رحلة امرأة مع الغروب
إجازة أخرى وسفر جديد إلى الطبيعة .. إلى إحدى بقاع الكون
المنسية أحط الرحال.. في جزيرة شرق أوسطية لا زالت حضارتها تحتضن دفء الإنسان
.. جغرافيتها، هضاب مرصودة بالشمس وسهول محمية بأسوار من الموج .أجلس على القمة
في صباح اليوم التالي من وصولي .. في زاوية شرفة محاطة بإطار منخفض من أحجار
برتقالية موشومة بلون أطلسي .. تطل على صخور موشحة بخضرة داكنة تفصلها عن المدى
مساحات من المياه الزبرجدية .. من دون اكتفاء أعب من الهواء العليل.. صمت منغم
بتغريد الطيور .. ..تصلني بدايات أشعة إشراقة الشمس .. أرى نفسي تتلاشى توشك
على الانفلات من الجسد تكاد تحلق في تلك الأجواء.. غير أنني في اللحظة الأخيرة
أتمكن من العودة .. علي أن أنجز مهمتي أولا قبل أن أنقاد للنداء
باختصار علي مواجهة كينونتي كـامرأة تطرق بوجل بوابة الأربعين
وبيدها حقيبة حياتها. علي الآن في هذه المحطة أن أعد حقيبتي وأرتب احتياجاتي
لرحلتي القادمة.
أنهض على مضض .. فالعين والقلب لم يرتويا بعد. أدخل غرفة الزمن
أفاجأ بالمرآة قبالتي .. أحاول الهرب .. ولكن إلى متى ؟ ها أنا أتوقف أمامها
(ابتسم) كم كان القمر سخيا لم يبخل علي بخيوطه الفضية طوال السنوات الماضية.
غير أن شيئا آخر يشد اهتمامي ذلك الكرسي الخشبي المجدول بالقش المعكوس في
المرآة كيف لم ألحظه من قبل. أذهب إليه أتأمله .. كان يشاركني جلستي دون أن
أشعر بوجوده - ولم لا هناك أمور كثيرة في الحياة لا ندرك قيمتها إلا حين
نفقدها- لا أدري لم أسرني حضوره، أشعر وأنا أمعن النظر فيه بغربة مفاجئة ..
وكأن ذلك الكرسي بات في هنيهة وطني وتراثي. غير أني أغادره بإصرار.
أحمل حقيبتي الثقيلة وأضعها على طاولة الحاضر، أفتحها بهدوء
وحذر. أجد الأشياء مختلطة في فوضى تدهشني .. الأمر ليس بالسهل وبحاجة إلى
تركيز. مساحة الطاولة لا تكفي، من دون تردد أقلب محتويات الحقيبة على سرير
وجودي. أجلس أمامها بعد أن أحضر الكرسي الخشبي من الشرفة. ها أنا أتأمل
محتوياتها ولكن برهبة.
ترى من أين أبدأ .. ولمن الأولوية .. ما الذي علي أخذه معي؟ وما
الذي علي تركه جانبا .. أحاول تصنيفها.. جميعها تبدو لي للوهلة الأولى مهمة ..
أساسية لكينونتي .. أحاول أن أكون أكثر حزما مع نفسي .. ربما علي تصنيفها تبعا
لمدى انتمائي لها .. أتردد.. يجب أن أركن عاطفتي جانبا. وأخيرا بعد تأمل وتفكير
أهتدي إلى الوسيلة التي تريح أعماقي وتسهل مهمتي .. سأبدا بما يصادفني أو
تلامسه يدي أو ذاكرتي.
أشعر ببعض الضيق بل بالخوف .. ربما علي أن أعد فنجانا من القهوة
أولا .. أنقاد لرغبتي.. أعود بالفنجان وأجلس مستعدة للمواجهة.
الفصل الأول
ألامس في البداية أمومتي التي أجد بأنها تحتل المساحة الأكبر من
الحقيبة. أتمعن فيها .. أتأملها .. عشرون عاما وهي تلازمني .. أشعر بعجز حيالها
.. التخلي عنها غير وارد سيما وقد شغلت جزءا رئيسا من كياني .. ربما لكوني
اعتدتها أو أدمنتها .. لا خيار أمامي .. يتوقف تفكيري للحظات .
أتساءل ترى من منا التي اختارت أنا أم هي .. لا أنا لم أتطلبها
.. إنما أتت إلي هكذا .. لا أدري كيف .. بعفوية أو بالأصح بحكم مسار الطبيعة ..
لم أكن في مرحلة وعي كافية لاتخاذ قرار كهذا.
سؤال آخر يطرح نفسه علي .. ما الذي تعنيه لي الأمومة !! ما
الذي أضافته إلى حياتي .. هل كانت سمادا أخصب تربة وجودي أم أنها مجرد نباتا
طفيليا امتص شبابي وحريتي .. لا أدري .. ربما هذه الأسئلة سابقة لأوانها واحتاج
إلى عشرين عاما أخرى كي أتمكن من الإجابة عليها.
غير أن ذلك لا يكفي فأنا لست في نزهة فكرية .. أحاصر ذهني ..
أغلق عليه منافذ التشتت.. يبدأ بالتركيز.. "يفلتر" من العقل ما يحتاجه دون
مهادنة .. ينتقل إلى الاختزال .. ها أنا أرى الأمومة أمامي كصورة فوتوغرافية
أخذت باللون الأبيض والأسود وتدرجات الرمادي.
المساحات البيضاء تعيدني إلى ذلك الشعور العذب الذي عشته مع كل
ولادة، ومع اللحظات التي كنت إما أضم فيها وليدي إلى صدري أو أرضعه من حليبي
وأنا غارقة في تأمل وجهه الملائكي. لازالت عيناي تدمعان حينما أستعيد تلك
اللحظات ولازال قلبي ينبض بذلك الحب والحنين إلى المرحلة الأولى من الأمومة ..
تجتاحني مساحات من الفرح النقي..
أنتقل إلى الرماديات حيث تتشابك الأمومة بالهموم والمسؤوليات في
مراحل متتابعة حتى أضحت أشبه بشباك العنكبوت. تلك الأمومة التي ما إن يهادنها
الزمن لوقت قصير حتى يكيل لها صفعة جديدة أكثر قساوة من التي سبقتها. وتتوالى
الصدمات بتسارع مطرد مما يجعل الأمومة في حالة اختبار دائمة دون فسحة لالتقاط
الأنفاس.. ذلك الصراع بين الأمومة والواقع .. والذي يبلغ أوجه حينما يدخل
الأبناء مرحلة الاستقلال النفسي .. حينما تصدم الأم باختلاف أبنائها وانتمائهم
لعوالم أخرى بعيدة كل البعد عنها .. مواقف تصيبها حينا بالذهول وحينا آخر
بالغضب وأحيانا كثيرة بالإحباط ويلازمها لزمن يطول أو يقصر شعور بالفشل .. جميع
تلك المشاعر تحمل في طياتها الخوف .. غير أن الحب الحقيقي والأمومة المجردة من
أي أحاسيس طفيلية كحب التملك والأنانية تجعل الأم تتقبل أبناءها كما هم مما
يولد لديها مشاعر جديدة من الغفران والصبر والتي تجلو روحها وتسمو بها إلى حب
غير مشروط .. محبة الأبناء غير محكومة بفشلهم أو نجاحهم برضوخهم لها أو تمردهم
ربما تلجم حبها إن رفضوه غير أنها أبدا لا تضن به متى احتاجوه .. باتت الأمومة
في نظري كالنبع الذي يبدأ بفقدان السيطرة على الزمن ومن ثم يجري في جداول
متشعبة من الجهد الفكري والمادي والبدني ليصب ماتبقى منه في النهاية في يم لا
قرار له من الأعباء .. تلك المعاناة التي تحملها الأمومة وحدها برضا ومحبة.
أتنهد بألم .. ها أنا أصل إلى المساحات السوداء التي بدأت
أعيشها وأدركها بوضوح شديد منذ بدأت ملامح الأبناء تفقد براءة الطفولة.. حينها
فقط أدركت المعنى الحقيقي للأمومة .. تلك المسؤولية التي جعلتني أعيد حساباتي
مع نفسي لأدرك أن الأمومة لا تعني أبدا فقط إرضاع الأم لطفلها وحضنه وهدهدته
ومداعبته والسهر على مرضه أو متابعة دراسته .. بل هي بعد أعمق بكثير .. هي
مسؤولية كاملة متكاملة اتجاه تكوين البناء الداخلي للأبناء وحمايتهم من ذلك
العالم الخارجي الذي لا يرحم ..
الأمومة قوة فطرية مخزونة تتولد داخل المرأة لتتفجر في داخلها
كبركان يحرق لهيبه أي خطر كان - وان كانت أمومتها - يمكن أن يهدد سلامة عالم
أبنائها الذي تسعى دون وعي منها ليكون مثاليا على الدوام .. عالما تريدهم أن
يعيشوا فيه رغم وعيها بعدم وجوده .. ذعر..هواجس .. أرق... كم تخيفني تلك
المساحات الداكنة التي تلتهم بشراهة مفزعة براءة ونقاء العالم ..أورام قلق
تنتشر في قلبي وعقلي .. قيود تكبل ذاتي .. خوف يئد طموحاتي .. إنها الوجه الآخر
للأمومة والذي يجعلني على الدوام في حالة تحد دائمة معه لإبقاء ذاتي حية ولو في
الحدود الدنيا.
عند هذا الحد أقف .. هذا يكفي .. القرار واضح لن أجرؤ على
الإنجاب من جديد مادام السواد يجتاح المساحات وما علي الآن إلا أن أقنع بما لدي
وأخذه معي عن طيب خاطر.
الفصل الثاني
حينما حملت الأمومة لأضعها في الحقيبة تبين لي بأنها كانت راقدة
بكامل ثقلها على الجسد الذي بات في حالة يرثى لها.. أنظر إليه بذهول .. لا أكاد
أصدق بأنه جسدي .. أتمعن فيه .. يا للمسكين .. كما كان فيما مضى فتيا ناعما
متماسكا .. أين هو مما كان عليه حاله !! غير أنني أتنهد بارتياح، فلو كان للجسد
عينان يبصر بهما وعقل مثلي .. لأصيب بانهيار عصبي لمجرد رؤية نفسه بالمرآة ..
وفي هذه الحال سيحقد علي وربما سيحاول الانتقام مني.
ترى لم أهملت رعايته ولم أعتن به كما يجب .. كيف أبرر تلك
الشحوم والترهلات التي لم تكن تمت له بصلة. نعم علي أن أعترف بأنني تجاهلت
وجوده لزمن طويل .. ولكن ليس بدافع الكسل أو عشق الطعام.
لست أنا المسؤولة الوحيدة عما أصابه .. بل هناك متهمون آخرون
يشاركونني المسؤولية.
الأمومة .. هي المسؤولة الأولى عما حدث . لقد بذلت جهدي على
الدوام في ممارسة الرياضة لاعادته إلى سابق عهده.
العمل .. متهم آخر. ماذا عن الساعات الطويلة التي أقضيها يوميا
بين أربعة جدران، هل كان لي أي خيار في تركه.
الأزمات .. التي كانت في كثير من الأحيان أشبه بالصدمات
الكهربائية والتي كانت تصيبني بحالة من الجمود والعجز لزمن طويل، مما كان
يدفعني إلى نوبات من الشراهة والنهم أحاول من خلالها تهدئة انفعالاتي التي كانت
تفوق مقدرتي على استيعابها في حينها.
آخذ رشفة من القهوة ثم أخرى ثم أخرى..
بإيجاز أنا الوحيدة التي تقف في قفص الاتهام وعلي أن أواجه
المسؤولية بمفردي. نعم لابد أن أصطحبه معي.. لا يمكنني التخلي عنه بعد أن خبا
تألقه. أضعه بعناية وتأن إلى جانب الأمومة بعد أن آخذ عهدا على نفسي بتكريس
المزيد من الجهد والوقت له أسوة ببقية التزاماتي.
الفصل الثالث
مازال الكثير أمامي .. أمسك بصندوق خشبي صغير وقديم .. أحاول
فتحه .. أتذكر بأنني قد أقفلته منذ عهد بعيد .. أين المفتاح ..أنبش في طيات
الذاكرة .. أعثر عليه أخيرا .. ترتعش يدي وأنا أحاول ولوج الماضي .. أتردد ..
ما الذي سيحدث لو أنني تخلصت من الصندوق .. سأرميه في البحر .. انه أمر خاص بي
أولا وأخير .. ولي وحدي الحق في التصرف فيه .. كما أن وجوده معي -حتى لو أخفيته
عن ناظري- سيذكرني دوما بما مضى.
أخرج إلى الشرفة .. أتنسم الهواء .. البحر غير بعيد عني هل أذهب
.. حيرة تتملكني .. أنصت لأعماقي تحادثني بغضب "ألم تعلمك التجارب بعد بأنه لا
أمل في الغد لمن بتر ماضيه من وجوده" .. أطرق برأسي موافقة .. نعم دوما هناك من
يتدخل في اتخاذ قراراتي.
أفتح الصندوق .. أخرج طفولتي .. لا شيء يميزها سوى بذور الحزن
التي بدأت تجد تربة خصبة لها في حياة عائلية تميز في تربيتها بين الولد والبنت.
فرح العائلة يتمحور على الدوام حول إنجازات الولد. أما البنت فتعيش في الظل. إن
تفوقت فالأمر حسن، ولكن إن كان التفوق من نصيب الولد أقيمت الأفراح والليالي
الملاح. تلك الظلال جعلت الحزن صديقي .. والوحدة أنيسي .. والطبيعة مكمن أسراري
أما حواري فكان مع الكتابة التي ماأكاد أخطها على الورق حتى أمزقها خوفا من
التلصص على أفكاري.
ونتيجة للحدود الضيقة من المعرفة التي عشت فيها خلال مرحلة
تبرعم أنوثتي ونضجي .. بدأت وحدتي تتعملق دون قدرة مني على فهمها، حتى تحولت في
داخلي إلى كائن آخر ينافسني في وجودي .. حياتي معه كانت صراعا دائما فيما بيننا
.. تساؤلاته المستمرة التي كنت أعجز عن الإجابة عليها، تجعله يغضب مني، مما
يسبب لي الإحباط وفقدان الثقة في النفس ومن ثم الاكتئاب .. كان كابوسا مريعا
يجعلني في حالة عجز تام عن التواصل مع المحيط .. لم يكن ينقذني منه سوى النوم
الذي كان بمثابة مخدر للألم .. لم أكن أجرؤ على طرح تساؤلاتي على المحيط من
حولي فعالمي الداخلي كان يصطدم على الدوام مع العالم الخارجي الذي كان اهتمامه
ينحصر بالسطح دون أي مؤشر لبعد آخر.
كنت أظن بأنني الوحيدة التي تتعايش مع كائن آخر في داخلها .. بت
أحسد الصديقات وأخوتي كونهم قادرين على العيش بكائن واحد فقط .. حتى خلال نومي
لم أكن أستطيع التحرر منه فهو على الدوام يسأل ويسأل ويسأل ولا يهدأ.
كانت مرحلة مرهقة ومؤلمة للذهن وللروح معا، بل أشد من مؤلمة..
أما كيف تجاوزتها فذلك بانفتاحي على الحياة من خلال تواصلي مع العديدين ممن هم
في عمري لدى التحاقي بالدراسة العليا. التقيت بنماذج عديدة من الشبان والشابات
ممن كانت حياتهم تمد جذورها عميقا في أرض الواقع .. عثرت من خلالهم على إجابات
أزالت حيرتي وأدخلتني في مرحلة التصالح مع نفسي .. ذلك الصلح كلفني الكثير..
فكل خطوة اجتزتها باتجاه توحيد نفسي كانت تعمق الهوة بيني وبين أهلي .. حتى بات
بيني وبينهم شرخ هائل من الغربة.. تجسد لديهم بالغضب والقسوة ولدي بالنفور
والرغبة الملحة في الهروب من عالمهم .. هربت وفي داخلي إيمان طفولي بمقدرة
الزمن على إلغاء تلك المسافة . محبة نقية أصيلة في داخلي لهم، غير أنهم رفضوا
اختلافي ونبذوا عقلي ووجودي. الاختلاف في نظرهم خطر لا أدري من يهدد، ولم
الاختلاف يثير بغضهم وسخطهم حتى النهاية دون أي صك للغفران.
وهنا تبرز أمامي التضحية كنصل دام.. أنظر إليها بخوف.. نعم أنا
أؤمن بالتضحية ولكن بمفهوم آخر مجرد من الخنوع والاستسلام فان كانت التضحية
ستؤدي إلى موتي وأنا حية إرضاء لرغبات الآخرين، فذلك دون مقدرتي على تمثلها.
فأي استسلام لي يعني على الفور انبعاث الكائن الآخر من جديد في داخلي .. مما
سيجعلني أعيش في جحيم لا بد أن ينتهي بمأساة جنون أو مرض عصاب. أمسك بالمفتاح
وأغلق الصندوق وأضعه في الحقيبة.
الفصل الرابع
أحتاج إلى فترة استراحة .. الجو خانق .. لا بد أن أتوقف .. أخرج
من الغرفة أسير في الممر الجبلي .. الشمس عاموديه والحر شديد إلا أن النسيم لا
يزال منعشا .. احتمي بظلال الأشجار .. أجلس على حجر منبسط وأسند ظهري على جذع
شجرة .. أتأمل أسرابا من الشبان والشابات .. تأسرني السعادة المشعة من عيونهم
.. تلك الضحكات التي كدت أنسى جرسها .. ذلك المرح الربيعي الذي يغتال الحزن.
كم هي جميلة الحياة لو أننا لا نحملها فوق طاقتها.
رويدا رويدا تبرأ روحي وأسترد نشاطي. أعود من حيث أتيت وقد بدأت
الشمس تغيب عن مساحات الغرفة .. أشرب كوبا من الماء .. أغلي فنجانا آخر من
القهوة .. وتبدأ الجلسة.
أبحث عن شيء مبهج .. أنبش الأشياء .. آه هاهو الحب .. لا الحب
دوما ملتحما بالحزن .. العشق، هذا ما أريده. أدنو بكرسي قليلا إلى الأمام.
ابتسم ابتسامة واسعة .. بالتأكيد سأصطحبه معي حتى النهاية. هو ذخيرتي في
الليالي الموحشة حينما أواجه الوحدة في المراحل الأخيرة من العمر. حينها ما علي
سوى عرض شريط الذكريات، لأعيش من جديد جمال تلك الأيام، والتي نجحت الرقابة
الداخلية في قص كل ما هو غير مسموح به من مشاهد حزن تكدر تلك الذكرى. مما جعل
مدة الشريط تختزل خمسة عشر سنة إلى سنة واحدة، وبالتالي فان ذلك سيحررني من
مساحة حمل الفائض..
