أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب الكبير: جمال أحمد الغيطاني / 1945-معاصر

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد جمال في جهينة 9 مايو 1945 ، إحدى قرى محافظة سوهاج ضمن صعيد مصر،

حيث تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة عبد الرحمن كتخدا، وأكمله في مدرسة الجمالية الابتدائية.

 في عام 1959 أنهى الإعدادية من مدرسة محمد علي الإعدادية، ثم التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية.

 

عمله واعتقاله

في عام 1963 استطاع الغيطاني أن يعمل كرسام

 في المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجي حيث استمر بالعمل مع المؤسسة إلى عام 1965.

تم اعتقاله في أكتوبر 1966 على خلفيات سياسية، وأطلق سراحه في مارس 1967،

 حيث عمل سكرتيرا للجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي وذلك إلى عام 1969 م

في عام 1969، مرة أخرى استبدل الغيطاني عمله ليصبح مراسلا حربيا في جبهات القتال

 وذلك لحساب مؤسسة أخبار اليوم. و في عام 1974 أنتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحفية،

 و بعد إحدى عشر عاما في 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيسا للقسم الأدبي بأخبار اليوم.

قام الغيطاني بتأسيس جريدة أخبار الأدب في عام 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير.

 

الوظائف التي تقلدها:

-عمل بجريدة الأخبار فى السبعينيات.

-مراسل حربى على الجبهة المصرية فى حرب 1973

-مراسل حربى على الجبهة الإيرانية العراقية 

-رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب الأسبوعية

الهيئات التي ينتمي إليها:

-عضو لجنـــــة القصة بالمجلس الأعلــــى للثقافة

 

الإنتاج الأدبي:

 

المجموعات القصصية

-يوميات شاب عاش منذ ألف عام ، عام 1969 

-"أرضى  أرضى"، عام 1972

-حكايات الغريب، عام 1976

-ذكر ما جرى، عام 1978

المجموعات الروائية

-الزينى بركات، عام 1974

-وقائع حارة الزعفرانى، عام 1976

-الزويل عام 1974

-خطط الغيطانى، عام 1981

-كتابات التجليات رواية في ثلاثة أجزاء 1983 - 1987

-رسالة البصائر فى المصائر، عام 19890

-متون الأهرام عام 19940

-حكايات المؤسسة، عام 1997 

أدب الرحلات والمذكرات:

-المصريون والحرب، عام 1974

-حراس البوابة الشرقية، عام 1975

-نجيب محفوظ يتذكر، عام 1980

-مصطفى أمين يتذكر، عام 1983 

-وقد ترجمت أعمال الغيطانى إلى العديد من اللغات الأجنبية منها

الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية 

 

الجوائز والأوسمة:

جائزة الدولة التشجيعية للرواية عام 1980.

جائزة سلطان العويس، عام 1997

وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.

وسام الاستحقاق الفرنسي من طبقة فارس،

Chevalier de l'Ordre des Arts et des Lettres عام 1987

جائزة لورباتليون,Prix Laure-Bataillon لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية

 عن روايته التجليات مشاركة مع المترجم خالد عثمان 19 نوفمبر 2005

نماذج من أعمال الكاتب

الهجرة إلى الداخل

ليل المدينة

بكاء حزين

 البيرق

كايرو

الدورية

صحراء المدينة

spots

أوصاف

نفس

سوزي

حكايات الخبيئة - رواية

متون الأهرام - قصص

شطح المدينة - رواية

الزويل - قصص

سفر البنيان - رواية

 

البيرق

 

قصص البدايات - 04/01/1973

.. أجهل المكان لا أعرف إلي أين يؤدي ولا دليل ينصحني بالاتجاه، البلاد غريبة واللسان صعب، سبعون يوما لم أمد جسرا متصلا مستمرا بإنسان، منذ وصولي لاقتني المدينة بصد، ملامح الناس لا تنطق حزنا أو فرح، وعبارات الحديثة محددة غير متجددة، منذ ثمانية وسنين يوما قابلت رجلا من بلادي. يقيم منذ زمن هنا، جئت وعنوانه معي، بدأ قلقا يتلفت حوله باستمرار، أجهدني سماع صوته، قصدت مصارحته بحالنا هناك، أثير انتباهه، أدفعه إلي أبداء أنفعال، قلت أن الأمان ضائع والطمأنينة شحيحة، ولا أحد يضحك من القلب، وإذا أجتمع أصدقاء في سهرة، تعلو أصواتهم وضحكاتهم لدقائق ممدودات، ثم يسكتون فجأة، لا ينطق أحدهم حرفا، حدثته عن رجال يمشون فرادي هادئين يفاجئون بالبعض يتشاجر معهم بدون سبب، أصبح من المألوف أن ننشر الصحف حوادث غريبة، رجل يقفز فجأة علي امرأة في ميدان عام تملؤه الظهرة ويحاول مضاجعتها. عدد من الشبان يركبون سيارة صفراء يتوقفون بجوار الرصيف، ينزل أحدهم، يتقدم من رجل وامرأة.. يمسك ذراعها، يسحبها إلي داخل العربة، ينطلقون بينما يزعق الرجل.. امرأتي.. امرأتي.. والمارة يمضون غير مبالين، بعض الملثمين يصعدون إلي القطارات وعربات المترو بعد انطلاقها من المحطات، يدخل واحد منهم إلي عربة بأكملها، يجرد من فيها من الساعات والنظارات، وخواتم الزواج، ثم يبتعدون بهدوء، قلت: إن النوم عسير في أهدأ الضواحي وأرقي الأماكن، قلت الود بين الأصحاب مفتقد.. وعلاقات العمر تنسف عند أتفه خلاف، حتي رعشة القلب عند رؤية الوجه الجميل ضاعت ولا حماس للحب، رأيت ملامحه صماء، كذت أقول له إن البرق سيضع جدا لهذا كله، لكنني خفت، تذكرت تحذير العجوز.. "أياك.. أياك..".

اختلت الألفاظ عند طرف لساني، قال بعد صمت: إن الأمور صعبة هنا ولا يمكنني العثور علي عمل بسهولة، قلت إن الصحف تكتب عن مهاجرين نجحوا في أعمالهم، قال.. هذا كذب، الرزق هنا ضيق، سكت، نظر إلي، تقول عيناه. قم. قم، ورددت لو غطيت جرحي أقول له إن رحيلي أتاني بصير الأماني، أصف ا لبيرق، أقول كيف يخفق، أتحدث عن حال الدنيا قبله وبمده، عن مصائر تبدل وتتغير بعد أن أنشره.. سمعت العجوز المهيب. "أياك.. أياك".

الآ لا أدري إلي أين أمضي، لا مواعيد تشدني إلي أحباب، لا أعرف من ألقي وبأي أرض أموت، هل ناداني أحد؟؟ صوت معدني الرحيل، نابع من ذرات الأرض، فراغ السماء، بلا مصدر، من كل فج، يبرق الليل البعيد أمامي الآن، أشم البحر وصوت العجوز يتردد مهيبا وعرا.. "أياك والنظر إلي الخلف".

لا أدري حتي الآن من أين جاء؟؟ إلي أي أقاليم الدنيا ينتمي؟؟ أم ألمحه بعد بين ركاب السفينة كما لم آره من قبل، عندما بدأ حديثه الليلي الوقور أوغل في كهوف عمري، قال: إنه يعرف كل شيء عني حدثني عن آلامي ومواجعي قبل رحيلي وتوقي العازم إلي الفرج، عن إجراءاتي من أجل السفر، احصائي الأوراق غالمطلوبة وكتابتها بورقة بيضاء صغيرة لا تفارق جيبي، كلما تم تجهيز أحداها أشطبها، حدثني عمن صاحبوني إلي سراديب المصالح الحكومية، من أكدوا مرة أخري اسمي وميلادي وحسن سيري وسلوكي، تحصني ضد الأمراض ثم عبوري صالة الركاب البحرية وعندما اختلطت ملامح المدينة تلاشت ا لفراغات بين ميانيها، ذاب الجماد في الفراغ، طال بكائي ورثائي لعمري الأول ولسهرات الأصحاب في أيام الدفء، واللقاءات الجادة والليالي الأخيرة من رمضان وصباح الأيام ونزهة في الضوء والشمس، رأيت نفسي مقدما علي ولوج عالم أجهل كل شيء فيه أيقنت يقينا غامضا أنه يعرف ما سيجري لي، في القمة المشبعة برائحة البحر رأيت ابتساما شاحبة كمرأي البحر آخر النهار.

قال: إن أيامي في القرية ستصبح طوالا.. ولكن يجب الحذار.. الحذار.

لم أستفسر، إنما أوثقت إليه بغموض الليل وعمق البحر وأوجاع الرحيل وضيقي وهمي، رأيت زيه الغريب من عصور بعيدة، رأيته لا يرحل من مكان إلي مكان، إنما عبر أزمان متباعدة.

قال: إن الصعاب كثيرة، ستتداعي بعض جوانب حصوني، سيستمر هذا سبعين يوما.. في نهايتها تصبح عند شارع بعيد عن المدينة تماما.. بالضبط، طالعني شارع متسع، الأرض مغطاة بحشائش رفيعة حادة، وطأت بقايا خط حديدي صدئ.. مختفي في بعض المواضع، ثم يبدو لمسافات قصيرة متآكلا، تبدو بيوت متباعدة، مغلقة الأبواب والنوافذ والستائر مسدلة، الهواء شفاف بكاديري، مباني المدينة كلها صممت بقصد خفي، دفع الرعب إلي أطراف الأوردة والشرايين، إذ تبدو فارهة، حجرية النظرات تندفع فجأة قطة، تكاد تلمس قدمي، ربما نمر صغير وألا لما أحدثت هذا الصوت.

"أياك أياك والالتفات.."

يقف بائع أمام عربة خشبية غطاؤها يقوم علي أربعة أعمدة تحيلة، لا أدري ماذا يبيع؟؟ صف باعة يقوم في مواجهة آخر، أينما نظرت في اتجاه مستقيم القاهم، كان نظراتي تزرعهم، كل منهم منهمك في ترتيب بضاعته، لمحت علبا ملونة مسدسة الأشكال، أغلفة مجلات ملونة، علب مغلقة، أبدي الباعة سريعة، لا أسمع لهم حسا أو صوتا، تخفي أسرارا جساما، أم التفت إلي أي الجانبين، أكاد ألمح بيرقي مرفرفا، أنظره واضحا، استشعر خفقاته في الهواء، أصغي إلي وقع آلاف آلاف الأقدام، يأتمر أصحابها بما يلفظ لساني.. يسقط وعاء نحاسي ضخم، صهريج، يبدو حجمه من صوته، يتوالي رنين الصدي.

"أياك.."

يصيح أحد الباعة ورائي تماما .. الباقون صامتون.. جهاز عجيب يا سادة.. راديو وبيك أب وتسجيل وتليفزيون وماكينة حلاقة وتليفون لاسلكي.. جهاز.. لابد أنني مبهر الناس في بلادي بهذا الجهاز، يتصارعون من أجل الحصول علي مثيله، تنشر الصحف صورتي، أقف إلي جواره.. بأرخص الأثمان.

صوت البائع ينادني، يرجوني، يوحي إلي بنساء يتهافتن للفرجة عليه، وأيدي تقلبه. وعبارات....

"أياك.. أياك" والالتفات إلي الخلف.

قال العجوز الغريب، ستسمع أرق الأصوات وأحد النداءات، غالبا نفسك، أقهر الرغبة، أياك والالتفات، لن تصل أبدا، صمت قليل، عيناه ما يجري في خبايا الدنيا، عيناه طافتان علي الماضي البعيد والزمن الآتي، أطل منهما، ألتمس مصير أصحابي، أعرب ما جري، ما سيجري، أرقب الرعب والشفرات المشهرة، وصغيرات السن يتأوهن إذ يغتصبن عند عتبات المساجد.. تحقق مصائر، أي ا لمواضع يضمني غدا وبعد غد.

أسمع.. نداء حاد، مفاجئ، غادر مباغت كالسقوط في هاوية لم ألتفت.. سمعت العجوز، استعدت طريقته في لفظ الكلمات، مذاق حسه.

يف النهاية ستجد نفسك أمام بيت من طابق واحد نفسك أمام بيت من طابق واحد، أنيق مدخله حف بالسوسن، أوراق خضراء طيبة الرائحة، زهور غريبة ألوف تتسلق الجدران لها أشكال آدمية، ستقف أمام باب صغير مقبضه نحاسي، ستمد يدك، أطرافه، ستخرج لك امرأة عجوز، وجهها غابة تجاعيد، فمها خال من الأسنان، أطرافها ترتعش، سيدق قلبك عاليا، سبتدو لك منفرة، ستبدو غاضبة، لا تخف، لا تتراجع، لا تخش أمرا، أهجم عليها، أمسك يديها، عر صدرها، مد فمك إلي ثديها الأيسر، ستقاومك، ستتدفق قوة تتنافي مع مظهرها، تفان، تفان، حتي تتغلب عليها، تتمكن منها، تمسك حلمة الثدي ذاتها، مص بقوة حتي تستشعر مذاق الحليب، ودفئه في فمك، هنا ستحنو عليك، ترق فجأة، يتبدل مظهرها الشره القاسي، ستقول.. ماذا تطلب؟؟

قل كلمة واحدة "البيرق.." ستسأل، "ما الداعي" لا تفه إلا بستة حروف "البيرق".

سيبدو صوتها قادما من سنين عمرك، يشبه نبرات أمك.

"أعطيك من أموال الدنيا ما تشاء، الجاه، الجاذبية، السمعة الحسنة، الانثي الفاتنة، المأوي المريح، الظل الظليل، خلود الذكر".

لا يرق قلبك، قل "البيرق" عندئذ ستبكي أمامك، تبدو حانية، مثيرة للآسي، توجع القلب القاسي، وتستهيل الجماد، وتغلق الحجر بحزنها البادي، قال »البيرق«، لن يستمر عويلها، سينقطع شجنها فجأة، تدخل ذليلة، خرساء، لا تتبعها، ستعود إليك، تحمل بيرقا طويلا ملفوفا، خذه منها مطلوبا، أمضي به إلي أوسع مكان، ثبت قدميك في الأرض، انشره.. دعه يخفق ثم تلفت حولك.

انثي حلوة، عيناها محطة وصول أخيرة ورسالة مرتقبة وظهور نتيجة ودرجة أخيرة من سلم. ع يناها صبغتا من عسل نحل مصفي، المشي بجوارها رحيل إلي سنين أحلي، تجاوزتها بأمتار، دق صدري كله لخطاها، نادتني.. تذكرت العجوز.. "أياك والالتفات".

قالت: إنها تعرفني، أنها تنتظرني، تبدلت عليها شموس قاسية وحانية، وقهرت حنينها إلي البحر والضوء المصاحب للزرقة وملمس الرمال الناعمة يدغدغ باطن القدمين، والجري ثم الأنثناء، قالوا لها إنني لن أصل أبدا، لكنها غالبت الانتظار واختفت الأصوات الليلية، وتفحصت الملامح، واصفت إلي الأنباء، والإشارات الخفية، والآن.. تري جسورا تمتد، تصلحها بالفرح والدفء، وتردد الأنفاس الحبيبة فوق بشرتها، وسهرها الليلي مع من تحب، وأحاديثها إليه واقترحاتها وأمنياتها له، صوتها خدر وريق حلو ونداءات ناعسة من العمر الضائع لكنني استعديت من كل فج كلمات العجوز، خلقت منها صورا لبيرقي، رأيته خفاقا منها صورا لبيرقي، رأيته خفاقا في الأعالي، دائما يتقدم جيشا لا مثيل له، لو وقف محاربوه صفا واحدا بمعداتهم، وأسلحتهم، واستعرضتهم ماشيا لانقضت شهور عديدة، مقسما إلي أربع فرق، كل فرقة تسد جهة من الجهات الأربع الأصلية، لكل فرقة سلاح لم يسمع عنه بشر، لا تصد، لا تقهر، جنده لا يفني أبدا، كلما جرح مقاتل حل مكانه آخر، لا يعصون أمرا، لا يهزمون قط، لا يشكون أبدا، قال العجوز، لو طلبت منهم زحزحة الجبال لفعلوا ، لو شئت نشر الخضرة في الجدب والنماء في القحط لأقدموا علي هذا، لو رغبت في إيقاف الصاعقة ما بين لحظة انطلاقها من السماء وقبل وصولها الأرض لحولوا مسارها، بهم تستعيد الأمان إلي الدنيا، تعمر الخراب في الكون، تفئ أحشاء الجياع، بهم تزهو، تعلو بقومك، قم.. غالب أيامك العجاف، الخالية من البهجة، المهجورة من ضحك الأعماق، وجه قوادك وفرقك أينما شئت، أجتث الظلم والجور، وأقهر العدوان، وأنصر الضعيف، وأجعل الذليل قادرا علي رد الإهانة، فقط.. أقهر رغبتك في النظر إلي الخلف.. يرتفع فجأة بوق عربة، قوة الصوت أوشكت أن تدهسني. ضاع صوت البنت، كأنني أسير أفلت من الاعتراف بعد تعذيب مر، لم تجبرني عذوبة صوتها علي الالتفات، حتما أنا واصل، بعد قليل أفرد ببرقي، أبدأ سطورا جديدة في واقع الدنيا، نذكر مما يدهشة حيرتنا، ذوباننا في الشوارع الخالية، ننهي سنيننا العجاف.

تنمو ضجة علي مهل، تتصاعد أصوات ناعمة كدبيب أقدام رفيعة بلا حصر فوق جلد ناعم أملس، أصغي أسمع.. تصابح التلاميذ وقت الفسحة في مدرستي الابتدائية.

صوتي أسمعه طفلا خلوا من الهم.. "حاسب.. حاسب" وشيش موج.

أنت يا.. أنت يا.. فتاة تنادي.

أطباق تصطدم بأطباق.. دراجة بخارية تبدأ بطيئة، تفرقع مرات.. جمهور في مقهي، تتعلق أبصار بشاشة صغيرة، تقترب الكرة من المرمي، يهدر صوت جماعي.. هيه.. تهرول القلوب، من أخبار الصباح.. في الثامنة عشر ومات أثناء مشاهدته المباراة بسبب الأنفعال.. الأنفعال.. عواء ممدود من عربة أطفاء تبعد عن بؤرة سمعي.. يتبعها عواء أخري.. ينوح الليل مذعورا.. من شرفة فندق علوية يتساءل رجل، أين الحريق.. يزعق شاب "منطق مرفوض".

سيداتي.. سادتي..

إليكم همي يا سهاري..

الآن جاءنا ما يلي..

آه، فجأة تتوحد الأصوات في صرخة ممدودة، ملتوية، لا تطلقها حنجرة، منبعها الحشي وأعمار طويلة وسعادة تنتهي ومستقبل يهدد وإمكانية تهدد وعجز إنساني في مواجهة ألم قاتل وإدراك اللاجدوي ومصاب حل، صرت عجلات، تذكرت رجالا ونساء يتزاحمون، تراما يتوقف فجأة وإنسانا يصيح، غبار الماضي ثأر فجأة، البعض يلملم أشياء تناثرت من حقيبتين يحملهما جندي، يخرج صوته ملتاعا، يخترق حاجز السمع، يلامس دقات القلب، أبدأ تفسير الحروف" آه يا مني.. بقيت أعرج" يعاود الصراخ بلا حد كافي بحر غضوب، الآن تستمر الصرخة، نهايتها كضحكة ممتوه ملامحها لا تضيع إذ يتوقف المصدر لحظة حتي يستجمع ما تبقي، معدتي تأوي شعورا بالقيء، رعبا مجهولا يكدرني، صديد يزحم مفاصلي، "آه.. أنا أعرج يا مني.."، آه لو يرفرف بيرقي، لو تنفي الأوجاع، لو تعود ساق الجندي، لا أدري أين يعيش الآن في مدينتنا البعيدة، هل قبلته مني أم لا. أو أنه لم يزعق متحسرا مذبوحا "حترضي بي يا مني.. بعد ما بقيت أعرج" يعود الصراخ متسلخا، لحظة خارج الزمن، فوق العقل، يلمس العالي الغامضة، بتر روحي الدفين، أين.. هذا إذ لا يتوقف الصرير، يسأل قادم جديد، ماذا جري يجيب أحد الواقفين "جندي راجع في إجازة، عجلات الترام ربطت فوق ساقه" يحدث الصراخ إثرا في الفراغ، يتضاءل إنسان يقفز في الفراغ مخترقا أضلعي وصدري إلي قدس أقداس قلبي..آه.. 

  

 

بكاء الحزين في مشهد الحسين

 

قصص البدايات - 19/12/1969

حدث العابد الزاهد مختار مهدية، الواهب نفسه وعمره لخدمة مقام سيد الشهداء فقال

غير إني عرفت الخطر منذ أيام رايه فم الهواء، لون التراب ابتسامات الأجانب الأغراب يخرجون من خان الخليلي ساؤهم كربلاء هم أعرف ما يضمرون، اكتشف ما يشعرون اسمع الخطر في رجع الصديو اراه في بل الندي في العمرات البعيدة، العربات السوداء المتوجهة في الطرقات الجانبية، همس راكبيها حديثهم في زحام المحالات حفر السوب بين الضلوع لا يتبرؤون عن الدخول في المسام، ملامسة مقصورة المبللة بماد العنب ينتظرون اللحظة التي اياها اعني، قتله كبرلاء خافوا من حز الرأس، حتي اتاهم شمر بن الجوشن، عليه لعنة القرد الصمد، عبث بالرأس نكث الشفين الظاهرتين انبعث منه الضياء، بيارق تكسف نور الشمس، ومن أيام عرفت ما يدبرون من نقل مكاني، ضاع سمري فيه وراح رماني اذبح أنا ازرع جسمي سورا حول مقام مولاي المنجب المجيب، عمادي وصلب حياتي، خلاصة هواي، طفت بعيني أرقب الخارجين من الجامع، الوقت ليل الميدان واسع، دوقة ضوء الليل الرمادي، المصابيح، الصغر في طريق العودة إلي بيوتهم رجال وبنات زينهم العيان يمضي إلي قصر التسوق بعضهم يزعقون، ينزل الهدوء، حتي الصياح أدور حول الجامع، لا يسمحون لي بالمبيت جواره، أتحري وجوه النيام فوق الرصيف، العائدون، جنود الدورية، الباعة، واحد منهم لن يفلت مهما أجاد التخفي، لو ذاب في الهواء، أحال جسمه ونفسه إلي ريشة خفيفة، شعيرة قطن أرفع من الصراط، خيال حي لن ينفذ، دفعت صيفي، كيف يشعر بالبرد من يقدم عمره دفاعا عن حبيبه، كان علي زين العابدين، عليلا، وإذ رأي جيش زياد يحيطهم، والخيار أمامهم، الموت، الحياة، سأل أباه الشهيد، ألسنا علي حق؟ قال الحبيب.. نعم، والذي يرجع إليه العباد، قال إذن لا نبالي.. وأنا لا أفارقه، خرج آخر المصلين مطفأ الأنوار الداخلية، يتدلي النجف من السقف مغطي بجوخ أحمر، ناعس أعمي، أغلق الخادم الباب الكبير، رميت نظرة أخيرة إلي داخل المسجد، لا أحد، لابدأ طوافي، حلي وترحالي حولك، زعقت بروحي حتي لا ألفت انظارهم فيدركوا أني فهمت.

 

 

*****

 

بعض من أحبار العابد الزاهد.. مختار مهدية وأول رؤيته الأعداء.

"قرب نهاية المشهد الحسيني من الناحية الغربية، يتفرع شارع قصر يؤدي إلي مدرسة خان جعفر" لم ينحني في زاوية قائمة ليصبح اسمه شارع بيت المال، عند هذه الزاوية باب عريض يؤدي إلي فنانء فندق الكلوب العصري الشهير، إنه مقهي ف يالوقت نفسه، يجلس به رواد الفندق، وأهالي الحي وبعض ا لقادمين من أحياء مجاورة بحثا عن معارف وأقارب يتواجد أحيانا أغراب لكن من النادر مجيئهم، وفي ليالي الشتاء يسود الطريق القصير صمت ثقيل جامد، وتغلق أبواب المسجد بعد صلاة العشاء، تتمدد أجساد رجال عجائز حول الجامع، العابد الزاهد مختارلا ينام فوق أرصفة المسجد، يطوف الليل حوله، مرتديا عمامته الضخمة المحاطة بشال أخضر، يتأمل النائمين،يغطون، شخيرهم عليل، حتي في ليالي الشتاء الباردة، في كثير منها يبطل مصر، يتجمع في الشقوق التي تفصل بلاط الرصيف، إنه يعرف تماما الذين تعودوا المبيت بجوار المسجد إذ يلحظ غريبا يوقظه، يسأله، من هو، من أين جاء ما اسمه؟ لماذا ينام هنا؟ قيل إنه كثيرا ما عطف علي بعضهم والذين يرق لهم قبه خاصة القرويين الاغراب التائهين في المدينة الكبيرة، بحثوا فيها طوال النهار عن أقارب اسماؤهم مكتوب بالكوبيا علي ورق قديم، لم يستطيعوا الوصول إليهم سألوا عن مسجد الإمام غير أن المساجد الكبيرة هنا تغلق أبوابها بعد العشاء فيولون برصيف الجامع الكريم، يسألهم العابد الزاهد مختار هل معهم نقود إذا تبين له خواء جيوبهم يغيب عنهم فترة قصيرة ثم يعود إليهم بقرشين أو ثلاثة، يربت اكتافهم بحنان يغالبهم من يناموا يغمضون عيونهم وتبقي فوق وجوههم يقومون يختلسون النظر إليه من بعيد من هذا؟ لابد أنه أحد أولياء الشهيد غير أنه لا يتصرف في كل الأحوال هكذا ساعات يلقي أغرابا أو رجالا سحنهم ملتوية لا تخلو من عاهات عنده حس عجيب يكشف به أمر الواحد منهم، بعضهم لصوص وشبان طفشو من بيوت ذويهم لأسبابامضة ثم جائوا إلي هننا مرة ضبط ثلاثة سبية يتقاسمون إيرادهم من النشل في المواصلات، هنا لا يؤذي أحدهم.. باستطاعته أن يخطو إلي عسكري الدورية، في الصيف يجده علي مقهي قريب، في الليالي المطيرة يجلس دائما خلف باب فندق، دار السلام ثم يقوم من حين إلي حين ليطرق بالدكاكين يتأكد من سلامة الأقفال، يملأ السابة ثم يعود إلي مكانه وعسكري الدورية يتمني هذا أن يرسله الزاهد مختار إلي الاشياء لكنه يدفع الواحد منهم في ضوعه، أو يطرق سيبه الحسبي يقول صوت كالوتر المسدود، يرعب النائم فيقوم مذعورا.. ابحث عن مكان أخر مالك هذا المكان.. ابعد.. ابعد. فلا يملك الواحد منهم إلا أن يمل نفسه، ويتنانول حذاءه الذي يسند رأسه إليه، ثم يمضي، لا يسر لهم بل يراقبهم يبعدون عن ميدان الحسين تدوب ظلالهم في الليل يدقق الشتاء بردا في الفراغ يطلع البار من الواح الرجج قضبان النوافذ المزخرفة من الملاط، لا يمكن لعابر المرور يبرد عند الباب القبلي لا يوقف أمامه منام سميحة العمياء، بحسن أولادها الثلاثة يتوقف عندهم يلعبهم ربما انحسر لوب أحدهم فيده، يمص ممسكا بقميص اخضر اللون، في صورة شيد غامض يسمح مسامر عطف وعصب ورعب من الصياح يصم حاجته الصفراء الهديمة التي ارتداها ضابط ما منذ سنين بعيدة فوق كتفيهه مجموعة من نجوم مطرزة بعنانية قيل أه يجددها من عام إلي آخر عند كبير العقادين في خان الخليلي يتوسط النجوم رسم غريب ربما كان طائر مفرود أو صورة حيوان ضائع الملامح قيل أنه خاتم سري يبيح له دخول العوالم السفلي التي لا يدخلها بسر، قيل أيضا أنه تعويذة تحميه من كل شر، وحتي الصباح حيث تدب الحركة في الشوارع لا يوقف ابداً، إذ يستطع النور عن الحي يسمع صوته واضحا يزعق مناديا مولاه سيد الشهداء، أنه واقف غير خائف فثمة جندي حفي يحرسون رأس الشهيد، يحس وجودهم بجواره لو تعرض له أحد، لو خلا قتال أمام أبواب المسجد لن يسمح بمفرده أنهم حفنة وهو يعودهم غير أنه من أيام روحه متسوب بعكازه الحفيفة كأنه يسمع شارة خشب حيه في نافوخه دخان ساك لا يكف عن التصاعد الرد يعمق الظلال تتجمد الوحشة دي الهواء الميدان البيوت القديمة المتعبة حتي العربات التي تمر بشارع الأزهر تمضي بسرعة حظر مجهول يسري وراءها لا يراهاإنما يسمع ضجيجها يحتفي إلي أعلي حيث الدراسة وطريق صلاح سالم المحاري للمعابر اغراب عن الحي يمضون بسرعة كأنهم يدورون حول المسجد إذ خيل له أن بعضهم مر في شارع المشهد الحسيني لماذا لا يتوفقون يرفعون أيديهم يقرأون الفاتحة كما يفعل الأخرون.

 

ومن ثلاث ليالي لمح خمسة يرفدون قرب المبيضة ايقظهم قاموا علي مهل وجوههم باردة كمصراعي نافذة رأهم من قبل لكن أين ومتي؟ إيماء خفي يحيطهم لأمر ما غرض معين جاءوا زعق فيهم من أنتم لم يردوا إنما اطالوا النظر إليه وفجأة انصرفوا اختفوا بسرعة في حارة الوطويط القريبة توقف في مكانه طويلا يذكر قول الشيخ صالح رحمه اللهفي قديم الزمان أعداء الحسين لم يختفوا ربما ظهروا يوماما من عسكري الدورية ممهلا لم يلتفت إليه إنه يعرف عاد يطوف حول المسجد ينفث فمه بخارا ابيض في البيوت الجديدة المحاذية للمسجد من ناحية الرق ثم تسكن بعد قبضت عقلبه نظرات عيون ففيه تطل من وراء النوافذ الجديد المغلقة إما النوافذ الأخري التي لا زالت بلا زجاج أو خشب عيون ضخمة مفدوءة بعضهم يقف خلفها يطيل النظر محاولا اكتشاف أحدهم يراه مجسها يعرف الملامح الانطباع عل يالوجوه توقف اختفي هبط قلبه داخل صدره تسحح آخر بدا الآن أمور سهلة تحدث بعيدا لايراها لكن برعته صداها أحداث جسام طال انتظارها عبر قرون تبدأ الآن اسرع الخطي ربما جاءوا من الناحية الأخري العرق يقفز من مساحة مدحرجا فوق جلده عند طرف المسجد لمحهم يحفون في اتجاه الفندق وقف ابن الشيخ صالح الآن؟ لوح بسيفه المه السكون الغريب حيرا جاء من يمد الرأس ذي مرقده الأمين لا يدري هي تزايد عددهم: هل احتشدوا في الحواري القريبة امتلأت روحه بثقل عجيب بكاء يلبده إلي البلاط الرفيع المستطيل العمر المنقضي هنا يرتعش باثرا طال انتظار ذاك العصر وعليه وقع الأمر خطوة من جدران المسجد لن يبعد لكن يجب ألا يكشفوه اسرع من انفاسه الطواف متمماعلي الراقدين متفرسا في ملامحهم وعندما يفتح المسجد أبوابه وتمتلئ بالمصلين سوف يرقبهم آجمعين.

 

*****

 

وفي صلاة الفجر دار العابد الزاهد مختار علي المصلين فوق ظهره قربة الجلد القديمة التي لم يحملها من سنين يناول الكثير أكواب الماء النحاسية وعندما يميل ليملأ الكوب يتفرس في ملامح الجالسين، يتفحصهم يعرف من يجيئون عادة من أهل الحي إلي صلاة الفجر في هذا الوقت من الشتاد في ركن المسجد القصي عند المنبر لمح رجالا يتثاءبون اتجه إليهم، لايعرف واحدا منهم، مال عليهم، صلي علي حضرة النبي، مد أحدهم يده سقاه الماء المطر، قدم الرجل تعريفة إليه نفر عرق الغضب في جبين العارف بالله صلي علي حضرة النبي.. لا يعرفه.. غريب عن الحي تماما، دار مبتعدا والثقل داخله يرداد في العصر وقف عند الباب المخصص لزيارة النساء، يبيع لهن بعض المصاحف الصغيرة.. وأكياس البخور، بركة من الحسين زحام مفاجئ حول المسجد إنه يبدو مرهقا، لكنه لا يعشر بتعب، وقد حدث فقال:

 

يا فاضل أفندي.. علي امتلات اللوكاندة لهؤلاء الأغراب من زمن؟ سمي واستعاذ بالله أخبرني انهم جاءوا من ثلاث ليالي، هذه هي الليلة الرابعة، لا يعرف إلي متي ينوون البقاء وكلهم في مرحلة من العمر لا تعرف صاحبها،شاب هو أم رجل بلغ به العمر مدي؟ سهم فاضل أفندي وقال يتكلمون لغة غريبة، لا ينزلون إلا بعد الشعاد، ليلة أمس طال سهرهم في الخارج، لم يتناولوا مفاتيح حجراتهم ياخذونها معهم رفضوا أن يفتح الخدم حجراتهم لتنظيفها وترتيب الفراش، قال فاضل افندي إنه أكد لهم الأمانة التي اشتهرت بها اللوكاندة الكلوب العصري من قديم الزمن، فاضل أفندي غاضب كأنه أهين في كرامته، وهل رأيت منهم شيذاً بعد؟ ابدي استعداده لحفظ اهاناتهم مهما بلغت فيها لكن رد واحد فيهم يظههر أنه كبيرهم والمصرف فيهم قال لا باي.. لم انصرفوا.. وقفت في صالة اللوكاندة استعيد بمشايخ صعايدة يدخنون الشيشة في الصالة اغلخارجية وراء حجز الزجاج عمر عامل التليفونات يدلي وجهه نناحية الحانزت كلهم في حجراتهم الآن احتلوا الغرف السبع المطلة علي الفناء الخلفي حث النوافذ مغلق..

 

ملت علي عمر، لا يراني إلا وقبل يدي اسعيد بالله اخبرني أن الواحد منهم لم يطلب مكالمة خارجية، ثم يصلوا ببعضهم داخل اللوكاندة سبع غرف أربعة غغير سريرا وما يقصون وقد بعضهم يأخذون الرأي والمشورة، يتفرقون ساعة النوم ربما لا يأخذهم منام، هؤلاء رحلوا بعد زمن طويل، لم يأتوا من مكان رجوت فاضل أفندي ألا يخبر أحدا بما قلته، وما استفسرت عنه يعرفون أمري وأروح علي نفسي قبل أن انازلهم في عين اللحظة المناسبة، أقرابهم من مقام الحبيب اسل سيفي ازعق زغقة هائلة ترج المدينة، توقظ النيام ثم اصيح فيهم، واضعا عمري وحالي وحلي وترحالي علي كي لا أبالي هل افارق اطهر الخلق اغادر مكاني، ثم اسأل عنه الراكبين والمصلين من بعيد ما اخبار مولايو، لا والله، العياذ بالله، شعره من رأسه لن ينالوها كان اصحابه في صحراء كربلاء يموتوت ظمأي، جرحي، وهم ينادون السلام عليك يا ابا عبدالله، السلام عليك الآن أعرف أنهم أكثر عددا تكاثروا طوال سنين وبقوا وجاءوا يزحمون الكلوب غدا ربما الليلة الآن البيوت الغريبة الحواري الشوارع طرقت القاهرة المضيئة أم الدنيا ثم يهجمون من كل مكان في الهواء يجيبون في صوت بحر النيل يحرجون من مياه الأرض التحي يتنكرون في صورة أطفال صغار العياذ بالله لكني أكشف أمرهماصرخ في المدار ازعق في كل ميدان يقف القاضي والداني يفرد قلوبنان علي ايدينا نحيط بها المعصورة والرأس الذي لم يجف دمه يدعمنا جند خفي لا يهزم، ازعق، اجري ألف عام، تكف الحركة تكف الفرجة، تنوح النساء في الهواء تركوه وحيدا في كربلاء، الآن.... نضيع عند اثره، آه لو أبي يعيش.. يحنو علي نسيت والله شكله بلغت حافة عمري، حانت اللحظة فنسيت وجهه، اضعت ملامحه دائما يخبرني يردد علي أن أمي تقول له لو انتقلنا إلي مسكن أوسع في حي بعيد نسوه الحي يضيقنا يتشاجرون معها.. فيهز رأسه يقول أبي لن أفارق جوار الحبيب أما النسوة فعليك بالصبر في المدرسة يوزعون بلحا مذاقة في ريقي من فنانها وقب مئذنة الشهيد بينما ويقف تبدو من قمتها يسع بريق الحلاوة الطحينية.. الفول المدمس نقف طابورا طويلا يفرقون الطعام يورئ تلاميذ من فصلنا اجذبهم اغمز لهم طوال وقوفي أنا زميلكم من فصل واحد فو؟؟ أخرج لي ينتظرني قبل دخولي الجامع أخلع جزائي أقرأ الفاتحة احفظ العامي لا اكنه إلا مع أمي آه أمي أيامي بعده مشي بعضها طريف ويل طريق قسوة فيه اقدمي لأحبه محفوف برؤوس مشايخ طوال اللحي وأهالي ضائع حزينة ببخار حمام النحاسين ؤسية قاسية، إبر، وبنس لا أذكر اسمها لم أعرفه ذبت فيها وجدا، قطعت روحي هياما آه يا يوسف الصديق امشي وراءها من بعيد لا أقترب.. اشم رائحة الفراغ الذي مر به جسمها في الطريق، أري الضوء في نافذتها اسبح في الوجود حول علي الغريب انذر النذور ارحل مشيرا إلي سيدي أحمد البدوي اطلب منه تقريب البعيد يفك اسري اري روحي في عالم قصي ناقم القي فيه أيوب بيوت من نحاس تضحك الطرقات فأهوي، يا خرابي.

 

يا وجه أبي، أمي، هي لا ملامح لا طعم صوت، يامي دنت، وإلا ماذا تهيج بين الخواطر، يصرعني الحنين، بعد أن ذاب كل شيء، في عشق مولاي وخدمته، برق زمان في عيني، عوت فيه حمالا، انقل الحجارة من المراكب إلي البر، أعبر الماء فوق سقالة من الخشب تهتر، مليم يقابل قل كل خمسة أحجار، أعي ملمس الحجارة الخشنة غير المستوية، الجير الأبيض الملاصق بوجهي، حتي لون الوحل في حواري امبابة، غضب في محافظة المغيب، العميل المسور، ذكر دافحة صابونة ولا أعرف وجه أمي ضحايا عفي كان أخشع ؟؟؟؟؟؟؟ من ادوس بذراعي، أكي جمارها، دابواوقتئذ علي مسافات بعيدة.. لا يعرفون ناصيب مصيب العمر. لم ينلهم الهدم منذ أن سلطهم يريد بي الهاوية في ذاك الحين أجوب البلاد، أري ناس أعرف دامعا الهوا إلي صدري، فيه رائحة لحبيب الذي يرقد وأمه هنا.

 

سيدي البدوي في طنطا، أقضي الليالي في فوه آه من حلاوة لقاء سيدي القطب المسومي، والعوق مدد برايته في الدنيا، عند بحرها علي مسراي جبالها علي التحية الأخري علي البحر هدوء ذكره، كدت أهلك، هاج قلبي، اسرب في عروقي وجه أبي لا يعرف صرف حتي اسمها، أين هي الآن؟ يا حبيبي يا سيدي يا فرغلي، علي دول سهاد فنسيت حينها في عمري في أسيوط، حتفت إليا فأرتك، تمت عندي دير بيت العذراء في البيت حننت فميتي وعدت إلي زينة شباب الجنة.

 

أفيض يا نبع عند منابعه، أطلب منه الصفح، أبكي موت بي ؟؟؟ شيخ قرية، وفي ؟؟؟ أحمل عصف الديدية في الأذكار/ هي حلقة الذكر، الكبيرة نسي من أنا عروقي، يعيني كليتي ؟؟؟ أري الوجوه التي مرت بي في مصر، حتي ؟؟؟؟؟؟؟؟ في عربات القطار، ما بروا الطريق.. والفلاحون لي الفرد البعيدة منسية.

 

أعرفهم أو تمكنوا، ونالوا المقام والراس الشريفة بسوء، أن يبقوا بعدها علي شيء؟؟؟ كل طفل في ؟؟؟ يتمتعون ارجاء والنساء يقتلون الشيوخ ؟؟؟؟؟ بيدون الردع/؟؟؟؟؟ حتي القطط والكلاب يفسدون روائح الهوا يوون فراغ فيهم يا جوج واماجوج سروا السد وخرجوا يبيدون الحياة لمدة اربعين ألف سنة وكف سادور منزلا المسافروين من العربات حتي الطائرات سيعودون المراكب بعد اقلاعها إلي المراسي يفوز سيدي لا تواري حروف الشهود لا أغمض عيني ابدا يهد إلي أهلكهم أو الحق بسبيح كربلاء كرب وبلاء ينزل النهار وادعا طريا من السماء حواري الحان تذب فيها حركة فبندق ينادي.. الأخبار.. الأهرام.. ابتعدت منه حتي لا يلمحني لو رأني في الزحام يستوقفني.. يسألني أن أقرأ له العناوين أهم ما يجري قرأ.. قرأ، فيقول هذا من علامات الساعة اقول علمها عند ربي اعرف انهم ينشرون اخبار عن وصولهم ج فاي مبطنان بصابون حارف لن يتلامسها أبدا وجه أمي من بعيد، أخر طريق لا يمشي فيه أحد حزب وجه أمي كتابة قديمة لا تقرأ فرق باب مسجد عتيق، لو.. تحوم روحها ذبابة زرقاء شفافة جميلة يمضي الصبية أري جند يزيد تذوب العمارات في صحراء وسيعة ما فيها نقطة ماء تمرق العربات مسرعة.

 

"الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير".

 

وتساءل تجار خان الخليلي في البازارات وأصحاب الدكاكين في السوق الجديد عند رأس حارة أم الغلام، كذا رواد المقاهي المحيطة بالمسجد وماسحوا الأحذية أي سبب يدفع العارف بالله العابد الزاهد مختار، إلي الطواف زاعقا طالبا من الله أن يطلف بعباده مناديا ياعذب ما ينادي به إنسان خالقه رجيا منه أن يحمي آل بيته،و عهدوه صامتا، كل منهم حتي الطاعنين في السن يذكرون أنهم يرونه منذ تواجدهم في الحي بعضهم كانوا يملون صبيانا في المحلات التي أصبحوا هم أصحابها الآن، يجلسون أمامها علي مقاعد القش يتدفأون في الشمس، ساعات الصباح الأولي يطوف العابد الزاهد " مختار" يقف أمام دكاكينهم لاتستقر نظراته في مكان، يبحث عن شيء غامض طال افتقاره لاتراه عيون الخلق اجمعين يده مضمومة إلي صدره يد أخري متدلية بجواره تمسك بمقبض سيف خشبي يتهامس النساء بثباته، يقلن أنه باتر قاطع يقطع رقاب الكافرين من الجن الذين لا يجرأون علي الاقتراب من المقام الطاهر، يراه أحصاب المحلات يطلبون منه الدخول حتي تجار خان الخليلي أثناء وقوفهم وأحاديثهم الطويلة التي لا تنتهي مع السائحين الأجانب يلمحونه فيطلعون إليه يطلبون منه الدخول لو تصادف وقوع الواحد منهم في أزمة أو ضيق ربما تايل عليه تمني دخوله الدكان إنه بركة وعادة لايلبي الدعوة كل واحد منهم وحظه وإنه لايقبل نقودا أ بداً وإذا أخذها فسوف يعطيها لأحد المحتاجين لم يتكلم أيضا الآن يتأملونه بدهشة يمشي بعضهم وراءه خطواته بطيئة عروق رقبته منتفخة أي مشاعر في صدره؟ تجعل صوته غليظاً نافراً كوتر مشدود، يطوف بحواري خان الخليلي يطلع الربوع القديمة ساعة الغذاد، يدور علي حلقات العمال الذين قعدوا في الشمس يستريحون، يأكلون بعد الغذاء بسيسة عم حسين، اليوم يزعق.. الطف بنا يا مولانا.. ينادي آل البيت ينظرون إليه بدهشة، أنه معروففي ربع المكوه، وربع النمر، ووكالة الفراخ القريبة من الصااغة عند طلوعه السلم القديم الطويل بربع السلحدار انقبض قلبه، خطوات عديدة خلفه، التفت، حسنين بائع الشاي، ابنته العمياء، سائحة تعبر الطريق الممتد أمام الباب، لم يطلع ربع السلحدار كثيراً، يمكن القول إنه منا عشرين عاماً لم يمطل منذ ازدحام حجراته بمجاوري الأزهر، قبل ذهابهم وتحولها إلي ورش لصناعات الخان، توقف عند نهاية السلم، شبان من أحياء بعيدة يلتهمون الأرغفة المنتفخة بالكشري، أطباق المكرونة المغطاة بالصلصة ينادي بعضهم بعضاً، في اللحظات الأولي لم ينتهبوا لوجوده، ساعة غذائهم يكثر فيها مزاحهم، قبل دخول الورش، يقضون فيها بقية النهار، أصواتهم متنافرة في أذنيه، تماماً كمنظرة أمامهم، النجوم المطرزة فوق الجاكتة القديمة الشرائح الملونة الملتصقة بصدره، أغطية زجاجات البيبسي كولا، أزرار نحاسية غامقة، لاحظ بعينه مجموعة منهم، يحملقون في فراغ، لا يأكلون، لا يثرثرون لمح بقايا طابق قديم تهدم، فبرز قوته كتل غربية من الحجارة، فترأت من زمن بعيد تجمدت، شواهد جامدة، تبدو سماء فسيحة كملعب، صافية زرقتها مختلطة ببرد دقيق، برد النهار الشتوي المشمس، تختفي من هنا مئذنة الحسين الرشيقة، متي علي مهل، توقف عند ورشة الحاج صنيبر الصدفجي، لم يدعه أحد للدخول، المعلم ليس بالداخل، ثلاثة أبواب مغلقة، جزء من الجدار ملون بالخشب، امتلأ الهواء بطنين، الكلوب العصري مزدحم بهم، أخبره فاضل افندي، مشايخ البلاد والتجار من نزلاء الفندق الداذمين، أفروا كلهم في فترات متقاربة، كان شيذاً ما دفعهم إلي الرحيل بات عمر عامل السويش يجلس عاطلاً لا يتكلم أحد منهم في التليفونات، أما الصالة التحتية فخالية، لأنهم لا يخرجون من حجراتهم إلي الشارع، يغيبون ثم يرجعون مطرقين، حتي الشاي يشربونه فوق، لم ير وجوههم في الحي من قبل مضي عليه أربعون عاما في اللوكاندة لم يجيء واحد منهم إليها أبدا إنهم ينفقون بسخاء يبالغون في البقشيش للخدم شيء يحير لكن لا بأس في نشارة الخشب تغطي أرضية الممر في بعض المواضع هذه الربوع القديمة يعرفها تماما تملئ بالمسارب والحجرات الخفية ربما نزلوا اختبارا هنان لا يدري أصحاب المكان ثلاث قطط سوداء تتمطي في الشمس استعاذ بالخالق في سره ارواح العالم السفلي تتقمص اشكال الحيوانات تخدعنا تدب بينننا هل من الصدفة ظهور ثلاثة مرة واحدة تذكر فجأة أن الميدان امتلأ بهم قبيل الفجر بقليل عيونهم تبرق في عتمة الليل تصاعدت ثرثرات العمال في الهواد لتتساقط من جديد كتلة بلا معني هواء بارد اغرقه اسي عجيب، يكاد يمسع دبيب اقدامهم آه لو بقي طفلا إلي الأبد، لو يرجع الزمان، يأكل الحلاوة الطحينية، يرقب اقدام المصلين بطرف عينيه يشم ماء الورد يتمني أن يصبح يوما ما ضابطا كبيرا يركب الطائرات يعلو بها فوق الغمام يضرب الاعداء فهمته شاب بصوت عال فجأة انسال خيطا رفيع من ماء مثلج مبتدنا من النافوخ عابرا سلسلة ظهره شاملا جسمه ويضحكون من تحارب بهذا السيف يامولانان هذا السبح ، كم عددها.. باركنا يا سيدي، لماذا تزعق.. سني وذقنه لونها بني، آه.. من أي أرض أنتم لم يهتز، جواد بيت قديم يهوي فوق رأسه، قال أحدهم، شاب، يدين شعره هائش، ربما يخفي أفيوناً في لحيته، الغطط، هل يمضي.. يسرع الخطي، سامحهم يا حسين هل يظل واقفاً.. لا يعرفون لماذا يدور منفياً الهواء بعينيه، لم يتم أبداً منذ ليال، تدفق الماءالمثلج في عروقه، إبرة رفيعة لامست مؤخر عنقه، اقترب رجل وامرأة، شعرهما أصفر، أجنبيان، ما الذي طلع بهما هنا؟ وقعت المرأة آلة تصوير، علي وجهها ابتسامة غامضة، زعق، تزاحم الشبان حوله ليطلعوا معه في الصورة لم تقع عمامته الضخمة، قالفضل الثدي ان حقائبهم منتفخة وكبيرة، ولون وجوههم غريب، لغتهم، يتكلمون مع الخدم بعربية فصحي ونادراً، وأنهم يحملون جوازات السفر من كافة البلاد، صاح ضحكوا يجهلون الخطر القريب، زغده شاب في ضلوعه، جاء حس.. امتنعوا.. إنه بركة.. بركة.. أمك هي البركة. فتح راديو فجأة، أغنية بعيدة تجيء من عمق ثلاثين عاماً..

 

وإذا تغلق أبواب المسجد يستريح فيه هدوء ممطر بحنان،، فمثل الهواء بالرضي، وإغفال الزمان، خلاصة الاطمئنان، ولثلاث ليال كاملة ضبطوا العارف بالله مختار مهدية، يحاول الاختفاء لينام بجوار المقصورة التي تضم الرأس الشريفة، ولأن الخادم يعرفه، كذا الخفير والشيخ، صرفوه ولم يسلموه إلي جندي البوليس، غير أنه في الليلة الرابعة، بالصدفة وجد نفسه بجوار باب المئذنة الصغير، اختفي فوق السلالم الحلزونية الضيقة، طلع بسرعة، خرج إلي الطابق الثاني من المئذنة، دار حول الجسم المزخرف المستدير متعباً يلهث، حوله فرغ سحيق، ظلال تتساقط من بعيد، أضواء خضراء وحمراء تبرق عند أفق قتيم، الميدان خال تماماً> تبدو البيوت بلا نوافذ، إنه يميز موقع الكلوب العصري، البناء الوحيد الذي يبرق منه ضوء، كافة نوافذه مضيئة، علي الناحية الأخري تجري عربات صغيرة مسحوقة لا تصل إليه أصواتها، يسمع همس النجوم فوقه.. يحس وجود مأذن الأزهر جامع محمد بك أبوالدهب أعمدة هائلة، تسند الفراغ، مهما زق لن يدري به أحد، ربما أفاقوا أنه وحيد حتي مرارته، أمسك بالحاجز الحديدي، تسربت برودته إلي يديه فراغ مهيب مخيف، كدنوا الأجل، وفراغ الأمل، عيون من السماد بعيدة تطل الأبواب غلقت، لكنهم يتجمعون في لحظة واحدة يتدافعون يزحمون الساحة الخارجية يحاولون طلوع الجدران يندفعون يتناولون ما جاء من أجله في لمحة يبتعدون يقرون ربما عادوا من جديد وباء مسلط زعقت في فضاء لم يصدقني حبيب البيارق تلمع من بعيد، المح كربلاء، من فوق سطح بيتنا أري مئذنة الحسين نظري لم يضعف بعد ألمح شيخا يبدو قصيرا كلعبة، يدور في نفس المكان الذي أقف فوقه الآن، اسمع صوته واضح يؤذن فاعلو حجرة السطح مساحة بلا حواجز، تزعق أمي، انزل خائفا، تضربني، لن أنزل ، تزعق أمي علي، ازعق أنا، ارمي جسمي وروحي في الظلام، خلا الميدان تماما الوحشة والهجرة والخيانة فوق الأسفلت اشم الدم المسفوخ في كربلاء، دماء الرأس التي لم تجف باسفل في اربعين يوما قطعت المسافة إلي مصر طارت عبر سنين عمري، رأيتها في المنيا، قبلتها في جبل أسوان احتويتها في مراكب النيل الحزينة اقتدتها أم الظلام الفقيرة، ذبحت ابني الوحيد وقدمت رأسه إلي جند يزر اخفت الطاهر الرقيق، افتديه بإيه المهجورة. حبي الخافق البعيد، بالتي لم أعرف حتي اسمها فأصرخ وأصيح حتي يصحو الجميع، لو يجيئون هنا يرون الحقيقة، يلتفون بهم وهم علي وشك الدخول، لكن.. لن يصلوا إلي المقصورة أبداً، إذا لم يصل أحد أصعارهم، وحدي، بجند الله الخفي، تلمع الأنوار في الوكندا، ينزلون السلالم، يخرجون من سراديب البيوت الأفران التي تطفأ لهيبها بعد العصر من السينما القديمة الخربة في حارة الضبابية، اسمعهم في الليل، لن يصلوا أبداً، من هنا أناديك، اسمع بقلبي صراخ حريمك في كربلاء، أبداً لن يصلوا، أقربهم في الزمان، امحهم من المكان، أنا أنت وأنت أنا، يا نور العين، ياغربتي في الحواري، يا من عرفته وعرفني، يا مؤنسي في البلاد الغريبة، يا ابن أسد الله الغالب، ياابن مكة ومني، يا ابن المروة والصفا، أنت أبي، وجه أبي الذي ضاعت ملامحه مني، حس أمي الذي نسيت، لكنهما فيك، ياابن من دنا فتدلي فكان قاب قوسين أو أدني، ياابن صاحب الدلائل والمعجزات، يا منقذي من ضيقي، ياابن من أنزلت عليه سورة الرحمن، يا متوج بالأشراف، يازاهد، ياعابد،ن يا مفرج كروبي يا مفرج يومي، ياابن من ركب البراق، أنت الكرم والجود آه ياواف بالعهود، تتخلي الدنيا عنك فارفع جبالها وأصد بها عدوك، مرمغوا حريتي أهانوا عمري، لم ياابني، أطلب السماح لهم منك، يا صديقي، أه يا معتول ظلمه، يا محزوف الرأس من القفا، انت العطشان حتي قضي ؟؟؟ لا أروح، لا أري الشوارع حتي أمنعهم أو أضي، يا طريح كربالء يا مسلول العمامة، لو أنجبت أبناء للجنة بيني يدي لا حر ما أحسست عندما قتلوا ولدك في حجرك، ازعق فيصبحوا الراقد في قبلي وبحري، درت سبع مرات حول المئذنة، السلالم الحلزونية تردد صدي الخطي، يسقط البرد في قلبي، حتي لو لجأت إلي الفراغ سيحتويني ولن يضرني، الليل الآن ليل بحق، موغلاً في سواده، موحشاً في عتمته، عيناي تنفذان، اراهم علي مقربة، اسمع أنفاسهم، أميز الملتحي منهم وحليق الذقن، ألمح رجرجة السواد في عيونهم ربما صرعوا فاضل أفندي، عمي، الخدم كل من قابلهم تلوي، صوتي في الفراغ مال جسمي حتي تدلي نصفي زعقت انسربت راحة إلي كبدي، بيوت المدينة، الغربية، الناصية، ترتعش في سواد عجيب، لا دعاء.

الطف بنا يا مولانا فيما جرت به المقادير.

 

 

ليل المدينة الصغيرة

 

قصص البدايات - 11/06/1969

مريضة أضواء المدنية الصغيرة هزيلة. شاحبة. عد إلي بيتك القائم علي أطراف الحقول. ستؤلم ع ينيك لكن الشوارع والبيوت ستظل بلا بريق بالنسبة لك. أن لك أن تستريح.. وقفة قصيرة وأرتجفت أعصاب الساقين عاد الجسم الهزيل إلي أنحناءته التي تبدأ بمجرد الشروع في السير لكن كيف العودة والأولاد لم يناموا بعد؟؟ يقفون الآ في نافذة البيت الضيقة يرقبونه. ينتظرون أن يسمعوا وقع خطواته فوق السلم يده تطرق الباب. في صوت واحد يقولون.

لم تحضر لنا الكشاكيل.

راح الغروب. جاء الظلام يلتهم النهار فريسة سهلة. كفت يده عن تحريك الفرشاة الكبيرة. نزل من فوق اللوح الخشبي، غسل وجهه، ثم انتظر عند باب المبني ا لجديد مع غيره من العمال أكوام الرمل والزلط. أخشاب ملقاة. أخشاب تحترق في مكان ما. جاء المعلم في ثيابه الجديدة البيضاء. طويلا ضخما أحمر الوجه.. ارتعشت كتل اللحم الممتدة من ذقن المعلم حتي رقبته.. يجب أن تبذلوا مجهودا أكبر من هذا.. إليك المدير لم يصل بعد.. سيجيئ بعد أسبوع والبناء لا ينقصه غير الطلاء.

أخرج المحفظة وأعطي كلا منهم المصروف. احتوت يده النقود.. لم يجرؤ علي طلب المزيد. الرد يعرفه مقدما. المصروف قليل. الكشاكيل ثمنها غال. الظهيرة ساخنة والزحام كبير.. سأل.. قالوا ا لكشاكيل. مدرس الحساب مدرس الإنجليزي. مدرس العربي والبنت الصغيرة التي ستخجل بين زميلاتها.. الفطاطري يسهر حتي منتصف الليل. الغير يمشي والبندقية ملتصقة بكتفه.. فوهتها إلي أسفل. النخيل ما أطوله وما أغرب منظره في الليل هدير الماء في الترعة يضاعف برودة الهواء.. رجل قادم من آخر الطريق طويل القامة.. جلبابه ألعوبة في يد الهواء.. أقرب منه. حملق كل منهما في الآخر. انسال ضوء الصباح أصفر كشريط رفيع من الزيت.

أنا عامل بياض فقير أوالدي أربعة أولهم في المدرسة الكبيرة أصغرهم في مرحلته الأولي يطلبون الكشاكيل ولا نقود معي أنا عامل البياض.

طائر غريب يعبر سماء البلدة صوته غرغرة خشنة. العينان الواسعتان تضيقان حتي ت صبحا وكأنهما عينا قط. نبرة الصوت غليظة بتأثير المرض.

لست من أهل بلدتك الصغيرة. أنا واحد من ملايين يعيشون في كل يوم. حفظت مواقع الدكاكين والمقاهي والبيوت في طرقاتها الرئيسية. أما إشارات المرور فأعرب أماكنها كلها. أحمل من سكانها مائة رجل وامرأة وطفل كل ساعة. أنا سائق ترام أقف عشر ساعات في مقدمته. أدير مفاتيحه لأهدئ سرعته أو أزيدها أقوم بمناورات لربط العربات ببعضها. أنحني بخضوع لرئيسي المفتش. أتقبل السيجارة من راكب كريم. من شهر أو شهرين جاء ضيف مدينتنا الثقيل الوحش ببرده وأمطاره وهوائ اللاسع كالإبر المحماة وفي هذه السنة بدا قاسيا لن يرحم.. كذلك نظرات البنات لابنتي في المدرسة لا ترحم سيقلن لها أبوك لا يملك نقودا يشتري بها الكشاكيل أما ابني فسيتعطل. دروسه يجب أن تسجل أولا بأول.

صدري لم يحتمل ضيفنا البارد والترام مكشوف يمضي مهتزا فوق الشرط الحديدي. تصر عجلاته عند المنحنيات. إذا ما سقط المطر تضع أكواما صغيرة من الرمال علي أبعاد متساوية حتي لا تنزلق العجلات. صرخت رئتاي فرقدت فوق سرير بيتنا. آه لو تري الطبيب وهو يتحسس صدري بسماعته.. يا بك أنا عجوز لم يتبق لي غير عامين وتنتهي خدمتي.. أريد إجازة.. كان الطبيب شابا. برقت عيناه من خلال نظراته. ابتسم ابتسامة رقيقة. قال أنت متعب وسأعطيك أسبوعا إجازة.

أسرعت إلي بيتي قلت لامراتي سأسافر إلي اخي. تألمت في القطار وشحب وجهها. أمامنا رجل صعيدي يتحدث عن المشروع الذي سيعمل به في آخر الجنوب. الرحلة طويلة ومتعبة. لكن ما العمل؟ سأرجع إلي المدينة الكبيرة بعد يومين. سأقف في مقدمة ترام لا جدران له سيتلقي صدري هواء الشتاء البارد. يا لصدري وألمه. أنا سائق الترام أعيش في مدينة مهجورة إلا من الناس والشتاء. عجوز أنا سائق الترام الصدري ينسحب متلاشيا كخيط رفيع. القامة الطويلة تدخل بيتا في آخر الطريق. الليل راقد فوق البلدة كالمصيبة شتاء بلدتنا الصغيرة أبرد من المدينة الكبيرة قال المجربون: الرزق هنا ضيق أذهب إلي الشمال تجد أبواب العمل مفتوحة أمامك. أعمل فرانا أو حمالا في ا لمحطة أو عاملا في مصنع نسيج أو أي مشروع. لكن قيراط الطين والبيت قالا لا تذهب فلم يذهب. ماذا سيقول؟ لا نقود تكفي لشراء الكشاكيل. من غير المعلم؟؟ عجز لسانه عن النطق ساعة الغروب لو رآه الآن لن يعجز. سيسأله النقود فليذهب إلي بيته القائم علي أطراف البلدة. كيف يجرؤ علي ازعاج المعلم في مثل هذه الساعة؟ الطريق ضيق. مصران متعفن في أحشاء فأر ميت. صوت الترعة يحمله الهواء. نور يرتعش وراء نافذة. صوت موقد خافت. مضي مسرعا في أطراقة لا تفارقه.

- يا عم ألا تعرف مكانا أضع فيه جسمي حتي الصباح؟؟

أصوات النجوم البعيدة وصريرها في السماء. نباح كلاب ضالة. هواء الحقول بارد ينخر العظام. البيوت صناديق كئيبة غير مهذبة الحواف. بيت العمدة رجل كبير ضخم الجثة يجلس القرفصاء.

- أنا عامل بياض فقير.

- أنا امرأة تستجير بك.

- أنا مسكين.

- أنا بائسة.

- أنا من هذه البلدة.

- أنما لست من هذه البلدة.

تاج الليل صارخا من أي أرض جئت؟ توهج نور ضعيف في نهاية الشارع أما عدنا المرأة فما أوسعهما.

- أنا من الصعيد الجواني.

- أنا لم أذهب إلي الصعيد الجواني.

- أنا هاربة منه.. في عرضك أنا مطاردة.

من شهور قليلة كنت كأي بنت في النجع أحلب العنزة إذا ما ولدت الشمس وجاء النهار. أعود بمقاطف مليئة بروث البهائم. أخلطه بالتبن. أحوله إلي قوالب كبيرة لينة تجف في شمسنا الحامية أنا أمهر البنات وأسرعهن. في الظهر يعلو الدخغن من فرن بيتنا تطير رائحة الخبز الساخن إلي الطرقات. سيدي يرجع إذا ما سخنت الظهيرة. سيدي رجل ضخم طويل عريض أحمر الوجه كرمانة. لا يقولون له إلا بابك. البيت خال إلا منه ومني والعنز وكلب كسول. قال أرفعي وجهك هرش مهبط كرشه. انغرست عيناه في صدري أما يداه فعبثتا في جسمي. تأوهت. ارتبكت.. خفت. بكيت. اعطاني ورقة خراء وربت كتفي. لطمت أمي وجهها وغطت رأسها بالتراب.. أبي خرج من شهر في سفر بالمركب الذي يحمل قللا يملكها البك ولن يرجع إلا بعد أسبوعين. الليل في القرية برد يقضعر الجلد منه. يرتجف القلب له. قال بائع التذاكر إلي أين يا شابة؟ قلت: إلي .. إلي.. قال بائع الشاي برد الشتاء قاس خذي كوبا يدفئك زجاج النافذة محطم تعالي لتجلسي بجوار الموقد، الأكواب في دورة المياه أمسك بيدي بشدة. ارتجف القطار وأهتز. همس.. أحد الركاب يريد أن يراك لن يمكث معك غير دقائق.. من الباب الضيق نزلت إلي الرصيف. طويل بارد. صناديق وأجولة فوق بعضها المدينة لا تعرف أسمها، لكنني لو عدت سيغيب ويرجع ليقول: أحد الركاب يريدك.. أنا هاربة.. سيرجع أبي من سفره، ربما خرج من البلدة يقلب الدنيا بحثا عني ليغرس سكينة في لحمي، ثم يلحس دمي الذي يلوث نصلها ويقلب عندئذ شال عمامته أنا هاربة يا عم. مطاردة كما تري.

 

- أنا بيتي قريب لكنه بعيد.. لا أستطيع العودة إليه.. لابد أن أشتري الكشاكيل.. عندنا الجيران لا يقبلون بنتا بعد منتصف الليل.

- ألا تعرف جامعا أذهب إليه؟

- كنت أويت إليه أنا.. بلدتنا جوامعها قديمة تغلق أبوابها إذا ما جاء الليل.

- آه.. إلي أين يا ربي أنا المطاردة الهاربة.

أين الكلام؟؟ الليل أغنية صامتة حزينة باردة بلا نغم ولا حنجرة تؤديها. أرفعي وجهك يا صبية.، أنت حلوة. خذي جنيها يا صبية. أين رلحت؟؟ يا "جالوس" الطين فوق رأسي. يا عار لوثني. مقلوب يا شال عمتي ولن تعرف البيضا حتي الحس الدم. أنا هاربة يا عم.. ضالة علي ذقنها وشم أخضر فأين المأوي؟ وجه لم يعرف المدن ولا بلاد الله البعيدة المنسية.

كيف يرجع إلي البيت؟ لو يعرف أنهم ناموا؟ حتي لو ناموا سيشعرون بك بمجرد أن تضع رجلك في الغرفة. حسس ذقنه وشعيراته البيضاء. بالتأكيد نام المعلم الآن. ما أعجز اللسان عند مواجهته.. كتلة سوداء تعوم مستلقية علي وجهها وذراعاها إلي أسفل. سأل آخر ما السبب في ذلك أشارت الأصبع السماء.. هذه إرادته.. تري أي شيء تحمله الترعة الممتدة في الليل كشريط أسود قاتم ربما من الصعيد الجواني.. أنه ليس علي الجسر بمفرده. شاب أفندي يقترب منه.. قميص وبنطلون الوجه مضطرب. الملامح محددة بدقة..

- هل تعرف البلدة جيدا يا عم؟؟

- عشت فيها عمري كله.. تزايدت ظلال الليل. هدير صرصار بين أعشاب الترعة.

- لي صديق هنا.. أعرف اسمه لكنني لا أعلم مقره.

- ومن يترك بلدته لينزل مدينتنا الصغيرة في الليل.. وفي أي قطار جئت؟؟

إلي الشمال أشارت يد الشاب وتقلصت. اتسعت عيناه وانبعث منهما بريق ارتجف له قلب الرجل المتعب. في الشارع الكبير راحت الأشباع وجاء تري أيحملون بنادق؟ أين ذهب سائق الترام وهل ينام الأولاد؟؟

هناك يسعون خلفي. رجال عيونهم من حديد. مسدساتهم علي أهبة الانطلاق لو لمحت خيالي.. أنهم مخيفون يرتدون ثيابا سوداء خرجت هاربا من مدينتهم طاردوني فلكي تعيش آمنا يجب أن تهرب منهم. خرجت علي قدمي مرة أقف. مرة أركب القطار بين المحطات الصغيرة ثم أنزل لاتعلق بعربة نقل تمضي بطيئة.

أغصي الرجل المتعب خائفا.

- لكنك غريب عن البلدة.. وأهل بلدتنا يشمون رائحة الغريب بسرعة.

- قل أين يقيم صديقي وأنا أعرف جيدا ما سأفعله.. أين يقيم.. ألم تقل أنك عشت عمرك كله في البلدة.

- نعم خرجت من بيتي لأنني لا أستطيع العودة إلا بعد شراء الكشاكيل.

- لك أولاد؟؟

- اثنان وبنت.. كلهم في المدارس.. أنا عامل بياض فقير.

- ابنتي صغيرة حلوة لا أعرف أين هي الآن.. ربما اخذوها ليقطعوا جسمها أمام أمها حتي تدلهم علي مكاني.. آه لو آراها الآن.. لكن لابد أن أهرب بعيدا عن مدينة الرجال السود.. قساة القلوب.

- ما أصعب الحصول علي كشاكيل.. لو معي نقود.

- لو ت حققت الحياة التي أهرب من ألجلها لما أصبح فقراء في مدينتي.. دلني عليبيت الرجل حتي لا يجيئ الفجر.

- سأذهب إلي معلم البياض.. سأطلب منه نقودا.

خطأ المتعبان بعيدا عن الجسر.. أشار إلي طريق ضيق يخترق البدة كمسمار في جدار نعش.

انثنت اليد علي الطريق.. أومأ الشاب برأسه شاكرا. ربت كتف الرجل. عبر الطريق. ثم ذاب كرغوة الصابون في ظلمة الليل.. بخطوات سريعة مرتجفة قطع الجسر حتي نهاية البلدة.. أدبيت الأبيض قائم في هدوء راسخ كالسنط.. مسور له بابان.. هو الذي طلاه. ظل أياما معلقا فوق لوح خشبي يكسو البيت ثوبا جديدا أنيقا. ضوء ينير النافذة بالتأكيد يسهر الآن. فلنطرق الباب. لتطلع إليه مطلبا حتي ولو بخمسة وعشرين قرشا. ثم يعطه أجره كاملا.

قال صوته السمين.

ستصرف بقية الأجور عند عودة المعلم الكبير.

لكن هذا عنده نقود.. لابد أن يرجع إلي بيته بثمن الكشاكيل قال عجوز من سنتين.

أرسلهم إلي المحلج يعملون فيه ويحضرون لك نقودا.

يوما غضب. لا يحتمل أن يسمع أصواتهم الشاكية. لابد أن ينام معه ثمن الكشاكيل.. سائق الترام له أولاد. ابنتي حلوة صغيرة يقطعونها أمام أمها.. قال ذلك بكلمات كأنها ليست من كلمات البشر.. ارتفعت يده وهوت فوق الباب بشدة.. كف متشجنة أمسكت كتفه. امرأة ترتدي ثوبا أسود. عيناها حمراوان فظيع الخروج في ليل الشتاء.

- ألم تره؟؟

- أنا عامل بياض فقير..

- كيدي.. أنا أبحث عن كليتي تساءل بصوت مهتز مراهق.

- أين راح ابنك.

- خرج من فترة قد تكون يوما أو يومين فأنا لا أحس النهار ولا الليل منذ ابتعاده عني.. كان غاضبا حزينا.. مشي ولم أره.

- من أي بلدة أنت يا أم تبحث عن ابنها؟؟

- لا أعرف اسم بلدتي.. لا بلدة لي.. ولدي.. ولدي..

حملق مذعورا. كررت بصوت متهدج يرعش الدماء داخل العروق.

- ابني.. ابني.. لابد أن تكون رأيته.

أشار إلي البلدة النائمة في هدوء عجيب.

- أبحثي عنه هناك.. مضت بطيئة الخطا وسؤالها يشق أحشاء الليل. أزداد التصاقا بالجدار وفي بطء راح يتهاوي نازلا بجوار الباب يرتعش بردا وحنقا وغيظا.. قادم من ناحية الجسر صوت يقول:

- أنا سائق ترام مسكين..

رفع رأسه و صاح بسرعة..

- أنا عامل بياض فقير..

- لا تجد ثمنا لكشاكيل أولادك.

- وأنت تريد الدواء لصدرك.

خيم الصمت مرهقا. هل سمع ضحكة؟ ضعفة واهنة مصدرها الحجرة المضئية. انتصب بسرعة وحملق إلي الداخل. النور يتوهج ضرب الباب بعنف. نبحت كلاب وحشية خلف السور. هوت قبضة يده ثقيلة كمرزبة فوق كتبه، دار بسرعة. الدواء أسود والعينان متوهجتان.

- ماذا تفعل هنا؟؟

يد واحدة أمسكت برسغيه، قاده في الطريق المظلم متعثر الخطي لا يستطيع أن يفتح فمه هل سمع الضحكة مرة ثانية؟؟ قريته كلها سخرية تلد مئات الضحكات. الأولاد يرقدون في انتظار الأب والكشاكيل. تري هل عثر علي بيت صديقه؟؟ أي حياة تكلم عنها؟؟ أين ذهبت؟؟ إلي بائع الشاي مرة أخري؟؟ من خلف مكتب لوثته بقع الحبر.. جلس رجل أصلع حملق فيه. تحت عينيه.. انتفاخان كريهام.

- من أنت.. وما أسمك؟؟ خيل له أنه يسمع الضحكة.. بقية الأجر عند حضور المعلم الكبير.. ايقطع الصوت كل هذه المسافة؟؟

- أجب من أنت.. ما أسمك؟؟

- أنا.. أنا.. أنا عامل بياض فقير.. أنا عامل بياض فقير.

 

 

الهجرة إلي الداخل

 

قصص البدايات - 01/01/1969

استوئقت خلو البلاد منها، فتضاعف خوائي، أتلي الشتاء عفيا، يدفع رياحه من شعوق أخشاب الحجرة المدهونة بالحص والجير، عبثا أحاول التقاط أي صوت من المدينة، أتمني لقاء واحد من أصحابي. أحدثه عنها، كيف أسعي أليهم، من أين يجيئون ألم يعلموا خروجي.. هذه أمور لا يخفي هل تشاغلوا عني!! تلمست الأعذار لهم في لحة بعينها، سالفي مستودع سري، معلمي توفيق كما أعرفه الآن رايح كما عرفته يوما، رأيت أيامي شائها الملامح في الحبس الأنفرادي، تراكم الصمت، تعاقب الصور ا ستعادة المواقف، انسيال المعاني، رعشا أغنيات قديمة تمس عصبا عاريا عندي قمت، نزلت، الباب فتحته، الشتاء أمامي، أراه وجها عجوزا، أنا أفعل ما أشاء، لا يردني مخلوق عن فتح بابي أقدر علي الخروج لو شئت، لا يردني، جدار، لا تمنعني صيحة امرأة، عدت إلي سريري، اهتزاز متواصل مصدره ساقي بعد ساعات يطلق النهار، ترجع الشمس، أنزل إلي المدينة، أشرب الشاي في مقهي قريب، نفذت البرودة إلي داخلي، صحت بحس عال، ألتمس الدفء، استشعر الأمان، أنفي الهجر عني، ربما تقف في الخارج، تنتظر ا لدعوة فتلبي.

"يابلسم.."

***

لن يشتري كتبا سياسية، لو رغب في قراءتها، يستعيرها خفية، يبدل الغلاف، ينزع العنوان الداخلي، ينفي الصور ذات الدلالة، وجوه الباعة لم تتغير، أما هو فلا يذكره أحد، ثلاث سنوات وأزدادوا سبعة عصور وأربعة أيام. تبخر بكري الإنسان من الأفئدة، تضيع ملامحه من الأذهان، هنا همس يوما "عم كامل.. ألم يأت جديد!!" بحذر ينظر الرجل حوله، يستخرج ما أخفاه، في أول لقاء يفرح رابح، "أنت عبقري في الحصول علي الكتب، كم دفعت فيه؟!" يمد يده "لا يا رابح.. لن أخذ مليما.. ميزانيتي الخاصة تحتمل"، الآن عم كامل ساهم، ما أخفاه يوما يعرضه علانية، الأعمال الكاملة، الجزء الأول من المجلس الثالث، الجزء الثاني من المجلد الأول، المختارات بأكملها، نظرة إلي العالم الثالث، توم بين، النهر الهادئ، العمل الفدائي.. مستقبله وحاضره شتاء قاس آخر.. مجموعة قصص سورية، ربما فسروا اقتناءه هذه الكتب من جديد، في لحظة معينة عليه تقديم المبرر، تناقلت خطواته، صفدها الآسي، بقدميها داست نفس البلاد، في الكازينو القريب أصفي يحلو له النظر إليها بعد أرتدائها النظارة، تفحصها الكتب، هزة رأسها علي فترات زمنية متباعدة، تسأل "ما رأيك في هذا؟؟"، تأتي إجابته مختصرة "أحبك" يصلان إلي نهاية السور، تشهق لافتات المسرح القومي بألوان صارخة، ما يستجد عرضه من مسرحيات، صدأ ساعة البريد باق، دخان السيارات، "وأنا أيضا"، براحة يده يخبط الجبين، يدور حول نفسه باسطا ذراعيه، يلتفت إليه المارة، سخرية في عيون الغرباء، ما هكذا يجب أن يفعل من يصحب فتاة، لكنها تضحك ضحكا عذبا رائقا، أخيرا، ها هو المقهي، توفيق، أين توفيق، الميعاد مضبوط تماما، عادة احتجزها من الضياع.

- توفيق.

- مني.

ثبات اللحظة الأولي، ثم اندفع لا يوقفه حاجز، ثلاثة شبان يتوقفون يحمل أحدهم راديو ترانزستور، راكب دراجة يلتفت، لابد أن سنينا طويلة فرقت ا لشابين، تزار دراجة بخارية يركبها جندي من قوة المرور: يلمع إعلان ضخم عن افتتاح خط طيران جديد، من بعيد يترامي آذان المغيب.

***

أين المفر؟؟ كل ما يحيطني أرتبط بك، الليل، النهار، زحمة الطرقات اندفاع العربات من تحت الأنفاق، مياه النيل، صوت المطر، نافورات الميادين، روائح الطعام في المطعام الصغيرة التي أوتنا يوما، قوائم الأسعار، أنت الأصل، أنت الفرع عندما سمحوا لنا بإرسال خطابات من وجدي صفت ستة عشرة خطابا، أعرف أن عيونا تقرأ ما أكتبه لك، أعرف أن نبض روحي يصاغ ويحلل، يتغير في أذهانهم ويتبدل، لكنني لم أخف خفق عمري، انتظرت ردك تأتيني به الأيام، استدعاني القائد ابتسامة موجزة قابلتني، أعاد إلي كل ما كتبته لك، "لم نستدل علي العنوان"، كدت ألوي القضبان، اخنق السجان، أثقب الأرض، إلي أين ذهبت هل كذبوا بقصد إيذائي عندما سمحوا بالزيارات، خلسة أرسلت خطابا مع أحد الزائرين، عبثا انتظاري، حينئذ استوثقت خلو البلاد منك، لكنني لم أدر أين أنت رصدوا ما أمر به، ما لم أخفيه، أبدي الضابط تأثرا لم يخدعني، قال"بحثنا عنها ولم نجدها.. اسمع.. ربما.. ربما ماتت"، "لا" بلسم لم تخلق لتموت، لم، لن تموت، أرفض تصديق النبأ، حتي لو رأيت أغماضة العينين الأبدية، لو أحضروا الجثة القوني أمامها، فهي محاولة خسي تستهدف نهشي، تستجدي اعترافا مني عليذنب لم ارتكبه، أيقنت ذهابك إلي بلد ناء، في أي زمن، لا أدري أي نهار، أي ليل فارقت الديار، ربما لحظة تناولي طعامي المكرور، لحظة من لحظات تأملاتي، غرقي في بحور ذكرياتي، ربما في لحظة إيلاج المفتاح في باب العنبر، عند ذهابنا نستجدي الشمس في طابور الصباح، بعد خروجي رأيت المدينة محرمة علي، أخاف رؤية مباني الجامعة، خطواتنا الأولي مشيناها بين مبانيها، كنت بعد لا أجرؤ علي ملامستك، إذ نعبر الطريق أتساءل، هل أمسك ذراعها أو أدعه، أصغي إليك في صالة الفندق القديم، مأوانا في الشتاء نري الحنين في وجه الخادم الأسمر الطيب، من وجوهنا يستعيد أيامه النائيات، الآن لا أجرؤ علي المرور أمامه، العبور أمام مدخله المضاء بفوانيس ضوؤها رخيم، في صالته استمعت إليك، انتظرت مجيئك، كأطلالة القمر، كوصول السفن، في زعقت بروحي، وقفت متأهبا، أتجه كيفما شئت، أمضي إلي أعماق القطب الجنوبي، أرفع راياتي علي جليد لم يلمسه بشر قبلي أصاحب المخلوقات العجيبة، أفك الطلاسم، أقود الجان، أفتح القماقم، أحرر المردة، أتلو تعاوذ سيدنا سليمان، أتنبأ بالعواصف، أفجر الينابيع لأهالي الواحات القصية، أكتب الروايات أبحر مع كابتن آخاب، معا نهزم موبي ديك، نغرقه، أعيد لراسكو لنيكوف حياة أي حياة!! أصاحب دون كيشوت، معه أنفي الظلم عن الدنيا، أحرر البؤساء، نبث الأمل في أفئدة الأشقياء، أتحدي القدر، العمر والسنين، آه يا بلسم كانت الآمال أجنة في الصدور، لم تجهض بعد، لم تجهض بعد، تتشرب الحياة، لم ينقطع حبلها السري، بلسم، كل مكان ينسب أليك، أخشي الفسق إذ بلغني، الآن، أين المفر، مكان وحيد تجولت نمت فيه بدونك، هل أعود إليه طائعا، مختارا، أم أقيم حدودا حولي بديلة لأسواره، لا المكان أطيقه ولا الزمان، أين المفر، أين!!

***

- زمان أي زمان!!

علي جانبي عيني توفيق، ليست تجاعيد، إنما يرق الجلد، يفصح عن سهاد خفي وآسي، لحظات قليلة يتوقف ا لحديث، يحاول التقاط أحد أطرافه، وصله ربما يحاول توفيق، فيما مضي، يدوم الصمت بينهما ساعة، ساعتين، لكن كل منهما يعرف ما يفكر فيه ا لآخر، لو قيلت كلمة واحدة، لبدت حديثا بأكمله.

- توفيق.. ما أخبار الشعر؟؟! عجوز يضم يده علي أوراق نرد، فتهتز يده، يلقيهما، يمد رأسه متطلعا، نادرا ما لجأ إلي مقهي، منذ خروجه عرف مقاهي الحي كلها، تردد عليها في أوقات مختلفة، لا يجالس أحدا، يتفحص رواد الصباح، الزحمة المسائية، اختلاط الأصوات بأنفاس الدخان وروائح الشاي، الحبة، الكركديه، يعرف ما يتميز به شاي هذا المقهي، دون ذاك، لا تقلقه الوحدة، منذ أيام مع أحد أحبابه الأول، المقهي ضيق، يلمح الجالس في ركنه من المعتم بالركن الآخر، أدار ظهره، أقصي نظراته بعيدا، أبدي تجاهلا، لم قدر هل رآه أم لا؟!.

لكنه.. ابتدع.

- ياه.. ألا زلت تذكر؟!..

- عندما صرحوا لنا بالصحف والمجلات قرأت قصيدة بإحدي المجلات.

يومها تغير طعم النهار.

- آه.. قصيدة قديمة، أخذها بعض الأصحاب من زمن، ونشروها علي غير علم مني.

- لكن.

يا توفيق، يا رابح الزمن القديم ملامح الأنكسار تائهة عند ؟؟؟؟؟ العينين.

- من منا لم يكتب شعرا في عشرينيات عمره.. نعم كتبت شعرا أعجبكم، كنت أقرأ بولدير، سان جون بيرس، اليوت، ماباكوفسكي، صديقي المتنبي، فأهز رأسي، أقول كل ما كتبتموه سيتضاءل إلي جانب ما سأكتبه أنا. بعد فترة اقتنعت بوقوفي معهم علي صف واحد، الآن أجتاز أواخر العشرينيات، أعرف أن شعراء الموالد أكثر عبقرية مني.. يا منسي، الزمن افقدنا القدرة علي صياغة المعاني نثرا وشعرا.. آه.. هل تصورت يوما أنطلق فيه مثل هذا الكلام، أنت تقلب مواجعي.

تدور أصابعه حول بعضها، إذ يوشك علي البوح لها بسر ما، يفعل هكذا، تدرك هي، تسأله بعينيها، لا يمكنه الاخفاء أبدا، لو يسأله توفيق عنها، هل يراها، هل نسيها؟! ألم يلح عليها طويلا أن يقبلها؟! أن رتقي بالعلاقة إلي نضج مثالي، أن يحتويها، تحتويه، انتبه، إلي رعشة قدمه بمقدمة حذائه يضرب البلاط المغطي بنشارة الخشب، توفيق يدير الكوب الفارغ بين أصابعه، ينظر إلي الساعة الملتفة حول معصمه..

- هل أعطلك؟!

- أبدا.. شوقي إليك لا يقدر..

يمر الجرسون حاملا صينية مزدحمة بأكواب الشاي، وزجاجات الكوكاكولا ملاعق صغيرة، طبق فضي اللون مثقل بقطع سكر، لمعت لافتة في الناحية المقابلة، يعلن بواسطتها خلفاء الحاج زينهم فرغلي عن تقديم أشهي مأكولات لحمة الرأس إلي زبائنهم الكرام، طفل صغير نحيل، يطرق الصندوق الخشبي، تطل منه علب الورنيش، زجاجات الصيغة، يشير إليه توفيق لا يبتعد.

- طبعا.

- أي والله يا منسي.. أسمع.. لن أخفي عنك أمرا.. هناك مووع يشغلني.. يعذبني.

عقرب الثواني يمضي في أصرار مخيف، رابح يجيئ في الزمن الأول، الميعاد كحد السكين، جاد الوجه، يستعرض الأخبار، يجري المقارنات، يفصح عن النتائج، ياه، حدثها كثيرا عنه، رابح، رابح، حتي قالت "أود لو رأيته..".

- أسمع.. سؤال صريح.. ما رأيك في الخيانة الزوجية؟!

ضحك البدين، أهتز صدره الرجاج، صاح شاب "الولعة خلصت يا ريس".

- لا أفهم.

- هناك إجزاخانة علي بعد شارعين من بيتي.. اشتري منها الدواء للأولاد..

- أولاد؟!

تتفرق حروف الكلمة، تشع صورا ومعاني، الثانية وقت الظهيرة، أب يوصي فاكهيا باختيار بطيخة حمراء للأولاد، آخر يحمل طفلا، أمأته نمشي بجواره تمسك حقيبة يد سوداء قفلها أصفر، لمم يسأل نفسه قط، هل سينجب منها طفل؟! لم يتصور نفسه أبا، إذ يري الأطفال يرتبك، لا يدري، كيف يلاعبهم، عالمهم قائم بذاته، جرئ من يخطو فيه، يتفهم رموزه ومعاونيه.

- لم أخبرك.. ع ندما جاء أسميته "منسي".. أنت لم تره.. لم ترسميك.

- أشكرك يا توفيق..

- أنا أسميه الأولاد.. الثاني في الطريق.

ما الذي أوقف رجل البريد أمام المقهي بدراجته البخارية، يحرك المقبض حتي نخمد حركتها، ينزل يستدير حولها، هل يتفحص العجلات؟!. هل ينوي تسليم خطابات إلي رواد المقهي؟!. أهو أحدهم تخفي، يقصد مراقبته؟! كشك الصحف يعلق صحف الصباح، "السلطة الأردنية مستمرة في تصفية الفدائيين"، هل تبقي الصحف الصباحية حتي الآن؟!. أم أنها صحب الغد التي لم تصدر بعد، لم يقرأ الصحف منذ أيام، هناك تفحصها، نبش الإعلانات المبوبة، استكشف الوجوه، استنقصي خبايا الملامح، عله يراها مصادفة في لقطة، الآن، يبرق سؤال كقذيفة، تري.. ما الذي تفعله بلسم الآن.

- أنت معي؟!

- طبعا.

- ألمهم.. أول مرة. قلت ربما أخطأت التقدير، لكنني عندما ذهبت للمرة الثانية إلي الإجزخانة تأكد لي الأمر.. منسي.. أحذر أن تخبر زوجتي.

- أتراني أخبرت يوما عن أمورك؟!

- أبدا.. أبدا.. أنني أضحك.. المهم لا تتصوركم هي حلوة ولعوب أنها من النوع.

الذي يكشف عن غرضه من أول نظرة.. وعندما سلمتني بقية النقود ضغطت يدي.. غمزت بعينها.. والله يعينها، قلت بصوت خافت.. سأنتظرك عند نهاية الشارع.

***

قطعنا الطريق إلي أطراف ضاحية المعادي، آوتني الضاحية زمنا، نعدو، نمشي، نغني، نرجف الأسفلت، نرعش الأشجار، في الصالة الضيقة وقفت تنظرين حولك يداك تلامسان خصرك، رحت، جئت، وكنت عفيا بلا جراح، أصيغت إلي الصمت المجلل بخضرة، حرت كيف أبدأ، حدثتك عن كتبي، كيف أشتريها، أرتبها، أنفض الغبار عنها، حدثيني مع أصحابي، حدثتك عن مخاوفي، احتمل استدعائي، أقدم وصفا، تقديرا عن خبايا حياتي كل من صافحته، تطلعاتي إلي المستقبل البعيد، أصغيت وابتسامة في عينيك، سكت، ثم حدثتك عن خبرتي بتدبير أموري، وحدتي عند بداية الليل، حنيني إلي بكاء يرجفني، يخفف الحمل عني، حدثتك عن عادات نومي، عن كوابيسي، عن خبرتي بالطبيخ، ما أعددته لك، تمنيت اجتياز الاختبار، اتسعت ابتسامة عينيك، توقفت، انعقد لساني، رأيتك ، رأيتك رأيتك ضوءا، نيرانا أبدية وأنا المحبوس الأمين، رأيتك شراعا مفرودا، أرضا مجهولة، قارة سابعة أنا مكتشفها، محيط بفصح عن أسراره لي وحدي، جئوت أمامك يا محرابي، يا قبلتي، يا مجداف لا يخيب الملاح أبدا، استظل بك، أبدد مخاوف عمري، صحت مطاردا الوحشة.. "بلسم.. أنت مذهبي ودين".

***

- خرجت معها فعلا..

- مرتان.

- أوجدت حلا لحيرتك.. لماذا تسألني؟!

- الخيانة أمر لا أتقبله.. أنت.. أنت ما رأيك في الخيانة الزوجية؟!

- لم أتزوج بعد يا توفيق.. لا يمكنني الفتوي..

يصفق رجل وصل توا، يبدو منهكا، يدور بائع صعيدي، يحمل سبتا علقت علي حوافه كعكات السميط، تساءل منسي، أيكفيه مكسبه ليقيم أوده، برغم ضجة الطريق التقط صوت طائرة تمر فوق المدينة، إلي المطار ذهب أمس الأول، صباح اليوم، في البداية تردد، أي تفسير يقدمه عن ذهابه؟! لو سئل فيما بعد، عند نهاية الأوتوبيس لمح رجلا يتفحصه، تبعه خطوات، اختفي، ليفسروا ذهابه إلي المطار كما يرغبون، اجتاذ الصالة مرات، يتفحص إعلانات شركات الطيران، يصغي إلي صوت نسائي ناعم، مكبر الصوت وضع في مكان ما، ربما تردد اسمها فيه يوما، خاف طلوعه إلي شرفة المودعين، يخفق الوداع عليلا مربيا، غمره آسي، أمور كثيرة أضاعها، قوة خفية أعدت له كمينا متقنا، لا يدري من أحدث في نفسه هذا الجرح الطري الخفي الذي لا يلتئم أبدا.

- منسي.. ألازلت في حجرة المعادي؟!.

- ياه، زمان وانقضي، الحجرة ضاعت كما ضاعت أشياء كثيرة، لم يذهب إليها أحد، وعندما خرجت لم أفكر حتي في الذهاب هناك.. عندي أمل أن أجد بقية كتبي عند صاحبة البيت.. أنسيت أنني استأجرتها مفروشة؟!

يبدو أن ربحا باردة هيت، من خلال الزجاج يمضي بعض المارة ورؤوسهم منحنية، عربة أوتوبيس مسرعة، طراز جديد من العربات لم يره، قبل مروره علي السور، أوقفته فتاة، ربما تجاوزت السادسة عشرة كم الساعة؟!. بسرعة نظر إلي ساعته "السادسة والنصف|"، كلمات معلقة تود لو تنطقها حار، ماذا يفعل؟! فوجئ بنفسه يقول: "شكرا"، يمضي مبتعدا، ملامحها لا تمت بصلة قريبة أو بعيدة إلي بلسم، حتما تسخر منه الآن، ربما اقتفوا أثرها، يسألونه عن حقيقة شخصيتها، لماذا أستوقفته هو بالذات؟!

- أبدا.. أسكن الآن في الجمالية.. حجرة متواضعة فوق سطح بيت قديم.

كل ما يقوم به يفكر فيه، الأبد من أعداد المبرد المناسب، بماذا يجيب لو سئل عما يقوله الآن؟؟ كذا، يعد مشاهد حياته المقبلة، عندما أغلقوا القيود الحديدية حلو معصمه، أول مرة في عمره، مع هذا لم يبد الأمر غريبا، مر باللحظات من قبل، متي، أين، لا يدري، توفيق يجهل ما يشغله، توفيق لا يعرف إلي أي مكان مضي صباح اليوم؟؟، توفيق يقضم أظافره، ربما يتذكر فتاة الإجزخانة، فيما مضي إذ يفترقان، يدرك كل منهما ما سيقوم به الآخر، يعرف منسي أن توفيق سيذهب إلي خطيبته ستناول طعام الغذاء هناك، سيلتقي بإبراهيم هذا المساء، عندما يقبل منسي مشرفا مرفرفا بروحه، يسأل توفيق، "إلي أين؟!" يزم منسي شفتيه "مقابلة مهمة جدا.. يضحك توفيق"، يضحك يضحك، "سلم عليها أرجوك".

- والجيران؟؟

- طيبون.. بجواري امرأة مات ولدها في الحرب تعد طعامي و.. ضحك رجل ضحكا عاليا، صاح الجرسون، يميل توفيق هامسا.

***

في حجرتي خشبية الجدران، بلا جواز سفر، بدأت رحيلي، لم أرقب هذه العجوز في البيت المواجه تخرج كل مغيب إلي السطح تشمل الموقد، تقلب البصل في الزيت، تيف إليه عصير الطماطم، في الليل الموغل في العتامة يجيئها، ابنها، أسمع دقات يده المنهكة، لم أر البنت في الشرفة القريبة، تلوح بيدها، لمن؟! لا أدري، إنما تلوح باستمرار، ترسم الكلمات بإشارات أصابعها، لم أري المآذن القديمة، إنما رحلت إلي حجرتي الصغيرة بأقصي ضاحية المعادي، رأيت هزة رأسها السريعة، الأنيقة، الواثقة، رأيت ابتسامتها تقططر ودا، رأيت سلطانتي شجرة الدر، تلمست الود إلي مليكتي حتشبسوت، أشارت من أصبع يدها أفرد قلوعي إلي بلاد بونت، احتز أشجار ا لبخور، أتغلب علي مشاق البحر وعواصفه أعود بالدر والياقوت، باللؤلو والمرجان، أميرتي نفرتيتي وأنا أور الموحدين، يا روح السوسن، يا خلاصة العنبر المحلول، في المعادي اخبرتني بنيتك، برغبتك في السفر، كان السفر مشروعا لم يتجسد بعد، استكمال دراستك في البلاد البعيدة، هذا ما تعلقت به، ما عللت به عدم ردك علي، ما استوثقت منه، سأمضي منقبا المدن، أذيب الجليد، لن أتساءل في وحدتي الشاحبة، أين هي الآن؟!. أين، أين؟! في أي البلاد مأواها، هل تعبر الحد الفاصل بين دولتين، هل تبرز جواز السفر لرجال غربا، هل تمشي في طرقات باريس، مدريد، برن، هل تحكم المعطف الواقي حول جسمها، هل تراقص غريبا، أنا مسلوب من مخيلتها، لا يرد طيفي في خاطرة عابرة، هل تقف عند نهاية السلالم الرخامية أمام دار سينما، تبحثين عن تاكسي، أبدا، أبدا، لن أتساءل لن تعذبني علامات الاستفهام، لن تعصف بي رجفة حنين، سأرحل إليك، أهاجر، أقطف من شفتيك ألمن والسلوي، هنا، هنا.

- أفهم ما تقصده يا توفيق.. لا أظن هذا ممكنا، الحي قديم، وأهله محافظون. مجرد دخول امرأة.

- ليست امرأة.. أنها بنت.. عذراء.. أكدت لي هذا.

عيون الخلق تهيب به، أن يقوم، يحكم إغلاق بابه، يتمدد فوق سريره يطرق عالما آخر تضاريسه مختلفة، يري رابح، تحليله للأمور فهمه للأحداث، انفعاله عند استدعاء فترة منقضية، لا يدري، هل ارتفع صوت المذياع الآن فقط؟!. أم أنه مستمر منذ لحظة دخولهما ".. فيهم كسير القلب يا ليل، والمتألم، واللي كتم شكواه ولم يتكلم.. آّ.. يطولوك يا ليلي...".

- يا منسي لا تعلق.. تساءلت عن الإمكانيات فحسب.

الشاب الجالس بجوارهما "الماشة" يسوي "الولعة" شد أنفاسا خصبة، أرسل دخانا سخيا.

- أين ستذهب غدا؟!

- أنا؟!

- نعم..

***

الآن، أخفي مقصدي، لا أفصح عن اتجاهي، قال "أراك غدا" كذبت قلت إنني سأذهب إلي عميد الكلية، لابد من استكمال دراستي، نسي توفيق أنهم أخذوني ولم أتم الليسانس سألني، في أي السنين أنت؟!.

كذبت مرة ثانية،، قلت "ثالثة"، مع أنني في الليسانس، انتظرت منه تعليقا لم يفه حرفا، خشيت لو سألني عنك، لو استفسر عن أخبارك الآن يرهقني الحديث، يضنيني التفوه بالألفاظ، في أول سنة بالجامعة، أصحب أحد زملائي، نبدأ المشي، نفتح باب النقاش في أي موضوع، نمضي من الجيزة إلي المعادي، لا تكف عن أبداء الرأي في المقهي نلتقي برابح،، يدور الحديث، يتشعب، يتصل، رابح فوق الأكتاف، رأيه شلالا يهدر، ساعدا يلوح، تطل عليه بيوت شارع قصر العيني. رأيت توفيق يتلكأ أمام الفتارين، فوق كتفيه ثقل غير مرئي، أسرعت، وليت، لا رغبة عندي في الحديث، الآن أخاف مفارق الطرقات، أخشي العربات المندفعة، خاصة في الليل، في زحمة الطرقات أري ذكرياتي أسرية للمدينة، أري الآمال تدور مع دوامات التراب والورق، تحصنت بحجرتي، عمري المنقضي، المقبل، أكفان أمنياتي، هياكل نواياي، إيماءات رأسك عبير شعرك، اهتمامك بما احتواه كتاب، اطلاعك علي جوانب موضوع بذاته تفردك، هنا، استكشف البلاد التي ضمتك، أنأي، أذهب فيها، لو جاءني توفيق أعرف طرقاته، لن أفتح الباب لو أحد أصحابي، لن أجيب قط، أقمت دون البشر أجمعين طلاسم وأرصاد لا تفك، لا تحل، في كل موضع ألصق أذني بالأرض، اتسمع وقع خطواتك، رحيلي، هجرني إليك، تعصمني في زمان لا عاصم فيه بعد اليوم، دائما تنفجر في قلبي ينابيع الحنين إليك أثق من لحظة أحط فيها ترحالي، أزعق فتسمعينني، هنا أخلق دنياي كما أرغب أنا، ألمحك تؤمنين، تتوقين، أري الملامح المفتقدة من زمن، من دهر لم يدون، تهزين رأسك، أعرف ما تقولين، ما بين الجدران الخشبية المغطاة بالجص المطلية بالجير، قبري، قبري، لكنه يعصمني من الذلل وسبيلي إليك.

 

 

أحزان محمود كايرو

 

قصص البدايات - 24/05/1968

خرج عم مرسي بائع الصحف من مدخل خان الخليلي، مطرقا إلي الأرض لا يلحظ ما احوله رائحة الأكل تفوح من المطعم الإيراني وتختلط بالظلال الرمادية الممتدة فوق الطريق، آخر لحظات العصر، روح المغرب العجوز الشتوية تنزل فوق حواري الخان.

 

نهاية يوم أصفر هزيل، البيوت القديمة تقف متعبة، عملاق كبير يجلدها بسوط لها يسمع له صوت.

 

تطلع حسنية السطح، تطرق باب عاطف أفندي، تبدو في عينيه دهشة، بوم خجل في عينيها، تعقد يديها أمام بطنها.. أي خدمة يا ست حسنية.. تحت أمرك يا حسنية؟؟

 

يهب الهواء من تلال الدراسة باردا مثقلا بغبار كضباب خشن، عند منحني يقف عم عبده، يخبط صينية البسبوسة بسكينة صغيرة مثلثة.

 

ـ أهلا.. كايرو..

تحركت تفاحة أدم في رقبة محمود كايرو، ترجرج السواد في عينيه الواسعتين، انثنت شفته السفلي مستسلمة لصنتيه الأماميتين، عم عبده يعرفه من زمن، كل صنايعية الخان، باع لهم طوال عمره..

ـازاي الحال يا كيرو..

ارتفعت يده بسرعة في الهواء، عادت لتتدلي بجوار جسمه، لم يتحرك، إلي أين؟؟ من خمسة شهور لم يفارق حواري الخان، ما فيه تاجر قال له اعمل حتي ولو عشر بوفان أو خمس شنط من فوق المقاعد ينظرون.. يبسطون أكفهم في الهواء.. حنوديه فين، هو فيه سواح؟؟

 

ـ باين عليك معذور.. دي مش حالتك ابدا يا كايرو يا بني..

الاسفلت غطاء الأرض الخشن مطعون ممزق متشقق، الجدران كأنها ستقع، الخان فوقه هدوء مريض ضبطت السكينة حافة الصينية انغرست في العجينة السميكة الشهية وعلي ا لطرف استقرت لحسة سمن، توزعت ذراتها فوق الكتلة البنية الصغيرة.

 

ـ يبقي لي عندك يا كيرو.. روح ربنا يفتحها في وشك.. روح ربنا يفك ضيقتك..

في الشرايين الصغيرة، شعيرات الدم المتشابكة الممتدة وراء عينيه الواسعتين تدفق دم ساخن، في الحلق ترجرجت كتلة صغيرة كالبندقية، تسربت إلي اليد سخونة العجينة، لم يتكلم لم ينطلق.. تعدد عادل الصغير في ركن الغرفة، جسمه فجأة تحول إلي كتلة خشب نحيلة مصلوبة.. تصطدم اسنانه ببعضها، يعض لسانه، يسيل خيط دم علي جانب فمه، تدور أمه برأسها، تقرب من انفه قشرة بصلة، تسكب فوق وجهه كوب ماء، يزداد الخشب صلابة، تعض يدها.. الليل من حولها كالقتيل..

آه لو أعرف أبوك راح فين.. آه لو أعرف..

بازار الحاج سعيد..

مشغولات فضية وصدفية..

الفاترينة المقابلة يطل منها شمعدان فضة، تمثال خزفي ملون لرجل صيني ملتحف في عباءة لحيته طويلة رفيعة، يحنو علي طفل صغير بين يديه، ثلاثون سنة قضاها في هذه الممرات التي لم تتغير عمر كامل، عشرة منهم عند الاسطي إبراهيم شيخ السروجية كلهم، أساس الصنعة، أي واحد اسطي جلد كان صبيا عنده، صبي صغير يضربه علقة إذا أخطأ، يغطس رأسه في برميل الماء لو ارسله لقضاء حاجة وتأخر، حتي الحاجة فضلون، أكبر تاجر في السوق، يفطر علي زجاجة بلاك آند هوايت. هوايت هورس.. بدلا من ماء الجوزة بيرة ستلا، وهذه الراقصة المشهورة التي يقسم كل صنايعي في الخان أن الحاج من شهرين، ورقة عريضة تذبح الحمامة مكتوب عليها ـ اتعهد بدفع قيممة هذا السند عند الطلب ـ بكل ما عليها من زخارف حمراء غامقة وفاتحة، حرقها ليولع بها سيجارة للست وهي تنثني وتتخلع، برغم هذا فالحاج غريب عن الصنعة، في أول حياته كان صبيا فاشلا عند الاسطي إبراهيم ثم طرد ضاع، ضاع ظهر فجأة بقرشين لم يعرف أحد من أين جاء بها، يفتح ورشة تكبر، وتكبر، يركب طقم الذهب لكن.. برغم غروره الذي يجعله يكلم كايرو بطرف لسانه، وقاحته التي جعلته مرة ينهال ضربا علي عم مصطفي أحسن مكنجي في السوق والذي تجاوز الستين عاما علي الرغم من هذا فهو ليس أساس الصنعة، والله دخيل عليها، لا يعرف البوف اللوكس من البوف البزازي ولكنه الزمن، الحال المائل..

قام كايرو، رمي قطعة ورق بعد أن لحس أخر ذرات البسبوسة اللاصقة بها، في ربع السلحدار القريب يمكنه أن يجلس ربما احتاجته ورشة لينقل بالة بضاعة أو بعض الصناديق، امرأة بيضاء منحنية الظهر تعبر الطريق، تطيل التحديق إلي بعض البوفات، يخرج صاحب البازار مرحبا بها يسمع كايرو كلمات غريبة، يلتفت الرجل حوله، ربما لحظ الزبون تاجر أخر يسارع إلي التقاطها، ولكنها تمضي متمهلة كأنها لم تسمع، لم تر، دائما يقول كايرو لزملائه، إنه لم يعمل طوال حياته في بازار بالرغم من أنه لو وقف كصبي مجرد صبي في السوق لتكلم اليوم أكثر من لغة، تجار الخان لا يعرف الواحد منهم يكتب اسمه وممع ذلك اقلهم يرطن ثلاث لغات، يستطيع كايرو أن يحدد جنسية السائح من هؤلاء من نوعية البضاعة التي يحملها، طريقة مشيته، أما هذه العجوز فلا يعرف من أي أرض جاءت، عجفاء مترهلة، الشعر يغطي ساقيها، القبعة فوق رأسها سلة مهشمة مقلوبة، وجه اليوم الذي ينقضي الجزء ا لأخير منه في بطء قاتم.

قصة مصرية

السلم معتم.. طرق الباب، فتحت حسنية.. صاحت.. انت فين يا كايرو.. سايبنا لمين يا محمود..

تقول فادية ابنته من ورائها.. أنت عارف البيت ما فيه مليم يابا..

ادخل يا كايرو.. ما عتدش حقول لك هات.. ما عدتش حزعلك.. هو انت عواطلي.. بمزاج.. ما هو غصب عنك تقول فادية..

بس ما تسبناش وتمشي.. انت عارف مالناش حد في البلد دي.. ادخل.. ادخل يابا..

في الليل تسكن الحركة في الخان بعد نزول الذرات السوداء في الفراغ تغلق البازارات أبوابها تهمد الحركة، يستطيع الناظر أن يري الشارع الرئيسي من بدايته عند جامع الحسين حتي نهايته بالقرب من الصاغة، لا تعترض رؤية قامة إنسان من ثلاثة شهور مش كايرو فيه، قميصه خارج البنطلون، عيناه الواسعتان مطرقتان إلي الأرض، عند منحني ضيق علي رأس حارة اليهود يقف زميله في ا لصنعة حمامة، أمامه نصبة خشب، فوقها طاستان تحتهما موقد غاز، يقلي في أحدهما باذنجان، وفي الثانية طعمية.. حنعمل إيه يا كايرو لازم نستحمل .. في يد حسنية غويشة نحيلة يتيمة، في جيبه مصروف البيت، الحاج فضلون لم يعط أحدهم مليما، عقد الشركة الذي جعلهم يوقعون عليه حماه طوال أربع سنوات من دفع مليم واحد للتأمينات.

 

السواح قطعت رجلها من البلد، والبمبوطية ما بيشتغلوش والبوفات كتير عندي مش عارف اصرفها.. من مدة وأنا باكل في اللحم الحي..

قال كايرو للأسطي..

ـ ياحاج بدل رميتنا في الشارع شغلنا يوم كامل وادفع لنا اجر نص يوم زي ما بقية النجارين عاملين مع الصنايعية.

 

أولاد الحلال كثيرين، من هنا جنيه، من هناك خمسين قرش، في صباح باكر التلاميذ يخرجون إلي مدارسهم، العمال يعبرون ميدان الحسين، سائقو التاكسي في الميدان يتثاءبون، خرج كايرو وقف أمام وكالة الفراخ ، العمال نيران البريموس الاصيل الذي احتمل ثانية عشر عاما انقضت منذ زواجه، أول زبون ولد صغير ملا له الرغيف،، ربنا سيفرجها، ستصبح الأمور عال العال، اتسع صدره لهواء مريح نقي، مر عليه الاسطي رمانة، ربنا حيكرمني وتبقي عال قوي، في تمام العاشرة، بدايات الشتاء تتمدد في السماد. فوق كتفه استقرت اليد الغليظة، العينان الضيقتان، الشارب بصمة.. معاك رخصة من الصحة...

قال جاره الأعزب عاطف أفندي لو اديته خمسين قرش كان سكت قال عم عبدالهادي السمكري.. اشكي.. اكتب عريضة.. المكتب عريض، حوافه تغطيها قطع معدنية صغيرة، علي الجدار الخلفي يتدي علم صغير أخضر مثلث اطرافه صفراء تتدلي منها شراريب حمراء، فوقه كتابة بحروف زرقاء ـ نال مكتب الجمالية جائزة التفوق في مباريات كرة السلة، قال لرجل الأبيض الشعر أنيق الثياب.

 

اكتب حالتك كلها علي الورق كلام بالبق ما ينفعش ما ينفعش .. ما..

دار بعينيه في الفراغ الذي يتوسط الربع، بالقرب منه مسقط يغطيه زجاج مهشم، يطل علي المطعم الكبير..

كوارعي الخان يرحب بالزبائن واحد كوارع ـ٩

 

واحد فتة ٥.٦

 

وإذا عزمت فتوكل..

يضحك رجل، ينظر إلي امرأته أولاد ثلاثة يبتسمون، يميل الخادم متظاهرا بالمشاركة في الضحك، يقول الرجل مقطبا حاجبيه، ملوحا باصبعه.

 

كوارع عجالي بس من الزند.. من الزند ياريس..

السنين التي رحلت لا يعرف كايرو إلي أين؟؟ أكل فيه مرات سمع التقلية تفح وتشخشخ في الاناء الكبير رأي السلاطين تخرج محملة بالارز المرصع بالتوم المقلي، والكوارع غارقة في اشوربة سميكة يطفو فوقها بهريز دسم كانت البسوسة من لحظات حلوة شهية، الآن تلكمه في معدته، العجين الأوي إلي فراغ دام يومين كاملين.

 

يصغي عادل ولده، ربما سمع صوت قدميه فوق السلم الليل أوغل ولم يدخل أبوه بالكيس والارغفة تقول فادية لأمها اخرج اشوفه ياما..

يابنتي انت مش صغيرة.. ازا؟ي تعرضي نفسك للي يسوي واللي ما يسواش..

لو انه اطاع امرأته وارسل فادية إلي مشغل الجماعة الاقباط، تأتي بجنيه مضمون كل أسبوع ومن يدري ربما قابلها ابن الحلال هناك وربنا يلمها ابدا، لن تعمل ابنته عند نانس اغراب، تغيب عن عينيه طيلة النهار واليوم كله وسط شبان، الواحد منهم كالثور الهائج، إنه يعرف المصانع وجو المصانع.

 

البنت مادام صدرها علي يبقي خروجها عيب.

 

ياكايرو.. خروجك انت ماهو عيب العيب.

 

تدخل حسنية حجرة عاطف أفندي فوق السطح.

 

الراجل سابني من غير مصروف ياسي عاطف..

تحت أمرك يا ست حسنية.. ياسلام اتفضلي.. اتفضلي تلك، قفل الباب.

 

نفخ كايرو هواء حارا صفرة الشمس حوله النهار يسرع بالاحتضار العمل يقارب علي الانتهاء في الورش الصغيرة، خرج الاسطي صالح من ورشته حاملا تحت ابطه علبة صدف يحرص الا يبدو غطاؤها المطعم حتي لا يراه صنايعي آخر فيلطش التصميم تماما كما حرص علي رسوم البوفات الجديدة التي كان ينقلها الاسطي إبراهيم من الكتب القديمة، دقات شاكوش عم مصطفي، الحاج سيد يشرب كوب الشاي، يمط شفتطه كأنه يعاني ألما لذيذا، يقولون أنه كريم، الاسطي اسماعيل النجار والاسطي صنيبر الصدفجي دا؟ئما إلي جواره يتلقفان منه قطع الأفيون، كايرو لا يعرفه، وفرق بين أن يمنح قرش افيون كامل وبين أن يعطيه حتي ولو عشرة قروش، اللون الاصفر يتغلغل فيه العطن، برد ما قبل الليل يتسلل إلي وريد كايرو يطفئ الضوء الذي يبرق في عينيه الشتاء العفي القادم يتجمع في لحظة ليثقب روحه، هل ستمضي ليلة ثالثة عليه وهو بعيد عن بيته، ياه.. حتي المرأة صاحبة البيت لن تدع حسنية حالها.. أنا عرفت السبب اللي بيخليني ادفع جنيه للميه كل شهر.. مراتك يا كايرو.. مراتك بتسيب الميه ع الأرض.. الجيران قالوا لي كده.

 

وكيف يعلو صوت حسنية وعينها مكسورة، الايجار متأخر من ثلاثة شهور المرأة تهددها علي مسمع من حريم الحارة بالطرد في هذه الليلة البعيدة بكت حسنية طوال الليل إذ أن ثلاثة نساء طرقن باب حجرتها قاماتهن ضخمة عيونهن مكحولة العواف يا ختي.. صاحبة البيت قالت لنا الاوضة دي حتفضي. نقدر نشوفها يا روحي.

 

لن تدخل ورشة يا كايرو لن تنحني فوق بنك، تخرج حاملا تحت ابطك علبة، بوف ولا حتي قطعة جلد لن تتوقف عن العمل في الغذاء ترسل الصبي ليشتري لك طعمية وطحينة، تطالب المعلم بالمصروف، تاخذ الجنيهات من الحاج فضلون وتذهب لتشتري خام الجلد من الجمعية، لن تقف عند عربات الفاكهة في الحسين، تقول للبائع.. حط البرتقانة دي.. لأ شيل دي.. خد يا عادل.. يا فايدة.. يا حسنية.. آه يا كايرو ما الذي دفع بك إلي هذه الصنعة، أيوه سروجي والجد وجد الجد.. هل كان يحسب حسابا لهذه الأيام، يا ما كسب، ياما ضيع كايرو صنايعي نظيف كل السروجية شهدوا له، أحسن واحد ينجد بوف ويدكك المغري، يداه ذهب، آخر حلاوة ونظافة.. دارت اصابعه حول بعضها، علت به الأرض، نزلت، البازارات تضيء أنوارها الحاج فضلون يلعب الطاولة والورق في الهواء فوق ميدان الحسين يوحم الذباب بحثا عن مقر يقضي فيه الليل، فوق اكوام البرتقال، اليوسفي، مدخل الباطنية مليء بوحل لا يجف، لازالت عربات تبيع لحمة الرأس تقف في اصرار، أمام شلبي الجزار فوق منضدة عالية تستقر علبة كرتون يرقد فيها السمك الروسي المملح، اطل كايرو من باب رشاد الحلاق، زبون يغمض عينيه فوق الكرسي العالي. رد رشاد.

 

ـ الله ينعم عليك.. مر الوقت بطيئا يدور رشاد حوله يتخلل شعر الزبون المشط يخبط المشط ويطقطق المقص، ينزع الفوطة من حول رقبته، ينفضها ليضعها من جديد، تثائب كايرو حوض الماد في طرف الدكان الحنفية الصغيرة تفرج عن الماء.. قطرة.. قطرة. زجاجات العطر فوق الرف المجاور للمرأة الكبيرة التي تعكس وجه الزبون، عيناه مغمضتان البودرة تغطي ذقنه.. اشار كايرو إلي رشاد..

ـ لامؤاخذة.. اصله زبون جديد ولازم أجر رجله..

عاطف طفل صغير بالقرب منهما مشي فران يحمل فوق رأسه تسع أو عشر طاولات عجين خشبية، صاح رجل في مكان قريب طقطق رشاد بالمقص.. عض كايرو شفته.

 

ـ ولا يهمك.. ليلتك فل.. مدخل الحارة هادئ البيت يقترب،كيف يدخل؟؟ يد وراءه يد أمامه، كيف يرد لقد تجاوز البيت، الخرابة المظلمة تسد الحارة من الناحية الأخري، امرأة تتنهد وراء نافذة في الطابق الأرضي كما تتنهد حسنية بعد أن تطبخ الكيلو أبو ستين قرش.. همست امرأة في البيت المقابل.. سا الخير يا ست عطيات.. تواري بجوار الجدار حتي دخل أبوسيد إلي بيته لابد أن الحارة كلها تعرف..

مادريتيش ياختي.. كايرو جوز أم فادية طافش من بيه من يومين..

طب معذور يستلف.. إنما يسيب بيته. أهو ده اللي ما يصحش..

الحاج فضلون يرفع رأسه، يرمي زهر الطاولة.. عاوز إيه يا كايرو.. هيه زنقتك في اليك يا حدق.. بردون.. بردون يا كايرو.. انت شايفني بالعب.. مش وقته.. مش وقته.

 

لا يعرف إن كانت امرأته وعياله في الحجرة أو ذهبوا ليبحثوا عنه طردتهم صاحبة البيت، طلع ثلاثة سلالم، لو ينزل عادل الآن، يندفع إليه، يحتضنه، يقبله، ابتلع ريقه، سيعلو زعيقها، البيت.. اين، اين، البيت ما فيه لازم أي حاجة، بين الطابق الأول والثاني استند إلي الجدار الرطب، يا باب مغلق عليه، لا أنفاس تتردد بالقرب منه لكنه هنا لا يبعد عنهم، فجأة علا صوت راديو.

 

اقدمها ايضا من المهندس أحمد فؤاد مع التحية إلي خطيبته، ومن عبدالفتاح خليل وعروسه مريم بالاسكندرية ومن مريم حلمي بلندن إلي الأهل والأ[باب.. كما طلبها ببرقية.

 

فترة صمت..

ربما تتصنت حسنية وقع خطواته فوق السلم، يتقلب عادل في نومه مطلقاتأوهات غامضة حزينة، آه ومن يدريه أنهما في الحجرة الباب مغلق عليهم في هذه اللحظة، تلك الثانية، مد عنقه إلي أعلي، ارهف أذنيه، بدأت المقدمة الموسيقية لأغنية لم تتضح معالمها تقلصت يده فوق الدرابزين الخشبي المترب، ايد خشنة يكسوها الشعر، قبضت قلبه، طفل ينادي امه في بيت بعيد، صاحت امرأة لا يدري اين بالضبط.

 

ـ يا للي ماسكين الميه سيبوها شوية..

انحنت رأسه حتي لامست الدرابزين الخشبي، في بطء اغمض عينيه الواسعتين بعد أن طرد جفناه دمعتين كبيرتين قد خرجتا في بطء علي وجنتيه.

 

 

 الدورية

 

قصص البدايات - 04/05/1967

نزل الصمت فجأة منذ أن أسال اللون الرمادي في الخارج وأغرق الدنيا حتي توغل الليل بظلمته وسكونه. أرهف أذنيه محاولا أن يعرف في أي مكان يوجد زميلاه. لا يدري هل أخذوهما إلي المكتب أم لا.. خطر له أن يصيح ليناديهما لكن الصمت الليلي العميق سيفضح نداءه. هذه الجدران ت فوح منها رائحة التراب والجفاف وتفصله عنهما لكنه الآن يحس بقربها منه. ظلوا بجواره عدة ساعات متصلة وكلها فكر فيما حدث هذا الصباح يشك في ودوعه. لكنه ينظر إلي الجدران الصفراء المالية. هذا الباب الأسود الضيق المنحني كعجوز كريه مقوس الأكتاف. هذا الرف الخشبي الصغير البارز من الجدار يحمل طبقا مقشورا من الصاج يحوي كمية ماء قليلة. ويقفز إلي ذهنه خاطر مفاجئ كأنه يدرك الحالة التي أصبح فيها لأول مرة. ها أنت وراء خطوط العدو. في إحدي معسكراته بل في سجونه.. ضرب الجدار بقبضته. ربما أجابه أحد من ورائه لكن الصوت رن في الصمت وكأن الضربة أحدثت موجات متتابعة توقفت في أذنيه. لم يجد أحد. ولمدة لحظة قصيرة جاءه هذا الإحساس القائم. أنه بمفرده في هذا المكان كله لكن زميليه كانا معه في الصباح.. لم يتركهما إلا في هذا المكتب الخشبي الصغير ولابد أنهما في مكان قريب منه بالتأكيد. في أي شيء يفكران.

وجه الجاويش محمود كان يبتسم والعربة تنطلق بمحاذاة خطوط العدو.. العجلات تندفع بلا صوت وحولهم كان الفجر رماديا يحمل برودة الصحراء التي تنزل منذ أن يولي النصف الأول من الليل. زحفت العربة فوق مرتفع من الأرض.. نظر إلي الخريطة وقال.. لم نتوغل كثيرا يجب أن نتقدم.. أومأ الجاويش برأسه وأشار إلي المنطقة الفسيحة الجرداء. وراء هذه الكثبان سنجد بالتأكيد تجمعات لهم.

أدار إبراهيم محرك العربة. نزلت المنحدر الرملي ثم استوت فوق الرمال الفسيحة وأحس بالفجر في عروقه. تري في أي مكان مرت به مثل هذه اللحظات.. أول مرة يخرج في داورية تستكشف خطوط العدو. لكن هذه اللحظات مر به قبل الآن.. ربما في ضاحية من ضواحي المدينة الكبرية. في صباح باكر يخرج من بيته. الحركة تستيقظ في الطريق. بنات يرتدين زيا مدرسيا يحملن حقائبهن ويسرعن إلي محطة المترو. أطفال صغار يضعون أيديهم فوق كثاف بعضهم. رجل عجوز يدفع عربة محملة بأوعية اللبن ويصيح بصوت يذكره الآن.. اللبن الحليب.. كأنه يري المدينة والناس في هذه الصحراء وهذه المنطقة التي يستكشف ما بها مع جنوده. نظر إلي الجاويش إبراهيم وضم قبضة يده وأومأ برأسه. اعتدل الجاويش في مقعده وهمس.. أقول لسيادتك صباح الخير. هز رأسه يمرح. إبراهيم هذا قريب جدا إلي قلبه. ما يدور بعقله الآن هو نفس ما يفكر فيه. في حياته كلها لم يشعر بقرب إنسان إلي قلبه كما شعر بالنسبة لإبراهيم ومحمود في هذه اللحظة التي رسمت فيها العربة خطين متعرجين وراءها علي الرمال. يعرف جيدا ما يشعران به، بل إنه أحس بالرمال والصحراء. كل هذا تغلغل في نفسه. وتظلمت نظراته إلي الأمام. فوثب قلبه بين ضلوعه لأن اللعاب في فمه بين ضلوعه لأن اللعاب في فمه. استنشق الهواء البارد في فمه. استنشق الهواء البارد بقوة وضم مدفعه إلي صدره وأحس كأن علاقة بعيدة عميقة إلي صدره وأحس كأن علاقة بعيدة عميقة في القدم ربطته بهذا المدفع. تحرك محمود في مقعده واندفع إبراهيم بالعربة إلي الأمام.

في هذه اللحظة خيل له أنه سمع صوتا بعيدا. نحيل كخيط رفيع ينقطع ليعود فيلتحم من جديد. ربما واحد منهم يصبح في فراغ فسيح. ربما صوت نفير يدعو جنودهم المتناثرين. سمع صياحا قريبا ثم انقطع فجأة. يستطيع أن يفهم كل ما يقولونه فهو يعرف هذه اللغة جيدا.. عاد الصوت النحيل الضعيف وأحس أنه بعيد.. بعيد عن خندقه. عن جنوده. عن مدينته الكبيرة ا لتي يحبها ويعرف شوارعها كلها. عن زحام الناس حول أجهزة الراديو يستمعون في شوق إلي صوت المذيع.. عن الضجيج فوق الأرصفة.. عن مدفعه وشريط ذخيرته. تذكر المسافة ا لطويلة التي قطعتها عربات اللوري الضخمة لتعبر الصحراء. الليل وحرارة يونيو ونظرات التحفظ والسرور في عيون الجنود والضباط. همسأتهم في جوف العربات الضخمة. هذا ما ننتظره من سنوات. اندفع جندي يركب موتوسيكلا بجوار القافلة الطويلة. لوح جندي بيده لرجال وقفوا ينظرون إلي العربات. رأي الطريق ممتدا في جوف الليل مشحونا بالرجال والرغبة في الوصول بسرعة ثم السير بلا توقف بلا نهاية. دارت العجلات واستغرق الطريق ساعات ابتعد فيها عن بلدته. عن مدينته.

الآن يري أمامه هذه المدينة الكبيرة وكأنها خلف هذا الجدار. يحس نبضها. يسمع وشوشتها. وهسيسها الذي تعود سماعه إذا ما مضت الساعات الأولي من الليل. صوت عربة. صياح طفلة. ضحكة مرحة. ابتسامات الشبان السائرين في شوارعها العريضة. دعوات أم لابنها الذاهب إلي الامتحان. قبلة أب لابنته القادمة من سفر بعيد. انتهاء رجل من صلاته وتمتمة شفتيه. صفير راديو في الصباح الباكر. كل شيء يراه الآن. إنها قريبة منه. شديدة الالتصاق به. وهذه الطرق والبلدان التي مر عليها والنساء والرجال والأطفال الذين لوحوا لهم بأيديهم وألقوا إليهم بالآمال والأماني. حتي هذه المساحات الواسعة من الأراضي ا لخضراء والزرع التي يحدها الأفق والعربات تمشي علي مهل. أنه يحس كل شيء عاشه وراه. شيء خفي يمتد من هنا إلي كل بيت في مدينته وإلي كل سنبلة قمح يكاد الأصفرار أن يكسوها راها أثناء رحيله. أنه مسئول عن هذا كله. قوي ا لصلة به. في هذه الزنزانة الصغيرة الخانقة يحمي كل شيء في الناحية المقابلة حيث دمه وقائده وكليته وجنوده وقلبه كما أنهم يحمونه ويحسونه الآن.

عندما نظر إليه الضابط القصير كريه الوجه. سأله:

- اسمك. رتبتك. وحدتك. كتيبتك.

ضيق عينه. زم شفتيه. ليس هذا ضابط. أنه كراهينة. أيد ملوث بدماء أطفال لم يجف غربان سوداء تنقض لتنتزع شيوخا وعجائز من بيوتهم وتلقيهم إلي الضياع.. وطاويط سوداء تحيل النهار ظلاما وتنفث الحقد والسم فتجثث كل عامر وغامر.

قال الضابط اليهودي..

لا تتكلم.. يبدو أنك متعب

من الجاويش محمود رأسه ــ إبراهيم لم يتكلم أبدا ــ شعر براحة ونظر إلي الخلف. كانوا يبتعدون بإبراهيم ومحمود ومرة أخري أحس براحة. لم تمض نصف ساعة حتي فتح باب الزنزانة. كان رجل ضخم أفطس ا لأنف.. قال بالعربية. معك منديل.

أحاط عينيه ولم ير ما حوله. سمع صوت غليظ. أجري.. أجري.. أسرعت خطواته. تطاير بخار الغضب من عينيه. نزل سلما. واحد. اثنان. ثلاث درجات. قف. سمع خطوات خفيه تقترب منه. شم رائحة صفراء لسجائر قوية. ثم صوتا خفيفا كان شيئا رفيعا يسحب. هز كتفيه وفي هذه اللحظة ا نتابه شعور بأنه يريد أن يضحك في صوت عال. قال الصوت:

- ياه.. هل أنت مرهق.. هز رأسه. أحس بالخطوات تقترب منه.

علي العموم نحن ضباط.. لقد سكنت في شبرا زمنا طويلا. عشت شبابي في مصر.

أومأ برأسه إيماءة خفيفة.

وطبعا أنت تعرف معلومات معينة.. أي شيء رما تأفه. ربما لا قيمة له في نظرك لكننا لابد أن نحيط بكل الأمور.. أه.. أتفهمني.. أنني أعاملك كضابط.

عاوده هذا الشعور القوي بالرغبة في السخرية. فلتنته أيها اللعين من اللف والدوران. يعرف جيدا ما يريده. لكنه لو فعل كل ما يستطيعه وما لا يستطيعه فلن يجد عنده ما يساوي ذرة تراب.

ومهما استعملوا من وسائل فلن يتألم ولن يحدث لسانه صوتا يشبه اختراق دبوس لورقة أو سقوط إبرة فوق كومة قش أو اصطدام قطرة ماء بسطح بحر.

عاد الصوت اللزج الخافت يهمس بالقرب منه.

طبعا نحن نعرف كل شيء. لكن ما يضرنا لو عرفنا ما عندك. لا. لا.. انتظر يا إسحق لا تستعمل هذا الآن.. ألا تري أنه سيتكلم.

عيناه توثبتا تحت المنديل. اقتربت رائحة التبغ الكريهة اللزجة ودغدغت أنفه.

رجل كريه الوجه قاتم البشرة مشوه ا لملامح يقذف فمه كتلة عفن صفراء. لامست الأنفاس المقيتة وجهه.. تصلبت عروق رقبته. تزايد الحفيف القريب. عاوده الضيق من هذا المنديل اللعين. اختلطت أشكال براقة أمام عينيه. تميمت الأرض الصلبة لمدة لحظات. ضغط أسنانه. صاح الضابط اليهودي وضرب الأرض بقدمه مغتاظا ثم وضع يده فوق كتفه يا حبيب تكلم. تكلم. أنت تجازف بنفسك.

ساد صمت سمع فيه الحفيف المستمر.. قال ببطء.

لن أتكلم ألا أمام لجنة من الهدنة تعيدني فورا.

صاح الضابط من بين أسنانه وتزايدت رائحته التبغ العفن.

أنت تقامر بنفسك.. لقد تكلم زملاؤك.

اهتزت رأسه يمينا وشمالا. عندما عاد يقطع الفناء جريا غمرته راحة. ما الذي يمكن أن يحدث أكثر من هذا.. كتلة التبغ تصرخ في الداخل وتتميز غيظا. لفحت وجهه نسمة هواء باردة جففت حبات عرق كانت قد انبثقت من جبهته وتدخرجت إلي عنقه.. ورأي مساحات واسعة من الرمال تتدفق فوقها عربات محملة برجال سمر يتطلعون إليه. في السماء حامت أسراب طيور رمادية اللون قطعت المسافة بينه وبينهم. هفهفت بأجنحتها وعلت ثم انخفضت كأنها تقول.. ابتعوني.. أنصت جندي إلي نداء رقيق يبثه الراديو من أشقاء في المدينة الكبيرة. في خيمة صغيرة أسند صاحبه رأسه إلي البطأنية واحتضن مدفعه وتذكر الرسالة القصيرة التي لابد وأن يكتبها غدا وخيل له أنه يسمع نداء طفلة صغيرة.. أين أنت يا أبي. أين أنت.

وأحس برغبة في أن يسمع لحنا ما يثير في نفسه مشاعر شتي. كان ينظر إليه كعصافير حائرة رقيقة عطي تحط علي حافة جدول صاف يسبح في ضوء فجر رقيق. في هذه اللحظة امتدت نحوه يد هائلة من الناحية الأخري. حيث الرجال والجنود وفوهات المدافع. كنت يد هشيمة برائحة المدينة البعيدة والبلاد الصغيرة والقري والناس والأطفال الصغار.. خفق قلبه. أنه يحوي هذا كله.. يلتصق به. يذوب فيه.

إزداد الليل من حوله عمقا. ليل الصحراء الحار في بداية الليل ثم يبرد شيئا فشيئا.

وعندما يقترب الفجر يكون الهواء البارد قد زحف وتغلغل في ظلمة الليل. تري ماذا يفعلون الآن.. لابد أنهم نائمون والبعض صاح وآخرون يجوبون الرمال بحثا عنه وعن محمود وإبراهيم. إن صيحاتهم تصل إليه. عيونهم تزيد من خفقان قلبه. كلهم يعرفون أين هو الآن حتي مدينته الخالية شوارعها الآن بعد أن تجمع أهلها حول أجهزة الراديو واستمعوا إلي نشرة الأخبار الأخيرة ثم مضوا إلي بيوتهم رافعين أيديهم بالدعاء.. مدينته تشعر به الآن. نبضاتها تحسه كما يراها هو بداخله.

أردف أذنيه.

هل سمع صوتا. ربما شعر به لكن ثمة صيحة أطلقت فوق مرتفع بعيد. عالية قوية متموجة قطعت كل هذه المسافة لتصل إلي أذنيه. أصغي. عاد السكون ألا أصوات ليلهم المحموم.. صياح جندي بين فترة وأخري. استند إلي الجدار وأغمض عينيه.. أحس بضوء النار يسال بطيئا في الخارج طاردا العتمة والظلمة.

 

 

صحراء المدينة

 

قصص البدايات - 30/01/1967

 .. بحذاء السياج الأبيض لالحديقة الكبيرة أبطأت خطواته. في نهاية الشارع تلمع أضواء حمراء. بجوار عامود النور فضي اللون يقف الشبان الخمسة. قال لهم..

.. يا جماعة أنا موظف صغير. في اليوم الأول من كل شهر أقبض تسع جنيهات وخمسة وثلاثين قرشا. أنزل السلم بلا ضجة. لا أتكلم بصوت مرتفع. أمضغ طعامي في هدوء. أحب بنتا حلوة رقيقة كالياسمين. لم أقل لها بعد أنني أهواها. أضاجع امرأة إذا ما سنحت لي فرصة.

.. كفوا عن حديثهم. أصغوا ساكنين. مرت عربات التروللي تجر مقطوراتها المزدحمة. النساء يمشين بخطوات بطيئة حذرة راقصة تنظر كل منهن إلي الأخري. طفل صغير يشب علي أطراف أصابعه ويلوح بيده مهددا التمثال الكبير حيث الفارس يمتطي حصانا جامدا من الرصاص.

- أنزل صارعني إذا كنت شجاعا حقا .. كتلة رمادية لا تتحرك أبدا. الأصبع يشير في ثبات أزلي. برد خفيف يتساقط فوق الشوارع الرمادية في من فراغ السماء القتيم. صاح الطفل حانقا:

- إن لم تنزل سأقذفك بحجر... ظل فمه منفرجا حتي هدأت الضجة التي أحدثها مرور عربة ضخمة لها مدخنة رأسية كالقطار..

.. مديري قصير. أبيض الوجه مشوب بحمرة. كلماته محدودة. متجهم لكنه يضحك أحيانا وعندئذ نطفح بشرا. بعد شهر من مجيئه أشتري عربة بيضاء. عجلة قيادتها في لون السماء. مقاعدها جلدية مكسوة بغطاء شفاف من البلاستيك.

مال موظف عجوز بالأرشيف وهمس في أذن زميله: أرأيت؟.. أومأ مجيا وامتدت الشفتين إلي الأمام. وقف بواب المؤسسة كأن يدا جذبته إلي أعلي. توقفت العربة السوداء. نزل البدين كتلة من لحم سمين. وجناته حمراء كالدم. ارتفعت اليد بالتحية. أسرع عامل الأسانسير. همس البواب لعامل البوفيه.. صاحب مصانع الأحذية.. مديري يجيد الضغط علي الجرس الأحمر.. أسمع الرنين فأدخل. رأيت البدين.. امتدت يده بالأوراق وقال: أمضي هذا الورق ليعرف البك حصته من الجلود..

.. عادت العربات تطلق نفيرها. بجوار الرصيف توقفت سيارة بها ثلاثة رجال. أنزل أولهم قدمه. لمست الرصيف. أشار بأصبعه إلي فتاة تحمل بيدها حقيبة كتب مدرسية. تثنت بدلال. صفق بيديه..

- سنأكلك الليلة لحما شهيا..

ضمت شفتيها محذرة. نقلت ا لكتب إلي يدها اليمني. انزلقت بجسمها لتستقر فوق المقعد الوثير. علا النفير. اهتز سياج الحديقة. صاح شاب في وجه الموظف الصغير:

- لابد أن نمتلك عربة نضاجع فيها نساء المدينة كلها..

تأوه الثاني وصاح ساخطا:

- كلهم يفلعون ذلك أما نحن فلا نمتلك ؟؟؟؟؟؟:

- لنحرق ما نملكه.. ونسافر إلي الخارج لنجمع الثروة.

تساءل الرابع:

- أنسيتم المباراة.. ماذا جري لكم؟؟

نظروا إلي بعضهم في دهشة.. صاحوا محملقين في وجه الموظف الصغير:

- ألن تري معنا مباراة كلاي ضد باترسون.. سنراها في التليفزيون.

أطرق حزينا. خطواته تعود بطيئة. الليل فوق المدينة متهدج الأنفاس. رجل في مقهي يضرب المنضدة بقبضته غاضبا. امرأة تلعق ا لجيلاتي بأناقة. أصواتهم تتردد خافتة: سنري كلاي الليلة.. سنري كلاي.. تأوهت بنت سمراء »آه ما أجمل فستانها«. عند ناصية الشارع رأي أربعة رجال يتكلمون بحدة عندما أقترب منهم صمتوا. حملقوا في وجهه.

.. أنا قارئ قديم. ألتهم صفحات الكتب بسرعة. لا أدخن السجائر منذ أن ارتفع ثمنها. أسمع الموسيقي الكلاسيكية. أسهر حتي الثانية عشرة، وفي الكتب أختلس وقتا قصيرا لاقرأ.. رنين الجرس يزعجني.. قال:

- البك سيعرف حصته من الجلود.. وقع هنا..

نظرت إلي البك حائرا. سمين لكم هو سمين. يشعرني بالشحوب في وجهي والنحول في جسدي..

- لكن سيادته صرف حسته من قبل.. لمعت عيناه من وراء النظارة. أطارها سلك من ذهب..

- قلت لك أمضي..

- آسف.. سيادته أخذ حصته.. أنا المسئول..

الدماء الحمراء تدفقت تحت الوجه اللحيم:

- يا أفندي أمضي التصريح ولا داعي.. صحيح أخذت حصتي لكن من قال لك إنني سأصرفها هذه المرة لاسمي؟؟

هززت رأسي.. في المكتب جاءني. يده في جيبه. أخرج رزمة نقود.. أغمضت عيناي وتصاعد الدم إلي رأسي..

- لن أسمع لشيء كهذا أن يحدث معي.. قال ستندم ولم أرد لكن المدير استدعاني.. كف عن عنادك هذه أمور بسيطة لا داعي لتعقيدها.. هززت رأسي.. خرجت.. جاء رجل آخر لكنه أقل سمنة.. سيادته يتحدث إليه بصوت هادئ.. كنت أقف أراقبهما.. الرجل يلوح بيده ساخطا في وجه المدير وسيادته يسمع صامتا.. لن أسمع لسمين أن يصرخ في وجهي وأسمع في هدوء. لن أسمع كلاما قاسيا أتلقاه بابتسامة ناعمة ذليلة. لن أحمل ورقا أخضر مطبوع بلحم ودم. مال موظف علي أذن زميله:

- سمعت سيادته يزعق لموظف الخامات.. لمعت عينا الثاني.. لكنه لن يستطيع مواصلة التحدي.. قلت لن أقبل أبدا وليحدث ما يحدث وسأشكو إلي من هم أكبر منه... كتبت عشر خطابات.. أنا موظف صغير.. أنا موظف صغير..

أزاح أحد الرجال نظارته التي أنزلقت فوق أنفه.. أصبعه متصلب..

- إنسان يصادع القوي العدمية.. قال الرجل الثاني في بطء وقور:

- الفشل البطولي أروع أنواع الهزيمة واليأس..

شد الثالث شعره. صرخ بصوت عال:

-هذا زمن الحق الضائع.

بالقرب من متجر صغير توقف رجل غليظة شفته السفلي. لمس بيده كتف غلام أبيض ممتلئ واسع العينين. همس بصوت مرتعش:

- لن يستغرق الأمر وقتا طويلا.. لن أرهقك فأنا حنون وسأعطيك عشرة قروش.. صمت الرجال الثلاثة وقالوا:

- لكن أروع شيء في الوجود.. أننا.. أننا..

فترت صمت. تابعوا كأنهم يقررون أمرا خطيرا:

- سنسمع الليلة أغنية أم كلثوم الجديدة.. سنسمع الليلة أغنية أم كلثوم الجديدة وننسي همومنا..

مضي يشق الشارع المزدحم. صرخ بائع الأفلام الكسيح. تلفت حوله حائرا. ناس تعبر الشارع. شبان يقفون عند النواصي يدخنون ويحملقون في الهواء بلا مبالاة. تبرق إعلانات السينما. بجوار الجدار رجل عجوز منحني الظهر يقف ساكنا يدخن بية سوداء. سعل. قال الموظف:

.. كل أسبوع تجئ عربة محملة من الأرياف. المعسل الأبيضض الصافي علاج يهدئ من حدة التأشيرات الحمراء. لحوم الخراف مفيدة للعينين وتجعلهما بميزان ما ينبغي رؤيته وما لا ينبغي. السجاد وأغصانه المتشابكة وزخارفه المعقدة يتوه فيها ضوء الشمعة. هزوا رؤوسهم. أسندوا جباههم إلي أكفهم. يجب أن نعيد النظر فيما قدمه إلينا هذا الموظف غالصغير ضئيل الشأن. فليحاول الموضوع إلي سيادته فالموظف يتابع له وهو عادل وسيجازي المهمل..

قال موظف شاب لفتاة لم يمض علي التحاقها بالعمل غير يومين:

- مسكين.. جرؤ علي تحدي سيادته فضاع.

قال آخر:

- سيحفر له حفرة لن يستطيع القيام منها.. سيادته قوي..

أشارت أصبعه مهددة:

- ستحول إلي النيابة العامة.. إهمال خطير.. خطاب هام تسببت في ضياعه.

- لكنك خذته مني..

- أين أمضائي.. توقيعي.. لا.. أمر لا يمكن السكوت عليه.

البواب لم يره. مسكين أضاع نفسه. قالت الفتاة لزميلها..

- من يتحدي سيادته.. أن دمه خفيف وكلامه كالشربات.

في العاشرة صباحا جاء السمين. غيره وغيره وغيره. إهمال.. فصل.. أنا مفصول.. يا سيدي أنا مفصول.. لم يسمعني الكبار ولن يسمعوني ما دامت العربات تفرغ حمولتها في بطونهم وتسد آذانهم.. ما العمل يا سيدي؟؟ ما العمل؟؟ في منزل قديم مصمصت امرأة ترتدي الحداد شفتيها حزنا وأسفا:

- يا خسارته.. كان رجلا ولا كل الرجال. تأوه رجل يجلس إلي منضدة وأبتلع كأسه الصفراء:

- يا حسرتي.. ليتني لم أضيع نفسي في زحمة أيامي.

هز العجوز رأسه. قبضت يده علي البية السوداء.

- يا خراب الدنيا.. أضعت نفسك ولكنني قلتها كلمة..

سأل الحائر:

- أي كلمة يا سيدي؟؟

لوح العجوز بيده. أطلق سحابة دخان كثيفة..

- سيخرب العالم وشيكا.

ظل العجوز يردد نفس الجملة، الليل يسحب نفسه ليكتم أنفاس ا لمدينة. رائحة حلوة في متجر قريب. نزل دورة مياه تحت الأرض. قال الغفير الجالس فوق كرسي أمام دورات المياه:

- مضي علي هنا عشرين عاما.. عشرون عاما أشم هذه الرائحة.

هز رأسه. طلع إلي العالم. فوق الباب وقف مجذوب مسلول يصيح في الناس:

- الجبن سيد الأخلاق.. أجبنوا تكسبوا.

الأنوار تزداد اشتعالا. الليل المصهور السواد. عند النواحي. أمام المتاجر. رجال ونساء يحملقون في السماء بعيون مفتوحة.

يرددون بانتظام بين لحظة وأخري:

- واق.. واق.. ت بارك الله الخلاق.. نظر إليهم بأسي. أحس بيد تهزه. التفت مذعورا. وجه يصيح فيه:

- غدا سنري مباراة بطل العالم.. غدا.. غدا.

في القاعة المظلمة للسينما القريبة همس الرجل لزميله:

- أنتظر.. إذا تكلم أكثر من المعدل القانوني سنقبض عليه.

في شارع جانبي راح يتأمل الفاترينات. مر من أمام المقهي الذي يجلس به سيادته دائما.. تردد لحظة.. قالوا له لو أنك سويت أمورك معه سينتهي كل شيء.. لكن.. لا.. لن أدخل.. مضي مطرقا برأسهم. في شارع جانبي أوقفه شاب طويل نحيف مستطيل الوجه.. أصغي إليه:

- أيرضيك أن يطاردوني لأن صوتي يزعجهم. ظل يسمع. لم يتكلم..

- ألا أستطيع أن أجد عندك مأوي أو مخبأ لي.. أنهم يقتفون آثار رائحتي في الهواء.. في الأرض.

الصمت بارد ثقيل. لكم أنت مسكين يا مستطيل الوجه. همس الشاب أخيرا.

- لأول مرة التقي بمن لا يسخر مني.. لقد فهمت.

رفع الموظف الصغير يده..

آصغي.

الميدان.. البيوت.. السماء.. النجوم.. ا لعربات.. اللافتات.. المدينة تردد:

- سنري الليلة مباراة كلاي وباترسون.. سنسمع الليلة أغنية أم كلثوم الجديدة.. سنذهب غدا لنري مباراة بطل العالم في كرة القدم.

في بطء ابتعدوا صامتين متوغلين في شارع جانبي لا صوت فيه ولا حس..

 

 

 spots

 

قصص البدايات -   23/10/1966

بعد أن ظل صامتا منذ بداية الاجتماع، وقف مدير المناحل العسلية فجأة، علا صوته الغليظ كالنفير.."أنا احترمكم كلكم، لكنني لا اعترف بما قيل، سأسرع إلي ناحيته، وأضمه وأقبله..".

نزلت دهشة، ساد صمت، تقلصت ملامح العضو البرلماني، عقد يديه حول رأسه، تمتم بأسي، لا فائدة.. لا فائدة، نظر سكرتير المجلس القروي ثم لثم رأس العضو.

صلي علي النبي يا حاج.. صلي علي النبي.. أنه لا يقصد.

زعق مدير المناحل العسلية... سأعانقه يعني سأعانقه.

أيقن مدير التوريدات الصحية أن ثمة حدثا غير عادي يبدأ، وأن المحافظ يجب أن يعلم به فورا، لو اطلع علي تفاصيله من مصدر آخر لا قدر الله، سيوبخه، ولن يثه بع بعد ذلك، سعل بخفة وخرج قاصدا التلفون.

في هذه اللحة، في مبني المحافظة البعيد ينظر سعادة المحافظ إلي مدير العلاقات العامة، يتساءل..

كيف يسهر الأطفال حتي هذه الساعة؟

يقول المدير: إن فرحة الأطفال بلقاء أب الجميع يهون إلي جانبها كل شيء، يجيئ الأطفال تتقدمهم أبلة عنايات، وبرغم القلق الذي لفها طوال ساعات الانتظار فإنها حرصت علي ابتسامة واسعة، إن وراءها وكوما كبيرا من الأطباق ينتظر الغسيل، والمياه في هذا الإقليم شحيحة ولا تتدفق إلا بعد التاسعة ليلا، يفكر المحافظ في ملامسة وجنات الصغار مداعبا، لكن مظهرها لا ينبئ بنظافة مكتملة أو صحة أو رواء، تطرق الفتيات، يحملق صبي إلي المقعد الخالي وعليه رهبة، هل سيتم توزيع حلوي؟ يتحرك المشرف الاجتماعي من موقعه في المؤخرة حتي يواجه سعادته، يرتدي بلوفرا صوفيا بني اللون، وقميصا أزرق، وبنطلونا منهكا.. يقول المحافظ.. "طبعا لن يحضروا هكذا..".

تدرك ما يعنيه، تقول.. لا بالطبع، تم التنبيه علي أولياء الأمور لشراء ملابس جديدة، قمصان بيضاء، وبنطلونات رمادية، وأربطة عنق خضراء.

"خضراء وعريضضة.. خضراء وماذا؟".

ترد أبلة عنايات:

"خضرة وعريضة يا أفندم".

يقول المشرف الاجتماعي:

"ذوق رائع يا سعادة المحافظ..".

يقول سعادته مستمرا في النظر إلي أبلة عنايات أن الزي الخاص بالاثنين اللذين سيقدمان الورد سيتم شراءه علي حساب المحافظة، يتوقف فجأة وكأنه تذكر أمرا...

"أذكركم بالأحذية، لا أريد حزاء بنيا وآخر أسود، الكل جلاسية بحيث تبرق في أرضية الـ spots، الخاصة بالأطفال، مدير شركة باتا سيحضر كميات كافية بناء علي تعليمات من أجود الأصناف وسيتم إجراء خصم يصل إلي ٥٪..".

يتقدم المشرف الاجتماعي، يعقد يديه أمام صدره، ينحني عنقه إلي الأمام، تهتز شفتاه مع رأسه إذ يتكلم وكأنه يجتر ألفاظا ثم يمضغها عليمهل، أن معالي المحافظ أب وأخ، وهو حريص بلا شك علي مظهر المشرفين الستة الذين سينظمون الوقوف، وسيشرفون علي ترديد النشيد لحظة بدء الزيارة، لهذا فإنه يتقدم إلي المربي الفاضل الذي لم يجئ إلي الإقليم قبله ولن يجئ بعده بطلب بسيط وهو أن تقدم المحافظة زيا موحدا يرتديه المشرفون كلهم، وليت معاليه يختار اليونيفورم بما عرف عنه من ذوق رفيع.. يغمض المحافظ عينا ويركز النظر من خلال الأخري بينما يلامس المكتب بسرعة بأصابعه، يلتفت إلي أبلة عنايات.. يسألها عن عدد المشرفين الذين سيقفون في مكان الاستقبال؟؟

"ستة يا سعادة المحافظ".

يزم شفتيه، يهز رأسه:

"لأ.. اثنان فقط.. كل منهما في spot مختلف..".

إذن ضاع الأمل في الحصول علي حلة مجانية تساعد علي مواجهة الشتاء والذي تشتد وطأته في ليالي الإقليم، "وماذا عن الورد؟".

ثمة دلال لا يخفي في صوت أبلة عنايات..

"أعدتت مفاجأة لسيادتك، كنت أود أن أخفيها، لكن سعادتك لا تترك كبيرة أو صغيرة، أمري إلي الله، جهزنا يا أفندم سلالا صغيرة من السعف الملون المبطن بالستان وسنضع داخلها الورد.."

"عظيم.. عظيم..".

يضغط زر الديكتاتفون يدرك اسم السيدة عنايات في كشوف المكافآت، تطرق خجلا وتواضعا، تتمتم "أنا لم أقم إلا بالواجب"، ينقل المشرف الاجتماعي النظر، كيف غابت عنه هذه الفكرة البسيطة؟

"لكن لا تملأي السلال بالورد نفسه".

تتسع عيناها، هشة مقدما لما سيقوله.

"ورق الورد.. ورق الورد.. وبكميات تغطي الـ spots، والفراغ الفاصل بين الـ spots المخصص للمستقبلين والـ spots المخصص للزوار".

يستمر المحافظ ناظرا باتجاهها، وحاجباه إلي أعلي، بينما الدهشة تتزايد عليجه أبلة عنايات.. يقول ا لمشرف الاجتماعي أنه تعلم أشياء في هذه الدقائق لم يكن يمكنه أن يتعلمها في سنوات، يزن جرس التليفون، يرفع معاليه السماعج.

"نعم.. أيوه.. أيوه.."

.. توقفت المناقشات الدائرة في مجلس القرية، تمدد العضو البرلماني فوق الأرض، أسنانه مصطكة، أصبعه ممتد باتجاه مدير المناحل العسلية، انتحي سكرتير المجلس به ركنا في الغرفة المعبقة بدخان السجائر، قال بصوت هامس إنه تم استعراض عدة طرق للسلام علي سيادته ويمكنه أن يختار ما يروقه وأن يساندها في الاجتماع، ليختار أن يصافحه بيد مفرودة الأصابع مع الضغط علي راحة اليد كما اقترح المشرف علي مطاحن البرسيم، أو بذراع نصف ممدودة مع فرد إبهام اليد اليمني كما اقترح مدير التوريدات، بالطبع لا يمكنه الموافقة علي المصافحة بأطراف الأصابع لأن في تلك الطريقة برودا تأباه طبيعتنا السمحة التي ترفض العنف والصراع الطبقي، لخيتارها شتاء، لكن مدير المناحل العسلية انتفض مبتعدا، كيف يمنعونه من التعبير عما يجيش في صدره تجاه سيادته الذي يزور الإقليم لأول مرة، لو أقاموا الحواجز فإنه سيخترقها.. وهنا أنقلب العضو البرلماني صارخا.

"سيخترقها.. سيخترقها".

... مكتب سعادة المحافظة يكسوه الصمت، أمر بصرف الأولاد ولم ينتق الاثنين اللذين سيقومان بتقديم الزهور، يريد أن يستوعب في هدوء، في أذنيه يطن ليل وبيل، أيه مصائب تخفيه ثنايا السواد؟ ماذا يضمره هذا الخبيث الذي لم يسمع به من قبل؟ في أي spots عقائدي يقف؟ هل زجه أحد المحافظين المنافسين لتشويه الاستقبال، كلهم يغارون منه لدرايته وخبرته في ترتيب الاستقبالات، خبرته في حشد الناس، إشرافه علي مواكب بعربات مكشوفة، وعربات مغلقة، رسمية، شعبية، تحريك المجاميع من spots إلي spots، وملء الـ spots الشاغر، والتركيز علي spots دون spots، وإيهام الضيف أن الشارع الخالي spots، من ال الزحام، أكرمه الله بالعديد من الرحلات إلي بلاد عديدة، رأي استقبالات النظم ذات الرأي الواحد، ورأي البلدان المتعددة الآراء، أقطار الاقتصاد الموجه، وجمهوريات الاقتصاد الحر، قطف من كل بستان زهرة، ومن كل بلد فكرة، وها هم يحاولون ذر الحصاد، وتشتيت ما جمع، لكن سيخيب فألهم ولن يقبضوا إلا الريح، ظنوه سيغرق عندما جاء محافظا لإقليم شحيح في تعداد سكانه، مترامي الصحراء، لكن خبرته عالجت هذا، صحيح أن جمع عشرة آلاف هنا وتوزيعهم علي spots يقتضي جهدا مضاعفا ثقيلا، لكن الله أكرمه وهداه إلي خير الوسائل، نبه المديرين إلي ترديد حقيقة الخواء السكاني أمام سيادته حتي لا يظن أن ثمة تقاعسا وقع، أو تكاسلا جري، أمر بتأخير صرف المعاشات للأرامل واليتامي وإعانات الضمان الاجتماعي إلا بعد ثبوت رؤية مستحقيها في الـ spots، وتعطيل المدارس وحشد تلاميذها في الـ spots.

وخروج ورديات العمال في مصنع طحن نوي البلح وصرف عشرين قرشا لكل منهم ورغيفا آخر اقترح المشرفون حشوه بالمربي، لكنه أمر بإضافة لحساب من القشرة، أي جهد:؟ توقع أن يرسل منافسوه عملاء لتشويه أقواس النصر، أو بث إشاعات تؤدي إلي سريان البليلة في الـ spots،، لابد من تأمين كل spots، وعدم التهاون في أصغر spots، ما لم يطرأ له علي بال أن يقوم أحد موظفيه بإفساد الترتيبات، لو اتصل تليفونيا الآن لينهره ربما ثم تسجيل المكالمة وذ هبوا بها إي أصحاب السؤدد ليبدو أمامهم وكأنه ينهي عن حرارة المقابلة. يمضي الليل مثقلا بالهموم، كيف يواجه ما حدث، أي إجراء تأديبي ضد مدير المناحل العسلية سيفسر الآن، ماذا يفعل؟ ماذا يخبئ له هذا السواد الغامق الحالك، أية أمور تدبر ضده الآن؟ أية "زمبة" وجهت إليه؟ "زمبة"؟

.. انطفأ الضوء الكهربائي في مجلس القرية النائية، أدركهم ميعاد توقف ماكينة الكهرباء والموقف لم يحسم بعد، ثمة قلق حقيقي شعر به رئيس المجلس، قبل أن يهدر مدير المناحل العسلية بصوته كان يدير الاجتماع بكل ما في الكلمة من معني، يقوم بين فترة وأخري ويعود متمهلا واضعا يديه خلف ظهره أو أمام صدره ليسأل "ها.. وصلتم إلي أية نقطة؟"، ثم يضم شفتيه، أو يقلب أوراقا، وهم يتحدثون، يتحدثون، كان واثقا من مكانه في الاستقبال، هو الذي سيتولي الشرح، أي أن الكلام سيخرج من فمه إلي أذني سيادته رأسا كما أنه أعد عبارات معينة سيقولها لسيادته عن نشاط المحافظ، وفضل توجيهاته، وصواب تعليمات، الزيارة عابرة أما المحافظ فباق، لكنه لا يدري كيف ستمضي الأمور إذا أصر المدير الأحمق علي تصرفه، سيبدو أن هناك من يضمر عواطف أكثر حرارة، وهو لا يستطيع بحكم موقعه الرسمي أن يسبق إلي العناق والتربيت، ماذا جري لمدير المناحل؟ لا يدري. أنه لا يسكر، ولا يدخن، ولم يجلس بالمقهي الصغير عند الطريق الرئيسي إلا ليكلم سائقي وركاب التاكسيات القلائل العابرين، عرف حديثه في القرية كلها الذي يوجهه إليهم، "من أي بلد أنت" و»إلي أية جهة ستذهب ومن أية جهة قادم«، في العصر يجول مطرقا، يلف اليوم كله مارا علي خلايا العسل، ويقولون إنه يعرف عدد النحل في القرية علي الرغم من صعوبة احصاء ذلك، كما أنه يهوي قزقزة اللب، ولأنه لا توجد مقالي في القرية فإنه وثق علاقته بعدد من سائي الأوتوبيس وليس التاكسي ــ ليشتروا له كيلو لب أسمر وارد السودان في بداية كل أسبوع، هو غريب عن القرية، برغم مضي سنوات علي إقامته في الوحدة المجمعة، لم يختلط بأحد، ولم يزر أسرة، ولم تحم حوله شكوك خاصة بالسلوك، منذ عامين أصاب النحل مرض راح يصرع ملكات الوادي، وكاد الرجل أن يجن، أرسل ع شرات الخطابات إلي مشرفي الزراعة والمهتمين بالثروة النحلية، وكتب إلي بريد القراء يشرح ما جري، واتهم في أحاديثه الخاصة بعض مربي النحل من الأقاليم المجاورة برمي جراثيم تفسد أحوال نحله وتنشر الوباء، لم يهدأ إلا بعد أن تمكن بمجهوداته ووصفاته أن يرفع ا لمرض ويبعده، وحتي تم ذلك لم يرسل إليه أي مسئول ردا علي شكاويه أو رسائله، ماذا جري لهذا الرجل إذن، ماذا جري؟

... يدخل الفراش حاملا "الكلوب"، للضوء أزيز، قال السكرتير بصوت هادئ معبق بالمسئولية إن أمورا كثيرة لم تناقش، أن سيادته لن يقضي في القاهرة أكثر من نصف ساعة، والكل يرجوا أن تكون نصف ساعة مشرفة في تاريخ القرية، هناك أمور مهمة يجب الإعداد الجيد لها، مدة الزيارة قصيرة، لكن من يدري.. ربما شعر سيادته بتعب مفاجئ، ربما اضطر إلي اغفاءة، تلك نقطة لم يناقشها أحد خلال المرات الخمس السابقة التي تحددت خلالها مواعيد الزيارة، لابد من تجديد المضيفة القديمة، وشراء دفتر زيارات جديد مجلد تجليدا فاخرا يفتتحه سيادته.. في هذه اللحظة دخل فراش المجلس وقال: إن ثمة مكالمة عاجلة للسكرتير.. أصغي إلي صوت مدير الأمن، طلب إعداد كشوف لاسماء العمال الذين سيتواجدون في مقر الاستقبال وكل شخص ستضطره الحاجة إلي القاء في الـ spots.. تساءل سكرتير المجلس مستفسرا، فزعق المدير.. الـ spots، spots يا عالم.. ألا تعرفون الإجليزية".

" يا أفندم كل الأشخاص هنا معروفون، وماضي كل منهم كالمرأة، أنا أعرف الأكل الذي أكله كل منهم اليوم..".

قاطعه المدير مستائلا، كيف يقحم نفسه في أمر لا يعد من اختصاصه، إنه يطلب جميع الأسماء متوبة من أص وخمس صور علي ورق مسطر "مجوز"، ثم بدأ صوته جافا، فظا، غليظ القلب عندما استفسر عن مدير التوريدات، ومدير المناحل العسلية.

" سأكتد تقريرا عن كل منهما في ورقتين مسطرتين مجوز يا أفندم..".

إزداد المدير حدة وهو يطلب التقريرين علي ورق أبيض وليس مسطرا، ثم سأل، هل مدير المناحل العسلية له ميول معينة؟ "لا يا أفندم..".

انتهت المكالمة، عاد إلي الاجتماع مطرقا، واضح أن المقصود هو مدير المناحل، ثمة أمر يجري، لا يدري ما هو، هل يحدث ما يمكن أن يلغي القرية من برنامج الزيارة، هكذا يضيع أمله في المطالبة بسيارة للتنقل بها علي الكفور والنجوع، تذكر الكلمة التي استخدمها المدير بدقة.

 

"يا جماعة.. لابد أن نعي النظر في الـ spots...«.

.. ينتهي المحافظ إلي قرار بإجراء عملي. في العصر أبلغه مدير العلاقات بمجئ غربيين أنيقين إلي الفندق الوحيد، لم يصرحا بمهوبتهما، لكن كافة الدلائل تشير إلي أنهما من رجال الأمن المخصوص، وهذا إجراء تم في المرات الخمس التي جددت خلالها الزيارة من قبل، إنهما يجيئان، ويتظاهران ييييتفقد الفندق، وإحصاء غرفه، والمواقع الحساسة المحيطة ده، ويدخلان المطبخ بحجة الإعجاب به، لكنهما يتفقدان إمكانياته، ويتعرفان إلي مذاق الطعام لابد أنهما يكتبان تقريرا عن مظاهر الترحيب، ينقلان الشعارات المكتوبة علي أقواس النصر، ويصفان ما يريانه. وجودهما فرصة يجب استغلالها، منذ قليل استدعي كل مديري الإدارات من منازلهم لجولة تفتيشية مفاجئة، سيقول لهم: إنه لا مجال للإرهاق لأن الزيارة فرصة لن تتكرر، لأول مرة يجيء إلي الإقليم مسئول علي هذه الدرجة ويتوجه إلي مناطق لم تعرف من مسئولي الحكومة إلا الخفراء.

.. في مجلس القرية تمالك العضو البرلماني وعيه، قال: إنه لن يتكلم إلا بعد خروج مدير المناحل العسلية، اقترب سكرتير المجلس ، قال: إنه في حاجة إلي حديث خاص معه، اصطحبه إلي المكتب المجاور، قال: إن الأمور تتطور ولابد من التنازل عن الرغبة إياها، خاصة وإنها بدأت تثير الشكوك حول مراميه، قاطعه مدير المناحل العسلية غاضبا، هل يعتبر هذا تهديدا خفيا، لو استمر الأمر هكذا فلن يعانقه فقط، إنما سيشكو إليه كل من حاول منعه، اضطربت إمعاء ا لسكرتير، ما كان يجب أن يبدي هذه التحذيرات لذلك الرجل الذي جن فجأة، أو هكذا بدا له، لم ينفعل عند أية مشاجرة، ولم ينزل إلي العاصمة منذ سنوات، لم يتهافت علي علاوة، أو منحة، ماذا جري له؟ أين خبأ هذا كله، عيناه مزورتان وشفتاه مرتجفتان، وبدأه ترتعشان، يقول إنه ما من قوة فوق ظهر الأرض ستثنيه، ماذا جري؟

.. يدخل المحافظ علي الفندق، يفاجئ موظفي الاستقبال، يصعد إلي الطابق الذي سيخصص لسيادته، يتفقد الستائر، يطالب بتركيب مقابض جديدة للأبواب، وضع دواسات من الفلين عند المداخل، لابد من تغيير الزهور في الأواني علي فترات متساوية، بتقدم المدير الصحي بصابونة معطرة بالليمون مستوردة من إحدي الدول المطلة علي حوض البحر الأبيض، يطلب إيجاد spots مركزي للصابون والكولونيا ومعاجين الحلاقة، وspots فرعية في جميع الحجرات والتنبيه مشددا بعدم استخدام أية صابونة من هذا النوع إلا مع مجئ سيادته، إنه واثق من إحضار الوفد المرافق لسيادته مناشف لكن يجب نزول لجنة علي وجه السرعة لشراء أحدث ما تفتق وجه السرعة لشراء أحدث ما تفتق عنه الذهن البشري في المجال المنشفي بالإضافة إلي المناشف الأخري التي تم شراؤها سابقا قبل تأجيل الزيارة في المرات المنقضي.

. يتقدم مدير العلاقات العامة، يقول: إنه عند مروره عصر اليوم في المنطقة الغربية لاحظ أن كمية الإعلام غير كافية، وهنا أصدر سيادة المحافظ قرارا بتكثيف الإعلام في جميع الـ spots.

يصل المدير السياحي، يؤكد سلامة جميع أقواس مديرية الصحة، يؤكد المدير سلامته، يسأل سعادته.

هل تم طلاء الحرف الباهت في قوس مصلحة الآثار؟؟

يهمس مدير العلاقات مشيرا إلي رجلين يهبطان السلم المؤدي إلي البهو، يعلو صوت المحافظ.

أريد الاطمئنان التام علي كل الـ spots.

يلتفت إلي مدير التعليم:

لا تعجبني أية فتاة أو ولد لتقديم الزهور.

يقول المدير التعليم إن الإقليم هنا فقير، والأولاد عندهم فقر دم.

"لا شأن لي، صحيح أن الإقليم شحيح في سكانه، لكن لابد من حل، اقترضوا طفلين من أية محافظة أخري..".

يبدو مدير التعليم مهموما، يتمني لو تمت الزيارة في هذه المرة حتي يمضي إلي زوجته وأولاده الذين لم يرهم منذ شهور، لو سافر إلي أية محافظة لانتقاء طفلين سيحاول اختلاس يوم ليمضي إليهم.

يطلب سعادته الاهتمام بالـ spots، الـ spots في أرضية الاستقبال الـ spots الخاصة بالصحفيين، الـ spots الخاصة بالمصورين، الـ spots الخاصة بالأطفال، يريد أن تضاهي كل spots الـ spots الأخري، كل spots تشد أزر الـ spots الأخري، تخصيص spots لجميع السيارات، وقوف الطلبات في spots بعيدا عن spots الطلبة، يرفض اقتراحا لمدير العلاقات العامة بكتابة اسم سيادته فوق الأرض بحيث يقف الطلبة فوقه فيشكلون الاسم بأجسادهم، لا.. لا يمكن كتابة الاسم في أي spots علي الأرض، أنه أكثر اطمئنانا الآن، لو دس منافسوه رجلا كمدير المناحل هذا في كل spots سيفسد تدبيرهم، يؤكد مدير الأمن أن إجراءات حازمة ستتخذ حتي لا يتجاوز أي إنسان طريقة المصافحة التي سيتم الاتفاق عليها غدا، ثم يقول للمحافظة إنه سيتم مراقبة مدير المناحل بشدة، لكن المحافظ يطلب تجهيز spots خاصة بمديري المناحل العسلية كلهم، وإحاطته بـ spots أكبر.. بحيث يكون الـ spots داخل الـ spots..".

 

 

أوصاف

 

 

ما بين الخامسة والخامسة والنصف يجيء عبده البلغجي، قديم التردد، يعرفه العاملون في الفندق، كذلك المطبعة المجاورة، والمطعم المواجه المتخصص في الطحال والفشة والكرشة والسمين المقلي، سنوات اعتاده القوم، إذا ظهر رحبوا به وأظهروا الود المتين فوالده من محاسيب الحسين، كان مشهودا له بالصلاح والدراية وإظهار الصفح الجميل، إضافة إلي سمعته القديمة، الطيبة في الخان كأشهر وأفضل من ينقش الجلد بالفضة والذهب، له في ذلك تفانين، وعنه أخذ عبده الصنعة، لكن الوالد تخصص في المحافظ الجلدية، أما عبده فوجد نفسه في نقش البلغ، بعضها نسائي، ومنها رجالي سادة لكن يمكن إضافة فصين زهراوي إلي الجلد، كلاهما، الأب والابن لم يمتلك ورشة، عملا بالأجر عند أكثر من معلم، مرة في الخان، ومرة في الغورية، ومرة في الوكر، كان للأب طلة وصمت محتمل، ودعاء رقيق عند صلاة الفجر بمسجد مولانا الحسين، ورث الابن عنه السكوت، وطول التحديق في اللاشيء، لكن انتهي هذا بعد زواجه، لم تطل غيبته في شهر العسل، يمكن القول إنه أمضي أسبوعا فقط، لم يسافر إلي الإسكندرية أو بورسعيد، إنما في الشقة الجديدة التي استأجرها جاره الشيخ مرسي القريبة من أم الغلام.

عند وصوله تهلل عبد المقصود أفندي الرجل البدين الجالس دائما إلي المكتب، إنه مدير الفندق النهاري، يستلم من السابعة إلي السابعة، أما الحاج عبده النوبي فهو المدير المالي، عندما لمح عبده البلغجي صاح مرحبا..

»أهلا بالعريس«.

غير أن عبده لم يرد التحية بأحسن منها، بدا مهموما.

»مالك..«

لوح بيده.

»الحال زفت«

ظن عبد المقصود أفندي والجلوس الذين اعتادوا شرب الشاي وتدخين النرجيلة في بهو الفندق أنه يواجه الصعوبات العادية التي يواجهها من لاخبرة لهم، مربوط يعني، حالات عديدة مرت علي عبد المقصود أفندي وتوسط لحلها، ربنا سهل فيها جميعا، سواء الربط الذي يحدث عند بدء الزواج لقلة الخبرة وتعاظم الهيبة، أو ذلك الذي يبدأ عند منتصف العمر أو بعد طول عشرة لأسباب عديدة، لكن ما قاله عبده البلغجي فاجأه، وفي البداية لم ينتبه الحضور إلي ما يقول، لكنهم عندما بدأوا استيعابهم بحلقوا دهشين، قبل أن يصيح خلف بك المستشار المتقاعد.

»احتشم يا بني«..

كأن عبده لم يصغ استمر متطلعا إلي نقطة تتجاوز عبد المقصود أفندي.

»هذا ما حدث«.

سكت لحظات، رفع أصبعه، ضم الوسطي حتي أصبح مستديرا.

»أضيق من خرم القرش الأبيض..«

أشار عبد المقصود أفندي إليه، اقترب منه، قعد إلي الكرسي الدائري يتطلع إلي أعلي لانخفاض موقعه، يجلس عبد المقصود أفندي أمام المكتب المرتفع عن الأرض بأرضية خشبية، خلفه لوحات المفاتيح وخزانة ضخمة فيها أمانات النزلاء، والمذياع القديم المثبت مؤشره إلي الإذاعة البريطانية ـ القسم العربي ـ والتي كان والد الحاج عبده النوبي يفضلها ولا يثق إلا بأخبارها منذ الحرب العالمية الثانية ومتابعة أخبار الحرب علي الجبهة الغربية، تقدم رومل ثم تقهقر، ثم حرب فلسطين، كان الجهاز مصدرا للأخبار في المنطقة قبل انتشار الأجهزة ثم ظهور التليفزيون.

»عيب أن تفضح نفسك وتفضح عروستك«..

تطلع إليه عبده شاكيا، موشكا علي البكاء، قال إن بخته مائل وأن الحلو لا يكتمل، البنت فائرة وحلوه ومدملجة، فرشة حلوه، وثيرة، مريحة، ورائحتها ياسلام علي رائحتها، سكرة، وريقها عسل، لكن هذا الجمال كله ليس فيه مكان ليضع نفسه فيه.

رغم أن الحديث كان يجري بينهما، ورغم أن صوت عبده البلغجي أصبح أقل خفوتا، بل يكاد يكون هامسا، لكن كل من يجلس في القاعة المفتوحة علي الخارج أصغي إلي أدق كلمة. بل إن صمتا متواطئا بدأ بينهم، حتي سعادة المستشار السابق الذي أبدي الضيق ونهره في البداية أمسك بعصاه واستند إليها، صحيح إنه لم يتطلع مباشرة إليه مثل حسن أفندي الموظف بوزارة التموين، وسعدي بالعيس المدرس الأعزب، المقيم في بيت قديم يرجع إلي العصر العثماني بمفرده والمطالب بإخلائه من مصلحة الآثار، وعبد الرحمن الأمهري، الطالب الحبشي المقيم برواق الجبرتية بالأزهر.

في البداية وجه كل منهم بصره ناحيته لكنهم اتفقوا جميعا علي الصمت، خاصة عندما أفاض عبده في وصف مفاتن امرأته لعبد المقصود أفندي، وتأكيده أنها لا تحتاج إلي مشد لصدرها وأن نهديها في صلابة الرمان، ولحلمتيها انتصاب لم يسمع به من قبل، قال إن جسمها يدفأ ويسري الدم تحت الجلد حتي يصبح لونه أحمر، وتصدر عنها شهقات كأن روحها ستطلع، كل هذا وهو حائر، خائف لا يدري ماذا يفعل، لخلوها تماما من المسالك.

كان الجميع يواجهون وضعا غريبا عليهم، ربما يعرفه البهو لأول مرة، فلم يحدث أن تحدث أحد الرواد عن امرأته بهذه الصراحة، وعلي مسمع من الجميع، حتي أن بعض النزلاء من أهل الأرياف الذين توقفوا لاستلام مفاتيح حجراتهم لم ينصرفوا عندما التقط بعضهم كلمة أو كلمتين.

مال عبد المقصود أفندي بقامته الضخمة ليقترب منه، صيفا وشتاء يرتدي معطفا فوق الجلباب، في الشتاء من الصوف، في الصيف من قماش خفيف، كتان أو جبردين، أما الطربوش فيستقر فوق رأسه، لم تتغير هيئته منذ أن رآه عبده لأول مرة، قال متسائلا عن الإمكانية فصاح عبده أن قدرته تمكنه من اختراق الحديد، والدليل أنها لا تكف عن تحذيره »أوعي تعورني«.

اتسعت عينا عبد المقصود أفندي وازداد تضاما واقترابا من عبده، ماذا جري للعريس؟ ماذا حدث له حتي يتخلي عن صمته ويفضح نفسه هكذا؟ إنه مواجه بحالة لم يسمع بمثلها من قبل، يكاد يري العروس أمامه، ماثلة، يبدو أنها فلتة، ربما لا يملأ هذا البلغجي عينيها، ليس غريبا عليه أن يشكو إليه الرجال أحوالهم، لكن كل ما مرّ عليه كان يجري سراً، كان يعرف أحوال من يقصده طلبا للعون من هيئة الملامح، من التردد، من الصمت الذي يسبق الإفضاء، إتمام سماع العبارة التي تتشابه رغم اختلاف الرجال عن »ارتخاء في الأعصاب«.. لصداقت الطويلة بعدد من العطارين في سوق الحمزاوي وتردد التجار السودانيين الذين يأتون بالكركديه والحنة واحليل التمساح وأنواعه من الأعشاب البرية شديدة المفعول، لكن ما يراه من عبده البلغجي جديد عليه، بل إنه لام نفسه عندما أغمض عينيه أثناء إصغائه لشعوره بدفء يغمره، ودبيب يسري عنده حتي أنه عدل من وضعه، نصحه أن يأخذها بالراحة، ألا يقع عليها مباشرة، عليه أن يداعبها، يلاطفها، كثيرات منهن لا تلين مداخلهن إلا بالكلمة الحلوة، باللمسة، عندئذ يدفقن ماءهن الذي يساعد ويسهل، قال عبده البلغجي إنه سيحاول وأمره علي الله.

في اليوم التالي لم يفت عبد المقصود أفندي أن الزبائن جاءوا مبكرين عن موعدهم، أول القادمين كان سعدي باعيسي، جاء في جلبابه الحريري الأبيض الشاهي، رغم أنه لم ير منه شيئاً، لم يعاين منه إلا الأدب الجم والصمت والمشاركة بقدر، لكن يقال كلام كثير حول بصبصته للنساء واجتذابهن نحوه بدون مجهود منه، لا أحد يعرف من يدخل ومن يخرج من البيت الأثري الذي يقيم به، حتي سيادة المستشار جاء مبكرا عن موعده عشر دقائق وعندما تجاوزت الساعة الخامسة والنصف لم ينشغل عبد المقصود أفندي بهم، إنما تمني ظهور عبده ليعرف أخباره، ويسمع نتيجة نصحه، في اليوم التالي جاء مبكراً، قال عبد المقصود أفندي بلسان الجميع إنهم انشغلوا عليه أمس، بدا شاحبا، زائغ العينين، لا يستقر بصره في اتجاه محدد، جاء السؤال من سعدي باعيسي، متمنيا أن تكون الأحوال أفضل.

مال عبده مسندا دماغه إلي راحتيه، مرددا أن حظه أسود من قرن الخروب، من يري امرأته يرشحها للسينما، طول وقوام و.... مهرة، مهرة والله! ضرب صدره براحة يده، وصف نفسه بأنه الخيّال المناسب، لكن.. الحظ مفقود.. الطريق مسدود.

رغم أن صوته خفيض تلبية لعبد المقصود أفندي، لكن كل زبائن البهو معه، يصغون إليه، سأله عبد المقصود عما إذا كان لاطفها أم لا طلبا لدر مائها الميسر للأمر كله، شوح بيده، قال إن ماءها أكثر غزارة مما تصور، وأنها تبذله حتي ليسيل واضحا، ظاهراً لكن الطريق مغلق، مغلق، لكم حاول، وعندما طلب منها أن تريحه بيدها، بأي طريقة ندبت حظها العاثر، وقالت إنها ستلجأ لأمها.

»ماذا ستفعل أمها؟«

تساءل سعدي باعيسي بصوت هامس، ناصح، عندما اقترب منهما فارق مكانه في البهو سحب مقعدا مستديرا بدون مسند، قعد إلي جواره، لمس ركبة عبده بيده، أكد أنه يعول همه وأنه حرصا علي أسرار البيوت يرغب في إبداء النصيحة، تجاهل نظرات عبدالمقصود أفندي المستريبة قال إنه طبقا لما وصل إليه من شكوي عبده فإن البنية لا عيب فيها إلا ما يذكره، فمن أوصافه لها هي كاملة.. مكتملة تطلع إليه عبده البلغجي مطلقا هذا التعبير المثير للتعاطف، والذي يجعله في وضع يشبه من يشرع في البكاء، أكد أنه لم يقصد وأنه حاول، لكن بخته وحش، عروس مثل السابحات الفاتنات ولكن.. أوما مما سعدي باعيسي مؤكدا أنه يفهم، يفهم، لكن لديه ما يود أن يسأل عنه، هل عرف نساء قبلها؟

استنكر عبده السؤال، استعاذ بالله، وقال إنه لم ير امرأة عارية أو بالتحديد شبه عارية إلا في السينما حافظ علي نفسه لكن حظه.

قال سعدي باعيسي إن مسألة الحظ هذه فيها نظر، كل مشكلة ولها حل، وما سمعه ليس جديدا عليه، مثل هذه المشاكل تقع لأن العروسين لا يعرف كل منهما الآخر قبل الزواج، طبعا الظروف هنا لا تسمح لتقاليدنا وأخلاقنا.

قاطعه عبده البلغجي.

»وديننا«..

أمن سعدي باعيسي مؤكدا »وديننا«، ثم أتبع ذلك بقوله »لاحياء في الدين..« قال إن عبد المقصود ليس غريبا، وهؤلاء الجالسين مثل أخوته، ويتمنون له حظا طيبا، والهناء كله مع عروسه الجميلة، قال إنه يقترح عليه أن يتوكل علي الله وأن يذهب الآن، وكما قال له عبد المقصود أفندي أول أمس فليأخذها باللين، بالرفق، يسايسها يعني، ما ذكره عن تدفق مائها يعني أنها أنثي صالحة للحدث، قال سعدي باعيسي مخفضا صوته إن الوصول إلي المراد له طرق مختلفة، كيف يأتيها؟

عندئذ انطلق عبده وكأنه كان ينتظر، قال إنه نبه عليها أن تنتظره في ملابس النوم، لماذا؟ لأنها أول يوم حاولت المداعبة، فوجئ عند عودته من الشغل بها تفتح له الباب، وعندما أغلقه كانت تقف خلفه عارية كما ولدتها أمها، لكنه لم يعجبه ذلك، شدد عليها أن تنتظره في ملابس النوم، اشتري من الموسكي »أطقم« مختلفة سراويل مختلف ألوانها ومشدات، وقمصان قصيرة يحبها، رآها في فيلم السباحات الفاتنات بطولة استر ويليامز، ياسلام.. لكم أثارته في رداء البحر.

ارتفع صوت عبده البلغجي نزل صمت علي الجميع، اتجهت إليه جميع الأبصار حتي سعادة المستشار لم يفت عبد المقصود أفندي أنه ابتلع ريقه مرتين، قال سعدي باعيسي إنه ينصح بالوضع الخلفي، أن يأتيها من الخلف، لا.. لا يقصد، ليس من حيث نهي الله، إنما في المسلك الطبيعي، قال إن الجسم في هذا الوضع يكون متهيئا، متفتحا أكثر، إنه الوضع الأصلي لكن الإنسان خالف كل الحيوانات وبدل وعدل، لكنه الأفضل لإمكانية الحمل، راح سعدي باعيسي يتحدث بالتفصيل عن أفضال هذا الوضع، وبدا عبده مستغرقا مستثارا، حتي أنه قام فجأة منصرفا ولم يسمع سعدي باعيسي عندما قال إنه إذا لم يوفق فيعرف صاحبا عزيزا عيادته ناحية العتبة الخضراء، متخصص في علاج مثل هذه الحالات.

جمال الغيطاني

الثانية عشر والثلث، صباح الثاني والعشرين من يوليو عام ألفين واثنين، المنزل. المعادي

 

 

نفس

 

"الرجل قعد في البيت"

كثيرا ما ترددت هذه الكلمات علي مسمع من أم محمد, لكنها لم تتخيل قط أنها ستنطق تعبيرا عنها, سواء منها أو من آخرين يخبرون عنها, لم تتصور أن يوما سيجيئ، أن شمسا ستطلع فلن يخرج الرجل من البيت, هو الذي قضي عمره منذ أن تزوجها وقبل أن يأتي بها من بلده يروح ويجيئ، يسعي ولا يكل, لم يوقفه ولم يبطل المرض الشديد أو سفر الخواجة شغله، يحقق الستر, وسعيه يوفر الرزق, صحيح في حدود لكن حياتهما طوال الوقت كانت مستورة, لم تضطر إلي الميل علي هذه الجارة أو تلك للاقتراض أو لتوفير حاجة, الإيجار لم يتأخر تسديده يوما واحدا بل كثيرا ما كان يسعي به إلي أم عطيات صاحبة البيت في حارة بيرجوان لتسديده قبل حلول الشهر, أو سفر العائلة إلي الصعيد، تسديد الايجار وفاتورة الكهرباء أهم ما يشغله ويحرص عليه. إذا جاءه رزق, إذا وسعها الله عليه لم يكن يأخذ شيئا لنفسه, لم يصرف مليما علي مزاجه، لم يكن له مزاج. السجائر لم يقربها, رفقة آل السوء تحاشاها, كل ما تعرض له من إغراءات أطلعها عليه أولا بأول حتي سعي بعضهن لاغرائه بمدخر أوصلى للزواج كان في السوق والناس تروح وتجيئ عليه من مختلف الأعمار والطبقات، أثرياء من الزمالك وتجار من وسط البلد والموسكي والخان, بل إن القصر الملكي في عابدين لجأ إليه عندما توقفت ساعة حائط قديمة قيمتها مرتفعة جداً بعد أن بحثوا وتحروا وداخوا السبع دوخات توصلوا إليه, ومن وقتها هو المختص بتصليح هذه الساعة التي لم يوجد من يفهم فيها أو يقدر علي استمرار عقاربها في الدوران إلا هو.

ماذا جري إذن؟

لا تدري..

ماذا حدث؟

لا يمكنها ذكر سبب واحد عن اقتناع, هي نفسها اضطرت إلي الاقتناع عندما يسألها الآخرون..

عن وصايته..

لكن أين كانت هذه العين طوال الخمسين سنة التي عاشتها معه علي الحلوة والمرة, لم يحد ولم يهن ولم تصدر عنه بادرة ولم يخطئ في حقها, لم يحرمها ولم يحرم العيال من شيء, إذا وسع الله عليه يرجع بما لم تتوقعه, البطيخ الشليان أو التفاح الأمريكاني الذي كان يندر دخوله الحارة وأبو فروة والقشدة الخضراء, أما اللحم فمن أحسن جزار في سوق الخضار في العتبة, كذلك الحمام والبط والأوز واللبن الطازج من جوار سيدنا الحسين, والحلويات من محلات الأجانب التي عرفها من الرجل الذي تعلم علي يديه وأحبه وعندما هاجر كتب له المحل باسمه وعلمه الأسرار التي لم يطلعه عليها لتفرده بها والخاصة بإصلاح الساعات التي بطل تصنيع مثلها, وكيفية تصليح قطع غيار الساعات السويسرية المعتبرة التي لا يمتلك مثلها إلا باشوات زمان, والاثرياء جداً القادرين والهواة المطلعون, كذلك ضبط ساعات العمد والشيوخ التي كانوا يضعونها في جيوب صغيرة دقيقة ويحرصون علي إظهار السلاسل الذهبية التي تمسك بها.

قعدت في الدكان تفرح وتشرح , دكان صغير, تكاد جدرانه أن تلمسه لو تحرك فيه, ضيق, مستطيل إلي الداخل ولم تذهب إليه كثيرا, لكنها صحبته في مناسبات نادرة, عندما كان مضطرا إلي استخراج شهادة من مكتب الصحة لابنهما أحمد قبل تجنيده, طلب منها أن تقعد في الدكان, لا تروح هنا ولا هنا, إذا جاءها زبون تخبره أن أبو أحمد سيرجع بعد ساعة, لكنها لم تكتف بذلك, بل كانت تسأل عن اسم العميل, وحاجته بالضبط. وعندما رجع ذكرت له قائمة بمن جاءوا وسألوا عنه, ولما طلبوه, ما أخبروا به, قال يومها ضاحكا.

"انت تنفعي.. الواحد مايخافش عليكي ولا علي العيال"..

قالت بسرعة:

"ربنا يخليك يا أبو أحمد ويطول عمرك"..

مجرد ورود الخاطر بإمكانية مرضه كان يبعث الرعب عندها.. ماذا يمكنها أن تفعل بدونه, لو تأخر عن موعد رجوعه تأخذها الظنون وتنال منها الهواجس، لم تعتد منه ذلك. طوال عمره كان منضبطا, تماما كالساعات السويسرية التي أتقن صنعها علي أيدي الخواجة توماس الذي اضطر إلي الهجرة من مصر بسرعة بعد الحرب, لكن الأصيل ابن الأصول كتب كل شيء لأبو أحمد, سلمه الدكان والعدة, المفكات والملاقط الصغيرة’ المصنوعة يدويا, والعدسات المكبرة التي تلتصق بالعين, فتبرز وتكشف أكثر من خمسين سنة والمارة تضبط عليه الساعة, عند خروجه اليومي وعند عودته, وعند ذهابه لصلاة الفجر في سيدنا الحسين القريب, لم تتصور أن يوما سيجيئ فيبرك إلي جوارها, وكيف يتوقف عن الدوران, لكن هو الذي أصلح أعقد الساعات وأندرها، حار فيه المشايخ والأطباء, وحارت فيه هي, التي تعرف أحواله من تردد أنفاسه أثناء نومه وعدد مرات تقلبه في الفراش, يمكنها تحديد بداية الحال منذ صباح ذلك اليوم الذي قعد فيه مدة أطول من تلك التي اعتائها قبل أن يغادر الفراش, وعندما أطلت من النافذة لتراه لاحظت بطء خطوته.

" كان ماشي بيحدف لورا...."

عندما رجع مبكرا قبل موعده, سألته عما إذا كان يشعر بألم, هل زادت عليه أوجاع الفتق, لكنه لم يواجهها كما اعتاد, لم يضع ملامحه كلها بظاهرها وباطنها في متناولها, لكنه أطرق, حاد عنها, لم تسمع إلا همهمة وأصواتاً لم تعتدها منه.. أمها كانت تقول دائما: "أنا ما أخافش إلا من الوجع اللي ما أعرفوش قبل كده.."

كل ما خشيته بدأ يظهر لها, بعد أن تقدم بها العمر, وظنت أنه حسن الختام, كثيرا ما خافت في السنين المولية أن يصاب أبو أحمد بمرض يقعده عن الحركة, لكن السنين لم تأت بمثل ذلك لإخراج ولا قلب ولا احتاج إلي طبيب حتي, لكن آخر ما تصورت أن يقع له، عاشت لتراه وتعانيه وتشهده, أن يقعد الرجل بدون سبب ظاهر, أن يتباطأ ويخاف الأكل وتقل ساعات نومه.. "أصعب شيء قعدة الراجل في البيت....."

لا تدري متي سمعت هذه الكلمات, ربما من امرأة الحاج نصيف التي اضطرت إلي نزول السوق بعد مرض زوجها, لكن الحاج نصيف كان مرضه واضحا, أقعده الشلل عن إدارة الفرن, فظهرت امرأته لتديره وتشخط في الرجال ويعلو صوتها ناهراً هذا وناصحا ذاك, وأصبح لها رهبة والكل يعمل لها حساب, أما ما لحق بأبو أحمد فلا تفسير له عندها غير, عين وصابته, عندما ألحت عليه وهدهدته وأخذته في حضنها كأنه ابنها.

"أحك لي, فضفض لي, أنا مش بس مراتك وأم ابنك, أنا صاحبتك.. حبيبتك وسندك كمان.."

عندما رفع عينيه إليها وقعت عندها رجفة, خضة, صعب علي المرأة أن تري زوجها مكسوراً, مهانا, كان في مواجهتها تائها, شارداً, قال لها: "مش لاقي نفسي..:.

بدا لها غامضا, غريبا, صعب أن تدركه. أن تستوعبه, "مالك ياخويا"..

كرر بحزن وكأنه علي وشك البكاء

"مش لاقي نفسي في الشغله دي.."

قالت باستنكار ودهشة وخوف, خشية أن يكون الرجل أصابه مس.

"بعد العمر ده كله يا أبو أحمد...."

وضحت نبرة البكاء في صوته..

"ياريتني كنت اشتغلت حاجة تانية.."

إحاطته بذراعيها. طبطبت عليه, لم تفارقه إلا بعد أن راح في النوم, لم تغير وضعها خشية أن توقظه, أصغت إلي أنفاسه الهادئة ربما يعود إلي طبيعته بعد أن فضفض لها وباح, لكن ما جري صباح اليوم التالي بدا غريبا, مفاجئاً, إذ اتخذت يده وضعا ثابتا, كأنها تجمدت عند وضع معين, كأنها نقصت مقدارا ما, اليد التي كانت تصلح أدق وأندر أنواع الساعات, التي لم تتوقف عن در الذهب من بين أناملها, التي جعلتهم يعيشون مستورين, لايحتاجون إلي أحد , هل تكتب لوحيدها أحمد الذي يعمل سائقا في الأردن؟ ماذا ستقول له؟ لن تسبب إلا اضطرابه, وستضطره إلي قطع عمله والمجيء في غير موعده.

لابد أنها عين أو إحداهن عملت له عملاً أدي به إلي هذا الحال الغريب, بعد أكثر من خمسين سنة يندم لعمله في إصلاح الساعات, يلعن اليوم الذي رأي فيه الخواجة الذي لم ينقطع عن إرسال البطاقات إليه في أعياد المسلمين والمناسبات التي عاشها في مصر, خاصة وفاء النيل وشم النسيم, كان يخاطبه أحيانا ثم يقول: "الله يسامحك يا خواجة توماس...."

تحاول تذكيره بأفضال الخواجة عليه, بإهدائه الدكان والعدة قبل سفره إليه.. لكنه يغمض عينيه, يلوح بيده اليسري التي ماتزال قادرة علي الحركة, يرجوها أن تكف, ألا تذكر له الساعات أو الدكان, يعجب من صمته طوال هذا العمر علي مهنة لم يرض عنها, ولم يجد نفسه فيها!

جمال الغيطاني

الساعة العاشرة, ليلة السبت/الأحد

الثالث عشر من يوليو عام ألفين واثنين

المنزل – المعادي

 

 

 

سوزي

 

 

لا أهدأ إلا إذا ركنت

أظل متقلقلا، هاذما حتي أهتدي وألف، عندئذ تتوطد العلاقة، وتبدأ الصلة، وتنشأ العادة، لم أعرف ذلك عني إلا بعد طول ترحال وكثرة تنقل، وتعدد مرات نزول لمدن قصية، بعضها أقمت فيه يوما أو بعض يوم، ومنها من طال عليّ فيه الأمد، لايعلق عندي إلا ما قصدت فيه موضع أتخذ منه موقعا أو مقاما.

عندما نزلت مدينة شلب الأندلسية القديمة وتعرف الآن بسيلفتي غرب البرتغال، أقمت بالفندق الذي آويت إليه من قل، منذ عام ونصف تقريبا، قبل سفري أودعت أهلي وزملائي أرقام هواتفه وعنوانه، بناء مفرد غالب عليه اللون الأحمر القاتم، يقع في مواجهة القلعة القديمة التي ضمت يوما قصر الشراجيب والذي عاش فيه المعتمد بن عباد، الملك الشاعر الشهير، وجال فيه صاحبه الوزير ابن عمار قبل أن يقع ما بينهما ما وقع، وهذا مما يطول الحديث فيه، اسمه فندق جبل المسلمين، وبقدر انفصاله عن المدينة بقدر انتفاء احتوائي لها رغم تعدد جولاتي بها، سواء إلي مبني البلدية الذي اقيمت في إحدي قاعاته جلسات المؤتمر الأول، أو مسرح القلعة والمطاعم التي اعتدنا ارتيادها في زيارتي تلك، بقيت صحافة قائمة، فاصلة، ولم تكن إقامتي له وتطلعي من شرفاته إلي شلب في مجملها علي سطح المرتفع، أو تطلعي إلي ما قبل الغروب وما بعده، تلك الألوان القانية، الشفيفة التي لم أعاين مثلها في المواضع الأخري التي عرفتها وتطلعت منها إلي نايات النهار، لم تكن أوقاتي به إلا كمثل قادم نصب قيمته وأقام خارج المدينة التي جاء إليها من بعيد، غير أنه لم يدخلها وبقي متقلقلا، متوجسا، يترقب.. أربعة زيام مضت، التزم برنامج الندوة واللقاءات، وفي أوقات الفراغ آخر مع الصحب إلي هنا أو هناك، ما تبقي ثلاثة أيام، أطير بعدها إلي العاصمة لشبونة من مدينة فارو التي تقع علي مسافة سبعين كيلو متر تقريبا، ثم أبدأ رحلة العودة إلي مصر.

في ذلك العصر توقفت في البهو المؤدي إلي غرفة المحاضرات، كنت أتحدث إلي مصري يقيم منذ ثلاثين عاما مسيحي جاء في بعثة، أحب برتغالية واستقر لايغير مصير الإنسان إلا امرأة، هكذا قلت له فابتسم وقال إنه كان يود لو يدعوني إلي بيته، غير أنني تحدثت بقصر الوقت وتمنيت ذلك في فرصة قادمة قلت ذلك وأنا في تمسك من أمري، فظروف مجيئي مرة أخري نادرة، كما أنني عانيت طول الرحلة ومرات تبديل الطائرة، وكلها أمور مقعدة، محبطة، هكذا بدا لي الأمر في حينه بعد لحيظات صمت، قلت.

»ألا يوجد مكان يقدم البيرة البلجيكي هنا«

بدا عليه دهشة، فلم يرحي سياق الحديث بما يمكن أن يؤدي إلي سؤالي. »ولماذا البلجيكي بالذات؟«

قلت إنني أفضل بعض أنواعها النادرة، غير المشهورة مثل الألمانية، لكنها قوية التأثير تصنع من مواد طبيعية في أديرة قديمة وكمياتها قليلة لذلك يندر وجودها إلا في أماكن متخصصة في تقديم البيرة، أو مطاعم بلجيكية، لم أقل له إن علاقتي بالشراب تبدأ بمجرد اقلاع الطائرة، وأنني أفضل النبيذ بأنواعه الأحمر والأبيض والوردي، والبيرة في مصر لم نعرف إلا نوعا واحدا شهيرا الماني الأصل، لكنني منذ سنوات نزلت مدينة بلجيكية صغيرة اسمها خنت جذت إليها من هولندا لرؤية معرض لفنان أحب أعماله وزطيل النظر إلي صورها المطبوعة في كتب عدة احتفظ بها، فولوز لوتريك، لم أمكث إلا سويعات معدودات، أمضيت منها نصف ساعة في مطعم صيني لأتناول غذائي، لفت نظري في قائمة المشروبات أنواع نادرة لم أسمع بها من قبل قوية تتجاوز نسبة الكحول في بعضها الجيد، طلبت أدها زجاجة صغيرة نحيلة ملصق أصفر عتيق يشير إلي صناعتها من مواد طبيعية وحفظها وتعبئتها في دير عتيق بقرية منحت اسمها لهذا النوع، عندما رشفته متمهلا أدركت إشرافي علي أفق لا يمكنني تحديده، فقت إلي طلب نوع آخر للتذوق والتجربة، لكنني خشيت تقليل اتزاني خاصة أنني غريب تماما، لا أعرف أي إنسان في تلك المدينة الصغيرة، لو جري لي شيء ما فالعون صوب، تنتابني هواجس التعب المفاجئ، أو وقوع طارئ ما، كأن تصطدم بي سيارة أو أتعرض لعدوان ما، يقوي عليّ ذلك عند عبوري المطارات التي أبدل فيها سيارات الرحيل، أو وجودي في أرض لا أعرف فيها شخصا بعينه، ما البال إذن وهذا الشراب المثقل بالعتاقة يسري بطيئاً، متشداً فيبطئ زمني، ويباعد ما بيني وبين الموجودات، هنا لابد من توضيح، فشربي للبيرة أو النبيذ مرتبط عندي بالترحال، وبمجرد عودتي إلي دياري أكف فكأني لم أعرف ذلك قط، ليس عن خشية أو التظاهر بعفة إنما لانتفاء الظرف الواتي.

منذ تجرعي أول سوة في خنت صرت استفسر كلما نزلت مدينة، أحيانا أوفق وأخري لا أهتدي، لا أدري، لماذا استفسرت، وهل خطر ببالي أي امكانية للعثور علي مطعم أو بار يقدم تلك الأنواع النادرة، خطر لي ذلك فنطقت أملا في العثور علي تلك الأنواع النادرة، الخاصة والتي تعد بالنسبة لي اكتشافا لما أجهل، لا أدري هل قصدت بسؤالي الوصول إلي مكان آلفه وأعتاده ويكون منطلقي إلي صلة وطيدة بالمدينة، تبدأ ولا تنتهي بمغادرتها، حتي وإن ترسخ يقيني باستحالة العودة. وانتفاء الرجعي.

في عصر اليوم التالي، قبل دخولي إلي القاعة الرئيسية، فوجئت بصاحبي المقيم يقول مبتسما.. »وجدت ما تريده«.

الحق إنني نسيت ما طلبته أمس، ليس لتمكن ذلك العارض المتصاعد عبر السنوات الأخيرة والمتمثل في غلبة المحو علي كثير مما يمر بي أو أحتفظ به في ذاكرتي، إنما لطرحي الأمر صدفة، وبدون ترتيب أو تعمد سبق.

»سوزي تقدم البيرة البلجيكي«.

قال إنه بار ومطعم للمأكولات الخفيفة ومقهي، جد قريب من هنا، بالضبط علي مسيرة خمس أو ست دقائق، علي نفس الطريق المؤدي إلي الفندق، والذي نعبره يوميا، اللافتة زرقاء، واضحة جداً.

قبل أن أتقدم للجلوس تحت إحدي المظلات الأنيقة المرتفعة فوق موائد مستديرة تحيطها مقاعد من خيزران عليها حثايا مستديرة وثيرة، غير سميكة، رحت أتطلع إلي المكان، كان ممكنا أن أرحل ولا أكتشفه، كيف لم أستدل عليه، رغم مروري به يوميا أكثر من مرة، الوصول إلي المدينة أو قاعة العرض لابد من عبور القنطرة المقامة فوق نهير صغير، علي الناحية الأخري الفندق، وجبل المسلمين كما يسمي حتي الآن.

المقهي صغير، ثلاث درجات تؤدي إلي الباب الضيق إلي الداخل حيث خمس أو ست موائد، يبدو أنه في الأصل حجرة تمت إلي شقة، تم تحويلها إلي مطعم أو بار أو مقهي، فضلت الوصف الأخير لأنه أشمل طبقا للمفهوم الأوروبي، في المقهي نجد الطعام والشراب الساخن من قهوة وشاي وخمور شتي، قرب المدخل سبورة سوداء، كتب عليها بلغات ثلاث، البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، طبق اليوم، وصفه وسعره، لم أهتم فلم أقصد المكان للأكل، إنما لشراب البيرة التي لاتحتاج لي إلا خلال أسفاري، فوق منضدة صغيرة رأيت زجاجة صغيرة، وكل زجاجة أنثوية المنظر والحضور عندي، تلك قصيرة، غليظة، قصيرة العنق، نوع لم أعرف من قبل، معروضة باعتبارها بيرة اليوم، هذا يعني تخفيض حوالي عشرة في المائة من سعرها المكتوب مرتين قبل وبعد، علي بروز يحف ويحدد نافذة وحيدة رحت زجاجات فارغة، تعرفت منها علي أربعة تذوقتها في زيارتي الوحيدة لخنت.. وأثناء إقامتي في باريس، التي آويت فيها بعد سنوات طوال إلي ركن عتيق في شارع راسين بالحي اللاتيني، مطعم فسيح من طابقين يقدم الغذاء والعشاء في المواعيد المعتادة، ويستمر مفتوحا عند العصر كصالون للشاي، ولتقديم تلك الأنواع التي تخفف نفس ارتكازي إلي داخلي، وتؤمن استخراقي وتسهم في شطحي، إنه مكاني الذي أوي إليه كلما جئت إلي باريس، لم أعرفه إلا بعد حوالي عقدين من الزمن، تماما كمقهي الفيشاوي في القاهرة القديمة، ومقهي باب الوزير المطل علي الطريق المؤدي من ميدان القلعة إلي باب المتولي، ومقهي سافوي في المنيا ومقهي فاروق في الإسكندرية، عندما أوي إلي ركن وتير اختار موضعا فيه، في الفيشاوي علي سبيل المثال أقصد المقعد المواجه لمخرج المقهي ناحية أزقة خان الخليلي، حيث ركن اعداد المشاريب والنراجيل، أخشي دائما أن أجده شاغرا، أسكن عندما أجده خاويا، والجأ مضطرا إلي مكان قريب موصيا النادل أني خبرني بمجرد مغادرة من يشغله، لم أعد بحاجة مع الوقت إلي مثل ذلك، إذ اصبحوا يعرفون عاداتي وما أفضله ليس في الفيشاوي فقط، إنما في مقهي فاروق، وفي ذلك المطعم العتيق بشارع راسين.

المكان الأخص عندي فيه ذلك المواجه للبار العريض والحافل بأنواع من شتي الجهات، أما البيرة المختصة فتتوسط العرض لأن المطعم يقدم المأكولات البلجيكية التي لم اعتدها ولم أتذوقها، لاقيمة للموضع بدون البشر، لذلك يساعدني قدومي مرارا وابدائي الود تجاه هذا أو ذاك علي توطيد الصلة، كان العاملون في مطعم راسين البلجيكي يقبلون عليّ لحظة ظهوري، يبدون الود، وبعضهم يقبلني مقتديا بعاداتنا، أما جمال الجزائري الأصل فكان يخبرني بمواعيد عمله حتي أتواجد فيبدي لي خصوصية الخدمة، ويتوقف إلي جواري في ذهابه ومجيئه لينطق بعض الألفاظ بالعربية وأصححها له، كان أصله من القبائل، ينبغي ودا وبشرا، وما أدهشني أن تهلله عند قدومي مشابه تماما لما يبديه عبده أقدم العاملين في مقهي الفيشاوي والذي تجاوز السبعين، ومازال يأمل في تأجير بوفيه بإحدي المصالح الحكومية يقدم فيه الشاي والقهوة، منذ ربع قرن يحاول، لكن الموضع أصعب مما يتصور، ليس لديه المبلغ الذي لابد من دفعه لتسهيل اختياره بين المتقدمين تذكرت ابتسامته عندما اخترت مقعدا قريبا من الجدار، يمكنني من خلاله رؤية الجالسين والطريق والفندق والقنطرة والوان الغروب.

توقفت أمامي السيدة النحيلة شاحبة، وجهها أقرب إلي الاستطالة، ابتسمت مشيرا إلي بيرة اليوم فلأجربها أولا ثم اتبعها بأول نوع تعرفت إليه في خنت، ثم اختار الثالث من تلك الزجاجات المرصوصة، كتبت في دفتر صغير ما طلبت، عادت بالزجاجة القصيرة، الغليظة ، بحركة مدربة أمالت الكأس الذي كان يحمل اسم البيرة، كلمة معناها قريب من القلعة، كانت بيرة سوداء، بطعمها مش من حلو، لم تستطع أن تحل مكان النوع الأول الأسفر والذي كان اسمه يعني »الثلاثي« تقريبا، أما البيرة المسماة بالشيطان فلم تكن إلا اسما علي مسمي.

يكفي ذلك يتمهل حضوري، ويعمق نفاذي إلي لحيظات ما قبل الغروب، قررت أن أعود بعد تناول العشاء الذي تحدد مكانه في مطعم قريب من القلعة، لا أعرف الطريق إليه ستصحبنا مديرة المركز سننطلق من الفندق، قلت للسيدة النحيلة.

»المكان لطيف«.

»شكرا«..

أوقات محببا، في العاشرة والنصف عدت مع صاحب حميم، تختلف القعدة من وقت إلي الآخر فما يكون عليه المكان في الظهيرة، يصبح مغايرا عند العصر، كذلك ليلا الرصيف خال، لا أثر للمظلت والمقاعد لكن الباب مفتوح، صعدت الدرج رأيت السيدة تجلس إلي جوار رجل يرتدي بنطلونا قصيرا، يشاهدان التليفزيون جلسة عائلية، أوقات محييا أشار الرجل بيديه ما يعني أن المكان مغلق العمل انتهي.. طلبت شراد زجاجة بيرة، هز رأسه غير مكن، تطلعت إلي الرصيف إلي الزجاجات الفارغة المرصوصة فوق الأفريز الحجري البارز، عدت إلي الفندق سيرا علي قدمي، عبرت القنطرة الواصلة بين ضفتي النهر الصغير، قاعة الاستقبال فارغة لا أحد لم يعد للبيرة الخفيفة ذهبية اللون الشائعة، قبول عندي، أقبلت عليها قبل أن أكتشف سوزي، لو أن المكان مفتوح، متاح، لأمضيت السهرة هناك، الطقس كان والقعدة مواجهة للجبل، والنفر قليل، والشراب نادر، المدينة هادئة محدودة أبرز ما فيها القلعة بأسوارها الحمراء، وخزانات المياه العتيقة، انظر إلي ما يحيط به بصري بعيون الأسلاف العرب الذين أقاموا وسيتروا الأمور، ورحل معظمهم وذاب من بقي لم يتبق منهم إلا علمات في العمارة آخر ما يبقي من الإنسان عادات وكلمات استمرت في اللغة تحتاج إلي متخصصين للاستدلال عليها واستيعابها، أويت إلي غرفتي مبكرا، أمضيت وقتا في تقليب محطات التليفزيون ثم بدأت أقترابي العسر من النوم، في الصباح خرجت من الفندق في الحادية عشر كان رفاق الرحلة والأصدقاء من البرتغاليين عرفوا باكتشافي لسوزي، صار الأمر موضوعا للمداعبة ولم أفصح لهم عن خيبة مقصدي ليلة أمس، عبرت القنطرة والشمس قوية لاشعتها حدة تستدعي عندي شمس الجنوب في الصعيد الذي ولدت به.

وقفت محبطا للمرة الثانية أمام المحل المغلق، والرصيف الخالي من المقاعد والمظلات، لابد أن الوقت مازال مبكرا، لكن جميع المحال المجاورة مفتوحة، المعرض الذي يبيع الهدايا التذكارية، والمطاعم، والمقاهي، أمضيت حوالي ساعة في التوال عبر الأزقة الضيقة والشوارع المبلطة بالحجر بسرعة أعود إلي النقطة التي بدأت منها، لابد أن كل شيء معد الآن لاستقبال الزبائن، الغذاء يبدأ هنا مبكرا في الثانية عشر، وسوزي يقدم وجبات خفيفة.

توقفت مازال المكان مغلقا، تطلعت إلي الباب من خلال النافذة لمحت تكدس المظلات والمقاعد، ما أشاهده لا ينبئ بقرب وشيك لمحت سبورة صغيرة، حتي أبرر وقفتي اقتربت لأقرأ ما كتب عليها.

»الإجازة يومي الخميس وبعد ظهر السبت والأحد«.

الخميس! بعد ظهر السبت: الأحد كله.

لم أعرف مكانا مثل سوزي، لماذا الخميس؟ وكيف مساء السبت؟ ليلة العطلة الأسبوعية، كذلك الأحد، معظم المطاعم والبارات مفتوحة يوم العطلة وبعضها يغلق الاثنين، هذا وضع فريد، ربما يرتبط الأمر بظروف الرجل والمرأة النحيلة التي قدمت لي البيرة القوية وأمالت الكوب وعلي مهل جميل راحت تصب الزجاجة بحيث تكونت رغوة قليلة جداً، بعد أن أبديت اعجابي وارتياحي، اقدمت علي الاستفسار الذي يسهل اتصال الحديث، والذي نبدأ به عادة في مصر الوار مع من نجلهم..

»انت من سيلفش«..

ضحكت منغمة اجابتها

»لا.. أنا ايرلندي وزوجي بولندي..«

بقدر ما بدت غير مشجعة لاستمرار الحديث، أو قبول امعاني في الاستفسار. لم أعرف اسمها، ولا اسم الرجل الذي لم أره إلا في الليل عندما رفض بيع زجاجات البيرة وكان يرتدي بنطلونا قصيرا ويحدثني أثناءتطلعه إلي التليفزيون، كل ما عرفته هنا اطلقت عليه سوزي، المرأة، المظلة، المقعد، أنواع البيرة من شقراء إلي سوداء إلي بنية قاتمة، إلي اربع شابات إحداهن ذات قوام مذهل، راقني التطلع إليه أذكرها باسم سوزي، كل من رأيته هنا سوزي، عدت في الظهيرة الحارة كمداً سابداً رحلة العودة غدا في الحادية عشر إلي مطار مدينة فارو، ومن هناك بالطيران الداخلي إلي لشبونة، ثم إلي القاهرة الوقت المتاح قصير جداً، وليس من المعقول أن أبدأ سفري بشرب بيرة قوية، ثم إن الشرب ليس هدفا في حد ذاته، إنه الجلوس والتأمل وقضاء الوقت في الامعان داخل الوقت المنقضي مني، في المساء أبدي مدير المعهد المصري في مدريد اقتراحا، قال إنه سيصحب صديقا عزيزا بالسيارة إلي لشبونة، لماذا لا أسافر معهم فاختصر مرحلة الطيران الداخلي، في الوقت متسع، موعد اقلاع الطائرة المصرية السادسة بعد الظهر، الطريق جيد وممتع، بعد ثلاث ساعات اتجه إلي المطار مباشرة لأقلع، الوقت أقصر من السفر إلي فارو وانتظار الطائرة وهناك احتمالات التأخير.

متي نتحرك؟

في التاسعة

بدا الاقتراح معقولا، كما سيتاح لي رؤية البلاد من الجنوب إلي العاصمة في الشمال من الطائرة تتساوي المدن والقرب ولا نتحقق من شيء، في التاسعة والربع تحركنا من أمام الفندق، توقفت لحيظات اتأمل المكان الذي امضيت فيه خمس ليالي، ولم أكن واثقا من عودتي إليه مرة أخري، بل إنني كنت علي يقين من أنني لن أبلغ تلك الديار مرة أخري، ليس لقلة الفرص المتاحة، إنما لبعد الشقة، المراحل مع التقدم في العمر والوهن الساري.

عندما عبرنا القنطرة اتجهت السيارة يمينا لأول مرة أسلك هذا الطريق الذي سيمضي عبر عدة قري قبل أن نبدأ السريع، الممهد، المتجه مباشرة إلي لشبونة التفت لأودع بالنظر.

»سوزي فاتحة..«

المظلات فوق الرصيف.. المقاعد.. الباب مفتوحا.. لمحت رجلا وامرأة.. الرجل يرتدي قبعة ونظارة، والمرأة قميصا ذوحمالات.. عارية الذراعين. قال صاحبي.

»تأخرنا قليلا، والطريق...«

قلت مرددا.

»أعرف.. أعرف«.

جمال الغيطاني

المنزل ـ المعادي ـ الأحد /الاثنين

الرابع عشر من أكتوبر عام واحد وألفين

 

أضيفت في 02/05/2007/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية