امتلاك
وانبسطت كفاه على جذع المدينة، أغلق عينيها وتهاطل
نسيجاً من قتامة لا تدرك وفي حضنه ارتعشت غيوم سوداء أسقطت زغبها مداً من
بلل ممتع، في وقت كنا نتنفس بتوجسٍ، أقدامنا تمتص بقايا الزمن الفاصل بيننا
وبين الجدار الأخير، فخلفه تنتظرنا تركة ثمينة.
همست جمانة:
-هل ستمر العملية بسلام؟
-أتوقع ذلك.
-ونصبح ثريين؟
-ربما!
وتمتمت لنفسها:
-ماذا تعني هذه ال ربما؟ ألن يكون بمقدورنا التخلص
من عجزنا الدائم، لا فأنا أظن أن الليلة بدقائقها المتبقية ستنقلنا إلى
عوالم أخرى.
ونسمت هبة فرح في بدنها! سأنتصر على انكساري القديم
سأدوسه بقدميّ أمرّغ جبهته بالتراب... والانكسار شاب اسمه سعيد يخرج من حوض
العتمة يندس في مدخل الدار ثم يبدأ بالسؤال، هل نام الجميع يا جمانة:
-بلى.
-وهل كرزك البردان متلهف لحرارتي.
-....
-أوه، دائماً خجولة يا قطتي...
وتجد جمانة جسدها موزعاً بين أصابعه وشفتيه، لهاث
جمري يحرق مراكب الحلم النائم في يم قلبها، اللهاث دعوة للانصهار في نار
نائية، لكن قمراً من بنفسج تطوّحه زلزلة مجهولة يقودها من معصمها ويرميها
في فم رماد بارد.
وتعلن جمانة لقلبها: سننفي الرماد، نقتلع أظافره
معاً، فالذي يفصلنا عن كوخ السعادة مجرد خطوات.
وتهمس لمازن:
-ألست بردان؟ فالمطر أغرق ثيابي.
-لعله برد الخوف ما تشعرين.
-لا فليس للخوف مكان ما دمنا مع بعضنا.
-إذاً لنتابع طريقنا بهدوء.
نعم بهدوء، أعادها على مسمع دمه، يجب أن ينتهي كل
شيء بدون أي أثر فالعجالة تترك أثراً دليلاً وهذا ما لا يجب أن يقع ولكن
أتراني أجد التركة الرائعة؟ ليتها موجودة في الصندوق.
وفرك مازن يديه ومضى يحدث نفسه: هذه التركة ستجعلك
رجلاً ذا وزن يا مازن فلن تحتاج إلى مساعدة ذويك بعد اليوم.
ونهض وجه أبيه في ساحة رؤيته، هز الوجه طيفاً معلقاً
في الذاكرة.
-اسمع يا مازن، الجار قبل الدار، ولن أتسامح مع عبث
كهذا.
-لكننا نحب بعضنا وسنتزوج ذات يوم.
وتقاذفته الصفعات، تأرجحت الدنيا في رأسه.
سأتخلص الليلة من عبوديته، وتصبح جمانة زوجاً لي،
واختلس النظرات إلى صفحة وجهها الحنطي، سوف نتمتع بكل ثانية تمر، وسوف تحبل
جمانة وتنجب أطفالاً من طبع الضوء بل وسأنحني كل عام لذكرى جدتي التي تركت
وراءها ثروة معقولة، فهي لابد أن تسامحني على ما سأفعله بعد قليل، فأنا أحق
بتركتها من أولادها المتخمين -كان وجه الجدة الأبيض يعوم في ماء مقلتيه
باسماً راضياً، إنها تتكلم والابتسام يعرّش على محيّاها:
-أنت ولد طماع وملعون يا مازن.
-طماع يا جدتي لأنني طلبت عشر ليرات.
-عشر ليرات!... وماذا ستفعل بها.
-سأشتري كتاباً جديداً.
-ولكن المبلغ كبير..!
-إذاً لن آخذ شيئاً البتة، بل ولن أزورك بعد الآن،
وأتظاهر بالحرد.
-مازن تعال يا صغير.. خذ.
وتناولني القطعتين الورقيتين وأدسهما في جيبي
بسرعة.
-انتبه. لن أمنحك مثلها قبل مرور شهر...
ولكن جدتي الآن في القبر، ربما حزينة من يدري، ماذا
يحدث لها، ستزورها الملائكة بدون شك، يتقدم نحوها اثنان منهم، يطرحان عليها
الأسئلة التالية.
-هيا أخبرينا ما الذي فعلته بدنياك.
-لم أفعل شيئاً لا يرضي الله، لقد أديت فروضي كلها،
صليت وصمت ودفعت زكاة عن أموالي وصنت حرمة زوجي. ويقاطعها أحد الملاكين:
-وماذا فعلت من أجل حفيدك مازن.
-كنت أحبه وأعطيه مصروفه.
-وهل كان المصروف كافياً.
ستحك جدتي رأسها، تحاول أن تنكر المقدار. الذي كانت
تقدمه لي، وحين تعجز عن الإجابة تبدأ بالبكاء والتوسل: ألا يكفي أنني كنت
امرأة طاهرة وكريمة؟
ويبتسم مازن للأفكار التي تدور في رأسه تطوف عيناه
على ملامح الجدة، فيتذكّر محيّاها الأبيض الهاديّ، عينيها السابحتين دوماً
في حقل شموس، ثم يهمس لأعماقه: كانت جدة عظيمة لقد فعلت خيراً بموتها، حيث
تركت ثروتها الطيبة، إنها لا تدري أن ما تركته سيوصلني إلى حقول جمانة
الدافئة.
واختلس مازن النظر إلى جمانة التي تحاذيه بصمت،
والتي تعوم في مناخ أفكارها المتداخلة حيث تهمس لذاتها:
-افرحي يا جمانة، فالقادم من الأيام جميل، لن يبرد
جسدك بعد اليوم أبداً وتتخيل غمامة دافئة تلتهم كيانها المتوثب لالتقاط شمس
بعيدة:
-سأسعد هذا المازن الطيب، إنه يعشقني، وترى إليه
خارجاً من بين أعشاب الظلمة مليئاً بفرحتين تنزان شفاهاً من فجر لجيني
الجبين:
-أعبدك يا جمانة وا..
-هذا كل شيء لديك!
-لا ولكنها الكلمات تتملص من لساني.
وتزرع حديقتيها المتفرستين في المدى النابض نوراً
والمتفتح تواً في كل خلايا وجهه:
-يا للولد الطيب كل ما فيه يرتعش حباً..
وكأن يداً ترفعها إلى الأعلى، تقذفها في حضن ريح،
فتسيل الحروف إلى الدم لهيباً عذباً، يقول اللهيب لجمانة.
ترتجف ضلوع الجبال، تمتشق السواقي دموعها ترشها على
شعر مركب يمخر كهوف نجم تأسره ليالي مدلجات.
تقول جمانة للهيب:
-لست أصل.
يقول اللهيب، ثانية:
-ترابك لا تدفئه إلا البراكين.
وتصيخ جمانة السمع، حركة مافي صحن الدار وتهمس بخوف
مازن، أسرع، لعله أبي... ويفاجئها أبوها، تطأطئ هامتها:
-ماذا تفعلين هنا في مثل هذا الوقت المتأخر.
-لا.. لا شيء، كنت أتفقد صنبور البرميل، ظننت أنني
لم.
-هيا اذهبي للنوم والصباح رباح...
ويردد مصطفى، تكذب عليّ، تقول صنبور البرميل، تخالني
أبلها، لا يا مصطفى يجب أن تعاين الأمر جيداً، فأولادك ما عادوا أطفالاً،
فجمانة صبية لها نهدا امرأة ناضجة.
أيعقل أن تكون عائشة؟ استغفر الله يا رجل، فابنتك لا
تملك من العمر إلاّ ثمانية عشر عاماً، أعوذ بالله من هذه الليلة ومن هذا
الوسواس.
ويقتربان من السور، يتفحصان الشارع بدقة، كان الظلام
فماً شهق كلّ مرئي بينما المطر يمرغ وجهه وأصابعه على جدران المنازل
وأسطحها.
ويهمس مازن:
-جمانة لقد وصلنا، اقتربي، ما بك ترتجفين؟
-إنه البرد والبلل فثيابي اكتنزت ماء كثيراً.
-سنشعر بالدفء داخل البيت، هيا اقتربي، سأرفعك
أولاً.
وجثا على الأرض، وامتطت جمانة كتفيه، دفء وفير سكب
قناديله على الجلد وأرعش غابات نائمة منذ دهر عتيق.
-يا رب كم هي دافئة.
وصرخ عليه صوت نابت في الرأس: ارفعها بسرعة، انهض
بها، فالوقت الآن ليس للتلذذ.
وقفزا بحذر إلى فناء الدار، كان الليل يمضغ بأسنانه
الفحمية الأشياء كلها، وفي أعماق الجسدين طارت وطاويط فزعة.
دخلا الحجرة المقصودة، أضاء مازن شمعة كان حملها في
جيبه، اندلق الضوء الفاتر على الحيطان وعلى موجودات المكان. كثرت الوطاويط
ومضت ترف أجنحتها بجنون، من الرفيف هلت مواكب فرسان ملثمي الوجوه بأيديهم
رماح مشرعة، إنهم يقتربون، بينما مازن يتفحص الغرفة جيداً، إنه يشاهد صورة
جده:
-جمانة، تطلّعي، إنها صورة جدي ألا يبدو جليلاً.
-إنه يشبهك، بل أنت تشبهه، لكما نفس العينين والأنف
والجبين.
-أعتقد أنه كان رجلاً عظيماً، فجدتي كانت لا تتحدث
إلا عنه.
-أكانت تعشقه؟
-لا أعلم، ربما كانت تحترمه وتخاف منه، ولكن هيا بنا
إلى الصندوق، يجب أن نفتحه بسرعة.
وبعد معالجة قليلة كان الصندوق ينفتح أمامها عن
حوائج متنوعة وكثيرة، وبدأت أيديهما تلقي المتاع أرضاً، فتتناثر الأثواب
والأمشاط وأشياء أخرى.
-مازن انظر إنها كتب عتيقة أوراقها مصفرة.
-إنها لجدي وجدتي كانا يقرأان فيها.
وبان الصندوق الصغير أخيراً، ابتعد الفرسان ذو
الرماح المشرعة، وأحس مازن أن الدنيا تكتسي بهجة، فرفع باصرته إلى جمانة،
كان خداها يعجان بالأحمر المغموس بالفرح الضاحك وتعانقا، ولأول مرة تكتشف
شفتا مازن السماء اللذيذة لشفتي جمانة وتفيض نار في أنحائه.
ودون أن يعرفا كيف أو لماذا حدث الأمر، افترشا الأرض
وجمانة ظنت أنها تتمدد على عشب غض وفير، إنها عارية وتستحم بالصهيل المتأجج
لخيول مازن الجامحة.
-منذ اللحظة ستصيرين امرأتي.
واندغما في موج متلاحق آت من لججٍ كانت قبل حين
غافية، الموج يصفع الوجنات والجسدين الممتدين مع بعض، ينمل النهدين ويوزع
الصور، الصور تجتاح مخيلة جمانة، يجيء ليل عاري النجوم، ينسل وجهاً لرجلٍ
يدعى سعيد، يداه ترفعان الفستان عالياً تمزقان راية صغيرة ملونة.
-لا يا سعيد أرجوك... لا...
-لحظات.. فقط لحظات..
وتحس جمانة بتمزق قمر جدولها الرقراق، القمر يبكي
دماً، بينما ثيران هائجة ترفس أسفل بطنها.
-مازن -أنا.. دعني...
وتعصرها الزلزلات العاتية والقادمة من جحور عميقة،
يتصدع وجه في أفق الرأس، ومازن يطارد غزالته، ينادي عليها، إنها تخرج من
رحم الضباب إليه تشعل بوطء قوائمها ترابه البارد أبداً، فترغو لحظة
المطاردة على قامتها زبداً شهياً، وتؤوب طيور تفتح نوافذ فضاء رغيد إلى
أعشاشها هادئة وادعة، ويرتفع مازن عن جمانة بعد أن يضفر جسدها بالقبل، ينظر
من جديد إلى صورة الجد المعلقة على الجدار، ويردد بخوف.
الصورة تهتز.. تتحرك.. وجدي.. ليس معقولاً أن يخرج
من إطارها... جمانة تطلعي إليه: إنه يرجع حياً، ينزلق من إطاره وفتح باب
الغرفة بوجههما، وولجت الجدة بوجه صارم قاسٍ:
-تسرقانني
-ولكنك ميتة، قال مازن، وهذا الصندوق حق لنا...
-ميته!. وقهقهت الجدة. كانت القهقهة سكيناً تقطع لحم
أمنهما وهجم مازن على الجدة وكان يصرخ...
-أنت ميتة وستبقين ميتة.
وقبل أن تطلق صرخة واحدة، كانت يداه تخنقانها، بينما
اربد وجهه واحمر. وخرجا من الدار مسرعين راكضين، وافترقا...
ولما دخل مازن دار أهله، كانت الأسرة لا تزال تحف
بجسد الجدة المحتضرة.
سماء من تراب ـــ أسامة آغي
أقلقني حضور جدي المفاجئ، كان البيت خالياً إلا مني.
ولم أعرف كيف دخل الدار. وكيف يستطيع اقتفاء أثر خطواتي وهو الميت منذ
خمسين عاماً. فهو لم يكن يتحدث إليّ، كان يلاحقني، وعيناه تنظران بازدراء
وقسوة، كانت روحي متعبة، والأشياء من حولي تمارس استفزازها عبر صمتها
المريب.
لم يكن الوقت ليلاً، كانت بقية أنفاس النهار تتمسح
بأهداب السماء مما جعلني أزرع عيني في حقل ألوان يطغى عليه الرمادي.
قلت لنفسي: تأخرت نديمة. ربما مجيئها يبدد حضور
جدي.
كان وجه نديمة دائم الارتسام أمام عيني، يراوغ
نظراتي فأحاول التملص منه، غير أن قامتها المشدودة وحركتها المياسة تزيدان
من ألقه فتجدني أحلق في فضاء رحب، ثم اقترب منها هامساً في أذنها اليمنى:
- لن تكوني لغيري يا غزالة عمري.
تحملق بي دهشة، ثم تنفجر بضحكة هنية وهي تقول: حقاً
أنا غزالتك؟!
كان ذلك قبل أن تنشطر أحلامي، وقبل أن يزج جدي
أنفاسه في جداول دمي، وجدي الذي يصر على مطاردتي داخل داري التي ورثتها عنه
خرج عن صمته وقال لي بصوت جاف:
- لم أكن أعتقد أنك نذل وخسيس إلى هذا الحد!
أجبت رغبة في الخلاص من مأزقه:
- الحاجة يا جدي.
- الحاجة! تبيعني لأجل حاجتك! ماذا سيبقى لديك
مني...؟
- عذراً أيها الجد. سيفك ودرعك ما عادا ينفعان في
شيء.
كانت نظرات جدي تسلخ جلدي. بقيت لائباً: الضغوط تزيد
من قبضتها على قلبي، وقلبي طائر خسر جناحيه في فضاء أحلام لا ينتهي.
كانت السوق العتيقة تضيق بالمشترين والبائعين: أشياء
كثيرة توزعت على أرض المكان: خردوات، أقفال، دراجات مستعملة، وكنت لا أعرف
كيف سأبيع عدة حرب جدي. يجب أن أنتهي منها. كانت قشعريرة فظيعة تعصف بي وقت
امتدت يداي إليها. القشعريرة لا تزال تفتك بي، وحاجتي إلى النقود لإغلاق فم
دائن من الدائنين هي الأخرى تذبحني، فأنالا أريد لنديمة أن تكتشف الأمر،
لأن لسانها سيقول لي: من يبيع ماضيه لن يشتري حاضره ومستقبله.
لكن البيع تم بسرعة رغم مطاردة وجه جدي لي. وحين
خرجتُ من الزحام أحسستُ برغبة الاختباء عن عيون الناس. بل إنني قلت لنفسي:
كيف ستنظر إلى وجهك في المرآة يا صابر بعد اليوم؟
وانهمرت دمعتان باردتان من حدقتي.
قال جدي وهو يرى حالتي: الدموع لا تغسل ما فعلته بي.
تذكّر أنك حقير. كانت نديمة لا تزال خارج البيت حين عدتُ من السوق، وكان
الفراغ ينهش بأسنانه القاسية لحم روحي، فأتفتّت نتفاً.
قلت بصوت مرتفع: افعل شيئاً يا صابر. لا تكن نذلاً
حتى النهاية، أحسستُ بأن روحي تضيق بحصار جسدي لها، تحاول الخلاص من السر،
فالجميع تخلّوا عني: الأولاد لاذوا بهمومهم اليومية، نديمة تخرج كل يوم ولا
تعود قبل الساعة التاسعة ليلاً، وحين تنظر إليّ تسألني:
- هل استطعتُ الوصول إلى حل؟ لا تنس كيف غدت
حالتنا...
كنتُ لا أصغي إلى كلامها أحس بعجز ومرارة، فكل شيء
يحاصرني: ديوني: ضغوط العمل.، خوفي من مجهول قادم.
وكان نداء خفي يتجول في كياني، النداء كفٌّ كبيرة
ألقت القبض علي وبدأت تسحبني إلى نقطة لا عودة منها، لذا خاطبت نفسي:
فكر يا صابر. لاشيء يستحق كل هذا العناء والتمزق،
ليس ثمة حل إلا...فكر يا رجل: ماذا تريد من دنيا كهذه؟ ما الذي حصلت عليه
منها؟
كان ظلام الكف الكبيرة يكف كل رؤيا عن رأس صابر.
وكانت حرائق تنتشر في غابات صمته، تضيء له طريق الخلاص.
نهضت عن مكاني...كان الليل يفرد أوراق عتمته على
الأشياء كلها. حملت الفأس الكبيرة، بدأت أحفر في أرض الدار الترابية.. كانت
ضربات الفأس تتوالى بتصميم وعنف، وكان العرق ينسرب من أنحاء جلدي.
قال الجد لي وهو يتابع عملي: حسناً ما تفعله يا صابر
وإن تأخرت عليه بعض الوقت.
كانت أسنان جدي البيضاء تلمع في حلكة هذا الليل.
وكانت روحي تلح عليّ: استمر يا رجل، ولا تتراجع، دع
كلينا يرتح فتنهض قواي عن مكامنها رغم الدموع التي أغرقت عيني بسيولها.
كانت ضربات فأسي تزداد جنوناً، وكان رنين جرس الباب يهتك صمت المكان، لكنني
أحسه ينزلق بعيداً عن تصميمي.
لم أعرف متى رجعت نديمة... ولا كيف دخلت الدار. فقط
سمعتها تسألني:
لماذا تحفر أرض الدار يا رجل؟ هل أخفيت كنزاً؟
كان سؤالها لا يعنيني.... ربما اعتقدت أنها تخاطب
شخصاً آخر، وربما لم تتفوه بأية كلمة.
إن أقداماً خفية تحملني بعيداً عن صوتها وعن حضورها.
ربما قالت لي: سأحضر طعام العشاء، لاشك أنك جائع، لقد جلبتُ معي صحناً من
طبيخ تحبه.
همس الجد في أذني اليسرى: لا تصغ يا صابر لكلامها.
أتمم ما عزمت عليه، لا تغرنك اللذائذ الصغيرة.
ألقى صابر الفأس بعيداً، وبعد أن تأمل إنجازه أحس
بحبور طاغ يغرقه، فأشعل لفافة تبغ، امتص دخانها بعمق ثم همس لنفسه: إنها
آخر لفافة في حياتي.
هبط صابر إلى قاع حفرته، تمدد على ظهره، أسبل
ساعديه، وكانت السماء السوداء فوقه تحتفل بأعراس نجومها البعيدة، وكانت
رطوبة التراب بدأت تنفذ إلى جسده، فأحس براحة عميقة وهذا ما جعله يغمض
عينيه مستسلماً.
ناداه صوت امرأة، شعر أن الصوت ناء وبارد ولا
يعنيه.
اقتربت قامة الجد من الحفرة، أحس صابر بحضورها
الثقيل.
وبالتراب تهيله عليه، فراح يغرق في صمت دموعه
منتظراً.
موت بارد
باغتني سكون البيت، أحسسته زمناً من حصار أنياب وحوش جائعة، الانياب
تقبض على جسدي، وجسدي يحاول دون جدوى الفكاك عن الجثة الممددة على الفراش.
كان الليل خارج البيت طائراً من ضباب أصم، وروحي فأراً مذعوراً تبحث
عن ثغرة تتسلل عبرها، لكن نظراتي ترتطم بعنف على البدن المسجى، ترتد إلى باصرتي،
فيهتز كل آمن فيّ.
-ياللرب-! عينا زوجتي تتشبثان بي بتصميم قاتل، فتجتاحني رغبة الخلاص
من فم الموت المحدق، العينان الميتتان مزروعتان في كل الأشياء من حولي ..
تدعوانني إلى القيام بفعل ما .. أقول لنفسي - افعل شيئا يا عبد الله .. ستمتص
الجثة روحك. أقترب من أحلام، أصمم على إغلاق الحدقتين المفتوحين .. كان وجه
أحلام يبوح بذبول عتيق لخلايا نسيت طعم الماء.
يقول الوجه لي - أنت من أماتني أذعر، تمتد يدي اليمني تحاول ملامسة
الوجه الساكن وإطفاء النظرات الجامدة .. لكن البرودة تسري إلى دمي عبر أصابعي،
كان بؤبؤا أحلام يقتحمانني بسكونهما المرهق، أردتُّ، ثمة صوت يخرج من ناحية
مجهولة يصرخ بي قائلا:
- أنت لا ترغب برؤية موتك
- بل أنا أحب حياتي
- إذا ماذا تنتظر، أسبل جفنيها
- لست قادرا
يقههقه الصوت الخفي، فتهتزّ كلُّ الأعشاب اليابسة في دمي، خشخشتها
تبتلع ما تبقى من شجاعة فيّ، وشجاعتي ماتت مع أبي منذ زمن بعيد، كان الرجال
وقتها يتحلقون حول الجثة الممددة على دفة خشبية، أردت أن أفعل كما يفعلون، أن
أساهم في غسل الجسد الذاهب إلى القبر، لكنني تراجعت إلى الوراء، كانت نظرات
العينين الساكنين تطاردني، ولم يستطع الرجال إغلاقهما.
هربت إلى أمي، كانت تندب بعلها وتذرف الدموع، ولا تحس بوجودي ..
وهذا ما جعلني أغادر دائرة الموت .. والذي لايزال يُزيد من حصاره عليِّ. لذا
همست لنفسي المبعثرة - لماذا ماتت أحلام هذه الليلة؟ ولماذا تركتني وحيدا
وعاجزا؟
ولأنني أمقت الوحدة، تركت زوجتي راقدة على فراشها، لقد صممت على
إبلاغ الأقارب بموتها .. وحين خرجت إلى الشارع كان الليل والضباب غابة من عتمة
جارحة، وكانت دمشق تنام مغلقة بكل هذا السواد. فمصابيح الشوارع نجوم باهتة
الضوء وأنا وحيد مع قدميّ وبرودة الموت المفاجىء ..
