الطقس الأزرق
الفصل الأول
بعض الأماكن الوارد ذكرها في هذه
القصّة حقيقية أما الباقي وسائر الشخصيات فهي مبتكرة لا وجود لها في الواقع
.
مساحاتٌ ممتدّةٌ أمامه وعلى جانبيه
..
مساحاتٌ هي عبارة عن خليط غريب مكّون من أشلاء
متنافرة وغير متجانسة فبعيداً عند آخر مرمى العين ومن خلال أكمة غير كثيفة
من أشجار الكينا يبدو البحر عاتماً أنحله الليل لوناً داكناً تسبح فيه
أنوار المراكب الصغيرة لصيادي الأسماك ..وابتداءً من الأكمة تلك تلوح كتل
غير متناظرة بارتفاع وانخفاض هي تلال رملية يقال أنها مدينة أثرية غابرة
تسكن هنا متلحفة بالرمال , و يأتي الطريق العام والسيارات الغريبة التي
تقطعه ذهاباً
و إياباً مخلفةً أصوات محركاتها التي
تتلاشى في المدى بهدوء ليفصل بين الحي وهذه التلال . ويقع تماماً على ذلك
الطريق (مغسل سيارات ) أقيم أمام منزله تماماً ولا يفصل بينهما سوى فناء
ألقيت فيه بقايا عجلات مهترئة وحديد صدأ وشجرة زيتون صغيرة , الله وحده
يعلم كيف نمت هنا..ويشرف على هذا الفناء أيضاً وفي قطعة الأرض الملاصقة
لغرفته شباك خلفي لمنزل انتهي من بناءه منذ فترة قريبة ولا اثر حتى الآن
لقاطنيه الجدد . وفي الجهة الأخرى تقع منشرة أبو ميخائيل..وعلى رقع متباينة
تنتشر بيوت الحارة مبتعدة عن الطريق العام باتجاه الشمال ـ وكأنها إحدى
المدن القديمة التي تتوزّع على ضفة نهر عظيم ـ وهناك غير بعيدٍ عن
الحي ثمّة ما يسمى بالمنطقة الصناعية وهي عبارة عن محلات حدادة ونجارة
ومحلات لتصليح السيارات ( الكومجيّة
) ..
كانت حارة غريبة . مزيج من نمط قروي
حمله المهاجرون من القرى إلى هنا سعيّاً وراء الأحلام أو اضطراراً وذلك
للقرب من مكان عمل , وضوضاء الحافلات والشاحنات التي لابد لها أن تسير على
الطريق العام في توجهها إلى المنطقة الصناعية التي تتصل بطريق فرعي وحيد
يتفرّع عن الطريق العام ويحاذي الحي السكني الذي يتكون من بيوت متشابهة
قليلة تتخللها طرق غير معبّدة تتجمع على زواياها أكياس قمامة تنبشها دون
كلل قطط جائعة ويمكن خلال النهار سماع عشرين صوتاً مختلفاً في آن واحد ,
أزيز المنشرة الرهيبة وهي تفترس جسد الأخشاب من عند منشرة أبا ميخائيل أو
العبارات البذيئة للعمال عند أبو صقر ( صاحب مغسل السيارات ).. ومحركات
الشاحنات..وصراخ أطفال يلعبون .. فوضى تشي بظروف بناء هذه البيوت ! حيث
كانت هذه الأراضي في وقت ما تابعةً لأملاك المنطقة الصناعية والبناء فيها
ممنوع , بيد أن التسلل الدائم للطامعين بحياة المدينة وغيرها بمعنى آخر وضع
هذا ( الاجتياح السكّاني ) الدولة تحت الأمر الواقع وأجبرها على التغاضي عن
الموضوع .فاضطرّت لتأمين الخدمات المختلفة حتى أنها بنت مدرسة صغيرة
ابتدائية و إعدادية للأهالي
..
وقف على سطح المنزل ومرر عينيه الصغيرتين السوداوتين
الواقعتين في محجرين عميقين في جمجمته, واللتين يعلوهما حاجبين كثين كجناحي
نسر على تلك المساحات العاتمة , في فمه سيجارة تضيء جمرتها وجهه بلون
برتقالي خفيف يُبرز في عتمة الليل تجاعيد و أخاديد
و آثار خياطة وغيرها وتعابير قلقة
مشمأزّة . الأغاني تنبعث من غرفته وتوافي أذنيه بشكل أشوه لاختلاطها
بالأصوات الأخرى وسحابات الدخان التي تنفخها رئتيه تنتشر أمام عينيه لتزيد
من ضبابية المنظر الساكن .
لا فائدة ! صور متكررة ليس إلاّ فقد
إحساسه الحقيقي بها, ربما في ا لسابق قبل الحادث كان ينال سلواناً خاصاً
وبهجة من الوقوف في هذه النقطة بالذات حين كان يداهمه القلق أمّا الآن
فثمّة غربة حقيقية تغلف نظرته لهذه المساحات التي شهدت أغلب سني حياته
!
الآن يتلقى عقله هذه الصور كأنها من
حياة أخرى عاشها في جسد آخر وشكل آخر يتذكّر خيالات سكرى عن المكان الذي
عاش فيه ولا يعثر قط على عواطف حقيقية و إنما يناله فقط أشلاء أحاسيس باردة
مبهمة !!
منذ
ساعات كانت تعج هذه المساحات بحركة مستمرّة والآن هدأ كل شيء باستثناء
سيارات غريبة تعبر الطريق ..
كل الحركة التي شهدها النهار غابت في
جوف الليل.. ابتلعها ..فهدأ أزيز المنشرة وسباب العمال في مغسل السيارات و
أصوات الأولاد , امتص الليل الألوان و الحركات و رغبة الناس في العمل ,
وضرب على البحر والسماء حجاباً من العتمة, فلاح البحر من بعيد حفرة هائلة
تبدو كنهاية العالم .
لقد دفعه لا شعوره إلى الحج لمواطن
شهدت في السابق متعاً نفسية وروحية ..دون فائدة , ما كان يرجوه إذاً من
وقوفه هذا على سطح المنزل لم يحصل عليه .خاب أمله . فاستدار لينزل
على السلم الخشبي المستند إلى حائط غرفته والذي أصدر زقزقة كأنه
يتململ من الثقل..وإذ نزل أضحى أمام غرفته في الفناء المنظم بذوق قروي بسيط
تتوزع عليه الغرف الثلاثة المتفرّقة التي تكوّن البيت فثمّة خم صغير
للدجاجات في إحدى الزوايا ..وقطعة أرض مزروعة بالورد الجوري وبضع شتلات
خيار وبندورة وبصل أخضر ..وعلى أطراف الفناء الذي يحيط به سور من الخفان
القديم يرجع إلى بدايات انتقالهم إلى الحي..حيث بناه مع والده لتحديد الأرض
وفي جهتين متقابلتين تقع غرفة شقيقه عبّاس و زوجته ومقابلها غرفة والديه
التي ينبعث منها شخير والده مالأً الفناء ليوثق قلقه ويهزأ به.. بالإضافة
لغرفته .
أشعل سيجارة أخرى ثم دخل إلى الغرفة
وقد شعر ببعض البرد .
في الليل تكتسب الأشياء معنىً وشكلاً آخر إذ تصبح
أكثر غموضاً ويتغير شكلها وحجمها
وكذلك أفكاره و انطباعاته عن نفسه
وجسده . هكذا فكّر مقتنعاً أنه بعد الحادث
لم يتغير فحسب بل فشل في العودة إلى
مكانه وزمانه حتّى ! نظر في موجودات غرفته البسيطة التي تفوح منها روائح
الدخان والجوارب القذرة , خزانة تقف على أربعة حجارة (خفان ) سرير خشبي
مبعثر الأغطية , طاولة تتناثر عليها ظروف الأدوية المختلفة لألم الرأس
للضغط ..مسكّن آلام ..والحبوب التي قال له الأطباء أنها ستعيده إلى ما كان
عليه ..ودفتر بصفحات صفراء مرميّ على الطاولة منذ سنوات وعلب السجائر
الفارغة ومسجلة.. تلفزيون .. لوحة تمثل قارباً يعود عند الغروب إلى شاطئ
صخري ..نافذة بستائر ذات لون أخضر . وفي الزاوية اليسرى إلى جوار الباب
تماماً حيث يعلّق ملابسه ثمة تاريخ مكتوب بقلم أسود عريض إنه السادس عشر من
أيلول التاريخ الذي لم ينساه في حياته أبداً
!!
استند بظهره على الباب محدّقاً
بالخطوط والتعاريج التي ترسم هذا التاريخ يسترجع معانيه وآلامه . منذ سنتين
عندما كان يعمل سائقاً على إحدى السيارات التابعة للمرفأ وأثناء سفره إلى
العاصمة في مهمة مع أحد المهندسين اصطدم في محاولته لتجاوز شاحنة بشكل
مخالف لقواعد السير بأساس احد الجسور ..ما زال يذكر تماماً كيف سأله
ذلك المهندس عقب جلوسه إلى جواره في السيارة عن التاريخ فأجابه
:
اليوم هو السادس عشر من أيلول
على ما أعتقد فكتب المهندس على ظهر المظروف ذلك التاريخ وانطلقوا..بعد ذلك
لتبدأ حياته الجديدة . أصيب المهندس بإعاقة دائمة . وخرج هو من المستشفى
بعد شهرين بأعضاء إضافية جديدة هي عبارة عن أسلاك وصفائح في فخذه
وفمه..وخيوط , وعمليات تجميل للوجه وأضلاع مكسورة وفقدان جزئي للذاكرة ! ثم
كان عليه دخول السجن لمدّة ستّة أشهر لمخالفته قواعد السير أثناء القيادة (
أعفي منها وتم تسريحه من عمله بعد الفحوصات التي أجراها له أطباء الأمراض
العصبية) ..وأبقي له على جزء من الراتب جارياً . منذ ذلك الحين وهو يشعر
بأنه أصبح شخصاً آخر وثمّة وقع مختلف للأصوات التي يسمعها وللوقائع التي
يراها ..
