حلم حذر
كانت ليلة شتوية ماطرة ، إلا أنها ليست ككل الليالي العابرة ، التي
تمر دون أن نشعر بها. بل إنها متميزة في كل شيء ، هدوء أولها الحذر ، وصخب
هزيعها الأخير. كل ذلك بالإضافة إلى توهج سمائها. لا بالقذائف بل بمكبرات
الإنذار المربكة. التي تعوي كذئاب مجروحة ، في أودية سحيقة.
قبل تلك الليلة البعيدة ، بزمن طويل. راود الحلم محمد. الزواج ،
والزواج في أزمنة الحرب الصعبة تفكير ساذج. إلا أنه رغم سنوات الحرب
الممتدة ، والتي يبدو أنها لن تنتهي ، قرر ، لا بد من الزواج. تكوين أسرة.
خلق ولادة جديدة. متناسياً كل ما جرى هناك في الأرض البعيدة. لا يهم ، ما
قاله عبد الرحيم السيد (هل تريد أن تتزوج يا محمد وتصبح زوجتك أرملة ، بعد
زواجك بأيام قليلة؟ ألا تفكر في أمك المسكينة العجوز التي عملت كثيراً حتى
توفر لك قوتك اليومي. أتريدها أن تتحمل أعباء جديدة ، أطفالاً صغاراً تنهي
بقية أيامها في تدبير عيشهم؟).
تذكر الجبهة. الأيام المريرة التي عاشها هناك محارباً زاحفاً على
بطنه أميالاً لا عدّ لها. الدخان ، القذائف ، والبارود الذي ملأ رئتيه ،
وأصابه بالربو قبل أن يكمل الثلاثين من العمر. حادث نفسه (كل شيء يهون. سوف
أنسى كل ذلك عندما أبحر في عيني هدى. لقد انتظرت هي أيضاً طويلاً. ولا يمكن
لي أن أخذلها. سأضحي ، وقطعاً ستقبل هدى التضحية هي الأخرى).
في ذلك اليوم ، كان العدو عنيفاً ، وصاخباً ، أرسل صواريخه ، قذائفه
من بعيد بجنون مربك.
وفي ذلك اليوم الطويل بقي في خندق أمامي مكشوف تحيط به هالات الغبار
الأسود والأبيض والأحمر طبقاً للقذيفة المتفجرة بقربه.
همس صارخاً (هل ما زلت حياً يا عبد الرحيم؟) إلا أنه لم يجب. التفت
إلى إبراهيم فوجده ممداً في الخندق ، يتنفس بصعوبة. أين ضحكات إبراهيم
المجلجلة ، أين (قفشاته) التي لا تنتهي. أحس بحرقان يجري في داخله. فتش عن
الماء. فوجد قربته قد نشفت. تحسس قربة الماء ، القريبة منه ، بعد أن زحف في
الخندق الضيّق. لم يجد ماء. لم يجد سوى وجوه سوداء ضامرة. وسواعد قد كلّت
من إطلاق النار على عدو لا يُرى. أو أجساد منهمكة بعد أن هدها العطش
والجوع. ونفدت ذخيرتها. لماذا تقتحم الذكريات المريرة رأسه هذه الليلة. لقد
أحب عبد الرحيم السيد ، وصديق الطفولة إبراهيم ، وأصدقاء الدراسة حسن
العابد ، وعبدا لله المصطفى ، وعبد الخالق .. كل هؤلاء الذين أضحوا زملاء
الجبهة فيما بعد ، إلا أنه يتمنى لو ينساهم في هذه الليلة فقط. فهل يستطيع
أن ينسى تلك المجموعة المميزة المتناقضة المتحابة.
ضحك عندما تصور عبد الخالق وعبد الله وهما يمشيان إلى جنب بعضهما
بعض. منظر غير متناسق. فعبد الخالق طويل جداً ، يمسك صغار العصافير من
أعشاشها في أعلى الأشجار ، دونما تكلف. أما عبد الله فقامته قصيرة ملفتة
للنظر ، حتى أنه لم يستطع أن يحصل على بدله عسكرية تناسبه. فصاح حسن العابد
يهما : (لم لا تعطي يا عبد الله نصف بدلتك لعبد الخالق. فتحلا تلك المشكلة.
يا الله خلصانا).
استرخى محمد على الكرسي ، بعد أن أكمل لبس ملابسه ، داخلته مشاعر
متناقضة. قال محدثاً نفسه (تلك ليلة فريدة. أشم بها رائحة الأرض التي
أحببتها. رائحة الولادة والموت معاً. فلماذا هذا الخوف من الآتي ، الذي لن
يأتي الآن. لا أدري ماذا أسمي هذا الشعور بالضآلة ، بالتلاشي. كيف استولت
عليّ هذه القشعريرة الخجولة. كنت قبل قليل أستطيع تحديد مقاصدي ، تفسير
مشاعري إلا أن هذه القشعريرة فجأة ، استولت علي دون إنذار مسبق فجعلتني
خجلاً تارة ، ومرتبكاً تارة ، وتافهاً تارة أخرى. هل أدعها تفتك بي ، أم
أقاومها ، أتمرد عليها).
مناداة أمه من خلف الباب أرجعته لحظة ، إلى عالم الواقع ، فأجاب
(سآتي حالاً).
في هذه الليلة البعيدة عن الجبهة ، دوّت صافرات الإنذار ، إنها غارة
للعدو.
قبل الصافرة بقليل كان الأطفال ، والنساء بصخبهم المكبوت لشهور
عديدة فد ملأ الزقاق الضيّق ، وملأ بداية الليلة بأكثر من الضحكات والصياح.
كان الكل يحاول رسم بداية جديدة ، لرواية لم تنته فصولها بعد. لذلك فقد
حاول الأطفال والنساء وتحت رذاذ المطر الذي لم يعبئون به. أن يلونوا هذه
الليلة بالألوان المفقودة في ذاكرتهم. أما الشباب فلم يكن له وجود ، لقد ظل
بعيداً هناك. على الجبهة يشاغل العدو ، لإتمام هذه الليلة.
بعد الصافرة بقليل ، شاهد الأطفال وأفواههم مشدوهة ، وعيونهم قد
اكتملت دائرة اتساعها ، نيزكا مروعا مشتعلا ، يهوي ، صاروخاً. لم يمهلهم
كثيراً. لا وقت للتفكير ثم للتنفيذ والهرب. بل سقط مدوياً مفجراً الزقاق
الصغير بأكمله. ثم خيّم الهدوء الشديد ، من جديد. وسمع من بعيد صافرات
سيارات الإسعاف قادمة.
محطة الملح
القطارات تعبر الزمن الرطب على سكك خشبية مكسورة ، والظاعنون قد حملوا
أمتعتهم على أكتافهم الضامرة ، ووقفوا على أرصفة محطات ملحية بلون الشهب
الساقطة ، ينتظرون القطارات القادمة من مدن الشمس البعيدة.
وقف صادق عبد الوهاب قرب الضوضاء المتكسرة تحت أقدام العابرين ، وفتح عينيه
ببلادة محدقاً في هوامش الأمطار الغزيرة ، وهمهمة البالونات التي طيرها
الخوف وأعياها السهاد.
حدق بتركيز في وجوه القطارات بلا مبالاة ، وتلفت للبحث عن عينين عرفهما في
زمنه الماضي. أصاخ دون رغبة منه إلى حديث عابر بين رجلين خلفه.
- أرجوك ابتعد عني
- .. لكني أريد أن أحدثك في شيء ما.
- لا يهمني شيء الآن .. أخشى أن يرانا أحد ما هنا ويفتضح أمرنا.
- لا تخف ، ستسجل القضية ضد مجهول.
إلا أن صادق عبد الوهاب .. أحس أنه بلا رغبة تذكر في الاستماع إلى
حديثيهما. فعاود البحث عن عينين يعرفهما ، عينين عذباه ويحبهما ، ولكن بلا
جدوى ..
القطارات .. تقرقع .. بأصوات بها شيء من المرارة ، المرارة التي عرفها
مرسومة على جفنيه قبل ارتدادهما للمرة الأولى. فحدق في اللون الأسود .. في
أعماق الحفرة المظلمة ، والمشرقة بالضياء الحالك. وابتلع رحيق الحزن الطاغي
.. كسهم مزروع في الحلق.
عاودت أذنه التي قضمها ساحر جبار ، يسكن مغارة جبلية منذ ألف عام ، إلى
اصطياد جزء من حديث الرجلين خلفه.
- تذكر أنك شريكي في قتلها.
- نعم .. نعم أعرف ذلك. قتلناها سوياً.
- احتفظ بالسر .. واحتفظ بنقودك.
- .. ولكن ماذا عن صادق عبد الوهاب .. هل سيلقى نفس المصير؟
- .. لا أدري .. سنتحدث عن ذلك لاحقاً.
الشمس فوق الرؤوس التي هدها الطاعون ، والخواء ، طاعون الظهيرة في هذا
الوقت المغسول بالأوساخ ، والمكفن بالسحب الصيفية الدكناء.
الحرارة .. تشعل المحطة المثبتة بأهداب النهار الذي لا ينتهي.
تذكر صادق .. الآن فقط أنه سمع حوار الرجلين قبل قليل .. هل ذكرا اسمه؟
لم يكن متأكداً من أنهما تحدثا عنه. رغب في الالتفات إليهما .. إلا أنه عدل
عن ذلك .. فليس من طبعه الفضول. تأكد من أنه ينتظر عينين بهما زرقة سماء
صافية ، وبهما نبعان صافيان .. انحدرا من جبل لم تطئه قدم بعد.
لم يتحرك من مكانه .. فهذا المكان بدا وكأنه ضمهما لأول مرة ..
يبدو أنه غفا قليلاً ، فالمحطة الآن أهدأ في ليل الصفيح الساخن ، والأرصفة
.. وحدها بدأت تحركها ببطء .. إلا أنها تتحرك ، استعداداً للهروب الأخير من
براثن طاعون المدينة الموحش. والعبرات غسلت نجوم الصيف ، فأمست أشد لمعاناً
من أي ليلة مضت ، على محطة الملح.
تحركت الأرصفة .. وصادق عبد الوهاب واقف ينتظر عينين لن تأتيا بعد. وفي
الرصيف الآخر .. كان بائع الصحف يصيح (اقرأوا .. المرأة العجوز .. التي
قتلها اللصوص).
إلا أن صادق عبد الوهاب .. لم يسمع النداء.
قضية هذا الشهر
عندما اراد المسافر العربي المرور الى الشق الآخر من خاصرة الوطن
استوقفته رجال الجمارك
و استجوبته طويلا
ودققت في اسمه واسم ابويه
واسماء كل اجداده
استوضحت منه عن مقر اقامته و عن كل الاقرباء والاصدقاء
واخيرا فتش تفتيشا ذاتيا , خوفا من تهريب المنشورات والكتب .
الاانه لم يسمح له بالمرور لانهم غير قادرين حتى الان على تفتيش ذاكرته
ومصادرة احلامه
اللوحة المائعة الألوان
وقف أمام اللوحة. فبدا عاجزاً عن فهم مضامينها. الشك يميز علاقاته. والغموض
يلف ألوان اللوحة السريالية المائعة.
تلك غيمة مسافرة إلى بلاد واسعة ، وتلك غيمة ماطرة على رمل ذهبي اللون.
غداً سيرحل فوق تلك الهضاب الموبوءة بالأمراض .. وسيقف عند النخيلات
الصغيرة ، لكي يناجيها. ويلقنها أسرار المدينة. لن يكترث للقوارب المحطمة ،
القوارب التي حملت الصبية ، والجواري ، والعبيد ، من الأراضي البكر ، ثم
جثت على رمال الصحراء. لن يهتم بها مطلقاً. فقد قال ذلك لابنته حليمة.
ويتمنى أن تكف حليمة ، عن أسئلتها يوماً ما ، الأسئلة التي عذبته كثيراً.
فيحس بالإرتباك عند كل إجابة.
- أبي لماذا تغادر ، كما تغادر الغيوم؟ يحاول الإجابة فيتلعثم. أراد أن
يقول :
- أنا لا أرغب في الرحيل. لكن اللوحة ذات الألوان المائعة تلك قد تغيبني في
طياتها.
قالت حليمة بدلال ماكر :
- أبي أجبني كيف غادرت نوارس البحر الصاخبة. وعاد للساحل هدؤه. حاول أن
يقول لها ، إن الشك قد سيطر عليها ، وأن الأنواء قد أفقدتها ثقتها. إلا أنه
لم يقل شيئاً بل بدا صامتاً وحزيناً.
لماذا يحدق في تلك اللوحة. الوجوه لا تشبه الوجوه ، والغيوم تحاول الرحيل ،
قبل الإعصار ، فلا تمطر. هذه الوجوه جزء من تاريخ طويل ، يحاول الهروب منه
، يرغب في تجاهله ، ونسيانه. فلا يستطيع. كان يتمنى أن يحقق أحلام حليمة
الوردية ، إلا أنه الآن لا يدري كيف تفكر حليمة. كيف تنظر إلى الأشياء.
الأشياء مجردة من عواطفنا ، مشاعرنا ، أفكارنا.
تحرك حراس المتحف في كل الإتجاهات ، سدوا جميع المنافذ ، والأبواب ، خوفاً
من هروب الغيم من اللوحة. بينما وقفت حليمة ، من بعيد تبتسم ، وتحرك رأسها
بحثاً عن أبيها. وجدته في أقصى القاعة ، يخاطب الزائرين. قال أبو حليمة
للصحفيين ، اللذين جاءوا لمشاهدة اللوحة ذات الألوان المائعة :
- هذه اللوحة تعلمنا أشياء عديدة. أشياء يمكن للبعض تصديقها ، ويمكن للبعض
الآخر منكم رفضها. هذه اللوحة تجردنا من مشاعرنا. حالاتنا النفسية. لقد
نظرت حليمة إليها من قبل. فأضحت مشاعرها مكتوبة بعقلها لا بقلبها.
قال أحد الصحفيين ، أثناء فترة من الصمت :
- تقصد أن اللوحة تفرض من واقعها علينا كمشاهدين لها. فلا نشعر بمأساة
رسومها.
- لا ليس ذلك ما قصدت بالضبط. بل إن اللوحة برسوماتها المائعة تجعل من
الإنسان يفكر. بموضوعية تامة. بعيداً عن العاطفة.
قال صحفي آخر يرتدي نظارة سوداء :
- ولكن لم تقل لنا حتى الآن كيف اكتسبت تلك اللوحة هذه الصفة. من أين
جاءتها تلك الميزة.
- أنظر إلى اللوحة لبضع دقائق. ثم قل لي هل أنا صادق فيما أدعي أم لا.
نظر الصحفيون إلى اللوحة. فلم يجدوها. قال أحد الحراس إن اللوحة قد صودرت.
فالناس في هذه المدينة ومنذ ثلاثة أيام ، بدأوا يتصرفون تصرفات حكيمة ،
مجردة ، عاقلة. وهذا يهدد أمنها. توسل أحد الصحفيين أن يصورها. فلم تفلح
توسلاته. بينما انزوى الرسام ، في أحد أركان المتحف. وأحس أنه يتدفق عاطفة
لم يعهدها. صوت العصافير ، هذا الغروب المفاجئ للشمس .. أشعراه بالحزن
والمرارة. حينها شعر بأنه لا فائدة ترجى من كل رسوماته. الرسومات التي اعتز
بها دائماً. لم تعد تساوي شيئاً.
حليمة وحدها فقط ، تشعره بنوع من التوازن الذي يفقده فجأة. التوازن بينه
وبين الآخر. يفكر بعيداً. يتألم. يشعر أن حياته دون حليمة ، ودون رسوماته ،
بلا قيمة تذكر.
بعد قليل ، يسمع ضوضاء من بوابة المتحف الرئيسية. ضوضاء الحرس ، تأكد أنهم
جاءوا للقبض عليه. فحاول الإفلات. إلى أين لا يهم.المهم هو الهروب. لا يرغب
في أن يحاصر كقط مشاكس ، قد أغلقت الأبواب في وجهه.
تلفت لم يجد سوى اللوحة ذات الألوان المائعة ، فدخل فيها واختفى.
بحث عنه الحراس في كل مكان. فلم يجدوه.
الفراشة الملونة
فجأة ظهرت له من عالم افتراضي بعيد , نقطة ضوء صغيرة , نجمة بعيدة , بدأت
تكبر وتكبر حتى سدت الأفق الممزوج بطعم البحر . حضورها لاول مرة هكذا فجأة
, أشبه بطعنة رمح نجلاء في خاصرته .
لا يدري كيف ظهرت , ولا من أين جاءت , لكنه يدرك انه يعيش صحوته . وإنها
جاءت إليه في فجر يوم شتائي قارص البرودة , مثل غيمة محملة بالإمطار ,
والبرق ,والرعود .
يوم رآها تأكد إنها فراشة ملونة , هبطت إليه من أعالي الأفق . وقفت على
أعتاب أرضه السابعة بدلال مهيب :
-ألا تعرف من أنا أيها الصياد ؟
تطلع إليها بغباء ودهشة . هاله ذالك البهاء من فراشة ملونة بكل ألوان الطيف
. فقال في بلاهة :
-أهلا بك .من أنت أيتها الفراشة السماوية ؟
ابتسمت بإشراقه مثل تلامع السيوف . وأجابت بكبرياء محبب :
-أنا فتاة . ولدت من تلك النجفة البعيدة هناك . بلا اسم وبلا هوية وبلا
عناوين , كما هي عناوينكم هنا .
ردد الصياد كلامها ببطء :
-بلا اسم ..وبلا عناوين .. اها
اقتربت من الشط . ولا مسته بأطرف أصابع رجلها . ثم طارت راجعة وحطت قربه
:
-اختار من الإزهار اسما لي ؟ . أيعجبك النرجس أم السندس ؟ .
رفع الصياد يديه إلى الأعلى و أصلح كوفيته قائلا :
-بل كل أزهار المروج تغويني وتدهشني .
التفت إليها ثانية , فإذا هي تحلق بعيدا . في نهايات الليلة الثانية
انتظرها الصياد , ولم تأت . بقيت مختفية لليال عديدة . في منتصف الشهر
تماما . شعر بحركة لأجنحة مرفرفة . أصاخ السمع . خرج من منزله البحري
المتهالك . وجدها فراشة تتباهى بكل ألوان البحر . ارتبك . تأكد انه خارج
الحلم , وداخل عالمها الافتراضي . رغب في مناداتها . حاول تذكر اسمها .
حاول ان يختار لها اسما من أسماء الأزهار , او من بين أسماء اسماك البحر .
فلم يستطيع . لا يتذكر إلا قولها له بأنها فتاة تعيش بقرب الشط الذي
احتله الغزاة .حاول الإمساك بها , فلم يجد سوى غيمة صيف عابرة .
في الأيام التالية حكى الصياد , حكاية الفراشة الملونة لأصدقائه في البحر .
اقسم لهم بأغلظ الإيمان انه رآها وحادثها . لكنهم اتهموه بالجنون , وسخروا
منه .
قال لهم كلاما غريبا لم يصدقوه . ثم أسرف في هذيان لم يعرفوه . قال لهم :
إنهما ضوءان بعيدان , تقاربا , وتمازجا بأنفاس الربيع اللدنة . فاشتعل
الحريق في جسديهما . حريق لم يطفئه غوصهما في الشط ولا طفوهما علية .
تكلم بكلام بلا معنى عن فراشتين مصلوبتين على زجاج القناديل الليلية , تحدث
لهم عن هدير نهرين جامحين كنهري دجلة والفرات , قد جف ماؤهما فجأة . لكنه
بدا ساذجا أمام الصيادين , الذين علت ضحكاتهم وسخرياتهم .
حلف لهم بأغلظ الإيمان , بأنه رآها في كل المرايا , وإنها تسري من ارض
الأنبياء في كل ليلة إليه . وانه يقطف كل مرة زهرة من أزهار ثوبها العشبي
الطويل , لكنهم لم يصدقوا كل هذا الجنون .
كان موقنا إنها ليست من أضغاث الأحلام . وإنها ليست شجرة آلاء برية مرة
الطعم , نابتة في أودية مجهولة . وكان موقنا إنها سرى خير صادقة , ستأتي
ليلة ما . جلس على صخرة قرب داره , مستكينا , مسلوبا , بعدما سدد له
الأصدقاء طعنة نجلاء أخرى . جلس ينتظر ان تهبط فراشته الملونة من تلك
النجفة مرة أخرى .
عشرون سنة مرت , وهو مازال ينتظرها . وهو موقنا بأنها ستهبط ليلة في
صحوته أم نومه . لكنها لم تهبط بعد .
عشرون سنة تدعوه ان يأتي إلى فردوسها السماوي , لكنه لم يستطع تجاوز عالمه
الافتراضي قط .
|