أريد العالم وأكتفي
بالشوكولا
"الإنسان جوهرٌ لا مظهر"
قاعدةٌ مأفونةٌ لا يعمل بها أحد، فمنذ بدأ خط الشباب بالتدهور
نزولاً، ما عدت ألمح نظرة غيرة من أنثى، أو ومض إعجاب من ذكر، لذلك قررت شحذ
أسلحتي واخترت معركتي.
عذراً..
إنها القضية الأسخف في هذا العالم الواقف على شفا هاوية، ولكنها
القضية الأهم بالنسبة إليَّ!
ربما لأن عينيه صارتا تعبران كتفي لتسترقا النظر إلى كل هيفاء
ممشوقة.. أو لأن نشرات التوعية الطبية تؤكد على أخطار السُّمنة.. أو لأن الموضة
ما عادت تلائم تكتلاتي الشحمية، فمصممو الأزياء لا يعترفون إلا بمقاييس الهياكل
العظمية البشرية، يصممون ثياباً لأجساد خشبية لا فائض لحم فيها ولا شحوم.
المهم.. تعددت الأسباب والجوع واحد.
تقرصني معدتيّ ليلاً، فتمنعني عن النوم قريرة العين.
هل جربتم الانسلال من الفراش، لأن النوم لا يرضخ لمشيئة الأجفان، مع
الاعتذار من العشاق ومصابي القلوب العليلة؟
أتقلبُ في فراشي من جنب إلى جنب.. عند الطرف الآخر من السرير، يتمدد
زوجي هانئ البال مستسلماً لغطيطه، وإلى جانبه يرقد كرشه الكبير.
يغيظني رقاده، وتغيظني يقظته، حتى يجعلني موضع سخريته، مستعرضاً ما
حباه الله من ظرف، فأكون كبش الفداء حتى يستنفد قهقهاته، فيما أقاوم أنا بطش
تعليقاته بشبهة ابتسامة، كي لا أموت كمداً.
فإذا اجتمعنا على طرفي مائدة، فإنه يغرق في مناسف الأرز، وزوارق
الأطعمة، يتلمظ بالمقالي والمشاوي، يغمس الخبز بالمرق، ويقطع الصلب بالسكين،
ويبتلع ما بطرف شوكته.
ينساني تماماً، فيما أتطلع أنا إلى طرف ملعقتي، أخاف أن أغمدها حيث
لا يجوز، فإذا ما رفع رأسه، ولمحني، مسح الدهن عن أطراف أصابعه وشفتيه، وناولني
ورقة خس لامعة قائلاً:
"إياك أن تقطعي برنامج حميتك... إنها مسألة وقت وإرادة؟"
وقتٌ وإرادةٌ
يريدني غصن بان، رغم أنه يفوقني سمنة، لكنه لا يحمل هماً.
زيادة الوزن بالنسبة إليه وقارٌ رجولي مطلوب، بينما يحتِّم علي
ملاحظة ضرسي الطيب، الذي يستمتع باللقمة اللذيذة، ويفاجئه بطبقاتٍ تتجمع وتعلو،
بفعل الترسيب التراكمي، لتتشكل هضبة حول خصر كان يشبك أصابعه حوله يوماً، ووركٌ
فخيم، وأطرافٌ تلظّت بلحمها.
الأمر ليس سهلاً كما يفترض زوجي العزيز.. فمن يعيد لي فتنة قوام
مياس بعد حملين متتاليين، وعمر تجاوز غزلان صباه؟..
يطرق لسانه بسقف حلقه، ويقول لي مستحضراً صورة باهتة لي:
"كيف كنتِ.. وكيف صرتِ؟"
أشهد بأنه يتمتع بذاكرة متربصة لا تعرف النسيان أو المغفرة.
امتنعت عن الدهون، والشحوم، والسكريات، والنشويات، وكل ما لذ وطاب.
ثلاثة أشهر من المعاناة..
إنه صراع بين جسد متكتل على شحومه، وإرادة مستحيلة.. ركبت عنادي.
يخيل إليّ أن اللون الأخضر خرج من حيز بؤبؤي عيني، ورقد تحت بشرة
جلدي، أكاد أشف بظلال خضرة.
منذ ثلاثة أشهر وأنا أتناول "التبولة" كوجبة رئيسية متبعة حمية
قاسية لإنقاص وزني.
عطلت أسناني عن عملها المعتاد، فنسيت القضم والطحن واللواك.
بقدونس التبولة يفرم ناعماً، والبرغل ينقع بالماء ليطرى.. قاتل الله
الفرم والنقع.
مواعيد الطعام أوقات عصيبة، معدتي لا تنسى عاداتها تطالبني بما
ألفت:
الإفطار والغداء والعشاء.. بت لا أزور مطبخي إلا لماماً متجنبة
مواقع الفتنة ورائحتها.
بل وأكثر.. قاطعت كل المطاعم ذات المفارش المطرزة. وحتى تلك التي
تضع صينيتك أمامك، وتلتهم ما عليها واقفاً أو جالساً أو مستنداً على شراهتك.
خاسرةٌ أنا حين تهاجمني أطياف الشوكولا ـ الشر الأكبر ـ تحاصرني
وتراودني عن نفسها.. يمكنني لو استجمعت شتات الإرادة، مقاومة إغواء الأطعمة
بملحها وسكرها.. أما الشوكولا! تلك السمراء بالفتنة الطاغية، فإنها أمر
استثنائي يفوق طاقتي وقدراتي..
أمامها أضعف، وأكاد مع الجوع أقع مغشياً عليّ، فأنسى الوعود
المبرمة، والعهود القاطعة، والنتائج التي ستسر النظر..
أفقد رشدي، وأنقض عليها، لأستمتع بذوبانها البطيء هنيئاً مريئاً في
فمي، كما في القبلة الأولى.. ثم أندم.
تطل ابنتي منتصبة خلف قوامها المنحوت، لتتهمني بأني ضعيفة الإرادة،
تقف لي بالمرصاد كأني حطمت خط بارليف، أطمئنها بأنها مجرد تجاوزات بسيطة، وبأني
لن أتراجع بعد أن بدأت المشوار، وأقسم لها إني أحاول جهدي حتى إني اشتريتُ
ميزاناً جديداً، أقيس به أرطالي الزائدة، وأقارنه.
ـ زيادة في الحرص، وبشيء من الأمل ـ مع نتائج الميزان القديم،
وضعتهما متجاورين في ركن واضح من الحمام، أعتليهما بقدمين حافيتين، قبل الأكل
وبعده.. قبل النوم وفور الاستيقاظ منه.. أول الأسبوع وفي نهايته.
ولتنسجم أهواءُ النفس مع أهدافها، اشتريت ثوباً ثميناً، ينقص عن
قياسي نمرتين، جعلته سري الكبير الذي أخبئه في خزانتي، كل مساء أحاول حشر جسدي
داخل ذلك الثوب المشكلة.
ما زالت أصابعٌ أربعة تفصل عن الأزرار عن عراويها.
"ذكاء في غير مكانه" قال لي زوجي من بين أسنانه المطبقة خوفاً من
انطلاق ضحكة يكتمها.
أزرر خيبتي، وأنام عليها، فالحلم على ما يبدو أكبر من طاقتي للعناد،
وقدرتي على الجوع، لتعلن النتائج كلها رقماً واحداً لا يتزحزح..
عندما نريد قد .. نستطيع.
القارب
القارب المشدود بحبل ثخين مفتول يرسو على الشاطئ الصخري، يتعلق
بطرفيه مجدافان متعامدان كساعدين قويين متشابكين ينتظران فرصة مؤجلة للفكاك.
ترمش عيناه بتلك النظرة الحالمة يلقيها على القارب، يمسح بباطن كفه
الألواح الخشبية الملساء، تتلذذ أصابعه بتتبع انحناءات الألواح المتماسكة.
يهجس بالبحر.
يشتهي لو يجر القارب، ينزلق به فوق الرمل والحصى، ينز عرقُ الوجه
والجبين والإبطين، تبتلُ ساقاه بالماء، ينازلُ الموج العنيد ورغوة الزبد حتى
يتهادى داخل اليم الأزرق، يفرد الشراع المعقود، وتبدأ الرحلة..
ما زال على ناصية اليابسة متسمراً، ترتسم فوق الرمال الرطبة آثار
قدميه الراسختين بعناد أحلامه، ينحسر الماء عنهما، يترك حول كاحليه الرفيعين
خيوط الطحالب السوداء.
يصطفق هواء البحر بجناحي نورس، يهبان سوياً من جهاته الأربع، ودعوة
اليم الأزرق تطارده منذ أول إغفاءة حتى أول يقظة جفن..
تلك الرغبة ما فتئت تراوده، وتمنعه عن ركوب مخاطر الحلم: قامة
قصيرة، وذعر أم تدفع عنها غيم غيابه، ونصائح وجهاء العائلة بأطقم أسنانها
الصناعية، أولئك الذين تُمسك الحكمة برؤوسهم حتى يصيبهم الدوار، فيسقطون آخر
الوقت صرعى الهذيان..
عند كل مغيب، تتكوم أجسادهم الهرمة فوق كراسي القش والخيزران
الواطئة، ينطرون تحت قناطر بيوتهم، يسترقون النظر إلى النوافذ المفتوحة وتلك
المواربة بخبث، حين يفيقون بعد انقضاء النصف الأخير من النهار.
لا يتذكرون شيئاً، وهم لم يتفقوا على أمر واحد اتفاقهم على تحذيره،
قالوا: "ما زلت صغيراً أيها الفتى.. بالكاد خط شارباك.. أمك أحوج لك.. وعلام
الاستعجال، ففي النهاية القارب قارب أبيك، وقبعته تنتظر استدارة جمجمتك، وقميص
القبطان يتهلف مثلك لاكتمال بنية عظامك ورائحة رجولتك؟.."
وقالوا أيضاً:
"أيها الصبي الأخرق، وأبوك أخرقٌ مثلك.. ألا ترى كم تشبهه؟ كان رحمة
الله عليه يفيض قوة، وكانت الصبايا يَقعْنَ مغشياً عليهن حين يلوح لهن بيده، أو
يغمز بعينه، كادت الغيرة تقتل أمك المسكينة.. حين التهمه البحر اطمأنت إلى جثته
تستظل بشجرة التين في حوش البيت الكبير.. اسمع النصيحة يا فتى وانتظر.."
وهل أصعب من الانتظار؟
متشوقٌ لذاك الولوج.. يقف عند رصيف الخشبة متململاً .. متهيباً من
صدى الأصوات المحذرة.. لو لم تكن اللهجة حازمة!.
في الأمسيات المقمرة، حين ينسى نافذته مشرعة، تدخل الريح الرطبة،
تترك فوق وجهه أثراً من ملوحتها.
والغد البعيد لا يأتي.. يتعاقب الضوء والعتمة ببطءٍ متعمدٍ.. يحسب
أنها تغيظه، ويشقيه الترقب والانتظار.
بعد الكثير من الزفرات والتنهدات، يودع صدر أمه وحليب طفولته، يترك
خلفه صدى الأصوات الحكيمة، يغادر بإصرار، وبين عينيه رغبة الاكتشاف وأسماك
حمراء وصفراء وبنية تتلاطم.
تطلُ على الشاطئ الممتد قامته الممشوقة، يستنشق منخاراه زنخَ البحر،
ورائحةَ الرطوبة.
يمسحُ بكفه الخشنة جسد القارب المهمل، يفكُ اشتباك المجدافين،
تنقطعُ الحبال المتآكلة، يصعقه ما تتركه السنين الطوال والإهمال من تلف.
سيؤجل الرحيل حتى يصلح القارب.
يشمر عن ساعديه للمهمات الكثيرة، كان عليه أن يصلح الأعمدة.. يسد
الثقوب.. يجدد الحبال المهترئة.. يبدل الشراع.. فما بقي فوق الصاري ليس أكثر من
قماش بال، وكان عليه أيضاً أن يصبغ القارب بطبقة ورنيش لامعة ليعيد للهيكل
البحري انعكاسات بهائه تحت أشعة الشمس.
لم يعد الوقت مهماً ما دام الأفق يدعوه وما دام قد قبل الدعوة..
شرعَ يعمل بكلتا يديه من دون أن يأبه لسياط الحر، كان يغني للمرساة،
وظل يعمل طوال الليل من دون أن يأبه لجلد الريح، وصوته العذب يغني للشراع..
نسيت معدته دعوة الطعام، كان يبلل شفتيه بقليل من الماء، ويعاود
العمل، وخيال أبيه يتراءى له جثة ضخمة تطفو فوق الماء، حين سمع صوتاً رخيماً،
يخرج من البحر متناغماً مع تلاطم الموج، يناديه.
دقق النظر مظللاً عينيه بكفه، وجدها تعوم وحدها في آخر المدى، ينغمس
نصف جسدها الأسفل في الماء، ويطوف ما تبقى من جذعها وكتفيها وفجوة إبطيها
عارياً فوقه، تلمع بشرتها النضرة تحت أشعة الشمس، تضم شعرها الأسود المبلل
بمنديل أحمر، وتشع ابتسامتها من تنور وجهها، تفتح قبضتها وتغلقها معاودة
مناداته.
يا لفتنة القلب!
صاح دون صوت، ساحباً خلفه القارب وقد أخذته الموجة، مبحراً إليها
بمجدافين قويين، ولكن دون شراع!
تحت النوافذ المشرعة اصطف وجهاء الضيعة وكبارها في مجلس العزاء، وقد
لثغت ألسنتهم وسقطت (دكات) أسنانهم، يتمتمون بأدعيتهم، ويكرون حبات سبحاتهم،
يتحدثون عن فتى يخشون عليه مخاطر البحر والإبحار.
بعض مخلفات العاطفة
أرسلتُ الأولاد عند أختي، أغلقتُ باب غرفتي، واستسلمتُ للمرض.
في واقع الأمر، لا يعاني جسدي من علة عضوية حتى إن حرارتي أبت
التواطؤ مع شعوري بالمرارة.
مرَّ عليَّ أسبوعٌ وأنا أشكو من ضعف عام، وصفيرٌ يتردد في فراغ ما
في قفصي الصدري.
كنت أرزح تحت ثقل التهيؤات والكوابيس، حين سمعت صرير الباب، الذي
واربه قليلاً خلفه، فسمح لحزمة ضوء زحفت فوق ملامح وجهه، ومنحته لون شبح، بحركة
أثيرية تناسب الأشباح والغائبين، تربع فوق السرير إلى جانبي تماماً: ساقه
اليسرى لامست رأسي، أصابعه تخللت خصلات شعري المشعثة، كما كان يفعل حين يهم بي،
إلا أنه ظل صامتاً وساكناً كحجر..
جالت عيناه المكان ببطء شديد ثم حطتا عليّ.. تواريت تماماً تحت
لحافي الذي تحول إلى شاش رقيق شفاف، لم يخفني عن عينيه المتفحصتين، ظل يتملاني،
وأنا غارقةٌ في فراش ارتباكي، هو وحده دون هذا العالم، يتقن تلك النظرة الغائمة
التي تجعلني أكتم أنفاسي، أبتلع لساني، وأجمد.
بدا في سكونه المراقب كمن يبحث عن بداية مقنعة لا يجدها.. طويلاً
حتى خيل لي أنه تراجع عما جاء لأجله، خفض رأسه نحو الأسفل قليلاً، فلمحت شعر
لحيته النابت، سألته دون أن أنبس بحرف:
"لم لم تحلق ذقنك؟"
تمتم دون صوت:
"الزرافة تقضم أوراق الشجر الأعلى لأنها وحدها التي تمتلك تلك
العنق".
حين سمحت لأجفاني أن تتباعد قليلاً، كان زوجي ـ السابق ـ قد اختفى
كما أتى، دون جلبة، تاركاً قلبي يخفق بوجيب غير مطمئن
تحولت الكلمات من مجرد ذبذبات صوتية إلى طنين نحل، ظل يتمدد، ويعلو،
ويشتد، حتى سحبني من تناومي، فنهضت.
ساعة الحائط تشير إلى الثانية صباحاً.. أي حمقٍ لم يحتمل سباته!
نظرت حولي..
يا الله! كيف استباحت الفوضى أشيائي.. ومتى تراكم كل هذا الغبار؟
مرَّ وقتٌ وأنا معتصمة مع وحدتي..
أرمي أشيائي.. أبعثر كل لحظة من ذلك الماضي.. ألقي فوقها حاجياتي
وملابسي، ثم أتمدد فوق فراشي منهكة، فالفوضى أيضاً تحتاج إلى جهد. ألمَّ بي
شيءٌ من الخجل، كيف غدا بيتي مستباحاً، ألم يكفه زلزال خطواته الراحلة؟
جئت بسلة المهملات... من أين أبدأ؟ كل الأشياء يصح أن يُبدأ بها
أولاً.. عقدت العزم على رمي كل ما لا فائدة ترجى منه.
أمام هيبة مكتبه، لا بد من بعض التريث، لطالما كانت أوراقه هي
الأغلى، أقلبها متمهلة الواحدة تلو الأخرى، وجدت بينها مسودة روايته الأخيرة عن
قصة حب: حبه شخصياً كما علمت فيما بعد..
كان منصفاً، وذا كبرياء، رتب بنفسه حقيبة ملابسه، بعجلة أنسته آلة
الحلاقة وزجاجة العطر اللتين لا يستغني عنهما، لثم يدي وخدي، وخرج تاركاً البيت
لسيدته: أنا.
تقلصت ملامح وجهي، نوبة مغص أم مرارة الغبن؟
رغم كل المناورات، ألم أكن الشخصية الثانوية في هذه القصة؟ الفصل
الأخير منها كان جارحاً كالسيف، جملٌ قاطعةٌ، وعباراتٌ منشأةٌ، تطالبني بالركون
إلى أقداري، وتمنحه جناحي نسر.
يوم تعرفت إليه، كان ما يزال مدرساً جديداً في مدرسة إعدادية،
وكاتباً مغموراً في أول الطريق، نسج حباً على قياسنا معاً، لا يحتمل التأجيل.
من نقطة الصفر ابتدأنا: بيت متواضع.. رزمة أوراق بيضاء.. دستة أقلام
رصاصية مبرية جيداً.. وطموح بحجم السماء..
خفية عن الآخرين، شدني من ذراعي إلى المحكمة، لنعقد قراننا، دون أن
يقبل مني إلا الموافقة.
أمام قصة حب هوجاء، وطيش عاشقة لا تعرف التراجع، هُزم المنطق..
تمنيت لو يرضى الاثنان معاً: العقل والقلب.
لكن! كان لا بد لأحدهما أن يخرج غاضباً ـ ما من مفر ـ وكان لا بد من
اختياره.. وقتها ضمني إلى صدره، همس في أذني "أحبك".
في صوته رطوبة وندى، تأرجح قلبي في دوار مُسكر، أما حين سمح لأصابعه
بمداعبة خصلات شعري اللاهث، وتنهد ببطء متواطئ مقترباً مني، فقد تهاوت آخر
تصوراتي عن التماسك، حنطت تلك اللحظة حتى استعصت على النسيان أحتاج مهلة
للحزن.. وعمراً إضافياً فوق عمري كي أنسى.. أنا وحيرتي استلقينا فوق فراش
الخيبة.. كنت مرتبكة بما لا يطاق، وبضلالة من لا يؤمن بالأقدار، أدمنت التراخي
حتى تحولت إلى امرأة تستجدي دموع الشفقة، وقد أنست إلى هزيمتها، فيما الزمن
يركض خارج حدود غرفتي، في عالم لا يأبه لمصير الخاسرين.
كيف اختنق كل ذلك الحب رغم التضحيات؟
أحك بظفري خاتمه، يخرج المارد من وسط الضباب عاقداً ساعديه:
"شبيك.. لبيك"
ثم واجماً يكمل: "كل شيء إلا إرجاع رجل هارب لحضن امرأته"
اختفى المارد، وما زال الخاتم يلمع في إصبعي بحمق زائد.
أجاهد كي يستعيد قلبي وقاره، ويكف عن أرجحته، وهذا ما لم يكتشفه
الطبيب الذي جسَّ نبضي المضطرب، شخّص الحالة: ارتفاع ضغط من بعض مخلفات العاطفة
وصف لي حبوباً مقوية، أدار ظهره، ومضى.
أرمي القصة: قصتنا الخاسرة، لأتابع ما بدأته سلفاً.. أزيل الغبار
العالق فتستعيد الأشياء بعض رونقها.
ملابس فقدت تماسكها فبدت كخرق بالية.. أحمر شفاه هجر لونه.. فردة
جورب اختفت نظيرتها.. منفضة سجائر فاضت بمحتواها. كأس فارغةٌ علقت أصابعي
بدبقها: لربما كان آخر ما احتساه قبل أن يغادر.
هذا المكان يجب أن يحافظ على هيبته رغم الزوبعة.
نبضت الحياة في يديّ، فلم أتوان عن القشط، والمسح، أعملت عصا الريش
لأزيل عن قشرة القلب شبكة عنكبوت متقنة: غالب الظن أنها أكثر ما أثقل ضميره.
نظفت صفحة المرآة، فعادت تعكس بعض الأشياء الجميلة، عنق زرافة..
ابتسامة ما..
طويت ملابسي التي صنعت من تراكمها بعضها فوق بعض هضبة لونية منسجمة
ومتنافرة في آن.
بدلت بياضات السرير التي فاحت برائحة عرقي، هل نمت كثيراً؟
طردت آخر ما بقي في ذهني من طنين النحل، ولم يبق أمامي سوى فتح
النوافذ..
زهر البرتقال
تنحنح أمجد قليلاً قبل أن يعلن:
"سينضم إلينا أحد أصدقائي القدامى. هو مغترب يعيش في ألمانيا. ستكون
فرصة لطيفة للتعرف إليه.. إنه د. رامز راجي.."
ولم أعد أسمع شيئاً..
ما أضيق هذا العالم! بعد عشرين عاماً تحكمني الظروف كي ألقاه دون أن
أدرب وجهي كي يحتفظ بدهشته، ودون أن أدرب قلبي كي لا يخفق عالياً ويفضحني.
هاجمتني ذكراه مثل ومضات ضوئية، الواحدة تلو الأخرى، تلك القصة
القديمة، المفترض أنها بليت تماماً، بعد كل تلك السنين، ذاك الحب أصبح مستحاثة
أو هكذا كان الظن: ظني.
ولكن ها هو الماضي ينبعث من مرقده ليفاجئني كعوارض ذهول طارئ.. أصبح
عقلي عاجزاً عن متابعة ما يقوله صديقنا أمجد، فقد تفككت الحروف وصارت لا تعني
أكثر من أصوات تخرج من الحنجرة: حنجرته، كما تؤكد لي شفتاه المتحركتان.
انفصلت عن مجموعة الأصدقاء، وحتى عن الكنبة الوثيرة التي كانت
تحتويني، وعدت إلى تلك الأوقات الرائقة تحت أشجار البرتقال.
كان الوقت ربيعاً، وكنت ما أزال أختال بستة عشرة عاماً تجعل قلبي
مفرقعة نارية.. اندفعت نحوه دون تحفظ.. لم أقف عند حدي الأمثل كفتاة خجولة بل
تحرشت به كقطة عابثة راقتها كرة الصوف، كنت أتجاهل لهفته وأسبقه إلى مبادرة
العناق، بل لم أخجل حين اختلست منه القبلة الأولى.
جريئةٌ دون تحفظ، وأي عذر لي سوى أني امتلكت قلباً عارماً بالحياة..
في البداية كان يبتسم سعيداً باندفاعي أو مغروراً برجولته المحفزة.. دون أن
يُخفي بعض ذهوله ودهشته، لكن إلى حين، فسرعان ما انكمش على نفسه مذعوراً،
معلناً مخاوفه، مقسماً أني أبدو أمامه كنصف رجل.
افترقنا وكل جريرتي أني قفزت إليه، دون أن أخفي افتتاني به.
رحت بعدها أتساءل: "هل كان عليّ أن أكذب؟".
لم أسلم من ألم ودوار وقرصة في القلب الخائب..
في النهاية قلت لنفسي: "لا يطفيء النار إلا النار".
كنت هشة ومتعجلة، أحاول استعادة ذلك الإحساس الذي أدمنته من خلال
تلك الأشياء الصغيرة الجميلة التي كنا نقوم بها خلسة.
المرة تلو المرة.. ألم بعد آخر.. خيبة بعد أخرى.. لأكتشف متأخرة بعض
الشيء: أن الحب الأول مغامرة خاصة لا يمكن تكرارها.
حين يئست من العثور على بديل له المقاس نفسه.. قررت الزواج.
استذكرت كل المطبات، فأعملت جهدي كي أتصرف كطفلة ساذجة تبحث عن
الأجوبة. بدوت أمام خطيبي بريئة ومحصنة بوجه آخر لا يشبهني، تربص بي حتى ارتاح
إلى أني لا أفهم إلا ما أفهمني إياه شخصياً.
أنجبت منه شموساً ثلاثاً، أدور في فلكها، تذكرتهم.. وتذكرت الرجل
الذي يجلس إلى جانبي، ينفخ دخان "البايب" وهو يصالب ساقيه بثقة ما زالت تميز كل
حركاته. أشفقت عليه.
سيصل د. رامز بعد قليل.. سيجدني مرتبكة.. سأتلعثم.. وسيدرك أني ما
زلت تلك الحمقاء.. لا بد أن أنجو بنفسي.
لا بد من الهرب قبل أن يشعر أحد من أصدقائنا بما آلت إليه حالتي.
أمسكت حمالة حقيبتي في وضعية الاستعداد كمتسابق لا ينقصه للانطلاق
سوى صافرة البدء، وكنت أفكر هل يبدو الصداع المفاجئ سبباً مقنعاً للانسحاب
السريع. كنت متهيئة كي أنطلق فراراً حين رن الجرس، معلناً أن الوقت صار
متأخراً، وأني فَوّتُ الفرصة.
دخل ففاحت رائحة زهر البرتقال، لمحت وجهه، وتفحصتها ملياً، كانت
زوجته مختلفة عني تماماً، بالتأكيد ..فهو لم يسع إلى بلاد أخرى كي يختار سمراء
مثلي ذات قامة ضئيلة وعينين دون تميز لوني.
كانت هي ـ الأنثى الأخرى ـ مشدودة القامة كرمح، حمراء كجزرة، تملك
بؤبؤين زرقاوين كصفة سائدة بين النساء الأجنبيات، وكانت أيضاً تمسك كفه، وفي
نفس الوقت تسبقه بنصف خطوة، لأدرك أنها لم تعتد اللحاق به كما كنت أفعل أنا في
ذلك الزمان.
هو أيضاً باغته وجودي .. "مدام شامي" قدمت إليه نفسي بلقبي الجديد،
أم أني نسيت اسمي؟
أسقطتُ يدي في يده، وسحبتها بعد دهر.. سريعاً.
كأني به لم يتغير.. بل إنه ما زال يمتلك تلك الكف المربعة الدافئة،
كان خبثي يتمنى على الله لو أنه صار عجوزاً فقد جاذبيته ورشاقته، لكن شيئاً من
أمنياتي الحاقدة لم يحدث!
خفق قلبي باضطراب وغرابة لا تتناسبان مع ما كنت أطلبه منه هكذا دون
توقف.. بم.. بم..بم.
لا أدري لماذا التصقت بزوجي أكثر قليلاً مما كنت عليه قبل مجيئه، بل
إني سمحت لكفي الباردة بالرقود فوق ركبته في حركة إلفة ودفء تتناقض مع جليدها.
استلمت سياق الحديث والتعليق بظرف لا يسكنني إلا لماماً، كان يتوجب
عليّ أن أقضي على منافستي بالضربة القاضية.. وأحسب أني فعلت..
هو كان ساكتاً صامتاً كلغز محير، أملت أن يبدي امتعاضه.. حزنه..
ندمه.. تعمدت تجاهله مثل غريب لا أعرفه، لم تلتق أعيننا إلا خطفاً.
على مائدة العشاء، ومن خلال أبخرة الطعام سمحت لفضولي أن يحاصره كان
جالساً على الكرسي المقابل، وشاءت أذناي المتأهبتان أن تلتقطا رغم المسافة
تنبيه زوجته كي لا يشره في التهام الطعام، فكرشه يكبر ويزعجها.
أطاع تعليماتها مكتفياً بالحساء والسلطة، ثم أخذ يقضم الخيار
والجزر، حتى صار يشبه الخروف.
مع اقتراب الفجر انتهت تلك السهرة، وانتهيت بها، أرخيت كتفيّ وتنفست
الصعداء.
أخذت مكاني إلى جانب زوجي الذي يقود السيارة بذراع واحدة، فيما
الأخرى تحيط كتفي، دون تعمد أبعدت جسدي عنه، كان ذهني الشارد يبحث عن جملة
قالها لي رامز ذات وقت:
"أتخلى عنك كي أحتفط بك". لم أفهم يومها.
هل كان من الضروي لأقداري أن تلتقيه هذا المساء، حتى أعرف؟
شاب الرأس ـ أكاد أقول ـ ولم يشب القلب.. شيء ما أخذ يضايقني، تلك
المستحاثة نفضت عنها كل ما علق بها، تخلت عن تحجرها وتصلبها لتخرج بضّة، رخوة،
منتفخة بالحياة.
فوق مرآة السيارة أمامي انعكس وجه مراهقة تنضح بالرغبة، فيما ارتسمت
فوق شفتيها ابتسامة ماكرة تعدني بأشياء كثيرة.
حين ضحكت أخيراً
"لم أعرفه ورب الكعبة لم أعرفه"..
تغشاها نوبة ضحك، يتحول وجهها قرمزياً، وشيءٌ من اللعاب يلمع على
جانبي فمها، يهتز جسدها، فتحاول ما أمكنها السيطرة على رعشة يدها، حذرةً كي لا
ينسكب الشاي الساخن فوق زهور ثوبها البيتي..
أرمقها من بين أهدابي..
الحمد لله انقشع ضباب الحزن، وأقبل صيف اللامبالاة.
نظرة خاطفة إلى إشراقة عينيها أكدتا لي أنها لا تفتعل لتطمئنني.
أسعدني جرس ضحكها، وشحم خاصرتها المترجرجة، كانت تتثنى مع صليل
انفجاراتها المقهقهة، تفتح فمها على اتساعه، فتبان أضراسها والضواحك. تنتقل لي
العدوى، فنكركر معاً وتدمع عيوننا.
هي قصةٌ أسوأ ما فيها أنها تتكرر.
نافذةُ البيت الغربية جلبت إلينا فتنة لم يقاومها قلبه الهرم، صدق
ارتعاش الأهداب، وفتل شاربيه مطلقاً دون رحمة نظراته الشبقة.
لم تكن علاقة عابرة كتلك التي ما إن تبدأ حتى تنتهي، ففي أبي كل
مقومات الضحية المفترس.
كان جيبه مليئاً، ووهم رجولته متضخماً، بمكر مكشوف ردت له الابتسامة
المتصيدة بأجرأ منها.
أمي الطيبة جرته من أمام النافذة وحذرته: ستمرض.. لكن شهوة الربيع
أفقدته صوابه.. لم يكترث. ظل في مكانه يراقب رعشاتها من خلال ستارة خفر
واضطراب، ثم ظهر لها ضعيفاً مسلوب الفؤاد.
ما إن أشارت لـه حتى عبر إليها متسللاً من خلف ظهورنا وفرد صدره
عارياً، لم يستح من شعيرات بيضاء تعتلي طيات بطنه الثلاث، أعطاها ما كان من
حقنا، صبية النافذة تغاضت عن كروية جسده، ومنحته نعمة التلمظ بقوامها الممشوق،
ورمانتي صدرها المكشوف.
كان.. وكنا معه مسيرين نحو قضاء يجعل منه رجلاً سعيداً، ومني وثلاثة
أخوة وأمي مجرد ضحايا.
غاب أبي عن البيت، فقد وقع بين كلاّبتي شبابها المُحكمتَين.
تورم جفنا أمي المسكينة. أمسكت منديلها، وأدارت ظهرها تستذكر بين
غبش الرؤية عمرها معه، احتكمت لأديم الأرض، ولدقات قلبه البليدة، لكنه كان في
المكان الأقصى بعيداً عن إرادتها، حيث لا تطاله ذراعاها المهدودتان، تجاوز كل
الاعتبارات، وصار ينام في بيته الثاني.
بقعةٌ داكنةٌ في بؤبؤ عينها الذابلة جعلتني قلقاً. ألاحقها بحنان
ابن بار.
كان قلبي يغور في صدري حين أسمع نحيبها الليلي وهي وحيدة في فراشها.
سألتني ذات صباح، وقد فتك بلبها الحزن: هل يضايقك أن أطلقه..؟
كنت حانقاً، أتأرجح على حافة الكره، وكان ضغطها المضطرب يضطرني
لاستدعاء الطبيب الليلي المناوب.. لن نفقد الأم أيضاً.
قلت لها: هذا من حقك.
تم الطلاق بيسر شديد، كلمة جاهزة على طرف لسانه، سرعان ما نطقها كمن
يتخلص من زفرة، لم تكفه أكثر مما يفعله النطق بكلمة أخرى، رخيصة.. حاسمة..
سريعة.. دون تمتمة وبلا تردد.
أطفأ عقب لفافة تبغه، وقّع الورقة، وانتهى كل ما كان، ما أرخص
العشرة!.
"غياب الأجساد أكثر قسوة من حضورها الكاذب"
هذا ما قالته، وهي تبتسم لانتصارها المهزوم.
صرير سريرها في الليل جعلني أشاركها الأرق.
لزمنا القليل من الوقت .. القليل من التقشف.. القليل من التماسك..
وكل ما يلزم للاعتياد.
كأن شيئاً لم يكن، سار المركب دون ربان بإصرار غريق، وقدرة إلهية لا
تنسى الضعفاء.
***
هذا المساء كنا على عادتنا نحتسي الشاي الساخن ونتحدث كالأصدقاء.
تغلغلت أصابعها بين خصلات شعري وسألتني:
"متى سأخطبها لك؟"
تعرف أني غارق حتى أذنيّ في حب زميلة لي.
تداعبني بتعليقات تسعدني، تدغدغ أشواقي، فأبوح لها بما يحدث بيننا،
لنتقاسم موضوعنا الساخن.
رن الهاتف، كانت الأقرب إليه، ردت عليه، وناولني السماعة:
"شخص يطلبك"
من الطرف الآخر جاءني صوت أبي يريدني لأمر طارئ.
بلحظات مقتضبة ـ كما هي العلاقة بيننا ـ أنهيت المحادثة الهاتفية،
ثم سألتها مستغرباً:
ـ لماذا تتحاشين ذكر اسمه؟
اتسعت عيناها: من؟
ـ أبي!
ضحكت..
ـ هل كان أباك المتحدث؟ لم أعرفه ورب الكعبة لم أعرفه.
غشيتها نوبة ضحك فيما براعم ثوبها الصيفي تتفتق وتنشر في البيت
عبيرها.
أضيفت في 30/03/2005/ خاص القصة السورية من
مجموعتها فسيفساء امرأة الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
أحدنا كان يرتعش
أحكمتُ قبضتي على أصابعها الناعمة الزلقة .. في حركة التصاق حميمة .. يداً بيد
سرنا .. بكفين متشابكتين أخذتا تلوحان إلى الأمام والخلف بإيقاع انضباط رتيب .
ولم تكن تلك عادتها ، إذ لطالما شاغبتني تلك اليد الصغيرة ، محاولة التملص
والمشاكسة ، حتى أضيق بها ، وتضيق بي لترغمني في النهاية على التقاطها من زندها
وسحبها خلفي .
أعجب لها .. كيف تستسلم الآن ، تاركة كفها الطيع مستكيناً هادئاً داخل كفي !.
عرق خفيف نقلته لي أناملها المطمئنة ، من غير أن تتكهن باضطرابي الخفي : لا ..
ليست السيارات المتسابقة على تهورها .. ولا أولئك الذين يعبروننا بتجهم الغرباء
.. ولا الخواطر الخرقاء .. بل هي تجربة الفراق الأول .
ريح الخريف الخفيفة تكنس أوراق الشجر الصفراء . " يا ليتني أحضرت لها سترة
قطنية " قلت لنفسي .
الصباح رطباً ، انبعثت من الأرض رائحة أيلول الأولى ، طيبة وعبقة .
و كنت بصحبة طفلتي سنا نتجه نحو مدرستها ( روضة البلابل ) .
أول أيام المدرسة لا يربك بلبلتي الصغيرة ، على العكس تماماً ، تتوهج عيناها
ببريق المغامرة .. تحاذني باستسلام وطاعة نادرتين .. تتبع خطواتي برصانة طارئة
.. تتحصن بابتسامة حصيفة ناسبت زيها المدرسي : مريول أزرق بثنيات ثلاث منشاة ،
قميص تناوبت عليه مربعات صغيرة من الأبيض والأزرق ، وشريط أحمر عقدته لها
بعناية حول الرقبة .. حتى صارت تشبه معجزة اجتمع فيها كل ما في خاطري من حب .
ظلت سنا تتطلع إلى الأمام مباشرة متجاهلة نظراتي المصوبة نحوها . إنها تتبختر
بثقة أحسدها عليها . خصلات شعرها المرفوع كذيل الحصان تهتز بخيلاء بريء ..
عنَّ على بالي أيام ولادتها الأولى ، كانت فترة عصيبة ، قلق وقلة نوم ، لأكثر
من أسبوع ، حتى استعادت طفلتي الرضيعة هدوءها النسبي ، وكفت عن بكائها المستمر
.. ما أقرب ذلك الوقت إلى الآن !
لقد تسرعت .. أقسم ، فمازالت في الخامسة من عمرها ، ومازال في الوقت متسع كي
نفترق .. لمّ العجلة إذن ؟
كدت أنكس على أعقابي عائدة من حيث أتيت ، لولا أنني تذكرت الملل الذي صار
يصيبها طوال النهار ، وهي تتابع رسومها المتحركة : قط يلاحق فأراً .. حروب
فضائية .. وفتاة يتيمة تبحث عن أمها .. مسلسل عقب الآخر ، وهي متربعة كتمثال
بوذا ساقاً بحضن ساق أمام الشاشة . كما أن جارتي أم عمار سامحها الله طاردتني
حتى الإقناع : فعمار....ها صار يعد حتى العشرة .
يربكني صمت سنا الطارئ ، وهي الآنسة " إشارة استفهام " كما أمازحها حين تتعدى
استفساراتها حدود المعقول .
قلت في محاولة لخلق حديث يكسر صمتها : دقائق وتلتقين بأصدقائك الجدد .
أومأت برأسها ، وقالت بتأكيد مختصر : أعرف .
يا لحماقتي ! أولم أحدثها مفصلاً ، حتى عرفت كل شيء ، ولم تكتف .. بعدها
أمطرتني بأسئلة متتالية ، كان آخرها :
" وإذا حسيت مغص في بطني يا ماما ؟ " .
كانت متشوقة : ستتعلم الحروف .. ستقرأ مجلاتي .. سترسمني .. وستلعب أيضاً ..
البارحة ليلاً وثبت فوق ركبتي ، وطلبت بدلع أن تنام إلى جواري في الفراش ،
عيناها الخضراوين تقلصتا بما يشبه التوسل ، أرغمتاني على الموافقة .
فوق مساحة الفراش المحدودة احتضنت صغيرتي ، وفيما نسيم زفيرها المتقطع يلامس
خدي مر ليل سريع .
قال لي أبو سنا وهو يحاول إيجاد متسع له بيننا :
" يا عزيزتي .. يلزمنا طفل آخر ، فقد كبرت هذه العفريتة ."
كان يمزح ، ولكني أخذت أقلب الفكرة في رأسي : أخاً أو أختاً .. يا للروعة !
بذهاب سنا إلى المدرسة سأدور في الفراغ .. الشقية تملأ جلّ وقتي .
لم يكن مبنى المدرسة بعيداً عن بيتنا .. لكنني كما ليلى في قصتها مع الذئب لا
أختصر المسافة , فأنا أيضاً لم أكن مستعجلة .
من الناصية ، لاح آخر الشارع ، بدت لأعيننا البوابة السوداء ، مشرعة على
مصراعيها ، دقيقتان من التعثر ومثلها من التلكؤ ..
أمام باب الفصل تسمرت خطواتنا .
" ها قد وصلنا " : قلت لها .
بوجه باسم خرجت إلينا مُدرستها الجديدة ، هرشت رأس سنا في محاولة للتودد .
بادرت مرحبة :
- أهلاً بك يا سنا .
قلت لها :
- أرجوك ديري بالك على سنا ... فأنت الآن أمها الثانية .
كنت أجاملها ! لا بأس بقليل من التملق بل أكثر .. يمكنني في هذه اللحظة تقبيل
يديها من أجل رعاية خاصة ، وقلب متعاطف .
دفعتُ إليها برقم هاتف البيت . " إذا استدعى الأمر " : غمغمت .
هاأنا أفكر بقلق ، خواطر الوسوسة تصيب الأمهات عادة ، وهي تعني أن شيئاً لن
يحدث إلا في أذهانهن المتشككة . في واقع الحال ، لست سوى أم ستخلف حبة قلبها
وراءها وتمضي .
مر في بالي خاطر نغصني ، لماذا لم تبك سنا كما فعل عمار العام الماضي ؟ لقد بقي
المسكين ينخرط في عويل حاد كل صباح لمدة شهر كامل ، أزعج فيها كل سكان العمارة
، كان يتشبث ببسطة باب بيتهم رافضاً الخروج ، فتضطر أمه لفك أصابعه المصمغة فوق
قبضة الباب وجره خلفها .
شعرت بوخزة ضيق من الباسلة التي تواجهني .. لبرهة فقط .. فأنا إن استطعت احتمال
تماسكها ، فلن أحتمل ثورتها أو بكاءها . يُطمئنني تعقلها .. صغيرتي تتصرف كما
يُنتظر من النساء : هن خلقن للطاعة وللآخرين حق الشغب .
عليّ اختصار اللحظة الأصعب كما نبهتني مدرستها .
هممت بتركها.. انحنيت فوقها .. لثمت خدها الوردي وطرف عنقها في نية مبيتة
لانسحاب سريع .
شعرت بانتفاضة خفيفة : كفٌ قلقة تململت داخل كف .. عرق غزير رشحته أنامل ..
نبضت عروق .. انقبضت أصابع .. تشبثت باضطراب . قبضة حازمة أطبقت بإحكام : أحدنا
كان يرتعش .
ملاحظة
ؤخراً قررت أن تخونه ..
ضربت بقبضة يدها كالواثقة فقد اتخذت قرارها .. مضت أيام كثيرة بين قلق الفكرة
ورصد نتائجها ، جعلت الظلال ترسم هالاتها السوداء حول عينيها الحزينتين .
فكرة مجنونة !.. لكنها لم تجن بعد ، رغم أن الجنون قد يصادف البعض من سعداء
الحظ فقط .
تقلبت كثيراً قبل أن تقرر خيانته .
في النهاية ، كتبت له ورقة صغيرة ستضعها كملاحظة صغيرة مثل غيرها فوق باب
الثلاجة ، كانت الحروف تستدير بما يشبه الغيظ المكتوم لترسم فوق السطور هذه
العبارة :
" زوجي العزيز : قد أتأخر هذا المساء ، ذهبت في أول مشوار خيانة لي ، الأولاد
نيام ، والعشاء جاهز فوق الطاولة ، سأحاول ألا أتأخر " .
ابتسمت لنفسها ، وهي تتخيل شحوبه ، سيصيبه داء (باركنسون) فترتعش أطرافه ، لن
يصدق عينيه .
تمنت لو تعرف كيف تضبط الكاميرا التسجيلية لتلتقط له فيلماً عن معاناته
الإنسانية لتنقلب الأدوار فيصبح هو البطل وتكتفي هي بالمشاهدة .
سيتجمد الدم في عروقه ، وقد يظنها تسخر منه ، لن تعجبه النكتة ، لطالما نقصته
روح الدعابة ، بل ربما سيقفز خطوة إلى الوراء مذعوراً من جنونها ..
تسعدها تصوراتها الخبيثة ، فقد حققت أولى انتصاراتها .. أزعجته .
في خطوتها التالية ، عليها أن تستعد لملاقاة صديقها الجديد . تسرح شعرها ،
وترتدي ثوبها الوردي الذي يعكس ظلاله فوق وجنتيها بشكل أرضاها تماماً . زوجها
نفسه قال لها : إن أكثر ما يليق بها اللون الوردي . في هذا الوقت بالذات تأخذ
بنصيحته .
انتهت من رسم خطوط صورتها الجديدة بطريقة متقنة ، ثم منحت ملامح وجهها قليلاً
من الرصانة واللامبالاة ، و اتخذت مكانها خلف النافذة ، ترقب قدومه الوشيك .
حالما يظهر سينظر إلى الأعلى .. إليها ، فيما ستنزل هي إلى الأسفل .. إليه .
لن تتأبط ذراعه ، فالعلاقات الآثمة تحتاج للتظاهر بأن شيئاً ما لا يحدث .
ستلحقه إلى بيته ـ كما اتفقا ـ تاركة بينهما تلك المسافة المناسبة التي تبقيه
أمام أنظارها بحيث تتعقبه دون أن تفقده . لقد اختارته هو بالذات دون غيره
وبشروطها الواضحة .. لا ارتباط .
طبعاً لا ارتباط ، فهي مرتبطة بعهد أبدي يدعى الزواج موثق في أوراق رسمية ،
وأطفال صغار يصرون ببراءة على التعلق بها ، وحب لفظ أنفاسه الأخيرة منذ زمن .
وافق على شرطها ، إن لم تعترف بأنها أثلجت صدره .
هو يعمل في محل نجارة ، شاب يقربها في العمر ، وربما أصغر أو أكبر قليلاً ، فلم
يتسن لها سؤاله بعد .. وسيم القسمات له شفتين غليظتين ، جريء النظرات ، حين
تطلعت إليه من جهة اليمين ظنت أنه يشبه زوجها إلى حد بعيد ، وهو بسيط كما
المتوقع من نجار ، لم يجرؤ يوماً على التفكير بمثلها ، حتى حين كان يقيس أمتار
الخشب في مطبخها ويدونها بدقة على ورقته الصغيرة .. لكنها عرفت أنه بالضبط ما
كانت تبحث عنه ، فتحت له تلك الثغرة كي يمر ، ولم يضع الفرصة !..
هاهو أخيراً .. شبح يتحرك في العتمة ، يكشفه ضوء الشارع ، ينعكس ظله فوق حجارة
الرصيف الرمادية .
تحكم إغلاق الستارة ، وتبحث عن حقيبة يدها ، يخطر ببالها أن تلف رأسها بمنديل
تتخفى به ، لكنها تغير رأيها فلم يعد يتسع الوقت إلا كي تنظر إلى ورقتها
الصغيرة بغبطة ، وتعلقها بقطعة مغناطيس فوق باب الثلاجة ، ثم تبتسم ابتسامة لؤم
صغيرة .
تفعل ذلك لأول مرة ، أما هو ـ زوجها العزيزـ فقد أدمن فعلته .. لا يترك لها
ملاحظات تعلن خططه كما تفعل هي ، لكنه لم يحجم مرة عن طعنها بمغامرات عبثه ،
دون أن تقوى على رد نصل سكينه الذي نفذ بعيداً جداً نحو القلب تماماً .
قاومت ؟ هل فعلت ؟ لا .. فقط غطت عينيها وبكت ، كما تفعل النساء في مثل هذه
الأحوال ، لو كانت دموعها نهراً لنفد ونضب ماؤه .
سعادته في لذة البحث عن امرأة جديدة وهناك دائماً أخرى .. وأخرى .
سألته : " كيف تشعر بالسعادة مع غيري ؟ " . أزعجه السؤال والسائل ، هز كتفيه
غير عابئ ليقول:
" هذا أنا .. إن أعجبكِ "
بعد أرق ليال طويلة ، هاهي تخرج إلى مغامرتها الأولى ، فربما تعرف إجابة منطقية
لسؤالها الغبي ، فتعطيه العذر .. ولأنها حين قررت الخيانة ، لم يأت الكذب على
خاطرها ، فقد كتبت ملاحظتها كما تعودت أن تفعل حين تخرج من بيتها .
مهلاً ...
مثل هذه الأمور لا تحدث في حياتنا العادية ، وإن حدثت ، فبطرق أخرى أكثر
تعقيداً ، إنها فقط قصة قصيرة أتركها أمامكم كما وجدتها .. دون خاتمة !
رقصة الفالس الوردية
منذ لم يعد قميصُ نومها الوردي عاري الظهر والكتفين يثير منكَ ولو التفاتة
واحدة .
وأنت تهجس بالفكرة ..
كان الضوء شحيحاً ، ولم تكن تضمر لعنة ، مجرد فكرة فضحتها نظرتك ، حين دمعت
عيناها وتناولت منديلها ، مددتَ يدَك إلى صدرك تبحث عن حبك الهارب فارتطمت
بالشفقة .
يا للبؤس !
كممت فمك قبل أن تخرج تلك التنهيدة . تقلصت أطرافك خوف ملامسة لا تنبت ولا تزهر
.. كلاهما معاً اللهفة والاختناق .
كنتَ حزيناً أكثر منها ، تبحث عن دمعكَ الذي تجمد في المقلتين ، وتحول إلى نبض
في الصدغين ..
تهجس بالفكرة !
تتذكر رجاءكَ المتسول وأنت تطلبها من أبيها ، كانت حلقات الدخان تدور فوق
رأسيكما والصمت الوقور ..
" على بركة الله " قالها بصوته الخشن فتنفستَ الصعداء .. رقصت روحكَ فالساً لا
تتقن خطواته ، ودغدغت جوانبك الرغبة ..
لكزتك أختك من خاصرتك كي تهدأ .
فيما كنتما تجهزان منزلكما الزوجي قلتَ لها وعينك تغمز وحاجبك يرتفع :
- كل شيء في البيت سيكون باللون الوردي ..
غاصت غمازةٌ ضاحكة في خدها ، وقفز قلبك عالياً ، التفت البائع وابتسم في
وجهيكما ، كانت أسنانه سوداء .
كان فعل ماض ، عند زاوية الانكسار شفة مقلوبة .
تهجسُ بالفكرة .
نهضتَ فجأة ، و قررتَ أن تنام وبين كتفيكما مسافة سنوات من الانكسار، لتنتصب في
الحلم حقولٌ عطشى وأشجارٌ ظمآنة .
منذ أن تحول شأنكما الخاص إلى شأن عام واللغط والتساؤلات تحشرك في أضيق المواقع
.
بعد الساحة العامة منعطفات ضيقة ومتشابهة تسلكها في طريق عودتك من عملك إلى
بيتك .. تنتابك عقدة الاتجاهات .. القطط فقط ترجع إلى مأواها دون أن تضل ..
لولا بقايا انتباهك لضعت بين ملامح الوجوه المتجهمة الرمادية للعابرين .
زقاق منزلك يحتله عمال البلدية وآلياتهم ، تقفز فوق الحجارة المكسورة وبرك
الوحل ، يبللكَ المطر ، ويلطمك الهواء .
" الشتاء هذا العام يبدو قاسياً "
كل عام تردد الجملة نفسها .. يتسخ حذاؤك والمعطف ..وتغوص ببركة طين لم تتنبه
لها ..
آخر مرة حفروا نفس المكان كنتَ أكثر رشاقة وأقل شحوباً ، تضحك وتخوض في البرك
كلها وأنت تقهقه ، أما الآن فقد أطلقت لعنة وشتيمة .
منذ لم تعد الذاكرة نقشاً على حجر ..
وأنت تهجس بالفكرة .
شيء -لا مفر منه - يضغط على أعصابك ، ينسيك ألف باء الحب ، وياءه أيضاً ..
احتار بك الأصدقاء ، نصائحهم البيضاء ترتق في السماء غيماً لا يمطر .
لماذا الطلاق ؟ كان عليك أن توضح أمراً أنت نفسك لم تفهمه تماماً ، مما جعل
أصواتهم لا تعبر أذنيك ، وكأن سداً مانعاً يعيق المنطق .
هي تريدكَ وتقسم أنها تحبكَ أكثر من قبل ! .. أليست المرأة جبلاً من الرحمة ؟
تنتظر مثل مذنب برئ كلمتك العليا .. ونيران غضبك تحرق الأخضر واليابس .
تصل إلى بيتك مهزوماً ، ترمي معطفك الشتوي المبلل بنحيب السماء ، تشعر كم أرهق
أكتافك ثقله .
لو أنك ارتديت سترة المطر الجلدية لخففت عنك العناء ..
وكنت تهجس بالفكرة . فاجأك السكون . كان الصمت دامساً أكثر من العتمة .. في
قاعة الجلوس وحشةٌ توحي بالغياب أفزعكَ منظر باب الخزانة المفتوح والفوضى التي
جدَّت على المكان .. تأوهت أوجاعك دفعة واحدة ..
جرس الباب ، وجارتك تمد يدها بالمفتاح ، تقول بأسف :
" لم أستطع إقناعها بالبقاء "
تهز رأسك بارتياح .. لطالما تقدمتكَ بخطوة ، أنقذتكَ من المبادرة ، ووخز الضمير
، كم ستشوه من الأشياء بعد غيرَ ابتسامتها ؟ .
آخر مرة رأيت غمازتيها منذ مالا تذكر .. وكان ثالثكما حديث مقطوع .. وأنفاس
نرجيلة تعدها لك ثم تنسحب ..
تبرعم شوقٌ صغير مدغدغاً مَوات حواسك ، تشرب فنجان شايك .
تتقلب قليلاً فوق فراشك ، غداً في المحكمة ينتهي كل شيء .. تنام على الجنب الذي
يريحك .
الباب يقرع ويقطع عليك غفوة الظهيرة ..
نصف ابتسامة وارتباك كامل يطلان من وجه جارك ، يقول :
" عرفت أنها تركتك .. كل شيء قسمة ونصيب . هل يمكنني الدخول "
تبتعد عن الباب مفسحاً له المجال .
صوته يخرج غريباً وشائكاً :
" ربما أتعجل في طرق الموضوع لكن يقال أعزب دهر ولا أرمل شهر لولا أني احبك ما
فاتحتك بالأمر .. ما رأيك بأخت زوجتي .. لن أخبرك عنها .. ستعجبك حتماً .. إنها
ست بيت ممتازة .. متأكد ستعجبك .. لن أخبرك عنها ، سترى بنفسك ، صدقني هي تعجب
ملك .. صغيرة ونشطة و ... "
ترتعش يدك ، وتدغدغ جوانبك تلك الرغبة .. أين كوع أختك ليلكزك ؟
06/10/2003
|