زهرة برية
ظهرت في طريق مدرستهما زهرة حمراء عطرة، اعتمدا إرواءها .
عندما شبَّا ، احتجبت بخمارها ، و استمرت تسقي زهرتهما .
في طريقه إلى الدير صباح الآحاد كان يسقي الزهرة، و عندما يسرح أخوانها إلى
المسجد ايام الجمعة كانت تسقي الزهرة.
رفضت الزواج في البداية لكنهم أجبروها على الزواج من ابن عمها ، في حين ترهبن
هو و بقيت الزهرة البرية تسقى في جميع الأيام و الليالي.
رحلة إلى "مجدل شمس"
كانت تنسج خيوط الشمس جدائل نور تتدلى بين دموع السماء الحزينة.
رأيتها عندما كنت فتى في رحلتي المدرسية إلى المدينة المقابلة..
يومئذ صعدت إلى سطح بيت صمدت أعمدته ، أو تناستها جرافاتهم.. و من خلال المنظار
المقرب شاهدت ساعديها الأبيضين و قد انزاحت أكمامها الخضر حتى بض الزندين ،
كانت أناملها ما تزال تظهر فوق السحاب الأسود تجمع باقات الضياء
و تدفقها بين أشلاء السحاب تنسكب ابتسامات و فرحاً قادماً ليوم العيد..
لم تستطع الأسلاك الشائكة منعي من اجتياز السهل الواسع ، كانت أكفان أصدقائي
ترفرف بي فوق حقول المصائد و القبعات الزرق المتحدة ضد وصالي بالشموخ الناطر
شمس كل يوم جديد..
وصلت و قبَّلت شاربين شابهما نقاء جبل الشيخ المترف ببرد الانتظار..
في التراب زرعت دمعتين و ابتسامة ، و نظرة من حديد.
و عدت تقص نظراتي أسلاكَ الزمان التي جرَّحت دمعي و شغاف الغد الآتي يوم
الحصاد..
و ما زلت في كوخي تلمني ثلاثة جدران..
قلبي ما زال ينتفض في قفص البوح الشريد..
و في الأفق شراعي مدى..
بحَّ النشيد في ناي الجريدة...
بح النشيد..
و ما زلت أرنم في الليالي الصدى.
بانتظار العيد.
"مجدل
شمس بلدة في الجولان تستدعي شمس كل يوم جديد لتعكس نورها على وجه القنيطرة
الحبيب"
السعودية 26-1-2004
المائدة
تدفقتْ في شراييني موجاتٌ من الهلعِ حين أبصرتُ عينيهِ المسكونتين بالرُّعبِ، و
وجهَهُ المغمورَ بنافورةٍ من دم ، و كان جسمُهُ مغطى بمساحةٍ واسعةٍ من الشحوب.
كان يتلمَّسُ طريقَه بين أشجارِ البرتقالِ و قد أنهكَه الإعياءُ، يقتلعُ قدميه
من لجَّةِ الرمل بصعوبةٍ بالغةٍ ، ففاجأتُهُ بالوقوف أمامه بالسؤال:
- ما الأمر؟!
رفع حاجبيه الكثَّين متعجباً هو الآخر. لتنجرف قطراتُ دمٍ حمراءُ قانيةٌ
بهدوءٍ على جانبي وجهِهِ الأسمرِ المتغضِّنِ بشقاءِ العمر .
حاول الكلامَ إلا أنَّ موجةَ ضعفٍ عصفتْ برُكبتيهِ ،فارتمى عليّ غصنَ حورٍ
حبيبٍ عبقَ القهرُ بين أسماله الفواحةِ بعرقِ الأخوَّةِ الحميم.
رفعتُهُ على منكبيَّ بصعوبة ، ازداد وزنه كثيراً ، فامتد بي العمر متقهقراً إلى
صبا كنا نتعارك فيه أمام الوالد المفتون بنا ،برجلين سيحملان في غدٍ اسمَه بعد
عشر بنات مات نصفهن بالتيفوئيد أو الريح الصفراء أو الجوع.
قبضتُ بقوة على زنديه، مباشراً إبطيه، فتدلى ذراعاه متأرجحين بشكلٍ أرعبني و
كاد ينهكني ، لولا خوفِ المجهولِ اللاحق به عبر البساتين .
لم يكن البيت بعيداً جداً عن وسط البستانِ ،الإرثِ الوحيد الذي يسدُّ رمقَ
عائلتينا.
ألجمَ منظرُنا ، لحُسن الحظِّ ، ألسِنةَ النسوةِ في البيت ِ فقعدن يهمهمن
بصلاة و رجاء.
وحده الماءُ الباردُ على وجهه المدمى جاء ببارقة أملِ استرجاع وعيه، أشارإلى
رأسه ، فتكومت عيون الجميع على جرح متطاولٍ حزّ ساقيةً عميقةً ، ملأها الصديدُ
الأحمرُ فانتشر في شعره الكثيف .
" قناصٌ فاشل ، لكنه رسمَ بدمي طريقي!"
همس بتهكم اعتاد به السخرية من آلامنا اليومية ،و عاد إلى سباته ، تاركاً إيانا
نحيط بأولى خيوطِ الجريمةِ ، بانتظار القاضي القادم قريباً ، و قد تنكب شعارات
جوفاء ، ليخلص محيط الفلوجة من أسرة آوت في بيته ابنَها الناجي من رصاصة
أخطأت الدماغ و اكتفت بخط حراثة واحد في جلد الرأس، رصاصة جاءت لتذكر الأسرة
الفقيرة أن موعد فلاحة الأرض قد شارف على الأفول ، و لكن المستعمر الجديد قد
يقنص الثورين أيضاً!
سيقولون:" قتلنا إرهابياً في وكره ، مع مجموعة تخطط بأمر – القاعدة- لتفجير
خطير.." أو يقولون : " اكتشفنا مخبأ أسلحة دمار شامل.."
هتفت أمي الأرملة: "ويحي ، سيلحقون به حتماً ، أنزله القبو، هناك بين أكياس
المؤونة ، ضعه كيس مؤونة آخر، و... "
صمتت و الحسرة تعصرها و تعصرني، و ما ذنبي إن كانت البنات خلفتي و البنين من
أخي!!
أخذتُ قلبي ، وضعته في كأس ماء بارد، ثم تنكبت أخي ، خرجت به إلى فسحة الدار،
لكن اللغط الأمريكي ، سبقني و أمطرنا بوابل رصاص جمعه شقيقي في ظهره و خاصرته
التي حمت رأسي ، و دكتني على الأرض تحته بلا حراك.
*
لم يكن جرحي بالغ الخطورة رغم أنه كان خط حراثة مشرشرا، كفلاحتي التي لم أعهدها
متناسقة، فأيام الجامعة ذهبت بفنون الحقل ،إلى هندسة خطوط نقل النفط التي ما
اعوجت عن اتجاهات التصدير نحو الشمال أو الجنوب العراقيين.
كانت شعور النسوة مكشوفة و منكوشة ، و بعض ثيابهن ممزقة،و الصمت هو الوحيد الذي
كن يحافظن عليه من تعاليم الوالد المرحوم، فالعويل على الميت حرام، يُبعد
ملائكة الرحمة. و يُخجل المتوفى أمام مَلَكيه!
اقتربت أمي و قالت: " يا ملاذي!"
لم تقلها لي سابقاً ، و لا أشك بعظيم حبها لي ،لكني فهمت وقتها أن أخي قد فارق
الحياة فعلاً، و لم يبق في البيت رجل سواي!
اتضح المشهد أخيراً، ظن الأمريكان أني قضيت و أخي برصاصهم ، فحاولوا الاعتداء
على النسوة ، لكنهن قاومن ، و ساعدهن جيش الأطفال في عضٍّ و ركلٍ و خمشٍ ، مما
جعل رجال البحرية يعودون للغوص في بحر الرمال، فالوقت نهار ، و النور يفضح كل
مستور! على أن يعودوا ليلاً ، لحماية النسوة من شر الزمان! هكذا فهمتْ منهم
أختي الجامعية ، التي حافظت على صمتها ، فكان ذلك في مصلحتها و مصلحة الجميع .
كان شدُّ عصابة رأسي يؤلمني ، و تأثير البنِّ قد تسرب من الضماد عبر شراييني
نحو مركز البركان ، فاشتدت أعصابي و زادها توتراً منظر بقايا دمي على رحى
الطاحون الحجري ، كان ما يزال يشع تحت شمس الأصيل المتسربة من ظل الدالية
الخفيف ، و كأنه يبزني و يتهمني بالخيانة!
خنت ماذا؟ الموت؟ هو الذي رفضني و نبذني، فمن يصدق أن سقوطي و ثقل أخي فوقي على
الرحى لم يسفر عن شر ميتة! حتى أن الأمريكان و هم أصحاب "المعرفة و القوة"
اعترفوا بموتي و قال زعيمهم و هو يقهقه: " قتلته حجارة بلاده!"
لكنه كذب ، و ها أنذا قد نهضت إلى القبو أتفحص نتيجة تفتيشهم عن "أسلحة الدمار
الشامل" في بقايا مزق أكياس القمح و الدقيق و الذرة المنثورة ، و حطام الصناديق
التي كانت تنتظر برتقال الموسم القادم!
صارت أوامري صارمة كحمى الدفاع عن العرض المستباح، و قد استباحوه باسم الحرية،
فجمعتْ النسوةُ ، بقيادة صبيان أخي كل ما خف حمله و غلا ثمنه ، هي نكبة و نكسة
عندنا أيضاً، لكن لن يكون نزوحاً و لا هجرة ، سيكون درساًلمن قد يتعلم الشرف في
معهد القيم، كنت قد سمعت عن تعذيبهم في " سجن أبو غريب " للمعتقلين، لا يفرقون
فيه بين عسكري ينتزعون اعترافه أو فتاة يفجرون أنوثتها. لا رجل الدين الشيخ في
المعتقل و لا امرأته يختلفان في العري و التنكيل و ذهول الحبس.
خلال ساعات قليلة تركتْ النسوة القبر المغطى بالريحان و أثوابا شقتها حراب
الحرية ، و كيس بذار مسفوحاً في كل مكان.
"اللانيت " أحد أحب سموم جرذان الحقل لديّ، و كنت أشفق أحيانا على صغار
الفئران ، و القطط أو الكلاب البرية التي تأكلها فتموت قبل إكمال نهشاتها
الأولى.
فتشت في المستودع عن علبة السمِّ فوجدتها ، لم تخدشها حربة، و لا اخترقتها
رصاصة، فرحت كما لم اكن لأفرح لو صرخت بي ممرضة توليد زوجتي:"صبي! ...صبي!"
كانت بعض المعلبات الأمريكية قد نثرها الجنود معونة "إنسانية" للنسوة بعد فقد
رجالهن! على أمل تناول "بعضها فقط!" ليلاً كما هتف اثنان لأختي الجامعية!
*
قبيل منتصف الليل ، كانت الهدنة قد تأكدت بعد توقف القصف الجوي على حي الجولان
القريب، لكن الدبابات و ناقلات الجنود المصفحة لم تهدأ بحجة التنقل نحو بغداد
شرقاً، و بما أن جميع الدروب تقود إلى بغداد فقد كان أحدها وسط بستان البرتقال!
أضحت أغصان البرتقال تئن و تصرخ بألم و هي تتكسر متأوهة تحت سلاسل المدرعات
البغيضة ، و كان النسغ يسيل منها عائدا لعناق الأم ، فقد تنتج الأرض ذات يوم
خزامى برحيق البرتقال ، أو زهر دمٍ لا يذوي حتى تتحرر نسمات الهواء من ريح
البارود و وهج الرصاص القناص السريع الذي قد لا يخطيء رأساً أو قلباً أو عورة!
انتهى إعداد الوليمة قبل الموعد المشؤوم. لم أكن أحب الطبخ و ما تعودته يوما،
ربما لحرص النساء على رجالها ، فقد تجلب لهن راحتهم فلاحين أقوياء يكملون مهام
الزراعة و النسل.
دخل العساكر بمرح و كأنهم يدخلون بيوتهم، يا للصفاقة، كانت عيونهم تزرع نظرات
شكٍّ و ريبةٍ في جدران البيت ، حتى أنني للحظة خفت انكشاف مخبئي ، و فشل خطتي
الجهنمية للفتك بهم دون إطلاق رصاصة، هم كجرذان الحقل هنا ، و أنا ما اعتدت قتل
غير الجرذان ، فليسمح لي إذن مخرجو هوليوود استبدال فنون مبارزات رعاة البقر ،
بممارسة "إرهابي " عليهم . استعادوا سكينتهم خلال لحظات ، و زال عنهم الخوف أو
التوجس من عدو ، فالكبر و البصاق سمتان بدتا ظاهرتين لي منهم في سلام الأفلام
من قبل و في حرب العراق الآن ، تجولوا في بعض الأرجاء و هم يصرخون بحثاً عن
النساء و الشبق الدامي يعصر أحشاءهم، فما شعروا باللانيت الذي أدخلته من خلال
ثقب دقيق في علب الـ(هوت دوغ) و الـ( همبرغر). قال أحدهم:" لم ألتق عذراء من
قبل، أين يختبئن بنات الـ....."
رد آخر:" أحشائي تتمزق ، قد يكون الطعام مسموماً"
ارتعدتُ و سرَتْ قشعريرة بجسدي ، و كأن السم قد سرى فيه أيضاً ، مجرم أنا إذن
،لكن لم يكن ليصغي إليه أحد فالكل منهمك بالطعام المعلب و المسخَّن على الطريقة
العراقية.
خمس دقائق أو أقل كانت بالنسبة لي دهراً كاملاً، كانوا يتساقطون خلالها كالذباب
حول مائدة الجنس الموعودة،أما الصمت في الخارج فقد بشَّر بهدوء لا يعكره سوى
تكتكات الديك البلدي الذي ارتاب بأمري مع ضيوف من نوع غريب، فتحت مصراع النافذة
بهدوء، و قفزت خارجاً في حلكة ليل غاب قمره،درت حول البيت لأُطمئن أخي في قبره
، لكني فوجئت بالذخيرة المزروعة حول البيت بكل عناية فاكتشفت هدفهم الأخير، نسف
البيت بعد رحيلهم!
الفتيل طويل طويل و يقود إلى طرف البستان من جهة بغداد، همست بغيظ و حنق
شديدين: " جبناء هم مهما ارتفع علمهم ، و مهما شمخت هدية استقلالهم الفرنسية *
" فهل سمعني كتاب تاريخ أو روح أخي التي تنتظر مني الثأر كما باقي نساء
العشيرة!
نسمة هواء سرحت صوبي من جهة الفرات، قبلتني و ما اعتدت القبل،دخلتْ البيت لتفتح
لي نافذة الوداع، و أنا أنتظر اللحظة المناسبة، سأشعل الفتيل بنفسي و لن أحرمهم
و هم موتى لذة دفن آثار جريمتهم المفترضة، لكن التعثر بلغم زرعوه قبل دخولهم أو
شحنة ناسفة قد يودي بي قبلهم، سأنتظر تباشير الصباح الأولى ، لا بل سأشعل كل
شيء فالدبابة قريبة و كذا المصفَّحة، يا لها من وليمة!سأراقب اللهب عن بعد ، و
ربما من فوق ذلك السطح حيث كان القناص يراقب أخي العائد إلى البيت من الفلوجة،عندئذ
قد أرقص أو أغني على جراحي كما الحمامة المذبوحة ، لكني لن أموت قبل تفجير
الصمت بدويٍّ يغسل بعض عار، و سأعود بكيس بذار جديد ، فما زال الحقل ينتظر.
و أخيرا تسللت إلى المكان شظايا من الضوء الهارب عبر النافذة صوب الطريق،
فقادت خطاي إلى خارج المكان، تلفت يمنة و يسرة ثم غرست قامتي في بحر العتمة.
(*) تمثال الحرية كان هدية فرنسا بمناسبة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية.
الكاتب: علي احمد ناصر/ سوري مقيم في المملكة العربية السعودية-ابها-ظهران
الجنوب ص ب 98
|