لم أدرك معنى العشق وما الفارق بينه وبين الحب إلا بعد زمن طويل
.. الحب شيء والعشق شيء آخر .. أن تعشق إنسانا لا يعني أنك تحبه .. أو ربما
تحبه في بعض جوانبه غير أنك تأبى أن تربط مصيرك بهذا الإنسان .. أي أنك تعشق
بعض الجوانب فيه .. وترفض في الوقت نفسه العديد من صفاته التي لا يمكن أن تتقبل
وجودها في حياتك ..
العشق صورة للتناقض.. حينما تتلهف للقاء هذا الإنسان والتواصل
معه غير انك في أعماقك تدرك بأنك تأبى أن يرتبط مصيرك به .. العشق مثل كازانوفا
.. شهب يومض على حين غرة ثم سرعان ما يخبو ويتلاشى من القلب.
أعود إلى الحب .. ترى ما الذي يعنيه لي الحب الآن وكيف أراه؟
نظريتي الحالية في الحب التي كونتها من زخم تجاربي وتجارب الآخرين من حولي،
تقول بأنه جزء لا يتجزأ .. وبمعنى أوضح، الحب غير قابل للقسمة .. وبمعنى أكثر
واقعية أن للحب نبعا واحدا في كل إنسان إما أن يوجد كل الحب في داخله أو لا
يوجد.
أما كيف فتلك هي فلسفتي التي يمكن أن أطلق عليها "فلسفتي أنا
والأربعين ...." إذ ربما تتغير حينما أصل إلى الثمانين إن مد الله بعمري. الحب
هو مقدرة على العطاء .. ولا يمكن لإنسان أن يحب حبا حقيقيا، إن لم يكن يملك في
داخله ذلك النبع .. ومثال على ذلك، الأم فهي عاجزة عن حب أبنائها إن لم تكن تحب
أحدا سواهم. وكذلك الرجل لا يمكن أن يحب محبوبته أو زوجته إن لم يكن محبا
لوالدته أو أخته أو صديقه سخيا في عواطفه نحوهما. ولا يمكن لرجل أو امرأة
مغرقين في الأنانية والمادية أن ينجحا في الاحتفاظ بمن يحبون قريبا منهما.. ومن
أروع مآثر الحب عدم التملك .
وأخيرا فالحب شعلة.
ولتبقى تلك الشعلة مشعة تحتاج إلى وقود.. والوقود يكمن في
التقدير والمنح والتسامح .. وان امسك عنها زادها خبا تأججها ثم أخمد مع مضي
الزمن، ولكن ليشتعل في مكان وظروف أخرى .. ومن هنا يلتحم الحب بالحزن حينما
يقابل بالنكران عند أول إعصار أو أزمة يواجهها.
أضع الحب في الحقيبة إلى جانب العشق بعناية وحنو.
أضحك دون إرادة مني هاهي العاطفة تتدخل وتصر على حمل العشق معي
دون حاجة له غير أنها تحاججني ومتى انحصر العشق في الكائن الآخر ماذا عن عشق
الطبيعة واللحن والكلمة والألوان .. أضحك مجددا واستسلم.
الفصل الخامس
أمسك بحلقات معدنية دائرية .. رنينها يجعلني أشعر بخوف أزلي ...
حلقات بمثابة قيود لا خلاص منها إلا بمأساة ... زواج وازدواج والمحصلة تزاوج
الازدواجية.
فتيات وأحلام وشطآن خيال .. لحرية الانطلاق والعيش كحورية في
حكايات الجدات
شبان وبطولات وفتوحات .. لأراض بكر لم يكتشفها أحد من قبل
ويلتقي فارس الأحلام بأميرة الزمان في مملكة شيدت قصورها من
الرمال
وهكذا تبدأ الحكايات لتنتهي بانهيار الأبطال .
تعبر ذاكرتي مقولات لأدباء وفلاسفة وفنانين ... الزواج قيد ..
مقتل الإبداع .. نهاية حرية الذات .. ها أنا أقف مع نفسي في مواجهة هؤلاء
أرمقهم ببرود وأسى وأحاججهم بالصمت ... وأبوح لنفسي بأفكاري .. مفهومي الخاص عن
الزواج يتلخص في أن كل من الرجل والمرأة يحتاج إلى شريك يقاسمه حياته لتحقيق
توازن الداخلي .. وليس لإشباع حاجة جسدية من الآخر ... فذلك بمثابة امتهان
الإنسان لنفسه وليس للآخر.. ولا بد قبل التفكير في الارتباط، أن يصل كلا
الطرفين إلى مرحلة النضج النفسي مهما طالت مدتها، أي المرحلة التي لا يحتاج
فيها إلى ارتداء شخصية أخرى لاستحواذ إعجاب الآخرين ... حينما يصل إلى القناعة
بأن يكون هو نفسه أينما كان ومع أي كان ... تلك المرحلة التي يتعرف فيها
الإنسان على شخصه .. هل هو مادي أم روحي أم بين بين ... هل يتعامل مع الحياة
بفكر أم يعيشها كما هي أم يفضل أن يكيفها حسب قناعته.
والزواج لا يعني التوحد التام .. بل لا بد من وجود هامش من
الاستقلالية يمارس من خلاله كلاهما اهتماماته الفردية على أن يجمعهما الود
والثقة بالنفس والشريك والرغبة في بناء أسرة متماسكة رغم اختلاف شخصيات وميول
أفرادها مع الابتعاد تماما عن المقارنات التي توقع الطرفين في متاهات لا حصر
لها.
لا يمكنني استيعاب المزيد ... أريد أن أرتاح قليلا... أريد أن
أتحرر من ذلك العبء الثقيل .. أخرج مرة أخرى .. إنما هذه المرة في اتجاه البحر
.. أريد أن أسلم نفسي لمساحات شاسعة تتمكن من استيعاب أعماقي .. البحر والمدى
ملاذي... أصل الشاطئ .. أجلس على الرمال الذهبية .. نظري معلق في الفضاء
أمامي.. الشمس وقد بدأت تفقد حدتها .. تداعبني الأمواج .. تغريني باللعب معها
.. (أتـنهد) علي أن أنهي مهمتي قبل غروب الشمس .. وإلا فاتني القطار .. في الغد
سأكون لها ولتلك الألوان الترابية التي تطالعني في دروب عودتي.
الفصل السادس
أجلس من جديد .. أتأمل ماتبقى .. أتناول مفتاح الحياة ..
بالتأكيد ستكون الصداقة رفيقة دربي على الدوام وفي جميع محطات العمر. أتساءل،
ترى لم كلما تقدم بي العمر قل عدد الأصدقاء، رغم استيعابي الأعمق للصداقة التي
تأخذ مداها في العمل وليس في المساحة .. أما لماذا وكيف والدليل .. فذلك ما
أجابتني عنه الأيام والتجارب والمحن.
ولمعادلة الصداقة ثلاثة رموز وحلها كالتالي :
إنسان في أي مرحلة من العمر + صديق+ ثقة = تفريغ للروح والعقل =
التوازن الداخلي. والتفريغ النفسي يساعد العقل طردا على التفكير بصفاء كما يعين
الروح على تحررها من شوائب الهموم اليومية. أي أن عامل القسمة المشترك لراحة
للإنسان هو الصداقة.
أتأمل المفتاح باعتزاز، لو أردت التحدث عن الصداقة لربما احتجت
لأيام عديدة ووقتي لا يسمح لي الآن بذلك. غير أن خلاصة تجربتي الأربعينية (مرة
أخرى) تؤكد بأن الصداقة أشبه بالوطن أو بالأحرى بديل للوطن في كثير من الأحيان
سيما حينما نفتقد فيه حريتنا. فالحنين مشترك ولطالما وجد الإنسان في وجدان
صديقه وطنا لحريته وللبوح عن أفكاره وهمومه.
والعصب الرئيسي للصداقة هو عدم الوقوع في أي التباس لمفهومها،
إذ أن أي تجاوز لهامشها يسبب التباسا يؤدي عاجلا أم آجلا لنهايتها. بمعنى آخر
يفترض أن لا يحل الصديق مكان الآخرين في حياته، إلا بصورة آنية أي لمرحلة زمنية
محدودة تبعا للظروف أو المحنة التي يمر بها الآخر أو الصديق.
واللقاء مع الصديق جلسة تأمل.
تساعد في بلورة الرؤيا لدى كلاهما خلال اجتياز محن الحياة.
وأساس الصداقة يبنى على قواعد هندسية تبدأ بالأساسيات وتنتهي بقمة الهرم . أي
لا بد للطرفين في بداية تقاربهما أن تأخذ العلاقة بينهما بعدها الزمني الطبيعي
لمعرفة واستيعاب شخصية الآخر، دون أي اندفاع وافتراض لتماثل الأفكار والآراء.
لا بد أن تكون العاطفة في هذه المرحلة محجمة ليأخذ العقل دور الدارس والمكتشف
وعلى أساسه تبنى لبنات الصداقة من خلال المحاور المشتركة بينهما. وأي اندفاع
وافتراض يؤدي عاجلا أم آجلا لخلاف شديد يولد القطيعة وربما العداوة بينهما
والضرر لأحد الطرفين أو كلاهما رغم سلامة نية الطرفين في هذا الإطار. وان أخذت
الصداقة حيزا أكبر من حجمها الطبيعي ولدت انفعالات كثيرة كالسيطرة والمقارنة
والغيرة التي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.
الفصل السابع
أعود مرة أخرى إلى سرير وجودي.
أرى أمامي عجلة صغيرة تشبه رقاص الساعة .. أتنهد .. ترى إلى متى
سأبقى أعمل .. عشرون عاما وأنا أدور مع عجلة الزمن .. وان توقف الزمن أنا توقفت
.. أنا لا أتذمر من فكرة العمل بحد ذاتها بل من الصورة التي يمارس بها.. أتذمر
من العمل الذي يمتص طاقة الإنسان دون أن يمنحه بالمقابل أي سكينة أو استقرار ..
ذلك العمل الذي يأخذنا لحما ويرمينا عظاما .. وأنا هنا لا أتحدث عن الذين
يعملون لتكوين ثروة .. هؤلاء من عالم آخر .. إنما أتحدث عن الذين يريدون أن
يعيشوا بسلام مع أنفسهم ومع العالم .. وللأسف هم دوما يقعون ضحية أطماع الآخرين
الذين لا يتوانون عن سلبهم حياتهم في سبيل بناء مجدهم وثروتهم .. عشرون عاما
وأنا أعمل وأعمل وأعمل ولا أدري إلى متى علي أن استمر في العمل .. ربما حتى
أفارق الحياة أو حتى يلفظني أرباب العمل بدعوى تقدمي في العمر .. وهذه الفكرة
تمثل كابوسا مرعبا فحينها من سيعيلني .. وطني أم عائلتي أم من .. وما الذي سيحل
بكرامتي
والمؤلم أن يمارس الإنسان عملا لا يمت بصلة لاهتماماته وميوله.
والغريب أنه ينجح في عمله الذي يكون شديد البعد عنه. حاولت مرارا أن أمارس عملا
قريبا من اهتماماتي .. لكنني عجزت عن الاستمرار .. ربما لأن ممارسة العمل بعشق
وإتقان يجعلك ترفض الممارسات التي تتناقض مع هذا المجال .. كالصحافة مثلا لا
يمكن لمن يعشق هذه المهنة أن يكتب بصورة تقليدية ويقوم بتنفيذ مواضيع وتحقيقات
تتنافى مع الواقع أو تتناول الحقيقة من أحد وجوهها مع تعتيم الجوانب الأخرى.
ربما من الأفضل لي أن لا أستمر في هذا الحوار إذ أن ذلك يفتح جروحا عديدة
لطموحات وأحلام بقيت في حيز الرغبات المخزونة، بسبب التزامات حياتية تمنعني من
التفرغ لها.
وعلي أخيرا أن أعترف بأفضال العمل على حياتي .. فها أنا أصل إلى
عتبة الأربعين ورغم ذلك لا تنتابني مشاعر الإحباط واليأس .. العمل جعلني أدرك
بأن حياتي لا تنحصر في أنوثتي فقط بل جعلني أعيش كانسانة لها اهتمامات عديدة في
الحياة .. الخوف الذي ينتابني أحيانا من تجاوز مرحلة الشباب هو خوف عام مشترك
لدى الجميع ..
خوف لزاما علي وضعه في الحقيبة.
الفصل الثامن
أتنفس الصعداء .. لم يبق إلا القليل .. أخرج إلى الشرفة .. أنظر
إلى الشمس .. مازال أمامي ما يقارب من الساعة حتى الغروب .. أعود مسرعة ..
أتفقد ماتبقى .. ربما بإمكاني أخذ استراحة قصيرة .. ماذا أفعل الوقت لا يكفي
لنزهة خارجية .. سأجلس في الشرفة .. ما أحتاجه الكرسي لا غير .. إلا أنني حينما
أهم بحمله .. أجده مسمرا في مكانه .. وكأن ثقله قد تضاعف آلاف المرات .. ربما
كنت واهمة .. أكرر المحاولة مرة أخرى .. غير أنني أفشل حتى في تحريكه ميلا
واحدا .. ترى ما الذي يحدث .. هل أنا مرهقة إلى هذا الحد
أجلس أشبه بالغاضبة على حافة السرير .. أعود بجذعي إلى الخلف
مستندة على ذراعي .. غير أنني أشعر بشيء غريب دافىء يلامس يدي .. أقفز فزعة..
ماهذه الكتلة .. تكوينها يكاد يشبه قلب الانسان.. أشحن نفسي بقدر من الشجاعة..
أدنو منها بحذر.. أتردد ثم أحملها بين كفيّ .. أتفحصها .. لها رائحة مألوفة
لديّ .. أتأمل المكان من حولي .. ليس في الغرفة ماهو غير عادي .. كل شيء ساكن..
لا يمكن أن تكون قد خلت من الخارج.. لابد أنها كانت من ضمن محتويات الحقيبة..
ولكن مامبرر وجودها .. أضعها على الكرسي الخشبي .. حينها تبدأ الكتلة بالنبض..
وعندما أحاول لمسها من جديد تتدفق من مساماتها قطرات كالندى .. ينقبض قلبي لها
.. لا أفهم مايحدث .. ترتجف الكتلة .. تنقبض .. تتمدد .. لا بد أنها تمثل شيئا
في حياتي.
أسلم أمري لله .. أعب نفسا عميقا .. وأحاول حمل الكرسي المركونة
عليه .. ولدهشتي أجده خفيفا .. ياللعجب مالسر في ذلك .. وخلال توجهي إلى الشرفة
تتضح الأمور أمامي دفعة واحدة .. نعم لتلك الكتلة عبق القش المجدول لمقعد
الكرسي.. نعم هذا الكرسي وماولده في داخلي من شعور مفاجىء بالغربة لحظة دخولي
الغرفة.
يارب أنها الغربة
كيف نسيتها .. كم مضى من الزمن وأنا أئد وجودها في أعماقي ..
ظننت لسنوات بأنها اندثرت من داخلي .. أجلس في الشرفة قبالة الكرسي .. وإذ
بينابيع من الانفعالات تتفجر في داخلي.. الكتلة مازالت ترتجف .. تلامسها أناملي
بحنو.. تخذلني عيناي .. أغطي وجهي بكفيّ .. يخونني لساني ..
غربتي هائمة لا تستريح .. من منا لم يعيشك .. أنت معنا على
الدوام .. وفية لنا أكثر من الأهل والخلان .. غربتنا بعد آخر نعيشه من دون أن
نراه .. جرح ينزف ولا نملك له دواء.
أيتها الغربة يتنفسك من يعيش في عمق وديان الحياة ويلفظك من
يعيش على قمم الجبال.
حائرة فيك وخائفة منك وفراقك أشبه بالمستحيل.
وأنا كالريشة في مهب الريح أبحث عن ثقل يشدني للأرض للأحبة
للأهل .. أريد أن أتنشق ياسمين مدينتي .. أريد أن أقطف وردة جورية أغرسها في
قلبي .. أريد أن أزرع في جسدي كروم العنب وأسقي بدمي أشجار الزيتون .. أريد أن
أقطف التين وأخبئه في سلال ذاكرتي ..أريد وأريد وأريد
يد الغير تقطف ثمر بلادي وأنا في الغربة محرومة.. سحب حنين
تطوقني .. تهدهد وجعي .. تحنو علي .. أيتها الغربة أودعك بدمعة أخيرة دافئة
أصيلة .. ستكونين رفيقة عمري ودربي.
حينما أضعها في الحقيبة بين ثنايا الحب والعشق .. أقف ذاهلة ..
أشرد بعيدا في المدى .. أغيب عن نفسي .. وأعود مثقلة النفس.
الفصل التاسع
قرص الشمس أحمر متوهج يكاد يلامس البحر .. هاقد شارفت مهمتي على
الانتهاء .. ترى مالذي تبقى .. أقف أمام السرير .. أجد سطحه مجللا بمادة أثيرية
.. أحاول جمعها إلا أن يدي تخترقها .. أتنهد .. مرهقة أنا ولا أحتمل المزيد..
أحاول جمعها بغطاء السرير .. غير أنها تنفذ عبر النسيج.. .. علي أن أسرع وإلا
فاتني قطار العمر .. ولكن كلما أوغلت الشمس في اليم تفاقمت حيرتي وتلاشت أحجيتي
.. لم يبق لدي من الوقت لأية محاولة .. أغلق الحقيبة بحزم .. ففي النهاية مالا
أستطيع إدراكه الآن الزمن كفيل بسبر معناه.
ظننت للحظات بأن الإعداد لرحلة ما بعد الأربعين قد استنزف طاقتي
الحسية والذهنية.. جلست في مكاني أحدق في اللاشيء .. ثم لامست وجنتي هبات نسيم
عليل .. وفي ثوان تبعثرت ذاكرتي.
أخرج إلى الشرفة استنشق الهواء ملء رئتي .. أشعر بدفق جديد من
القوة يجتاحني .... هاهو الشفق يودع النهار بألوان بنفسجية ساحرة.. تتدفق
الدماء في شراييني .. حب الحياة يجري في دمائي .. ها أنا أشهد الغروب .. سأعيشه
بروعته ودفئه وسلامه .. منذ الغد سأعيش لنفسي وللطبيعة من حولي .. لأبدأ بعدها
رحلتي الجديدة مع الحياة.
|