لا فائدة يبدو انّه لن يعثر على لحظة الهدوء
..التكرار الخالي من المعنى ولا شيء سواه إنها مفرزات الوحدة الكئيبة..وليس
النوم بكوابيسه المتواترة بأفضل حالاً . إنّه مستلق على السرير الآن
والساعة ناهزت الثالثة والنصف والموسيقا تنتشر في فضاء الغرفة ـ الأمر الذي
يضايق أهله كثيراً _كي يريح أذنيه من سماع محركات السيارات التي تذكّره
بذلك التاريخ, ولا توجد أيّة رغبة بالنوم لا بل لا توجد رغبة بفعل أي شيء ,
ويتساءل هل من المعقول
أن يكون هذا القلق الذي أصابه منذ يوم الحادث ناجم
فعلاً عن خلل طاول الأعصاب المسؤولة عن النوم !!أم ماذا ؟ ربما لأنه لا
يمارس أي عمل يضطر جسده لالتماس راحة
عن طريق قسط من النوم . ولماذا العمل
في الأساس ؟ لأي غاية ! إذا كان أفضل عمل سيدر علي راتباً لا يزيد عن راتبي
إلاّ ببضعة ليرات .
كل شيء فيه يسير نحو النهاية لقد
شارف على الأربعين تقريباً وليس أمامه سوى الفراغ والمستقبل لديه مفهوم
أجوف لا يبدو له بأي شكل . يفكر ..يفكّر ويخطط لحياته أموراً تمر كخواطر
عابرة لتحل محلها قرارات أخرى وذلك بسبب طبيعة ذاكرته الجديدة التي ينأى
عنها التركيز والوضوح..لكنه كان على ثقة غريبة بأن يومه آت وحظه في مكان ما
سيأتي ليجرفه كالسيل في لجة من السعادة والاستقرار لذا أدمن على شراء أوراق
اليانصيب حيث الحظ _ولابد _ يختبئ وراء إحدى الأرقام
...
ليل طويل ووحدة مبهمة بغيضة وباردة إلاّ أنها أساسية
يهرب إليها من محيط يراه صعباً كالصخر كان يضيع أحياناً ارتباطه
به..تدور في نفسه الأحاديث والحوارات الشتى وأحلام اليقظة ومن ثم
يلسعه الملل والقلق فيجد نفسه في الفناء من جديد حيث عبرت هرّة رقطاء
نظرت إليه بعينيها اللامعتين ثم مضت بقفزة واحدة من أمامه . وسيجارة أخرى
وفمه يفيض بطعم مرّ ورائحة كريهة من جرّاء التدخين المستمر ومشى في
الشارع
الهادئ , منشرة أبو ميخائيل مغلقة و
إلى جوارها كومة من الأخشاب المحطمة والنشارة كمخلفات مذبحة ..ومنزل أبو
أمجد الذي انتقل مؤخراً إلى الحارة وهو رجل بسيط مرح يعيش مع زوجته لوحدهما
هنا بعد أن تزوج أولادهم وتفرقوا في المدن ..عمل ضابطاً في الجيش أكثر من
ثلاثين عاماً ذو شخصية فلاّح أكثر منها شخصية ضابط . ويتميّز منزله عما
حوله بطلائه الأبيض الذي يعكس أضواء مصابيح السيارات حيث كتب بفرشاة دهان
وبشكل سيء إعلان عن قابلة قانونية وطبيب أسنان
.
الأماكن خالية وهو يقطع المسافات
المتشابهة وحيداً كشبح يظهر ليلاً في عالم لا يمسه بشيء ..وصل إلى الطريق
العام الذي لا يبعد كثيراً عن منزله وجلس القرفصاء على زاوية الشارع وقد
همشّه الليل , بينما أخذت مصابيح السيارات العابرة تضيئه شذرا لتظهر
هيكلاً ضئيلاً في بيجامة ..
لفت انتباهه صوت (قرقعة) ناجم عن عبث
الهواء بعلب البيرة والكولا المصنوعتين من الألمنيوم و المعلقتين على عمود
الكهرباء أمام بقالية أبو حامد الواقعة على الطريق العام مباشرةً كنوع من
الدعاية الرخيصة لجذب سائقي الحافلات الذين يعبرون الطريق في طريقهم إلى
المنطقة الصناعية والزبائن الآخرين وراقبها بإمعان كأنها المرّة
الأولى التي يراها فيها أو كأنه يلتمس فيها تسليةً معينة . لقد كان يجلس
هنا مع أبو حامد ومجموعة أخرى من الرجال منذ ست أو سبع ساعات , الأحاديث
التي رواها في هذا المكان منذ ساعات والتي يجد فيها أبو حامد تسلية ومتعة
تبخرت وبقي هنا بحجمه و أبعاده . أحداث يختلط فيها الواقع بالخيال ليستخلص
أموراً تربطه بحياة يحسّ أنّها تمرّ متجاوزةً إياه
!
استغرق في التدخين وعقله يحوم في
لجّة من الأفكار لا رابط لها ..الفراغ يستقطب ذكريات يشعر أنها لا
تخصّه..أيام خدمة العلم و العمل في المرفأ ..تمر تماماً كذكريات عن
حياة أخرى.. وعندما يحاول أن يستحضر شيئاً عن مراهقته وطفولته هنا يفشل
وتبدو حياته ضائعة و شاحبة مفقودة.. بالنسبة له كان هناك مرحلتين في حياته
, مرحلة غامضة لا يتذكّر منها سوى خيالات لا أكثر على صعيد العادات و
الأفكار هي مرحلة ما قبل الحادث , ومرحلة غربته عن نفسه و ما حوله وهي
مرحلة ما بعد الحادث و الرابط بينهما هي تلك الصفائح والأسلاك في فخذيه
وفمه التي تؤرخ له التاريخ الرهيب
..
لاحت بوادر الفجر بالتدريج ابتداءٍ من
الأفق ذلك المكان الغامض الذي ترحل إليه الشمس وتظهر منه يوميّاً.. فنهض
ليعود إلى الغرفة من جديد ..واندس في سريره
البارد,
وفي هذه الأثناء استيقظ والده ليؤدي صلاة الفجر وتناهى إلى أذنيه صوته
الأجش :
ـ أصبحنا وأصبح الملك لله العلي
القدير .
فهمس وهو ينقلب على جنبه ساخراً :
إنه يتخيل نفسه في الجنة الآن
..
كان يستهزئ بنمط حياة والده الذي
اعتكف بعد تقاعده _ (من مؤسسة الكهرباء , ويعمل الآن عباس مكانه ) _
للصلاة والعزلة حيث يواجه المشاكل التي تدور في المنزل بحيادية كأنه لا يمت
له بصلة ..
مع الفجر تسلل ضوء ضعيف بلون سماوي
إلى الغرفة شعر على أثره بخدر خفيف في ساقيه وهدأ تنفسه بالتدريج ثم
غفا قليلاً ومضت برهة من السكون , ثم استيقظ متضايقاً وقد انقلب الوقت وعاد
الضوء يخبو من جديد فنهض متضايقاً وكأن شيئاً أطبق على أنفاسه ولسانه يلهج
بالتأفف والتجذيف وتناول رفيقته الدائمة علبة السجائر وتجاوز الفناء وقد
أظلمت الدنيا من جديد كأن قدماه تقودانه إلى نقطة محددة بذاتها . كان يقف
على زاوية الشارع يدخن والسيارات تمر ذهاباً و إيّاباً . توقفت سيارة
يقودها شخص طلب منه أن يقود السيارة بدلاً منه إلى جهة ما والغريب
أنه لم يستغرب هذا الطلب وكأنه على العكس كان على موعد معه ..وقاد
السيارة.. انطلق مسرعاً وانقلبت السيارة وغاب كل شيء خلال ثوانٍ
وتناهى إليه صوت والده يقول
:
الله أكبر ..الله أكبر قد قامت
الصلاة.. ففتح عينيه كانت السيارة منقلبة ورجل غريب لا يعرفه ممددٌ إلى
جواره وفي الخارج , على شاطئ البحر كان والده يقف على سجادة الصلاة ..وفي
السماء تتفجّر ألعاب نارية تضيء الشاطئ بألوان حمراء وخضراء ووالده منهمك
بالصلاة وكأنه لا يشعر بوجوده فكزّ على أسنانه بغضب..وناده
:
ـ أنا هنا في السيارة ..انظر
..
استيقظ نتيجة أحد الأصوات من منشرة
أبو ميخائيل وقد نمّل جلده بينما يداه كانتا تقبضان على اللحاف من
شدّة الضيق وتمتم :
ـ ابن الكلب (يلعنه و يلعن هذا
المنشرة..وهذه الحارة) ومكث في السرير برهة , و المذياع لا يزال يبث
الأغاني المختلفة . سحب اللحاف وتكوّر على نفسه كطفل وعيناه تجولان في
الغرفة وهو يسترجع تفاصيل ذلك الحلم بحثاً عن نبوءات خفية مدسوسةً فيه . إن
الأحلام تعني له الكثير لأنه يؤمن بكونها الأمل الوحيد في معرفة القادم
..
قطع بكاء ابن شقيقه الرضيع حومة
أفكاره واستعاد بالتدريج إحساسه بالمكان فنهض وقد تسرّبت أيضا مختلف
الأصوات إلى مسامعه..وقف أمام الفناء .. شعره منفوش كجذاذة صوف سوداء
تخللتها خطوط من الشيب . كان جسده نحيلاً وذو بشرةٍ شديدة السمرة وساقيه
طويلتين شديدتي الهزال تماما كساقي طائر ( أبو سعد ) ومفاصلة تطقطق كمجموعة
من الأزرار وضعت في علبة حديدية . لم يكن هناك أحد باستثناء دجاجات وقف
بعضهن على السور المنخفض بينما انصرفت الأخريات إلى نقر فتات الخبز
اليابس..ومن غرفة شقيقه تنبعث صوت ثرثرة زوجة أخيه مع إحدى الجارات ..كان
الجوّ غائماً وبدا قرص الشمس باهتاً بسبب السحائب الرماديّة التي تعبر
السماء حاجبةً إياه لثوان ..وقف كذلك لدقائق وخطر له خاطر مفاده أن هذا
الذي يراه الآن لا يقل شناعةً عن ذلك الذي يراه في الحلم . غسل وجهه بسرعة
دون أن ينظر في المرآة الكبيرة المعلّقة فوق المغسلة ثم اتجه إلى المطبخ
ليعد مشروب المتّة الساخن وأثناء خروجه لمح والدته عائدةٍ إلى البيت بثوبها
المورّد الذي يزيدها بدانة وقد انسدل شالها الأبيض الشفاف على كتفيها
الضيقتين , حاملةً أكياس خضار وربطة خبز .. وابتسمت بوجهها الأسمر الذي لا
يفارقه الحزن قائلةً :
ـ صباح الخير ..لكنه مضى دون أن يلقي
اهتماماً ..
كاس المتّة ينتصب أمامه والراديو يبث
أغانيه وهو ينقر بأصابعه بلا انقطاع على الطاولة الخشبية ويعبث بظروف
الدواء أشعل سيجارة ونظر إلى( الباكية ) مفكراً
:
ـ إنني أدخن ثلاث ( بواكي) في
اليوم ..
ـ يا لله.. ليس لديك ما تخسره . وهزّ رأسه بلا
مبالاة .ثم نهض ليرفع من صوت الراديو كي لا يسمع صوت زوجة شقيقه الذي أخذ
بالارتفاع نتيجة حدّة النقاش .كان يكره هذه المرأة( الكهينة ) التي تتحكّم
بشقيقه وتديره على نحو ما تهوى و يعتبرها أساس المشاكل في البيت
وذلك أنه في إحدى المرّات سمعها بالصدفة أثناء تجواله في أحد
الليالي
تقول لعباس دعنا ننتقل إلى أي مكان آخر لم أعد احتمل هذا القرف !. ولدى
سؤال شقيقه عن سبب كلامها هذه ..جن جنونه واتهمه بأنه يتجسس عليهم ليلاً
! وحصلت مشكلة كبرى..ونهره شقيقه الذي يصغره بسنوات طالباً منه عدم التدخل
في حياتهم ..وانفلتت زوجته أيضاً ..و طلبت منه أن يجد ( شغلةً بدل سماع
الراديو بصوت مرتفع والتجسس على الناس ) وعندما قال لها أريد أن أعرف سبب
(قرفك )من البيت الذي يأويك ..أجابته : لا تصرخ علي لست زوجي لتفعل ذلك
..وتجادلوا حتى انتهى الأمر بأن ضربه شقيقه وتدخل الجيران للتفريق بينهم
و أدخل المستشفى بسبب نوبة عصبية أثر ذلك أقسم على مقاطعتهم بالكامل
باستثناء شقيقته رجاء الوحيدة التي وقفت إلى جانبه في تلك الحادثة
..
مضت ساعة أفنى ما تبقّى لديه من
سجائر فيها وفتح النافذة قليلا لينظر إلى الجو قبل خروجه , فلاحظ وجود
ستائر على نافذة المنزل الجديد الذي ظهر مقابل غرفته إلى اليسار
فقال
:
ـ هل ينقصنا المزيد من المجانين هنا
في هذه الحارة ..؟
واستعدّ للخروج .. سيخرج كالعادة كما
يفعل يومياً عقب استيقاظه . يستقل حافلة إلى صديقه أسعد الذي يعمل حارساً
(لشاليهات ) في منطقة خارج المدينة فيقضي هناك نصف نهاره , كانا شخصين
متشابهين ومتقاربين في العمر لهما تجربتهما المميزة في الحياة كان اسعد
الذي يقول عن نفسه أقلّ الرجال حظّاً في تاريخ البشرية , آخر صديق
متبق من جيل سهيل الذي شارف على الأربعين . عازب أيضاً , ويملك تجربته
المميّزة حيث سافر على ظهر سفينة ليتسلل بشكل غير شرعي إلى اليونان للعمل
هناك ( بعد أن جرّب السبع صنعات دون فائدة ) واضطر للسباحة كيلو مترين
كاملين في بحر هائج ليلاً كي لا يراه خفر السواحل ..لكن قبض عليه عقب وصوله
مباشرة من قبل الشرطة وتم تسفيره بعد أن أمضى بضعة أيام في السجن ..ومنذ
ذلك الحين وهو يعمل حارساً لهذه الشاليهات ذات المستوى المتوسّط التي
يؤمّها في الغالب عائلات فقيرة أو سائقي حافلات وشاحنات يصطحبون
بائعات هوى لقضاء ليلة واحدة .. كان الجو والهدوء والمنظر البحري الهادئ
بعيداً عن الصخب والأصوات المكروهة يعجب سهيلاً لذا راح يتردد إلى هناك
يومياً
دون أي حرج وبكافة الأحوال لم يكن
هذا ليضايق اسعد بشيء ...
البيوت التي يراها الآن تختلف عما
عاينه في الليل إنها تفيض بالحركة وأصوات الموسيقا , بضع خطوات تجاوز
خلالها المنشرة حيث حيّى صاحبها أبا ميخائيل ثم شتمه في نفسه ووصل
إلى زاوية الشارع حيث مضى إلى البقال أبا حامد ليبتاع علبة سجائر بما
تبقّى معه من نقود إذ ذاك رحب به أبو حامد الذي كان يعتمر طاقيّة البيضاء
يرتديها الصيادين عادة تنسدل على جبينه لتغطي خبث عينيه ويجلس في وسط
مجموعة من سائقي الحافلات جلسوا يشربون المشروبات الغازيّة
:
ـ أهلاً معلم سهيل
.
وانطلق في الحافلة ..يراقب المنظر
الذي يعاينه يوميّاً مكرراً انطباعاته اليوميّة عن طرطوس هذه المدينة
البحريّة الصغيرة.. وقرر أن يذهب اليوم _بعد زيارته لأسعد_ لعند
شقيقته رجاء ..ليطلب منها بعض النقود لنهاية الشهر وليشتري بها ورقة يا
نصيب, جاوزت الشوارع التي يعرفها ومرّت بمركز المدينة أكثر الأمكنة
ازدحاماً ..ثم نزل من الحافلة ليستقلّ أخرى في وسط الازدحام حيث ينتشر
بائعو الأسماك و الخضار والساعات الذهبية الرخيصة والسجائر وتتجول فتيات
خجولات وصلن لتوهن من القرية ..وتفوّح روائح الأسماك والقهوة
والحلويات..استقلّ حافلة أخرى واتجّه إلى أسعد
.
كان اسعد مستلقيّاً في غرفته الصغيرة
عند الباب الرئيسي يغفو على ديوانته التي احتلّت نصف الغرفة و إلى جواره
ثمّة كشك صغير لبيع المرطبات والمعلبات والدخان والمشروبات الروحيّة
للزوار يديره هو . وقف سهيل على الباب وقد أخذه النظر إلى البحر الرمادي
الصاخب الذي يتناهى صوته غاضباً كزئير وحش خرافي ..وانتبه أسعد لوجوده
فتمتم مرحّبا بضيفه اليومي ثم وضع يده على خدّه ذو اللحية الخشنة المتوسطة
الطول ونظر كذلك إلى البحر متثائباً . وتابع كأنه يحدّث نفسه: اليوم
اتصل بي المدير وقال عليك تنظيف الشاليهات فالموسم اقترب . فنهضت منذ
الصباح , انظر بربك أيّ موسم هذا !؟ الدنيا كأنها في كانون . ودون أن
يهتمّ لسماع جواب أو تعليق , نهض متمتماً : سأموت من الجوع وتوجه إلى الكشك
ليحضر شيئاً ما للأكل ..بينما جلس سهيل يبحث عن علبة المتّة ليشرب مرّة
أخرى ..
وسأله أسعد من داخل الكشك
:
ـ ماذا فعلت البارحة ..؟
ـ البارحة ..لم أنم حتّى السابعة
صباحاً جاء أصدقائي للسّهر ..وأنت تعرف لعب الورق والأركيلة
.
ـ أي أصدقاء
..
ـ أبو حامد جارنا في الحارة..صاحب
البقالية وبعض سائقي الحافلات
.
ودخل أسعد حاملاً صينية عليها علبتي
سردين ورأس بصل وبضع أرغفة من الخبز
..
يمر النهار هكذا.. يجلس هنا نصف يومه
يسرد أشياء و أموراً مما يحصل حوله ثمّ يزجّ نفسه فيها بحثاً عن تعريف أو
مكان وهرباً من شعوره بالوحدة والغربة و أسعد يستمع بصمت أحياناً
يدلي بتعليق ما على سبيل المجاملة , أو ينهض لأداء عمل ما يغيب ساعة أو
أكثر ثم يعود و لايشكل وجود سهيل أيّ إزعاج له فهو أيضاً الوحيد الذي يزوره
.كانا شخصين متفاهمين إلى أبعد الحدود
.
