الطّائش
إنه
طائش..متهور إلى ابعد الحدود.
قالت
لي والدته وهي تحيد بوجهها عنّي لتنظر إلى فنجان القهوة الصغير المزيّن
برسوم نباتية ذات ألوان فاقعة وشديدة التباين. كنّا آنذاك كعادتنا في
استقبال الضيوف صيفاً فحين تجنح الشمس إلى مغيبها متحولةً عن سطوتها والقيظ
الذي تفرضه طوال فترة النهار إلى رسم بديع لطيف وكتلة حمراء برتقالية ترحل
إلى الأفق حيث تلتقي بشفق برتقالي كأنه وفد خرج خصيصاً لاستقبالها..ونسائم
منعشة, و يلوح البحر الفضي هادئاً لا نهائياً بسفنه وجزيرة أرواد الصغيرة
التي تعوم فيه..يحلو الجلوس على سطح المنزل المطل على البحر.. وشرب القهوة
أو المتةّ وتدخين النرجيلة التي كان والدي مولعٌ بتدخينها على وجه الخصوص
وتجاذب أطراف الحديث.
كنت أراقب
تعابير وجهها الدائري المكتنز الذي ينطوي عن جمال غابر والكثير من الأسى
وهي تشرح لي
عن نديم ابنها وصديقي من أيام الطفولة الذي انقطعت أخباره عني مدة طويلة
حيث قدّر لي أن أتابع دراستي في الخارج.. كانت تتحدّث عن فشله في إدارة
المحل الذي يديره بتمويل من والده بحزن وعيناها تفيضان بأسىً رقيق. وبينما
تردد عبارات مبعثرة عن طيشه وسوء تقديره مثل:
_
لقد صرف كل
شيء..ثم دخل في شراكة في مشاريع فاشلة دون أن يحسب حساباً لشيء .. وها هم
المدينون يطاردونه...
آنذاك وبدون
إرادةٍ مني وبالرغم من ذلك الجو الجدّي لم أتمالك نفسي حين تذكرت أمراً ما
. فندّت عني ضحكة خفيفة. كانت ضحكتي مشينة وغير لبقة وبدت كشماتة, واستنكر
والدي فعلتي هذه بنظرةٍ منه..
ما
أعظم خجلي ! ضاق فيّ المكان على اتساعه فنهضت معتذراً بحجة أني ساجري
اتصالاً هاماً وأنا ألوم نفسي على ذلك التمادي..وعندما اختليت بنفسي ضحكت
من جديد وقد عاد حديثها هذا بذاكرتي إلى الوراء..إلى أيام الطفولة.. وهاكم
القصة :
كنّت آنذاك
في العاشرة أو أقل , وكنا وشقيقي نتردد إلى منزل نديم في أيام العطل حيث
يحلو لنا اللعب والقفز في منزلهم الرحب الواسع المتنوع التصميم . ففي خلفية
المنزل حديقة غنّاء كانت والدته تعتني بها أشدّ العناية نبتت فيها أشجار
مختلفة مثلاً شجرة ( إكدنيا ) وشجرتي ليمون صغيرتين تبدوان كتوأمين ومجموعة
لا تحصى من الورود ذات ألوان بديعة تخلب الفؤاد بجمالهوثمّة دالية عنب عرشت
بجذعها الصلب الأسمر على السطح حيث تمتد على ثقالة حديدة احتلت ربع السطح
. ويقبع إلى جوارها هناك خزان مياه حديدي مازلت أذكر لونه الأسود وشكله
المهيب الذي يطالعك فور دخولك المنزل من فوق الممر البسيط الذي يفضي إلى
الصالون الكبير المزين بأشكال هندسية ونباتية من الجبس الأبيض
كان يوماً
مشمساً من أيام آذار حيث تجلت أولى بوادر الربيع بالنسائم المحملّة بغبار
الطلع والندى الجميل الذي يطيب له الإستلقاء على أوراق الأعشاب الخضراء
الفتية التي ولدت بعد مخاض الشتاء.
توجهنا
يومها إلى زيارتهم..
رحنا
نلعب بشتّى الألعاب..كنت وقتها مدلّهًا بلعبة الكرات الزجاجية الصغيرة (
الكلّة ) ..ولعبنا بها طويلاً ..صرخنا وضحكنا, ثم انضمت إلينا صديقة شقيقته
في المدرسة وهي فتاة بدينة بوجه أبيض منمّش تحمل بيدها لعبة مخلوعة الذراع
وتبكي لأقل مضايقة.. فلعبنا لعبةً مشتركة مع الفتيات. ثم دعتنا والدته
لتناول الغداء حيث حظينا بوجبة لذيذة وشربنا شراب الورد حتى انتفخت بطوننا
.
وبعد الغداء
وكما هي عادة الكبار استلقى أهله لقيلولة بعد الظهر وطلبت إلينا والدته أن
نلعب في الممر الصغير ونغلق باب الصالون كي لا نزعجهم بضجيجنا.
لم يتبدّل
الجو بعد الظهر كما هو دأب أيام آذار حيث يشهد النهار فصلين مختلفين فقبل
الظهر سماء صافية وشمس ساطعة لطيفة وبعد الظهر تداهم زرقة السماء وعلى حين
غرّة سحب سوداء مدعومة برياح باردة وتهطل الأمطار..لذا يسمى هذا الشهر (
آذار الغدّار )
استلقينا
على الأرض نتحدث ونضحك..ثم اقترحنا لعبة القفز..حيث أوحاها لنا سلّم صغير
يستند إلى جدار الممر نسميه بالعامية ( السيبة ) واللعبة على هذا النحو.
نصعد إلى أعلى درجة ثم نقفز على ( فرشة إسفنج ).. نضعها في الأسفل خصيصاً
كي تقي أجسامنا من الأرض الصلبة. و مضت شقيقته بهدوء إلى الداخل لتحضر
الإسفنجة وتناهى لنا شخير والده شديداً مركزاً فور فتحها للباب..
كنّا نلعب
بمرح نقفز من أعلى درجة بينما اكتفت الفتيات بالقفز من منتصف السلّم.وتصبب
العرق من أجسادنا..
توقف نديم
فجأة عن اللعب وقال..انظروا إلى ذلك الخزان الأسود..سأقفز من هناك ولا حاجة
لي بالإسفنجة. لا أحد يدري كيف خطر له هذا ولماذا ؟ بدا الأمر لنا غاية في
الشجاعة وتطلعنا إليه باستغراب مقلبين أعيننا بينه وبين الخزان المرتفع
مشككين بقدرته على فعل ذلك..
قالت شقيقته:
_
لا إنه مرتفع
ساقول لبابا .
فرد بحزم
وقد زم حاجبيه الدقيقين الذين يكللان عيناه الخضراوين:
_
إن فعلت سأخبر
الغول ليلاً أين تنامين كي يأتي ويأخذك
..
فصمتت
لفورها مذعورة ونظرت إليها صديقتها يحدوها الخوف هي الأخرى.. ثم صعد إلى
السطح وغاب عنّا لثوان ونحن نترقب في حماسٍ صدق ما ينوي فعله ثم ظهر وهو
يصعد الخزان ..
_
أزيحوا (الفرشة
) سأقفز الآن..
_
ساقول لبابا .
_
جربي فقط
وسترين ..أزيحي الإسفنجة الآن
..
وما كان من
المسكينة إلاّ أن أزاحتها خوفاً من الغول الذي يهددها به..
كان صوت
شخير والده ينساب على نفس الوتيرة..ووالدته تغفو متعبة على الديوانة بينما
تشاهد إحدى المسلسلات..
أشرأبت
أعناقنا و سيطر علينا الفضول بينما نراقبه وهو في الأعلى وقد جثا على
ركيتيه ونظر بحذر إلى أسفل محاولاً أن يقدر المسافة. ثم وراح يبحث عن
وضعية للقفز
وأخيراً وقف
بجسده الصغير النحيل فوق الخزان والغيوم البيضاء تعبر السماء من فوق رأسه
بأشكال مختلفة وقال ملوحاً بيديه:
_
هي.. تراجعوا
إلى الوراء ثم ثنى جذعه .. وقفز.
و رأيناه
جميعاً وقد تراجعنا مذعورين يهبط بسرعة شديدة وفي عينيه خوف ودهشة.. واصطدم
بالأرض بشدّة ! كان قد سقط على جنبه وتكوّر قليلاً على نفسه..
ساد صمت
لثوانٍ قليلة..
ثم تحرّك
منقلباً على ظهره وهو يقبض على ساعده الذي تغير شكله واكتسى
بلون بنفسجي
غامق. لقد كسرت يده.! وصرخ صرخة مدويّة بدّدت على الفور صورته الشجاعة..
وانكمشنا على أنفسنا من الذعر.
وعقب
الصرخة, فُتح الباب وظهرت أمه.. استيقظ والده وجاء راكضاً بشعر منكوش
وعينان منتفختان..
_
أبو نديم !!
لقد كسرت ذراعه..يجب إسعافه ..أبو نديم
!!!!
وسرت
فوضى شديدة وقد ارتفع صراخه..
_
ماذا حدث..ماذا
؟ سأل والده بغضب وهو يرتدي حذاءه كيفما اتفق لإسعافه.
_
لقد قفز عن
الخزان ..أجابت أخته باكية
..
بينما
رددت أمه والدموع تفيض من عينيها..
_
لماذا أيها
الطائش.. أسرع يا أبا نديم..أسرع..يجب إسعافه يا ويلي
!
طائش ( هذا
الولد ) ..طائش ..
الدّرب الموحل
تعّود
الأستاذ مهند المدير الجديد لمدرسة ( ب) الابتدائية الواقعة في إحدى ضواحي
مدينة (س) أن يخرج آخر شخص من باب المدرسة بعد أن يقوم بجولة تفقدية مع أبو
أكرم آذن المدرسة العجوز تشمل كل الطوابق ودورات المياه والمكاتب. ثم يقفان
معاً على الباب الحديدي الواسع الذي تنتصب فوقه لوحة كبيرة كُتب عليها اسم
المدرسة وتاريخ تأسيسها وكلٌّ منهما شاردٌ في مشاكله الخاصة... الأستاذ
مهند يتأبط جريدة وبعض الكتب وينظر بعينيه العسليتين المدورتين تقريباً
كعيني طفل واللتين تحتلان جزءً لا يذكر من وجهه الدائري الأبيض المحلوق
بشكل جيد.. صوب الأحواض الإسمنتية المقامة أمام المدرسة _ المفروض بها أن
تكون حدائق تابعة للمدرسة حيث أن مخصاصتها اختفت وبقيت أحواض مليئة بالطين
والأوساخ_ وقد حولتها أمطار تشرين الثاني إلى شبه مستنقع ومن جديد يفكّر في
كيفية إزالة هذا الكابوس من هنا. ويشير بيده مكلماً أبو أكرم:
_
عندما يأتي
الشتاء ستتحول هذه الرقعة إلى مستنقع حقيقي..هل هذا يليق بمدرسة..
فيجيب أبو
أكرم باقتضاب:
_
أي والله معك
حق يا أستاذ
وإلى ذات
النقطة ينظر أبو أكرم بوجهه العجوز النحيل بيد أن عقله وضميره ساهمان في
مشكلةٍ أخرى فمنذ وفاة زوجته وزواج ابنته الصغرى.. أصبح فريسة للملل
والوحدة بعد تفرّق أحباءه عنه..و أخذ موضوع الزواج يخطر بباله باستمرار بعد
أنه هام بامرأة مطلقة تقطن في حيّه ..بالرغم من أن أولاده تزوجوا وتفرقوا
وغدا لكل منهم حياته إلاّ أنه شك في ردّة فعلهم من الموضوع..وهذا ما قض
مضجعه.
ويسود
بينهما صمت قصير بعد تعليق الأستاذ بينما نسائم باردة تلفح وجهيهما ثم
ينصرفان.
منذ أسبوعين
فقط عيّن الأستاذ مهند مديراً لهذه المدرسة بقرار وزاري بعد أن أعفي المدير
السابق ونائبه بسبب تورطهم بقضايا فساد واستغلال أموال تابعة لنصاب
المدرسة, و اختير
هو بناءً
على شهادته الجامعية في التربية وعلم النفس وكان قبل ذلك أستاذ بسيط كأي
أستاذ هنا, وكان الأمر مفاجأةٍ للجميع ليس فقط لأنه الأصغر سنا بين
المدرسين اللذين يكبرونه بسنوات بل لغرابته!!
إذ كان ضخم
الجثة يبلغ طوله أكثر من 190 سنتيمر , انطوائي و قليل الكلام بشكل استفزازي
وعديم الاهتمام بهندامه الخارجي مما يعطيه أحيانا هيئة عامل أو حتى يخاله
المرء آذن المدرسة لا مديرها ! ولم يبق هذا بالبعيد عن مضمار سخرية ونكات
المعلمين والمعلمات..بيد أنه لم يشعر بذلك البتة.
كان يقطن في
نفس المنطقة غير بعيدٍ عن المدرسة,ويقطع المسافة إلى بيته سيراً على
الأقدام .
يمرّ على
بائع الخضراوات يشتري فواكها أو دجاجة وخبزاً.. وعقله معلّق بالمدرسة يفكّر
في إصلاحات جديدة وأعمال إضافية..وحجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه, فقد
أدرك منذ البداية أن الأمر ليس بسيطاً وأنها مسؤولية عن نمو جيل بأكمله
وبالتالي عن الوطن.. هكذا كانت قناعته وبالتالي قرر أن يضع أهدافا واضحةً
لعمله.
على باب
منزله المكون من طابق واحد.في حيّ شعبي تتشابه فيه كل المنازل مع بعضها
لأنها بنيت بنفس الظروف _ يعني بنيت بسرعة وبمنء عن عيون البلدية التي كانت
تحظر في وقت ما البناء هنا .. تطالعه ملاحظة زوجته:
_
اخلع حذاءك عند
الباب..وضعه تحت الدرج
..
فيخلع حذاءه
ذو المقاس الكبير ويرميه في خزانة صغيرة للأحذية وضعت فوقها علب (بويا)
قلما تستخدم ثم ينظر إلى جدران مدخل البيت( المليّسة) بالإسمنت حيث ظهرت
خطوط بيضاء من الكلس من جراء الرطوبة وتقشّر بعضه وتفسّخ مظهراً جسد
(الخفان ) الخشن..
يتناول
الغداء مع زوجته بهدوء, وزوجته ليست موظفة ومتوسطة الجمال بيد أنها كانت
ذات ذوق مميز بالطبخ, تقضي الوقت في الأعمال المنزلية العادية والاعتناء
بالطفل الرضيع أو في استقبال جاراتها.. وخلال فترة الطعام لا تنفك عن
الحديث وطرح الأسئلة عن الطفل والجيران و رأيه بالطعام..وأنها حضّرت حلوى
جديدة وتريد رأيها فيها بصراحة.. وتسأله عن المدرسة التي تصلها أخبارها عن
طريق الجيران..
وإجاباته
عادة تكون كثيفة ومختصرة وخالية من المجاملات مثلاً:
_
الطفل في هذه
المرحلة بحاجة لعناية فائقة كالتي تقومين بها. أو إن (التبولة )مفيدة
ومريحة للبطن.. في المدرسة الأمور بحاجة لتعديلات..أو أن مستوى السكر في
الحلوى علمي
تماماً !
ثم تتطرّق
إلى السؤال المعتاد الذي تكرره دائماً:
_
إلى متى سيبقى
مدخل البيت بلا طلاء..والله أصبحت أخجل من دعوة أشقائي والناس إلى زيارتي.
_
قريباً ..
_
متى قريباً ؟
حدد لي بالضبط هل تريدني أن أطلب من أهلي ذلك ..ها قد أصبحت مديراً و
حالتنا أصبحت أسوء.
_
ولماذا تطلبين
من أهلك..كل شيء سيكون على ما يرام
.
وينتهي
الحوار بسلبية ودون نهاية واضحة.
وبعد الغداء
يشاهد الأخبار عبر الصحن الفضائي.. أو يبحث عن فلم علمي أو وثائقي
وتستهويه
غالباً مواضيع عن هجرة الطيور مثلاً أو تطور صناعة الطائرات أو تراجع
الغطاء النباتي..
ثم
يترك التلفزيون لزوجته كي تشاهد إحدى المسلسلات ويدخل للاستلقاء في حجرة
النوم بعد أن ينتقي كتاباً من مكتبته المتواضعة المكونة من ديوان شعر لبدر
شاكر السياب وروايات لنجيب محفوظ وبضع روايات عالمية ومجموعة مقالات
ودراسات للعالم التربوي
جون ديوي
ولكارل غوستاف يونغ في التحليل النفسي ونسخة من القرآن. أنّه بأفضل حالاته
النفسية بالرغم من خوفه أحياناً عن عجزه أمام المسؤولية الكبيرة لإدارة
المدرسة. وبالرغم من الضغط الذي يناله من قبل زوجته, فلقد آمن أن أهم أسباب
التوافق
مع المجتمع
والحياة هو اختيار المهنة المناسبة وهذا ما يعتبر نفسه انه ناله.ويعود هذا
الرأي إلى قناعات شكلها عبر سنوات دراسته فقد خلص إلى نتيجة مفادها أن غياب
هذه النقطة عن مجال توعية التلاميذ يسبب وقوع الكثيرين في مراحل لاحقة في
أزمات ومآزق عدم التوافق مع المحيط وبالتالي الفشل الاجتماعي فاعتبر حماية
الأطفال من الوقوع في هذه المشكلة الهدف الأول لمنهجه الإداري.. لذا كان
يشعر بمتعة متجددة دائما وهو يتلمس مجالات التطبيق العملية وقد اتيحت له
على أوسع أبوابها.
يقرأ قليلا
ثم يغمض عينيه ويضع الكتاب على صدره ويرحل تفكيره أثر ذلك إلى الصفوف وبين
أروقة المدرسة
:
دورات
المياه بوضع مذرٍ الروائح تفوح منها والطحالب الخضراء تسلّقت البورسلان
الرمادي الرخيص.. كل شيء هناك رمادي حتى طلاء الجدران في الصفوف هذا غير
منطقي..أما صنابير المياه النحاسية فقد كسرت و المياه تنسكب طوال الوقت ؟
ياللهدر..إننا لا نقدر قيمة الشيء حتى نفقده ! في كل أيام عملي هنا لم أسمع
درساً واحداً عن التصحّر..دائماً نلقي اللوم على التلاميذ وننعتهم
بالمهملين وقليلي التربية..نحن المسؤولون إنهم أطفال ولا حدود لألعابهم
ونحن من يجب أن يبين لهم أخطار هذه المشكلة... ويتقلّب في سريره..بينما ضوء
باهت نتيجة السماء الرمادية لشهر تشرين الثاني ينسل إلى الغرفة مهيأً الجو
لغفوة هانئة, ثم يتقاذف فكره شتى المواضيع حتى يغفو تماماً..
مساءً يشرب
الشاي ويستقبل الضيوف من جيرانه أو يتوجّه مع زوجته في زيارة عائلية إلى
أشقاءه أو أحد الأقارب الكثر في هذه المدينة حيث يستمع كثيرا ويتكلم قليلاً
وباله مشغول بالمدرسة والإصلاحات..وهكذا يعود إلى المنزل ليستلقي أمام
التلفزيون بعد العشاء متابعاً مسلسلاً ما لا تتوقف خلاله زوجته عن إطلاق
التعليقات.. ثم ينام في حوالي الواحدة ليلاً..
ينهض باكراً
وكله حماس ولهفة. يشرب القهوة ويشاهد الأخبار بينما يستمع إلى الاسطوانة
اليومية لزوجته عن طلاء الممر والاعتناء بالهندام, ثم يتناول الفطور ويرتدي
ملابسه البسيطة أو يختار أفضلها _ وهي بكافة الأحوال غريبة وغير متناسقة
ويخرج كما في كثير من الأحيان دون أن يمسح حذاءه المتسخ فلا وقت لديه إذ
تحركه المشاريع المزدهرة التي تحوم في رأسه وتطير به خطواته إلى المدرسة.
الفعاليات
والطقوس التي تجري كل صباح يتقبلها بمنتهى السعادة وبصورة احتفالية حيث
يحلو له مراقبة التلاميذ وهم يقفون لتحية العلم أو خلال صعودهم في أرتال
منتظمة إلى الصفوف.
ثم يجلس إلى
مكتبه لينظر في بريد الوزارة ويوقع بعض الأوراق ويأتي له الآذن أبو أكرم
بكأس زهورات. ينظر إليه منهمكا بالعمل ويستشعر الجدّية والحماس فيه..ثم
ينصرف إلى تفكيره وقلقه.
اليوم بعد
أن أنهى الأستاذ مهند واجباته البيروقراطية خرج للتجوال في ممرات المدرسة
حيث تتوزّع الصفوف على الجانبين بشكل متقابل والتفكير محيق برأسه. وهنالك
انسابت أصوات المعلمين والتلاميذ إلى أذنيه كنغمة الأغنية المحببة ثم انشغل
بقراءة بعض مجلاّت الحائط التي صممها الطلاب والمعلقة في الممر وآثر
انتباهه موضوع كتبه أحد التلاميذ عن أضرار التدخين فقرأه بعناية و إعجاب
وأثنى على الوعي بهذه المسألة الخطيرة في هذا الوقت المبكّر و الذي سيؤدي
إلى امتناع الأطفال عنها في مرحلة المراهقة..ثم انتقل إلى مجلة أخرى فصادف
أموراً مهمّة و أعجبه بالتحديد مقال عن أضرار مشاهدة التلفاز عن قرب
والمسافة الصحيحة للمشاهدة حيث تبقى العين في مضمار الأمان ولاحظ أن الطالب
ذاته كتب هذين الموضوعين فتناول دفتر هواتفه الخاص ودون اسمه عليه. وخطر له
:
_
إن ميولاً كهذه
قد تعني أن تنميتها ستجعل من الطفل طبيباً ممتازاً في المستقبل. وبذلك كانت
تتفتح لديه أولى البوادر العملية للخطة! يجب البحث عن الميول الكامنة لدى
طلابنا وتنميتها.
و
أعاد تفحص المجلات للبحث عن أسماء الطلاب الذين يبدون اهتماماً مستمرّاً
بمواضيع محددة كالرسم والشعر أو الفيزياء ودونها لديه..
ومن ثم عاد
إلى المكتب لإنجاز باقي واجباته حيث كتب عدّة ورقات شرح فيها بالتفصيل وضع
دورات المياه المأساوي ووجوب التصليح بأقرب فرصة.. وبدأ بأولى الخطوات وهو
على ثقة بتحقيق مرامه فدعا مدرسي الفنون إلى اجتماع خاص بشأن اللون المناسب
لطلاء الجدران الرمادية القديمة..وبعد مناقشات تمّ الاتفاق على اللون
البرتقالي الفاتح الذي ستزينه رسوم التلاميذ أنفسهم وفاجأ الجميع عندما
اقترح بنفسه أسماء الطلاب المميزين بالرسم...ثم أعد التقرير لإرساله
بالبريد إلى الوزارة.
وهكذا مضى
اليوم...
هاهو بعد
انتهاء الدوام يقف على باب المدرسة مع الآذن بعد أن تفقدا كل شيء كلاهما
شارد في مشكلته الخاصة.. ثم يفترقان كلٌّ في طريق.. اليوم وحين عرج على
بائع الخضراوات فطن لأمر طلاء الممر
.
واتجه لفوره
إلى مركز المدينة اشترى سطلين من الطلاء وعاد إلى البيت..
سرّت زوجته
بالأمر ..وخلال ثلاثة أيام كان الممر يرفل في لون أبيض نظيف.
*******
أتى الشتاء
مبكّراً وتحوّلت المساحات الترابية أمام المدرسة إلى درب موحل كما توقّع
وما زاده إلاّ إصراراً على تحويله إلى حديقة ..وانشغل بأمور ملئ خزانات
المدرسة بالمازوت الذي يستخدم كعنصر تدفئة
..
ثمة أمر
يشغل باله كثيراً فالمدير السابق قد أساء ظن الوزارة بهذه المدرسة إذ طلبت
في السابق أموال كثيرة صرف القليل منها على الخدمات واستقر الباقي في جيوبه
ونائبه.بيد أنه تيمن خيراً ولم ينقطع عن خطته وكرر إرسال الطلب بالبريد..
وطلب إلى آنسة العلوم أن تجمع التلاميذ خلال هذا الأسبوع بالتناوب لمدّة
عشر دقائق في دورة المياه لتبين لهم الهدر ولتوضح معنىً التصحر الذي يهدد
العالم كما طلب إلى آنسات الفنون أن يقترحن
موضوع الرسم
أو التطريز أو غيره من الفنون ليكون عن التصحّر وأعلن هو شخصيا بإعلان
مكتوب يحمل توقيعه عن تقديم جائزة لمن يقدّم أفضل موضوع عن أضرار التصحّر.
كانت
تصرفاته لا تروق الكثيرين من المدرسين الذين رؤوا فيها تدخلاً كريهاً
وحشرية غير مبررة..وازداد التذمر حين وزّع عليهم _في خضم خطته_ نصوص تربوية
مترجمة
لمكارنكو
التربوي الروسي الشهير ومقالات أخرى عن الخوف والقلق عند الأطفال وإذ
لاحظ في
الاجتماعات التي يعقدها في نهاية الأسبوع أنهم لم يقربوها لجأ إلى
القوة.فقال بهدوء و خجل شديدين..وقد التمعت على جبينه قطرات من العرق:
_
سيقوم كل ثلاثة
مدرسين بتقديم نص نقدي صغير عن النصوص التي وزعتها مع بعض الحالات التي
صُدفت أثناء هذا الفصل الدراسي فإني لا أظن أن هذه الحالات معدومة بين
طلابنا, وابتداءً من الشهر المقبل سأنتظر شاكراً نصوصاً تقترحونها
بأنفسكم.. وأضاف وهو يمسح جبينه بتلبّك:
_
أرجو التقيّد
لأني سأعتبر التقصير مناقضاً للجدّية في أداء العمل الوطني و إلاّ ستظهر
بعض الأسماء في تقاريري إلى الرقابة في الوزارة عن مستوى المدرسين
وأدائهم.. وشكراً لاستماعكم.
وأصبحت هذه
المحاضرة محطًّ لسخريتهم ونكاتهم وازدادت التعليقات على ما أسموه
ب( حشريته
وهيئته الرّثّة )..واقترح أحدهم على سبيل المزاح أن يقدم موضوعا عن حالة
نفسية غريبة وقال أنه سيسميها ( الحشرية عند مدير مدرسة(س)..بينما قالت
إحدى آنسات الفنون انه يجب أن يتعبر فناناً في (البهدلة) وارتداء الملابس
المهترئة والمتنافرة وقال آخرون إن اهتمامه بالأولاد مريب ولا يفسر على وجه
خير !!!..
بعد مضي هذا
القدر من الوقت وفي منتصف الفصل الدراسي الأول أصبح لديه قائمة بأسماء
الطلاب المتفوقين بالمجالات المختلفة وكان على يقين أنه بصدد إعداد مبدعين
تامين.. وعليه الآن أن يبدأ بتوفير المواد المساعدة على تنمية ميولهم فطالب
المعلمين بملاحظة
الوضع
الاقتصادي للطلاب كي تقوم المدرسة بتقديم مواد الدراسة في حال عجز ذويهم عن
تقديمها ..
في نهاية
اليوم الدراسي وحين أغلقت أبواب المدرسة وقف وأبو أكرم على الباب كالعادة
كانت قد هطلت أمطار متفرقة خلال النهار وسيطر جوّ رمادي على الحي الشعبي ذو
البيوت المتشابهة ووقف الأستاذ ينظر بعين الأسى إلى الدرب الموحل وقال:
_
لولا أننا
أكثرنا( الطلبات على الوزارة ) لأرسلت لهم أيضاً كي نحل هذه الأزمة..لكن
سيحل الوقت المناسب لذلك.
ثم أضاف
مكلماً أبا أكرم
:
_
على فكرة..كنت
أريد أن أسألك عن الحلوى التي تبيعها للتلاميذ في الاستراحات بين الحصص..هل
تحوي نسبة عالية من الملوّنات ؟
و إذ لاحظ
انه لم يفهم شيئاً تابع موضحاً:
_
حين تشتري
الحلوى أرجو منك قراءة المحتويات وتكون عادةً مكتوبة في مكان ما على
الغلاف..إذا وجدت أنه تحتوي على ملونات فلا داعي لشراءها.إنها مضرةّ جدّاً
وخصوصاً اللون الأحمر وقد تؤدي إلى أمرض خطيرة أو تسمم.. ثم أضاف:
_
بلا مؤاخذة
التدخين أمامهم أمر مرفوض فأنت تعرف أنهم يجدون قدوة في كلٍّ من حولهم.
_
على رأسي أستاذ.
وجد أبو
أكرم إذ ذاك في هذا الجو المفتوح رغبة في الحديث عن مشكلته مع هذا الشاب
الذي ارتاح له بشكل غريب فقال:
_
لدي موضوع مهم
يا أستاذ.. يقلقني كثيراً وأريد أن أسألك عنه فأنت ما شاء الله مثقف (وعندك
علم بكل الأمور )
_
ما هو ؟ سأل
الأستاذ متلبّكا..
_
مذ تزوجت ابنتي
الصغرى_ وأنت تعلم أستاذ زوجتي توفيت منذ خمس سنوات_ صرت اشعر بالملل وأنا
رجل كبرت لا أستطيع أن أطبخ وأغسل..لوحدي ..فخطر ببالي أن أتزوج..
ورفع
الأستاذ مهند عينيه عن الأرض إلى وجه الآذن فاضطرب هذا الأخير ! وتردد
بالكلام..
_
نعم.. وما
المشكلة ؟قال الأستاذ..
_أخاف
ألا يعجب هذا الأمر أولادي..
_
ممن تريد
الزواج إن لم يكن هذا خاصّاً ؟
_
توجد عندنا في
الحي امرأة كما يقولون..مطلقة..وهي وحيدة مثلي وتعيش عند أهلها
_
وما هو سبب
طلاقها ؟ هل عندها أولاد ؟
_
لا..طلقها
زوجها بعد ست سنين من زواجهما لأنها لا تنجب أولاداً
.
وبعد هنية
من الصمت تكلم الأستاذ:
_
أولاً.. إنها
فكرة صائبة مئة بالمئة..إنك بالزواج تعيد الأمور إلى نصابها المنطقية
فالمرأة التي تريد الزواج بها مناسبة وتكمل ما ينقصك كما انك باعتقادي تكمل
ما ينقصها وبوضعها الذي ذكرته لي يبدو أنها تعيش أزمة توافق مع المجتمع
فهذه الحالة في مجتمعنا تعتبر غريبة ومذمومة..وبإعتقادي سيؤدي بها الزواج
إلى التوافق الاجتماعي. وثانياً بالنسبة لأولادك فأنا متأكدّ أنهم لن
يأخذوا الموضوع على نحو ما تعتقد فقد تفرقوا وأصبحت لهم حياتهم الخاصّة وما
ينتظرونه منك قد نالوه حين ربيتهم وتابعتهم حتى أصبح لكل منهم حياته
المستقلة ..
كانت هذه
العبارات كفتوى يتلقاها من عالم ! وبالرغم من أنّه لم بفهم كل ما قاله إلاّ
أن الحيرة التي كانت تلف عقله سرعان ما فارقته فشكره بمنتهى السعادة وغمرته
الفرحة وكأن حملاً انزاح عن ظهره..
بعد مشواره
المعتاد كان أمام الباب وصوت زوجته يبرز من بين الضجيج المزعج الناجم
عن دوران
محرك غسالة الملابس العادية كأنها غريق بين أمواج متلاطمة
:
_
اخلع حذاءك تحت
الدرج..
كان الغداء
بارداً عبارة عن بقايا وجبة الأمس..وكانت زوجته قائمةً قاعدة بين الاعتناء
بالطفل و الإشراف على الغسيل الذي يدور في الآلة الرهيبة ورمقته بغيظ وهو
يتناول الطعام بمنتهى المتعة وقالت..
_
لماذا تستكثر
علينا المازوت .. وأنت بإمكانك أن تحضره لنا ببلاش
!!..
_
كيف ( ببلاش) ؟
_
هل سينقص خزان
المدرسة إذا أحضرت لنا (بيدوناً) واحدا أم يهمك كثيراً أن تشعر
الآنسات
بالدفء.. لماذا ينبغي عليّ أن أنادي على بائعي المازوت في الشارع
مثل البلهاء
ليملئ لي (بيدوناً) صغيراً كالشحاذة ؟ في حياتي لم أفعل هذا في بيت أهلي..
_
ألا يوجد عندنا
مازوت الآن ؟ سأل بجدية
_
أنا أسألك؟
لماذا ؟ لماذا !!؟ لا تحضره من المدرسة من ماذا تخاف ؟قلي يا جبان..
_
أنا لا أخاف
لكن كيف هذا المازوت للمدرسة..
_
الجميع يقولون
بأنك لا تصلح لإدارة المدرسة إنهم لا يهابونك..تضيع وقتك بين الأولاد
الصغار كيف إذاً سيحترمك المدرسون أخبرني ..شخصيتك لا تصلح للإدارة
والقيادة , إذا لم تكن تفكّر ببيتك فبماذا تفكّر ؟
اسمع ألا
يزعجك هذا الصوت في كل مرّة أغسل فيها أشعر أني كبرت عشر سنين ..
_
كيف لا أفكّر ب..
وقاطعته
بينما تنهض إلى الغسالة
:
_
أهم شيء ألا
تبرد الآنسات أهم شيء..
ولم يعلق
بشيء ..
********
أتى بريد
الوزارة مع الموافقة..
كان يوما
رائعاً وكانت سعادته لا توصف..وعلى الفور عقد اجتماعاً في مكتبه لبحث خطط
البدأ واستمع إلى آراء المدرسين وتلقى النصوص التي طلبها ولم ينتبه إلى
حنقهم ومللهم منه وعاين نتائج ما أعلنه من مسابقات فقد حان وقت
التطبيق..النتائج جاهزة
(
من يستطيع هنا
ألا يعمل؟) وإذ أرضته النتائج أعلن مباشرة العمل وخلال
مدّة قصيرة
كانت لديه مجموعة مقترحات من كافة أنواع الفنون مطروحة للمسابقة..واختيرت
اللوحة التي سترسم على إحدى جدران المدرسة الخارجية وتمثل التصحر كأفعى
هائلة تهجم على الأشجار والنّاس لتقضي عليهم وقد كتب تحتها التصحّر خطر
يهدد وجود البشرية ..أعجب بها أيما أعجاب وتأملها مراراً وتكراراً ..وأذيع
اسم الطالب أمام جميع التلاميذ في الاجتماع الصباحي بعد تحيّة العلم واشترى
بنفسه مجموعة ألوان مائية غالية الثمن للطالب وأعطاه أياها أمام الجميع وقد
طبع قبلة على خدّه
.
عرض أبو
أكرم الموضوع على أولاده بثقة ولم يتلق أي اعتراض بل على العكس لمس بعض
التأييد ومرّت الإجراءات بسرعة..اشترت له إحدى بناته طقماً من دمشق من أحدث
المحلاّت.. وأحضرت أخرى ذهبٌ للعروس..وأحضر أحد أبنائه صحناً فضائياً
..
وأصرّ على
دعوة الأستاذ مهند إلى العرس الذي اعتذر بطريقة مهذبة بحجة أنّه مشغول
بموعد آخر بينما كان القصد من ذلك ألا يظهر بمظهر من يقيم علاقات شخصية مع
موظفيه..
الأمور تسير
كما خطط لها..كل يوم ترده أغنية أو قصّة قصيرة أو جهاز كهربائي بسيط من عمل
التلاميذ..وانتشرت أسماء الرواد والمتفوقين من هذه المدرسة في أنحاء القطر
بالكامل
أثناء ذلك
أصلحت دورات المياه وطليت الجدران الخارجية للمدرسة بلون برتقالي مزين
برسوم التلاميذ وأجل طلاءها من الداخل إلى العطلة الإنتصافية..فكانت تبدو
بلونها البرتقالي الفاتح كالقصر بين بيوت ذلك الحي..وما زاد من المال خصص
لشراء هدايا للمعلمين والتلاميذ المتفوقين..وفي نهاية كل أسبوع قدم له
المدرسون على مضض مواضيع تربوية مرفقة بحالات تقتضي المراعاة بين التلاميذ
ونوقشت بشكل جدّي لمعالجتها..كان هذا فرح بزّ تأزم وضعه العائلي.
بيد أن
موضوع المستنقعات المحيطة بالمدرسة بقي يؤرقه . وفكر بذلك بينما يقف على
الباب كعادته ..
في البيت
حين عاد كان والد زوجته بانتظاره وهو رجلٌ سمج ممتع الحديث يرتدي عقالاً
وجلابية بنية ويدخن سجائر الدخان العربي ويكثر من استخدام الأمثال الشعبية..
سلم عليه
بحرارة وكان الغيظ باد على زوجته ..ولا حظ مهند وجود جو محتقن ومتوتر فنظر
إلى زوجته فلم يجد في عينيها سوى التحدي
!
وتكلّم
العجوز على الغداء دون انقطاع عن مختلف الأمور بأسلوبه الممتع ثم قال لصهره :
_
يا بني الفرص
لا تتكرر مرتين ..
وقالت زوجته :
_
لقد دهن
المدرسة بأكملها وهو لا يسخى أن يحضر لتر دهان جيد لبيته بعد أن نبت الشعر
على لساني أحضر طلاءً مقرف ولم يخبرني أنه أوصى للمدرسة بأفخر الطلاء ..(والمصاري
) التي زادت وزّعها على المدرسين الذين (يتمسخرون) عليه بدل من أن يحضر
لبيته غسالة آلية..(النّور) أصبح لديهم غسالات وأنا أعمل
كالخادمة..يستكثرها علينا أنا وهذا الطفل ..الكل في المدرسة يكرهونه
ويقولون أنه لا يصلح لإدارة المدرسة..
_
أنت مدير
والزمن يدور على الجميع وهذه فرصتك غداً قد تعزل من منصبك ..استفيد من هذه
الفرصة ..هذه الأسرة أمانة في رقبتك .. يقول المثل إذا هبت رياحك فاغتنمها
وإلا أصبحت كالرجل الذي سافر (إلى الغربة) ليعمل فرجع ملوحا بيديه
..
وضحك مهند
وتابع والد زوجته بينما يلف سيجارة
:
_
على زماننا
سافر رجل إلى الغربة ليعمل.. غاب عشر سنوات قضاها في اللهو و الصرف ثم رجع
لا يملك قرشاً وعندما سألوا عنه ماذا أحضر من الغربة قيل لقد رجع يلوح
بيديه وأنت كذلك سيقولون عنك عندما يعزلونك عن إدارة المدرسة ستتحسر على
الفرص التي أتتك !
وهزّ مهند
رأسه مجاملاً بالرغم من أنّه لم يفهم تلك المقارنة ثم قال ناظراً إلى زوجته:
_
سأحضر لك كل ما
تريدين لكن من مالنا وليس من أموال المدرسة هل ينقصنا
المازوت ؟
دائماً أتفحص البيدون و لا مرة وجدته فارغاً ؟؟ والغسالة سنسجل على واحدة
من المؤسسة مثل باقي المدرسين وبعد بضعة أشهر نحصل على واحدة ..
_لماذا
تجبرنا على العيش كالشحاذين وأنت تستطيع أن تحضر كل هذا دون عناء ؟ لماذا
إذا كنت تعودت أنت تعيش هكذا فأنا لا ؟
وقال والد
زوجته :
_
إنك تفرّط
بحقك..هذا حقك أنت مدير المدرسة..
فردّ غاضباً :
_
أموال المدرسة
حقّي ؟
بيد أنه عدل
لهجته وأضاف مبتسماً كأنه يعتذر
:
_
خلاص يا عمي
أعدك أن تكون ابنتك راضية من كل النواحي
.
وقال له
والد زوجته عند الباب
:
_
لقد أعطيناك
ابنتنا ووثقنا بك ..أنت (طولي مرتين ونصف ) هل ينبغي عليّ أن أعلّمك
سايرها أنت
تعرف النساء
..
_
على رأسي ..
جلس إلى
التلفاز وهو على حالة كبيرة من الضيق..و بعد قليل قال لزوجته:
_
لا ينبغي أن
ندخل أهلك في أمورنا الشخصية..لماذا أتى والدك..
_
أتى لزيارتنا ..
_
أجيبيني بصراحة !
_
أنا طلبت منه..
_
وماذا قلت له ؟
_
قلت له أن يأتي
ليفهمك قبل أن تصل الأمور بيننا إلى الطلاق..
_
وما لداعي لكل
هذا ؟
_
لا تريدني أن
أطالب بحقوقي..أه؟؟
فردّ غاضباً :
_
تريدين الطلاء
من المدرسة ..والمازوت أيضاً ماذا تريدين أيضاً..غسالة ؟ أنا اسمع ولا داعي
للصراخ هذه حقوقك ؟
كان منظره
مع كل ذلك الغضب مثيرا للرعب ! وارتفع صراخ الطفل بالبكاء إذ أرعبته نبرة
الصوت هذه التي لم يتعود على سماعها في البيت, وإذ لاحظ الحالة التي أفضى
إليها صراخه, تغمدّه الندم فحمل الطفل وضمه إلى صدره وتقدّم منها:
_
لا داعي
للمشاكل (وحياتك سيكون كل شيء على ما يرام)..
_
ابتعد عنّي
..تصرخ علي لأني أعلمك كيف تصبح رجلاً ..اذهب إلى المدرسة هناك يضحكون عليك
هذا أفضل ..ابتعد عنّي ستقتل الطفل من الخوف..ابتعد .هات الطفل
حملته ونهضت
إلى غرفة النوم
..
كان المساء
بارداً ..جلسوا إلى التلفزيون دون كلمة واحدة ولمّا حان موعد النوم وضعت له
البطانية في غرفة الجلوس لم تكن ترغب بالنوم إلى جواره ثم تمددت في سريرها
ولم تجب على عبارته تصبحين على خير ..وتمدد هو على الديوانة طاوياً قدميه
وبقي يتقلّب حتى الصباح وقد نأى عنه النوم
.
في الصباح
كان يشعر بقنوط غريب ! ولمعت فكرة في ذهنه فور استيقاظه مفادها أن
الكلام الذي
سمعه مرفوض ولا مجال للتفكير به حتّى
..
_
وإذا كنت لا
أصلح لإدارة المدرسة فليختاروا غيري لذلك
..
حاول أن
يتكلّم معها بأي شيء دون فائدة كانت تأبى أن ترد على أبسط العبارات , كانت
غاضبة ووجهها متقلص من الغضب والغيظ و انبرت فور استيقاظها إلى الاستعداد
للخروج مع الطفل وقالت له
:
_
أنا ذاهبة إلى
بيت أهلي.
_
لماذا ؟
_
أنت تعرف لماذا
..عندما تقرر أن تحترم بيتك وطفلك سأعود
..
ومضت .. ولم
يعقب بشيء في أثرها
..
ارتدى
ملابسه المتنافرة شارداً ووقف يحدق في سكون البيت حيث ينتشر فيه ضوء مصباح
المطبخ ذو
اللون البرتقالي بخجل بعد أن عجز ضوء النهار الغائم عن اختراق الستائر
المسدلة
أطفأ ضوء
المطبخ قبل خروجه وحدث نفسه
:
_
معها حق ينبغي
حل كل تلك المشاكل لكن ليس بالشكل الذي تطلبه
.
وحين فاوز
البيوت واقترب من المدرسة بدأ مزاجه بالتحسّن. سيرده بريد من الوزارة
اليوم ولابد
أن يتضمن شيءً عن المستنقعات.. وأثناء الدروس خرج من المكتب يتمشى في
المدرسة وفي الباحة الخالية وقع بصره على خزان المازوت الكبير فتصوّر لو
أنه يملئ بدوناً بلاستيكياً ليأخذه بسيارة أجرة إلى البيت ..وهزّ رأسه
بسخرية :
_كم
هذا مشين .
عاد إلى
المكتب وجلس شارد الذهن ..كانت الشهادات والتقديرات العديدة للطلاب
المتفوقين مبتسمة تملئ الجدران وراءه وتناقض هيئته الكئيبة..وجاءته
اقتراحات المدرسين وموضوعاتهم التي طلبها منهم وإنجازات جديدة للطلاب الأمر
الذي مده بمتعة قصيرة ..
وجاء
البريد..لا شيء عن برك الوحل
..
وبعد يوم
اكتنفته الكآبة والفتور وقف الرجلان من جديد أمام باب المدرسة دون أن يقولا
أيّة كلمة كان الجوّ غائماً وانتشرت أطراف ريح باردة راحت تخلف لمسات من
الصقيع على الآذان وأطراف الأصابع بينما تلبدت السماء بغيوم رمادية قاتمة
تنذر بمطر قادم
..
أغلق الآذن
الباب ومضى لقد تخلص منذ زمن من همومه.. وبقي الأستاذ مهند لوحده , ثمة
هموم ومشاكل إضافية الآن .. ومرّة أخرى نظر إلى الدرب الموحل أمامه وزفر
قائلاً ..
_
لا بأس..
ومشى بشرود
حتى صار إلى جوار لوحته المفضلة, التصحر ! فالتفت متأملاً إيّاها و قرء تلك
العبارة :
_
التصحر خطر
يتهدد وجود البشرية . وابتسم بطرف فمه..
ثم رفع رأسه
واتجه إلى بيته عبر الدرب الموحل....
ذكرى..
ربما تكون
الكآبة ذات صلة وثيقة بالطقس ! فيكون مسببا لها بشكل أو بآخر.
هكذا قلت في
نفسي بينما انظر من شباك غرفتي إلى السماء الرمادية العابسة التي تمتد في
الأعالي فتلقي شيءً من بهوتها الرمادي ذاك على مزاجي وعلى البيوت ووجوه
الناس والأشجار التي فضحها الشتاء فتساقطت أوراقها النحاسية الصفراء في
الشوارع و على الأرصفة.
عندما
يأتي الشتاء إلى هذه المدينة فإنه يمكث طويلاً حوالي سبعة اشهر لا تُرى
الشمس
فيها تقريبا
ويذيقها شتى أنواع البرد والزمهرير ويملئ طرقاتها بأكوام من الثلج الأبيض .
كنت
أفكر بهذه الشهور الطويلة القابعة أمامي فتزداد كآبتي وأحاول التماس مكانٍ
لأرتدي معطفي وارتاده علّي أجد بعض التسلية .. ويرحل تفكيري في حنايا هذه
المدينة الرمادية الكبيرة.. شارع( نيفسكي ) بأبنيته من الطراز الباروكي
الكلاسيكي والموديرن أو متحف الإرميتاج العظيم أو المقاهي الهادئة على ضفة
نهر النيفا المتجمّد
..
مئات
ومئات الأماكن الساحرة في بطرسبورغ ..
بدون فائدة
! يرتد تفكيري على أعقابه إذ يصطدم بالبرد الذي يتربص بذلك الجمال وتداهمه
صور بديعة لأكمة قصب مطلّة على شاطئ البحر في طرطوس الهادئة أو لجلسة
في مقهى
أمام البحر الفضي لحظة الغروب برزت من مكان ما في الذاكرة فتستنفر عواطفي
وأغوص بالكآبة شوقاً لها
.
وأغلق
الستائر كي لا أرى تلك السماء المتجهمة وانصرف عن الشباك لسماع الموسيقا..وردة
الجزائرية ..فيروز..حتى الموسيقا لم تعد تسلي وحشتي, فأتململ وأركن إلى تلك
الفرضية أن الطقس قد يكون منبع الكآبة..
بضع دقات
على الباب صادرت حواري مع نفسي ففتحت الباب لأجد شاباً نحيل الجسم بنظارتين
وعينين كبيرتين وشعر أشقر ممشّط بعناية إنّه أندريه..صديقي
.
كان طالباً
مثلي ويقطن في ذات السكن الجامعي لكن في طابق آخر.لم تكن معرفتي به قوية..
مجرد تعارف عابر في إحدى المناسبات .. دعوته للجلوس فاعتذر انه على عجلة
وقال:
_
أريد أن اطلب
إليك أمرا إن أمكن
..
_
بالطبع..أجبته.
_
والدي سيأتي
لزيارتي من مدينة أخرى ولو تسمح أن ينام عندك ليوم أو ليومين فقط فغرفتي لا
تتسع لأربعة أشخاص _ كان يعيش في مع طالبين آخرين في غرفة واحدة _ وأنت
تسكن هنا لوحدك وأظن أن لديك متسع ..
_
نعم بالتأكيد..
متى سيأتي ؟
_
اليوم !
_
سأكون
بانتظاركم !! قلت مبتسماً بصعوبة..فشكرني بحرارة و مضى.
*******
وتمددت على
السرير بينما يرحل النهار الرمادي بثقل ليحل مكانه ليل بارد تستبيحه رياح
التايغا وسيبيريا الباردة.. مضت ساعتين ربما وأنا على تلك الوضعية أجتر
الملل والذكريات ..ثم نهضت التمس شيئا للأكل و قد انتابني بعض الضيق من هذا
الواجب الذي سأضطر للالتزام به في غرفتي التي يشاركني فيها البرد
والكآبة..وبينما ألوك على مضض قطعة نقانق مع الجبن تناهى إلي سمعي صوت
أندريه وصوت آخر على ما يبدو أنه والده..وبالفعل كانا يقفان على
الباب..أندريه ورجل باد الابتسامة بوجه مستدير ترسمه بدقة الملامح السلافية
الحقيقية أنف مدبب منتصب في الهواء عينان كبيرتان طيبتان وشعر كثيف سابل
احتله بعض الشيب كانا شديدي الشبه حتى أنه من الممكن القول أن لهما ذات
العينين..
_
والدي سيرجي
فاسيلفيتش..
وكما هي
عادة التعارف في روسيا ,مد الرجل يده نحوي ذاكراً اسمه وفعلت أنا نفس الشيء..
سأل بتهذيب
أين يمكنه وضع حقيبته..ثم انصرفا بشأن ما .. على أن يرجع ليلاً للنوم في
غرفتي أما أنا فتوجهت إلى أصدقائي لشرب الشاي و تبادل أطراف الحديث...
حلّ الليل
بارداً . وتحسّن مزاجي قليلاً ربما بسبب شعوري بأن يوماً قد نقص من عمر
الشتاء..
و
جلست أطالع كتاباً ثم غسلت بعض الملابس ومع حلول الساعة الثانية عشرة جاء
السيد سيرجي مصطحباً زجاجة فودكا وبسكويتاً وعلبة خيار مملّح وعلبة من مربى
التوت البري كعرفان لي على استقباله..
صب لي
الفودكا ثم رفع الكأس وقال
:
_
نخب
تعارفنا..وأصدرت الكؤوس صوت رنيناً لطيفاً أثر اصطدامها.
باشرت
الحديث بسؤاله عن المدينة التي جاء منها فأجابني أنها تبعد 2000 كيلو متر
عن سان بطرسبورغ وأنه قطع 22 ساعة مسافراً بالقطار ! فقلت له
:
_
لا بأس ستجد من
الجمال في هذه المدينة ما سيعوضك عن ساعات السفر المملة في القطار.
فأجاب :
_
أظن أني سأسافر
غداً..
_
غداً !! قلت
مذهولاً ..
إنها مدة
غير كافية لنفض وعثاء سفر دام اثنين وعشرين ساعة عن الجسد
..
_لقد
أحضرت لأندريه كمبيوتراً ( محمولاً ) فهو يحتاجه لدراسته وبعض المواد
الغذائية أضاف مبتسماً : والدته حضرتها خصيصاً .. ومن الأفضل أن أسافر في
أقرب فرصة.. لا أريد أن أعطله عن الجامعة .
وفهمت أن
الرجل قد قطع الساعات الإثني و العشرين كي يوصل هذه الأشياء لولده فأكبر
هذا الموقف من مقام الرجل في قلبي وزاد من احترامي له
.
_
لكني اعتقد أنه
يستطيع التغيب ليومين أو ثلاثة فهذا ليس بالشأن العظيم
.
وإذ لا حظت
أنه يعرض عن الحديث كففت عنه وانتقلنا إلى آخر ..سألني إذ رأى صور أشقائي
ووالديّ وجدي والبحر الأزرق عن عائلتي وبلادي ..واستمع بمنتهى السرور و
الاهتمام مثنياً على حديثي بالروسية بهذه الطلاقة وأنا أحدثه عن سوريا وليل
دمشق الساحر والبحر القديم وعن مدينة عمريت الموغلة في القدم و أحجارها
الرملية الصفراء الغامضة والتي تقع إلى جوار بيتنا
..
وحدثني هو
عن كنيسة خشبية قديمة في مدينته بنيت في أيام( دريفني روس ) أي روسيا
القديمة لم يستخدم في بناءها مسمار واحد !وعن رنين أجراسها الذي يتردد
منتشراً في الغابات المحيطة بتلك المدينة الصغيرة..إنه حقيقةً شيء يصعب على
التصديق ولعلي شككت لولا أني رأيت شيئاً كهذا بعيني في مدينة (نوفكورد)
عندما كنا في إحدى الرحلات .. حيث تبنى كنائس عملاقة من خشب البتولا والسرو
دون أن يثبت الخشب إلى بعضه بواسطة المسامير أو الحبال حتى .. كان طرازاً
فريداً للغاية!
وبعد قليل
انضم إلينا أندريه ..جاء كي يودع والده
..
قلت له:
_هل
سيسافر والدك غداً ؟
فقال:
_أه
فعلاً ..
قلت له
ممازحاً :
_
عليك إرغامه
على البقاء لرؤية متحف الإرميتاج على الأقل
..
فأجاب
بجديّة :
_
لا أستطيع
..عندي دوام في الجامعة هذا الأسبوع
!!
وقال السيد
سيرجي :
_
لا بأس ينبغي
أن أسافر في الغد ..
صمتت.. لم
اقل شيئاً وعزيت ذلك إلى اختلاف العادات الشاسع بيننا وبين هذا الشعب فقد
يكون هذا أمرا عادياً بالنسبة لهم أن يكون للدراسة أو العمل الأولوية على
أي واجب اجتماعي أو ( إنساني آخر )..لكني شخصياً لم أكن لأعتبر الأمر
منطقياً البتة !!
شعرت ببعض
الدفء بعد شرب الفودكا..ومضى أندريه إلى غرفته بعد أن تمنى لنا ليلة هانئة
وافترش الرجل الأرض لنومه ..وخلال ثوان كان قد أبحر في عباب النوم .
واستلقيت على السرير أحاول النوم بينما يتناهى إلي صوت شخيره..
كان الشخير
شديداً حجب النوم عنّي فنهضت ورحت أتمشّى في الغرفة ..يجب أن أنام فعلي
الذهاب إلى الجامعة في الصباح..وقفت على الشباك ورفعت بصري نحو السماء كان
القمر يبدو ضعيفاً من خلال جيوش الغيوم التي تحلق في غارات رهيبة بلا
انقطاع فوق سماء هذه المدينة ..وفي الشارع يسير رجل مخمور متعثراً تحت
أضواء المصابيح المنعكسة على البرك التي خلفتها الأمطار.. ونظرت إلى الرجل
النائم كان يبدو في غاية التعب وتخيلت المسافة التي عليه قطعها في الغد
..ثم ذهب تفكيري أبعد من ذلك وتصورت نفسي مكان ذلك الرجل هل كنت لأقطع تلك
المسافات تحت رحمة طقس مخيف لأوصل لولدي بعض الأغراض..وإن قابلني بذات
الطريقة ماذا كنت لأفعل ؟؟
ربما عندما
يصبح المرء أباً فإن عواطفاً وأحاسيس خاصة تنشأ لديه تنمو متأخرةً _كأضراس
العقل_ نعجز نحن الشبان عن فهمها
!
وعدت إلى
السرير يقلبني القلق على كل الجوانب كسمكة تقلى في زيت حار وكنت ارقد
لهينات قصيرة ثم يعود الشخير ليوقظني
..
********
تسرب ضوء
رمادي إلى الغرفة قادماً من الشباك يعلن عن يومٍ باهتٍ آخر ..فنهضت _وكنت
قد غفوت لبضع ساعات فقط _انظر بشعر مشعث ووجه متهدل من خلاله إلى الجو بعد
أن لملمت نفسي بصعوبة, لقد رحل الليل وانطباعاته وانطفأت المصابيح وغاب
القمر .. ورجعت الغيوم المتجهمة لتحتل مساحات السماء الواسعة ..ونظرت إلى
الطلاب المتجهين إلى الجامعة وميّزت بينهم أندريه فشعرت بنفور غريب ..
_
تباً لن اذهب
اليوم إلى الجامعة..!! قلت في نفسي وقد تولاني القنوط..
وعدت
لأستلقي في السرير ..بينما نهض الرجل وقد أحس بحركتي فحياني بأدب
..
وقال :
_
غرفتك باردة
بعض الشيء ..
_
عذراً ..
_لا
لقد نمت جيداً ..لكنها بحالتها هذه لن تقيك برد روسيا
.
_
نعم ..قريباً
سأشتري مدفئة كهربائية..
ثم قال لي
وهو يلملم الأغطية
:
"_سأصعد
إلى غرفة أندريه لأودعه ولأجمع أغراضي..
_
لقد ذهب إلى
الجامعة باكراً رأيته من الشباك..
_
حسناً سأجمع
أغراضي إذاً.. قال مبتسماً
.
و إذ مضى
جلست لروتيني الصباحي..فيروز والقهوة .. والنظر إلى النهار كيف يتسرب
راحلاً من حساب الوقت..وبعد دقائق كان سيرجي بيتروفتش يحمل حقيبته الكبيرة
ويقف على الباب..
_
لقد أتيت
للوداع..
نظرت إلى
عينيه المتعبتين وقد خامرني إحساس غريب بالحزن وقلت:
_
لنتناول الفطور
أولاً ..
فأجاب:
_
اعذرني أنا
مستعجل ..وعلي اللحاق بالقطار
..
رافقته
في الممر الذي تتوزّع غرف الطلاب على جانبيه كان معتماً بفعل الضوء القليل
القادم من نافذة تقع في نهايته عند التقاءه بالدرج..وعندما استدار يريد
هبوط الدرج إلى الطابق الأول نظر إلى النافذة بشرود و قال لي
:
_
لندخن سيجارة
فلدي بضع دقائق ..
وقفنا أمام
النافذة حيث تطل علينا منها حديقة خلفية مقفرة تتشعب فيها ضيقة طرق وتنتصب
في منتصفها شجرة بتولا كبيرة تعرّت من أوراقها
..
كان المكان
خالٍ إلاّ من مظاهر الشتاء والبرد و الأوراق المتساقطة ..وكنا كلانا ننظر
إلى تلك الشجرة دون أن نقول أي شيء ..ثم تكلّم بهدوء
:
_
يبدو أن الشتاء
أتى باكراً هذا العام
..
_
نعم إنه كذلك ..
وبعد صمت
وجيز لا يسمع فيه سوى نفخ الدخان ثم صافحني مودعاً وأخذ يهبط الدرجات
ببطء. شعرت بحزن ..وأنا أراقبه بينما يمضي ولم يبق منه سوى صدى وقع حذاءه
على الدرجات .. ثم قفلت راجعاً إلى غرفتي ..أغلقت الباب وجلست انتظر رحيل
يومٍ آخر
..
*******
ورحل
الشتاء.. مضى كأنه ساحر توارى في غابات التوندرا الغامضة حتى مجيء العام
القادم . وحلّ ربيع أخضر منح السماء بعض الزرقة ودخلت خيوط ذهبية نشيطة
للشمس بدل الضوء الرمادي المتعب إلى غرفتي..تحس مزاجي !! لا أدري لماذا
ربما فعلاًٍ بسبب تبدل الطقس ..وأصبح الشتاء وكآبته جملةً من الذكرى يلونها
بالدفء ذلك الرجل واللقاء العابر
والربيع في
بطرسبورغ يأتي كسمفونية كلاسيكية مرحة ..يبدأ بالأشجار يعيد لها يناعاتها
وتهب الشمس اللطيفة وجوه التماثيل بهجة خاصة كأنها نفخت فيها الروح ..ويهدر
نهر النيفا العملاق في قنواته بين الأبنية العريقة محطماً الجليد وتطيب
رحلة بالقارب في حنايا المدينة حيث تمشّى دوستويفسكي أو كتب بوشكين إحدى
قصائده ..
الآن بت
اشعر أني أصبحت شخصاً آخر كشجرة سلبها الشتاء بهجتها وأعادها الربيع لها
وانشغلت بأمور الدراسة والإمتحانات وأمور أخرى ..ولم أعد ألتقي بأندريه
لانشغاله هو الآخر ربما بذات الأمور
..
و أوشك
الربيع على الرحيل ..وكذلك أنا ,علي السفر إلى بلدي الذي أضناني الشوق إليه
وحصل ذات
مساء وبينما كنت ابتاع بعض الحاجيات أن التقيت أندريه بالصدفة كان قد هزل
بالمقارنة عما كان عليه في الشتاء ..وانبثقت في خاطري صورة والده
:
_
مرحبا أندريه
..كيف حالك ..كيف حال والدك ..؟؟
أجابني :
_
لقد مات والدي
منذ شهرين..
صدمت !!لم
أسأله لماذا أو كيف, أخفضت راسي وقلت معزياً
:
_
متأسف جدّاً ..
مضيت إلى غرفتي
وفي رأسي صدى عبارة مات منذ شهرين حاضرة كضربة موجعة
.
وخلال مروري من
أمام تلك النافذة حيث وقفنا آخر مرّة لا أدري لماذا انعطفت نحوها ووقفت
انظر بينما نمل شديد يجتاح جسدي.. ألمت برأسي مئات الأفكار والخواطر
وذكريات لوجه أب متعب ينبع بالعطف والأبوّة..كانت الشجرة التي راقبناها
سويّة في الشتاء قد اكتست بأوراق خضراء يانعة و أضحت أضخم بمرتين.. و تناهى
إلى أذنيّ
من مكان
مجهول عبر حفيف أوراق شجر البتولا والسرو و الغابات الكبيرة الموحشة حيث
اختبأ الشتاء قرع أجراس لكنيسة خشبية قديمة آتيةٌ من بعيد بعيد جداً ..جداً ..
|