اقتراف الفضيلة
انتهى
قداس الأحد، ويعود إلى غرفته في الطابق الأول، وخيال ٌ لرجل طويل يكسره
جدار، هو أحد جدران سجنه الكبير.
ثوب كحلي
طويل يخفق وراءه، يدخل غرفته الكبيرة، يقع الكحلي على الأرض وتحته جسد
يتموج بين الأبيض والأسود لسيد في الأربعينيات.
يفتح
باره ويتناول زجاجة من "الفودكا"، يمتطي كرسيه الأسود الضخم .
يشرب من
"الفودكا"، وينظر إليها كما كل ليلة متوسلاً لها، أن أسكريني، يقبلها
مرتشفاً رشفة كبيرة متنهداً ويشعل سيجارة. كان قد اختار تلك الحياة وذلك
الطريق الصوفي، ذلك الطريق الذي بدأ يقيده، ينظر في المرآة ولحيته البيضاء
تأكل نصف وجهه يستعيد ذاكرة الأيام .
من
عاداته أنه يتجول عارياً حافياً هائماً ولعينيه إشراقه الخريف الخجولة.
يعود إلى
كرسيه وإلى زجاجته ويبدأ بالغفيان.
وتتسلل
الشمس من شرفته الشرقية ويتسلل معا قوس قزح عبر زجاجات "الفودكا" الفارغة،
لترسم يوماً جديداً على الجدار، يفتح عينيه ليرى بأن "الفودكا" وفت بوعدها
وأنه نهار آخر.
كان
لدمشق في ذلك اليوم رائحة الليمون والزيزفون، كانت عصافير دمشق تغرد أكثر
وتطير أعلى ومياه بردى تغني لدمشق أغنية قديمة، كان نهاراَ دمشقياً.
يرن
هاتفه ... يسمع صوتاً لا يكاد يصل إلى أذنيه يخترق قلبه، كانت لا تعرفه
ولا يعرفها، أخبرته بقدومها إليه هذا النهار، لترسل معه طرداً لصديقتها في
الخارج.
وكان
الموعد أقرب مما تصور.
العاشرة
والنصف من نهار دمشق، أطلت إلى باب المطرانية سيدة بمعطف اسود يخبئ تحته
أقحوانه للصيف، معقود بصرتها حبل السماء، عينان اختزنتا برقاً ورعداً
وأقمار.
وشعراً
يتكسر على المعطف يتمايل وتتخاطفه نسمات آذار وتستمتع باختلاطها مع رائحته
فتنتظر خمس ثواني لتغادره.
تقترب من
باب غرفته، يزداد الباب شباباً، تطرق الباب فيفتح الباب، وتهب ريح وتمطر
السماء أقواس قزح وتبرق عيناها، ينتفض من كرسيه، يرقصان معاً للحظات قبل أن
تتلامس أياديهم وترتعش حواسه.
لم يعرف اجتياحاً نسائياً لحواسه بعد ولم يدرك يومها أن ما
ارتكبه من فضيلة عبر خمسة وعشرين عاماً ستبدده سيدة بخمسة وعشرين ثانية.
2001 - 3
أضيفت في16/01/2007/
خاص القصة السورية / المصدر الكاتب
نتالي الفراشة
شباط 1999
بلغراد
تكوينات
الشتاء القاسي قد بدأت، ولوحة اللون الأبيض كبيرة جدا، فيه ليس فيه من شيء
سوى أنه هناك، لم يعرف بعد هوية له، ولم ترتسم ملامح لصورة يضعها على جواز
السفر
كانت
لعينيه الزرقاوات سماء نفتقدها في "بلغراد" أيام الشتاء، كان قالبه لهم
وقلبه لنا، عندما يتكلم تفتح حلب أبوابها وأسوارها وتمتد آلاف أمتار السجاد
من حلب إلى بلغراد وتمطر فستقا حلبيا سماء بلغراد.
في ذلك
اليوم حملته الأقدار مع والده إلى مدرسة عربية في بلغراد ليلتقي بها هناك،
أبصرت
عيناه الزرقاوات قصة سيذكرها دائما، قوامها شعر أسود تنصت إليه فتسمع صهيل
خيول وعصافير ونبعاً وحقل ليل
عينان
بنيتان تتفتق فيهما صنوبرة شهية، العربية تخفق في ذلك الوجه المستدير
كاستدارة تفاحة شامية، ولكن أهم ما فيه تلك البراءة التي اختارت وجهها وطنا
لتسكنه.
كانت
عيناه تمضيان ببطء على شعرها الأسود فتنعكس لمعة عينيه على شعرها فيبرق ذلك
الليل بألمع النجوم.
تعارفا
وغزلا بداية لحب صغير وأحس بأنها غيمته التي ستهطل لألئ على أرضه الجديدة.
ومرت
أيام كان صوتها يتملكه يومياً على الهاتف ، همسات لليل وحكايات تفرش
أسرتهما بالأزاهير .
لبس
معطفاً طويلاً و عزم إلى بيتها ليصطحبها إلى العشاء.
خرج
العصفوران من القفص إلى فسحة الحب والحياة
كان
مشوارهما الأول ،في كبرى حدائق "بلغراد"، في ذلك المكان الذي انتزع جزءا ً
من الجنة أطلق سراح حبة وأطلقته واقتربا أكثر وأكثر وأكثر واقتربت الشفاه
أكثر وأكثر وأكثر لتعصرا معاً وينسكب نهر من العصائر قي أقداحهما ويغيبان
أكثر فأكثر فأكثر
مر شهران
وهما العاشقان المشتاقان دائما.
وفي يوم
جمع أصدقائه وهم مجموعة من الشبان "اليوغسلافيون" منهم من يعزف على
"الغيتار" وأخرى تغني، وعلمهم أغنية عربية تقول (نتالي قطعت أخبارها ما
تشوفا عين) واتصل بها وبدؤوا يغنوا لها على الهاتف كانت تطير بقلبها إليه
....
في تلك
الأثناء كانت الأقدار تخط لهما قدرا يشق صمت الليل و يخلط خارطة الأشياء.
لم يسمع
صوتها منذ يومين، يسأل عنها في المدرسة، عند المدير، يسأل أمها فتخبره أنها
ستغيب عن المدرسة، لا يفهم ... يركض مسرعا إلى منزلها تخبره أنها بخير
ولكنها يجب أنت تغادر إلى مصح خارج المدينة، لا يفهم ولا هي أخبرته
الحقيقة.
والحقيقة
أنها تعاني من السل، تنهار أمامه كل اللحظات وتتناثر وردته وريقات صغيرة في
فضاء الألم المظلم، ويحس أن روحه تسحب إلى اللاعودة.
وبعد ذلك
بوقت قصير يغيب ذلك الصوت و تلك الصورة إلى الأبد.
ماتت
"نتالي".
ولكنه
اليوم وبعد خمسة عشر عاماً يذكرها كأنه يراها لأول مرة "نتالي" الفاتنة
الجميلة البريئة الرائعة تطير كفراشة دخلت غرفته وحططت على دفاتره وطارت
عائدة إلى الربيع منتظرة نهاية عمرها القصير القصير ...
ولكن يا
خسارة هناك فوق في المغارة ما يلتقوا نجمين.
25-6-2003
|