أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: محمود زعرور-هولندا

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

مواليد 10/1/1957- حلب

المؤهل العلمي : الثانوية العامة- الفرع الأدبي عام 1975

 

مؤلفاته:

1- نجم القطب: قصص وزارة الثقافة- دمشق 1996. 

2- أمطار صيفية: قصص اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1999.

مقيم في هولندا

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

المواجهة

الحريق

أمطار صيفية

القطار 

ندى وحالات الاسم

الزيارة  

الوداع الأخير

طريق اللؤلؤ

 

 

القطــــار

 

 

 

قررت أن تحيا، ونفضت عن كاهلك غبار الموت، ورائحة الزمن السحيق، في قبركما الضيق، مثل حفرة متسخة.

أيقظت رفيقك الممدد إلى جانبك دهراً متصلاً، وقلت له:

- "هيا لنخرج، إن بي شوقاً جامحاً لطرد الدم النتن من أوردتي الصدئة.

قم لنعبر نحو الفرح، لنطأ هذه الشواهد المتعفرة، المتكسرة، المربوطة إلى بعضها كشارة إعدام أزلي.

صدقني! أنا أتحرق توقاً ملتهباً لرؤية الأصدقاء القدامى الذين ينثرون الورود على قبرنا كل يوم، ألا تريد رؤيتهم؟".

لا أحد يسمع، ولا أحد يجيب، لقد كان رفيقك الممدد اليقظ، مستسلماً لنوم أبدي، لا أمل في تبديد سطوته.

وكررت المحاولة: المبادرة، لكن، دون جدوى، فالتراب الممزوج بلزوجة العطن، كان يتكوم أكداساً فوق عينيه، كما تلال التبن، والأعشاب اليابسة، تجثم فوق القمح، فتثقل عليه، وتوهنه.

وحدك نهضت، وبفرح، رحت تزيل تلك الكتل الترابية التي تغطي سقف القبر، وتزيل معها العتمة الحالكة.

- "لقد تأخر القطار؟".

قلت ذلك، واندفعت إلى السؤال بالتياع:

- "لماذا تأخر القطار؟".

وكان هذا السؤال بدون جواب، والقطار لم يزل يولد في نفسك الكثير من العلامات المريحة، نفسك التي لا تتعب في البحث عن شاغلها في طرد القلق، والقلق ذباب خرافي يدوي طنينه بألم، ويثقب خرطومه الحاد، المدبب، اللحم الطري، كما الطعنة الدامية.

كان القطار يأتي قبل كل غروب، وكنت تتابع بناظريك، وبكامل حواسك أيضاً، دورة الشمس النهارية، لحظة بلحظة، وببطء، ورويداً، رويداً، تختفي في بطن الجبل.

وكطفل يهرع نحو أمه، تركض متسلقاً الهضبة العالية، وأنت تسمع ذاك الصفير.

كان صفير القطار يضج في الفضاء، في هذا المكان المتوحد مع روحك، مصحوباً بوهج آسر، يسكب تأثيره المبهج في قلبك البارد، والصقيعي.

أنت لا تعرف كنه السر الحقيقي وراء مجيئك إلى هذه البقعة النائية، فثمة أمور لم تحسمها بعد، وإن كنت على معرفة ببعض حقائقها العديدة، وكنت تدرك بأن قدومك هذه البقعة البعيدة والمقفرة هكذا وصفها ناظر المحطة إلى ناظر المحطة -لم تخضع لدرس منطقي فيه التحليل الدقيق.

 

وكنت تجيب بهذا النحو من يسألك، -وناظر المحطة واحد منهم- ولقد وصفتهم بأصحاب الفضول المقيت، كمن يسأل عن زمن هرم. لقد رأيت، وقدرت، بأن هذا المكان كفيل بأن يمنحك المتعة المتبقية، في التأمل، تأمل الذات، والنفس، بعد غربة مضنية، دامت وقتاً ممتداً، وكبيراً، خلته قروناًً عديدة، مجهولة البداية، ونهاياتها أسرار غامضة.

وللتو، صرت تستعيد سؤالاً كبيراً، لم تستعد في هذه اللحظات أن تجيب عليه:

- "إلى أين تمضي؟ وما هي وجهتك التالية؟"

أنت تعترف بأنك حاولت مرة الإجابة على هذا السؤال، أو، قل على هذه التساؤلات التي ستفضي إلى تساؤلات عديدة، يتناسل بعضها مع بعض لكنك كنت تفشل في التحديد الدقيق للإجابة الواضحة.

أنت لا تعرف بالضبط، ما كانت عليه للتو، نواياك، وخططك، ولا تتذكر شيئاً، وكنت طوال الوقت تصرح لناظر المحطة، بأنك متعب، وتعاني الكثير من ذاكرتك، مرضك الأشهر، أو، قل الداء القاتل.

وكنت تتألم كثيراً وأنت ترى إلى ناظر المحطة، وهو يحدق فيك ببلاهة غريبة.

كل ما تذكره، هو، تخيلك عن القبر، وركضك غير المنقطع للتفتيش عن آخر مكان تنتفي فيه الرائحة الواخزة، التراب العفن، الدم اليابس،... وصاحبك الميت في نوم امتد وطال.

وارتحت كثيراً وأنت تعقد هذه الصداقة الخفيّة مع القطار الذاهب- الآيب، وصفيره المدوي.

وكما المفاجأة تسمع صوتاً حاداً فتفتح أذنيك على مصراعيهما وتنصت وتقرب رأسك إلى حضن الهضبة، وتصيخ السمع ماذا؟.

ورقصت تهلل:

- "إنه القطار؟ أجل. القطار.. الصغير..".

ويدنو القطار منك بخجل عاشق أضناه التعب والبعد، يدنو كرجلٍ مريض تهتز أوصاله، ويرتعش، ليس من البرد أو، الخوف.

 

وتهرع راكضاً، فاتحا ذراعيك، فاتحا عينيك، فاتحا فمك...

وتطقطق العجلات، ويربط الربان حبل المرساة إلى الشاطئ/ المحطة وينزل المسافرون/ السابحون، مسافرون من كل بقعة إلى كل بقعة.

وتختلط اللهجات، ويضيع الفرق بين الأجناس والعروق، كقوم عريق، متصل، تتشعب منه ألسن، وانتماءات، توحده، وتغنيه وترى نفسك في لجة هذا الموكب العارم من الأحاديث والإشارات والضحك ويملأ المكان صخب لا ينتهي.

 

 

أمطـــار صيفــية

 

 

كان الجو حاراً، بل شديد الحرارة، في هذا اليوم الصيفي من شهر أيار.

أنت تعرف بأن المناخ، عادة، في هذا الشهر من السنة، يكون معتدلاً نسبياً، لكن، أن ترتفع درجات الحرارة فيه على هذا النحو أمر مثير للغرابة حتماً.

وتهدأ حيرتك، وتضعف حدة استغرابك، عندما تتذكر بأن الشتاء كان فصلاً طويلاً، بل ومملاً بطوله، فالبرد، والمطر، والريح العاتية، لازمت حتى الأيام الأخيرة من شهر نيسان الفائت.

والمناخ الغريب هذا، وغير الاعتيادي، كان واحداً من الأحاديث والتساؤلات اليومية لدى الناس، في أماكن العمل، وفي السهرات.

تشعر بالملل، وتتطلع إلى جارك في المقعد، في هذه الرحلة، فتراه يغط في النوم، أنفاسه منتظمة، ورأسه المائل قليلاً يكاد يلامس كتفك، تعاود النظر إليه فتجده في الوضع ذاته.

 

أنت لا تحب الأحاديث في السفر، تشعر بأنها متكلفة، وباردة، وتزيد من إحساسك بالوحدة، رغم أنك، اليوم قمت بتبادل هذا النوع من الأحاديث مع جارك النائم، ومجدداً ازددت قناعة بتفاهة هذا الشكل من التواصل مع الناس.

 وما يثير فيك الضيق، والنفور، هذا الغناء المزعج، والسخيف، الذي تضطر لسماعه في هذه الرحلة، وهو أمر ليس بالجديد، فالمستوى الهابط، والرخيص، يميز أغاني هذه الأيام.

 وتحن إلى أصوات غابت، وإلى ألحان طبعت زمنها كله بروحها الخاصة، وبنبرتها الأصلية، وبقيمتها العالية.

صباح هذا اليوم، استيقظت باكراً، باكراً جداً، على غير عادتك، وقررت التوجه حالاً إلى المقبرة، لزيارة صديقك، وهي زيارة صارت تلح عليك منذ مدة طويلة، وأضحت تضغط على روحك بقوة، وتدفعك دفعاً عظيماً لتنفيذها، وإيقاف تلك المسوغات المختلفة التي كانت تبعث على الدوام في تأجيلها المتكرر.

فبعد المدينة، مثلاً، لا يبرر لك هذا الانتظار الطويل، والمشقة الكبيرة التي قد تواجهها ليست ذريعة كافية.

كما أن النكران ليس من طبعك أبداً، وقلبك لا يعرف الجحود، أو قلة الوفاء.

أهي رخيصة، إلى هذا الحد، تلك السنوات التي قضيتها معه، والأصدقاء يحيطون بكما، والوقت يزهو بآمال عظام؟.

أنت تذكر طويلاً ما ميز علاقتك الحميمة، والخاصة به، وتتوقف دائماً أمام مشاريعكما المشتركة، وأحلامكما الأدبية، وهي، للأسف، لم تعش، أو تعمر كثيراً، ولم يتح لكما سوقها لغاياتها المأمولة، ونتائجها المرجوة.

فموته المبكر أوقف كل ذلك، ووضع حداً له، وهذا ما أثر فيك غاية التأثير، وبقيت فترة طويلة شبه تائه، وعاجز، أمام غيابه المحزن، والمفاجئ.

تذهب إلى المطبخ، تصنع فنجاناً من القهوة، ويصلك صوت طفلك الصغير، ومحاولات زوجتك في تهدئته.

تشعل لفافة تبغ، وتشرب قهوتك باشتهاء لذيذ، والقهوة الصباحية من أحب الأشياء إلى نفسك، وهي عادة من أكثر العادات القديمة التي تتمسك بها، وتصر عليها في هذا الزمن المتقلب، الرجراج، الرخو. تنظر إليك زوجتك، تحدق فيك ملياً، وتشعر بأنها غير راضية عما ستروم القيام به، وغاضبة منه، ويصدق ظنك، وتقول لك، على الفور:

- "أنت ذاهب؟".

وتجيب بإيماءة من رأسك، تجنباً لفتح نقاش ممل قد يطول في هذا الموضوع الذي حسمته ليلة أمس، لكنها تتابع الحديث بسؤال جديد:

- "قل لي ماذا ستنفعك زيارة شخص ميت منذ سنوات، في مدينة مجهولة ومنسية. أمثالك، يجب أن يدفعهم طموحهم للذهاب إلى المدن الكبرى، إلى العواصم الثقافية حيث النجاح، والمال، والشهرة.

وتستدرك، مكملة بنصيحةٍ، أو أمر:

- "اخرج من سجنك"

وكنت فقط تهز رأسك بين فترة وأخرى، وأنت تستمع إليها مكرهاً، وما أن تنتهي من قهوتك، حتى تتجه بسرعة نحو الباب وتخرج.

الطريق يشارف على نهايته، وزميل رحلتك يتململ، بعد أن أفاق من نومه الطويل، وهج الشمس يصلك من النافذة، والمشهد الصيفي للسهول، والأراضي المزروعة بسنابل الحبوب الممتدة، واللون الأصفر الطاغي، الذي يومئ بقرب الحصاد، وحبات العرق التي صارت تطفو على جبينك، ورقبتك، وصوت المحرك الرتيب...، كل ذلك بدأ يجلب لك السأم والملل، والضيق، لكن اقتراب موعد الوصول إلى هدفك المرتجى يجعلك تشعر بالراحة، والطمأنينة.

يصل الباص إلى المحطة، ويتوجه الركاب إلى حيث حقائبهم، وأمتعتهم، متعبين متراخين، وأنت الذي بلا حقيبة، أو أمتعة، تتجه نحو ذاك المقهى.

تأخذ، على الفور، كأساً من الماء، تطلبه مثلجاً، علّه يطفئ هذه النار التي تلهب جوفك بضراوةٍ شديدة.

هذا المقهى ليس غريباً عنك، فأنت تعرفه جيداً، وكثيراً ما جمعكما، أنت وصديقك الراحل، وكأس الماء المثلج هو أول ما كان يأخذه صديقك فور دخوله المقهى.

وتتذكر تلك السنين، تعود إليك بصورها البعيدة، وأحداثها الغافية، ودلالاتها المؤثرة، حيث كان يصادف قدومك إلى هذه المدينة، على الدوام، حلول الصيف، وصيف المدينة هذه، كان صيفاً جديراً بتسميته، كما كان يقول لك صديقك.

تبحث عن محل لبيع الزهور، تسير متتبعاً ظلال الأبنية، والمحلات، حيث ثبتت فوق واجهاتها مظلات قماشية اتقاء للحر الشديد، ومنعاً لتأثيرات الشمس الحارقة.

كانت الطرقات، والشوارع، شبه خالية من المارة، في هذه الساعة من الظهيرة، فهي وقت لأوبة الناس إلي بيوتهم طلباً للغذاء، والراحة، والإغفاءة المنشودة في قيلولة منتظرة. تسرع في مشيتك، بعد أن كنت تسير على مهل، لأنك تدرك بأن الطريق إلى المقبرة طويل، وقد يستغرق منك ساعة، أو أكثر.

 

ينال منك التعب شيئاً، فشيئاً، والزهور التي حملتها برفق وصبر بالغين، صار يهددها البلل، والذبول، جراء هذا الجو الحار، والتعرق الذي أصبح يلازم يدك، وأصابعك، في هذا السعير المهلك.

وبين فترة وأخرى رحت تمسح رقبتك، وجبينك، وتلتقط حبات العرق الدبقة التي كثرت، وتعاظمت، وصارت تسيل، وتنتشر في أنحاء عديدة من جسدك ولم يمض وقت طويل، حتى شعرت بأن قميصك قد التصق بجسمك، وكنت قد فككت بعض أزراره ممنياً النفس بوصول بعض النسمات التي قد تساعدك مجدداً على الانتعاش الطيب.

لكن، يخيب رجاؤك، فالسكون، والجمود سيطرا تماماً، وتتأكد من ذلك عند ما ترى الأشجار المتفرقة على جانبي الشارع وهي ثابتة في هيئتها، ومستقرة، لا يحرك أغصانها، أو أوراقها شيء كأنها رسمت رسماً.

وعندما تتناقص الأبنية، والبيوت، ويمتد أمامك سهل منبسط، واسع تكون وجهاً لوجه أمام معاناة مضنية. فوجود الفيء، أو بعضه، الذي كنت تحتمي به حيناً كان يخفف عنك بعض العناء، ويجعل هذا المسير الحارق أقل قسوة، لكنك، الآن تحت الشمس أصبحت في لجة هذا الجحيم.

تتفحص الزهور، وتحزن كثيراً إذ تجد بعض الورود قد تفتتت، وانفرطت وريقاتها ورحت ترمي ما تخرب منها.

وقد أتى الهلال على القسم الأعظم من هذه الباقة.

تشتعل النار في رأسك، وتظن أن بخاراً حارّاً، وحارقاً، يتكثف ويتصاعد من جسدك وثيابك.

تشعر بتعب شديد، وأصبحت خطواتك بطيئة، وأنفاسك أضحت كاللهاث المتقطع، ورغم ذلك، رحت تدخن، والدخان زاد من جفاف فمك، وعجل في ذاك الصداع الرهيب الذي حل برأسك.

تنظر إلى البعيد، فترى المقبرة تلوح لك، فتفرح، وتعيش برهة من رضى وسرور، بنسيانك الصداع المؤلم، والإنهاك الطاغي.

ومرة أخرى، ترمي أرضاً بعض الورود التي أوشكت أن تموت، وتعلل نفسك بالاحتفاظ بما تبقى صالحاً، ومتماسكاً منها.

المهم أن تبقى زهرة، أو اثنتان، فالمعنى لا يتحدد بالعدد، أو بالحجم، هكذا كنت تقول لنفسك، فصديقك لن يلومك جراء ذلك.

وكنت كلما قربت المسافة الفاصلة بينك وبين المقبرة يجتاحك اضطراب شديد، وتهتاج روحك، وتشعر أنك وحيدٌ، وخاو أمام امتحان عسير لم تجرب الدخول فيه، أو التوجه إليه، وهو ليس كأي امتحان آخر، بل هو اختبار من نوع جديد، وخاص.

الطريق الترابي، والرملي، يغلي ويفور، من شدة سخونته، ولا ينفعك كثيراً حذاؤك في حماية قدميك من هذا اللهيب العظيم.

وكنت كلما وضعت قدميك فوقه يخيل إليك أنك ستغوص في إسفلت طري، ولزج، وحار، تكتوي بأذاه.

المكان أصبح مقفراً تماماً من الأبنية، والأشجار، والناس، وكنت ترى بين فترة وأخرى كلبا يسير على مهل، وقد أطلق لسانه المتشقق من الحر، والعطش.

وترفع بصرك إلى الأعلى، فترى السماء وقد استحالت إلى شمس هائلة، مخيفة، وكأن قرصها الناري، الملتهب قد بسط رقعته عليها كلها، وحجب أي أثر لزرقتها المعهودة، تلك الزرقة الخالدة التي تذكرك بامتداد البحر وبموجه الشفاف.

وكنت كلما ذهبت إلى البحر كان يفاجئك بعظمته الزرقاء، وبمراكبه الزاهية، الملونة، وبأسماك الصيادين، وبتلك النوارس التي لا تنسى.

تجول بعينيك في كل الجهات، فلا تجد أثراً لغيمة، وما من نسمة تخفف غلواء هذا القيظ المميت.

وكان صبرك، وتحملك، وشوقك إلى بلوغ القبر، ما يبعث فيك القوة، والقدرة على المضي والاستمرار.

أنت تذكر جلد صديقك، وكنت تمدح فيه هذا الجانب، أعني بأسه الشديد، وطاقته العالية، الحاضرة دوماً، في مواجهة قسوة الأيام، وحصار الزمن، وما من سلاح يشهره سوى تلك الإرادة الصلبة، والروح النبيلة، والثقة بالغد الآتي،

وما إن تقترب من تخوم هذه المقبرة، حتى ينتابك إحساس بأنك تشيع جنازة صديقك إلى مثواه الأخير.

وعندما تتطلع إلى البيداء المقفرة الواسعة، يخيل إليك بأنك المشيع الوحيد.

يؤثر فيك كثيراً هذا الشعور، وتحزن وينقبض قلبك بألم.

تذكر بأنك يوم سمعت خبر موته، ودفنه، تمنيت أن تكون أول المشاركين في التشييع، لكنك لم تكن قادراً على تغيير الظروف والأحوال التي حالت دون قدومك.

هاهي المقبرة أمامك، مكشوفة لك، بلا أسوار أو حراس، تناديك بدروبها الملتوية، وقبورها المتناثرة كي تبدأ فيها رحلة أخرى، رحلة البحث عن قبر صديقك.وفوجئت بعدد كبير من الأضرحة كانت متهدمة، وقد تكسرت شاهداتها.

تفتش في الكتابات على الشاهدات عن اسم صديقك، ويطول تفتيشك، لأن معظم تلك الأسماء قد امحت منها بعض حروفها، وغابت ألوانها السوداء، بفعل مرور الأيام، وآثار عوامل الطبيعة المختلفة، والمتعاقبة.

وفي غمرة بحثك، كنت تطأ، مكرهاً، بعض القبور، وسريعاً ماتلوم نفسك وتشجب هذا التصرف الخاطئ، لكن السرعة هي غايتك، وهمك ينحصر في بلوغ القبر، بأقصر الطرق، وبأقل مدة ممكنة.

وعبثاً كانت محاولاتك، فالبحث طال، وأخذ منك وقتاً، وجهداً، وما من أثر للقبر.

ولم تصافح عينيك الحروف التي تترقبها بشغف بالغ، وبدأ اليأس يدب إلى قلبك، وشعور بالخذلان صار يلفك، ويحيط بك من كل جانب.

ورحت تؤنب نفسك لأنك أتيت وحيداً إلى المقبرة.

أجل كان عليك أن تصطحب واحداً من ذوي الراحل، أو شخصاً من معارفه، في هذه المدينة، وهم كثر، وتعرف العديد منهم.

لكن، كنت تصر على المجيء بمفردك، وكنت تقول، بينك وبين نفسك، بأن المدينة صغيرة، وكل الأموات دفنوا هنا، في هذه المقبرة الوحيدة، والعثور على قبر صديقك كما استنتجت حينئذٍ، لن يكون من الأمور المضنية.

ثم إنك وددت أن تكون قرب صديقك، لوحدك، ستحدثه طويلاً، ستعرض له أحوالك، وتبث أمامه شكواك من هذا الزمان.

ظننت، بادئ الأمر، أنك ستقف أمام القبر أول ما تدخل إلى المقبرة. ورحت تتخيل سروره، ورضاه، سيتبسم وجهه الوضاء، وسيهرع نحوك، سيضمك إليه، وتعانقه بلهفة، وشوق، كما كنتما تفعلان في تلك الأيام النائية.

تصاب بالإعياء الشديد، ويسورك قنوط كامل يسم خطتك كلها بالفشل الذريع.

لقد جبت المقبرة من أقصاها إلى أقصاها وطفت في أرجائها الممتدة، وقطعت، كذلك، دروبها، ومررت تقريباً بكل القبور، بعيدها وقريبها، ولم تعثر على قبر صديقك، أو تهتدي إليه على الإطلاق.

تلاحظ تغيراً ما قد طرأ على الجو، وشعرت بهذا من تلك النفحات المعتدلة التي تهب الآن.

تجلس على حجر كبير، تدخن بشراهة قصوى، ومع سحب الدخان المتصاعدة رحت تنفث قهرك وأنت تفكر في ما صرت إليه، أو كنت فيه.

ترفع ناظريك إلى الأعلى، فتبصر شمس الأصيل، وقد همت مسرعة، ململمة أشلاءها المتناثرة نحو الغروب.

ويفاجئك وجود بعض الغيمات، وكانت سوداء، محتقنة، وتخالها قريبة منك، كأنها فوق رأسك من شدة قربها.

وبعد برهة خاطفة، استطالت تلك الغيمات، وتفرعت، وامتدت، وانتشرت فوق مساحات كبيرة من السماء وقد حجبت نور الشمس المتوارية.

واستغربت وجود هذا الغيم الكثيف، وأدركت أن شيئاً ما سيحدث.

لم يطل انتظارك فقد التمعت أجزاء عديدة، ومتفرقة، من السماء ببرق خاطف، وعجبت لذلك كل العجب.

وكما في طقس شتائي معتاد، وعلى نحو مباغت، ومداهم، تدوي أصوات رعد هائلة الوقع، ترتج لها جنبات المقبرة كلها، وتترجع لها أصداء متعاظمة متتابعة.

ويتناوب سطوع البرق، وحصول الرعد مرتين أو ثلاثة، وأثناء ذلك وبعده تهطل أمطار غزيرة لا عهد لك بمثلها أبداً.

كان المطر هادراً وسريعاً كعاصفة، شاملاً كحريق عظيم، مرعباً كصاعقة، وما هي سوى لحظات حتى جرت المياه سيولاً، وجداول، وسواقي في دروب المقبرة ومنعرجاتها، وخلت أنه الطوفان، ووحدك في لجته وأهواله، وأصابك جرّاء ذلك التخيل فزع شديد، واضطرب له كيانك كله.

كيف لك أن تواجه ما أنت فيه، وما قد يستجد منه، وخطر لك أنك تركت وحيداً، وما من منجى، أو خلاص.

لقد سمعت كثيراً عن أمطار تهطل في الصيف، لا بل شاهدت العديد منها في بعض السنوات الماضية، لكنها لم تكن في أحسن حالاتها سوى زخات خفيفة، وسريعة، كانت تلطف الجو الحار، والمغبر، ويراها الناس شيئاً محموداً.

غير أن هذه الأمطار كانت غريبة، مذهلة بحجمها، وشمولها، واتصالها غير المنقطع.

لقد قدرت بأن السماء قد فجرت كل ما تحبسه في جوفها من ماء فانهمر بغير توقف.

تقذف الزهور، تطوح بها إلى الأعلى، فتحملها الرياح والأمطار متناثرة فوق القبور، وتخرج من المقبرة.

حزيناً تمضي، ويكبر حزنك، ويتعاظم في عودتك، وإحساس بالهزيمة المريرة يلازمك طوال الطريق.

 

 

الحريــــق

 

 

وكنت كلما أمعنت النظر جيداً، تدرك، أكثر فأكثر التغير الشامل، الذي أصاب صديقك.

وقدرت، على الفور، أن التغير قد ترك آثاره الدالة، وعلاماته البينة، وكانت هذه الآثار، وتلك العلامات ناتئة، ونافرة، تقدم نفسها بسرعة، ومن النظرات الأولى، ولا تحتاج إلى الانتباه الكبير، أو التفحص الشديد والعميق، كما ظننت في بداية هذه الزيارة.

لقد جذب انتباهك كثيراً وعلى نحو صارخ، ومرعب هذا الارتجاف الكبير الذي حل بأطرافه، وبدا واضحاً، وملفتاً، وبشكل يبعث على الأسى والحزن المؤلمين.

أدركت في زيارتك له أن يديه أصبحتا ضعيفتين، متراخيتين، وأن شيئاً قريباً من الشلل قد سكن في عروقهما، وقد شكل لك هذا الأمر صدمة قوية، وضربة موجعة لم تقدر على مواجهتها.

وأصبحت تعود بذاكرتك البعيدة، التي تمتد إلى سنوات طويلة، إلى تلك الأيام التي عرفته فيها، وقضيت معه شطراً مديداً ومهماً من عمرك، وأحلامك، وآلامك، وشاركته الكثير من الأعمال التي تطلبت وقتذاك، الصبر، والدأب، والسهر الطويل.

لقد عرفت فيه، يومها، القوة، والعزيمة، والإصرار، وتلك القدرة العالية التي تتفجر في الجسم الشاب، المعافى، ذاك الجسم الذي يحمل في جوانحه، وداخله روح مكافحة، ونفس وثابة، لا تعرفان التعب والضعف أبداً.

إنك تذكر دوماً لقاءاتك به، وما إن يصافحك شاداً بقوة وحميمية على يدك، حتى تدرك أن لصديقك طاقة فولاذية جبارة، وبهذه الطاقة التي كان يتميز بها، يدخل امتحان الحياة، والزمن شاهراً حلمه الزاهي، والصادق مثل سلاح ماض، سيغير به الناس والأيام.

كان يحلو لك أن تتطلع كثيراً في عينيه، ولا تدرك كنه شعورك، أو إحساسك، عندما ترى ذاك البريق الساطع، النفاذ، الذي كان يشع بقوة من ضوئهما، وكان هذا الضوء الخارق، الحاد، والصافي، محل مفاجأة عظيمة، ممتدة، ودهشة كبيرة لا تنتهي.

أما اليوم، ومنذ اللحظات الأولى فقد شعرت بانكسار، واخترقت قلبك سكاكين حادة، قوية، دامية، مؤلمة، عندما لاحظت، بسرعة، هاتين العينين المطفأتين والمميتتين.

لقد شعرت أن هاتين العينين لا روح فيهما، وقد هجرهما ذاك البريق الخاص، والمتوهج.

وأدركت، على الفور، أية خسارة قد تمت، وأي حزن قد أصاب صديقك، لأن عبء تلك السنين، وأثرها، كانا ثقيلين، إلى حد كبير.

وقدرت أن الخسارة صارت تلازمه، وأن الحزن أضحى حالة يومية يعيشها بتوحد وإدغام تامين.

أنت تعرف ما حل به، فقد شاركته منذ سنوات بعيدة تلك الزنزانة المكتظة، الباردة حتى الزمهرير في الشتاء والحارقة، واللاهبة في الصيف.

وتلك الأحداث المتلاحقة، والوقائع المختلفة، التي كنتما وجهاً لوجه معها، تركت آثارها المؤلمة ونتائجها القاسية.

تذكرت الحريق الذي شب في ذاك الجناح، ولم تكونوا الفاعلين فيه، أو المدبرين والمسببين له، لكن لعنته الكاوية أصابت الجميع.

وقد شاع أثناء ذلك وبعده حالات شتى من الحصار، والقهر، والتدمير النفسي، تركت الإحباط الرهيب، والخيبة المريرة.

لقد اضطررتم لمواجهة كل ذلك، والتعايش معه، يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، وهذا تطلب منكم الصبر والبأس، وأورثكم الوهن في الأعصاب، والتلف في الروح.

وأنت تنظر إلي يديه المرتجفتين بدت لك واضحة وبارزة آثار الحروق الباقية، التي أضحت كوشم قديم، وهاجمتك، على الفور، تفاصيل يوم الحريق، وصورة صديقك وهو يقرع بقوة تلك القضبان الحارقة بكلتا يديه، وأتتك صيحاته المتشنجة، وهو يطلب النجدة، والمساعدة، مستغيثاً وباكياً.

وصارت تتعالى الصيحات، وتتوالى النداءات، وبعد برهة علت الضجة، وخيم الذعر، وبسط الخوف جناحيه الخرافيين في فضاءات الغرف الأخرى.

كان الموت احتراقاً، أو اختناقاً، هاجساً مرعباً، وقاتلاً، سيطر على الجميع، فألسنة اللهب تتصاعد من الإسفنج المكوم أكداساً هائلة الحجم في زاوية الممر، والدخان المتصاعد، الكثيف، نشر راياته السود كعلامة حداد مباغت.

واللحظات التي عشتها، كانت حداً فاصلاً لاختبار الفرص، والإرادات، والحظوظ، وكانت، كذلك، امتحاناً قاسيا، وعنيفاً، للروح بين نداء الحياة الغريزي، وبين الذعر المدمر من احتمال موت جحيمي.

لقد شعرت في تلك اللحظات الرهيبة، يوم ذاك، أن عمراً بكامله، وبكل ما اشتمل عليه من شتى صنوف السلوك، والمشاعر، والأحاسيس، كالحب والكره، الإقدام والإحجام، الأمل واليأس، الدنو والبعد، الفرح والحزن، الطهر والدنس، الضحك والبكاء، العبث والمعنى، وباختصار، لقد تكثف الوجود كله، والعدم كله في البرهات القصيرة والفاصلة، وشكلت ضغطاً هائلاً بحجم مصير غامض، أو قدر سديمي، مثل طلسم أو لغز، وكان لها القدرة الخارقة، والحاسمة، في صياغة النهاية المحتومة، أو فتح باب النجاة من جديد، وعلى نحو قريب من البداية الأسطورية.

والصورة الأكثر رعباً، والأكثر قسوة، تلك الصورة الرهيبة للباب الحديدي، ولقضبانه، ولتلك الألسنة من اللهب التي امتدت، وتطاولت وصارت تنشر وهجها، ودخانها، وأذاها، والحالة شبه الهستيرية التي أصابت الجميع، فتجسدت في القرع الجنوني على الحديد الحارق، المحمى، والذي غدا كجمر أحمر، بل شديد الاحمرار.

لقد تمكن الخوف، وسيطر الذعر، فهرع الجميع، متناوبين تارة، ومتدافعين تارة أخرى نحو الباب، رغم أن الاقتراب من القضبان يسبب ألماً لا يوصف بسبب من الحرارة العالية التي يرسلها اللهب المتطاول، والدخان الأسود.

لكن، لا الحرارة، ولا اللهب الحارق، ولا الدخان اللافح، ولا اشتعال الحديد توهجاً واحمراراً، كان يمنع من الدنو ودق الباب بحركات وأصوات بدت منفعلة، متشنجة، يوجهها دافع طبيعي وبدائي للبقاء والحياة.

لقد كان يؤلمك كثيراً منظر تلك الأيدي، وهي ما إن تمسك بالحديد حتى تكتوي بتلك النار التي أضحت كامنة فيه، فيصيبها التشوه في الحال، وتغدو الصرخات والنداءات أشبه بالعويل، والنشيج.

وصرت تستعيد ما أعقب تلك اللحظات، وكان صديقك يروي لك تفاصيل جديدة عن تنقله من سجن لآخر، وأحوال الأيام الغريبة التي عاشها.

- هل ستكمل دراستك؟

سألته بصوت خافت.

- بالطبع. سأعود إلى الجامعة، وبعد شهرين سأقدم امتحاني في مواد السنة الأخيرة الباقية.

أجابك بثقة.

وكنت تتأمل من جديد وجهه، وتنظر ملياً في عينيه، وأنت تستمع إلى كلماته.

وأدركت أنك أطلت في زيارته، وقدرت الراحة التي يحتاجها، فودعته وخرجت.

 

 

المــواجــهة

 

 

تشعر بتعبٍ شديد، وهي تصعدُ درجَ العمارةِ المتهالك، وتحاذر بعد كل درجةٍ ترتقيها كيْ لاتنزلق قدمها. إذْ لاتخلو أية درجةٍ منْ تكسُّرٍ في حوافها، أوْ تشقق في سطحها المشوَّه.

بل وزاد في قسوةِ الأمر، هذا المكان الذي تحوِّطه القذارة من كل جانب، والرائحة المقزِّزة التي تبعثُ على الاشمئزاز وتدفع إلى الشعور بالغثيان المؤلم.

تفتح بابَ البيت، وتسرع إلى أول كرسي تغرق نفسها فيه، وقد أخذ منها الإرهاق كل مأخذ، فتستسلم لراحةٍ محدودة، لأنها تشعر بعجزٍ كبير، لنْ تقوى معه على القيام ببذلِ أي جهد، فما واجهته كان صعباً وقاسياً، وسيمضي وقت طويل كيْ تذهبَ بعضُ آثاره.

لقد كان الطريقُ طويلاً، والحرّ في تلك القرية البعيدة لايطاق، وقد عانت كثيراً قبل الوصول إلى ابنتها.

أصبحت القرية هدفها في كل شهر، وهي ليست زيارة لابنتها فحسب، بل صورة غريبة وموحشة في اللقاء مع قدرها الغامض، ومواجهة مؤلمة مع مصيرها المظلم.

تفكر "ندى" في تلك الدموعِ التي انطلقتْ مثل سكاكين حادة تنْغرزُ نِصالُها في القلبِ المتعب.

وتحتضن، أيضاً، تلك الأسئلة التي تلكوها البنت الصغيرة كل لقاء متوسلةً، وراجيةٍ، ولاتجد لها سوى أطياف من رغبة مرجوَّة، أو صور لحلمٍ عزيز.

لقد أدركتْ "ندى" أنها تعيش حقيقة واحدة، هي خوفها الذي يكبر ويمتد، وباتت وجهاً لوجه أمام محنتها القاسية مع الوحدة، والعزلة، والضعف.

ومرةً بعد مرة، أصبحتْ تشعر أنها غير قادرةٍ على الخروج من هذا الاختبار الجحيمي منتصرةً لها القيمة والاعتبار.

لكنها، وهي تتذكر محاولاتها في المواجهة، وتحطيم تلك الحدود، تحسّ بشيءٍ من القوة يحلُّ في نفسها، وطيف من نصرٍ مأمولٍ يسكنُ روحها.

تسترجع وضعها السابق الذي عاشته لفترة عندما كانت تعملُ بائعةً في محلٍ للألبسة، وإحساسها بالحرية يغمرها على نحوٍ شامل.

تتذكر تلك الشقة الصغيرة التي أقامت فيها مع تلك العجوز الطيبة، الحنون، وقد كان الرضى والأمان يظلّلان تلك الأيام.

تأتيها صورة "نبيل"، ذلك الشاب الجامعي الذي سكن الشقة المجاورة، وتلك الأحلام الملونة التي رسمتها معه ذات يوم.

إنها تدرك أن الوعود الصادقة التي سمعتْها من "نبيل" تنتظرها، وماعليها سوى أنْ تحسمَ أمرها، وتنتصر على خوفٍ أزلي سكن في العيون والأهداب.

ترى هل تستطيع؟!.

قالتْ مرةَ لـِ "نبيل" :

- "أنا أعيش جوراً رهيباً، تلخصه بحدة حروف اسمي. ندى. النون نفق مظلم أسكنه ولاأقوى على الخروج منه. الدال دماء غريزة تقطر من جروحي. أما الألف فهو آهات طويلة لاتنتهي.".

لكن "نبيل" يتطلع إليها بحنو، يمسِّد شعرها برقة، ويجيب على نحوٍ مغاير:

- "بالعكس. أنا أرى أن حروف الإسم لها قراءة أخرى. ندى. النون نور يشع من وجهك، نور بحجم كون لايُحدّ. الدال دوح ظليل ينتظر قرارك.

والألف أمل أقدمه لك وأعدك بالإنتظار.".

يأيتها صدى حديث صادق وحار، استمعتْ إليه من زوجين حاولا أن يفعلا شيئاً يحمل قيمة جديدة لحياتها. وعلى نحو مباغت، يعتريها شعور يشتمل على الحقد، وهي تدرك أسباب ذلك، فبعد قليل سيأتي زوجها الذي ملَّتْ أكاذيبه، نعمْ. سيأتي محمَّلاً بقسوته وشكوكه.

تنهض بسرعة، تفتح البابَ وتخرج، وأطياف منْ حلمٍ بهيج تدفعها للأمام، وتدعوها بقوةٍ وإصرار.

 

 

 

نـدى.. وحالات الإسم المقهور

 

 

لم يكن بمقدورها الهرب من قبح هذا الوجه، أو التحايل على تحمل بشاعته.

لقد أيقنتْ أن أيامها قد أسفرتْ لها عنْ أشرسِ وجهٍ قُدِّر لها أن تواجهه، وأنْ تعيشَ كل تلك الفترة الماضية في حالةٍ من الصبر تارة، ومن رسم الخطط وتجريب المحاولات من أجل الخلاص والنجاة تارةً أخرى.

كانت المفاجآت تداهمها في كل خطوة، ويحوَّطها شبح لاتقوى على إبعاد ظلاله التي تزرع في نفسها الهلع، وتورث في روحها الضعف، والهزيمة الساحقة.

لم تكن "ندى" لتعرف أنها ستواجه كل هذه القسوة، ولم تكن لتتخيل أنها سترى هذا الجور، وتعيش صور القهر بهذه الحدة، وعلى هذا النحو القاتل.

كان الزمن حزناً متصلاً، وجربت أنْ تحياه بأقل الخسارات، من آلام العيش مع زوجها السابق، في ذلك البيت الريفي في القرية البعيدة، وأيضاً معاناتها المضنية مع الزوج الثاني في الزاوية الصغيرة والمعتمة لذلك الدكان المنعزل حيناً، وفي البيت الخانق في العمارة القذرة والمتهالكة حيناً آخر.

لكن العزاء الكبير الذي زيَّن لها صبرها على كل ذلك، هو حلمها الزاهي، وقد سعتْ باستمرار باستدعاء هذا الحلم، والدنو من سياجه الآمن، لأنها قدَّرت أنَّ خلاصها يكمن فيه، فهو المنجى الوحيد والأكيد، وقد علَّقتْ عليه آمالها الكبرى، ومطامحها الموعودة، التي رسمتها بكثيرٍ من الانتظار والفرح.

لقد قدرتْ أن طيّ الصفحات السود قريب، وأن ذلك حاصلٌ لامحالة، وسيكون لها شأن مختلف بحدوث ماترقبه.

وقد كانت اعترافاتها لي مؤخراً في غاية الغرابة لأنني لم أكنُ أستطيع مواجهة تلك الاعترافات دون أنْ أظهر تأثري السريع، ولمْ يكنْ هذا التأثير أمراً هيناً بالنسبة لها.

ربما ترى هذه الاستجابة جديدةً عليها، هكذا قدرتُ لأنني عرفتُ أنها تحكي بعض فصول سيرتها للمرة الأولى.

وبين برهةٍ وأخرى تلتقي نظراتي بنظرات زوجتي، ويقوم بيننا للتو نوع من الاتفاق حول هذا الواقع البائس الذي واجهته "ندى" وكيف قُدَّر لها أن تعيش حالةً عجيبةً من المفارقة المؤلمة بين اسمها الرقيق وبين نقيضه الصارخ.

وفيما بعد، ستقول لي زوجتي أنَّ النون يُحيل إلى النحس أو النكد، والدال مشتق من الدموع أو من الدم، وعندما سألتُها عن الألف، الحرف الثالث من الإسم. فكرتْ طويلاً، ولم تعثر على جوابٍ يناسبُ هذا التحليل.

قلت لها:

- "إن الألف ألم ممدود أو أنين لاينتهي".

وتقول "ندى":

- "إن زيارتي الأسبوعية لابنتي الصغيرة كانت عذاباً جحيماً لايُطاق".

وتتابع فتقول:

- "كان أقسى ماأواجهه منها هو سؤالها الأهم.. عن سر ابتعادي عنها، وكنتُ أتمزق ألماً أمام توسلاتها من أجل البقاء معها".

لقد حدثتنا "ندى" عن تلك الظروف التي أجبرتْها على ترك زوجها السابق، والتخلي مكرهةً عنْ طفلتها، وكيف اهتدتْ للعمل بائعةَ في محل للألبسة، وعن أيامها القاسية التي عاشتها وهي تواجه نظرات أبيها، وشكوك زوجته، ثم تبعة طردها والتنكر لها.

 

خرجت "ندى" في ليلةٍ حالكةِ السواد، تقدّم رجلاً وتؤخر الثانية، ومن يومها حلَّ في نفسها كرهٌ متحكم لصورة الليل، التي اقترنتْ عندها بالمخاوف جراء مواجهةِ مصيرٍ مجهول.

وأنا أستمع إليها، كنتُ أعيدُ التفكير في أمر هذا اللقاء، وألوم نفسي لتسرعي في طلبه، وأصفُ إلحاحي بأنه أهوج وانفعالي.

وتساءلت مراراً عن جدواه بالنسبةِ لها، وعنْ إمكانية تحقيق بعض النتائج المرجوة أو المتوقعة.

قلتُ لزوجتي:

- "هل ستوافق".

- "لاأظن". قالت لي.

وسألتها:

- "هلْ سيؤلمها ذلك".

حدقتْ فيَّ بتركيزٍ مثير، برهةً طويلة، ثم أجابتني بسؤالٍ قريبٍ لسؤالي:

- "هل تظن أنها تستطيع بسط آلامها بسهولة والحديث عنها مع شخص غريب؟"

واعترفتُ، بيني وبين نفسي، بأن زوجتي على حق، لأن المسألة دقيقة وحساسة، والخوض فيها يسبب إحراجاً كبيراً لن يكون التغلب عليه سهلاً.

لكنْ، واستجابةً لرغبتي الملحة ستطلب منها البقاء كي أتحدث معها.

تلك كانت رغبتي، لمساعدتها في معالجة جيدة لأيامها الحاضرة، لكنْ، وبشكلٍ مفاجئ وجدتُ نفسي غارقا في الاستماع لماضيها الذي لم يكن سوى سجن مسور بالأسى.

فقدتُ مبادرتي، وتبخَّرتْ رجاحتي، وماأتصف به من سلوك حكيم، ووجدتني عاجزاً عنْ تقديمِ حلٍّ ما، أوْ بسطِ فكرةٍ منقذة.

- "هذا ظلم!". أقول في نفسي.

وعندما صارت تحكي لنا كيف عاشتْ في زاوية ذلك الدكان، مع أصوات المحركات، ورائحة المازوت والبنزين، وقصتها الجديدة مع الميكانيكي الذي اختارته زوجاً، أيْ حلاً، من أفضل الحلول السيئة، وكيف كان يغلق عليها محله ليلاً، تبدأ فصول البؤس بالاكتمال، وتبدأ حروف الآلام بالتشكل، وأُقدِّر أنه مامنْ كلمةٍ مهما كانت قيمتها ستفعل شيئاً، فأستمر بالإصغاء مثلما كانت تصغي هي في الليل إلى أصوات السكارى وهم عائدين إلى بيوتهم مترنحين، فتتكوَّم على نفسها، وترتجف، وتعيش الخوف كله، وتظن أن واحداً منهم سيكسر القفل ويداهمها بتهديده وبطشه.

أضيفت في 30/03/2005/ خاص القصة السورية من مجموعته أمطار صيفية الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب

 

 

 

الزيـــــارة

 

اكنت تصغي بلهفة إليها، وكانت كلماتها التي يقطر منها الشوق دافئة، ندية، مضمخة بالحزن، وقد أكسبتها تلك الدمعات الصغيرات حميمية قصوى، وإحساساً ضاغطاً، وشعرت بأن صبرك يتلجلج، وثباتك يهتز، بل، أضحى كيانك كله موضع اختلال أكيد.‏

ورحت تبحر عميقاً في العينين الحمراوين، المتوهجتين بهذا البلل الحارق، المؤلم، وقد راح يوشحهما ببريق يتلألأ بسطوع خافت.‏

وكان أخوك يحاول الانشغال مع الزائر القريب كي لا يفضح تأثره مما يرى، ويسمع، وخلت أن هذه الكلمات، وتلك الحرارة الخاصة التي تصدر عنها قد قربت هذه المسافة الفاصلة بينكما، وصرت تتخيل أن حاجز السلك المزروع أمامك قد تراجع أو اختفى، أو كاد وجوده يمحى من اعتباراتك تماماً.‏

في كل مرة، كنت تلوم نفسك، لأنك تنسى بعض ما تود قوله لها، وهي فترة تمتد من أسبوع إلى ثلاثة أشهر، موعد زيارتها لك، حسبما يتم الحصول على بطاقة الزيارة.‏

أجل كانت تنقضي تلك الدقائق السريعة بلمح البصر، وأنت تعتصر، دائماً، ما يتبقى من الوقت لتبلغها حزنك، وشوقك، وبعض وصاياك إلى أصدقائك خارج هذا السجن القاهر.‏

لكنك، كنت تجد نفسك مستسلماً كلياً، لما ترسله لك من بوح، وما تراه وجداً يتفتت في حديثها وتقول في نفسك، بأن كلماتها ستكون لك خير الزاد، في وحدتك هنا، وهذا الزاد هو الضامن لتحملك، وجلدك، حتى موعد الزيارة القادمة.‏

كانت تسألك دائماً:‏

- "متى ستخرج؟"‏

وفي كل مرة، وأنت تواجه هذا السؤال، يعود بك خيالك إلى الأيام التي كنت تخرج معها في النزهات وأنتما ترسمان الآتي لكما.‏

وكنت تجد راحة كبرى وأنت تراها في تلك الحماسة، والمشاركة، وتقول لنفسك دائماً، بأنك -وهي معك بهذا الشكل- لن تخاف من أي شيء، وما من قوة تستطيع تبديد هذا الحلم المتوهج، أو تشويه صورته الفاتنة.‏

وأصدقاؤك، أيضاً، كنت تدخلهم في أسباب قوتك، وقوة ذاك الأمل المنشود الذي رسمته ذات يوم، وكان الرسم زاهياً، مواراً يطيف الفرح، والعالم بهذا الرسم، تقول لها، سيغدو أكثر نقاءً وبهاءً، وأكثر جمالاً.‏

- "متى ستخرج؟".‏

تسألك، وتضيف:‏

- "لقد صدر عفو في المغرب".‏

تتطلع إليها، وحيرة عظيمة تغزوك فجأة، وتهتاج روحك بحدة، وتضطرب نفسك، وتسألها بصوت خفيض:‏

- "هل أحضرت لي كتبا؟".‏

- "نعم. بالطبع.".‏

تجيب مسرعة.‏

وصارت تذكر لك عناوين الكتب التي حملتها لك وتستدرك:‏

- "آه... نسيت أن أقول لك.... لقد فاز "نجيب محفوظ" بجائزة نوبل".‏

وسرور كبير يدخل قلبك، لأن إعجابك بهذا الكاتب كان قوياً، ولجنة نوبل السويدية، قلت: أنصفت الأدب العربي هذه المرة.‏

ينتهي وقت الزيارة الخاطف، يودعك أخوك، ومهتاجة، ودامعة، وحزينة، تكون كلمات الوداع، وعندما تنظر في عينيها من جديد ترى الحمرة تزداد على نحو ملحوظ، ويتلألأ أكثر فأكثر البريق الساطع، والمضبب كذلك، وينقبض قلبك بألم مرة أخرى، وأنت ترى الدموع وهي تبلل خديها، وقد انبجست خافتة، صموتة، وآلمك، كثيراً بقاؤك أمامها ساكناً، متحجراً من الأسى والضعف، ونداء متنام بداخلك يدفعك كي تلتقط حبات اللؤلؤ المنسابة... ولم تفعل.‏

تهرع إلى النافذة، تتابعها في طريق العودة، تراها تلوح لك بيديها، وهي تخطو خطواتها كغزال أبيض يمضي فوق عشب أخضر، والطريق يمتد ويطول، مثل وقوفك عند النافذة حتى تغيب وأخوك. ولم تعد تميز منهما سوى الأثر الباقي لهما في روحك ووجدانك.‏

تحتضن هذا الأثر، تدعه يتوغل عميقاً، فعميقاً، ليستقر، وستناديه كي يؤنسك في الحالكات، باسطاً عونه الرؤوم.‏

سيفرحك بقاؤه، وبعد ذلك تذكره والحنين إليه، وأنت تعتاد الوداع... والغياب.‏

 

 

 

 

الـوداع الأخــير

 

(إلى الصديق الراحل القاص هيثم الخوجة)‏

 

وددت لو أنك تستطيع البكاء لكنت فعلت ذلك بغير إبطاء، وبكل ما تختزنه من حسرة ولوعة، ولا يهمك إن ضج صوتك نائحاً، لأن هذا سيريحك حتماً، ويفرج عنك هذا الضيق الذي أنت فيه.‏

لكن أن تبقى، هكذا، أسير نشيجك الصامت المقيد بألف وثاق إلى داخلك الآسيان، فهذا يعني لك الاختناق في غيظك تماماً.‏

وتستغرب ذلك، ولا تجد له أي تفسير يقنعك، وهذا مما يزيد من عذابك، ويضاعف من حزنك.‏

تمشي بخطوات ثقيلة، وتعاني ألماً مبرحاً في جرجرة قدميك، وتشعر أنهما قد انفصلا عن جسدك، وليست لك القدرة في السيطرة عليهما، كما في السابق من الأيام.‏

وتنظر إلى أرجاء الباحة فترى الجميع يسيرون فرداً فرداً، غارقين في الأسى، كأنهم اتفقوا جميعاً، وبدون إعلان، أنْ ينسحبوا كلهم إلى ذواتهم، كي يعيش كل منهم برهته الخاصة، والاستثنائية، في التفجع، والتذكر، والوحدة.‏

ورحتَ تتخيلهم يمشون في صفوف منتظمة، مشدودة، مترابطة، كأنهم يشيّعون جنازته في وداعٍ أخير، وإلى الأبد.‏

كان الكل صامتين، خاشعين، في سيرهم وراء تلك الجنازة التي تقطع طريقها وصولاً إلى المقبرة.‏

سيرقد النعش قليلاً على الأرض، قرب القبر المهيّأ للتو، وستلقى نظرات الوداع الأخيرة، النظرات الجريحة، وسيبكي ذووه، وأصدقاؤه الخُلّص بحرقة.‏

أما هنا في هذه الباحة فلا بكاء ولا همسات وما من صوت لوقع خطاهم الوئيدة.‏

منذ يومين كانوا يملؤون الباحة لعباً وضجيجاً وصخباً متعالياً، وكنت بينهم، تتابع بشغف لعبة كرة القدم تلك اللعبة التي تضفي على الدوام في تلك الساعة اليومية في الباحة نكهة خاصة، مميزة، تستمتع بتأثيرها المبهج، وهذا السرور كان لا يقل عن سرورك في الأحاديث المختلفة، والنقاشات المتعددة، التي تطال كل شيء، من أخبار الأهل والأصدقاء في الخارج، والكتب التي وصلت حديثاً، إلى أصداء الحرب العراقية- الإيرانية، وردود الفعل المختلفة على الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.‏

ويوم علمتم نبأ موته أمس، وكان يوم الخميس يوم الزيارات الأسبوعية المعتادة، خيم على الفور سكون رهيب فوق الجميع وحل صمتٌ قاسٍ وكئيب في الغرف، أشبه بصمت مقبرة.‏

وعندما بدأتم بتبادل التعازي فيما بينكم كنت تشعر أن كل واحد منكم كان يقدم العزاء لنفسه أولاً.‏

لم تكن مستعداً لتصديق ذلك النبأ القاتل، وتساءلت في نفسك:‏

- (هل سيغيب وجهه إلى الأبد).‏

وصوته الغاضب الذي كان يدوي بعبارته الشهيرة "الفأس يا امرأة؟" هل سيختفي نهائياً؟!.‏

والأغاني الحزينة في سهرات رأس السنة، كانت تأخذ بعداً حميمياً، واستثنائياً، عندما يغني بلوعة وحرقة لحبيبته المنتظرة، هل يموت صداها الدامي، ورجعها الحنون؟!.‏

كان غناؤه ملح حياتكم هنا، وستذكر طويلاً "يا ديرتي مالك علينا لوم" وسترحل دائماً إلى الأمداء الواسعة، والبراري التي بلا حدود، والوجود البعيدة، كلما تذكرت نداءاته التي يطلقها، وبوحه الذي يرسله كل مساء.‏

في صف طويل تخرجون من الباحة، وتدخلون مقهورين إلى الغرف الباردة، ومجدداً تغرقون في صمت حزين ويساوركم آسى بلا حدود.‏

ترنو إلى النوافذ المتجاورة، وتتخيله يرقب منها الدروب الطويلة، والأفق الأزرق.‏

كان طول الوقت يذوي ويتآكل من داخله كأنه كان على موعد مع الرحيل المبكر، ولم تكن لتدرك ذلك!.‏

وعبارة(الفأس يا امرأة) تغدو عند الجميع شارة خاصة، ورمزاً غريباً، وكان يصر عليها.‏

تنهض، تتجه إلى النافذة، وتصرخ باكياً:‏

- "الفأس يا امرأة".‏

لقد أدركت الفرق منذ مدة بين الفأس وبين الكأس، وعلى الفور، وما أن تنزل عائداً إلى مكانك، وتتطلع في الوجوه الساجية حتى تقر بما أدركت، وتعيش حالة من تفجع لن تنتهي، وستعتاد حزنك، وسيلازمك البكاء، كلما أتتك أصداء أغنياته.‏

ورحت تتفحص الأمكنة، وتتلهى بذكر الأسماء، صامتاً وبطريقة مفاجئة حاولت أن تمسح الوجوه بسرعة، وعندما حط بصرك على مكانه المعتاد، وهاجمك الفراغ بكل شراسته أدركت معنى الوداع الأخير.‏

وكانت غفوتك الطويلة وبكاؤك المخنوق وصوتك الذي يختلج، حالات يومية تلازمك، وتضعط على روحك ووجدانك مثل كابوس لا ينقضي.‏

  

 

 

طريــق اللـؤلـؤ

 

"أمسكوا بالجمرة جيداً إنها لن تحرقكم، لكنها ستضيء دروبكم"‏

- حكمة آسيوية -‏

وكان يضحك مثل جدول تراقص المياه حصاه الغافية، وهو يتدفق بأشكال شتى، مرة بانسياب، وأخرى كالهدير، أو كالتساقط العنيف لشلال.‏

وكان الخدر يتسلل بخفر إلى الجسد، لا أدري هل من التعب، أم من سحر المساء، وهو يرشقنا بلونه البرتقالي عبر شباك الصومعة، أم الخوف، أي الخوف من ضياع، أو، فقدان كنزنا/ جمرتنا، التي اكتشفناها بعد طول بحث.‏

ها هي الصومعة أخيراً، لقد حكى لي كثيراً عن صديقه، وعن الصومعة، لم أفاجأ به، لأنني عرفته، من خلال حديثه، وروايته لأخباره -وعرفته اليوم أكثر فأكثر، من تلك الأشعار التي قرأها لنا، ومن عالم قصته القديمة التي تأثرت بها كثيراً، وكان يلقي القصائد ويتلو القصة بطريقة هامسة، كمن يتمثل صلاة خاشعة.‏

أعطيته الدفتر الصغير، كنت قد كتبت عليه بعض خواطري، صار يقرأ في دفتري، ورحت في حديث متشعب، أنا وصديقه.‏

تطلع إلي، وراح يقرأ‏

- الورقة الأولى:‏

.. ورحت أبحث عن الأسباب، وأرى إلى الظواهر، جاهدة في تفسير الحالة التي أعيش، قد لا أستطيع أن أحدد بدقة ما يميزه عن الآخرين، لأركن إلى السبب الأول، وقد لا أكون على صواب تماماً في جعل ما أحس به كتعليل أخير.‏

لكنني صرت أكره الشروح المبوبة، وأمقت التفسيرات العديدة التي تحدد التغيير المفاجئ الذي داهمني.‏

إذن، هل أقول بأن ما أحسُّ به هو المعيار؟ لن أذهب بعيداً بالرأي المبهم، لأنني أدركت فرحي، ورحت أدلل عليه، وأمعن في الراحة والرضى.‏

لكن، لم أتتني هذه الرغبة في الاعترافات؟‏

هل كي أجد التبرير المقنع، والمشجع، لاندفاعي وتسرعي؟ وهل أكون مندفعة ومتسرعة إذاً كنت صادقة مع أحاسيسي ومشاعري؟ ما يهمني في هذه اللحظة، أن ألقاه، سأحاول أن أصل قبل الموعد.‏

إنني أجد من الممتع لي، أن أنتظره بعض الوقت، ترى هل سيتأخر؟‏

- الورقة الثانية:‏

دخلت غرفتي، أشعلت النور، وشيئاً، فشيئاً، رحت أميز الأشياء، كأنني أكتشف علاقتي بها للمرة الأولى، أو أحددها على نحو جديد.‏

الكتب... المجلات... وساعة الحائط القديمة هذه، التي لا تتعب في الإمساك بعنق الوقت، والإشارة إلى ما يضيء النفس من حزن ومسرات.‏

هذا لهم، هذا له، هذا لي، وهذه لنا.‏

وبإصبعي يممت شطر الساعة كأنني أقول "هذا الزمان لنا".‏

آه، تذكرت... الزمان.... الزمان... لقد حكى لي كثيراً هذا اليوم عن الزمان، ولكن كم بدا متسربلاً بوشاح الحزن.‏

أمسك يدي، وأطبق بحنو بالغ يده الدافئة، وبصوت يشبه صوت طائر غريب قال لي:‏

- "أتعرفين؟ لو يتوقف الزمان. لو تتأبد هذه اللحظة إلى آخر الدهر".‏

على الفور، أكدت له رأيي النقيض، إن الزمان يساوي الحياة، قلت له، وقلت كذلك، هو كتلك الشجرة المورقة، الخضراء، كهذه الغابة الجميلة، كاتفاقنا معاً.‏

وامتد خيط الكلام من فمي، وامتد....، وامتد...، وصرت أتحدث، وأحلم، وأذهب في نشوة عارمة، غمرتني بالحبور، كمن يعيش الفرح كله.‏

الفرح... آه، ... الفرح...‏

قال لي إن الفرح قد سرق منه إلى الأبد، ثم صمت طويلاً، وراح ينظر في عيني. بعد برهة ظننتها التاريخ كله، خرج من صمته، وتكلم بأسى قاس كما السكين وهي تعلن عن طعن شبح مخيف لا اسم له. وله كل الأسماء، أذكر أنني عرفت له واحداً منها. لم يرفع نظراته عن عيني أبداً، وهو يحكي عن حبه لمدينته، ولأمه، وللأصدقاء. كما كرر شكواه من ذاكرته، ومحاولاته العديدة في اجتثاث مكمن الداء فيها، واعترف لي بأن ذاكرته هائمة دوماً، لا مستقر لها.‏

صنعت فنجاناً ثقيلاً من القهوة، وصرت أرتشف بجرعات كبيرة، دون أن أنتظره كي يبرد. لم أكن أشرب قهوتي بهذه الطريقة الغريبة، والسريعة، لذا هاجمني على الفور صداع غريب، وقوي، ورحت أحتال عليه بالشرود والنسيان.‏

وشاغلت نفسي بتخيل شكل الصومعة التي سنزورها في الغد، ورسمت في ذهني صوراً مختلفة لصديقه الذي يعيش وحيداً في صومعته البعيدة عن المدينة، كوعل ضائع في غابته الكبيرة، وأخرى كشاعر صوفي ركن إلى ذاته بعد قلق، أو كحكيم آسيوي عجوز ترك الدنيا، وعاش منعزلاً يشعر بالأمان، ويطيل التأمل.‏

طردت تلك الصور كلها، وقمت إلى النوم".‏

- هذا شيء رائع. قدرتك واضحة. أنت تجيدين الكتابة... صور، تخيلات".‏

قال لي ذلك، بعد أن فرغ من قراءة دفتري الصغير.‏

الظلام ينذرنا بتأخر الوقت، وكان يهرب من الشبابيك، ويرحل نحو البرتقال العالي.‏

- "هل نذهب؟"‏

قلت له.‏

- "نذهب".‏

قال لي.‏

ونهضنا، ونهض صديقه، رجل الصومعة، الحكيم الآسيوي -هكذا صرت أسميه. رغم ظلمة الدرب، كانت التخوم شبه واضحة، وكنا نرى التحديات الدالة، كالأشجار، والحصى، والقمر، وحفيف أقدامنا على الطريق يتناغم مع وشوشات الحجارة التي كانت تصرُّ أن تبلغنا هسيسها الفرحان.‏

أمسكت يده، وأطبقت بقوة، وأدركت أنه أحس دفء الطائر الأبيض لحظة كان القمر الفضي يتسلل إلينا عبر أوراق الشجر الملتف، يهمس في آذاننا، يداعبنا، يقرصنا من خدنا كصبي صغير يعيش لهوه اللائق.‏

- "لا تدعوا الجمرة تفلت منكما، إنها الخميرة الطيبة، إنها تجوهر الدرب".‏

هكذا قال لنا الحكيم الآسيوي، رجل الصومعة، ونحن نمشي خلفه فاتحين صدرينا وقلبينا للرذاذ الرطب، البهي، الذي صار يتنزل من البرتقال البعيد في السماء، وكانت النجوم التي كاللؤلؤ تنير الطريق، مثلما كلمات الحكيم لنا.‏

- "الحياة قصيدة يجب أن تعاش هكذا".‏

وشيئاً، فشيئاً، صارت أنوار المدينة تقترب، وصارت تتصل -هكذا كان يخيل لي- بالإشعاعات البهية النازلة من القمر/ البرتقالة.‏

قلت له:‏

- "نلتقي غداً؟"‏

- "أجل سنلتقي"‏

- كتابة ليست من دفترها:‏

"ما كانت تخاف حدوثه حدث".‏

لقد غابت تلك الأيام، ومضت بسرعة، والحكيم الآسيوي غاب كذلك، وغابت معه حكمته وتأملاته.‏

غربة جديدة تنتظرك، أم ماذا؟‏

 وولعك بطريق تنيره شعاعات من نجوم كاللؤلؤ، هل يدفعك إلى دروب جديدة؟ تلملم أوراقها، وأوراقك، وتفتح الباب وتخرج إلى الشارع، وكانت الأمطار تغسل الطرقات.‏

 

أضيفت في 25/11/2004/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية