ابْتِسَامَةٌ مُتَرَهِّلَة
حَـتَّى ألوانُ اللَّوحةِ الزَّيْـتِـيَّـةِ بهتتْ معَ
الزَّمَنِ .. وتَغَيـَّرَ كلُّ شَيْءٍ إِلى لَونٍ يَنْقُصُهُ اللَّونُ ..
شاحِبٌ بِلَوْنِ الغُبارِ المنبعِثِ مِنْ فُوَّهَةِ الحُزْنِ الـنَّابِتِ عَلَى
أَرِْضِ الفَقْدِ كَحَشائِشَ صفراءَ سَرَقَتْ خُضْرتَهَا شَمْسُ اليَقَظَةِ ..
يَقَظَةٌ مِنْ حُلُمٍ أبطالُهُ : كائناتُ الصمتِ الغائبةُ في
مَـتَاهاتِ الظُّلْمَةِ ..
يَعودُ راحِلاً بِنَظَرِهِ عَنْ شُحوبِ اللَّوْحَةِ ..
لِيَشْهَدَ صُمودَ فِنْجانِ القَهْوَةِ أَمامَهُ ..
يُـدْنِيهِ مِنْ شَفَتِهِ الدَّاكِنَةِ .. يَرتَشِفُ رَشْفَةً
مِنْ طَرَفِهِ وَ يُعِيدُهُ إِلَى طَبَقِهِ فَيُمَارِسُ الهواءُ الباردُ هوايةَ
تغليفِهِ بِالصَّقيعِ .. لِتَكونَ الرشفةُ التاليةُ بنكهةٍ أكثرَ برودةً ..
وأسْرَعَ وُصُولاً إِلَى القَاعِ ..
يُحَدِّقُ في داخِِلِهِ .. وَلا يَرَى صُورَتَهُ إِلا عَلى
جُدْرانِهِ بِهَـيئَةِ أَدْغالٍ سوداءَ .. تتشابَكُ أغصانُ الأَشْجارِ فِيها ..
وَ يَتِيهُ في غابَةٍ مُظلِمَةٍ .. تُلاحِقُهُ أَصْواتُ كائناتِ الحُلُمِ
ذَاتِهِ .. فَيَزدادُ تِيهاً .. وَ تَتَسَارَعُ دَقَّاتُ قَلبِهِ .. يَلتَقِطُ
أَنْفَاسَهُ سَرِيعَةً .. يَركُضُ .. وَ يَركُضُ .. ثم يُشِيحُ بِنَظَرِه عَنِ
الفِنْجانِ .. فَيَعودُ إِلَى غُرفَتِهِ في المنزِلِ .. وَتَهْدَأُ نَـفْسُهُ
.. سائِلٌ أسودُ لمْ تَذُبْ فيه أيةُ قِطعَةٍ مِن سُكَّرٍ ,
وأَيةُ نَكهةٍ مِنْ حَياةٍ .. كُلَّما قَرَّرَ ارْتِشافَهُ يُؤَمِّلُ نَفسَهُ
أَنْ يُشبِعَ بَحْثَهُ عَن بَقايَا الأشياءِ .. رُبما يجدُ شيئاً حِينَ يحدِّقُ
في القَعْرِ .. قبلَ أَنْ يَغْسِلَ الفِنْجانَ .. رشْفةٌ أُخرى .. بَدَأَ يَستَيقِظُ مِنْ كابُوسِ اليَقَظَةِ ..يتشبَّثُ بِصَخَبِ صَوْتِها وَهِيَ تُعاتِبُهُ ؛ حَتـَّى
يتأكَّدَ مِنْ أَنه مَوجُودٌ وَ عَلَيهِ أَنْ يُقَرِّرَ حالاً .. عليه أن
يَضغَطَ عَلى الجُرحِ .. وَ يَقتُلَ الأَلَمَ
-عزيزي
.. الأوراقُ التي لامستَها بِشَغَفِ المحبِّ .. وَحَناجِرُ الأقلامِ التي بَحَّ
مِدادُهَا .. أَ تَضيع ؟!هل تتركُ الأرضَ غيمةٌ ما تزالُ تحملُ قطرةً من حياةٍ .. هَلْ
يُجرِمُ النِّسيانُ في ذاكرةٍ مزروعةٍ بأطيافِ الوعدِ بالبقاءِ والالتصاقِ ؟! .هل نسيتَ أنَّ الريشةَ حِينَ تغيبُ عَن مِحبَرَةِ اللَّونِ
تَتَجَمَّدُ وتَتَصَلَّبُ .. وَتَرْفُضُأنْ تسيرَ على أيِّ سطحٍ مهما كانَ فاتِناً .. هلْ تتركُ نفسَكَ
بعدَ كُتُبِكَ تلثُمُ نسماتِ الفقدِ , وتبكِي بِأنَّاتٍ لا تُشبِهُ روعَةَ مَا كتبتَ
وقرأتَ فيما سَتفرِّطُ فيهِ ؟! لماذا تُعاتِبُهُ, أيُّ نصرٍ ستحقِّقُهُ , أيُّ شيءٍ تصبو
إِليه مِنهُ .. هلْ عليه أن يكونَ أصمَّ ليبرِّرَ صمتَهُ .. و يتابعَ التفكيرَ
في التفريطِ بكتبِه لأجلِ النقودِ .. و لأجلِ ألا يقترِفَ الشحاذة أو تُذيقه
الحاجةُ إلى الناسِ طعمَ الذُّل ؟! ..
-عزيزي
.. هل أطلبُ من أخي أن يساعِدَكَ !!
هل عليهِ أنْ ينظرَ إلى غروبِ الشَّمسِ .. ويَصِفَ الشُّروقَ
!! .. لتكفَّ عن وخْزِهِ و يكفَّ عن صمتِهِ ..
-منه
القليلُ .. ومن صديقِكَ " جمالٍ " القليلُ .. ولن تضطرَّ لتحقِيقِ فِكرَتِكَ
المخِيفَةِ ! يمسِكُ بأُذُنِ فِنْجَانِهِ .. يميله بالاتجاهاتِ الأَرْبَعَةِ
.. يحرِّكُ السَّائِلَ على جُدرانِهِ ليُخفِي تشقُّـقاتِهَا ..
يقولُ برتابةٍ :
-كثيرةٌ
هِيَ الكُتُبُ .. سَأُسَدِّدُ كُلَّ الفواتيِرِ .. وَ لَنْ أَحتاجَ إِلى الناسِ
!!
-جابر
.. لا تتعجَّل !!
-
!!
* * *
في سَاحَة الجابِرِيِّ .. وبالقرُبِ مِنْ تمثالِ الشُّهَداءِ (
* ) .. يُخرِجُ كُتُبَهُ كتاباً كتاباً من الأكياسِ السوداء .. يصُفُّها
بحركةٍ هادئةٍٍ متعَبةٍ .. يَعْرِضُهَا .. يُعَرِّيهَا .. وَ يَتْرُكُهَا
عِرْضاً لَهُ يَشهدُ على بيعِهِ وَ قبضِ ثمَنٍ بخسٍ لا يساوِيهِ ..
هناكَ شيءٌ يمسِكُ بخناقِ رُوحِهِ .. يَشُدُّ بِقَبْضَتِهِ
عَلَيهَا .. كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنَ المَوْتِ .. بَسَطَ القبضَةَ .. وأَشبَعَ
الرُّوحَ بِالهَواءِ .. فَخَنَقَتْهُ الحَيَاةُ ..
آهٍ لو أنهم لا يمرونَ مِن أمامِهِ بهذِهِ النَّظَراتِ
السَّاذَجَةِ .. لو أَنهم يَخْـتَفُونَ مِن هَذِهِ السَّاحَةِ ؟!
أيُّ غباءٍ يتناسَلُ في رَأسِهِ .. هَلْ نَسِيَ أنَّ هناكَ مَا
يجِبُ أنْ يملأَ جُيُوبَهُ .. هَل تمتلِئُ دُونَ أن يُفرِغَ الأَكياسَ السوداءَ
؟!
لم لا يُكَلِّفُ هؤلاءِ البشرُ أنفسَهُم عَنَاءَ إِلقَاءِ
نَظرَةٍ ما على الكُتُبِ .. هل يجدُرُ بِهِ أن يَقِفَ و يَصْرُخَ مُرَوِّجاً
لها .. ومنادياً عليها بِصَخَبِ بَائِعِي الخُضَار ؟!
قليلةٌ هيَ الورقةُ الفضيةُ عليها .. كمْ يتمنى لو أنَّهُ
يمتَلِكُ رُزَماً من النقودِ وفئاتِ الليراتِ المختلفَةِ ..
ليس لكي يسدَّ حاجَتَهُ ويدفَعَ عنهُ ضائقتَهُ ؟!
ليس لكي يعودَ إلى منزِلِهِ بكتبهِ لم يخسَرْ أيًّا مِنها ؟!
لا .. بل لكي يمزِّقها ويقصْقِصَها ويرمِي بها في أَقرَبِ
حَاوِيَةٍ .. لأنها لا يجِبُ أنْ تكونَ إلا طعاماً للجِرذانِ ودِيدَانِ
النِّفايَاتِ !!
آهٍ حرَّى تتصَاعَدُ مِنْ داخِلِهِ .. يفتَحُ لها ثَغراً عبر
فَمِهِ لتَخرُجَ بِدُخَانٍ أبيضَ يحيطُهُ بهالةٍ منها ..
الآنَ عَرَفَ أيَّ تضَادٍ بينَ الأبيضِ و الأسودِ .. أيَّ
تشوُّهٍ يصِمُ الدُّنْيَا .. أيَّ وُجُودٍ أبيضَ وأيَّ اختفاءٍ لخيوطِ السوادِ
في نسيجِ أدخنةِ آهتِهِ البيضاءِ في طقْسِ ( كانونِ الأولِ ) ..
بل أيَّ رمادٍ يُطرِّزُ قِطَعَ البَيَاضِ المحترِقَة ...!!
يَزُرُّ أَزْرارَ ردائِهِ الصُّوفيِّ .. يمسَحُ بإبهامِهِ وَ
سبَّابتِهِ حَوَافَّ شفتيه .. يُرَتِّبُ شارِبَهُ الأبيضَ .. ويرفعُ نظرَهُ إلى
السَّماءِ ..
سماءُ السَّاحَةِ مبطنةٌ بالغيومِ الرَّمادِيَّةِ ..
أ يُعقلُ أن يسقُطَ المطرُ الآنَ .. أتبكِي السَّماءُ الآنَ
فوقَ أهدابِ الكتُبِ ..؟!
أ يفقدُ كلَّ شيءٍ بدموعٍ ليسَتْ لهُ ؟!
أ يعودُ بكتبٍ مبتلَّةٍ .. وجيوبٍ فارِغَةٍ .. وَ أهدابٍ
قاحِلَةٍ !!
هل سيُضطَرُّ إلى نشرِ الكتبِ على حبلِ الغسيلِ !!
يعودُ بنظراتِهِ إلى الأرضِ ..
عجيبةٌ هذِهِ الأرضُ .. حجارَةٌ رماديةٌ .. متكسِّرَةٌ ..
متشقِّقَةٌ ككفَّيهِ .. لكنَّها ما تزالُ شابَّةً .. ما تزالُ صامِدَةً تحتَ
أَرْجُلِ السَّادَةِ .. وتحتَ وَطْأَةِ بَائِعِي الصُّحُفِ السِّياسِيَّةِ ..
وماسِحِي الأحذِيَةِ ..
التفتَ يبحثُ بنظرِهِ عَن أَحَدِهِم ..
أحدُهم يمسكُ بيده خِرْقةً متَّسِخَةً .. وأيضاً رَمادِيَةً ..
لماذا يتحولُ كلُّ شيءٍ إلى الرَّمادِيِّ ؟!
لماذا كلُّ ما في العالَمِ يُشبِهُهُ اليَومَ ؟! ..لا .. ربَّما
يستفِزُّه فَقَطْ ؟! ..
ولماذا تُصِرُّ هذه الــ" لماذا " أنْ تَقْفِزَ في وَجْهِهِ ..
هَلْ لِتُقَرِّحَ آهَتَهُ أكثر .. فيسِيلُ الصديدُ في داخِلِهِ .. ويسرِي
بنهرِهِ البْركانِيِّ يُذيبُ ذِكْرَياتِ تِلْكَ الأَيَّامِ الخالِيَةِ ..كَانَ يشتَرِي الكِتابَ .. يتأبَّطُهُ .. يَسبِقُهُ شوقُهُ إلى
الانتصَابِ على كُرْسِيِّ القَصَبِ المتهَالِكِ من وَطْأَةِ الزَّمَنِ في
شُرْفَةِ مَنزِلِهِ .. كَمْ كانَ ذلك الكرسيُّ حبـيـباً إلى نَفسِهِ .. كانَ
يُشارِكُهُ مُتعَةَ التَّحْليقِ بينَ السُّطُورِ .. رَحَلَ هوَ أيضاً ..
ليترُكَ بقاياهُ خلفَهُ مَرْمِيَّةً في مُستَوْدَعِ الماضِي ..
هل هي سُـنَّـةُ الحياةِ .. وسُـنَّـةُ الأشياءِ ؟! هل كلُّ شيءٍ يشبِهُ بَقَايَا القَهْوَةِ .. وَ رَمَادَ
الحَرِيقِ .. و خَيَالَ المآتَةِ ؟! .
* * *
وَقَفَ أحدُهُم بِقَامَتِهِ أَمَامَ مَبْسَطِ كُتُبِهِ
المُتواضِعِ .. كَانَ يَرْتَدِي مِعْطَفاً جِلدِياً بَاهِظاً .. يَضَعُ يديهِ
في جَيْـبَـيه .. ويُخفِي شَعْرَهُ تحتَ قُبَّعَةٍ سوداء ..
انحنى ليلتقطَ كِتاباً .. قلَّبه بين يديه .. فتحَهُ وَبَدَأَ
يختَبِرُ مضمُونَهُ يَقرَأُ في إِحْدَى صَفَحَاتِهِ .. أَغلَقَ الكِتَابَ ..
نَظَرَ مَرَّةَ أُخْرى إِلى بَقِيَّةِ الكُتُبِ .. فَطِنَ بَعْدَهَا إلى
وُجُودِ عجوزٍ يجلِسُ مُنكَفِئاً على نفسِهِ بجانِبِ المَبْسَطِ .. ينتظِرُ
تِلكَ الوَرَقَةَ النَّـقدِيَّةَ ..
سَأَلَهُ بِاقتِضَابٍ :
-بِكَمْ ؟!
يالهذه الكلمةِ السَّهلةِ .. " كَم " .. هل يجلِسُ في سُوقِ
الخُضَارِ حَقًّا ؟!
كمْ يَوَدُّ لَو يسحَبُ الكتابَ من يدِهِ .. يَلُمُّ شعثَ
كتبِهِ .. ويعودُ بكرامَتِهِ إِلى مَنْزِلِهِ .. حتَّى لَو اضطَرَّهُ الأَمْرُ
لأنْ يعيشَ على فتاتِ الناسِ .. وبَقايا القُمامَةِ ..
لكن .. لا .. يجبُ أنْ يَقْتُلَ هذِهِ المشاعرَ التي لا تنفعُ
..
أجابَهُ بنبرةٍ تفتقدُ الصوتَ والنَّفَسَ والفَرَحَ .. و لمْ
يَدْرِ كيفَ سمِعَهَا ذَاكَ ؟!
-بمئةِ
لَيرَةٍ ..
حملَقَ الثَّرِيُّ في وجهِهِ مُعتَرِضاً .. وَقَالَ :
-لماذا
؟! .. انظرْ إلى الكتابِ .. قديمٌ .. مهترئٌ .. وُرَيقاتُهُ صفراءُ شاحبةٌ ..
لنْ أدفعَ أكثرَ من ثمانين ..
-لكنْ
يا سيد ..., الكتابُ ممتِعٌ جِداً .. وَحِينَ تقرؤُه لن تَعْني لَكَ تِلكَ
المئةُ شيئاً .. صَدِّقني ..
-ثمانون
, أو أذهَبُ ..
-تِسْعُون
إِذَن .. حتى لا أخْسرَ ..أخرَجَ الرَّجُلُ مِن جيـبِهِ مِحْفَظَةً مُتخمَةً بالنقودِ
, ورَمَى إلى جابرٍ بمئةِ ليرةٍ ورقيةٍ .. ثمَّ مدَّ يدَهُ ليَستَرْجِعَ قطعةَ
عشرةِ الليراتِ المعدنيةِ ..لا يعرفُ أنْ يبكيَ في لحظاتِ الفقدِ .. أمُّه تُوُفيتْ .. ولمْ
يبكِ .. والدُهُ تُوُفيَ .. ولمْ يبكِ .. كانَ يموتُ حزناً .. ولكنه لم يبكِ
يوماً ..
شوكٌ نَبَتَ في حَلْقِهِ .. حاصَرَتْهُ لحظةٌ من الزَّمَن
تختنقُ فيها كلُّ ذِكْرَى .. كُلُّ مَسَرَّةٍ .. وكلُّ موقفٍ كانَ يرسُمُ
ابتِسامَةً ما على شفتيهِ .. فهلْ يبكي الآنَ .؟!
هوَ لمْ يتساءَلْ .. ولكنَّهُ دفَعَ الدَّمْعَةَ حِينَ
تصَاعَدَتْ إِلى عينيهِ .. ابتَلَعَهَا ليُجِيبَ على السُّؤَالِ قَبْلَ أن
يَطْرَحَهُ .. وَكأنها إِجابةٌ خُلِقَتْ هكذا لتملأَ تفكِيرَهُ في كُلِّ أزمَةٍ
.. فتجفَّ الدمعةُ .. وتَخْدشَ ببقاياها المدبَّبَةِ دَاخِلَـهُ .. فيكتفِي
بالتَّأَلُّمِ .. وأَخْذِ الأَنْفَاسِ .. والبَقَاءِ على قَيْدِ الحَيَاةِ .
عَادَ فَمَسَحَ حَوافَّ شفتيهِ .. ثمَّ عادَ فحدَّقَ في أَرْضِ
السَّاحَةِ ..هناك شيءٌ يَلمَعُ عليها .. لكنَّهُ ليسَ ذهباً .. إنه زُجاجٌ
متهَشِّمٌ التَصَقَ بحَجَرِ الأرضِ حتى صارا شيئاً واحداً .. وما زالَ يلمعُ ..يالهذه اللَّحظاتِ الكئيبةِ .. صَخَبُ السَّاحةِ .. ومَنظَرُ
النَّاسِ وَهُم يَسِيرونَ فِيهَا .. حَيَاةٌ تمضِي .. وعَالَمٌ يَتَحَرَّكُ ..
هَوَاءٌ يَلُفُّــهُم .. وأنفَاسٌ تُؤخَذُ وتُطْلَقُ .. وهو فيهم ومنهم .. ولا
يعني إلا حالةً من حالاتِ غباءِ هذا المجتمعِ ..
تذكَّرَ والِدَهُ حِينَ كَانَ يُوَبِّخُهُ :
-ماذا
ستكونُ في المستقبَلِ أيها الولدُ الشَّقِيُّ .. أُتْرُكْ هذِهِ الكُتُبَ ..
كَفَاكَ انصِيَاعاً لِلكَسَلِ .. اذْهَبْ تَعَلَّمْ حِرْفَةً مَا تَعيشُ منها
في الغَدِ .
هلْ كَان منطقياً في رَدِّهِ عَلَى أبيهِ :
-يَا
أَبِي .. هذِهِ الكُتُبُ ستصنَعُ مِنِّي أَدِيباً كبيراً تمتلِئُ المكتَبَاتُ
بمؤلَّفاتِهِ .. ويتصَدَّرُ الصَّفَحَاتِ الأُولَى مِنَ الصُّحُفِ .. هَذِهِ
أرْقَى حِرْفَةٍ أتعلَّمُهَا .. لكنها تحتاجُ بَعضَ الصَّبْرِ ..
نعم .. تحتاجُ إلى بعضِ الصَّبر .. ولها مُستقبلٌ عظيمٌ !!
لا يظنُّ أنه كَذَبَ .. ولا يظنُّ عَكسَ ذلكَ ..
قطعَ تفكيرَه أحدُهُم حينَ اقترَبَ مِنْهُ يسأَلُهُ :
-مرحبا
أيها العمُّ .. كيفَ حالُكَ .. هَلْ تشكُو مِن شَيْءٍ ؟!
" هل بدأ يثيرُ شفقةَ المارِّين " .. أجابَهُ بَعْدَ نَفَسٍ
عَمِيقٍ طَوِيلٍ :
-أترى الزمانَ يا وَلَدِي , حِينَ ترسُمُ لَوحَةً رائِعَةً .. بألوانٍ لا أحَدَ
يمتَلِكُهَا إلا أَنْتَ .. ولا تعرِفُ كيفَ وجدْتَها .. و تكونُ قد رَسَمْتَ
فيها وَجْهَ امرَأَةٍ
حَسْناءَ .. وَلَمْ يتبقَّ لَكَ في النِّهايَةِ إلا أن
تَرسُمَ ابْتِسَامَتَهَا في زَمَنِ الجَدْبِ .. ثمَّ تكتشِفُ أنَّ ألوانَكَ
انتهَتْ .. فإن اللَّوحَةَ لن تعني إلا لاشيءَ .. وستُضْطَرُّ في النهاية إلى
أنْ تتأملَها وحدَكَ .. وتخبئَها تحتَ شجرةِ اليقطِينِ التي جفَّتْ منذُ زَمَنٍ
.. أو تُوصِيَ بأن تُدفَنَ مَعَكَ في قَبْرِكَ !!
-سلامتُكَ
يا عمُّ , أطالَ اللهُ في عُمْرِكَ .. خيرٌ إنْ شاءَ اللهُ ؟!
اقتربَ منهُ .. وجلسَ بقربِهِ ..ثم أخرَجَ من جيبِهِ دفتراً
صغيراً وبدأَ يسألُهُ وهو يجيبُهُ .. ثمَّ شكَرَهُ ومضى سعيداً بسبقِهِ
الصّحَفِيِّ عنْ ( محنةِ أديبٍ تجرِّدُه الكتبَ وأكسجينَ الحياةِ ..)
قَفَزَتْ في داخِلِهِ ضِحْكَةٌ مُنْـَتحِبَةٌ .. شَعَرَ بها
تجرُّه إلى غابةِ الفنجَانِ المظلِمَةِ .. لمْ يشعُرْ بالخوفِ هذِهِ المرَّةَ
.. ابتسَمَ ابتسَامَةً مُتَرَهِّلَةً وهوَ يُعِيدُ تَرتيبَ الكُتُبِ عَلَى
المبسَطِ ..
ثَّم هَمَسَ :
-لمْ
أُخْطِئْ في ظَنـِّي , سَأَتَصَدَّرُ الصَّفْحَةَ الأُولَى !! ..
الرياض 1-11-1424ه
(
* ) ساحة سعد الله الجابري , هي ساحة تتوسط حلب
الشهباء في سورية , وسميت بهذا الاسم نسبة إلى المناضل ( سعد الله الجابري )
والذي قاتل ضد الفرنسيين أيام الاحتلال الفرنسي .. و فيها تمثال الشهداء .
القصة
الفائزة بالمركز الأول في مسابقة جامعات دول الخليج للقصة القصيرة عن جامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض .. لعام
1424هـ/ 2004م .
فسيفساء
على حِرف النافذةِ حمامتان نائحتان .. في جوٍّ من الصمتِ تهزجان .. يصنعُ
عقربا الساعةِ الفضيان صوتَ المضاءِ مشنوقين مع قرصهِما على الجدارِ..
في مقطوعةٍ من نحيبٍ و مضي ..
تعزفُ أوراقٌ متساقطةٌ من شجرةِ عمري مقطعَ الشجنِ الحزينِ , يليهِ نعيقُ غرابٍ
طائرٍ , ظله يمسحُ على مساحةِ الجدارِ المقابلِ للنافذةِ مسحةً من ظلٍّ أسودَ ,
يتركُ خلفَهُ لونه يطمسُ الرؤيةَ في عينيَّ ..
و كما تتشكلُ موجةُ البحرِ المرتفعةِ الهائجةِ تتكورُ الدمعةُ في عينيَّ ..
أكفٌّ لاطمةٌ تسحبُ في حركةِ الجزرِ كلَّ ما حدَّ الموجةَ السابقةَ من حصاةٍ و
رملٍ وبقايا أصدافٍ متكسرةٍ ؛ لتقلبها من جديد في خدودِ الصخورِ فتشوهها ..
من أين يأتي كلُّ هذا الملح ؟!
حين يأتي إنسانُ العاصفةِ الأهوج يأتي صوتي غريقًا في صداه , يجمعُ في دوامتِهِ
أوراقَ الشجرِ اليابسةِ , الحجارةَ الصغيرةَ , أعشاشَ الطيورِ المهاجرة , يسيرُ
في مدنِ السكونِ يَقْلِبُ الأشياءَ .. ويعكسُ الحياةَ ..
أ هو الهدوءُ الذي يسبقُ العاصفةَ , أَمِ العكس ؟!
من بعيد أسمعُ غناءً حزينًا .. يصعدُ من طيَّةِ الأهزوجةِ شهقةً في داخلي ,
أنتحي خارجي , وسادتي القطنية مبقورة بين ذراعي و صدري , محشوة بالدموع ,
بالفرح الذي أكوره حتى لا أفقده , بالحزن الذي أطويه حتى يصغر , محشوة بكل ما
أبكيه فيها , بكل ما أقترفه من إثٍم و جريمةٍ ..
متعَبَةٌ جدًّا , سأموتُ إن زادَ هذا الإعياءُ !!
* * *
هل طبيعيٌّ أن يرغبَ المرءُ بالبكاءِ كالطفلِ , أمْ ضَرْبٌ من العَظَمَةِ أن
يفعلَ ؟!
أسمعُ همسَهُما ..
أقفُ خلفَ الجدارِ أتلصَّصُ كالسارقةِ , حاولتُ أن ألتصقَ بالجدارِ لأتبادلَ
الدورَ معَهُ , حافيةَ القدمين أخفي خطواتي في طيِّ الخباءِ ..
لن يعثُرَ على آثاري أحد ؟!
لوحةُ الفسيفساءِ مشنوقة هي الأخرى على الجدار , لكنه جدارُ الممرِّ المؤدي إلى
مكتبِ والدي , تنمو لأذنيَّ أجسادُ أصابع .. تتلمَّسُ بها الجدارَ باحثةً عن
ثقبٍ تَصِلُ الكلماتُ النافذةُ منهما سريعًا إليَّ .. و واضحةً أيضًا ..
" لا أدري أيَّ فضولٍ يُقَطِّعُنِي لوحةَ فسيفساء أخرى ؟! "
" يخطبكِ أنتِ !! و أختُكِ الكبرى لم تتزوجْ !! "
ترتبِكُ سنا مع صوتها .. تتشابَكُ النبرتان .. تقولُ معترضةً :
" إذن لن أتزوجَ حتى تتزوجَ هي ؟! ما هذا !!!! "
يجيبها أبي بصوتِهِ الحازمِ الحاني :
" إمَّا أن يخطبها هي , أو تنتظري حتى تتزوج ؟! "
تجد في حنانِ الصوتِ مَعْبرًا فاضحًا لتلهفها على الزواجِ :
"ما هذا الظلم !!"
و بحزمٍ خالصٍ يمسكُ بالقرارِ :
" أنتنَّ بنات لا تنفعُ معكنَّ الديموقراطية !! "
يبدو أن الحديثَ شارفَ على الانتهاءِ ..
قبلَ أن ألحسَ الجدارَ بثوبي الصيفي الأصفر , ودَّعتُ اللوحةَ , وعدتُ ..
* * *
الوسادةُ بين يديَّ تنتظرُ وجبتها اليومية ..
يا ترى كمْ حجرًا زجاجيًّا في تلك اللوحة ؟!
دائمًا نرحلُ عن اللحظاتِ وقد نسينا أهمَّ شيءٍ , نسينا أن نحسب كم مكثنا !!
حين مكثَ أهلُ الكهفِ في كهفهم لم يتخيَّروا هذا الغيابَ الطويلَ , و لم يعلموا
المدةَ التي غابوا فيها عن الحياةِ !!
أ نحتاجُ إلى عملةٍ قديمةٍ تجوعُ لها العيونُ ؛ لنعلمَ أننا قدماء !!
* * *
ثلاثُ خَرَزَاتٍ زجاجيةٍٍ معلقةٍ على شَبَكِ النافذةِ ..
على الجدارِ ثلاثُ بُقَعٍ قُزحيَّة تزورني الشمسُ بها كلَّ ظهيرة ..
النافذةُ مفتوحةٌ و الستائرُ ساكنةٌ لا تهزها نسمةٌ واحدةٌ ..
الحرٌّ يخترقُ مساحاتِ الغرفةِ الصغيرةِ , والعرقُ يتصبَّبُ برغبةٍ مُلِحَّة ..
لماذا لا نشبهُ خيوطَ الضوءِ ؟!
* * *
تدخلُ سنا الغرفةَ و كمدُها يشي عن حديثٍ سريٍّ جديدٍ عقدَهُ أبي معها ..
" لماذا يعاني الآخرون بسببنا ؟! "
تجلسُ على سريرِها المقابلِ لسريري .. تركُزُ مرفقيها على ركبتَيها متقدمةً
بجسدها النحيلِ إلى الأمامِ , تُطرِقُ رأسَها أرضًا حيثُ السجادةُ الملونةُ ,
ترفعُ هامتَها بعدَ دقيقةٍ حيثُ النافذةُ , وتخبِّئُ نظراتها في عُمْقِ
الخرزاتِ الثلاث ..
* * *
يدخل " عمر " غرفتنا بحماسَتِهِ المعهودةِ :
فيلم ( الوسادة الخالية ) يا سلوى , هيا تعالي !!
تستلقي سنا على سريرها مشرعةً صدرها لنسماتِ الصيفِ المحرقةِ , عيناها غائبتان
في صمتٍ ثقيلٍ .. أراقبها دون أن أنظرَ إليها .. أعلمُ تمامًا أيَّ حالةٍ من
الصمْتِ تأكلُها , بَيْدَ أنها ترغبُ بالثرثرةِ , وربما اللومِ !!
* * *
عقربُ الساعةِ الأصغر يختبئُ تحتَ الطويلِ مشيرًا إلى الثالثةِ و الربعِ ظهرًا
..
وسادتها البيضاء مركونة وسطَ سريرها عليها لوحة من دروبٍ عميقةٍ و غائرةٍ
خلَّفَتها و ذهبتْ ..
غريب .. لم ألمح سنا تطعنُ الوسائدَ و تتركها مشوهةً دون تمهيدٍ قبل هذه
اللحظةِ ! !
من بعيد صوتُ غضبٍ .. أصواتٌ أخرى لا تشبه السكونَ ..
آن الأوانُ لأن أغلقَ بابَ الغرفةِ ؟!
أرتمي على وجهِ السريرِ طامسةً ملامحي ببياضه .. ويبدأُ القيظُ يستولي على
المكان .. أمدُّ ذراعي إلى المنضدةِ .. أمسكُ بعطري و أرشُّ رشةً منه في
الهواءِ .. أرفعُ رأسي .. أستنشقُ ذراتِ العطرِ المتناثرةِ فيه .. أعودُ فأدفنه
غيابًا في الظلامِ ..
اقتحامٌ مُفاجئٌ , و عاصفةٌ حمقاء تعصف بباب الغرفة ..
سنا في رَكْبِ الجنونِ تصارعُ أمواجَ الحقدِ .. كلماتٌ قاتلةٌ تخرجُ من شفتيها
:
أبشري يا عجـ.... , ستبقى الدارُ عامرةً بنا يا عـ..ـانـ.....!!!
البابُ خلفها مهتوكُ المعصَمِ ..
السكونُ ملوَّثٌ بنبرةٍ تتردد معلنةً بدايةَ النهايةِ ..
طبولُ الهنودِ الحُمر تدقُّ من بعيدٍ ..
عظامُ الأمواتِ التي يرتدونها أساورَ و خلاخيل تهتزُّ مع أجسادهم الراقصة حول
النار المضرمة ..
أسمعها تضرب ببعضها مؤلفةً صوتًا يشبه الخوفَ ..
بل ارتعادةَ الخوفِ ..
قريبًا من أهزوجةِ الحمامِ النائحِ ..
شعورٌ قديمٌ ..
إحساسٌ أجوف ..
موجةٌ لاطمةٌ تكسرُ حواجزَ الجمودِ ..
لوحةٌ تسقطُ و تتكسَّرُ ..
على حِرْفِ النافذةِ حمامتان نائحتان .. في جوٍّ من الصمتِ تهزجان ..
الرياض 5-4-2004م
القصة الحائزة على المركز الأول بمسابقة المحايد الأدبية الموزعة بالمملكة
العربية السعودية- العدد ( 95) الخميس 6 جمادى الأولى من عام 1425/2004 : ص9 .
ضوءٌ مخُتلِفٌ
تركتني لتنام بعد أن طافت قبلاتها الناعمة على أطراف وجهي , كان رطبًا من
رذاذِ البحر .. و كان الليل في آخره مدينةً يعزف الصمتُ فيها أغنية البحر و
يلقيها في مسمعي ..
كانت قد آنستني منذ أن خلد الجميع إلى النوم ..
و كان صوتها كما اعتدته دائمًا .. يحمل ملامحها إلي بشكل لا أعرف كيف أصفه ..
-أبي , كيف ترى العالم من حولِك و أنتَ لا تراه ؟!
قالوا إنني تخطَّيتُ الخمسين ببضع سنين ..
لا .. لم يقولوها .. أنا حسَبتها .. الأعداد ليست شيئًا صعبًا لا يُمكن حسابه
.. الأعداد وهْمٌ ربما اخترعوه لمن هم مثلي .. و كان نصيبهم إبصار الألوان و
الأشكال .. و لعله أكثر من هذا ..
بعد الصرخة الأولى في وجه الحياة .. كنتُ مُتَّسِخًا .. و بقيتُ حيًّا ..
رغم أني لا أفهم ماذا تعني القذارة أو النظافة , إلا أن رائحة النفايات التي
أمر بقربها حين أكون سائرًا في الشارع تقرِّب لي معنى القذارة .. و ربما هي كل
ما أنتن ...
بقيتُ حيًّا ..
نعم .. لم أمت .. و لم أنته .. و فتحتُ عينيَّ أيضًا .. و منذ ذلك اليوم قالوا
عني ( مسكين , مسكين ) ..
لا أدري لماذا أسموني هكذا !! ..
و ماذا في الأمر .. أ لستُ إنسانًا و بإمكانه الحياة .. فلماذا أكون مسكينًا !!
..
سألتُ أمي حين كنت صبيًّا .. سألتها و أنا أتلمس وجهها بأناملي .. :
- لماذا أكون مسكينًا .. و أنا حي ؟! ..
شعرتُ بأنها تبكي و تبللت سبابتي بدمعتها الساخنة ..
-الحياة جميلة يا ولدي .. و أنتَ لا تراها .. و يا حسرتي عليك ..
لم أفهمها حتى هذه اللحظة ..
ما هو الجمال فيها .. و ماذا تقصدون بالجمال ؟!
لا تبدو لي قبيحة .. و لا تبدو لي جميلة .. لا تبدو لي شيئًا يستحق أن أكون
مسكينًا لأني لا أبصِره ..
كل ما في الأمر أني لا أراها ..
و كيف ترونها أنتم ؟!
هل تعيشون أكثر من أربع و عشرين ساعة في اليوم ..
كيف تختلفون عني ..
و كيف أكون مسكينًا ؟!
* * *
- أشعر جيِّدًا يا ابنتي بالبحر ..
- و كيف تراه ؟!
- إنه مالِح .. رذاذه يقيم على وجهي و حواف شفتي .. جربي أن تلعقي شفتيك ..
أ رأيت كم يبدو مالِحًا !!
- إنه أيضًا أزرق و لامع ؟!
- إنه منعِش .. و حزينٌ !!
- أ هكذا تراه ؟!
- بل هكذا أحسِّه ..
- !!
- لا تصمتي .. أراه بفطنةٍ سريالية .. كبير ربما .. و ربما صغير .. لكنه مهيب
.. فصوته لا يوحي بالدفء و الأمان !!
* * *
انقطعت الكهرباء ذلك المساء و فزعت صغيرتي .. قالت بخوف :
-أبي , اتصل بصاحب الفندق و اسأله عن الكهرباء ؟!
* * *
ضوء الكهرباء يُبدد فزع ابنتي ..
و ما هي الكهرباء ؟!
قالوا لي :
-إن العتمة هي فقد القدرة على الرؤية .. و إن الضوء هو حالة تُمكِّنكَ من
الرؤية !!
تساءلتُ يومها :
و ماذا سنرى حين تعمل الكهرباء !!
قالوا .. كل شيء !!
لكنني أيضًا أرى كل شيء .. فهل هي الكهرباء !!!
* * *
جاوزت الخمسين ببضع أعوام ..
و قرأت عن العالم كلّه بأناملي ..
كنتُ أقرأ في كل وقت ..
قرأتُ عن الشجاعة , الفتوة , السلام , الحرب , عن الموت و الحياة ..
تجولتُ في قصر إليزابيث .. و تحسَّسْتُ نتوءات جبل الأقرع ..
لم أجد وقتًا لأقرأ عن المساكين .. و حين صادفتني قصة ( البؤساء ) عرفتُ أن
الفقر و الجوع و الحاجة هم المسكنة ..
و أنا لست جائعًا .. و لستُ محتاجًا سوى لعصاي .. و هذه ليست بذات ثمن ..
قلتُ في نفسي :
( لا شك أن خشونة الحجارة و الصخور , و ألم الأعشاب الشوكية النابتة بينها ..
تعني الحياة التي لم أرها ..
و ربما ذلك الغبار الذي يورثني العطاس و الكُحة هو أشبه شيء بعالمي ..
الغبار كالهواء , أنى استدرتَ لفحتكَ رائحته !! )
قرأت أيضًا أن إليزابيث لم تعاني يومًا من أزمة ربو , أو حساسية !!
ربما لأنها تعيش في قصرٍ لا تدخله الحقيقة ..
غريبٌ جِدًّا ..
أ لم تقرأ عن البؤساء .. و الجائعين ؟!
أ لم تقرأ و هي البصيرة .. إن كان البصر حقًّا يُفهِم الناس معنى ( الكهرباء )
!!
قرأت عن الحقيقة الغائبة رغم وجود الضوءِ ..
الحقيقة عالمٌ ابتدأ منذ أن بنى الإنسان الأول كوخًا بين أكوام الأشجار و
الأفاعي .. و بقايا طبيعةٍ خلَّفتها أعوامٌ طويلة من التَّكوُّن ..
و لكن كيف أصبح شكلها الآن ؟!
لست أشعر بأكثر من حاجتي لهواء المكَيِّف البارد في القيظ .. و صوت الليل
للإحساس بالعالم !!
نما الإنسان الأول ..
عُمِّر إلى أكثر من الخمسين .. كان عمره أطول من أعمارنا .. فهو أجدر بهذا
منَّا ..
فقد كان يبني مدينتنا .. و يعمل لأجلنا !!
كبر كوخه ..
لم يعد يصطدم بجدرانه المتقاربة ..
صار أفسح حيث كثرت الجدران و تباعدت .. و صار قادرًا على التجول في أرجائه بدون
ارتطام ..
نما تفكيره .. و فهم الحياة بدون قراءة ..
ليست صعبةً جِدًّا ..
تشبه الملح الذي ألثمه بعد طول وقوف أمام صوت الهيبة المرتطم بأقدامي .. و
الذي يدفنهما تحت كومة حصى و رمال صغيرة .. و لو لم أنتشل قدميَّ من تحتها
لدُفنتُ جميعي .. و فقدتُ الصوت !!
أمسكَ الإنسان الأول حجري صوان صغيرين في كفيه و ضربهما ببعضهما ..فانبعثت
شرارة ..
كانت ساخنة دافئة ..
لم يفهم أنها خطيرة و مُحرِقة .. فأحرق الغابة ..
امتدت النار إلى حوافِّ البحر فلم تُحرِقه ..
اكتشف عندها أن الماء أقوى من النار ..
فأحب الماء !!
* * *
حكيتُ كل هذا لابنتي .. فسألتني :
-و ما شأن هذا بالحقيقة ؟!
يبدو أن الحقيقة صراعٌ دائم بين يابسة و ماء , هواء الحياة و الاختناق , صوت
احتراق الحطب و صوت غناء البحر , شعب جائع و تخمة لا يفهمون معناها ..
قالت :
-لا يغيب هذا عن إليزابيث !!
-لا شيء مفهوم عندها .. ربما لا يغيب , لكنها لا تُدرِك هذا الوجود .. فهي تعيش
بعيدًا عنه .. لن تحاول أن تجوع أو تعيش بائسة ..
..
* * *
- أبي , متى سنعود إلى مدينتنا ؟!
- مع رعشة الصباح !!
- أ تقصد مع شروق الشمس في الغد ؟!
- لا فرق ..
كل ما في الأمر ..
أن الضوء عندي مختلفٌ ..
الرياض/ 6-6-1425هـ
|