همست لنفسي .. سأقصد شمال المدينة أولا، وسأمر بساحة المرجة مختصرا
المسافة لقد اختلطت كل الأشياء في رأسي، غادرتني قدرتي على البكاء، استحال حزني
إلى جليد. ثلج بدني وأعصابي .. وتساءلت بصوت مسموع: أيعقل أن تقرع أبواب الناس
بُعيد منتصف الليل؟ أجابني صوت مفاجئ: وماذا تريد من الناس في وقت كهذا.
قلت .. من يكلّمني؟ ونبتت أشواك الخوف في كل خلاياي ..
قال: انظر أمامك - تمعن .. هل تراني؟ .. يبدو أن الليل والضباب
امتصاكل رؤية لديك قلت .. من أنت؟
وبدأت ملامحه بالظهور، كان الرجل الواقف أمامي طويل القامة، عريض
المنكبين، وجهة قمر من قرنفل أبيض .. وكانت لحيته الثلجية أشبه بغيمة طرية.
قال: أنا الشيخ محيي الدين بن عربي ..
قلت: أنت هو الشيخ! .. محال! فلقد قتلت دمشق شيخها منذ قديم الزمان.
قال الرجل: الذي قتل قلب الناس
قلت: ولكن قتلوك رفضا للحقيقة.
قال: دعك مما أقواله وأخبرني ماذا ستفعل الآن؟
جرت في الجواب، بل وامتلكني عجب شديد فشيخ دمشق الجليل لم يمت، وهذا
ما جعلني احس برعشة الخوف أمامه، وبرغبة الهروب منه لذا خاطبته قائلا:
- سأذهب يا شيخي الطيب لإخبار الأقارب.
قهقه الشيخ بصوت مدد أحسست معه أن القهقهة ستطيح بحجارة بيوت دمشق،
وبأعمدة مصابيحها، بل ربما اقتلعت قاسيون من جذوره وقذفت ببردي إلى الجحيم، نظر
الشيخ بتفرس إليَّ، كانت قسمات وجهة تنمّ عن عدوانية مباغتة ثم قال:
- لن أدعك تذهب وحيدا
قلت: موت زوجتي يخصني بمفردي
قال: زوجتك لم تمت
قلت: لقد تركتها قبل قليل وهي راقدة.
قال: أنت الميت ويجب أن تعود إلى فراش موتك.
قبض الشيخ على ساعدي الأيمن، أمرني بالسير معه، كنت وقتذاك رجلا
هزيل العزيمة وربما كنت ظل رجل، في الحقيقة أنني أجهل من أكون ولماذا يحدث معي
ما يحدث.
رغبت بالبكاء كانت برودة ضباب ليل دمشق تقتص من جسمي المتعب، وكان
السكون تاما لا تقطعه إلا خبطات أرجلنا.
قلت للشيخ بتوسل: أرجوك دعني أمضي بسلام.
قال الشيخ: ليس للأموات حق التجوّل في الشوارع.
قلت: ولكنني لست ميتا.
قال: كلكم ميتون
وصلنا بيتي - أدخلني الشيخ إليه جرا .. ثم ولجنا الغرفة التي تركت
أحلام راقدة فيها..
كان فراشها فارغا والبيت تزفر فيه أفواه البرد الطاعن كلَّ أنفاسها،
عجبت من اختفاء أحلام.
قلت باستهجان: ولكن أين زوجتي الميتة؟
قال الشيخ: استلق على فراشك، ففي الصباح سيأتي المشيعون.
فعلت كما أمرني به الشيخ، كانت عيناي تخترقان سقف الغرفة وتصطدمان
بنجوم تسحل أنوارها بعيدا عن مقلتي.
وكانت يدّ باردة بدأت تضغط على عنقي، فيفر كلُّ شيء عن دمي ولا يبقى
إلاّ ملمس السكون المميت البارد دليل دمشق المضبب ووجه أحلام الغائب.
|