أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: إبراهيم سبتي-العراق

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

قاص وروائي عراقي
بكالوريوس لغة عربية
عام 1983 نشر اولى قصصه في الصحف المحلية .


اعدت بعض قصصه كتمثيليات اذاعية وتلفزيونية منها:
وجوه في ذاكرة الليل
الطريد
مباغتة جبل


ترجمت بعض قصصه الى اللغات الانكليزية والالمانية ونشرت ضمن دراسات عن القصة العراقية الحديثة .
ساهم في تاسيس مجلة اور الادبية في الناصرية والتي كتب فيها معظم ادباء العراق المعروفين .
اهتم بالجانب الحكائي الفلكلوري والشعبي في قصصه .
نشر عشرات الدراسات والمقالات في دوريات ومجلات عربية متخصصة
شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات والورش الثقافية والادبية
شارك في مؤتمرات القصة والرواية العراقية.
حاصل على جائزة القصة القصيرة العراقية عام 1992
حاصل على جائزة القصة القصيرة العراقية عام 2006


عمل في الصحافة وشغل:
رئيس تحرير جريدة صوت المعلم
رئيس تحرير جريدة النهوض التربوي
رئيس تحرير مجلة النهوض المعاصر
سكرتير تحرير مجلة اور الادبية
رئيس تحرير جريدة صدى سومر
احد مؤسسي بيت الصحافة
كتب عن تجربته ادباء ونقاد عراقيين وعرب.


من مؤلفاته
الغياب العالي مجموعة قصص صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة بغداد 2001 .
ماقالته الضواري في حداد الإنس مجموعة قصص صدرت عن اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002.
نخلة الغريب رواية صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة بغداد 2003


عضو اتحاد ادباء العراق
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو نقابة الصحفيين


كتب تنتظر الطبع
طائر الضباب رواية اتحاد الكتاب العرب دمشق
ليلة بكاء الكلب مجموعة قصص الشؤون الثقافية بغداد

كتب مخطوطة
البحث في الافق رواية
استشعار ضفة القص: تاريخ القصة العراقية دراسة
محنة القصة القصيرة جدا دراسة
طائر الفراديس مسرحية بثلاثة فصول

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

ما تركه الجراد

زنزانة الصفيح

حيطان مسيلة للدموع 

 

حيطان مسيلة للدموع


أتقدم خطوة أخرى فألمح رؤوسا تتراقص وكان في الأفق ضباب يتجه نحوي ..
أتفرس ، لم استطع معرفة أحد ..
أنصت ، فتتهادى الي أصوات خافتة ..
أدنو ، فتبتعد الرؤوس وتدخل في لجة الضباب الآتي ، تدخل في هديره ،
أحاول اللحاق بها ، لكني أتعثر بغشاوة عيني واستفيق على مشهد لم ألفه من قبل ..
 فلأول  مرة اقترب من هيكل كان محضورا حتى النظر إليه  فأي التفاتة نحوه تعني عواقب وخيمة .. أمطت اللثام عن مخاوفي وهرعت تحت قمرية الحديقة الطويلة المؤدية الى الباب الرئيسي المقابل .. كانت دهشتي مخلوطة بالذعر وأنا اجتاز البوابة المقوسة المخيفة .. بوابة كونكريتية صممت بعناية  ترتفع من الأرض بعرض متر تقريبا.. لاشيء أمامها ولاخلفها .. قوس يرتفع من الأرض على علو ثلاثة أمتار كما خمنته .. اول مرة أراها عن قرب ، كانت نظراتي زائغة متهالكة وأنا أمر من تحتها .. عدت مسرعا ، تلمستها وأنا أتلفت كأني أترقب إن أحدا سيصيح بي .. لا .. ابتعد .. لكني لم اسمع أو أر أحدا . خمنت باني لن اواصل النظر الى ابعد من البوابة ، فأنا ارتجف ، اوصالي ترتعش خيفة .. غادرت البوابة متثاقلا ولكن نظري ظل ملتصقا بها .. وكمن يريد اكتشاف شيئا طل حبيسا لسنين طويلة ، كنت أتلفت كي أتيقن من وجودها ..تخيلت بان مجموعة من الرجال يلتفون حولي ثم يقتادونني الى الداخل .. لم يضربوني .. فقلت مع نفسي ان الله كبل أيديهم وانزل غشاوة على أعينهم .. لم يقولوا لي شيئا .. أدخلوني الى غرفة صغيرة تتوسطها منضدة حديدية نظيفة يجلس خلفها رجل مكفهر الوجه يغطي شاربه الكث نصف وجهه .. صرخ بوجهي :
ـ كلب ! ستاخذ جزاءك أسوة بهم !
اطلق كلماته علي كالصاعقة .. لم اجبه بشئ .. بل كادت مفاصلي ان تغادرني وهي ترتعش كسعفة وسط عاصفة مروعة .. اردف الرجل ذو الشارب الكث صارخا :
ـ قل أي شئ ! أي شئ .. لقد قالوا قبلك .. اعترفوا بكل شئ!
واخرج مشطا صغيرا من درجه ومشط شاربه المنفوش ..
صحوت وانا اتعثر بكومة احجار مبعثرة قرب المدخل ، فغادرتني على الفور كل تخيلاتي فلم اعد أرى الرجل ذو الشارب الكث ولا رجاله .. سرت خطوات محلزنة ابحث عن طريق آخر أسلكه وسط فوضى المكان العارمة ، فوضى شملت المدخل المهشم ، إذ لم يعد الباب في مكانه .. لم أر بابا .. كان المدخل واسعا عريضا محطما .. المكان مدمر الى حد الخراب .. واصلت نقل خطواتي وسط الخرائب التي يبدو ان زلزالا مدمرا قد ضربها .. السقوف انطبقت على الأرض والجدران مهشمة تماما .. ثمة أوراق مبعثرة في كل الأرجاء تغطي خراب الأرض من البوابة حتى المكان الذي اقف عليه .. كدت اسمع دقات قلبي لعنفها .. روعني المكان وافكر مع نفسي بانني قد امتلكت جرأة لا يمتلكها غيري .. أني في هذا المكان لوحدي .. ياللهول .. ما الذي حدث .. ياالهي ..
طردت مخاوفي وأنا أتلمس خطاي تحت شمس خجلة غطت بعض نفايات المبنى .. تنقلت بكل جرأة ، بل لم اكتف بالذي وصلت أليه ورأيته .. كان علي ان اكتشف بنفسي ما تخبئه لي اللحظات القادمة .. استجمعت كل قواي .. لم ابخل بها اطلاقا .. الغرف مدمرة تماما .. دنوت من خرائبها .. لكني جفلت في مكاني ، خلت انني سمعت أصواتا خافتة متأوهة .. ذعرت واستدرت انوي الهروب ومغادرة مكان  مخيف كهذا لكن قدمي تسمرت متثاقلة ، سمعت بكاء ، دنوت من نصف حائط باق وسط الخرائب وسرت محاذيا له .. الأصوات الخافتة المتأوهة تحولت الى أنين .. البكاء نحيب .. قلت في سري :
 ياالهي ، الهروب افضل .. لكني أجبت نفسي : اسكت يااحمق ..
ثمة اشياء تدعني اقف متاملا المكان برمته .. وحيد اجوب المكان وانظر الى البوابة العالية .. فثمة اشخاص كانوا هنا يحرسونها واليوم قد رحلوا .. اتنقل بين الانقاض متمايلا .. فجاة واجهني باب كبير ، او فتحة كان فيها باب .. فبابها قد خلع ويبدو انه طار عدة امتار قبل ان يهبط مقابل
الغرفة .. دخلت من الفتحة ـ التي كانت بابا ـ الى غرفة كبيرة أشبه بقاعة ، فيها شباك وحيد صغير يقبع في أعلى الجدار المقابل قرب السقف وتحديدا في المنتصف .. لم تصب الغرفة بشيء سوى تصدعات متناثرة فظلت صامدة .. اقتربت من الجدار القريب ، من فتحة الباب .. كان الجدار قد اسود من زحمة الكتابات الكثيرة التي تزداد كثافتها كلما سرت محاذيا للحائط .. كتب على صفحته كل شئ .. كل شئ من أعلاه الى أسفله .. مررت بنظري سريعا عليها وكأني أردت تفحصها قبل زحف الظلمة ، فالشمس تتأهب للمغادرة ..
طالعت كل ما كتب وكل ما تقيأته ذاكرة حبيسة .. لكني توقفت عند سطرين كتبا بخط ناعم :
( الرجل الجالس بجنبي  وقور .. يجيب على كل اسالتي .. يعرف كل شئ جاء قبل شهرين وآنسنا في خلوتنا ) .
       لا لون للحائط .. ضاع لونه تماما .. بدا كأنه مغبر .. مترب .. هالني مارأيت .. عشرات بل مئات السطور المبعثرة من كتابات عشوائية . تسير معي حيث أسير .. تخطيطات ورسوم وثمة مذكرات مختصرة بل مختصرة حد الاختزال واشعار وكلمات وهلوسات وهذيان : انا مظلوم .. ظلموني الذين لايخافون الله .. ذكرى الاصدقاء في يوم الاثنين .. ياقارئا كتابي .. الساعة الواحدة بعد منتصف الليل اعادوني الى الغرفة بعد نزهة ليلية ! وعلى مسافة خطوتين قرأت :
(يجلس بجانبي .. أحضروه بعدي بشهرين .. شيخ مسن أشيب .. استدعوه بعد يوم واحد من مجيئه .. وعاد الينا مجروحا بجبهته ينزف بعنف .. قالوا : صدم بعمود وسط الظلمة ! بعد ثلاثة أيام انطفأت عينه اليمنى .. سمعته مرة يتهجد : إلهي أعوذ بك من غضبك وحلول سخطك  .. قبل أسبوع استدعوه ولم يعد ) .
تخيلت هيئة الرجل .. أشيب الرأس ذو ذقن ابيض ، جلست في مكانه الذي افترضته تحت السطرين المكتوبين على الحائط .. سرني ان أتقمص دوره ورغبت ان أتكلم عن لسانه .. أدرت وجهي نحو الشاب كاتب السطور وافترضته موجودا .. أجبته عن سؤال خمنت انه سألني به ..
 قلت له ـ وأنا العجوز ـ بصوت وقور :
ـ مازلت صغير السن .. لا تيأس من حياتك فربما ستعيش عمرك بعيدا عن هذا القبر
 الموحش !  اللهم لا تمكر بي في حيلتك أسألك صبرا ورد كل غريب الى اهله ..
 ـ  فترة صمت  ـ
نهضت بسرعة من مكاني وجلست في مكان الشاب السائل ومثلت دوره .. قلت للعجوز :
ـ لكني لا اعرف متى اخرج وربما لا اخرج ابدا !
نهضت وتحولت بخفة الى مكان الأشيب ثانية .. جلست وأدرت وجهي تجاه الشاب الذي خلت انه وقع بالحيرة والقلق واليأس .. قلت له بصوت مهموس :
ـ كل شئ باذن الله .. لا تزغ قلبك وانظر للعباد والأشهاد كي تهن مصيبتك ..  
أسرعت بالانتقال الى مكان الشاب المفترض .. وصمت طويلا أفكر بكلام الشيخ الذي قاله للتو.. لم أتكلم .. لم انظر الى وجهه .. غطيت وجهي بيدي ، وانتحبت ..
توالت الأدوار .. انتقل من مكان الشيخ الى مكان الشاب وحسب افتراضي .. ساعة كاملة او اكثر وأنا استمتع بالتمثيل .. الشمس خف وهجها وغرقت القاعة بالظل الكثيف ..
نهضت واقفا كالملسوع انظر الى مكانيهما .. طفرت مني دمعة حبيسة وأنا أقرأ السطور
 ثانية .. نقلت نظري الى جزء آخر فرأيت تخطيطا لوجه آدمي أشبه بوحش ، أيقنت ما كان يدور برأس الشخص الذي خططه رغم رداءته تماما ، بعض أجزائه كانت مضحكة .. خمنت ان الوجه يعبر عن مايمور داخل الشخص الذي رسمه من ألم وبغض .. سرت جوار الحائط ، نظري معلقا على ما اختطته أصابع الناس الذين افترشوا ارض الغرفة.. انظر الى نثار الكلمات الممزقة المنتشرة .. سرت رشقة من جرأة في عروقي وركزت نظري اكثر .. فرس متأهب .. رجل فوقه يرتدي درعا ويرفع سيفا بوجه الفرس الغاضب وقد خطت كلمات تحت قوائم الفرس :
( السلام عليك ايها المقتول .. اشهد انك لم تهن ولم تنكل .. وانك قد مضيت على بصيرة من أمرك ) .
رحت أتفرس بكل شئ .. التصق على الحائط المبلل بدموع الكلمات المتأوهة .. ذرعت طول الحائط الأمامي بخطواتي وحسبت عددها .. فجأة توقفت .. التفت نحو شق الباب .. تناهى الي صوتا سابحا في الفضاء انسل من الغرفة :               
ـ متى أتيت ؟ كم رجلا معك ؟
خمنت انني سمعت بكاء عنيفا يصحبه صوت سوط يتهاوى على الباكي المنتحب .. خفت .. لم أر أحدا يدخل .. اسرعت نحو الباب .. لا احد في الخارج .. الأنقاض جاثمة خرساء واليمامات واقفة ساكنة في مكانها .. خلت انها اوهام او هي الكلمات الممشوقة على الحائط قد تقيأت آلامها وصرخت بتوسل ..لا احد في مقطع تواجدي البتة ..
 لملمت نفسي وعدت أقرا ما مكتوب :
( اللهم انك على كل شئ قدير .. اجعل فرجنا مع فرجهم .. يا ارحم الراحمين ) .
دنوت اكثر .. التقطت عيني نثار كلمات أخري ( ساضرم النار في نفسي .. كن مع الناس يمامة  ) .
كانت صولتي على المكان قد أخذت النهار كله ولم اشعر حتى بانسحاب الشمس كلية وغرق المكان بظلمة خفيفة .. جررت قدمي الى الباب ، رحت اتفرس بالحائط الذي غابت كلماته ولم استطع اقتناص اية واحدة .. قررت قبل انسحابي ان اصل الى مكان الشيخ المفترض ومحدثه الشاب لشئ ما في داخلي لا اكثر .. لكني فوجئت بعدم استطاعتي .. لم استطع رفع قدمي من الارض .. حاولت جاهدا .. تلقفت صوتا رخيما :
( يعرف الصياد كيف يسحب شباكه ) ودوت ضحكة قوية هزت القاعة .. وتخيلت ان كلمات الحيطان وقعت أرضا من عصفها .. أردف الصوت :
( سئمت هذيانك .. أنت ثمل ..ثمل .. ثمـــــــ … )
لم اعد أميز الأصوات التي تأتيني كل لحظة .. فالمكان صار أشبه بغابة كثيفة تتشابك أغصان الشجر فيها .. لا مكان آمن .. عواءات وزئير وصفير ونعيق .. لا طرق سالكة .. فالخطر يقترب ، يتأهب لمداهمة المكان .. غابة من الخيالات مرصوفة على الحيطان .. بينما ترتفع الأنقاض خارجا مكونة تلالا من الحجر الذي كان قد رأى كل شئ واليوم يتكوم فتتكدس يوميات وتتبعثر .. تلاشى الصوت .. عاد الوجوم .. قلق انا من ثقل جسمي الذي قيد حركتي ولكني برغبة جامحة في الخلاص رفعت احدى قدمي وبروية وتؤدة حاولت سحب الاخرى ولم افلح .. لم اشعر بالم ما .. شاط بي الغضب .. ما الذي يحدث .. ما بال قدمي الاخرى لاتطاوعني .. أحسست بان أسلاكا شائكة قد سدت الباب وان الضاحك قد يطلع علي بين لحظة واخرى .. رفعت راسي المنسدل الى حيث مكان الشيخ المفترض .. تخيلته يقول لي : ( اترك أوهامك !) ثم رفع راسه نحو الشباك الوحيد أردف
 خاشعا ( وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها الا هو .. اللهم بك يصول الصائل وبقدرتك يطول الطائل .. اترك أوهامك وغادر ) .
  ادرت رأسي نحو الباب المظلم .. أحاول برفق رفع قدمي الأخرى العالقة ..لكني انتزعتها دون جهد وأسرعت مترنحا نحو الباب الذي تباطأت عنده لشكي بوجود اسلاك شائكة تعيق خروجي .. حقيقة انا لم اراها ، لكنها احتلت حيزا من تفكيري .. وقفت متحفزا للقفز الى الخارج مهما تكن العواقب ..
انطلقت بكل قوتي المتجمعة تحت سيول الرهبة الى الخارج المظلم دون ان أرى اية حواجز .. بصوبة بالغة رأيت اليمامات تقف وديعة في مكانها فوق البوابة ، وديعة في الظلام الساكن الذي لف المبنى بأكمله .. قاربت بين خطاي كي لا أفزعها.. ارتعشت في مكاني وكدت اقع من وقع صدمتي .. امتدت يدا لتمسك ياقتي من الخلف .. وانطلق صوت أجش:
ـ ماذا تفعل هنا ؟
لم اجبه ولكني سمعت خفقان أجنحة اليمامات وقد طارت مفزوعة .. لم أرها تطير لان قبضة الرجل روعتني وسط احتدامه .. عدل من وقفته  .. رأيت وجها متجهما ، رأسه ملتفعا بكوفية .. راح يصدر صوتا ناعبا مخيفا .. استل سكينه .. قال حانقا:
ـ ما علاقتك بالمكان ؟ ومن سمح لك بمداهمته ؟
شعرت بأنه كان ثملا واقتربت اشم فمه رغم قبضته العنيفة .. تاكدت من حدسي .. عجزت عن الكلام .. لم ارد عليه .. كان يحاول استنطاقي وأحسست انه يفقد صوابه معي .. وخزني بسكينه بجبهتي .. لم اشعر بألم .. لكني تضرعت إليه ، لم تدغدغ توسلاتي مشاعره وظل ممسكا بياقتي والسكين بيده الاخرى .. نقلت عيني أدور بهما حولي .. البوابة أمامي لكن الطريق إليها مزروع بالأنقاض والأحجار والورق والخوف .. قلت له بصرامة وانا استجمع نفسي وكأني انتزعت كلماتي عنوة من الوحل :
ـ اتركني والا ستلقى مالا يرضيك !
 لم يأخذ غضبي المفتعل بجد .. وبعد برهة قصيرة صلت عليه كاسد هصور ، لم أبال بسكينه ولم اكترث بصيحاته المروعة .. حسرت كوفيته بجرأة متناهية عن رأسه وامسكت بشعره وحاولت السيطرة على السكين التي وقعت ارضا .. لكني فوجئت بالرجل يجثو على أطرافه متذرعا وقد سقطت كل فورته وانكشف قناعه .. ووسط ضجيج توسلاته المفاجئة ، سمعت هديلا خافتا وكأنه يأتي من بعيد .. لم استطع رؤية أية يمامة .. واحسرتاه .. لكن الصوت ظل متواصلا تحت تذرعات الرجل الأجش الذي غرق في هذيان متلجلج ..
لم أشأ تركه خشية غدره.. رحت امسك برأسه وهو جاثم بينما كان الهديل يتسلل وسط هيجان الرجل فيكسر حدة ضجري الذي غصت فيه ..
قال متلعثما :
ـ ما الذي اتى بي الى هنا ؟
ركلته بقدمي فانقلب أرضا .. راح يتمرغ بين الأنقاض .. الهديل يقترب .. رفعت رأسي فوجدت اليمامات تقف على البوابة ، رايتها بصعوبة . شعرت بارتياح غريب وقررت ان ادع الرجل يذهب ، سار مترنحا لكنه توقف وبعق بصوت شديد هز المكان .. وثبت عليه فولى هاربا وتوارى في الظلام .. رفعت راسي ثانية ، اليمامات في مكانها وقد قربت رؤوسها من بعضها وانقطع هديلها .. شعرت انها تريد التحدث الي ، تريد اخباري بشئ ما .. حملقت بها .. اليمامات الثلاث تقف متجاورة ، رفعت الوسيطة رأسها تنظر الي وقد غابت عينيها في ليل الخرائب .. لكني لم أشأ مغادرة حاشية الممر المؤدي الى البوابة وانا اتخيل مشهد الرؤوس المتراقصة الغارقة وسط الضباب  .. دهمتني صور مشوشة لما رأيته على الحيطان .. الأنوف الطويلة والعيون الجاحظة .. يا الهي ، ما الذي يجري .. اشعر باني رأيت وجه هذا المخمور .. اختلطت الصور وتزاحمت في رأسي الرؤى ، قفزت الى صفحة تخيلاتي خربشات الحيطان وقد يكون الرجل المخمور هو ذاك المرسوم على الحائط .. ربما ..
نظرت الى اليمامات المظلمة ، انطلق الهديل خافتا وتحول الى همس أشبه بالنواح .. أحسست انها مازالت تريد قول شئ ما .. لكني لم اعد أراها فالمكان غرق تماما في ظلمة سارية وتهادت الي أصوات خافتة خمنتها لرؤوس تتمايل تلقف نظري واحدا منها ، اقترب مني  رغم الظلمة الشفيفة وهمس بوقار : اللهم لا تمكر بي في حيلتك .. اللهم لا ……

 

 

زنزانة الصفيح

 

لم يثرني أي شئ منذ قرأت خبر ضبط جودي فوستر في مطار بوسطن وهي تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية .. أثارني وتصورت بأنها لا تستطيع ا لنوم دون جرعة مخدرة فما كان منها إلا أن تخبأها في منطقة مثيرة ظل يتقاتل عليها البشر منذ بدء الخليقة ..

 لم يثرني أي مشهد آخر منذ سنوات .. الطريق يمر بصخور وأدغال وأوحال ثم يبدأ  الرمل يغطي مساحة الأرض القصية .. ليتني اعرف طريقا آخر ، مررت بكل مآسي المكان ، تسلقت صخور جثمت منذ ان وجدت ، واجتزت الأوحال  وأنا اردد أناشيد الفروسية والبطولة ، رباه كم رجلا استطاع اجتياز المكان منذ خلق ؟                                                                        

ارض شاسعة تمتد أمام البصر لا يحدها شئ أبدا .. تعطلت سيارتي في طريق ترابي مقطوع ..  لا غيري هنا ، لم يمر أحد منذ ساعات .. خمنت ان الآخرين سلكوا طريقا آخر ربما يعرفونه جيدا يقيهم هذا التيه الصحراوي الممل .. أو انهم قد مروا من هذا الطريق ولم ارهم ، ربما ..

تندفع حوصلتي كما الطير ، ابلل رأسي بأخر قطرات الماء وأطفئ ظمأ روحي عندها تتطاير كلمات أخي فوق رأسي كخيط دخان  وتتقافز فتوحي بأن كل من عليها فان .. كل من عليها يرجع إليها .. أول مرة منذ سنوات ، اندهش !

لا أحد .. لا أحد .. أنا قاهر الصخور والأدغال وهجمات الجراد وخفافيش الليل .. امتدح نفسي كل عشرة أمتار فينطلق صوتي هادرا بأناشيد حفظتها في طفولتي في اصطفاف الصباح استمع الى خطبة المدير الرنانة المكرورة ثم تنطلق الأناشيد صادحة ولكنها صارت مضحكة بعد سنوات .. يا لسخرية الأقدار! وقتها حفظت كل كلمة من خطبته وصرت اردد كلماته قبل ان ينطقها .. عشرة امتار اخرى اجتازها واردد : انا البطل قاهر الاوحال والصخور .. اصول كأسد هصور في ارض خلت الا مني ، ياحنان يامنان ، أسألك ان اجد احدا يمر من هنا ..

اتعثر بنتوءات الصخر واعلق بادغال تشابكت رؤوسها ، واسحل جسمي عنوة كغريق شدَ الى حبل النجاة .. اتوقف .. ياللهول ! بئر ! ارى بئرا وسط بر موحش ؟

اشرب ، ارتوي !

كيف لي ان اصل الى الماء ؟ انه بعيد .. امدُ يدي فلا تصل ، تذكرت  حكاية الاعرابي الذي رمى عباء ته في بئر وراح يعصرها في فم الكلب العطشان .. لم ارتد عباءة .. كل ملابسي ان ربطتها لا تصل الى الماء .. تركته ! ابتعدت عنه ! تمنيت ان اجد ذلك الإعرابي فعباءته تساوي ثروة في هذه اللحظة .. هي مفتاح نجاتي من الموت عطشا ، كما الصبر مفتاح الفرج والنورماندي كان مفتاح هزيمة الرايخ ! رايخ ؟ أي رايخ هذا وانا عطشان . تمنيت ان اصير جملا واقطع الفيافي والوهاد متحملا العطش ، عمري لم اسمع ان بعيرا مات من العطش ..لا يهمني ان اكون بعيرا او طائرا بجناحين من ريش طاووس واعبر كل الأرض الى حيث المتعة .. الى حيث النكهة ..

 الى حيث الماء . وقد اصل الى ارض لا ماء فيها واصير كائنا لا مائيا كالمريخ الذي تعبت ناسا من ابحاثها دون ان تثبت وجود ماء على الكوكب الاحمر .. اريد ان .. واريد ان .. وبين الاريدان انا عطشان .. هلكان .. دايخ وتعبان ..

اللهم انجني من الموت عطشا ..

اللهم اهدني الى سواء السبيل ..

اللهم ان يكن الندم توبة فأنا اندم النادمين على هذه الرحلة البائسة .. انك تمهل ولا تهمل ودعوة المظلوم مستجابة ولو بعد حين .. لا يهمني سوى الوصول الى دياري مرتويا لا ظمآنا.. كلمات اخي في لحظته الأخيرة  دوختني : سأموت .. اموت ..

مات أخي أمام عيني .. كانت عيناه تغرقان بدمع خجول وهو يحدق بي بتوسل ان انقذه من الموت !

كيف لي ذلك ؟ عرف باحساس الميت بأني لا استطيع شيئأ عندما انهمرت دموعي صامتا لا اقوى على شئ .. مات في مكان غريب .. بعيد .. ليس فيه من الأهل احد .. وسط غرباء في مشفى لم ار احدا فيه حضر معالجا او متفقدا الا في لحظة تحرير شهادة الوفاة .. تضرعت الى الطبيب الخفر ، كان مشغولا عني متغزلا  بفتاة صغيرة .. لم يأبه لتوسلاتي .. لم يحضر لمعاينة اخي في رمقه الاخير .. رد علي بتكلف مصطنع : لا فائدة ! اخوك ميت لا محالة .. نطقها دون ان يراه اصلا .. 

تمنيت ان انسفه .. أُدمره  ولحظة مات اخي هجمت عليه مستذئباً فتوارى خلف باب مقفول .. اخرجوني الى الشارع بينما كان اخرون يضعون  الجثمان في غرفة مجمدة حتى الصباح .. بعد ثلاثة شهور ذهبت الى المشفى منتقما .. دخلت الى الردهة التي مات اخي فيها ووقفت امام السرير الذي شهد اخر لحظات حياته .. اعتصرني الم عنيف وانا استرجع حكاية الطبيب المتهاون .. لمحته يجلس في مكان الطبيب الخافر ، دنوت منه ، كان رجلا يبكي متوسلا يقف قبالته .. شعرت بان الفرصة حانت .. لكني تثاقلت وانا افكر بطريقة اكثر عصرية للانتقام خشية افتضاح امري .. انزويت في ركن بعيد اتدبر الأمر مع نفسي فقفزت فكرة جامحة رأيتها في احد الافلام الهندية عندما رشق العاشق الولهان وجه حبيبته الخائنة بماء النار مشوها وجهها الجميل ومبعثرا تفاصيله .. حامت الفكرة حول رأسي وقررت اعتمادها كطريقة مثلى للانتقام .. سأحرق وجهه .. سأشوهه .. اسرعت بالخروج ابحث عن سائل النار هذا ، سائل سحري يسميه الناس تيزاب واهل العلم يسموه حامض الكبريتيك.. ولجت شارعاً تصطف على جانبيه محال متراصة .. ودون صعوبة عثرت في احداها على غايتي قنينة صغيرة هي كال ما احتاجه .. دسست حامض الموت في جيبي واسرعت الى هدفي ، ذلك المتصابي ، سأمزق وجهه القميء برشقة ، سأفرقعه ، سألقنه درساً في كيفية الشعور بآلام الاخرين .. وقد انسف حياته تماماً .. وصلت الى مكانه ، لم اجده ، بحثت عنه في ردهتين دخلتهما عنوة ، لم اجده       .سألت موظفاً صعقني جوابه : خرج ! انتهى واجبه وغادر !

لم أسأله شيئاً آخر خشية افتضاح امري وعدلت في خطتي قليلا .. الانتظار الى اليوم التالي .. اعددت نفسي بقوة ورحت انشد كل اناشيد الفرسان التي حفظتها في الصغر وكأني اعددت لحرب ضد الأعاديا ، حرب ضروس احتاج فيها الى معاونة لوجستية من شخص يدلني على غرفته في المشفى ويؤمن لي طريق الخروج سالماً .. فضلت ان تتم العملية داخل غرفته دون مرآى احد وبلا ضجيج .. لا احب الضجيج .. لا احب الصخب المفرط .. كنت اغير قناة التلفاز كلما بثوا ماتفعله اعاصير ايفان و آندرو و فلويد في ثوراتها.. رغبت ان يتم كل شيء بهدوء .. ارشقه وكفى المؤمنين شر القتال واعود الى بلدتي تستقبلني احدى وعشرون اطلاقة مدفع ابتهاجاً بالناسبة السعيدة .. حضرت في الصباح مبكراً ، دخلت في رواق طويل موصل الى مكانه وبعد دقائق حضر يتوسط فتاتين جميلتين خمنت انهما طبيبتان من ملابسهما .. وقفت وسط الرواق ويدي اليمنى في جيب سترتي تمسك بالقنينة مرتجفاً ، فجأة استدار مسرعاً كأنه نسي شيئاً وترك الفتاتين تمضيان لوحدهما .. ساعة كاملة وانا انتظره وسط نظرات الريبة التي يطلقها كل المارين في الرواق .. خرجت مستاءً من حظي العاثر ، حظي الذي كدقيق نثروه وفي يوم ريح قالوا اجمعوه .. لم اعرف حظا ً كحظي ابداً .. مرة خطب بنا آمر وحدتنا قائلاً بحماس : انتم اشاوس ، دافعوا بقوة عن البوابة لانها شرفكم ! وكلما مر يوم كان عددنا يتناقص بين صريع وجريح ومفقود وفار .. بعد اسبوع من النيران الملتهبة والجثث المتفحمة ، هدأ صخب الموت وانقشعت الغمة لأجد نفسي وحيداً مع الآمر فيحجزني داخل زنزانة من الصفيح اربعين يوماً لبقائي على قيد الحياة !       

وضعت القنينة قرب سريري وصارت امام عيني لأندب حظي كل يوم .. لم استطع فعل شيء ابداً واقنعت نفسي بأن وقت الأنتقام لم يحن بعد ..

مشيت مسافة طويلة وبانت سيارتي خلفي كحبة قمح .. سرت اترنح متعباً عطشاناً في بر موحش مهجور .. ياويلتي ، اخشى ان اتيه في هذه الأرض المترامية ، في هذا التصحر المخيف ..

ابصرت شيئاً يتحرك في سراب الأرض لم استطع تمييزه ، خمنت انها شجرة تقف وحيدة في غربة قاحلة مميتة .. قفزت الى ذهني فكرة الركض للوصول اليها ، ولكن من اين لي القوة ؟ لم اركض .. تخيلت ان اسراب الجراد سوف تأتي وتغزو الأرض الشاسعة واغرق في لجتها ، شعرت ان عينيَ قد احمرتا وملأ الطفح جلدي ..فرحت احكه  بشراسة وخفت ان اصاب بالجرب ! ياإلهي ..

انا عطشان وجسمي يؤلمني ولا شيء هنا غير رمل وسماء وشمس خجولة .. تخيلت نفسي سائرا تحت كرم معروش ورمل مفروش ، انتبه ، فأجد نفسي متعباً ، صرخت مستجيراً بعنف ، لا احد يسمع .. ياويلتي اني ميت في غربة كما اخي .. تذكرت كل طفولتي وأنا أمر بهذا المأزق ، رباه .. كلمات المدير كل صباح  ترن في رأسي ، ذلك الأشيب الوقور كان يرتدي بدلة واحدة على مدار العام لم نر غيرها الا نادراً . قبل عشر سنوات رأيته جالساً على الأرض امام داره بدشداشة بالية مقطوعة الأزرار.. اقتربت منه ، سلمت عليه ، لم يرد ، كررت فلم يجبني .. مؤكد انه لم يتذكرني ، كبر الرجل كثيراً  خمنت ان  شيخوخته افقدته القدرة على التذكر ، كان طفلا يقف قربه قال لي انه

مجنون ! ابتعد وإلا ستلقى ما لا يرضيك ، سيرميك بحجر ولو هربت الى آخر الدنيا !

دمعت عيني .. ياخسارة .. ذهبت سنوات طفولتي هدرا وانا أرى الرجل مخبولا يجلس امام داره وحيدا بائسا يخشاه الناس ..

وصلت الى المرآى الذي رصدته من بعيد .. شجرة وحيدة يابسة لا حياة فيها ولا فيء تحتها .. اغصان تمتد بخجل لا حول لها وجذع مترهل مخدد  ، جلست متكأً عليه ورفعت رأسي ادعو النجاة من محنتي ، استسلمت مفوضاً أمري الى الله ، لا فرق بين الحياة والموت في لحظتي هذه ، ولا تدري نفساً بأي ارض تموت .. سأموت وحيداً غريباً لتنهش جسدي الغربان والجوارح .. لا احد يواريني في لحدي واظل فوق التراب حتى اتلاشى تماماً .. وقد تبقى بعض عظام متناثرة .. رباه .. انك تمهل ولا تهمل وتستجيب دعوة الداعي اذا دعاك .. اغمضت عيني وسمعت صوتاً كأنه الرعد، مدوياً زلزلني .. لم اتحرك .. تخيلت اني في لحظاتي الاخيرة .. سأموت .. قفز شريطاً  تحرك ببطء .. الممثلة الشهيرة تهرب الكوكائين تحت ملابسها الداخلية ، اخي يموت امامي واعجز عن فعل شيء ، مديري المجنون الذي كسر قلبي ، آمر وحدتي الذي لم يعجبه بقائي على قيد الحياة .. يا ألهي ماالذي يحدث لي .. ارغب بحصان ينطلق بي في البرية وافعل كلورنس العرب في الصحراء المترامية .. ياويلتي من زماني الذي ذهب سدى ..ما الذي جنيته ؟ تمنيت موتي مع اصحابي بعد خطبة آمرنا الصنديد ، ماتوا وتركوني وحيداً.. الصوت يدوي في رأسي ويهز نافوخي وانا مغمض العينين ، تخيلت ان السماء ستمطر مدرارا وسيسكب الماء مسفوكاً على جسمي اليابس ..

 إرتعدت من الصوت الذي بعثر صفنتي :

ـ انت !

انطلق الصوت الاجش وسط ترترة مخيفة ، فتحت عيني ، الرجل الواقف يمد يده ، نهضت مرتجفاً كموجة تتدافع صاعدة الى شاطيء منحدر .. ثبت واقفاً وكأن سوطاً يلهب جسمي ، تمسكت بالرجل كغريق يريد النجاة .. كلمني بنبرة تشيع فيها اللطف : اشكر ربك انني رأيتك !

تملكني شعور بالقرف وانا اغادر الارض الشاسعة واتذكر اخي الذي مات غريباً والقنينة الجاثمة قرب سريري لا من احد سيحملها ويأتينا بخبر ذلك الذي استهان بأخي ، فتطلق بلدتنا احدى وعشرون اطلاقة مدفع ابتهاجا بالمناسبة ..

 

 

 

ما يتركه الجراد

 

في ظهيرة قائظة من يوم مضى .. لم اكن اعرف تماما بما حصل .. لم استطع سؤال أحد ..

 رأيت رجلا ذو سحنة غريبة ، وجه غارق بحمرة لاصفة .. عينان غائصتان خلف نظارة سوداء ..

ترجل من آلية ضخمة مرعبة .. كلمني دون أن افهم شيئا .. لم افهم أية كلمة .. لكني عرفت من

إشاراته بأن علي ترك المكان حالا وإلا سألقى مالا يرضيني ، هذا ما خمنته مع نفسي .. فقد كان غاضبا ويتكلم وكأني ارتكبت خطأ ما .

لم استطع سؤاله فمؤكد انه لا يجيبني .. لا يعرف أية كلمة مني .. تكلمت مدافعا ، صرخت  لافائدة ..

راح يزجرني هاذيا مغتاظا وانا واقف في مكاني الذي خلا إلا مني ..

الآلية الضخمة تصدر صوتا مدويا ومزعجا .. عجلاتها دمرت إسفلت الشارع المحاذي للنهر ، اقتلعته وصار كزرع عبثت به الثيران الهائجة ..

 تسلق آليته الواقفة في الشارع المدمر مستنكرا وجودي بنظراته المحتدة التي ظل يرمقني بها

 فيما ظهرت ثلاثة رؤوس من جوف الآلية المخيفة ..

 لم يتكلموا قط لكنهم وزعوا نظراتهم حول المكان غير مبالين بوجودي ..

تحركت العجلات ممعنة بالشارع تدميرا .. لكنهم توقفوا .. وانبرى الوجه صاحب النظارة طالبا مني المغادرة بإشاراته ومطلقا كلماته التي لم افهم منها شيئا .. استدرت الى الوراء وسرت بخطوات وئيدة متلفتا نحوهم وأنا أتألم لمرأى الشارع الذي داسته كل أقدام الناس الهاجعين ألان في بيوتهم في غابر الزمن لا بل في زمن مضى أو قل منذ زمن قريب وصار جزءً من همهم ..

نظرت بأسى بالغ الى نثاره وتخيلت أثار الأقدام التي اختفت وتلاشت وصارت خرابا ..

قلت لنفسي فزعا .. لماذا يصرون على مغادرتي ؟ ياويلتي ان رأوني ثانية .. واستدركت :

ماذا سيفعلون بي ؟

هل سيلقون بي في النهر ؟

لا اعلم ماذا سيكون عليه الامر لو عادوا ووجدوني اقف قبالة النهر على الإسفلت الخرب

 في الشارع الذي كان قبل ساعة من الان خزين ذكريات المدينة عبر كل الاقدام التي مرت عليه ..

المدينة نائمة الان .. القيظ لايطاق ابدا .. كان مجيئي محض صدفة مطلقة ..

 ولكني لم استطع تفسير حضور صاحب النظارة وجماعته في الالية المفزعة ..

عدت ثانية أتفحص النهر وماءه الساكن .. وقفت في نفس المكان الذي طلبوا

مني مغادرته رغم اني لا اخفي قلقي من قدومهم وانا لا اعرف السبب من خشيتهم مني ..

 نزلت واقفا على الجرف  ومررت بيدي على الماء وانا غارق في التأمل ..

الظهيرة الحارة تحرق رأسي كاسواط اللهب وانا انظر من حولي فبدت المدينة مهجورة تماما ..

 لاشيء يتحرك .. لا شئ يدل على وجود حياة .. كل سكن وتحول الى جماد كإسفلت الشارع

الذي خربته الآلية المخيفة ..

فجأة .. تناههت الى سمعي ترترة محرك الآلية  .. روعني الصوت وجعلني ابحث

عن مكان قريب أتوارى خلفه .. لاشيء أمامي غير النهر الساكن ولاشئ خلفي

غير شوارع مهجورة ساخنة ترتعش في سراب بعيد ..اقترب الصوت مزعجا ، تلفت فلم ار شيئا يحميني  .. داهمتني على الفور فكرة المغادرة فتحركت بمهل نحو الشارع الطويل الموصل الى قلب المدينة

ولكن عليَ ان اصل الى الشارع المدمر أولا رغم قربه مني  فوضعت اولى خطواتي

 وشعرت بانهم اقتربوا مني .. أسرعت في اختراق الإسفلت المقلوع وولجت

الى جوف الشارع الطويل .. لمحت شخصا يتحرك باتجاه النهر وكدت اصفق فرحا ..

اقترب مني حتى صار أمامي ، كان رجلا مسنا وحده في الشارع ولا أحد غيره في القيظ الحامي ..

 اجتازني سائرا الى الامام الى حيث النهر .. لم يروه وهو يقترب ، كانوا في جوف اليتهم  الواقفة قبالة النهر والتي يبدو انها خربت ماتبقى من إسفلت الشارع ..

واصل الرجل سيره مارا من أمامهم فتعجبت لجرأته وعدم اكتراثه ..

 دغدغت مشاعري فكرة طارئة ، ان الحق به مهما تكن العواقب ..

تحركت الى حيث كنت .. انضممت الى الرجل المسن الواقف في الخلف منهم فشعرت

إن خوفي قد تلاشى .. اقعى الرجل على الجرف فسألته متبرما :

ـ  هؤلاء لا يقبلون وجود أي أحد في هذا المكان .

أجابني وهو بادي الإنهاك :

ـ ليفعلوا بي ما يفعلون .. !

جفلت لهذا الجواب فشجعني اكثر في البقاء معه لكنهم ترجلوا من القمرة العالية ..

كانوا ثلاثة  وانهالوا علينا بسيل جارف من الكلمات التي لم نفهم منها شيئا

وسألت الرجل العجوز الذي انتصب واقفا فكان مثلي لا يعرف ما يقولون ..

 تقدم أحدهم نحونا ووضع كفه على كتف الرجل المسن لكنه لم يدفعه ، فهمنا إنها تعني إخلاء المكان ..

تحرك العجوز فلحقته .. انطلق بسرعة فيما كان الاثنان الآخران يصرخان بوجهي  وحاول

أحدهما دفعي لكني افلت منه  . ابتعدنا عنهم .. سرنا تحت رحمة الشمس اللافحة ..

حاولت كسر جمود الموقف مع الرجل بأسألتي ، لم يجبني واكتفى بالنظر ألي فشعرت بأنه خائف

 من شئ ما ولم يوصد الباب بوجهي قال لي متهجدا :

ـ لنترك المكان !

اجبته متسائلا :

ـ لماذا يحاولون إبعادنا ؟

صمت الرجل لكنه كمن تذكر شيئاً قال ساخطا :

ـ لنعد الى بيوتنا .

أحسست بان الرجل يخبئ شيئا .. لا ادري ما الذي جعلني اعتقد ذلك .

التفت الى الوراء فرأيت حشودا غريبة فازدادت رهبتي .. يا الهي لقد تناسلوا .

 صاروا اكثر من خمسين رجلا يتشابهون في كل شئ .. انطلق العجوز مبتعدا عني ..

صحت خلفه علي أقنعه بالبقاء قربي .. لم يتوقف ولم يجبني أبدا عن صيحاتي ..

 سرت الريبة الى دواخلي وتأكدت بأنه يخبئ سرا ما وانه يعرف لماذا يتواجدون قرب النهر في

 ساعة القيظ هذه ..

كانوا يتحركون متوزعين وكأنهم يحرسون شيئا .. ازداد تشبثي بالرجل المسن

 وحاولت ثنيه عن الهروب .. ألححت عليه ، توقف فجأة ، نظر ألي بشرود وقال كلماته

الحبيسة وكأنها انبثقت من بئر عميقة :

ـ قبل ساعة حدث كل شئ !

صمت وبدا انه نسي ما تبقى ، وضع يده على رأسه وأحسست بأنه يتألم من حمى اللهب

الذي ضربه في هذه الساعة واردف :

ـ ما الذي بيدنا عمله ، كل شئ حدث وانتهى بلمح البصر ! كنت هناك ولم اقو على عمل شئ ..

 لم استطع .. خذلتني سنيني وعجزت عن المحاولة ، بل لم أفكر .. لم ..

نظرت أليه مشدوها .. لم أرد عليه بأية كلمة ، لم اجبه وعقد الدهشة لساني وشعرت

 برعشة تسري في جسمي وأنا أرى الرجل يرتجف ..

قلت له متخابثا :

ـ هدئ من روعك يا رجل .. اكمل .. اكمل

اطرق برأسه وقال :

ـ لم يجدوا وسيلة للهرب ، فرموا بأنفسهم في النهر ! خسارة .

ـ من هم ؟

ـ رايتهم وهم ينطلقون هاربين من قبضة هؤلاء .. كانوا يركضون بعنف نحو النهر ..

أحسست إن الرجل يرتجف بشدة وعلت صفرة الموت وجهه ، أشفقت عليه وجلت بنظري

 حول المكان ابحث عن ظل أجلسه تحته .. رأيت على بعد وتحديدا على رصيف الشارع الطويل ظلا خفيفا، أمسكت بيده وسرت به نحو دكة حجرية تظللها بقايا شجرة مسكينة وصلنا بعد عناء، تهالك

 وهو يرعد ولكني شجعته بروية وبهدوء مطمئن ليكمل فلا أحد يسمعنا ولا أحد غيرنا ..

ـ كانوا ثلاثة .. رموا بأنفسهم في النهر ولم يخرجوا طيلة مكوثي .. ربما كانت اقل من ساعة ..

 رأيتهم وخلت انهم سيخرجون ولو طالت غيبتهم ..

 شهدت كل شئ وكاد الهلع يخلع قلبي ، هربت الى مكان ابعد انتظر ما سيؤول أليه مصيرهم .

نهضت وصحت مذعورا بوجه الرجل ..

ـ وما الذي دفعهم الى ذلك ؟   

كدت اصعق من وقع كلام الرجل ..

 لكني حاولت ان أهدئ من فورة الغضب واستمع الى الرجل الذي كان موتورا ..

رفع رأسه قائلا :

ـ لم يسعني إلا أن اعترف بعجزي .. لم استطع فعل شئ يمنع الكارثة !

انهار باكيا ، تألمت لمنظره ، أشفقت عليه ولا ادري أي شعور بالقرف تملكني ..

 نظرت الى النهر فوجدت المسلحين قد توزعوا على طول الشارع الخرب ، لا زالوا تحت اللهيب الحامي يغلقون المنطقة ..

تملكني رعب خفي وأنا استمع الى الرجل الذي بدا كلامه مخيفا ..

 روعني الى حد أنني ارتعدت وقلت فزعا :

 ـ لنعد ونرى ما يحدث !

أشار بيده نحو النهر في ازدراء ، قال :

ـ  ستجدهم يملؤون الجرف يا صاحبي .. انهم كالجراد ان هجم على زرع لا يبرح حتى يتأكد انه اهلك ،

 كل شئ .. ستجدهم واقفين ليتأكدوا من ان الثلاثة غرقوا وانقطعت سبل نجاتهم .. لننتظر ونرى .

بعد دقائق لمحت مجموعة منهم تتحرك وتختفي ولحقتها أخرى ..

 قلت في نفسي الفرج بات قريبا .

كانت المجاميع قد غادرت إلا الآلية المدوية ..نهض الرجل ينتظر معي مغادرتها مع وثوقي بأنه يسمع الترترة المرعبة دون رؤية شئ حيث تحركت مخلفة وراءها صوتا متوحشا مروعا ..

ابتعدت تماما عن المكان وآن لنا أن نتوجه خلسة هذه المرة مع حذرنا الشديد ..

 تحركنا ببطيء وكأننا ربطنا بحبل ، قرأت الغضب في عيني الرجل لكنه ظل صامتا ..

قطعنا مسافة حامية ينز الشارع فيها حمما تحرق كل شئ فينا حتى خلت إن دماءنا قد تتبخر قبل أن نصل الى النهر فلا اثر لأي كائن في دائرة المكان والناس هاجعة في قيلولة ربما تمتد لساعات أخري ..

 وصلنا الى الإسفلت المهشم وكأن زلزالا  ضربه بعنف .. وقفنا سوية أمام النهر الساكن ..

 كل شئ كان ساكنا .. لا حركة البتة ولا اثر لحشد المسلحين الذين تواروا ..

الرجل المسن اقترب من اجرف وانهار مجهشا ببكاء مر ، لحقته محاولا سحبه الى الوراء ..

احمر وجهه وكاد يختنق ..

 فجأة راح يصرخ مهتاجا وتمدد على وحل الجرف ساكتا شاحبا فيما تعرق جبينه ، تحسست صدره ، نبضه سريعا .. فتحت أزرار قميصه حول الرقبة والصدر والبطن وجلبت ماء بكفي ، رششته على وجهه اليابس .. أفاق بعد عدة رشقات.. أجلسته متوسلا إليه بالمغادرة ونسيان ما حدث ..

 رفض بشدة وشعرت ان قوة ما تجبره على البقاء ، نهض واقفا كالملسوع ، سار خطوتين ورجع بقدرهما .. بدا نافذ الصبر متوتر .. غاضب وساخط ، تمتم بأشياء سمعت منها سباب وشتم ولعنة ..

فجأة ظهر رجل طويل الشعر أشيب ضاع وجهه وسط لحية مغبرة كثة ، نظراته زائغة متهالكة ، يرتدي أسمالا ، اطلق ضحكة قوية واستدار مغادرا .

 حاول الرجل المسن الانطلاق خلفه هائجا محتدا ، منعته بقوة

وسكن شاردا مطبق الشفتين قال بحزن بالغ :

ـ أرادوا الهرب من قيد أولئك .. كانوا يسيرون مرغمين أمام الآلية  بخطوات

 تتحرك بعناء لا اعلم ما الذي جنوه ، لكني خمنت بأنهم كانوا تحت رحمتهم واقتادوهم لسبب ما

 ربما يكون واهيا تافها .. كنت مارا ورأيت كل شئ .. لم يكن امامهم سوى الموت في النهر، لحظات وسمعت ارتطامهم بالماء .. لم استطع البقاء فهربت خشية الايقاع بي .. رايتهم كيف القوا بأنفسهم ، كان المشهد مفزعا وسمعت دوي اطلاقات كثيفة ..

لم اكن بمفردي حين حدث المشهد المروع ..

 كان المعتوه ذو الأسمال واقفا يطلق ضحكاته المجلجلة وسط لعلعة الرصاص ..

 كنت عاجزا عن فعل شئ سوى الهرب وها انذا اقف في نفس المكان ثانية ..

 فرك يديه الواحدة بالأخرى .. اغتاظ كثيرا وهو يرى المعتوه يعود ضاحكا بخبث ، صفن بوجهي وقلت مهدئا .. انه رجل معتوه لا يؤخذ على أفعاله ..

الرجل المسن تقدم نحو الماء ينظر إليه بعينين دامعتين .. دخل فيه.. المعتوه يضحك كأنه ينعب ..

 خمنت بان المسن سيخرج ان اشبع رغبة تجيش في نفسه ..

ابتعد الى حيث غطى الماء كل جسمه إلا  رأسه .. فجأة دوت اطلاقة ..

انبطحت أرضا ولم اعد أرى شيئا ..

 بعد لحظة ترقب مخلوطة بالذعر نهضت ..

 لم أر رأس الرجل المسن الذي اختفى تماما في حين صمت المعتوه  المتمدد على الوحل

الممتزج بالدماء  وسط حيرتي وخوفي وأنا اسمع صوت الآلية المخيفة تقترب مني ..

 

أضيفت في 20/11/2007/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية