أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: عزت عمر-الإمارات العربية المتحدة

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

كاتب وناقد سوري، يقيم بدولة الإمارات منذ 1990.

عضو اتحاد كتاب وأدباء الإمارات

يكتب القصّة والنقد الأدبي في الصحافة المحلية والعربية.

 

له من الأعمال:

ـ "قفص يبحث عن عصافير".  رواية نشرت في ملحق جريدة الخليج 1991  كمسلسلة أسبوعية على عشر حلقات.

ـ "النوافذ الذهبية" مجموعة قصصية للأطفال، صدرت عن دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 1996.

ـ سلسلة روايات غسّان، 13 رواية للناشئة، عن دار عمون للنشر، الأردن 2001.

ـ "أجنحة الفراشات"، مجموعة قصصية للأطفال، عن مراكز الطفولة والناشئة الشارقة، 2002.

ـ "مرايا البحر"  دراسات نقدية في القصّة والرواية في الإمارات،  دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2001.

ـ "صفحات من الأدب الطبي العربي، دعوة الأطباء ـ ابن بطلان نموذجاً" تحقيق، دار الفكر،     دمشق.  2003

ـ "توجّهات الخطاب السردي في الرواية الإماراتية والعربية" قراءات تحليلية، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2003.

ـ "نائم فوق الغيمة" قصة طويلة للأطفال، المجلس الأعلى للأسرة، الشارقة، 2003

مخطوطات جاهزة للطباعة:

ـ زمن آخر... مجموعة قصصية.

ـ الفراشات المسحورة: ديموقراطية الحوار لا ديموقراطية المصالح

 

قيد الإنجاز:

*كتاب عن القصيدة الجديدة وتوجّهاتها 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

 زمن آخر

 

زمن آخر

 

 

جاءني صوتها عبر الهاتف.. كان صوتاً بعيداً كأنه قادم من أعمق أعماق حلب، هذه أنا عائدة، قالت.. عائدة البطل كررت، وعندها تذكّرتها، عائدة زوجة صديقي حسّان عمران الشاعر المشهور الذي صدمته سيارة إسعاف مسرعة، فأقعدته طويلاً، ثمّ ما لبث أن انتحر وهو على كرسيّه ذي العجلات، وعلى مرأى من جموع الناس التي كانت ترتاد الحديقة العامة.

 

كانت العلاقة بيني وبين هذه الأسرة المنكوبة، قد فترت منذ أن قدمت إلى دبيّ، فالبعد الجغرافي والانشغال بتجارة النسيج المستورد من الهند، أنسياني أياماً رائعة كنت أمضيها بصحبتهما، وهاهو الصوت الحلبيّ المغرق في حميميته يغزوني من جديد.. غزاني، فأراني عتمة في داخلي لم تنجل برغم طيوف الألوان التي تثيرها الأقمشة في الدكان.

 

قالت عائدة فيما قالته من كلام كثير، إنّها عانت من ظرف معاشيّ صعب، وإنّها أيضاً على وشك الزواج من رجل تعرّفت إليه مؤخّراً، ولكن الأهم من هذا وذاك، أخبرتني أن تَرِكَةَ حسّانَ الشخصية ستؤول لي بناء على وصية كتبها قبل موته. ولم أسألها كثيراً عن هذه التركة، وإنما وعدت أن أزورها في القريب العاجل، ثمّ ما لبث أن انقطع الخطّ وتوقّف الاتصال، وعدت إلى زبونة كانت تساومني على عباءة مطرّزة، فآثرت الرضوخ لها والتنازل عن موقفي الرافض، فبعتها بالسعر الذي كانت تريده، كي أخلو إلى نفسي لحظات..

 

هاهي صورة حسّان تعاودني من جديد، تذكّرته عندما كان حيّاً منذ أعوام، كنا نقف في إحدى قاعات المتحف الوطني، وكانت مجموعة من التماثيل لنساء "ماري" يقفن أمامنا، ولا تفصلنا عنهنّ سوى واجهة زجاجية رقيقة وشفّافة.. كنّ جميعاً عاريات ويبتسمن بوجوه الأمم العابرة، ثلاثة آلاف سنة وهذه الابتساماتُ الرقيقةُ الشفّافة، تستوقفُكَ للحظات فتخالُ نفسَكَ تعيش قصّة حبّ حقيقية.. جمعُ النسوة ذاك كان في الحقيقة آسراً، ولكن الزجاج.. الزجاج الرقيق الشفّاف؛ الذي إنْ نقرته مجرّد نقرةٍ صغيرةٍ قد يتهاوى، وسرعان ما تنعدمُ الفواصلُ والسنينُ بين العالمين، فتتقدمُ نحو ابتساماتٍ وأجسادٍ متراصّة.. تتقدّم نحو زمن آخر.

 

يومها، قال حسّان وهو ينهض من كرسيّه بإعياء، وقبل أن ينقرَ الزجاج: "هي مغامرةٌ أخيرةٌ نقدمُ عليها، ثمّ نعود وكأنّ شيئاً لم يكن.."

 

 كان جاداً تماماً، لا بل إنه سرعان ما نقر الزجاجَ ثمّ جذبتنا معاً رياحٌ قوية نحو دهليز معتم..

 

***

 

بينما كانت عائدة تُعِدُّ لي فنجان القهوة، كنت أحدّق في البورتريه المعلّق في صدر الصالة، وأتذكّر تلك الدهاليز المرصوفة بحجارة بيضاء.. كنت أراه يسبقني بمتر واحد على الأقل، ولكنّ صوته الشبيه بوقوقة الدجاجة كان يأتيني كلّ حين لاهثاً:  "قريباً سنصل.. هانحن سنمضي إلى فناءٍ ملكيٍّ جديد.. من هنا.. من هنا.."

ربّما كنت سعيداً بصحبته تلك، بل ربّما كنت أيضاً أحسده على تلك الجرأة التي يمتلكها في اقتحام حاراتٍ ودروبٍ تمتلئ بالأسرار، ولكنني عندما سألته: "وماذا عن عائدة؟ ألا ترى أنّك تخونها عامداً متعمداً"؟!

ابتسم بوجهي كمن يشفق ثمّ قال: "لكلّ منا جنونه، ثمّ هاأنت تتبعني كظلّي"؟!

فقلت له محتدّاً: "لست ظلاّ لأحد أنا سليمان وأنت حسّان، وكلٌّ منا كائنٌ مختلفٌ عن الآخر"!!

"أنا أنت، وأنت أنا"، قال حسان ثمّ ابتسم ابتسامتَهُ المعهودة، التي لا تعرف أبداً إن كان يسخر منك أم يرأف..

كانت عائدة قد انتهت من إعداد القهوة، وهاهو عبقُ الياسمين يتقدّمها، ثمّ يجتاح الشرفة حيث أجلس، فنهضت قائلاً: "لقد افتقدت قهوتك يا عائدة.. وهاهو الياسمين أيضاً يفترش صينية القهوة.. كم أحبّ الياسمين"!

فضحكت عائدة، وكان لضحكتها وقعٌ خاصٌ في قلبي، ولكنني على الرغم من ذلك تماسكتُ ورحتُ أنتظر جلوسها، وعندما سكبت القهوة في الفناجين، ودارت رائحتُها النفّاذةُ في الدماغ، قلت لها: "لا بدّ أنك تفتقدينه الآن"؟ وبهزةٍ لطيفةٍ من رأسها سألتني ببراءة: "مَن"؟ فأُحرجتُ كثيراً، ولكنني أشرت إلى البورتريه المعلّق على الجدار، فنظرَتْ إلى هناك نظرةً مليئةً بالصمت، ثمّ استدارت نحو الليل وقالت: "لم أكن أنتظر سؤالاً مفاجئاً عنه؟ كنت أظنّني سأسمعُ منك أشياءً مازلت أجهلها، سيما وأنه قد مات الآن واستراح من أعباء هذه الحياة.."

ـ عائدة، هل كنت تحبينه..؟

نظرت إليّ بإشفاق، ثمّ قالت بما يشبه الابتسام: "في البداية كان ديكاً برأس طاووس، ثمّ ما لبث أن استحال إلى كومة ناتئة من العظام، ولكنني حقيقة لم أسأل نفسي هذا السؤال في يوم من الأيام.. وها أنا الآن أعيش من أجل المستقبل.."

"أيّ مستقبل وأيّ عيش"؟ تساءلت في سرّي، بينما كنت أرقب وجهها الملائكيّ يعكس إشراقاً بهياً خلتُهُ للحظةٍ أشدَّ لمعاناً من قرطيها الماسيين، أما ابتسامتها الزمردية، فكانت أشبه بنفحات ندية تلتصق سريعاً على جدران القلب، فنسيتُ حسانَ وغربتي في دبيّ وألوانَ القماش الصاخبة.. فلقد أسرني وردُ الشام، وحريرٌ فردوسيٌّ نافست ألوانُهُ الليليةُ ضوء القمر، فدارت الشرفةُ بي، ودار التفّاح، فقلت بحسرة موجوعة: "لو أنني عدّت لحظة واحدة إلى ما كان.. لو أنني ما هربت أماماً، ولكن ذلك ما جرى، وليس ثمة عذر الآن لنكئ جراح الحدائق.."   

وكأن عائدة في تلك اللحظة من الذكرى، أحسّت أنني مسافر في ذاتي، فنهضَتْ كموجة، ثمّ راحت تتقدمني إلى غرفة حسّان الخاصّة، وكانت قد حزمت سائرَ كتبِهِ وحاجياته الشخصية، ثمّ وضعتها قرب صندوقٍ خشبيٍّ كنّتُ اشتريتُهُ من أحد الأسواق، ولكنَّ حسّانَ يومها ألحّ عليّ في أن يأخذه لنفسه، وكعادته في التمادي معي باستئثار كلّ ما هو جميل، أصرّ على ذلك، فما كان منّي إلاّ الانصياع لرغبته المحمومة، وكانت عائدة على ما يبدو تراقبني، فتدخلت قائلة: "من ضمن الأشياء التي أصرّ على تركها لك أيضاً، هذين التمثالين وصندوقهما، فإن كنت لا تريدهما، فإنني سأطلب من عمال النظافة أن يرموا بهما مع الصندوق."

قالت ذلك بنزق واضح، مما دفعني لأن أفكّر في سبب كراهيتها لتحفة أثرية، ولكنني مع ذلك تداركت الأمر فقلت: "سآخذهما، فقد كان حسان استولى عليهما بعدما اشتريتهما من بائع الأثريات.."

وللمرة الأولى في هذه الأمسية الرطبة، أحسست بطيف رعشة ينتاب عائدة، فاختلجَتْ، ثمّ تماسكَتْ بسرعة وقالت ساخرة: "أهو الشيء الوحيد الذي أخذه منك؟! ألن تتذكّر شيئاً آخر.. أحداً ما.."؟!

بالطبع لم أُجبْ، والصمتُ في مثل هذه الحال لرجلٍ منكسرٍ مثلي أبلغ، فودّعتها على أمل أن أحضر في الغد وآخذ الأغراض المتروكة ..

 

***

 

كان الصندوق من الخشب وبواجهة زجاجية، وعلى الرغم من قدمه، كان يفوح على الدوام برائحة الجوز الأليفة إلى النفس، أما ألوانه المائلة إلى حمرة داكنة فتنعكس على الواجهة الزجاجية الشفّافة، ثمّ ما تلبث أن تخترق الزجاج نحو تمثالين لامرأتين وقفتا خلف الزجاج تبتسمان، وقد صبغت الحمرة المنعكسة خدودهنّ وصدريهما العاريين، فرحت أتأمّلهما وكأنني أراهما للمرّة الأولى، ولا أعرف في تلك اللحظة لماذا تراءى لي حسّان، وهو ينهض من كرسيّه ذي العجلات، ثمّ يقول لي: إنها مجرّد نقرة على الزجاج، فينزاح الفاصل بين العالمين.. رفعت يدي وأنا أرتجف من هول الفكرة. كانت يدي ما تزال مرفوعة، فنقرت.. وكأن الزجاج كان ينتظر هذه اللمسة السحرية منذ زمن، سرعان ما تهاوى، ثمّ غاب التمثالان الصغيران خلف كوّة انفتحت عليّ وراحت تكبر وتكبر، حتّى استحالت إلى ما يشبه باب مغارة من تلك التي كانت الجدّات يصفنها لنا في الصغر، ثمّ ما لبثتُ لحظةً إضافية، حتّى جذبتني رياحٌ قويّة أشبه بالإعصار، ورحت أنجذب وأنجذب نحو دهليز معتم.. مسافة خلتُها في البدء قصيرة، ولكنني عندما تدحرجت فوق عشب أخضر كثيف وطريّ وسمعت صوت نهر صاخب، أدركت أنني ابتعدت عن دبيّ كثيراً، ولكن أين أنا الآن؟

هكذا تساءلت، ثمّ بعد قليل اكتشفت أيضاً أنني ألبس ثياباً غير تلك التي كنت ألبسها: ثوبٌ أبيضُ يصل إلى الركبة وبلا أكمام، وحزامٌ قطنيٌّ صغيرٌ يلفّ الوسط، بينما حذائي بات عبارة عن نعال بسيور جلدية رفيعة، فرحت أراقب نفسي غير مصدّق، ولكن ما حدث قد حدث، وينبغي عليّ الآن أن أعرف أين أنا، وماذا ينبغي عليّ أن أفعل، كي أعود إلى حيث كنت..

هاهو نهر الفرات.. أعرفه جيداً.. كان النهر يسير هادراً، وعلى ضفتيه المتقابلتين كان ثمة مدينة تبدو شامخة بأسوارها العالية، وعلى اليمين منها كانت مساحات كبيرة من السهول الخضراء تمتدّ بعيداً.. بينما على اليسار، كان ثمة جسر حجريّ ضخم قد بني فوق النهر، ووفود عديدة من الناس، تجتازه نحو المدينة.. أناس أشبه بالفلاّحين يركبون عربات تجرّها الثيران، وآخرون يحملون على أكتافهم أبناءهم، ويقودون خرافاً وماعزاً.. فعزمت على اللحاق بهم ودخول المدينة، ثمّ ما لبثت أن ركضت كي لا أدخلها وحيداً فيشتبه فيّ رجال الحرس، وحسناً إني فعلت ذلك، وإلاّ لما كنت تعرفت إلى آسرة، العذراء البابلية..

 

***

 

"يومها كانت عذراوات بابل ينذرن أنفسهن لمعبد مردوخ.. ذلك المعبد الذي كان قد بنى برجه العملاق نبوخذ نصر بعدما أخضع اليهود وسباهم.."

قالت لي آسرة بينما كنّا نجتاز بوّابة عشتار نحو شارع الموكب المؤدّي للبرج: "قريباً سنصل إلى البرج ومعبد الإله مردوخ.. عليك فقط أن تضع في حجري قطعة نقدية صغيرة من الفضّة، وعندها سأكون لك.."

فرحت أبحث في جيوبي عن قطعة نقد فضيّة، ولكنني مع الأسف لم أكن أحمل شيئاً منها، فتأسّفت لها وقلت: "هاأنت ترين أنني غريب، ولا مال لديّ."

 فنظرت آسرة إليّ بعتب، ثمّ قالت: "لا بدّ من قطعة الفضّة إن رغبت بمضاجعتي أيها المسافر، وإلاّ فإنني سأجلس مع الجالسات على أدراج المعبد وأنتظر شخصاً آخر، وربّما يكون هذا الشخص محارباً، فالمحاربون في يومنا هذا هم الذين يمتلكون الأموال، ويقتنون الأشياء الجميلة. أما هؤلاء.."!! وأشارت نحو ركب الفلاّحين باشمئزاز، ثمّ أردفت: "أمّا هؤلاء فلا يملكون سوى حيوانات الهدي، يقدّمونها للكهنة، ثمّ يعودون أدراجهم، وينتظرون حتى الموسم القادم.."

تأثّرت كثيراً لما قالته، ولكنّ ذلك دفعني إلى حماس مفاجئ، وخاصّة بعدما انتبهت إلى تقاطيع جسدها المدهش، فقلت: "ولكنني مستعد للعمل يوماً أو يومين، كي أتمكّن من الحصول على القطعة الفضيّة"؟

فالتفتت إليّ بعصبيّة، ثمّ ما لبثت أن ابتسمت ساخرة:

ـ حتّى لو بعت نفسك في سوق النخاسة، فإنك لن تحصل على الفضّة، وإن حصلت عليها، فإنك لن تستطيع مضاجعتي، لأن القانون هنا يحرّم على العبيد مضاجعة من نذرن أنفسهنّ للمعبد. ولكنني على كلّ حال، أمتلك قطعة منها، وسأقرضك إياها..

أخذت القطعة الفضيّة منها، وأنا مندهش لهذا السلوك الجريء من عذراء بابل، ثمّ مضينا مع الركب نحو المعبد، لأداء الطقوس.

 

***

 

بعد تجوالنا في ربوع عاصمة العواصم، كنّا قد وصلنا إلى جنائن بابل المعلّقة، فقلت لآسرة وأنا أكاد لا أصدّق ما تشاهده عيناي: "إنها إحدى أعاجيب الدنيا السبع، وكلّ من في العالم يعرفها الآن." فنظرت إليّ آسرة بدهشة، ثمّ قالت:

"وكيف يعرفها العالم، ولم يكد أهل بابل يعرفونها.. لقد بنيت للتوّ أيها الرجل، أما ترى..؟!"

فأجبتها ضاحكاً: "تلك حكاية أخرى سأرويها لك فيما بعد."

فتأبطت آسرة ذراعي، ثمّ قالت: "ما زلت تدهشني أيها المسافر، ولكنني سأنتظر أحاديثك مساء.."

كنت خلال تلك اللحظات سعيداً كلّ السعادة بلقائي معها، ولكنني لم أفض لها بشيء من أسراري خوفاً من أن ترميني بالجنون، سيما وأنني كنت مسروراً للغاية بصحبتها، وها إني تعرّفت على جانب مما كانت نساء بابل يمارسنه من حياة، فماذا أريد أكثر من ذلك؟

ولكنّ المساء حلّ، وكان علينا أن نعود أدراجنا إلى الشاطئ الشرقيّ من الفرات، هناك حيث كانت آسرة تعيش مع أهلها، وعندما وصلنا إلى البيت، استُقبلت آسرة بفرح وكان المهنئون يملؤون المنزل، فبدءاً من اليوم ستودع آسرة عالم العزوبية، وتستقر مع زوج قدّمته لها الآلهة، أما أنا فقد بات عليّ أن أمتثل للتقاليد، وأمشي متأبطاً ذراعها بين جموع أهل الحيّ، كأيّ عريس داهمته عواصف الحبّ، فرحت أرقب حركات الراقصين المنسجمة مع وقع إيقاعات الدفوف، بينما في ركن غير بعيد، وقفت مجموعة من الفتيات رحن ينشدن أعذب الألحان، وينثرن الورود على مجلسنا كلّ حين..

وعندما انفضّ الجمع استلقيت على سرير الزوجية منتظراً مجيء آسرة، ولكنها في تلك اللحظات المحمومة، كانت منشغلة بإعادة ترميم زينتها، فقلت لها وقد انتابني الحماس: "أنت أروع امرأة شهدتها عيناي يا آسرة.."

فابتسمت بوجهي بينما كانت تعقص شعرها بأمشاط صغيرة من العاج، ثمّ قالت: "وأنت رجل لطيف، وأتمنى أن أنجب منك طفلاً يشبهك.."

ـ طفل..؟! قلت متسائلاً بدهشة، فقالت: "نعم طفل.. ألا تريد أن يكون لك منّي طفل رائع يكبر في كنفنا، ثمّ يصبح بطلاً في جيش مولاي الملك"؟

ـ آسرة ماذا تقولين.. ألا تعلمين أنني مسافر، ولا أستطيع المكوث هنا طويلاً؟

فأجابت آسرة بشيء من الحدّة: "من يراك يصدّقك.. ولكنك لا تملك مالاً.. فكيف إذاً ستسافر"؟

ـ لا أعرف.. لديّ شعور بأنني سأعود من حيث أتيت في يوم ما، ولذلك انسي قصّة الحمل هذه، ودعينا نعيش أحلى أيام عمرنا..

فنهضت آسرة قلبي، واتّجهت نحوي، بعدما أزاحت غلالة الكتّان الشفّاف التي كانت لبستها للتوّ، ثمّ استلقت بجانبي، فملت إليها، وذهبنا في عناق طويل، شعرت من خلاله أن عذراء بابل لا تسعى لإيفاء نذرها فقط، وإنما باتت تحبّني.. أنا الرجل المجهول القادم من زمن آخر؟!

وكنت حتّى تلك اللحظة من العناق الجميل، لا أتوقع لحظة واحدة أنني سأبادلها هذا الحبّ، وسأقع في غرامها. كان كلّ شيء يبدو لي كحلم جميل وغامض تراءى لي في النوم، فقلت لها:

ـ لن أمضي وأتركك وحيدة يا حياتي..

فجاهدت كي تخفي انفعالاً طغى على وجهها..

ـ دعنا الآن من ذلك، دعنا الآن.. أيّها..

سكتت، ثمّ تداركت أمراً كانت نسيت أن تسألني إياه منذ الصباح، فأردفت:

ـ ولكن ما اسمك أيها الرجل الذي يقاسمني فراشي.. أليس لك اسم مثلنا..

فأجبتها: "بلى، ولكن فاتني إخبارك به.. إنه سليمان.."

ـ اسم جميل..

ـ وأنت آسرة قلبي.. أنت قمري وأعشابي.. أنت حديقتي وفرسي..

ـ أراك تقول كلاماً جميلاً.. هل تقولون مثل هذا الكلام دائماً لنسائكم..

ـ أنت امرأتي الوحيدة.. حلمي الذي تورّد كوجنتيك الآن.. يا زنبقتي الطالعة في سهول الفرات، أذوب حبّاً بك..

ثمّ تلتها لحظة عاصفة من الصمت، فاشتعلت النيران فوق عرشنا الشبيه بزوارق الفراعنة.. نيران تزداد اشتعالاً كلّ حين، ولم تنطفئ حتى سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب، ولا أعرف لمَ عادت بي الذاكرة، نحو رجال يأتون في مثل هذا الوقت تماماً، يقرعون الباب، فيقتادونني إلى مكان مظلم.. يا للذكرى المريرة قلت في نفسي، ولكن آسرة ستقطع عليّ حبل المرارة، وستقول لي كلاماً لم أفهمه، وبينما كنت أستعد للنهوض، وإذ بثلاثة رجال أشداء يقتحمون الغرفة، ثمّ يقتادونني كأيّ خروف..

 

***

 

كانت الشمس قد أشرقت، وها هي نسمات الصباح اللطيفة تداعب ستائر غرفتي، بينما اشتعلت حركة المراكب على الخور.. كلّ شيء في دبيّ بدا رائعاً وأخّاذاً في تلك اللحظات من الصباح، لولا هذا الصندوق الذي أعادني إلى آسرة قلبي، وإلى لحظة في حياتي خلتها لن تعود أبداً، فتساءلت إن كانت مداهمات المنازل عادة توارثناها من جملة ما توارثناه منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام؟ مع الأسف، إنها الحقيقة المرّة ويبدو لي أننا سنظلّ نكتوي بنارها، كلّما التفتنا إلى الوراء!!

وفي تلك اللحظة العابقة بالتفكير المرير، رأيتها.. نعم رأيت عائدة والدموع تكاد تنهمر من عينيها، فقلت محدّثاً نفسي: ستفعلها بالتأكيد، إنها امرأة مجنونة، لقد تركتني ذات يوم وتزوجت حسّان، وهاهي الآن تستعد للزواج من رجل آخر، لماذا تعذّب نفسها هكذا؟ ثمّ هذا الصندوق الذي كنت توّاقاً لاقتنائه، ماذا سأفعل به الآن؟!

 وبلا أيّ إرادة منّي مددت يديّ إلى حيث كانت آسرة تقف.. حملتها برفق، وكانت ما تزال تبتسم لي تلك الابتسامة العذبة، اتّجهت نحو الصالة، اخترت ثوباً من الساتان المزهّر، لففتها به بإحكام، وخرجت من المنزل متّجهاً نحو رصيف القوارب، وقفت قليلاً وأنا أحمل التمثال، ثمّ وعلى طريقة الفراعنة في الهدي للنيل، لوّحت للخور ثمّ رميت بها أضحية للملوحة والسمك، وعندما اصطدم التمثال بسطح الماء رفع أحد رجال "العبرات" عينيه إلى الأعلى، ثمّ لوّح لي بيده مشيراً إلى جهة ما، فلوّحت له بيدي أيضاً، ثمّ عدْتُ إلى الصندوق، فوجدت عائدة ما تزال تنتظر، فرحت أحدق بالألوان الزهرية وهي تصبغ وجنتيها، بينما يدي كانت ترتفع نحو الزجاج، ولكنني في اللحظة الأخيرة خفت أن أنقره، تراجعت، نظرت حولي، وكان الخور يمتلئ حياة، بينما في الجهة الأخرى وقفت عائدة البطل تلوّح لي وتبتسم..

 

أضيفت في 12/10/2004/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية