أن اطرح عليك أسئلة، لم تكن تعني غيري. فقد صادف صدور كتابك
مع تلك الحادثة التي شلّت فيها ذراعي.
وهو ما جعلني أقضي فترة النقاهة في قراءتك. أذكر أن صديقي عبد الحقّ جاءني بكتابك
إلى المستشفى. وقال لي وهو يمدّني به: "جئتك بكتاب سيعجبك.." تصوّري: خفتُه
قبل أن أقرأه.. ثمّ خفته لفرط ما قرأته. أذهلني أن أعثر على بطل يشبهني إلى
هذا الحدّ. كان بيني وبينه مدينة مشتركة، واهتمامات وخيبات مشتركة، وعاهة
وذوق مشتركان. ووحدك كنت الشيء الذي لم يكن مشتركًا بيننا. فقد كنت حبيبته
وحده.
وتابع:
يوم التقيت بك، أصبح عندي يقين بأنّ حياتي ستطابق بطريقة أو بأخرى قصتك معه. حتّى
إنني خفتك. وكثيرًا ما راودتني رغبة في عدم الاتصال بك. لو تدرين كم
أحببتك.. وكم حقدت عليك بسبب كتاب!
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء.. أعتقد أنّك كنت تكتبين لقلب الأشياء، عندما اخترت بطلاً فاقد
الذراع. ولكن تظلّ الحياة أكثر غرائبية من القصص التي نبتكرها. أيّ فخّ
كبير هي الحياة!
تصوّري.. كنت أريد منك أجوبة لا أكثر. ولكنّ الحياة كانت تعدّ لي دورًا معاكسًا.
لقد جئتك في زمن الأسئلة. انقضى هذا الكتاب، وأنا أردّ على أسئلتك. أعرف
أنه دور أجمل ممّا توقعت. ولكنني لم أسع إليه. اكتفيت بمجاراة قدري،
ومجموعة المصادفات التي واكبته.
-وأثناء ذلك، كنت تقودني إلى تيه النصّ، والمتاهات السريّة للعواطف.. وكمائن
المواعيد.
-بل كنت أقودك إلى العشق. إنّ أجمل حبّ هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء
آخر. أدري.. كنت تبحثين عن رجل، خارج من كتبك. خلقته أنت، على قياسك. ولكن
أليس أجمل أن أكون أنا الرجل الداخل إلى هذا الكتاب.. ولست الخارج منه؟
-ألهذا جئت اليوم؟ ألكي يمكنك أن تدّعي بعد الآن، أنّك كسرت ذلك الوهم الجميل،
وحصلت على تلك المرأة التي لم تمتلك منها سوى كتب.. وأسئلة لا جواب لها.
-طبعًا لا. وأنت تعرفين تمامًا أنّ هذا ليس صحيحًا. فأنا أملك من الكلام ما
يمكّنني من إقناعك بما أشاء، ولكنّني كنت احرص على ألا أكسر أي شيء فيك.
ولا أي شيء بيننا. لقد اعتقدت دائمًا أنّ الاشتهاء هو وحده حالة الامتلاك،
أما المتعة فهي بداية الفقدان.
-وما الذي أوصلنا إلى هذا السرير إذن؟
-أوصلنا إليه الموت.
-ألا ترى في قولك إهانة للحبّ؟
-بل ردّ اعتبار له. لا تظنّي انه من السهل أن نأتي بالمتعة عن ألم، أو نأتي الجنس
بذريعة موت الرفاق. يلزمنا كثير من الحبّ لنثأر به من الموت.
-ولكن.. منْ مات من معارفك كي يداهمك كلّ هذا الحزن؟
يستنجد بسيجارة ثمّ يجيب:
-مات سعيد مقبل.. ألم تسمعي بموته البارحة؟
قلت كمن يعتذر:
-أنا لم أشاهد التلفزيون منذ أيّام.. ولا قرأت الجرائد.
ثمّ واصلت:
-هل كان صديقًا مقربًا إليك؟
أجاب:
-لا. أنا لم ألتق به أبدًا. أصبح صديقي البارحة. فقد رفعه القتلة برصاصتين إلى
مرتبة صديق. تصوّري.. لي تسعة وعشرون صديقًا، لم ألتق بمعظمهم، إلا على
الصفحات الأولى للجرائد بمناسبة نعيهم. ولكنّه كان صديقًا مقربًا من عبد
الحقّ، فقد كان يعمل معه في الجريدة قبل أن يتركها عبد الحق ويسافر إلى
قسنطينة. ولقد اتصلت به منذ مدّة، لأعرض عليه الكتابة في الجريدة نفسها..
وكان مفترضًا أن نلتقي هذه الأيام..
أسأله:
-وكيف قتلوه؟
يجيب:
-كان يتناول غداءه. رفقة زميلة له في مطعم صغير جوار الجريدة. عندما اقترب منه
شخص، توّهم منه أنّه يريد محادثته. ولكنّه أخرج مسدسًا، وأطلق النار عليه
ومضى بهدوء. تصوّري.. كان اسم المطعم "الرحمة"ّ
-ولكن.. كيف لم يأخذ حذره؟
-طبعًا كان على حذر. مذ حاولوا اغتياله منذ شهرين وفشلوا، وهو يغيّر عناوين نومه،
ومواعيد قدومه إلى المكتب، والطرق التي يسلكها في العودة، والأماكن التي
يرتادها. ولم يغيّر كلّ هذا شيئًا من قدره. لقد وصف كلّ هذا الرعب اليومي
الذي يعيشه الصحافيّ في الجزائر هذه الأيام في نصّ جميل ومؤثر قبل أسبوعين
من اغتياله. وأعادت الجرائد نشره اليوم في صفحاتها الأولى وهي تنعاه. ألم
تقرأيه؟ لقد تناقلته معظم وكالات الأنباء.
قلت بنبرة خافتة:
-لا
فمضى. ثمّ عاد بجريدة أعطاني إيّاها قائلاً:
-إقرإيه إذن.. وستبكين صديقًا.
وما كدت أتوقف عند عنوان المقال "هذا السارق الذي.." حتّى أخذ مني الجريدة وراح
يقرأ:
"هذا السارق الذي يتسللّ في الليل بمحاذاة الجدران، عائدًا إلى بيته. إنّه هو.
هذا الأب الذي يوصي أولاده، بأن لا يفضحوا في الخارج المهنة التي يتعاطاها. إنه
هو.
هذا المواطن السيئ الذي يجرّ أذياله في قاعات المحاكم، منتظرًا دوره للمثول أمام
القاضي. إنه هو.
هذا الفرد الذي يساق خلال مداهمة لحيّ، والذي يدفع به كعب بندقية إلى قاع شاحنة.
إنه هو.
هو الذي يغادر منزله كلّ صباح، غير واثق بأنّه سيصل إلى مقرّ عمله.
وهو الذي يغادر عمله مساءً، غير متأكد من أنه سيصل إلى بيته.
هذا المشرد الذي لم يعد يعرف عند من يقضي ليلته. إنه هو.
إنه هو الذي، يتعرض للتهديد في سرّيّة إدارة رسمية.
الشاهد الذي ينبغي عليه أن يبتلع كلّ ما يعرف.
هذا المواطن الأعزل.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو.
هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هو الذي لا يعرف ماذا يفعل بيديه، سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضدّ كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا. وليس سوى صحفيّ
ألقى بالجريدة على الطاولة المجاورة، ثمّ واصل:
-كيف أحمل حداد رجل كان في السابعة والخمسين من عمره، يواجه الموت بكلّ هذا
العناد، ويصدر الجريدة الواحدة بعد الأخرى، في زمن لم يبق فيه أحد ليغامر
بوضع توقيعه أسفل مقال؟ ويسمّي زاويته "مسمار جحا"، معلنًا أنّه باق هنا
بنية إزعاج الجميع، ساخرًا من السلطة والإرهابيين على حدّ سواء.
سحب نفسًا من سيجارته، وواصل بنبرة محبطة:
لا أفهم، كيف يمكن لوطن أن يغتال واحدًا من أبنائه، على هذا القدر من الشجاعة؟
إنّ في الوطن عادة شيئًا من الأمومة التي تجعلها تخاصمك، دون أن تعاديك،
إلا عندنا، فبإمكان الوطن أن يغتالك دون أن يكون قد خاصمك! حتى أصبحنا حسب
قول عبد الحق.. نمارس كلّ شيء في حياتنا اليومية.. وكأننا نمارسه كلّ مرّة
للمرة الأخيرة. فلا أحد يدري متى وبأية تهمة سينزل عليه سخط الوطن.
سألني فجأة:
-أتدرين لماذا طلبت منك الحضور اليوم؟
وقبل أن أجيب واصل:
-لأنني خفت أن أموت قبل أن أعيش هذه اللحظة!
قاطعته بشيء من العتاب:
-ما هذا الذي تقوله؟ نحن لسنا هنا لنتحدث عن الموت
ردّ بسخرية:
-طبعًا، نحن هنا لنلعب معه، لنتحايل عليه. ولكنه موجود في جدول تفكيرنا الباطنيّ.
المتعة أيضًا.. كما عشناها منذ قليل، بتلك الشراسة وبذلك العنف، وكأننا على
أهبة افتراس جسديّ متبادل، ليست سوى حالة تطبيع مع الموت لا أكثر. في زمن
النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ، والحروب البشعة الصغيرة التي لا
اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بها، الجنس هو كلّ ما نملك
لننسي أنفسنا.
-والكتابة؟
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا!
-أتقول هذا لتجعلني أعدل عنها؟
-بل لأجعلك تعدلين عن الحلم، والأوهام الكبيرة. هذا الذي مات، صديقي الذي يوارونه
في هذه اللحظة تحت التراب، الآن بتوقيت صلاة العصر، يسلّمونه للديدان، كان
يؤمن أيضًا بجدوى الكتابة، وبأنّ عموده اليومي ضروري لتغيير المجتمع، وأنّ
القارئ لا يمكن أن يبدأ صباحه دون تعليقاته الساخرة، ونكاته اللاّذعة.
الآن، لم يعد بإمكانه أن يُضحك أو يتحدّى أحدًا. لقد ضحك عليه الموت
وتحدّاه. هو الذي كان يتوهم أنه يغيّر العالم كلّ يوم ببضعة أسطر. ها هي
الحياة تستمرّ بعده، والجريدة تواصل الصدور دونه، والناس الذين مات من
أجلهم، سينسون مكانه في تلك الصفحة، حيث أقام لعدّة سنوات، ففي الصحافة
كثير من نكران الجميل.
كلامه وضعني في حالة من الإحباط المفاجئ. أفقدني رغبتي في الجدل، أو حتّى في
الحبّ.
"أكلّ هذا.. من أجل هذا؟"
كل هذه المجازفة، وهذه المخاطر، وهذا الترقب، وهذا التحايل، كي أخلو برجل يحدّثني
عن الموت؟
قلت:
-كان من الأفضل لو كنت كائنًا حبريًا، وبطلاً وهميًا في قصة؛ هؤلاء على الأقلّ لا
يغتالون، ولا يموتون، ولا نخاف عليهم من شيء. لماذا جئت إذا كنت رجلاً
حقيقيًا؟
ردّ وهو يسحبني نحوه:
-جئت لأسرّب إليك الرغبة. جئت لإمتاعك، وإمتاع نفسي بك. هؤلاء لا يمكنهم أن
يفعلوا هذا.. أليس كذلك؟
وراحت شفتاه في تقبيلي من جديد، باللّهفة نفسها، وكأننا التقينا توًا، أو كأنه
انتبه فجأة لوجودي معه. برغم تلك الجثة الموجودة بيننا.
كان يحلو لي أن أتابع تقلّبات مزاجه العشقيّ.
أحاول أن أفهم ما الذي أثاره فجأة من جديد، ليجتاحني بكلّ هذا النّهم الجسديّ.
أتأمله في انشغاله بي، لم يكن جسده هو ما كنت أحبّ. بقدر ما أحبّ كرم رجولته،
وأخلاق جسده.
كان لجسده ذلك الحضور السخيّ، الذي يعطي ويعطي كما هو الحبّ. كأنه يعوّض عن
نقصانه بالعطاء. ثمّ يأخذ ويأخذ كما هي اللّهفة.
وكانت له تلك الرجولة التي تحسن التواضع أمام الأنوثة، وكأنّها مدينة لها بكلّ
شيء.
فجأة ضمّني إليه وقال:
-سأعترف لك بشيء.. لا تضحكي منه!
وقبل أن أجيب واصل:
-حدث أن غرت من زياد. تصوّري لم أغر من زوجك يومًا.. وغرت من كائن حبريّ. تقاسم
معي بطولة ذلك الكتاب. ما زلت أشعر أنّه وجد حقّا في حياتك. وأنّه سبقني
إلى جسدك.
أضحك.. أقول:
-أيّها المجنون.. هذا الرجل لم يعد يوجد أبدًا. لقد أوجدته، لأنني أحبّ قصص الحبّ
الثلاثية الأطراف. وأجد في قصص الحبّ الثنائية، كثيرًا من البساطة والسذاجة
التي لا تليق برواية. ولذا كان يلزمني رجل يعيش بمحاذاة تلك القصة، قبل أن
يصبح هو بطلها. لأنّ هذا هو منطق الحبّ في الحياة، نحن نخطئ دائمًا برقم.
-وبرغم هذا أحسده. كنت أريد لي قدرًا مطابقًا لقدره. حتّى إنني أحفظ أشعاره. ما
زلت أحلم بحبّ كبير.. بقضية كبرى، وبموت جميل.
-ولكن انتهى زمن الموت الجميل. لم يعد بإمكان أحد الآن حتّى في رواية، أن يموت في
معركة كبيرة. لقد أفلست جميع قضايانا، ولذا أحببت أن يموت زياد أثناء
الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. تصوّر، هو الذي كان يحلم بالعودة إلى غزّة. لو
عاش، لدخل اليوم مباشرة إلى سجونها. أو انتهى به الأمر شرطيًا فيها، يقوم
بسجن وتعذيب فلسطينيين آخرين بتهمة المسّ بأمن إسرائيل. كم من الأوهام ماتت
معه. فبعده، لم يعد ثمة شيء اسمه فلسطين.. سعيدة أنا من أجل الذين سيأتون
بعدنا: لقد وفرنا عليهم أعمارًا لن ينفقوها في أوهامنا.
يصلح من جلسته. يترك رأسي على كتفه، ويشعل سيجارة.
يباشر بتدخينها في بطء قائلاً:
-دعينا من فلسطين.. أجيبيني: هل أنت سعيدة معي ؟
يفاجئني سؤاله. لا أدري كيف أردّ عليه أقول:
-حين نكون تعساء ندرك تعاستنا. ولكن عندما نكون سعداء، لا نعي ذلك إلا في ما بعد.
إنّ السعادة اكتشاف متأخر.
يردّ ساخرًا:
-أيجب أن أنتظر الكتاب القادم، كي أعرف إن كنت سعيدة معي؟
أردّ ضاحكة:
-طبعًا لا.. بإمكاني أن أجيبك الآن. ولكن في الواقع تعلّمت أن أخاف السعادة. ما
اكتشفتها مرّة إلاّ وفقدتها.
يجيب:
-ولذا عليك أن تعيشيها كلحظة مهدّدة. أن تعي أنّ اللّذة نهب، والفرح نهب،
والحبّ.. وكلّ الأشياء
الجميلة، لا يمكن إلا أن تكون مسروقة من الحياة، أو من الآخرين. فالمرء لا يبلغ
المتعة إلا سارقًا. في انتظار أن يأتي الموت، ويجرّده من كلّ ما سطا عليه.
أقول:
-أنت تذكّرني بفيلم "حلقة الشعراء الذين اختفوا". أتذكر ذلك المشهد الأول، عندما
تحلّق الطلبة حول الأستاذ، ليتأملوا الصور المعلّقة على جدران الصفّ، لطلبة
سبقوهم منذ أجيال إلى ذلك المعهد. عندما كان الأستاذ يردد "تأملوا هيأتهم
وشبابهم الذي يشبه شبابكم اليوم. إنهم يقولون لكم.. استفيدوا من اليوم
الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة.. فذات يوم لن تكونوا شيئًا.."
يعلّق دون اهتمام:
-أنا لم أشاهد هذا الفيلم.. ولكن أتوّقع أن يكون المشهد جميلاً..
أسأله دهشة:
-أحقًا.. أنت لم تشاهد هذا الفيلم؟
يجيب متعجبًا من نبرتي:
-أكان يجب أن أراه؟
ولا أجد شيئًا أبرر به اندهاشي أمام هذا الاكتشاف سوى كلمات مرتبكة:
-توقّعت أن تكون شاهدته.. فقد حصل على عدّة جوائز..
وأعود إلى صمتي. أستعيد قصتنا منذ البدء. أحاول أن أفهم: إن لم نكن قد التقينا في
ذلك العرض، فمنذا الرجل الذي يا ترى جلس إلى جواري في ذلك اليوم.. بالعطر
نفسه.. والصمت نفسه؟
كانت الأسئلة تذهب بي في كلّ صوب. عندما قطع تفكيري قائلاً كمن يعتذر:
-حدّثني عبد الحقّ عن هذا الفيلم. وعرض عليّ أثناء زيارتي إلى قسنطينة أن أرافقه
إلى مشاهدته. كان يريد أن يكتب عنه مقالاً للجريدة. ولكنّني شغلت ذلك اليوم
بأمور أخرى. فذهب لمشاهدته بمفرده. من المؤكّد أنّه لا يزال يعرض في قاعات
بالعاصمة. سأحاول أن أحضره هنا، حتّى يصبح بإمكاني أن أتحدث معكما عنه، بدل
الاستماع إلى كلّ واحد منكما وهو يروي مشهدًا من الفيلم.
ثمّ يواصل وهو يمرر يده على شعري:
-أيسعدك أن أراه؟
أجبته وأنا أضع قبلة على خدّه:
-حتمًا.
بدا لي فجأة أنني أستعمل معه لغة "عبد الحقّ". فلم أضف شيئًا إلى ما قلته.
بعد قليل، كنت أغادره. كان هو يعود إلى حداده. وأنا أعود –حتمًا- إلى أسئلتي
ما كدت أخلو بنفسي ذلك المساء، حتّى فتحت الدفتر الأسود. متصفحة قصتي مع ذلك
الرجل، كما كتبتها يومًا بعد آخر، على ذلك الدفتر.
رحت أستعيد بداياتها، أتوقف عند منعطفاتها، عساني أفهم، كيف ولدت هذه القصة. ومن
أين جاءني هذا الرجل؟
كيف تمّكن خلال ثمانية أشهر أن يتهرب من كلّ أسئلتي، وينجو من كلّ مقالبي، ويعيش
داخل هذا الدفتر، متنكرًا في رجل آخر، ثمّ يفاجئني بالحقيقة عندما يشاء هو.
ولكن أيّة حقيقة؟ أتلك التي باح لي بها؟ أم الأخرى التي لا يعرفها هو نفسه، والتي
أوصلني إليها دون أن يدري، مؤكدًا كلامًا سابقًا له: "ليس ثمة من حقيقة
واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنها تتغير فينا وتتغير معنا. ولذا لم يكن
ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة".
حبه أيضًا أصبح وسط التساؤلات، حقيقة متحركة. في الواقع، كان لنا زمن سريّ وذاكرة
مشتركة، لشيء شبيه بالحبّ، عشناه معًا، حتّى قبل أن نلتقي.
هو قال "أجمل حبّ هو الذي يأتيك أثناء بحثك عن شيء آخر" وأنا صدّقته، ونسيت من
انبهاري به عن أي شيء بالتحديد كنت أبحث يوم صادفته.
ها هوذا اليوم، في دوره الأخير، يصبح قارئي.
فكيف يمكن لقارئ أن يفعل بكاتبٍ كلّ هذا!؟
يربكني تدخّل البعد الّلاعقلاني في السلوكات والقرارات الإنسانية. وتذهلني الحياة
السريّة للمشاعر.
أذكر أنني، قرأت يومًا بحثًا نفسيًا، يقول إنّ وقوعنا في الحبّ، لا علاقة له بمن
نحبّ. وإنما لتصادف مروره في حياتنا بفترة نكون فيها دون مناعة عاطفية،
لأننا خارجون توًا من وعكة عشقيّة. "فنلتقط حبًا" كما نلتقط "رشحًا" بين
فصلين!
واستنتجت يومها أنّ الحبّ عارض مرضيّ.
ثم قرأت بعد ذلك مقالاً طبيًا عن "كيمياء الحبّ" جاء فيه أننا نرتكب أكبر
حماقاتنا في الصيف لأن الشمس تغيّر مزاجنا. ولها تأثيرات غريبة في
تصرفاتنا: فأشعتها تخترق بشرتنا وكرياتنا الدموية.. فتعبث بجهازنا العصبي،
وتحولنا أناسا غريبين بإمكانهم فعل أيّ شيء.
وقلت.. الحبّ إذن حالة موسمية.
وقرأت أيضًا.. أن الكتابة تغيّر علاقتنا مع الأشياء، وتجعلنا نرتكب خطايا، دون
شعور بالذنب. لأن تداخل الحياة والأدب يجعلك تتوهم أحيانًا أنّك تواصل في
الحياة، نصًا بدأت كتابته في كتاب. وأنّ شهوة الكتابة ولعبتها تغريك بأن
تعيش الأشياء، لا لمتعتها، وإنما لمتعة كتابتها.
واستنتجت أن مشكلة الكاتب أنه لا يقاوم أحيانا شهوة الخروج عن النص، والتورط
الأدبي مع الحياة، حتى في سرير.
وهكذا بعد شيء من التفكير، توصلت إلى كون ما حدث لي لا علاقة له بالمنطق. وإنما
بتصادف عدّة شروط لا منطقية.
فقد دخل هذا الرجل حياتي ذات صيف، مستفيدًا من فقداني لأية مناعة عاطفيّة،
وانشغالي بين فصلين، بكتابة قصة حبّ وهمية. وحبّه ليس إلا تصادف اجتماع
عدّة ظروف استثنائية.
في الواقع، من كثرة ما قرأت، اكتشفت أن مصيبتي هي في كوني لست أمية. فكم من
الأشياء قد تحدث لنا بسبب ما نقرأ..
ذلك أن ثمة قراءات تفعل بنا فعل الكتابة، وتوصلنا إلى حيث لا نتوقع.
وأذكر مقابلة صحفيّة للكاتب الأرجنتيني بورخيس سأله فيها الصحافيّ "ماذا كنت تعني
عندما سئلت مرة عن حياتك فقلت "حدثت لي أشياء قليلة.. ولكنني قرأت كثيرًا"
فأجاب "كنت اقصد لأنني قرأت كثيرًا.. حدثت لي أشياء كثيرة".
وأنا التي كنت أحلم بكتابة كتاب واحد، يمكنني بعده أن أموت "كاتبة"، كتاب يتدخل
في حياة القارئ، حدّ منعه من النوم، وجعله يعيد النظر في حياته، ها أنا
وُفّقت على الأقل مع قارئ واحد. من اندهاشه بكتاب، تطابق مع بطلي حدّ
إدهاشي، وقلب حياته وحياتي.. رأسًا على عقب.
وهكذا أصبحت خلاصتي في النهاية، أنّ على الكاتب أن يفكّر كثيرًا قبل أن يكتب قصة.
ففي أيّة لحظة، قد تأخذ الحياة قصته مأخذ الجد، وتعاقبه بها، أو تعاقب ذلك
المسكين الذي وقع تحت سطوة الكلمات، ولم يعد يدري وهو يقرأها، أين يقع
الخطّ الفاصل بين الوهم والحياة.
عندما كتب غوته كتابه "الآم فرتر" ليصوّر فيه قصة حبّ يائس، أصبح ألوف من شباب
أوروبا يرتدون ثيابا مثل بطله فرتر، ويتصرفون مثله في المجالس. ويحملون تحت
إبطهم مثلما كان يفعل، ديوان هوميروس. وكثير منهم أقدموا على الانتحار
مثله، حتى وجّه إليه النقاد الّلوم لأنه زين لهم الانتحار.
والواقع أن غوته لم يزين لهم الموت، بل زين لهم الحياة بين دفتي كتاب. في تلك
المساحة المخصصة للحلم والوجاهة، والتي اسمها "الأدب".
وإذا كان من المعقول أن تحبّ كاتبًا، حتى تتوهم أنك بطل من أبطاله، فأين العجب في
أن يحب كاتب بطل من أبطاله، حتى يتوهم بدوره، أنه موجود في الحياة، وأنه
حتمًا سيلتقي به يومًا في مقهى.. ويتبادلان كثيرًا من الأخبار، والذكريات
عودة أمي، أعادت إلى الحياة وجهها الطبيعي، وأخرجتني لوقت من أسئلتي الدائمة. فقد
جاءت ومعها أخبار عن عرس أتوقع أن تحدثني عنه كثيرا في المستقبل فهي تؤكد
أن شروط الانفجار جاهزة بين الزوجتين الأولى والجديدة.
أتسلى بالاستماع إليها وأنا أعرف مسبقا المنحى الذي سيأخذه حديثها. فهي على يقين
ثابت من أن ضرتي هي سبب عقمي، وبعض ما حل بي وهو ما لا أصدقه.
طبعا،لم يكن سهلا أن أتقبل فكرة مقاسمة رجل مع امرأة أخرى بل كان بإمكاني أن
أشترط طلاقه منها. فقد كان يريدني وقتها إلى درجة الرضوخ لكل مطالبي.
ولكنني كنت أشفق على تلك المرأة التي تكبرني بخمس عشرة سنة والتي شاركت
زوجي عشرين سنة من حياته وأعطته ثلاثة أولاد قبل أن يصبح ضابطاً، على قدر
من الأهمية بحيث كان لابد له ككل المسؤولين من حوله أن يعيد النظر في حياته
الزوجية .
أعتقد أن استسلامها منذ البدء للأمر الواقع هو الذي جردني من أسلحتي. لا أعتقد
أنها كانت من الطيبة لدرجة التحمس لهذا الزواج. ولكنها لم تكن شريرة ولا
حاولت يوما أن تكيد لي.
ثمّ مع الوقت ولد بيننا شيء من التواطؤ النسائي الصامت، بعد أن أدركت كل واحدة
منا، أنها لا يمكن أن تلغي الأخرى، أو تنفرد بامتلاك ذلك الرجل.
كثيرًا ما سألت نفسي إن كنت أغار من هذه المرأة، التي من الأرجح أن يكون زوجي
الآن في بيتها، يقاسمها سريرا لا يشغله إلا نادرا، وغالبا أثناء غيابي.
والمدهش أن الجواب يأتي دائما بالنفي. وبرغم ذلك لم يتقبل جسدي تماما فكرة
وجودها. بل انه لم يتقبل هذا، منذ الليلة الأولى.
وأذكر أنه طوال ليلة زفافي، لم تفارقني فكرة وجودها، ولا مشهد حضورها الصامت، في
تلك السهرة مراعاة لزوجي الذي كان يريد أن يثبت للحضور مباركتها لهذا
الزواج.
ربما لذلك السبب، صنع جسدي يومها، حاجزا لم يستطع زوجي تخطيه، رغم ما أوتي من
إمكانيات فحولية.
ورغم اشتهائي له، شيء في كان لا يطاوعني ويرفض الاستسلام له. خاصة أن مقاطعة ناصر
لكل احتفالات الزواج، قد وضعتني في حالة نفسية سيئة.
تراودني كل هذه الأفكار، وأمّي تنقل لي "وقائع"هذا الزفاف الذي لم تسفر ليلته عن
نتائج ترضي كبرياء العريس الممتلئ فحولة ذكورية، وهو ما جعل النساء كعادتهن
يجتهدن في تفسير الأمر.
أما الخبر الأهمّ، فكان بالنسبة إلي شعور أمي المفاجئ بالضجر ورغبتها في العودة
إلى قسنطينة في أقرب وقت.
خبر تلقيته بمذاق سابق للحزن، أسرعت بإخفائه عنها.
فقد تعلمت أن أخفي عنها حزني وفرحي، حتى لا أجد نفسي مجبرة على شرح الأول، أو على
تبرير الأخير. فلم تكن لنا يوما المقاييس نفسها للسعادة.
السعادة، ذلك العصفور المعلق دوما على شجرة الترقب، أو على شجرة الذكرى. هاهو على
وشك أن يفلت مني الآن أيضا. ولأنني أدركت ذلك بدأت أعيش ذلك الحب، بشراسة
الفقدان.
كالذين يعيشون عمرًا مهددًا، علمني الموت من حولي أن أعيش خوف اللحظة الهاربة، أن
أحبَّ هذا الرجل كل لحظة.. وكأنني سأفقده في أية لحظة، أن أشتهيه، وكأنّه
سيكون لغيري، أن أنتظره.. دون أن أصدق أنه سيأتي. ثم يأتي.. وكأنه لن يعود،
أبحث لنا عن فرحة أكثر شساعة من موعد، عن فراق، أجمل من أن يكون وداعًا.
غير أنه كان يبدو فجأة غير مبال بمداهمة الحياة لنا، بل إنه كان يملك من ترف
الوقت، ما جعله يصرّ على أن لا يكون موعدنا الأخير في بيته، وإنما في مطعم
بحريّ على بعد نصف ساعة سيرًا على الأقدام من بيتي.
وعبثاً حاولت إقناعه بأننا قد لا نلتقي قبل زمن طويل، وأنّ هذا المكان لا يصلح
لوداعٍ، ولا لموعد أخير. ولكنه كان يجيب:"سيكون لنا هناك موعد أجمل".
* * *
التقينا.
في مقهى ارتجله الحب لنا، كان هنا. هو والبحر.. وطاولة صيف مسائية..
هو وأنا وتنهّدات الأمواج بيننا.
قلت عاتبة:
-كان بإمكاننا أن نلتقي عندك. لماذا أصررت على تبذير ثروة الحلم أمامي ؟
أجاب دون أن يتوقف عن التدخين :
-تبذير الحياة.. هو أيضا جزء من الحياة.
-ولكنني أريدك.. وقد لا نلتقي قبل زمن طويل.
وضع بيننا كعادته منفضة الصمت. وأعقاب جمل لم تكتمل ثم قال:
-لفرط ما أردتك أفهم معنى أن تريديني. ولكن لا بد أن نتعود الحرمان، حتى عندما
نكون معا.
-ولكن لماذا؟
-لأن قدرنا أن لا نكون معا دائماً.
-لماذا أهديت إليّ إذن كل تلك المتعة.. إذا كنت تعدّني لكل هذا الألم ؟
-أنا أعدّك لمتعة أجمل. قبلك لم يكن الحرمان جميلا. لأنه لكي يكون كذلك، لابدّ أن
نريده، أن يكون تواطؤا سرّياً بين اثنين. وقتها فقط يغير اسمه، تصبح له
تسمية أجمل.
يسألني بعد شيء من الصمت :
-أتعرفين ما اسمه؟
أقول دون تفكير :
-لا
يجيب:
-يصبح اسمه الوفاء!
تترك الحروف خلفها ذيلا من الدخان الذي ينفثه بكسل نحوي .
أجيب:
-أنا أفهم تماما ما تقول. ولكن، ألا تعتقد أنك تزايد على القدر، وتعاقبنا أكثر
مما عاقبتنا الحياة؟
يرد:
-ما أعتقده هو أنك كنت دائما الطفلة المدللة للحب. أتوقع أن يكون قد منحك دائما
ما أردته دون جهد. ثمة أناس لهم تلك القدرة الخرافية على المشي فوق قلوب
الآخرين، دون شعور بالذنب.
أتمتم:
-ألهذا..؟
يقاطعني:
-لا..ليس لهذا أعاقبك اليوم بالحرمان. وإلا أكون أعاقب نفسي بك.ولكن جميل أن
يروضك رجل،لم يفهم قبلك في الخيول..
وقبل أن أنطق يقول:
-أتدرين.. مع الخيول الوحشية، الأصعب دائما هو لحظة الاقتراب منها. أما ترويضها
بعد ذلك فهو قضية وقت. ولهذا أوجد رعاة البقر لعبة الروديو، التي يتنافسون
فيها على عدد الدقائق التي يبقون فيها على ظهر حصان وحشي، قبل أن يرمي بهم
أرضا، لتتهشم عظامهم عند أقدامه. ففي دقائق قد يربحون حصانا، كما أنهم قد
يخسرون حياتهم في دقائق!
ثم واصل وهو ينفض دخانه ببطء في المنفضة، دون أن تغادرني نظراته:
ولذا عكس ما تتوقعين، لم أربحك في موعدنا الأخير، وإنما في موعدنا الأول. في تلك
الدقائق القليلة التي سألتك فيها في مقهى "الموعد"، إذا كنت تسمحين لي
بالجلوس. وكنت على وشك أن تقولي "لا". ولكنك قلت "طبعا". ولم أكن أملك بعد
ذلك سوى حبل الكلمات لأطوقك به، وأوقف جموحك الفطريّ. يومها فقط.. جرّبت
رعب الاقتراب من فرس.
-ثم..؟
-ثم ها نحن معا أمام امتحاننا الأصعب. عكس موعدنا الأول، لسنا نحن الذين نختبر
بعضنا بعضًا اليوم، أو نقيس استعدادنا للصمود في وجه الحب، أو قدرتنا على
الإيقاع بغيرنا. إنما الحياة هي التي تختبرنا معاً، وتختبر الحب بنا. ولكي
ننجح علينا أحيانا أن نتساوى بالعشاق المفلسين، أن نتخلى عن ترف تملكنا
لمفاتيح شقة. ونعيد للحب جماليته.. واستحالته الأولى.
-جميل ما تقوله.. لولا أنك تجرب فينا نظريات في الحب، لا يمكن أن تنطبق على
واقعنا. أنت تنسى وضعي الاجتماعي.. وتنسى أنني موجودة معك هنا خلسة..
ومجازفة.
-لم أنس هذا. ولكن أنت نفسك قلت إنك لا تعيشين حبنا بخجل، وإنك تكرهين العلاقات
المستترة التي تعيش في ظلّ الشوارع الخلفية. فامنحي حبنا شرعية الضوء،
وشيئا من الكرامة التي تخرجنا من صنف السرّاقين.
-وماذا لو رآنا أحد معا؟ كيف أدافع عن تهمة معرفتي بك.. أو وجودي معك هنا؟
يقاطعني:
-تدافعين عن هذه التهمة! أي تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا
البلد! الذي أعجب له الأكثر، أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على
إخفائه الأكثر، والتهمة التي يتبرأون منها بإصرار. ما عدا هذا.. فبإمكانك
أن تكون مجرما أو سارقا وكاذبا وخائنا وناهبا لأموال الوطن.. وتفرد ما سطوت
عليه أمام الناس دون خجل، وتواصل حياتك بينهم محترما. أليس الأمر مدهشا؟
يضيف متذمرا:
-بين الذين أهدروا ماضينا، والذين يصرون على إهدار مستقبلنا، بين الذين أفرغوا
أرصدتنا، وأولئك الذين سطوا على أحلامنا، نظل نحن أثرياء الحب أشرف من
غيرنا.
يواصل وهو ينفض سيجارته بشيء من العصبية:
-مذ شلّت ذراعي، تعلمت شيئا: الأجدر أن يُعرّف الإنسان بما فقد وليس بما يملك.
فنحن دائما نتيجة ما فقدناه. ولكن لا أحد يسألك عن الذي فقدته؛ هم يسألونك
فقط عما تملك وأنتِ نفسك، لم تسأليني يوما كيف فقدت ذراعي، ومتى شلّت..
وكيف ؟ ألا يعنيك أن تعرفي هذا ؟
أقول معتذرة وقد باغتني بسؤال لم أجرؤ على طرحه:
-توقعت أن يكون في الأمر إزعاج لك.
يقول بسخرية المرارة:
-ولم يخجلني أمر لست فاعله؟ أتعرفين قصة بيكاسو، عندما رسم لوحته الشهيرة
"غرنيكا" مصورا فيها خراب تلك المدينة على أيدي الفاشيين. فجاء منهم من
يسأله "أنت الذي فعلت هذا؟" فرد عليهم بجوابه الشهير "لا.. بل أنتم ". لو
سألتني لأجبتك مثله: "لست أنا ..بل هم".
لم أفهم من كان يقصد بالتحديد.سألته:
-ومتى كان هذا..؟
أجاب وهو يسحب سيجارة جديدة، ويشعلها ببطء من يشعل فتيلة الذكريات:
-حدث هذا أثناء أحداث أكتوبر 1988.كنت وقتها أعمل مصورا صحافيا. فذهبت لألتقط
صورا لتلك التظاهرات التي اجتاحت فيها الحشود الشوارع دون سابق قرار. وكان
شيئا مذهلا ذلك الذي شاهدته: سيارات مسرعة.. وجوه مرعبة وأخرى مرعوبة، رصاص
طائش وصدور تتلقى قدرها بغتة. مدينة تحكمها الدبابات. كل شيء قائم فيها قد
أصبح أرضا، حتى أعمدة الكهرباء .
كان العسكر يضعون حاجزا بشريًا أمام الآف الشبان الذين راحوا يكسرون في طريقهم كل
شيء يرمز إلى الدولة، ويوجهون رصاصهم تارة في الهواء وتارة وسط الناس
لإخافتهم دون جدوى. بينما احتل جنود سطوح المباني الرسمية. أذكر أني حاولت
أن ألتقط صورة لعسكري وهو يقف على مبنى مقر الحزب، موجها رشاشه نحو الشارع،
وخلفه علم الجزائر. عندما انطلق رصاص من ذلك المبنى، واخترق ذراعي اليسرى.
ولم أدر إن كان العسكري قد اشتبه في أمري عندما رفعت آلة تصويري وتوقع أنني
أرفع سلاحا أم أنني تلقيت رصاصا طائشا كان موجها إلى أي شخص.
ثم واصل بنبرة غائبة:
-تصوّري تلك اللحظة التي نزلت كي أصورها، وتختزنها آلة تصويري اختزنها جسدي إلى
الأبد. وأصبحت ذاكرة جسد، أتقاسمها مع مئات الجرحى والقتلى الذين سقطوا في
تلك الأحداث.
مرة أخرى فاجأني هذا الرجل بقصة لم يكن مقررا أن يقصها علي اليوم بالذات في هذا
المكان وهذا الظرف بالذات.
وكعادته أجابني عن السؤال الذي عدلت عن طرحه لفرط ما طاردتني علامات استفهامه.
تأملته وهو يفك آخر زر في هذا المعطف الكثير الأزرار ويحل آخر لغز في تلك
الفوازير التي شغلتني عدة أشهر وكأنه بلغ حالة تعب من المراوغة وقرر أن
يهدي إلي أخيرا الحقيقة
بدا لي في عنفوانه أجمل من وهمي به.
قلت:
-أتدري أن الحقيقة تزيدك إغراء.
أجاب:
-تمنيت أن تزيدني احتراما فلا أعتقد أن بإمكاننا أن نحب أو نشتهي شخصا فقد
احترامنا ولذا حرصت أن لا أصغر في عينيك بسبب عاهتي.. والأجمل أن أكبر في
عينيك بها.
قلت:
-لم ألتق قبلك برجل ثمل كبرياء إلى هذا الحد..
أجاب:
-هل أفهم أنك تحبينني؟
كدت أقول "طبعا"ولكنني قلت:
-حتما..
واصل:
-أتأذنين لي أن أسألك إن كنت تحبين زوجك؟
أجبت:
-حدث أن أحببته.
-وهل أنت سعيدة معه؟
-لا أدري ..أحيانا اكتشف تعاستي ..ثم أعود فأنسى .
-ولماذا بقيت معه إذن؟
-لأنه زوجي.. لأنني وحيدة.. ولأنني متعبة ولا قدرة لي على اتخاذ أي قرار.
-ولكنك حرة في تغيير مجرى حياتك والانفصال عنه.
-أظنه أندريه جيد الذي قال"من السهل أن تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب أن تكون
حرا".قد أنجح في أن أتحرر من هذا الرجل رغم أني لا أتوقع أن يكون هذا أمرا
سهلا ولكن الأصعب أن تكون حريتي بعده فحياة امرأة مطلقة في بلد كهذا هي
عبودية أكبر إنها تتحرر من رجل كي يصبح كل الناس أوصياء عليها.
أصمت فجأة ثم أسأله:
-لو انفصلت عنه..فهل تتزوجني؟
يجيب بنبرة المفاجأة :
-أتزوجك؟ أنت تمزحين؟
-ألا يسعدك أن أكون امرأتك؟
-طبعا..لكن..
-ولكن ماذا؟
-أنا لا أملك شيئا يا سيدتي لا شيء مما تعودته في نمط حياتك كل ثروتي في بيت
للإمام الشافعي:
"غني بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشيء لا به"
-كل هذا لا يعنيني.. تلك الشقة التي تسكنها تكفينا لنكون سعيدين معا.. أنا أحبها.
-ولكن حتى تلك الشقة ليست لي أنا أقيم فيها مؤقتا فقط.
-ولمن هي إذن ؟
-إنها لعبد الحق.. ذلك الصديق الذي حدثتك عنه تركها بعد أن وصلته تهديدات بالقتل
فذهب ليعيش لمدة في قسنطينة حيث مازال أهله يقيمون وقد يعود إليها عندما
تتحسن الأوضاع.
-وكل ما في البيت له؟
-طبعا.
-وتلك المكتبة أيضا؟
-أيضا.
-وكتاب هنري ميشو الذي استعرته منك..هل هو له؟
-هو أيضا له..
تفاجئه أسئلتي التي تبدو لع غريبة بينما أصاب أنا بصاعقة الذهول وأدخل في حالة
صمت لا يجد لها تفسيرا.
سألني مازحا:
-مالذي يزعجك أكثر أن يكون ذلك البيت له؟ أم أن يكون ذلك الكتاب له؟
أجبته بابتسامة غائبة:
-لا شيء يزعجني من كل هذا.. ولكن فاجأني..
-وأنت أيضا فاجأتني. هذه أول مرة تطلب فيها امرأة يدي. قبلك طلب العسكر يدي
اليسرى وأخذوها في أحداث 88 مع آلة التصوير. أما اليمنى فما كدت أتحول إلى
الصحافة المكتوبة حتى أصبح الإسلاميون يطالبون بها! تصوري: أنا رجل مزعج،
اتفق الفريقان على قطع يديه. وعليك أن تقرري بسرعة إن كنت تريدينني حقا. قد
يأتي زمن لن يتمكن فيه أحد في هذا البلد من طلب يد صحافي للزواج!
أضحك لهذه "النكتة" ولهذه الروح الساخرة التي يخفي بها دائما حزنه. ولكنه لا
يشاركني الضحك.
أسأله:
-أنت قلمّا تضحك.. لماذا؟
-علمتني الحياة أن أبتسم عشر مرات قبل أن أضحك.. وأن أعيد صياغة كلماتي عشر مرات
قبل أن أنطق بها، ولهذا اخترت في الماضي مهنة التصوير. الصورة لحظة صمت
طويل.. إنها كالرسم، تجربة في الصمت.
-وماذا علمتك الحياة أيضا؟
-علمتني الصبر. أنا رجل من برج الصبر. وهذا آخر ما أريد أن أعلمك إياه.
يضع يده في جيبه ويخرج حاملة مفاتيح جلدية يضعها على الطاولة ويواصل:
-بيننا وبين المتعة مفتاح لا أكثر. ولكنني أرفض أن يتحكم هذا المفتاح فينا. وإلا
فسيكون في هذا إهانة للحب. أنا لا أقل عنك اللحظة رغبة ولا إشتهاءً بل إنني
أحوج منك إلى الحب، من حاجتك أنت إلى هذا الحبّ، وهذه المتعة ذاتها. ولكن
عندما نبلغ ذلك القدر المخيف من اللذة، كل متعة لا تزيدنا إلا جوعا. وعلينا
الآن أن نجرب لذة الامتناع، لنتصالح مع أجسادنا، لنعرف كيف نعيش داخلها
عندما لا نكون معا.. ولنكتشف جمالية الوفاء عن حرمان.
أقاطعه:
- لا أفهم، لماذا أغريتني بالخيانة، إذا كنت ستطالبني بالوفاء.. عن جوع!
يردّ ساخرًا:
-أنت تسيئين فهمي مرة أخرى. أنا لم أطالبك بشيء. أعددتك للإخلاص، دون أن أطالبك
بأن تكوني مخلصة لي..
-تمنيت أن تقول غير هذا. كان يسعدني أن تطلب مني ذلك..
-ولكن الإخلاص لا يُطلب؛ إن في طلبه استجداءً ومهانة للحب. فإن لم يكن حالة
عفوية، فهو ليس أكثر من تحايل دائم على شهوة الخيانة، وقمع لها. أي أنّه
خيانة من نوع آخر. ولذا أجد في تسمية الخيانة بالمغامرة قلبا للحقيقة. إنّ
المغامرة الحقيقية هي الوفاء.. لأنها الأصعب حتما.
-لماذا الأشياء معك معقدة دائما إلى هذا الحد؟ أريد منك كلمات بسيطة. كتلك التي
يقولها العشاق وهم على وشك غياب. كلمات جميلة في بساطتها. موجزة، مربكة،
ممتعة، موجعة. كلمات تذهلنا، تخترقنا ولا تغادرنا، لكنك لا تقول شيئا من
كلّ هذا.
-لا أريد لنا حبا يقتات بالكلمات، حتى لا يقتله عند البعد صمتنا. تريدين كلمات
قرأتها في الكتب، وشاهدتها في الأفلام، ولكن أجمل مما قرأته وما شاهدته
قصتنا.
توقف لحظة، ثم أضاف:
-عندما قرأت كتابك منذ ثلاث سنوات، تساءلت كيف يمكن لقصتي أن تبدأ حين انتهت قصة
خالد، في السنة والأحداث نفسها؟ تراني فقدت ذراعي فقط لأمنح الحياة ترف
مطابقتها لرواية، أم لأمنح الأدب زهو مواصلة قصة في الحياة ؟ أدركت الجواب
عندما التقينا. لقد تواطأ الأدب والحياة، ليهديا إلينا قصة الحب التي هي من
الجمال بحيث لم يحلم بها قارئ وكاتبة قبل اليوم. أنت نفسك كروائية تجاوزتك
قصتنا لأنها أغرب من أن تجرؤي على تصورها في كتاب.
أجيب:
-أعترف بأنني ما كنت تصورت أمرا كهذا. برغم كوني حلمت دائما بقارئ يأتي ليقاصصني
بكتاباتي. جميل كل ما يمكن أن يحدث لنا بسبب كتاب. ممكن أن نكرّم، يمكن أن
نسجن، يمكن أن نغتال، ممكن أن نُحَبّ، يمكن أن نُكرَهَ.. يمكن أن نُقدَّس،
يمكن أن نُنفى. فلا يمكن أن نخرج بحكم البراءة من كتاب. البراءة في هذه
الحالات، ليست سوى شبهة أن لا نكون في الواقع كتّابًا. العجيب في قصتنا أن
الحياة هي التي قرأتني وعاقبتني بتحويل ما كتبته إلى حياة. ربما لأنني كنت
كاتبة بنزعات إجرامية، تجلس كل مساء إلى مكتبها، ودون شعور بالذنب، تقتل
رجالاً لا وقت لها لحبهم، وآخرين خطأً أحبتهم، تصنع لهم أضرحة فاخرة في
كتاب، وتذهب للنوم.
أصمت. ثم أواصل بنبرة غائبة:
كيف كان لي أن أعرف أننا في كل ما نكتبه نكتب قدرنا؟ لشدّة ما تأتي الحياة متنكرة
في بساطة كتاب. في أي يوم، أمام أي نص، قد يكتشف أحدنا أن صفحة من كتاباته
قد وقعت في قبضة الحياة.. وأصبحت هي حياته.
يتوقف فجأة عن التدخين ويسألني متهكما لفرط حزنه:
-هل لي أن أعرف إن كنت تنوين قتلي؟
أرد مازحة:
-طبعا لا. أنت بالذّات سأستميت في الإبقاء عليك حياً.
وأواصل كما لتأكيد قولي:
-ثمّ إنّ خالد لا يموت في تلك الرواية.
يقاطعني:
-أدري.. يموت زياد. ولكن لا أرى حولي أحدا. أصدقائي جميعهم قتلوا.. لقد حان دوري،
أليس كذلك؟ أي رقم سيكون رقمي في قائمة الاغتيالات حسب رأيك؟
لا أدري إن كان يحدثني حقاً عن لعبة الكتابة، أم أنّ هاجسه الحقيقيّ كان الحياة،
أو على الأصحّ الموت الفعليّ فيها مغتالاً ككلّ رفاقه.
وقبل أن أجيبه يضيف:
-حياة.. أجّلي موتي قليلا. ولكن أحبّيني وكأنني سأموت. لقد وقعت على اكتشاف عشقيّ
مخيف. لا يمكنك أن تحبّي أيّ شخص حقاً، حتى يسكنك شعور عميق بأنّ الموت
سيباغتك، ويسرقه منك. كلّ الذين تلتقين بهم كلّ يوم، ستغفرين لهم أشياء
كثيرة. لو تذكّرت أنهم لن يكونوا هنا يوماً، حتى للقيام بتلك الأشياء
الصغيرة التي تزعجك الآن وتغضبك. ستحتفين بهم أكثر، لو فكّرت كلّ مرة، أنّ
تلك الجلسة قد لا تتكرر، وأنّك تودعينهم مع كلّ لقاء. لو فكر الناس جميعا
هكذا لأحبوا بعضهم بعضا بطريقة أجمل.
أسأله:
-وهل تفكر فيّ بهذه الطريقة نفسها؟
يردّ ضاحكاً من ذعري:
-معك.. أوجدت فلسفة أجمل. أنا أعمل لدنياي كأنني سأراك غدا. وأعمل لآخرتي وكأننا
سنموت معا! ولذا أنا أستعد كل يوم للقائك هنا.. أو هناك، بالتألقّ والشوق
نفسه.
أتمتم:
-أخاف إحساسك هذا. أشعر وأنا أستمع إليك بأن حبنا استغفال للحياة، وأنه لم يبق
لنا من الوقت سوى قبلتين وضمة.
-بل لنا متسع من العمر. وسأنتظرك في الحياة.. وفي الكتب. إن لحظة حب تبرر عمرا
كاملا من الانتظار.. هل تعين هذا؟
-أحاول ذلك.. ولكن كل شيء ضدنا.
- الحب ككل القضايا الكبرى في الحياة، يجب أن تؤمني به بعمق، بصدق، بإصرار،
وعندها فقط تحدث المعجزة. انظري مثلا بوضياف: رجل في الثانية والسبعين من
عمره. قضى نصف حياته في مكافحة الاستعمار، والنصف الآخر منفيا من وطنه. رجل
نُفِيَ حتى من الذاكرة الوطنية، أُلغي حتى من الكتب المدرسية. ثم جاء به
التاريخ، رئيسا بعد ثمانية وعشرين عاما من المنفى. أليس هذا أمرا مذهلا..
ورائعا؟ صدقيني إنها قضية وقت فقط..
-ولكنني أخاف الوقت.. إنه عدو العشاق
-بل هو عدو الثورات، الكبيرة منها.. وتلك الصغيرة المرتجلة. جميعها يقتلها الوقت.
وسننتظر موت الأوهام الثورية.
* * *
طبعا.. الوقت عدو العشاق.
ها هوذا يفرقنا. خطوات.. ويتوارى خيال رجل يعود إلى عتمته الأولى، مرتديًا سواده.
فأعود رفقة البحر مشيا على الأقدام. أمشي وتمشي الأسئلة معي. وكأنني انتعل علامات
الاستفهام.
نيتشه كان يقول "إن أعظم الأفكار، هي تلك التي تأتينا ونحن نمشي" فأمشي.
ولكن كل فكرة يأتيك بها البحر، تذهب بها الموجة القادمة.
كنت أعتقد أن الرواية هي فن التحايل، تمامًا كما أنّ الشعر هو فنّ الدهشة. ولم
أفهم كيف أنّ هذا الرجل الذي لم يكن مهيّأً لدور الشاعر، ولا لدور الروائي،
تمكّن من إدهاشي، والتحايل على كلّ حواسي إلى حد جعلي أمّية أمام الرجولة.
كيف دون أن يدري، كتب هذه القصة على قياسي، في هذا الكتاب الذي غيّرنا فيه أكثر
من مرّة، أماكننا وأدوارنا، كيف أصبح ذلك الصديق الغائب فجأة، هو البطل
الرئيسي.
فقد بدا واضحًا الآن أنه الرجل الذي جلس إلى جواري عند مشاهدتي لذلك الفيلم،
وأننّي ما فتئت أعيش بمحاذاته منذ ذلك اليوم. أشتمّ عطره.. أطالع كتبه..
أستمع إلى موسيقاه، أجلس على أريكته.. أتحدّث على هاتفه.. وأقع في حب بيته!
لم أفهم، كيف بغباء مثالي وقعت في فخ كل الإشارات المزورة التي وضعها الحب في
طريقي.
وإذا بي أثناء وهمي باكتشاف رجل، كنت أكتشف آخر.
لا أدري في أية محطة، أخطأت قطار الحب "الأول"، فأخذت قاطرة أوصلتني إلى حب آخر.
كسائح شارد يأخذ الميترو لأول مرة، كمغامر يكتشف قارة دون قصد. في لحظة شرود
عاطفيّ. أخطأت وجهتي. وقبلي أخطأ كولومبس، فاكتشف أمريكا. ومات وهو يعتقد
أنه اكتشف الهند.
يا للروائيين، كما البحارة هم يموتون دائما في لحطة جهل!
قطعا..لم تصل.
أنت المسافر في كل قطار صوب الأسئلة. من قال إنّك وصلت؟ من قال إنك تدري أين هي
ذاهبة بك الأجوبة؟ ف"الأجوبة عمياء ..وحدها الأسئلة ترى".
الوقت سفر..
مراكب محملة بالأوهام عادت، وأخرى بحمولة الحلم ذاهبة.
ضحك البحر لما رآني أبحر على زورق من ورق، وأرفع الكلمات أشرعة في وجه المنطق.
عساني أعرف..كيف كل هذا قد حصل.
الوقت مطر..
غيمة تغادر الهاتف. وتأتي كي تقيم في حقيبتي. وخلف نافذة الخريف، مطر خفيف.. يطرق
قلبي على مهل.
الوقت قدر..
يغلق البحر قميصه. يتفقد ليلاً أزرار الذكرى. يغلقها أيضاً بإمعان، حتى لا يتسرب
الملح إلى الكلمات.
ثم يرتدي صوته الأجمل. يدير أرقام هاتف.. يسأل:
وتجيب امرأة:
-ألو نعم!
الوقت ألم..
لماذا نحن نقول دائما"نعم" عندما نرد على الهاتف.. حتى عندما يكون الوقت "لا"؟
الوقت "لا"..
في بهو الحزن الفاخر، تعلّمي الاحتفاء ليلاً بالألم.. كضيف مفاجئ.
هو ألم فقط.. فلا تستعدي له كما لو كان دمعك الأول.
متأخّر هذا البكاء، لحزن جاء سابقا لأوانه، كوداع.
فالوقت وداع..
يقول الحب: ألو.. "نعم"
وتجيب الحياة: ألو "لا". والملح يتسرب عبر خط الهاتف يجتاحنا. بين استبداد
الذاكرة، وحياء الوعود. تتابع الأشياء رحلتها.. دوننا.
* * *
أغادر سيدي فرج فجرًا، قبل أن يستيقظ البحر، ويستبقيني بدمعة.
له كل ذلك الموج، ولي الملح، وطائرة تنتظر.
عندما جئت إلى هنا منذ أسبوعين، كان بودلير يرافقني بتلك المقولة الجميلة، التي
كانت تستبقه إلى كل سفر "الشهوة تناديني.. والحب يتوجني".
الآن، أترك عرش الحب خلفي. فالشرعيّة تناديني.. وقسنطينة تنتظرني. والحياة التي
استغفلتها وخرجت على قانونها، تعيدني إلى بيت الطاعة، متوجةً ببريق
الذكريات.
أعود إلى قسنطينة، متحاشيةً النظر إلى هذه المدينة.
كنت أتمنى لو أراها بعيون بورخيس عندما يرى بوينوس آيرس بعينين فاقدتي البصر.
عساني أحبّها دون ذاكرة بصرية.
أحيانا يجب أن نفقد بصرنا، لنتعرّف مدناً لم نعد لفرط رؤيتها نراها.
هنا شوارع نخاف من عيون عابريها، مطاعم لا نجرؤ على ارتيادها، بيوت لا يمكن أن
ندخلها معا.
هنا.. مدينة لا تعترف بالحب، إلا في أغاني "الفرقاني". لا تغادر بيتها إلا لتذهب
إلى المسجد، أو إلى مقهى. لا تفتح نافذة إلا لتطل على مئذنة.
وأنا جئتها بأعراض عشقية، وكلمات اسخيليوس في مواجهة أثينا:
"يا سيدتي.. تخلي قليلا عن الآلهة. واعطيني شيئا من شقائك العظيم.."
وهل أكثر شقاءً من عاشق في قسنطينة؟
زوجي قابلني بلطف مثير للشبهات، أو ربما أنا التي كنت أبالغ في تضخيم أخطائه. بل
أتربص بها، ليمكنني فيما بعد، المبالغة بعدم الشعور بالذنب تجاهه.
بدا لي سعيدا بعودتي. أو ربما كان سعيدا، لأسباب أخرى. فمذ جاء بوضياف، عاد شيء
من الأمان إلى قلوب الناس. وعادت الحياة الطبيعية إلى المدينة. ومعها تلك
الحمى التي تسبق الصيف دائما، وتذهب بالعائلات أفواجا إلى مروج عين الباي،
وجبل الوحش.
وبدأ الناس يجرؤون أخيرا على القيام بمشاريع قريبة أو بعيدة الأمد، مراهنين على
خروج البلاد من النفق.
هذه الطمأنينة المباغتة، جعلتني أتعلّم الاستكانة إلى الوقت والمكان، واثقةً
بكلام ذلك الرجل.
تراني تعلمت منه التفاؤل.. أم تعلمت التريث؟ حتى إنني كثيرا ما قاومت تلك الرغبة
التي تستيقظ داخلي، وتغريني بالتحري لمعرفة من يكون عبد الحق.
ماكان يربكني هو كوني حيث كنت، أواصل العيش بمحاذاته مادمت حتى هنا، أتقاسم معه
المدينة نفسها.
أحياناً.. كانت تذهب بي الأحلام، فأتصور مكاناً قد يجمعنا مصادفة، قد لا يتعرف
إلي، برغم أنه قرأني، بل كتبني طوال هذه القصّة مادام هو الذي أهدى تلك
الرواية لصديقه وأوصله دون أن يدري.. إليّ.
وحده كتاب هنري ميشو قد يدله عليّ. لو أنا أخذته معي. أما أنا فسأستدل عليه
بصمته، أو بتلك الكلمات القليلة التي كانت ميزته، والتي كعطره، سربها
لصديقه.
سأسأله:
-هل عرفتني؟
وسيجيب:
-طبعاً.
أو قد يجيب:
-حتمًا.
...الكلمتين الوحيدتين اللتين قالهما يوم جلس إلى جواري في قاعة السينما.
عندها سأعترف له:
-اشتقتك.. أتدري روعة أن نشتاق إلى شخص لم نلتقِ به؟
كنت أحلم، أتصور لنا أكثر من بداية. وأتصور لي أكثر من طريقة للعثور عليه. ثم
أعدل عن أفكاري، وأنا أتذكّر أنني أكرّر معه مغامرتي مع صديقه بكلّ
حذافيرها.
هذه المرة أيضًا، أنا أمام رجل لا أعرف اسمه. فعبد الحق ليس اسما عائلياً، ولا
يكفي للعثور على صحافي، لا أدري في أية جريدة.. ولا بأية لغة يكتب، ولا بأي
اسم يوقع مقالاته، في زمن أصبح فيه لكل صحافي اسمان.
في الواقع، كان يسعدني أن يكون هذا الرجل، لا أحد.
رجل لا اسم له بالتحديد. لا أوصاف، لا صفات مميزة، ولا أوراق ثبوتية.
فقد تعلمت من تجربتي السابقة. أنّ في ما نجهله جماليّة تفوق فرحتنا بمعرفة
الحقيقة.
ولذا، قرّرت أن أترك موعدي مع عبد الحقّ للحياة، تتدبره كما تشاء. حتى لا أفقد
عنصر المفاجأة.. وحتى لا أستعجل الخاتمة.
فعندما نعثر على الشيء الذي بحثنا دائما عنه، تكون بداية النهاية.
أما السبب الأهم لعدولي عن البحث عنه، فهو كوني كنت أجد في انشغالي الدائم
واللاشعوري به، شيئًا من الخيانة المستترة، لذلك الرجل الذي قضى موعدنا
الأخير، في إقناعي بالإخلاص، وكأنه كان يستبق الأحداث، أو كأنه كان يعرف
عني في كتابٍ، ما يكفي ليحذر نزعتي لحبّ صديقين في الوقت نفسه.
ألهذا أعطاني من شراسة الحب وتقلباته، كما لو كان أكثر من رجل. وقال وهو يودعني
على الهاتف ذلك الاعتراف الذي ألمني: "لا أملك إلا الحبّ.. لأردّ عنك
خطره".
ما كدت أذكره، بذلك القدر من التفاصيل، حتى عاودتني حالة من الاشتهاء له، حاولت
أن أهرب منها إلى الكتابة. ولكن..
لليد ذاكرة لا تنفك تطاردك بالسؤال عن جسد الفقدان. وأنا ما زلت لا أفهم، كيف أن
جسده الذي لم يكن الأجمل.. أصبح الأشهى إلى حدّ إرباك سكينتي، ومنعي لأيام
من الكتابة.
مر شهران..
كنت خلالهما أكتفي بوجبات الأحلام، ورشفات حبر سريعة، وأترك للآخرين ولائم
الضجر.. وقهوة النميمة.
فمنذ الأزل، كانت عقدة النار، كيف التوحّد مع الماء. وأنا لم أتقن يوماً، فنّ هدر
الوقت والجلوس إلى النساء. كنت سيدة الحزن، وكنّ خادمات لدى الفرح.
وأذكر الآن، تلك المقولة الجميلة "إن عظمة النار في كونها تحرق..وتحترق".وأفهم
لماذا، كنت منذ الأزل، لا أجالس غير الرجال.
فمع النساء لم أكن أحرق سوى أعصابي..!
وبرغم ذلك، قبلت يومها، حضور دعوة لدى إحدى القريبات، احتفالا بنجاح ابنتها في
امتحان ما.
كنا في نهاية حزيران. وكانت النساء من حولي يتبادلن أحاديث حول قهوة.. وأصناف من
الحلوى. وكنت أهرب من ثرثرتهن، وأسترق النظر أحيانا إلى جهاز التلفزيون
الذي كان مفتوحا.. لمزيد من الضجيج.
رحت أتابع بين حين وآخر، خطاب بوضياف الذي كان التلفزيون ينقله مباشرة، من دار
الثقافة في عنابة. ولكن،لم يكن يصلني منه الكثير فاكتفيت بتأمّله، لأوّل
مرة، دون أن أدري أنني أتأمل ذلك الرجل في حضوره الأخير.
حتى دون صوت، كان بوضياف يخترقك بعينين حزينتين، لهما ذلك الحزن الغامض، الذي
يجبرك على أن تثق بما يقوله.
عينان تعرفان تدرّب الوطن على الغدر منذ الأزل. عينان تغفران وتنسيان، مذ داهمهما
حزن المنافي، وإحساس عميق بخيانة الرفاق.
فلم يعد يغادرهما حزنهما ولا عادتا تقويان على الضحك.
وكان بو ضياف في وقفته الأخيرة تلك موليا ظهره إلى ستار القدر.. أو "ستار الغدر".
يبدو واثقاً وساذجاً وشجاعاً، وبريئًا.
فكيف لا يحصل له..كل الذي حصل؟
لا أدري عن أي شيء كان يتحدث لحظتها. أذكر أن آخر كلمة قالها كانت "الإسلام..".
وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء
الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويّها
الحضور ينبطحون جميعهم أرضًا .
ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر
المنصة من الستار نفسه.
كنا في التاسع والعشرين من حزيران.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة.
وكانت الجزائر.. تتفرج مباشرة على اغتيال أحلامها.
كان الجميع ينتظر سيارة الإسعاف التي لم تأت.
وكان علم الجزائر الموجود على المنبر، قد أصبح مصادفة غطاء لرجل ينام أرضاً. جاء
ليرفع رؤوسنا.. فجعلنا أحلامه تنحني في بركة دم.
ذلك كان قدر بوضياف مع حزيران الوطن.
منذ أربعين سنة، في الشهر نفسه، اقتاده رفاقه إلى سجون الصحراء.
ثم جاء به الوطن, كي يحكمه 166 يوما. وها هو يكافئه ذات حزيران.. بكفن!
وابل من الرصاص، مقابل خمسة أشهر من الحكم.
لم يمهلوه سبعة أيام فقط. كل ما كان يلزمه كي يصل به العمر حتى 5 يوليو عيد
الاستقلال الذي كان يريد أن يهدي فيه إلى الجزائر، خطابه المنتظر.
فجأة، توقف بنا القدر، كما تتوقف عجلات سيارة في الوحل، وهي في طريقها إلى مشوار
جميل.
فقد كان كل شيء جاهزا كي لا يخلف بوضياف هذه المرة موعده مع الموت، بما في ذلك
سيارة الإسعاف التي أضاعت طريقها إلى المستشفى وهي تنقله.. فكان آخر من يصل
من المصابين.
يوم موت بومدين، قال بوضياف "لقد كنت دائما على خلاف مع بومدين في كثير من
القضايا. ولكن عندما شاهدت جنازته شعرت بأنني ظلمته. فلا يمكن لرجل يشيعه
شعبه بهذا القدر من الفجيعة.. أن يكون قد أخطأ في حق الوطن".
أولئك الذين كانوا يطلقون الزغاريد من الشرفات عند سماع الخبر ويعلنون دون خجل
أمام التلفزيون شماتتهم بموته، ويتسابقون إلى المساجد متصدقين بولائم
"الكسكسى" احتفالا بدمه المسفوك.
والأربعون حرامياً، الذين كانوا يسعدون سرا.. أمام جثمانه، ويفركون أيديهم فرحا
بغنائم، يمكنهم مواصلة التناوب على السطو عليها لسنوات أخرى، أولئك الذين
ظنوا أن جثمانه قد يمر سهوا في غفلة من الوطن، أن موته قد يكون حادثا لا
حدثا في تاريخ الجزائر.
تراهم توقعوا له.. جنازة كتلك؟
انهيار صاعق للأشياء.
وطن يغمى عليه، يدخل حالة من الهستيريا، يبكي رجاله كالأطفال في الشوارع. يهتفون
"إنا هنا". تخرج نساؤه ملتحفات بالأعلام الوطنية، حاملات مع موتاهنّ صورة
رجل، لم يحكم كي تغطي صوره الشوارع... إنما كي تغطي صورة الجزائر صور
القتلى الذين يملئون صفحات الجرائد.
رجل لم يمش يوما باطمئنان على تراب الوطن، تحمله القلوب، أمواجا بشرية نحو
التراب.
رجل يمضي.. ويتركنا من جديد ليتمنا. نردّد خلفه.. امضِ "إنّا هنا". فيواصل
التاريخ بعدنا:
"نم.. ولا تهتم أبو ناصر.. إنهم هنا"
لم أغادر يومها البيت كي أشارك في تشييعه. كان حزني أكبر من أن أتقاسمه مع أحد .
ولكن في مكان ما من أعماقي، كنت سعيدة من أجله.
هذا الوطن الذي لم يهدِ إليه حياةً على قياس أحلامه، أهدى إليه جنازة على قياس
حياته.
جنازة لرجل عبر الحكم مشيا على الأقدام.. 166 يوما لا غير. ولكنها جنازة ليس في
متناول أولئك الذين حكموا أوطانا ربع قرن بجيش من المخبرين، متسلطين على
شعوب طحنها الذل الأزلي.
هؤلاء الواثقون من ولاء الدبابات لهم، عليهم أن يجربوا الموت مرة ليختبروا رصيدهم
في جنازة.. فيذهلو
* * *
أسبوعًا بعد آخر، موتًا بعد آخر، كنت أعي أنني أعيش عمراً قيد الإعداد. تصنعه
تارة أحداث كيرى، وتارة أحداث هامشيّة أخرى.
في كل لحظة، لأيّ سببٍ كان، يمكن لقدري أن يأخذ مجرى آخر.
فأنا امرأة تعيش بين رجال ثلاثة، حياتهم معلقة برصاصة القدر.
ويتصرف بأعمارهم وأقدارهم أولئك الذين يهندسون الموت والرعب كل يوم في هذا
الوطن.. ولا أدري متى سيسقط أحدهم قتيلا بتهمة، أو يسقط الآخر بنقيضها.
ولذا أصبحت مسكونة دائما بهاجس الصدمة، مهووسة بهذا الموت المباغت الذي أراه يحوم
حول كل من يحيطون بي.
بين أخي الأصولي الذي تطارده السلطة، وزوجي العسكري الذي يتربص به الأصوليون،
وذلك الصحفي الذي أحب، والذي يصفي الاثنان حساباتهما وخلافاتهما بدمه، كيف
يمكنني أن أعيش خارج دائرة الذعر؟
منذ سقط بوضياف قتيلا مباشرة على شاشة التلفزيون أمام ملايين الناس، كان واضحا أن
موسم الصيد قد فتح، وأصبح السؤال بعد كل موت.. من سيكون دوره الآن؟
كنت أحاول أن أستعين على الخوف بالكتابة، وغالبا بالحب، أستعيد كل ما قاله لي ذلك
الرجل وهو يهيئني لزمن كهذا.
ولكنه هو نفسه لم يعد هنا ليؤكد لي ذلك. منذ اغتيال محمد بو ضياف وأنا أحاول
الاتصال به دون جدوى.
كان مجرد طلبه هاتفيا من قسنطينه أمرا فيه كثير من المجازفة، وهو ما جعلني أحاول
الاتصال به كلما وجدتني عند إحدى القريبات، نظرا إلى كون هاتفي مراقبا..
بحكم أنه هاتف عسكري. وهاتف أمي كذلك بنية التجسس على أخبار ناصر وتنقلاته.
وهاتف ذلك الرجل أيضا موضوع تحت التصنت.. لكونه صحافيًا وعضوا في المجلس
الاستشاري. وهو الأمر الذي زاد من وحدتي وشعوري بأنني أعيش قدرا مضادا
للحب. ليس الجانب البوليسي سوى أحد أوجهه المخفيّة والمخيفة.
ذات صباح استيقظت، وبي رغبة للتحرش بالذاكرة. كنت قد تعبت من جثة الوقت بيننا،
بعد أربعة أشهر من الترقب. ولم أجد لي سوى مكان واحد قد يوصلني إليه، أو
إلى عبد الحق.
وهكذا أخذت أكثر قراراتي جنونًا. لبست أكثر ثيابي احتشاما. وغادرت البيت دون
زينة.. ودون السائق. ولا شي في حقيبة يدي سوى كتاب هنري ميشو "أعمدة
الزاوية"، الذي أخذته معي كي أحتمي به من نظرات الفضول وأستعين به على
انتظار قد يطول. وربما أيضا لأجعل ذلك الرجل يتعرف عليّ إذا ما حضر إلى
المقهى، ورآني أطالع كتابه الشخصي. وهو ما سيوفر علي ارتباك مبادرته
بالكلام.
مشيت خطوات على قدمي. كدت أتوقف لأشتري جريدة بعد أن أصبحت قراءة الجرائد إحدى
عاداتي السيئة مثلي مثل كل الجزائريين الذين يهجمون كل صباح على الجرائد عن
ضجر أو عن ذعر. وكأن شيئا ما حدث أو سيحدث.
ولكن هذه المرة عدلت عن الفكرة، تفاديا لما قد يلحقني من شبهات أخرى.. إن أنا رحت
أطالعها في مقهى وظن البعض أنني صحفية.
سعدت وأنا أوفّق على بعد شارع من بيتي، بسائق أجرة. فطلبت منه بكثير من التودد
إيصالي إلى مقهى الموعد. شعرت أن عليّ أن أثبت براءتي لكل من يصادفني..
بدءًا من السائق. فقد كنت أعي تماما أنني أقوم بعمل جنوني آخر.
في الواقع كنت أملك احتياطيا كافيا من الجنون يبدو أمامه رصيدي من العقل هزيلا،
ورصيدي من الصبر معدوما. وكنت سعيدة أن تكون ثروتي لا تتعدى روايات أكتبها
لنفسي لا تدر عليّ أي دخل.. ولكن يتدخل أبطالها في حياتي.. حد احتمال
إيصالي إلى حتفي.
في ذلك الطابق العلوي للمقهى، جلست أمام أمكنة الحب الشاغرة. أترقب رجلاً..
تعوّدت أن أنتظره بصمتي. أعبر إلى الوقت من غيابه. أتأمل طاولة في الزاوية
اليمنى، مستعيدة جمالية ألغام الرغبة، لحظة لقاء أول.
أكنت أنتظره حقا؟.. من الأرجح أنني كنت أنتظر صديقه بحجة أنه الرجل الذي سيزودني
بأخباره.. أو سيوصلني إلى عبد الحق.
حتما.. كنت موجودة هناك من أجل عبد الحق. ولذا وضعت كتاب هنري ميشو على الطاولة..
عسى يلحظه إن هو حضر.
كان في الطابق السفليّ صخب يخفي حزن الناس، ويأتي حتى طاولتي ليدخل الرعب إلى
قلبي. كيف لا عقل يحرسني من طيش رغبات صباح بارد، ولماذا بي افتتان برجال
مجبولين بالعصيان.. وبأقدار يتعذر الإمساك بها؟
رحت أحاول تشخيص حالة حبّ، تسبقها دائمًا أعراض كتابة، وتليها دائما فجيعة ما.
ما الذي جاء بي هنا؟ وأي إحساس قادني هذا الصباح في هيئة لا تصلح للقاء، وأجلسني
في مناطق منزوعة الرغبة، مقابلة لطاولة منزوعة الشهوات؟
إنها حتما حاستي الكتابية السادسة، تلك التي لا تخطئ.. والتي تعدني اليوم
بمفاجأةٍ ما.
كانت الأصوات الرجالية التي تصلني بأعداد أكثر كلما تقدم الوقت، تزيد رعبي، ولا
يقيني منها سوى وجود امرأة ورجل يتحدثان في زاوية قريبة مني. ولكن هما
نفسهما لم يكونا على قدر من الطمأنينة، فقد كانا مرتبكين.. وعصبيين.
ذلك الرعب أصبح فجأة عدوى جماعية قابلة للانتقال من شخص إلى آخر، ومشهدا عاديا
قابلا للتضخم يوما بعد آخر. وأنت تصغر أمامه حتى تصبح في حجم حشرة لا تدري
في جوف أي فريق ستنتهي، وفي أية وجبة سيتم أكلك. وبأية تهمة سيكون قتلك.
إنه المنطق العبثي والعشوائي للموت، في زمن الحروب غير المعلنة، تلك
العبثية الموجعة التي اختصرها خليل حاوي في ذلك البيت الجميل:
"كل ما أعرفه أني أموت
مضغة تافهة في جوف حوت"
لم يكن في المقهى ما يمكن أن يثير فضولي.
فرحت أتأمل بين الحين والآخر، شابًا في مقتبل العمر بهيئة بسيطة، يجلس على بعد
طاولة مني، يطالع جريدة.
بدا لي أصغر من أن يكون عبد الحق. وبرغم ذلك رحت أسترق النظر إليه عن ضجر. رافعة
أحيانا كتاب هنري ميشو تمويها، أو إشعارا لغريب قد يحضر. ثمّ فجأة، هممت
بمغادرة المكان عن يأس، أو بالأحرى عن خوف، وأفكار بوليسية تباغتني، خاصة
وأنا أتنبه لوجودي في مقهى يرتاده الصحافيون.
ماذا لو كان هذا الشاب الجالس على بعد خطوة مني يخفي مسدسا، ويختفي خلف جريدة
تربصا بأحد ما؟ فمعظم الاغتيالات ارتكبها شبان في العشرين يرتادون المقاهي،
أو يقفون متكئين على جدار وهم يطالعون جريدة.. في انتظار ضحيتهم.
كنت أجمع أشيائي مذعورة، وأترك ثمن قهوتي على الطاولة قبل مغادرة المكان، عندما
رأيته يفتح الجريدة على صفحة داخلية ويغرق في قراءة شيء ما.
وإذ بي ألمح في الصفحة الأولى من تلك الجريدة التي كان يرفعها، صورة كبيرة، أعرف
تماما ملامح صاحبها، وفوقها كلمتان بالفرنسية مكتوبتان بخط أسود كبير..
كلمتان جعلتاني أتسمّر في مكاني ذهولاً.
كنت أتوقع من الموت كلّ شيء.
تقريبا كل شيء، من نوع تلك المفاجآت الدنيئة، التي وحده يتقنها.
ولكن هذا الصباح، كانت الجريدة التي لم أشترها. تنقل لي الموت الوحيد الذي لم
أتوقعه.
فالبارحة فتح ذلك الحوت فكيه، وابتلع لوجبته المسائية من جملة من ابتلع - عبد
الحق!
أي قناص سادي هو القدر؟ يتخذ له زاوية منسية في حياتنا، ثم يأخذ في إطلاق النار
كيفما اتفق على من أحببنا، دون شعور بالألم.
قطعًا، لم أتوقع أن تكون لي مع عبد الحق، مفاجأتان، الأولى موته، والثانية صورته.
وكأنه كان لا بد أن يموت ليصبح أخيرا رجلا حقيقيا باسم كامل، ووجه، وملامح،
وقصة حياة.. وقصة موت.
بالنسبة إلي كانت القصة تبدأ من صورته. فأنا لم أنس هذه الملامح التي قضيت وقتا
طويلا ذات يوم في تأملها، بإعجاب سري في هذا المكان نفسه.
أكنت قد جئت إذن هنا، لأن الحياة كانت تهيئني هذا الصباح لمفاجآت قدرية ظالمة..
في هذا المكان الذي رأيته فيه لأول مرة؟
أجئت أشهد غيابه، وأتأمل طاولته الشاغرة دونه، لأكمل بحضوري دورة الفراق.. في قصة
لم يكن فيها سوى لقاء.. وكثير من صمت الغياب.
أثناء تفكيري، جاء أحدهم وطلب من ذلك الشاب الحضور معه.. لأنهم يحتاجونه في
المطبعة.
كان المسكين صحافيا إذن.. أو موظفا في جريدة. كدت احتضنه وأجهش بالبكاء، لو كنّا
بمفردنا. ولكنني لم أجد في صوتي شجاعة سوى لطلب تلك الجريدة منه.. فناولني
إياها.. ومضى.
لم تكن قدماي قادرتين على حملي. فعدت وجلست مكاني.
هذه المرة.. لم أكن أجالس وهما.. وإنما ألماً.
مهملا كان الحزن في ركن من هذا المقهى.. حيث طاولة مغلقة على سرها كبيانو تنتظر
رجلا تعود أن تأتيها ليكتب. وهي الآن صامتة دونه. وحدها تشاركني الحداد
عليه. وتسأل.. لماذا اختارها هي دون غيرها؟
أفتح الجريدة على صورته. فتؤلمني الكلمتان على بساطتها “ADIEU
ABDELHAK”.
أيكفي أن تضيف كلمة "وداعا" إلى أي اسم.. ليثير فيك كل هذا الألم؟
إنه عبد الحق إذن..
الرجل الذي كان يجلس بقميص وبنطلون أبيض على هذه الطاولة إياها.. في ذلك اليوم
الذي..
أذكر.. كان لا يتوقف عن الكتابة والتدخين. وطوال جلوسه وحيدا لنصف ساعة تقريبا،
لم يبادلني سوى الصمت، ولحظات من الشرود.
ثم جاء صديقه، في زيّ أسود. سلم علي من بعيد، وكأنه يعرفني. تحدثا طويلاً. كنت
أتساءل طوال الوقت، أيّهما ذلك الرجل الذي..
ثمّ فجأة، نهض اللون الأسود. ناولني صحنا من السكر، كنت سأطلبه من النادل.
أذكر، فاجأني عطره. أعادني إلى ذلك العطر الذي..
فرحت أختبره بكلمات اعتذار. وإذ به يجيبني بتلك الكلمات الصغيرة التي..
ولحظتها.. أفلتت حواسي مني. وأخذته مأخذ وهمي به.
لم أكن أدري أن الحب كان يسخر مني، مسربا كلمة السر نفسها لأكثر من رجل.
الآن أعي أنني يومها أخلفت، بفرق كلمة ولون، قطار الحب الذي كنت سآخذه.
فلحقت في لحظة من فوضى الحواس، بذلك اللون الأسود، وأخطأت وجهتي.
هو قال: "أجمل حبّ، هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".
وكيف لي أن أعرف الآن، إذا كان ما عشته معه هو أجمل حقًا مما كان مفترضا أن
أعيشه، لو أنني لحقت باللّون الآخر.
ولكن، أكان ثمة حقا.. لون آخر؟
لقد أصابني الحب يومها بعمى الألوان. وأربك فيّ أيضا حاسة النظر.
وأذكر أنني سألت اللون الأسود في أول لقاء لنا:
-قبلك لم أر رجلاً يلبس الأسود في هذه المدينة. حتى لو كان ذلك حدادًا.
فأجاب:
-وأيّ لون توقعت أن أرتدي؟
قلت:
-لا أدري.. ولكن الناس هنا، يرتدون ثيابا لا لون لها.
ثم واصلت بعد شيء من التفكير:
-صديقك أيضا يبدو غريبا عن هذه المدينة..
رد ضاحكا:
-لماذا..؟ ألأنه يرتدي الأبيض باستفزازية الفرح.. في مدينة تلبس التقوى بياضا؟
ثم واصل ساخرا :
-صديقي.. فرحه إشاعة. إنه باذخ الحزن لا أكثر، والأبيض عنده، لون مطابق للأسود
تماما.
لقد كنت في النهاية، أمام رجلين يرتديان، بطريقة مختلفة، اللون نفسه.
ويبدو واضحا الآن، أنه لم يحدث للحبّ أن سخر إلى هذا الحد، من امرأة كانت واثقة
من نفسها إلى ذلك الحد.
قطعًا..
الحبّ ليس سوى حالة ارتياب.
فكيف لك أن تكون على يقين من إحساس مبني أصلا على فوضى الحواس، وعلى حالة متبادلة
من سوء الفهم، يتوقع فيها كلّ واحد أنه يعرف عن الآخر ما يكفي ليحبّه.
في الواقع، هو لا يعرف عنه أكثر مما أراد له الحبّ أن يعرف. ولا يرى منه أكثر مما
حدث له أن أحب، في حب سابق.
ولذا نكتشف في نهاية كلّ حبّ، أننّا في البدء.. كنّا نحبّ شخصًا آخر!
من بين كلّ الميتات، جاء اغتيال عبد الحقّ، الأكثر صدمة لي.
هل أكثر ألماً من أن تدخل حياة أحد، وهو على وشك أن يغادر الحياة؟
هذا الرجل الذي لا أعرفه، وأعرف كلّ شيء عنه، ماذا يمكن للجرائد أن تضيف إلى
معرفتي به سوى تفاصيل موته، التي لا أريد أن أعرفها، والتي نشرتها كلّ
الصحافة الوطنية في صفحاتها الأولى، بصورة كبيرة له، وتحتها الكلمات نفسها،
بلغة أو بأخرى "وداعًا.. عبد الحقّ"
تعوّد الصحافيون هنا إنزال صور موتاهم، بالأحجام نفسها، ورثاء أنفسهم مسبقًا مع
سقوط كلّ صحافيّ جديد.
وعبد الحقّ نفسه لم يخالف القاعدة. ولذا لم يجدوا في الجريدة التي كان يكتب فيها،
أجمل من أن ينشروا في الصفحة الأولى جوار صورته الكبيرة، تلك القصيدة نفسها
التي كتبها غداة اغتيال صديقه الصحافي والشاعر الطاهر جعوط، وكأنه كان يرثي
نفسه بها.
إذ كلّ التفاصيل التي تميّز موت عبد الحقّ عن موت صديقه، تبدو مجرد تفاصيل.
ولم يعد مهمًا أن يكون الطاهر جعوط، قد اغتيل داخل سيّارته حاملاً أوراق مقاله
الأخير، إلى الجريدة، عندما باغته قاتلوه من الخلف وأطلقوا رصاصتين على
رأسه، بينما اختطف عبد الحق من أمام مسكن والدته في سيدي المبروك، وكان قد
حضر سرًا ليودعها قبل سفرها إلى "العمرة" أوّل أمس. وعثروا على جثته
البارحة، مقتولاً برصاصة في الصدر.. وأخرى في جبينه.
أي أنّه شاهد قاتليه وهم يطلقون النار عليه، دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه،
لأنه قتل وهو مغلول اليدين: ربطت يده اليمنى بحزام بنطلونه، واليد الثانية
بسلك حديديّ، متصل بالحزام أيضًا. ووجد منكبًا على وجهه على حافة الطريق.
ربّما يكون قد استعاد لحظتها، تلك الكلمات الأخيرة التي لفظها شي غيفارا وهو يرى
جلاّده قد صوّب رصاصه نحوه، غير مصدّق أن يكون ذلك الرمز قد أصبح في متناول
مسدسه، وهو ما جعل "غيفارا" يصيح به "أطلق النار أيها الجبان.. إنك تقتل
إنسانًا!".
وهي المقولة التي وضعها عبد الحقّ منذ شهرين عنوانًا لزاويته اليوميّة، عند رثائه
لصديقه الصحافيّ "سعيد مقبل" الذي لم يتردد قاتله في إطلاق ا لنار عليه
وجهًا لوجه وهو يتناول غداءه..
في النهاية، قضى عبد الحقّ الأشهر الأخيرة، في ابتكار ستّ وثلاثين طريقة، لرثاء
نفسه. وهي عدد أصدقائه ورفاقه في مهنة المتاعب المصائب.. والموت، الذين
سبقوه إلى تلك النهاية. ولذا لم يعد ممكنًا للموت أن يباغته على الأقلّ في
هذا المجال. فأيّةً كانت الطريقة التي سيأتيه بها، فقد استبقه ووصفها.
وأيّةً كانت الجهة التي سيأتي منها القتلة فقد استبقهم.. وشتمهم.. وتحدّاهم
بما يكفي ليعجّل موته، حاملاً الرقم "37" في قائمة الاغتيالات التي لا أحد
يعلم أين تنتهي.
عدت إلى البيت محملة بأكثر من جريدة باللغتين.
ها هوذا عبد الحقّ إذن..! أصبح بإمكاني الآن أن أطالع الجرائد.. وأعرف من هو.
"هذا السارق الذي يتسلل في الليل بمحاذاة الجدران عائدًا إلى بيته، إنه هو.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو. هذه الجثة التي يخيطون عليها
رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هذا الذي لا يعرف ما يفعل بيديه.. سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضد كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا.. وليس سوى صحافيّ".
كنت أحاول أن أكتشف حياته الأخرى باندهاش متأخر، كمن أحبت رجلا بالمراسلة، فعرفت
كلّ شيء عنه، ولم تمنحها الحياة فرصة التعرف إليه عن قرب. وها هي تطالع
الآن الجريدة كآلاف القرّاء المجهولين الذين يكتشفون هذا الصباح موت رجل لم
يلتقوا به. أمّا هو فلن يعرفها أبدًا.
تلك المرأة التي كان لها في حياته دائمًا، ذلك الحضور السريّ النكرة، كيف له أن
يدري ماذا فعل بها موته؟ هي التي عاشت في بيته، ونامت في سريره مع صديقه،
وتحدّثت مع رجل غيره على هاتفه، وطالعت دون علمه، كتابًا كان يحمل هواجسه،
واستعملت عطرًا كان له، وتقاسمت معه في عتمة قاعة سينما، اشتعالاً مباغتًا
للرغبة، ولحظة بكاء، وتبادلت معه على بعد طاولة في مقهى، ذبذبات حديث لا
يقال إلا صمتًا!
كلّ هذا، دون أن يتوقع وجودها في عالمه الحميميّ، على الطرف الآخر من حياته.
أنحتاج إلى موتنا كي نحبّ.. ونعرف أنّ ثمة من أحبونا؟!
في ذلك المساء، حاولت أن لا أطيل النظر إلى صورته. كي لا أكتشف على شفتيه، آثار
أخر امرأة قبّلها، فأحزن لها، أو تلك التي كان يمكن أن يقبّلها لو لم يمت،
فأحزن له.
تحاشيت عينيه اللّتين تنظران الآن إلى مكان واحد يراه، وشاربيه اللّذين كأحلامه،
يرفضان أن يتواضعا حتّى بعد موته.
وبرغم ذلك، وجدتني، بحركة تلقائية، أقتطع تلك الصورة، وأخفيها بين أوراقي.
في البدء، كنت أردت أن أقتطع تلك القصيدة، وأحتفظ بها في الدفتر الأسود نفسه،
الذي يعرف الكثير عن ذلك الرجل، عندما فاجأني إحساس قديم ومربك. فقد
أعادتني تلك الحركة إلى طفولتي البعيدة، إلى ذلك اليوم الذي اقتطعت فيه
صورة أبي من الجريدة، يوم تصدّرت منذ ثلاثين سنة الصفحات الأولى للجرائد،
بهذا الحجم نفسه، ولكن في حرب كان الغرباء فيها هم القتلة، وكان للموت فيها
تسمية أجمل من الجريمة.
أجل "كل حرب تغير لبعض الوقت تعريف الموت، وبهذا تفصل بشرخ سري بين الأجيال".
هيَذي تلك الصورة، في اصفرارها، معلقة أمامي مذ عثرت عليها، منذ بضعة أشهر، كما
توقّفت عندها نظرة أبي إلى الأبد، يفصلني عنها.. زجاج الوقت.
ويفصلها عن الوقت، تسمية جديدة للموت.
وجوارها صورة عبد الناصر ذاتها، تلك التي رافقت وجودها في بيتنا دائمًا، صورة
أبي، ولكن بحجم أكبر دائمًا. وكأنها تلخص في انكسار عنفوانها موتًا أكبر من
كلّ الميتات.. الموت قهرًا.
لقد كانتا حتى الآن، تختصران في حضورهما الصامت، صور كلّ الشهداء، وكلّ القضايا،
التي آمنت بها منذ طفولتي الأولى، دون أن أسأل نفسي لماذا.
تمامًا، كتلك المعتقدات التي نتربّى عليها، ولا نجرؤ على التشكيك فيها.
ولا يعنيني أن لم تعد الناصرية إلا في خانة المشاعر، أو في أسماء جيل حمل،
لمصادفةٍ تاريخيةٍ، اسم آخر محارب عربي.. بروح شاعر.
هل أجمل من أن يكون أبي قد أعطى لابنه الوحيد اسم "ناصر"، قبل أن يستشهد، وأن
يكون اسم الابن البكر لمحمد بوضياف، أيضًا "ناصر".. وأن يكون في مكتبة هذا
الرجل كتب عن عبد الناصر، وأن يترك لنا كلّ الذين يرحلون في فجيعة وطنيّة..
شيئًا من وهم القوميّة؟
كانت تراودني كلّ هذه الأفكار، بينما كانت يدي تفكّ إطار صورة. وتضع خلفها بطريقة
مستترة، صورة أخرى، بعد أن وجدت أنّه الطريقة الفضلى للاحتفاظ بها حاضرة
وغائبة في الوقت نفسه، كما كان صاحبها، وتفاديًا أيضًا لما قد يثيره وجودها
في مكتبي من أسئلة.
كنت أستعين بأبي، لأخفي خلفه رجلاً أحببته. فقد كنت أدري أنه وحده هو سيتفهم هذا.
فطالما جاءني الرّجال متنكرين فيه.
كنت أخبئ موتًا.. بآخر. وأغطي وطنًا بآخر. وأخفي تهمة حبّ خلف حبّ آخر.
وبإمكاني الآن أن أقول، وأنا أرى صورة أبي على مقربة مني، إنّ رجلا قد يخفي رجلاً
ثانيًا.. وربما أيضًا رجلاً ثالثًا.. وإني وحدي أعرف ذلك!
في اليوم التالي، استيقظت باكرًا على غير عادتي. والأرجح أنّني لم أنم.
كنت أبحث عن طريقة أعيش بها ذلك اليوم، بما يناسبه من جماليّة الألم.
حاولت أن أكتب، فلم أستطع.
كان ذلك الرجل الذي اختفى منذ شهرين، قد فرش لي حقولاً من الألغام في كلّ الطرق
المؤدية بي إلى الكتابة، ونجح في إقناعي بأنّ البياض هو الحدّ الأقصى لأية
مساحة روائية، وأنه الإنجاز الوحيد في أي كتاب، وأن كل رواية لا بد أن
تنتهي باحتمالات البياض.
فماذا أفعل إذن؟ وكيف أواجه هذا "الخراب الجميل" دون قلم؟ وأذكر أنه قال، يوم موت
صديقه:
"في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ والحروب البشعة الصغيرة التي لا
اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بمعاركها، الجنس هو كلّ ما
نملك لننسى أنفسنا".
سألته يومها:
-والكتابة؟
ضحك وأجاب:
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا!
فماذا أفعل اليوم بحزني؟
هل أمارس الحبّ إذن؟ ومع من؟ وكيف لي أن آتي المتعة بذريعة موت رجل تمنّيت أن
أكون له يومًا.. ولم أكن؟
تلك الرجولة التي جَلَسَتْ باستفزاز صامت بمحاذاة أنوثتي، تلك التي أردتها ولو
لمرة واحدة.. استكثرتها عليّ الحياة، وقدمتها وليمة للديدان.
وذلك الجسد الذي اشتهت شفتاي أن تغطياه قُبَلاً، بعد حين سيغطيه التراب. ولم يعد
بإمكاني أن أشعله ولو وهمًا.. لقد دخل عالم الصقيع.
و.."القبر بارد يا أمي.. أرسلي لي قميصًا من الصوف".
كنت أفضّل لو أن لقائي مع هذا الرجل، كان في يوم آخر، على انفراد، بعيدًا عن
البكاء والدعاء والصلوات. لو كان فيه شيء من الحميميّة، والشاعريّة، برغم
ما بيني وبينه الآن، من مسافة ترابيّة.
ولكن.. لابدّ أن أكون هناك، كي أواصل كامرأة نكرة، حضوري السريّ، في آخر مشهد من
قصة حبّ جئت أشيع فيها عن بعدٍ رجلاً أعرفه ولا يعرفني، وأبحث عن آخر
يعرفني.. وما زلت لا أعرفه.
ولذا وصلت تلك المقبرة، بتوقيت يكون معه الآخرون قد انتهوا من مراسيم الدفن، دون
أن يكونوا قد غادروا المقبرة تمامًا، عساني أعثر بينهم على ذلك الرجل.
قطعًا..جنازته لم تكن سبب حضوري.
فأنا سأشاهدها في نشرة الأخبار المسائية، مفصّلة، مطوّلة، ومؤثّرة دائمًا.. كما
جرت العادة.
فثمّة من لم يعنهم يومًا اغتيال الآخرين إلا بقدر ما يمكنهم في مناسبة كهذه،
التذكير بوحشية الطرف الآخر.. وساديته.
وبين لعبة الطرفين، كانت الأقلام تسقط رأسًا بعد آخر، ضحية الموت الإشهاري.
ألأنني توهمت دائمًا أن الحالة الإبداعية تجعل الموت مختلفًا، ذهبت إلى ذلك
المأتم كما نذهب إلى موعد عاطفيّ؟
وكما كليوباترا –التي وضعت كلّ زينتها، وتعطرت، وارتدت استعدادا لموتها، ذلك
الثوب الذي رآها فيه أنطونيو لأول مرة، كي يتعرف عليها هناك.. حيث سيلتقيان
بين ملايين البشر- مثلها، تجملت، وضعت عطر ذلك الرجل نفسه، الذي بدأت به
هذه القصة، وارتديت ذلك الفستان الأسود نفسه ذا الأزرار الذهبية الكبيرة،
التي تمتد على طوله من الأمام، والذي تعودت أن أترك زرّه الأخير مفتوحًا،
وأضع معه زنّارا أسود يشدّ الخصر ويرسم استدارات الأنوثة، وهو ما كان
يمنحني هيأة "ممثلة إيطالية" حسب وصف ذلك الرجل الذي كان يحبّ هذا الفستان
بالذات.. ويقول كلما رآني به:"الأسود يليق بك".
فأجيبه بنبرة غائبة:
-جميل قولك هذا.. إنه يصلح عنونًا لرواية قادمة!
قطعًا، لم أكن أرتدي الأسود حدادًا. كنت باذخة الحزن لا أكثر، باذخة الإغراء،
مفرطة التحدي.
لم أذهب إليه متنكرة في عباءة العفة: حماقة أن نواجه الموت في مثل هذا الثوب.
فقد اخترت هيأتي بنية إغراء رجلين، رأيتهما معًا لأول مرة في ذلك المقهى، وأنا
أرتدي هذا الفستان نفسه.
أحدهما لو حضر ليشيع الثاني، للمحني حتمًا حيثما كان، ولتعرف إليّ في هذا
الفستان، فأراه أخيرًا.
أمّا الثاني..
فلا يهمني أن أراه، بقدر ما يهمني أن يراني. وكأنثى لا أريد أن أبدو أمامه أقلّ
تألقًا ممّا يجب أن أكون في موعد أوّل.
يسعدني حقًا أن ألفت نظره، وأشغله عن موته بمفاجأة حضوري. أتوقع أن يلمحني. فوحدي
أحمل في يدي دفترًا، في مكان تأتيه النساء عادة محملات بالأرغفة، والتمر
للصدقة.
وحدي أيضًا فكرت في أن أحضر له علبة سجائر لليلته الأولى. بعد ذلك، سيكون عليه أن
يتوقف عن التدخين، لا لأن التدخين يضرّ بالصحة، وإنما لأنه لن يكون بإمكاني
أن أزوده بالسجائر دائمًا.
عندما توقفت في طريقي لأشتري هذه العلبة منذ قليل، نظر إليّ البائع شزرًا، حتّى
توقعت أن يطردني من محله.
امرأة تجرؤ على اشتراء سجائر في قسنطينة، لابدّ أنها على قدر من سوء الأخلاق.. أو
على قدر من الجنون.
وبرغم كوني لم أدخن سيجارة في حياتي، وجدت من الحماقة أن أتبرأ من تلك التهمة،
وأشرح له أن علبة السجائر ليست لي.. وإنما لرجل سيدفن بعد قليل.. وسيحتاجها
إذا أراد أن يكتب شيئًا هذا المساء. فأنا أتوقع أن لا يستطيع اليوم
بالذات.. أن يمتنع عن الكتابة.
في الواقع، أحببت دائمًا الكتّاب الذين تكمن عظمتهم، في كونهم يقولون لنا الأشياء
الأكثر ألمًا وجدية.. باستخفاف يذهلنا.
تمنيت دائمًا أن أشبههم، أولئك الرائعين، الذين يأخذون كلّ شيء مأخذ عكسه،
فيتصرفون هم وأبطالهم بطريقة تصدم منطقنا في التعامل مع الموت والحبّ..
والخيانة.. والنجاح.. والفشل.. والفجائع..والمكاسب..والخسارة. ولذا أحببت
زوربا، الذي راح يرقص، عندما كان عليه أن يبكي.
وأحببت ذلك البطل في رواية "الغريب" لألبير كامو، الذي حكم عليه القاضي بالإعدام،
لأنه لم يستطع أن يبرر عدم بكائه، عند دفن أمه. بل إنه يوم مأتمها، ذهب
ليشاهد فيلمًا.. ويمارس الحبّ رفقة صديقة جديدة.
وربّما كنت، منذ البدء، أبحث عن مناسبة كهذه، تمنحني فيها الحياة فرصة الذهاب
بجنوني عكس المنطق، وتهدي إليّ إمكانية فريدة لأن أجرب في الحياة بعض
المشاهد التي تمنيت بجنون الكتابة أن أعيشها.. لمتعة كتابتها بعد ذلك.
لسبب أجهله، ليس الحزن هو الذي كان يسكنني يومها، وإنّما شعور عارم بالتحدي، لم
تكن زينتي وأناقتي سوى بعض مظاهره الخارجية.
لا أظن أنني ذهبت كذلك لأتحدى الموت. الموت قدر من الله نتساوى أمامه جميعًا. ولا
أظن أيضًا.. أنني كنت امرأة بطلة؛ فقط.. كنت أتحدى القتلة، شاهرة التهمتين
اللتين جمعتهما: تهمة الأنوثة وتهمة الكتابة، تلك التي كانت تحديًا صامتًا
في يدي، ودفترا مغلفا على قصة، الكتابة فيها هي البطل الرئيسي.
في الواقع، في مواجهة الموت، الأنوثة كما الكتابة، ليست عزاءً على الإطلاق.
لأنهما تذكير دائم به. ولكن في مواجهة الجريمة.. ماذا يملك الكاتب عدا
كلماته.. وتلك الحياة التي مذ بدأ الكتابة.. لم تعد في جميع الحالات حياته؟
تمنّيت أن أقول كلّ هذا صمتًا، لذلك الرجل لو أنه جاء. أو ربما، تمنيت أن يأتي..
كي نواصل كتابة هذه القصة هنا..
هو الذي أراد في آخر موعد لنا.. أن نتساوى بالعشّاق المفلسين. ورفض أن نلتقي في
شقة عبد الحقّ. بإمكاننا الآن أن نلتقي في جنازته، ونتساوى حقًا.. بعشّاق
هذه المدينة الذين ضاقت بهم الحياة يومًا بعد آخر، فأصبحوا يلتقون في
المقابر، متنكرين في زيّ الحزن، جالسين على أي قبر يصادفونه، ليتبادلوا ما
شاؤوا من حديث الوجد. فوحد الحبّ يملك هذه القدرة الخارقة، على جعل كلّ شيء
جميلاً، حتّى لقاء عاشقين في مقبرة!
وبرغم هذا.. فحتّى موعد عاطفي على هذا القدر من الألم، لم يكن ينتظرني هناك، حيث
وقفت بعيدًا بين القبور، على مسافة وسطيّة، بين الألم، وما يلزم من الجأش
للتدقيق في وجوه عشرات الرجال، الذين وحدهم دون النساء، يملكون حقّ مرافقة
الموتى، والذين رحت أبحث بينهم عن رجل لا يشبه أحدًا.. ولا يشبه شيئًا، ولا
يمكن له أن يخلف موعدًا كهذا.
ثمّ انسحب الجميع، بعد أن أودعوا حملهم جوف التراب ورحلوا، لأجد نفسي في موقف
عجيب، شبيه بمشهد سينمائي صامت لفيلم بالأسود والأبيض. وأنا في كلّ تألقي
الأسود، أقف وحيدةً وسط ذلك الديكور الرخامي الشاسع البياض، وذلك الدفتر
الأسود في يدي.
عسى ذلك الرجل، إن جاء.. أن يستدلّ به عليّ.
ولكنّه لم يأت.
وكلّما تقدم بي الانتظار، تحوّل إحساسي بالتحدي، إلى إحساس عارم بالحزن والخيبة.
فأنا كنت أريد أن أتحدى به.. ومن أجله. أتراه تغيّب ليتحدّاني بغيابه؟ وكيف
له أن يخلف موعدًا كهذا، وعبد الحقّ أقرب صديق إليه؟ تراه مسافرًا، ولم يعد
بعد؟ أم تراه ما زال في هذه المدينة مسافرًا عن نفسه داخل الوطن.. وقد يعود
ليزور هذا القبر على انفراد؟
أم.. تراه الآن يمارس الحبّ مع امرأة أخرى، ليشيّع فيها عبد الحقّ على طريقته؟
لا أدري كيف، قبرًا بعد آخر، كانت الأسئلة تتقدم بي نحو الرجل الآخر. حتى تلك
الخطوة الأخيرة التي أوصلتني إليه.
كان جثة أحلام.. تنام تحت كومة من التراب الذي تغطيه باقات الورود.
الأغرب أنني لم أبكِ.
فقد كنت لحظتها أواصل الكتابة، وأبحث عن الكلمات المناسبة لأصف هذا الموعد
العجيب. أستعيد في ذهني بعذ المقاطع والخواطر من كتاب هنري ميشو تلك التي
وضعها هذا الرجل تحتها خطًا.. أو كتب جوارها تعليقاته.
وأستعيد تلك القصيدة التي كتبها في رثاء (الطاهر جعوط) والتي نشرت البارحة من
جديد جوار صورته وخبر نعيه، والتي اقتطعتها، وخبأتها في هذا الدفتر
الأسود..
فاجأتني رغبة في قراءتها من جديد. فأخرجتها ورحت أكتشف وقعها عليّ هنا.
أكنت أقرأها لنفسي أم له، بصوت خافت يسمعه لأول مرة، منذ ذلك اليوم الذي جلست فيه
جواره في قاعة سينما، ولم نتبادل سوى كلمتين؟!
ها هو.. ما زال الصامت الأكبر، حتّى في دوره الأخير، وما زلت وحدي أواصل الحديث
إليه.
تمت.
خاتمة
"مذهول به التراب
خرج ذلك الصباح
كي يشتري ورقًا وجريدة
لن يدري أحد ماذا كان سيكتب
لحظة ذهب به الحبر إلى مثواه الأخير
كان في حوزته رؤوس أقلام
وفي رأسه رصاصة
ولذا.. لم يضعوا وردًا على قبره
وضعوا ما اشترى من أقلام
ولذا لم يكتبوا شيئًا على قبره
تركوا له كثيرًا من بياض الرخام
ولذا.. لن تعرفوا إليه
هناك، حيث كلّ القبور
لا شاهدة لها سوى قلم
وحيث كلّ مساء
تستيقظ أيدٍ لتواصل الكتابة"
أعتقد أن صوتي قد مات مع آخر بيت، وأنني عندما أغلقت الدفتر على تلك القصيدة، بدا
وكأنني أصبحت جزءًا من مشهد سينمائي.
ألهذا لم أبك، وأنا أضع ذلك الدفتر على كومة التراب وأمضي؟
بل لم أحاول بعد ذلك أن ألتفت خلفي لأشاهد لآخر مرة ذلك المنظر الذي لن يتكرر بعد
ذلك أبدًا، والذي بإمكاني بعد الآن أن أصف في روايات قادمة، وقعه على نفسي.
لأنه حدث بالفعل.
منذ سنتين، وأنا أريد أن أختبر مرةً واحدةً، هذا الشعور الذي ينتابك عندما تضع
مخطوطًا على قبر وتمضي، غير متحّسر على شيء.
وها أنا قد فعلت، دون أن أخطط للأمر تماما، ودون أن أتوقعه أصلاً. فهذا الدفتر
أحضرته كي أعطيه للرجل الآخر. ولكن وقد غاب، لم أقاوم فكرةً جنونية
راودتني.
أمام المواقف غير المتوقعة التي تضعنا فيها الحياة، أحبّ أن يتّبع المرء مزاجه
السريّ، ويستسلم لأول فكرة تخطر بذهنه، دون مفاضلتها أو مقارنتها بأخرى.
فالفكرة الأولى دائمًا على حقّ، مهما كانت شاذة وغريبة، لأنها وحدها
تشبهنا.
وكانت تلك الفكرة، تشبه كاتبةً عرفتها.
تشبهها إلى درجة جعلتني أعتقد أنني أثأر لها من زمن بعيد، كانت تتسلى فيه بخلق
أبطال من ورق، وقتلهم في كتب، مطابقة لمنطق الحياة في الحبّ والقتل دون
سبب.
حتّى راحت الحياة بدورها، تلعب معها، لعبة تحويل كلّ ما تكتبه إلى حقيقة.
أكانت تتحرش بالحياة؟ وإذ بالحياة تعيد إصدار كتابها، في طبعة واقعية، وإذ بها
القارئة الوحيدة لنسخة مزورة، تكفل القدر بنقلها طبق الأصل عن روايتها، بعد
أن أدخل عليها بعض التغييرات الطفيفة في الأسماء، أو في تسلسل الأحداث، كما
في كلّ السرقات الأدبية!
أغرب ما يمكن أن يحدث لكاتب، أن يكتشف أنه مع كلّ صفحة يكتبها، يكتب عمره الآتي.
وأنه برغم ذلك لا يستطيع رفع دعوى على الحياة لأنها طابقت خياله، وقلّدت
قصته تقليدًا فاضحًا.. فعادة يحدث العكس!
ذات يوم، كتبت تلك الكاتبة رواية، بنية استباق الألم، فقتلت أحبّ الناس إليها.
طبعًا، لم تكن تتوقع أنها تكتب قدرها. ومثل بطلها ستعود إلى الجزائر على عجل، على
متن طائرة للحزن، بتوقيت حظر التجول، محملة بمخطوط تلك الرواية نفسها.
وأمام ذلك الجمركي العصبي نفسه، الذي سينبش في حقيبتها بالإصرار نفسه، لن
تجد شيئًا تصرّح به سوى مخطوطتها، وتلك الذاكرة التي جاءت لتدفنها.. وهي
تدفن أباها.
أمام قبره لم تبكِ.
كانت مشغولة بالتساؤل: لماذا مات الآن؟ لماذا مات اليوم؟ لماذا بعد بوضياف بثلاثة
أشهر؟
لماذا قبل صدور الكتاب بأسبوعين.. وقد انتظره عدة سنوات، كلّ تلك السنوات التي
كان يزودها فيها بالمعلومات عن مدينة لم تزرها، اسمها قسنطينة، وبذاكرة
أتعبه حملها بمفرده؟
أرحل كي يترك مكانا أكبر لذلك الكتاب، وكأن الحياة لا يمكن أن تسعهما معا؟
أو كأنه وهو الشاعر، رحل كي يصبح ذلك النصّ بموته أجمل؟
أم فقط، لأنهم في زمن الميتات الملفقة، والسيارات المفخخة، فخخوا أحلامه، وأطلقوا
الرصاص على ذاكرته أمامه، فدخل عمر الذهول، لا عن شيخوخة، ولكن لأن الوطن
كان يدخل سنّ اليأس، وهو لم يكن له من عمر يومًا، سوى عمر الوطن.
حتمًا.. كان عليه وهو رجل التاريخ أن لا يخطئ في اختيار تاريخ موته.
وهي تذكر صباح أوّل نوفمبر..
وذلك النشيد الوطني الذي كان يدوي في كلّ المستشفى العسكري، وهم يخرجون جثمانه.
حتى بدا لها وكأنهم يعزفونه من أجله.. أو كأنه يستوقف حامليه ليسمعه للمرة
الأخيرة:
قسمًا بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا.. فاشهدوا.. فاشهدوا
كانت سيارات الإسعاف العسكريّة تغطّي لحظتها على النشيد الوطني، وتشق الطريق
بصفاراتها، لتلقي على الأسرة المتحركة جنودًا جزائريين سقطوا بسلاح جزائري.
بعضهم جرحى، وبعضهم جاؤوا مشوهي الجثث لينتظروا أهلهم في براد.
ولذا نسيت يومها أن تبكي أباها، وراحت تبكي النظرات الفارغة لجنود لن يدركوا
يومًا لماذا ماتوا.
عندما زارت قبره في اليوم التالي، حاولت أن تكون جميلة. تزينت كعادتها كي تتميز
بمظهرها عن جميع النساء من حوله، وكي تمنحه –كعادته- زهو المفاخرة بها في
مجلسه الأخير.
كانت ترفض وهي أحب مخلوق إليه، أن تتساوى بمن جئن ليبكينه يومًا.. ويذهبن.
ثمة حزن يصبح معه البكاء مبتذلاً، حتّى لكأنه إهانة لمن نبكيه.
فلم البكاء، مادام الذين يذهبون يأخذون دائمًا مساحة منا، دون أن يدركوا، هناك
حيث هم، أننا، موتًا بعد آخر، نصبح أولى منهم بالرثاء، وأن رحيلهم كسر
ساعتنا الجدارية، وأعاد عقارب ساعة الوطن.. عصورًا إلى الوراء؟
الأغرب يومها، أنها تركت الجميع متحلقين حول قبره، وذهبت امام دهشتهم، تبحث عن
قبر آخر.
في تلك الباحة الشرفية للموت. حيث ينام كبار شهداء الجزائر.
تحت باقات الورود الرسمية، التي وضعت توًا على قبورهم بمناسبة اول نوفمبر، توقف
أمام قبر بوضياف.
غير أن قبرًا صغيرًا، أثار فضولها بتواضعه، ووجوده على يمينه، ببساطةِ من يعتذر
عن المساحة التي يشغلها هناك.
هوذا إذن.. سليمان عميرات، الرجل الذي لم تسمع باسمه قبل ذلك اليوم، الذي أفردت
له الجرائد صفحاتها، لتنعاه في موته الغريب، الموجع.
لم تتوقع أن يكونوا أهدوا إليه قبرًا صغيرًا جوار بوضياف، وأنه منذ ذلك اليوم
الذي سقط فيه ميتًا بسكتة قلبية، عند أقدام جثمانه، لم يفترقا.
انتهى به المشوار هنا.
من عامه السابع عشر إلى عامه السبعين، وهو متورط مع الوطن، منخرط في حبّ الجزائر،
حتى الموت. عرفته سجون فرنسا، وسجون الجزائر الثورية. حيث بقي عدة سنوات
متهما بجرم المطالبة بالديموقراطية..
أما في آخر مقابلة تلفزيونية له، وكان قد أدرك خطر وقوع سلاح الديموقراطية في يد
من لا يؤمنون بها إلا مطية، فقد صرح: "لو خيرت بين الجزائر والديموقراطية..
لاخترت الجزائر".
وها هوذا اختار.. الموت قهرًا عند أقدام الوطن.
الوطن؟ كيف أسميناه وطنًا.. هذا الذي في كلّ قبر له جريمة.. وفي كلّ خبر لنا فيه
فجيعة؟
وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم ان نموت من اجله.. وإذ بنا نموت على يده.
أوطن هو.. هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه، باغتنا بسكين، وذبحنا كالنعاج بين
أقدامه؟! وها نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال، كانت لهم قامة
أحلامنا.. وعنفوان غرورنا!
بين قبرين، لا تميز أحدهما عن الآخر سوى بعذ الوجاهة الرخامية، رأيت تلك المرأة
تجهش بالبكاء، فتتغير هيأتها وتصبح امرأة ككل النساء الناحبات هنا.
لم أستطع أن أفعل شيئًا من اجلها. فقد أصبحت في لحظة امرأة لا أعرفها، حولتها
الفجيعة إلى امرأة أمية، بطقوس حزن بدائية، وبنحيب مفاجئ مزق الصمت حولها.
وكأنها كانت تريد أن تقلد ذلك الرجل في موته. وتختبر حالة يمكن فيها، من
البكاء، الموت قهرًا أمام قبر.
أهكذا ماتت الخنساء وهي تبكي أخاها؟ ولم هي تبكي هكذا على كل قبر تصادفه خطاها،
أفي كلّ قبر لها صخر؟
لم يكن بإمكاني أن أسألها لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا هما؟
هذه المرأة الغريبة الأطوار، لا تملك أجوبة عن أسئلة بديهية، وإلا لما تركت الناس
يبكون اباها.. وراحت لتبكي غيره.
شيء فيها، أصبح فجأة يخيفني، ويصيبني بالذعر. فتركتها يومها عند قبر بوضياف
تنتحب، وغادرت المكان على عجل.
هذه الذكريات التي فاجأتني. فقط لأنني وضعت ذلك الدفتر على قبر ومضيت، لم تغير
مزاجي، أو على الأقل، لم تغيره حدّ استدراجي إلى البكاء.
في الواقع، لم أكن أشعر بشيء. لا شيء على الإطلاق.
فجأةً، كما في انقطاع كهربائي، إثر ضغط عال، توقفت داخلي الأحاسيس، وأصبحت
الأشياء حولي تحدث لامرأة أخرى غيري.
أما أنا فكنت أشعر بخفة، وشيء شبيه بالسعادة، التي لم أجد لها من تفسير، إلا
عندما تذكرت أن سببها ذلك الدفتر الذي تركته خلفي، غير معنية بمصيره.. ولا
بتلك المكاسب الأدبية التي كان يمكن أن أجنيها من وراء نشره.. بعد أن قضيت
عاما كاملا في كتابته.
الحقيقة، هي كوني خفت إن أنا احتفظت به، أن يحلّ بي ما حلّ بتلك الكاتبة، التي لم
تغفر لنفسها أبدًا ترددها في وضع مخطوط روايتها على قبر أبيها.. والعودة
إلى منفاها.
هي التي حملته إليه يوم موته، لتقول له كمن يعتذر عن غياب: أنها خلال السنوات
الطويلة التي لم تحضر لزيارته، ولم تره فيها، كانت مشغولة عنه بالكتابة
إليه.. ومن أجله.
طبعًا.. كانت تكذب. هي كانت تكتب من اجلها. وإلا لكانت يومها، تركت ذلك المخطوط
على قبره.. ومضت.
ولأنها لم تجرؤ على ذلك، لم تستطع بعدها أن تكتب شيئًا.
أعوام من الصمت لتعاقب نفسها على جريمة تفضيلها الآف القراء، على قارئ واحد، لن
يقرأها ووحده يعنيها.
ربما بسبب جبنها في ذلك اليوم، تغيّرت نظرتي إلى الكتابة، وإلى وجاهتها، وإلى زهو
شهرة تنزل عليك مصادفة بسبب كتاب، والتي ليست إلا تذكيرًا بخيانة لقارئ
واحد. نسرق منه بذريعة أو بأخرى مخطوطًا كتب له. كي نصنع منه الآف النسخ
المزورة لقراء لا يعنيهم أمرنا.
قطعًا.. في كلّ نجاح لكتابٍ خيانةٌ لشخص.
* * *
هي الحياة إذن..
قطعًا.. "لا يحدث للإنسان ما يستحقه.. بل ما يشبهه".
فلمَ الألم..؟ ما دامت تلك النهايات تشبهنا.. حتى لكأنما الموت يجعلنا أجمل؟
رحم تقذفنا إلى رحم. ونحن الذين تساوينا في المجيء، لن نسأل لمَ يكون الميلاد
واحدًا.. ويتعدد الموت إلى هذا الحدّ؟
مع غارات الحزن الّليلية، اغتالني عطر رجل مات توًا، تاركا لي رائحة الوقت..
ومدينة جبلية يحلو لها أن تخيفك بجسور الاستفهام.. وأودية شاهقة الفجيعة.
في كمائن المواعيد التي نصبتها لي الحياة، راح القدر عروةً.. عروة، يفكّ بذلك
البطء المتعمد أزرار الوهم.
ذاك الذي حصل.. أكان حبًا بصيغة الافتراض؟
كان يعرف عنها ما يكفي ليحبها..
كانت تعرف عنه ما يكفي لتحبّه..
قطعًا.. لم يكن أحدهما يعرف الآخر بما فيه الكفاية!
برغم حزني.. غادرت المقبرة شبه سعيدة.
إذا كان كلّ فرح يحمل قدرًا من الحزن، فلا عجب أن يحمل الحزن أيضًا شيئًا من فرح
نستحيي أن نسميه، ولكن يعرفه المبدعون تمامًا.
أجل، كانت تسعدني فكرة التخلص من ذلك الدفتر، فقد أتعبني البقاء عامًا على قيد
الكتابة، بحجة أنها وسيلتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
حتمًا.. ليس هذا صحيحًا. ليس فقط لأن الكتابة هي الوصفة المثلى لإنفاق حياتك خارج
الحياة، ولكنها في هذا البلد بالذات، هي التهمة الأولى التي قد تفقد بسببها
حياتك.
ولذا قررت بعد هذا الدفتر، أن أقوم بمحاولة اكتشاف فضائل الجهل، ونعمة أن تكون
أميًا، في مواجهة الحبّ، وفي مواجهة الموت.. وفي مواجهة العالم.
لا أدري إذا كان انحداري نحو الجهل، سيكون سهلاً. ولكن لطالما صدّقت مقولة جبرا
ابراهيم جبرا "الكاتب.. هو الذي يستطيع الصعود والنزول على سلم الحياة
بسهولة تامة".
ربّما، لأنني قضيت حياتي على درجات ذلك السلّم، صاعدةً نازلةً.
دون أن أعطي انطباعًا للآخرين بأنني لاهثة.
في الواقع، وحدها الكلمات كانت تلهث داخلي.. ولهذا أنا كاتبة.
عدت إلى البيت، امرأة منزوعة الشهوات. لم يبق لها من تلك القصة سوى عطر اختزنه
جسدها. وما زالت تتعطر به لتتحرش بالذاكرة.
الرائحة.. هي آخر ما يتركه لنا الذين يرحلون.
وأول ما يطالبنا به العائدون.
وكلّ ما يمكن أن نهدي إليهم، لنقول لهم إننا انتظرناهم.
ولذا، لم يخطئ ذلك العاشق الرائع، الذي يدعى نابليون، عندما بعث يزفّ خبر نصره
إلى زوجته طالبًا منها أن تحتفظ له برائحتها، قائلاً:
"جوزفين.. لا تستحمي.. إني قادم بعد ثلاثة أيام!".
منذ نابليون، لم يوجد قائد عسكري يتقن الحديث إلى النساء. وينهزم أمام الأنوثة..
بالعظمة نفسها التي يهزم بها الأعداء.
ولذا.. سآخذ حمامًا.. وأنام هذا المساء!
وربّما جلست إلى أمي، بعد أن أهملتها كلّ هذه الفترة، وأهملت أيضًا ناصر، الذي لا
تنفك أمّي تطالبني بالكتابة إليه. ولكنّني لا أفعل، لانشغالي بذلك الدفتر..
وبتلك الحياة الوهميّة.
ما كدت أتخلّص من عبودية الكتابة، حتّى عاودني الشوق إلى ناصر. شوق مخيف في
مباغتته وفي تأنيبه.
كيف تخلّيت عنه كلّ هذا الوقت، دون أن أفكر في ما قد ينتظره هناك من مقالب أخرى
للحياة؟
كيف استطعت أن أعيش كلّ هذا الوقت دونه ودون نبرته المتذمرة.. وتعليقاته
الساخرة.. وحنانه المكابر الذي لا يمكن لكلّ كلمات العشق الرجاليّة أن
تعوّضه لديّ.
قررت أن أكتب له رسالة طويلة.. جميلة.. موجعة.. مربكة.. كنصّ عشقيّ. أردت أن أجرب
عليه نزعاتي الإجراميّة.. أن أسعده.. أن أبكيه.. عساني استعيده برسالة.
حتّى أنني قلت له إنني أفكر في الطلاق، إن كان هذا الأمر يرضيه..
كنت أريد أن أحتفي بعودتي إلى الحياة، وأعطي إشعارًا لمن حولي بذلك. أن أتقاسم
معهم حياتهم العاديّة، بمشاغلها وتفاهتها اليوميّة، بأحاديثها وضجرها..
بأفراحها وحزنها ومخاطرها، أن أعود أخيرًا امرأة طبيعيّة بعائلة وبيت.
زوجي استفاد من اهتمامي المفاجئ به، لينقذ علاقة اجتاحها فتور لم يجد له سببًا.
فراح يحاول استعادتي بالتفاتات صغيرة.
أمّي كعادتها، لم تفهم شيئًا ممّا حلّ بي، واكتفت باجتياح كلّ برنامجي.
البارحة مثلاً.. قضت النهار وهي تُملي عليّ رسالة إلى ناصر.
وهذا الصباح، ما كادت تستيقظ حتّى طلبتني لتذكّرني بإرسالها.
كدت أسلّمها إلى زوجي، ليتكفل بها. ولكنّي تنّبهت أنني لا بدّ أن أخفي عنه
العنوان الذي يقيم فيه ناصر.
وهكذا لم يكن أمامي، إلا أن أرتدي ثيابي، وأذهب لأشتري من محلّ القرطاسيّة ظرفًا
وطوابع بريدية.
كنت أغادر البيت لأوّل مرّة منذ أسبوعين. عندما أشعلتني الرياح الخريفيّة التي لم
أحسب لها حسابًا. وفاجأني الحزن القادم، كما المطر هنا سابقًا بموسم.
واجهات تعرض الشتاء المقبل في دفء معطف. ومكتبات تعرض الكتب.. والدفاتر..
والأقلام.
"قطعًا".. كانت الحياة تستعدّ لإنهاء دورة الفصول، والبدء من جديد.
تذّكرت وأنا أرى الأطفال يركضون بحقائبهم متوجهين إلى المدارس، أ، آخر مرة ذهبت
فيها إلى هذا المحلّ، كانت منذ سنةٍ تمامًا، لأشتري الأشياء نفسها.
كما اليوم، كان الطقس خريفيّاً يغري بشيء ما. ولكنني اليوم، لا أحاول أن أسأل
نفسي، بماذا هو يغري بالتحديد.
فمنذ أسبوعين، وأنا امرأة أميّة تتحاشى الأسئلة، خشية أن تباغتها أعراض كتابة.
كنّا في بداية الموسم الدراسيّ. أذكر...
"بدءًا" كانت سماءٌ تجدّد هيأتها بين فصلين. وكاتبة تجدّد حبرها بين كتابين.
وكما اليوم، البائع نفسه كان منهمكًا في ترتيب ما وصله من لوازم مدرسيّة. فارداً
دفاتره وأقلامه أمامي.
كما منذ سنة، ها هو يتوقف قليلاً. يتجه نحوي.. يضع حمولته من الدفاتر الجديدة،
على تلك الطاولة التي تفصلنا.. ويسألني مستعجلاً ماذا أريد.
كنت سأطلب منه ظروفًا وطوابع بريديّة، عندما...
النهاية
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب المرأة
)
|