بعد الغروب تغيّر الجو نحو الأسوأ
وهطل رذاذ مطري خفيف أُعقب بضباب شاعري
.
وصل إلى منزل شقيقته التي تملك
محلاّ صغيراً لتصفيف الشعر ( كوافيرة ) في إحدى الأحياء غير بعيد عن مركز
المدينة..والمحل عبارة عن إحدى غرف منزلها نفسه تم هدّ أحد حيطانه وتحويله
إلى محل ..وكُتب على لوحة رخيصة فوقه الكوافيرة رجاء .كانت رجاء
تصغره بأربعة عشر عاماً ومتزوّجة من ضابط متوسط الرتبة وهو يقصدها
دائماً لطلب المال أو لقضاء بعض الوقت .. عرج على المحل أولاً كان مغلقاً
فتوجه إلى المنزل حيث تقف سيارة صهره العسكرية الروسية ملتحمة بالحائط..
استقبلته مبتسمة وهي تهزّ طفلها لينام
:
ـ أهلاً كيف حالك ؟
ـ كالعادة ..أجاب ببرود
..
ـ ادخل إلى المطبخ وكل شيئاً ما
سآتيك عندما ينام...
ـ لا أريد أن أكل
..
ـ كيف الأهل ؟
ـ( ماشي الحال )..والدك يصلّي ..وأمك
ترعى الدجاجات و هناء تلعب بعبّاس على كيفها
.
ـ سهيل لا يجوز أن تقول هذا ..قالت
زاجرةً ..
ـ أنت نفسّك تعرفين أنّها لا تصلح
لشيء سوى للنق والنكد ..تذكرين عندما جاءت إلى هنا لتعمل معك
.
ودخل صهره أثناء ذلك بكامل لباسه
العسكري كأنه يستعد لإلقاء خطاب في حين كان ذاهباً لزيارة طبيب الأسنان..
كانت لصهره هيئة ضابط صارم بوجه قليل الابتسام وصوت جهوري .. استفسر
باقتضاب ووقار عن حالة الجو , و أعقب ذلك بمجموعة أسئلة عن الصحة والأهل
أجاب عنها ببرود ثم مضى فقد اعتاد على وجود سهيل شبه اليومي هنا
وشخرت السيارة عقب ذلك ماللأةً الحي ضجيجاً وهي تغادر , وقال سهيل
متابعاً :
ـ إنها سبب المشاكل
..
ـ لا يجوز.. لقد قلت لك ! عبّاس
يحبّها .
ـ إنّه لايحبّها بل تديره على كيفها
..
ـ ومع الأهل ( كيف الجو الآن
) ..
ـ اتركيني منهم بربك ..( معك مائتي
ليرة سأردها لك عندما أقبض
...)
وعلقت وهي تدخل إحدى الغرف لتحضر له
المبلغ :
ـ أنت هكذا ..تتهرب دائما عندما أريد
الحديث عنهم ..
وقالت له وهي توصله إلى الباب:
( إذا لزمك) أيضاً المزيد من المال تعال لا تستحي
.
وركب الحافلة إلى الحي ممتلئً
بامتنان عميق , وسهم متخيّلاً والحافلة تنطلق به وهو يراقب أنوار المحلاًت
من خلال الزجاج المغبّش كيف سيعطيها عندما ستربح ورقة اليانصيب .. توقفت
الحافلة فجأة قاطعةً شريط أحلامه كانت الحافلة صدمت سيارة أخرى على ما يبدو
ونزل السائق غاضباً وهو يسب ويشتم ..وتشاحنا بالكلام وكان السائق الآخر
عجوزاً.. فضربه وتدخل بعض الموجودين .. ساءه الحادث بشكل كبير ( خصوصاً أنه
مرتبط عنده بذكرى مزعجة ) وبقي يفكّر طوال الطريق لو أنّه تدخل ورد هذا
النزق عن فعلته واستمر كذلك حتّى وافى الحارة وكان قد تحفّز وكأنه قد
خرج من عراك لتوّه .. حيث هدئ الرذاذ المطري وسكن الجو تماما .. وتوّجه إلى
أبا حامدٍ ليشتري علبة سجائر حيث كان دكانه مناراً وصناديق الكولا
والمشروبات الغازية ترتفع أمامه وثمة حافلات بيضاء تقف هناك على نحو يوحي
أنه مقصف أو استراحة أكثر منه بقاليّة
..
وناده أبو حامد بصوت لا تخفى عنه
السخرية من بين دخان الشواء وقد رآه قادماً
:
ـ تفضّل اسهر معنا (معلّم ) ..اشتقنا
( لحكياتك ) ..
ـ أنا متعب ( هذه عودتي من العمل )
اعطني (باكية سجائر )
.
كان
أبو ميخائيل يستعد لإغلاق المنشرة ..وأخذت الحارة تغرق في الصمت والسكون
فامتعض وجهه وهو يستشعر اللحظات الكئيبة القادمة. عندما دخل الفناء نادته
والدته وهي تطل من الغرفة راجيةً
:
ـ الطعام في المطبخ يا عيني إذا أردت
أن تأكل ..فلم يجيب بشيء ومر متجاهلاً..و فور دخوله إلى الغرفة ومعاينته
المنظر المتكرر المثير للأعصاب عاوده التوتر فأشعل سيجارة وتمدد على
السرير مدّة نصف ساعة تناهت إليه خلالها الأصوات المختلفة زوجة شقيقه وصوت
والده وهو يتلو القرآن بعد صلاة العشاء ..فزمجر كازّاً على أسنانه وفتح
الراديو مدركاً أنّه لا مجال للجلوس في هذه الغرفة . وبعد قليل خرج عبر
الفناء الساكن وسيجارته في فمه ليبدأ مشواراً آخر وقد بدء القلق يسومه
أنواع الضيق والتوتر ..
ـ ولك معلّم سهيل تفضّل ..كفاك
تجوّلاً ..خاطبه أبو حامد .
كان قسم من الموجودين قد غادر وبقيت على الطاولة
كؤوس عرق وبقايا اللحم وقشور البصل المشوي . واقترب بتمهل , وعلى احد
الكراسي ثمّة رجل يضع على كتفيه فروة خروف والتعرّق ينضح من جبينه وقد بدا
عليه السكر وهو يتحدّث عن حادث سير وقع
له حيث حطّم مصباح سيارة مرسيدس
واضطرّ للهرب ..كان هذا الرجل يتحدّث لوحده فكل الموجودين منشغلين يتكلمون
بأحاديث مختلفة في وقت واحد , استمع له سهيل وهو يتذكر حادثة اليوم ثم قال
للسائق الذي أخذ يوجّه له الحديث إذ لاحظ أنّه الوحيد الذي يعيره اهتماماً
:
_
عندما كنت أعمل سائقاً في المرفأ
ـ و سكت الجميع ليصغوا إليه باهتمام وقد غمزهم أبو حامد ـ وقع
حادث أمامي على إشارة المرور . صدمت حافلة سيارة أجرة صغيرة ونزل سائق
الحافلة (وكان نفسيّة قذرة لم ارتح له مذ رأيته)..وبدأ بضرب سائق التاكسي
وهو رجل والله العظيم بعمر والده , لم استطع أن أتحمّل المنظر فنزلت و
أمسكته من قميصه وقلت له: ألا تستحي يا كلب إنّه بعمر والدك وصفعته (كفّاً
كاد يبصق منها الدّم ) انقلع اصعد في الحافلة
..
ولم يتردد لحظة ..ارتعب . فقال :
والله الحق عليه .قلت له : وإذا إنّه بعمر والدك.فقال : على رأسي وصعد في
الحافلة وانقلع .
وعلّق أحد السائقين قائلاً
:
ـ والله هكذا ينبغي (أحياناً تصادف كل شخص نفسيته
أحقر من نفسيّة كلب) . وسرت موجة من التعليقات ورواية حوادث مشابهة من قبل
الموجودين وأخذ أبو حامد يستمع ويضحك بينما ينظف الطاولة ..وبعد قليل نهض
سمير وقد ارتفع الصخب و شعر بملل مفاجأ ..أين سيمضي الآن؟
فكّر
في زيارة رياض وهو شاب يصغره بعشرة أعوام يعشق ركوب الدراجة النارية و تعرف
عليه في تجواله الليلي ..لكنه أحجم فلابد أن يعرج عليه في تنقله اليومي على
الدراجة كما أنه يقطن بعيداً عن الحي , وعوضاً عن ذلك راح يتمشّى على
طرف الطريق وسيجارته بارزة من فمه يفكّر في الأحاديث التي يرويها ويكون
فيها البطل كيف تتبخّر وتبقي منه هذا الهيكل الرّث في بيجامة يبحث عن لحظة
هدوء وضحك شامتاً لماذا هو بحاجة لذلك ؟ ألا يعرفون أنّه يكذب ويختلق وأين
المشكلة ..
إنه يعرف ماذا سيحصل بعد ساعة وبعد
ثلاث وحتّى بعد أربع وعشرين ساعة وداهمته حالة الوحدة مع منظر السيارات
التي تجاوزه كأنها الحياة وضعته على رصيف وانطلقت متجاوزةٍ إيّاه ..كان قد
قطع مسافة كبيرة بعيداً عن الحي وفي طريق عودته لاحظ أن مقابل البيت الجديد
المجاور لغرفة ثمة شاحنة ينقل منها رجال طاولات وكراسٍ وبرادً إلى
داخل البيت , راقبهم بدون اهتمام ثم تابع إلى الغرفة حيث بانتظاره الفراغ
والملل .
كانت والدته ووالده يسقيان المزروعات
وتقف معهما زوجة عبّاس حاملةً طفلها ..فعبر من أمامهم وكأنهم غير موجودين ,
وصفق الباب وراءه بقوة ثم أشعل التلفزيون بحركة ميكانيكية يفعلها دائماً
عقب دخوله إلى الغرفة..وانتبه إلى كون النافذة المقابلة منارة ! ففتح
نافذته ليلقي نظرة ..وبنفس الوقت كانت من النافذة تلك تطلّ فتاة لتلقي نظرة
على النافذة المقابلة ! والتقت عيناهما لبضع ثوانٍ ثم انسحبت مضطربة
ٍ..وارتد هو قليلاً إلى الوراء وجلس على الكرسي ..وبعد ذلك لم تظهر الفتاة
..
خلفت عنده هذه اللحظة الغير متوقّعة
اضطراباً وهيجاناً في جسده كله وكأن هرموناً لم يعرفه جسده أفرز على حين
غرّة وبكميّات كبيرة . وأعقبت ذلك دقائق كان ينظر فيها إلى الدفتر المفتوح
أمامه حيث يدون أرقام أوراق اليانصيب التي يشتريها وإلى أذنيه يتناهى
صوت برنامج يبث على التلفزيون , أشعل سيجارة و تمدد على السرير..ثم ونهض
بلا تخطيط فتح الباب و أشرف على الفناء فعانق وجهه نسيم معتدل مختلف عن ذلك
الذي طاف طوال النهار وبرز صوت صرصور يزقزق من بين المزروعات, وفي المطبخ
حيث عاين صحن اللبن و الأرز البارد إلى جواره والذي تناثرت منه حبات على
الأرض اجتمعت نملات لنقلها , دفع الصحن بيده وخرج غاضباً وقال
:
ـ افرضيني دجاجة من دجاجاتك ..أكنت
تضعين لها الأكل هكذا !!أنا لست ابنك أليس كذلك
..
وانطلق يسير في الشارع مختنقاً
بالشتائم والغصّة تذيب فؤاده ذوابانا , وجلس على زاوية الشارع وألقى نظرة
على البيت اللئيم وبصق على الأرض وتمتم
:
ـ ماذا تساوي الحياة !! رصاصة .. متى
أرتاح من هذا البيت متى ..؟
وبعد قليل وهو مازال يكيل الشتائم
اقترب رياض على دراجته النارية
وقال بصوته الذي لا يتناسب مع جسده
النحيل وملامحه الرقيقة :
ـ مساء الخير ..لديك سيجارة
..
وبعد أن أوقف دراجته جلس إلى جواره
وفتح كفه حيث ظهرت جروح عدّة وقال:
ـ اليوم( ركّبنا) خيمة قصبية عند
النبع للسهر..انظر لقد (شوّه يدي) القصب ..وصمت محاولا انتزاع شذرة من يده
.. وقال سهيل :
ـ لقد جاءت عائلة جديدة إلى الحارة
..
ثم علّق بسخرية وهو ينفث سحابة من
الدخان :
ـ ( قليل عقل ) وهل يأتي
ليعيش هنا في كومة الأقذار هذه سوى (قليل العقل
)..
قال رياض بعينين شاردتين
:
ـ يبدو لي أن المشروع سينجح ؟
ـ أي مشروع ؟
ـ نويت أن افتح محلاٍّ لألعاب
الكمبيوتر ..السكان يزدادون هنا .. وخيم عليهما الصمت برهة .. ثم نهض رياض
بعد قليل وانطلق على دراجته وراقبه سهيل حتّى غاب
.
كانت حركة النسيم قد هدأت وحلّت
محلّها رطوبة دافئة..وتحوّل المنظر إلى لوحة صيفية ينيرها القمر البهي بلون
فضّي ..وانعكست أنوار السفن البعيدة في البحر العاتم كأنها سماء أخرى وسمع
بوق أحد السفن يعلن عن موعد الرحيل . وعاينت رئتيه روائح الصيف . بعد برهة
من الزمن توقفت حافلة أمام محل أبا حامد ونزل منها مع رجل آخر تناولا كيساً
من الدكان بسرعة وانطلقت الحافلة
..
ـ ماذا يفعل في الدكان في مثل هذه
الساعة ؟ ولماذا تظاهر بأنه لا يراني لابد أنه يسهر مع ( شلّة ما ) وقد نفذ
المشروب ..
وتنفسّت الوحدة عميقاً في داخله .
الكل لديه ما يفعله والعزلة تتشبّث به , ربما شعوره بأنه مهمّش لا رابط له
مع من حوله سوى شتات ذكريات نضبت هو ما يدفعه لاختلاق أحاديث وأمور وكان
هذا سبيله الوحيد للعودة إلى حياته السابقة برأيه
.
نهض رامياً عقب السيجارة و في طريق
عودته إلى البيت رمق النافذة الجديدة بنظرة أخرى كانت الأنوار مطفأة
..
ـ أين كنت لقد ( قليت لك بيضاً)
للعشاء لا تؤاخذني لقد كنت متعبة اليوم برضائي عليك كل قبل أن تنام ..قالت
له والدته في الفناء وقد أطلت من الغرفة..
توقفّ قليلاً ثم تجاوزها كعادته دون
أيّ تعليق ومشى وهي تنادي في أثره بصوت خفيض ..حتى دخل وأغلق الباب خلفه
..وتمتم بغصّة :
ـ (قليت لك بيضاً) عندما
أحتاجك تكونين متعبة ..اذهبوا عني
..
تناول
حبّة مسكن آلام لتهدأ وجع أسنانه على معدة خاوية ..وتمدد على جنبه في
السرير ..وبعد قليل جاء صوت والده
:
ـ أصبحنا و أصبح الملك لله العلي
القدير .
تماماً في مثل هذا الوقت تتراخى
أوصاله ويخضع لسلطان النوم وهذه العبارة التي يقولها والده تلوح كإشارة
كأنها مواعيد وقتية كرنين منبه يعلمه بالوقت وهذه العبارة تعلمه بأن الليل
قد مضى دون نوم !..وأنيرت الغرفة بالضوء الصباحي..واستغرق في النوم
بالتدريج ..وكأنه الآن يستلقي تحت جذع شجرة كبيرة وارفة , وعلى مدّ النظر
يمتد مرج أخضر يحيط بكل الجهات دون أي مرتفع أو هضبة حتى يتصل بالأفق
..هدوء لطيف يلف المكان ولامس بيده العشب الأخضر الذي كان طحلبياًّ زلقاً
.. ولاح له شخص قادم من بعيد يتناهى صوت وطئ أقدامه على العشب بوضوح
لكن ملامحه غامضة فلم يستطع معرفته
...
واستيقظ في منتصف النهار على صوت
المنشرة الرهيبة .
الفصل الثاني
فتح الشباك عقب استيقاظه فوقع نظره
مباشرة على النافذة المقابلة فاسترجع لحظة البارحة غير المتوقعة عندما
التقت نظراتهما هو والفتاة
..
كان النهار صيفياً مشمساً وعبقت في
الجو روائح الأرض نتيجة الرطوبة التي أخذت الشمس بتحويلها إلى بخار وظهر في
الفناء حبلان متقاطعان . علّقت عليهما ملابس مختلفة الألوان نشَرت رائحة
مسحوق تنظيف منعشة وأخذت تسيل منها نقاط من الماء على الأرض الترابية
.
بعد أن شرب المتّة على معدة خاوية
ودخن بضع سجائر خرج في مشواره اليومي إلى أسعد ومن ثم لشراء ورقة يا
نصيب , أثناء مجاوزته الفناء لاحظ أن الفتاة نفسها تقف على سطح المنزل مع
شقيقاتها , كانت تبدو ممتلئة الجسم بشعر أسود مسدل على كتفيها وحركاتها
صاخبة عشوائية.. رمقته بنظرة سريعة قطعت خلالها ضحكها الطفولي مع شقيقاتها
فشعر بخجل شديد ومرّ بسرعة, ومرّة أخرى حين رد نظره إليها كانت تنظر إليه
.
كانت المنازل و الألوان متألقة
بالصيف القادم حيث بدا الناس أكثر بريقاً وظهر لون البحر الأزرق
الفيروزي بلونه الحقيقي بعد أن أنحلته السماء الشتوية الرمادية لوناً
باهتاً ..
وفي
طريقه كالعادة أخذ يرسم مشاريع هوائية لحياته : بعد أن تربح ورقة اليانصيب
وإذا لم تربح .. أعمال ومشاريع تذيبها الدقائق وتمسحها أو تتلاشى عند رؤية
منظر ملفت يأخذه لينسيه ما لمشروع الذي كان يفكّر به منذ قليل
.
أسعد
يصفر مع أحد الأغاني اليونانية المنبعثة من الراديو وهو يعد البيض
والبندورة الذي ملئت رائحته غرفته الصغيرة كأن مزاجه متأثر بالطقس الرائع
..وقال لدى رؤيته :
ـ حماتك تحبّك ...وجلسا للأكل سويةً
..
وبدأ سهيل بالسرد
:
ـ آخ ..يوميّاً (لا أنام حتى السابعة
صباحاً ) البارحة بنينا على الشاطئ خيمة قصبية للسهر فالصيف جاء
(وسكرنا هناك) حتى الصباح , كدنا نشرب كل ما في دكان أبو حامد من مشروب لقد
رجع مرتين فتح المحل وأحضر عرقاً.. وهكذا
..
ـ نعم الصيف أتى ..لكن لا أعرف من
أين تظهر هذه الأوساخ على الشاطئ ! انظر عليك أن ترى المنظر في الصباح ..
كل أوساخ السفن تصب عندنا هنا ..( والحق تنظيفاً ) علّق اسعد بتراخٍ
.. بعد الطعام استعدّ للمغادرة
.
ـ أنا مضطرّ للذهاب إلى المدينة
لإحضار ( حنفيات جديدة ) و سأغيب ساعة ربما ..أبق هنا وانتبه للكشك
..
ـ أكيد
..
وبقي وحيداً يشرب المتّة وقد تسلل
إليه انتعاش وارتياح مفاجئ
..
ـ كم أنا مرتاح هكذا بعيداً عن ألم
الرأس والهم , لا صوت تلك الكهينة وزوجها..ولا أبو ميخائيل و منشرته . و في
مجمل خواطره , مرّت تلك الفتاة والاضطراب الذي ساوره من التقاء النظرات
المفاجئ ثم انقلب إلى استهجان واستنكار , واستعاد نظرتها له وهو
يتجاوز الفناء وهجس بكونها تستغرب شكله , فكان ذلك كدراً بدد القليل
من سكينته و انتعاشه وهو جالس يشرب المتّة ناظراً إلى البحر الفيروزي
والسفن ذات الألوان الصدئة ترسو بعيداً
..
لدى عودة أسعد رافقه في جولته لتفقّد
(الحنفيّات) في الشاليهات ..ثم اشترى ورقة يا نصيب من بائع عجوز بنظارات
سميكة كان شبه نائم في فيء شجرة عند كراج الحافلات , باحثاً بصبر ليبتعد عن
الأوراق التي تحمل الأرقام المشابهة لتاريخ الحادث ..وقفل عائداً بمزاج سيء
للغاية إلى الحارة مع جنوح الشمس نحو مغيبها حيث كل شيء يسير على ما عليه
هناك أبو حامد مع أصحابه , وأبو ميخائيل يغلق المنشرة وكان الجميع بالإضافة
إلى رجاء وزوجها يشربون القهوة في الفناء إلى جوار نبتات الجوري والحبق
المزروع في ( الأصايص) و علب السمنة الفارغة , سلّم على شقيقته وزوجها فقط
في مروره السريع وبحركة لا شعوريّة ألقى نظرة سريعة قبل دخوله الغرفة على
نافذة المنزل الجديد .. تناول ورقة اليانصيب ووضعها أمامه على الطاولة
وحدّق بأرقامها كأنه يلتمس خلاصه فيها ثم دون أرقامها في دفتره ذو الأوراق
الصفراء على سبيل استجداء الحظ الجيد . قرعت رجاء الباب ودخلت حاملةً صحن
(كبّة مشوية ) :
ـ كنت انتظرك لنتغدّى سويّة ..أين
كنت ..ووضعت الصحن على الطاولة
.
ـ كنت أساعد صديقي في ( عمل صغير )
..أجاب من وضعيته تلك .
ـ هذه حصتنا ..احتفظت لك بها أمّي
قالت أنها ألذ كبّة أكلتها في حياتها ..الحمد الله أنها (لحّقتك) بهذا
الصحن لقد كدنا ( نخلص عليها ) وضحكت .. تناول سهيل واحدة ..بينما أخذت
تصلح سريره المبعثر ..وانتبه إلى يديها الصغيرتين المتعبتين الخشنتين
وهي تطوي اللحاف ..
ـ أريد أن أحدّثك بأمر لكن لا تغضب
أرجوك ..
ونظر إليها وهو يلوك اللقمة مستفسراً
..
ـ سهيل (أمعقول أنّك لا تسلّم
على والديك ) وقالت إذ لاحظت ردّة فعل في وجهه مستدركةً : لقد وعدتني
ألاّ تغضب ..
فقال غاضباً وقد ابتلع محتويات فمه
دفعة واحدة :
ـ ( الله يخليّكي لا تجلبي سيرتهم
هنا ) ..
ـ ولماذا؟ ( أمّك ) افتقدتك على
الغداء وبكت والله العظيم من معاملتك لها, قالت إنّك..
انتفض واقفاً وقال وفتات الطعام
يتطاير من فمه :
ـ البارحة لو أنّك رأيت فقط كيف وضعت
الطعام لي ..لو أنني دجاجة من دجاجاتها ربما ..لوضعته لي بشكل أفضل قال
متعمداً رفع صوته كي يصل إلى والدته
..
ـ أمّك كبرت ..ولا
..
وقاطعها مهدداً
:
ـ والله إذا استمر الحديث بهذا
الموضوع سأخرج ..
انتهى الكلام . خرجت شقيقته بدون أمل
في المصالحة ..بينما اسند رأسه على كفه ناظراً إلى صحن الكبّة ثم
أشعل سيجارة و أصاخ السمع إلى شظايا كلماتهم في الخارج وتأفف بحنق
شديد ثم تمشى في الغرفة مفكّراً وحنجرته تفور باللعنات: هل أكون أنا
المذنب ؟ لماذا لا يعتذر هو وزوجته منّي ؟ لا يستطيع فهو جبان , لقد سبتّه
وسّبت عائلته وعندما نَبهته اتهمني أنني أتجسس عليه ورفع يده المكسورة علي
. ( مثل بعضه عني لا أريدهم كلهم ) . ارتفعت حرارة الجو في الغرفة وتعرّق
جسده من الغضب وهو يتذكّر تفاصيل المشكلة
..
لماذا يرفع يده عليّ ؟ في حياته لم
يفعلها من أجل أحد وتوجهت عيناه نحو التاريخ المشؤوم , لماذا تغير كل شيء
بعد الحادث ؟ . وانتابته خواطر شتى متناقضة شفقة وحسرة على نفسه و رغبة
عارمة بالانتقام..فخلع قميصه , وراح يقطع الغرفة ذهاباً وإيّاباً من عينيه
يطل الغيظ كذئب وقع في الأسر , تناول القلم وكتب على الدفتر
كرد على مبادرة أمّه : عندما كنت بحاجة إليك ضربتني برجليك و
أراد أن يكتب شيئاً عن أخيه بيد أن أفكاره لم تسعفه .. ثم قرر الخروج
متجاهلاً إياهم وكان منظره وهو يعبر من أمام أهله هكذا كأنه غريب عنهم
..
عندما وافى زاوية الشارع , انعطف
بعكس اتجاه بقالية أبا حامد ومشى .. وبعد أمتار قابل سيارة شحن صغيرة تنقل
صناديق من البندورة سأله صاحبها عن الطريق إلى مركز المدينة . فدلّه وساعده
المشي والتدخين على تحسين مزاجه قليلاً فقد تعوّد على ابتلاع غيظه ويأسه
بنفسه . وأخيرا قادته قدماه إلى أبي حامد
..
ـ أهلاً معلم سهيل صاح أبو
حامد .. وطاقيّة الصيادين البيضاء تغطّي حاجبيه
.
ـ كيف العمل
..
ـ جيّد ..أجاب سهيل هازّاً رأسه و
أردف :
ـ كيف كانت السهرة البارحة ؟
نظر إليه أبو حامد مستغرباً
:
ـ أيّة سهرة ؟
ـ لقد رأيتك ترجع إلى المحل البارحة
( في وجه الصبح ) .
واضطرب أبو حامد قليلاً ثم أجاب
:
ـ نعم كنت بحاجة لبعض المواد فرجعت ...ماذا ستشرب ؟
ـ لا شيء ..أجاب وقد تغير مزاجه فجأة
..لقد (تغديت ) عند الرجل الذي أعمل عنده وشربت ويسكي ..( وبعد قليل ذاهب
لأسكر ) ..
وانضم إلى الموجودين . ثمّة امرأة متزينة بشكل منفر
و مبالغ فيه تنظر إليه بفضول..فتساءل لماذا يحظى هذه الفترة بكل هذه
النظرات الغريبة ورمى بالحكم وهو يدخن بأسى إلى الحالة الرثة التي وصل
إليها من جراء التدخين المستمر وعدم النوم في الليل حتى غدا ملفتاً للنظر
هكذا وتأكدت مخاوفه ووساوسه.. انخرط الجمع بأحاديث مختلفة شارك فيها
مبتدعاً أحداثاً وروايات أسكتت الجميع وسببت لهم الملل حتىّ أخذوا
بالانسحاب التدريجي , ثم
غادر بدوره..ودعاه أبو أمجد من شرفة
منزله ليشرب الشاي ويدخن النرجيلة معه وهناك تحدّثا طويلاً وهم( يقرطون
)الفستق المحمص , خلال ذلك كانت أم أمجد لا تتوقف عن كيل الانتقادات
لذوق زوجها في اختياره لهذا الحي حيث الضجيج والفوضى للسكن وأيّدها سهيل في
كون الحي كذلك ..
قال سهيل
:
ـ كيف أخطأت و أتيت إلى هذه الحارة
..العيش فيها مستحيل ..
وعلّقت أم أمجد
:
ـ أي والله يسلم فمك يا سهيل لقد قلت
له هذا ..لكنه لا يقتنع ( يقول أن عنده الجلوس على الشرفة ومراقبة البحر
تساوي العالم كلّه )
..
وهزّ أبو أمجد رأسه بالإيجاب
..
ـ وصوت المنشرة وأوساخ أبو صقر..سأل
سهيل ..
ـ الآن كل شيء هادئ ..دعوا الناس
تعمل ..
ـ كفى أكلاً للفستق بالله عليك ..إنه
يأكل على الرغم من أن الأطباء منعوه . وفي الليل يضع يده على بطنه ويتلوّى
من آلام ( الكولون ) .. ثم تفرد كعادته بالثرثرة حتى المساء
وخلال الحديث كان يلقي نظرات على
المنزل الجديد الذي كان يظهر إضافة على منزله من على شرفة أبي أمجد..ثم
وبضغط من القلق نهض وغادر ..
برزت النجوم في السماء السوداء وهذا
إيذان ببدأ معركته الشعواء مع القلق .. دخل غرفته وأدار التلفزيون
دون أن ينظر إلى ما تعرضه الشاشة ..سيجارة أخرى..وهبط الصداع كتفكير متواتر
ليحيق برأسه ثم تمدد على السرير . لفتت انتباهه البعوضات الأولى التي
استدعاها الصيف ومرّت من أمام عينيه تطير بخفّة حاول التقطها بيده فاختفت
في مكان ما من فضاء الغرفة الذي عشش فيه الدخان ..وفكّر
:
ـ هل ستربح ورقة اليانصيب هذا الأسبوع فتكون هذه آخر
فترة فقر يعيشها ؟
ثم خطر له خاطر شاذ مفاده أن شيءً ما
قد تغير فيه أو تبدّل وتقلّب على جمر هذا الخاطر المزعج فجلس واخذ
يمرر يده على رأسه المحطّم وشعره الخشن وحاجبيه الكثيّن ثم وقف وراح يلتمس
كل أعضاء جسده وانتابه رعب من وقت قد يأتي فينمو له عظم بطريقة عكسية أو
تغور إحدى عينيه أو خصيتيه . مضت دقائق ..وساعات وهو على هذا المنوال
تفكيره يستفرغ أموراً وهواجس شتّى , في هذه الأثناء تناهت إلى سمعه حركة
أوقفت
تواتر خواطره واسترق نظرة إلى الشباك
فلم ير شيئا . الفتاة ذاتها كانت مع إحدى شقيقاتها قد جلستا للتو على السطح
هرباً من الحرّ في المنزل ..وإذ رآهن ارتاب في سبب جلوسهن هنا وسرعان ما
تناهت إلى مسمعيه أصوات همسات وضحك استفزّته ووثّقت لديه فكرة أنه فعلاً
محل سخريتها فتقدّم غاضباً من نافذته ليغلقها وشعر إذاك بنظرتها نحوه
بالرغم من العتمة . فصفق الشباك بعنف وجلس على طرف السرير و في هذه الدقائق
و لسبب غريب تسللت إلى أوصاله طاقة شحنتها بنشاط شديد . كان يصل إليه ضحك
الفتاتين بشكل مستمر من خلال صوت التلفزيون ثم وافاه أيضاً وهو على حاله
تلك صوت رياض ينادي عليه من الخارج
..
ـ مساء الخير , ماذا تفعل ؟
ـ لا شيء..
قال وهو ينظر إلى الفتاتين
:
ـ اركب وراءي لندشن الخيمة (فالشباب
) مجتمعون هناك .. هات سيجارة أولاً
..
صعد وراء رياض وأحاط بذراعيه خصر الشاب النحيل
..واستمتع بالهواء الدافئ يلفح وجهه وموضوع الفتاة ذات النظرة الرهيبة يفرض
نفسه بين فينة وأخرى على تفكيره
..وسأل
رياضاً :
ـ رياض . (إذا رأيت فتاة
تنظر إليك باستمرار .. ماذا تفعل ؟)
ـ من هي هذه الفتاة ؟ جارتك الجديدة
..
ـ لا ..أنا أسألك فقط
..
ـ انظر إليها لأعرف ماذا تريد
.. أجاب رياض بصوت مرتفع والهواء يصفع وجهه
..
في الخيمة رحب به الجميع لأنهم عرفوا
أن الكثير من القصص المتعة ستروى كانوا مجموعة من أعمار مختلفة يجمعهم
الفراغ في هذه اللحظات حيث مشاكلهم مشتركة يوحدهم الليل والوقت بعد أن
تمزّقهم بطالة النهار.. وخلال دقائق بدأ الشواء وفاحت رائحته في الجو
وانتصبت كؤوس العرق ذات اللون الأبيض ورائحة اليانسون ..وغنى أحدهم على
العود ..ثم اصطفّوا للدبكة
..
مع بزوغ الفجر رجع إلى البيت في حالة
طرب وسكر .. وغالبه ألم الأسنان , فالتمس قرص دواء يهدأ من آلامه ثم استلقى
على السرير وتسرب شعاع الشمس إذ أنار الصبح الغرفة لينعكس على الحائط
وتسرّب معه أمل خفي بتلك النظرة من النافذة المقابلة . تقّلب قليلاً في
سريره وغاب في نوم هادئ ولوهلة رأى في نومه أنها تنظر إليه من خلال
النافذة فنهض مضطرباً ليعدّل نومه وقد داهمه عطش شديد.. كان قد نام
ثلاث ساعات و مازالت الساعة الثامنة فعاد إلى وضعه السابق وهو كالعادة
يفكر بالأمور الجديدة التي طرأت فالبارحة لم يسمع إعلان والده
الصباحي اليومي عند نهوضه لصلاة الفجر وفكر بالزائر الجديد في أحلامه ,
لابد أن يكون هناك معنى لهذا ! وبينما هو على تقّلبه ذاك وقد مضت فترة
وجيزة قُرع باب غرفته..كان يقف على الباب أحمد صديق شقيقه عباس وهو تاجر
أدوات منزلية بالجملة يملك محلاً في وسط المدينة
..
ـ أما زالت نائماً حتى الآن ..حسناً
سأدخل بكافة الأحوال لأشرب فنجاناً من القهوة عندك ... قال أحمد مبتدأً
الكلام ..
غسل وجهه وسرّح شعره الكث وأدرك أنه
بحاجة لحلاقة ..ووقف قليلا في الفناء معايناً هذا الوقت من الصباح الذي لم
يراه ربما منذ أشهر ثم دلف إلى المطبخ مفرّقاً شمل الدجاجات اللواتي تجمعن
أمام المطبخ لنقر حبات البرغل الرطب الذي رشّته الأم منذ الصباح الباكر..
ليعد فنجانين من القهوة فصادف زوجة شقيقه تقف أمام الغاز وهي تضيف السكر
للقهوة التي فاحت رائحتها في جوّ المطبخ ..فتراجع وأخذ يلتمس شيئاً آخر يعد
فيه القهوة ..وفاجأته زوجة عباس إذ قالت
:
ـ تفضّل ..لقد صببت لك فنجانين .
وأخذت الركوة معها ومضت خارجةً
..
توقف قليلاً ينظر إلى الفنجانين ثم
تركهما ومضى ..جلس أحمد على الطاولة بينما جلس سهيل قبالته على السرير ..لا
تؤاخذنا لا يوجد عندنا قهوة
..
ـ لابأس .كيف الأحوال ؟ قال
أحمد وهو يعرض سيجارة ..
ـ بخير
..
ـ والعمل ..؟
ـ أفكّر في السفر إلى اليونان مع
صديق ..
وبعد جملة من الأحاديث العادية قال
أحمد :
ـ( أريد عاملاً في محلّي ..فالعامل
الحالي سيذهب قريباً لأداء خدمة العلم ..ما رأيك أن تعمل مكانه ؟ ) ..وأضاف
متلعثماً ريثما تسافر ..
أخفض سهيل رأسه وقد اشتم ّ رائحة
والديه و أشقائه في الموضوع .. ـ لا أستطيع
!
بعد أن غادر أحمد أزاح الستائر
فاسحاً المجال للشمس بالدخول ..كانت الستائر قد أزيحت أيضاً عن النافذة
المقابلة لكن دون أن يظهر أحد وبعد قليل باشر أبو ميخائيل عمله في
المنشرة ..أدار الراديو ودوت الموسيقا في الغرفة , مر الوقت دون أن تطل من
النافذة ..فغادر إلى مشواره اليومي
..
كان النهار صيفيّاً بديعاً تتراقص
فيه نسائم بحرية رشيقة في المدينة و طرطوس مدينة مميزة لا يخفى فيها أبداً
الإرث العريق ويختلط بشكل لا تكاد تلتمس حدوده بالشكل الحديث وإحداثياته
فيها فينتج عنهما مزيج من لوحة لمدرستين فنيتين مختلفتين لكن بتدرجات لون
واحد و يطوف النسيم البحري ليذوب في سحرها, والبحر والشمس يصبغان السكان
بصبغتهما الخاصّة فكما تصعد شمس إلى صدر السماء يحفل السكان بروح خاصة
ونشاط ينعكس على أجسادهم وأعمالهم فتبرز على واجهة المحلاّت الملابس
الصيفية مكان الشتويّة والربيعيّة ..ويعرض أحد الصيادين سمكة كبيرة من نوع(
الغزال) يبلغ طولها مترين ..وتتلألأ نبتات الياسمين والكاردينيا التي تتدلى
من شرفات المنازل المبنية بالحجر الرملي أو الرخام الأصفر الإيطالي . تمشّى
بمزاج معتدلٍ كان يشعر أن رفض اقتراح أبا أحمد فيه نوع من ردّ
الاعتبار من أهله . وبشكل غير عادي أغرته بهجة المدينة لفتت اهتمامه سمكة
كبيرة فراقبها بكرم وأنعشت صدره رائحة الفلافل المقلية والخبز الطازج ,
أما تفكيره فكان يتسرب نحو الفتاة دون قصد منه , فثمة أمور كانت تضطرّه إلى
ذلك كمرور فتاة بشعر مشابه لشعرها الأسود . أو قوّة عينيها
الواسعتين اللتين صدمتاه من النظرة الأولى, وعاين للمرة الأولى إغراء
خفيف يلف قلبه ويسلّمه لفضول شديد لسبر تلك النظرة..
و توجه إلى اسعد حيث سيشاهد عنده سحب
اليانصيب على التلفزيون ...
طوال ذلك السحب القاسي الذي مرّ به(
مرور الكرام ) دون أن يربح ولو ثمن البطاقة كان يلعن حظّه ويهزّ رأسه..وبعد
وجبة عشاء مكونة من معلبات الحمص والطحينة عند أسعد ركب عائداً إلى الحارة
..وابتاع علبة سجائر من عند أبا حامد ثم اتجه إلى غرفته
..
كانت نافذة غرفته ما تزال مغلقة
ففتحها ليرى النافذة المقابلة وعاوده ذلك الشعور المحبب بالاضطراب عندما
رآها أول مرّة ..وبقي على وضعه ذلك مسدداً نظره إلى تلك الجهة بضع ثوان
..ثم انصرف إلى روتينه..إنه جالس أمام التلفزيون يراقب دون تركيز ما
تعرضه الشاشة مستنداً برأسه على كفّه يندب سوء حظه , وتناول الدفتر لشطب
رقم ورقة اليانصيب.. أزيحت الستائر قليلاً كانت الفتاة نفسها تكلّم أحداً
ما في الغرفة.. ربما شقيقتها ..ونظرت إليه وهو على وضعه ذاك فحاد بنظره إلى
التلفاز متظاهراً بمتابعته وصوت حديثها يتناهى إلى أذنيه لعوباً
تقطعه ضحكات خفيفة , وعزم على النظر إليها عملاً بوصية رياض بأن ينظر حتى
يعرف ماذا تريد ؟ كان يرفع رأسه خلال ذلك ناظراً إلى وجهها المختفي الملامح
من العتمة دون أن يرى شيئاً بوضوح ! إنها فعلاً تنظر إليه ومرّت دقائق على
هذا الحال واستمر الأمر كمناوشات حربية القصد منها سبر نوايا الآخر لكن
بدون قصد ودراسة من الطرفين .. وظن خلالها أنها ستغلق الشباك وتنصرف ..أو
أنها ستتراجع وتغيب ..لكن الأمر استمر أطول مما توقّع و أخذ ينظر
إليها بجرأة أكثر متأملاً شعرها الأسود السابل وهي تلف أطرافه بأصابعها ..
أحسّ أن كل نظرة تشي بفضول و إعجاب ثم انسحبت بسرعة دون أن تلقي نظرة
أخيرة ..وأغلقت النافذة .
لماذا ؟ تنظر إليه هكذا ؟ هناك خطب
ما ..تناول مرآته الصغيرة . ولمس شعر رأسه المبعثر وقال كيف أجلس بهذا
المنظر أمامها ؟ .لقد هزّه الوضع الجديد بعلاقة الأولى كانت من نوعها في
حياته فقبل الحادث كان شخصاً ذو شخصية فريدة منعزلة ولولا شهادة القيادة
التي حصل عليها أيام خدمته في الجيش لم يكن ليستطيع العمل في المرفأ.. وجاء
الحادث ليرديه أكثر في العزلة , هذا لم يكن على البال أبداً في وقت فات
أوانه كربيع متأخر .
انضم إلى المجموعة المتواجدة يومياً
عند أبو حامد حيث الضحك والأحاديث البذيئة ..أمضى بعض الوقت وكيانه يحتفل
بسعادة خلّفتها اللحظات الآنفة حتى أنه لم يذكر ورقة اليانصيب التي لم تربح
حتّى ثمنها ..وشارك في الضحك وإلقاء النكات والأحاديث المبتكرة التي
يعشقها أبو حامد وبقي هناك حتى ساعة متأخرة من الليل وقفل عائداً إلى
الغرفة في الوقت الذي ينام فيه الجميع لكن دون أدنى رغبة في ذلك وكأن روحه
تحتفل بشيء ما ..كان الراديو يبث أغانٍ عاطفية وهو مستلق يستحضر تفاصيل
رآها في تلك الفتاة واستفزّت رغبته في كتابة شيء ما فنهض إلى الدفتر متذكرا
شعرها الأسود ..
لا شيء ! أغلق الدفتر ورمى بالقلم
جانباً وعاد إلى استلقاءه..وتلاطمت أمواج تفكيره فعقد ذراعيه وراء رأسه
وسيجارته منتصبة في الهواء يفكّر في هذا القادم الجديد إلى حياته وانبثقت
عنه أموراً شتّى .. الوحدة والعمل الذي عرضه عليه أحمد..ثم أنساق خياله
الخصب يعوم في أحلام يقظة بديعة الفتاة طرف فيها ومع الفجر خضع بهدوء
لسلطان النوم
الفصل الثالث
كان من الممكن اعتبار أن ثمة تغييراً
قد طرأ على روتين حياته خلال الأيام التالية
وتجلى في وقته المتشابه الرتيب ,
جديداً ومتميّزاً كبقعة زيت على صفحة الماء .كان أمام تجربة جديدة سببت له
اضطراباً ورفضها كيانه فيما ما يقوم به المرء _ في البداية _ من رفض أي
تغيير يطاول عاداته ولو كان نحو الأفضل
.
استمرّت لقاءات الأعين وارتفع عددها
في اليوم , ولم يكن يدفعه هذا سوى لمزيد من الرغبة في رؤيتها والحديث معها
..ولكن كيف ومتى ! وبقي هذا السؤال يلح عليه مع كل الفوضى التي أصابت نظام
حياته دون أن يبوح به لأحد حتى حدث ما سماه بالإشارة ! فبعد أن رجع من
تجواله الليلي القلق حيث أفنى الدقائق في التفكير بها استلقى على السرير
يستمع إلى الأغاني دون أن تغيب عن ذهنه ..وكالعادة مع الفجر غفا فرأى في
منامه أنها جالسة إلى جوار النافذة في غرفته التي أصبحت تطل على فضاء رمادي
بلا نهاية . رمقته بعينين لامعتين وتحركت شفتيها بشيء مالم يفهمه أثار فيه
إغراءً شديداً دفعه للاقتراب منها ولدى لمسه إياها ارتجف جسده بالكامل
وانتفض بدفعات متتالية . اضطهدته تلك الغريزة التي كانت كامنة لديه! ..لقد
اضطهد جسده ذو الأربعين عاماً تقريباً احتلام متوحش غير متوقع من المفروض
أن يكون قد ولى زمانه .. فكانت الشيء الوحيد في محيطه الذي اثر به و أعطاه
إحساس حقيقياً بجسده أكثر من الأدوية و الآلام
..
ساءت
حالته بعد المنام ذاك . وأضحى محاصراً بالكآبة كمراهق يقع في الحب
لأول مرّة مما أضاف لقلقه وتوتره المزيد من التعقيد ومع مرور مزيدٍ من
الوقت أصبح أكثر ملازمة للغرفة ليحيط بكل تلك النظرات..وانخفض اختلاطه
بمحيطه وذلك أن الظاهرة الجديدة امتصّت أغلب وقته واهتمامه ودفعته ليعيشها
بكافة أبعادها وأفرزت أموراً أخرى.. مثلاً بات للأغاني العاطفية معنىً آخر
واتقدت عاطفته الكامنة وبرزت على شكل أشعار وخواطر دوّنها على دفتره بين
أرقام أوراق اليانصيب , كان يكتبها ثم يزينها برسوم قلوب وعصافير ويتجول في
الحي طويلا مسدداً نظره على بيتها ..أو يراقبها كيف تخرج مع شقيقتها لتتمشى
إلى جوار الطريق العام حيث يفيضان على بعضهما بتلك النظرات و أحياناً يسير
إلى البحر حيث يتوجه أهالي الحي عادة مع قدوم الصيف لشرب المتّة
وللترويح عن النفس من جرّاء حرّ الظهيرة ليراها هناك دون أن يجد الشجاعة
للإقتراب منها ..
ومضى في يوم من أواخر نيسان ليقبض
راتبه من مكان عمله السابق في المرفأ. كان متوتراً عصبياً لم يستطع البقاء
هناك لأكثر من عشر دقائق وهناك قال له موظف عجوز بشاربين كثين من معارفه
ممازحاً :
ـ أما زلت عازباً ! يجب أن تتذوق طعم
النساء قبل أن تشيخ فتذهب عليك
..
رافقت تلك العبارة سحابة يوميه وترددت في سمعه
وتفكيره وأنفاسه في كل الأماكن التي تردد إليها. عقله بكليته هائم في كيفية
الوصل وقد أضناه الشوق..وبالرغم من أن الهيام بدا عليه في صورة كآبة وصمت
طويل . إلاّ أن الموضوع بقي سرّه الشخصي الذي لا يعرف
به أحد باستثناء الفناء وشجرة
الزيتون والعجلات المهترئة التي كانت الشاهد الوحيد على هيام النظرات.. حين
رجع إلى البيت في ذلك اليوم كان قد صمم نهائيا على القيام بشيء ما
لقد آن الأوان لذلك وما لمنام ذاك إلاّ إشارة , أخيراً ارتجل من الفوضى تلك
حلاًّ ! حيث كتب على ورقة صغيرة رسالة لها يطلب منها اللقاء في مكان ما
وراح يتأملها بعناية مفكّراً في كيفيّة إيصالها . نسج إذ ذاك بروفات
عدّة وكأنه ممثل يبتكر حلولاً لشخصية : تخرج من المنزل لتتمشّى فيتبعها
وعندما يتحاذيان يلقي بالورقة. وإذا لم تلتقطها ! لماذا لا أوقفها, ألست
رجلاً !! لا أمام بيتها قد يراها أحد من أهلها إذاً على الشاطئ وبدا له
الأمر كالمهزلة .. وأفنى وقته في الليالي القلقة يفكر في الأمر والنظرات
المستمرة تلهب شجاعته لكنه يتردد من جديد . لم يعثر على الطريقة بعد
!
في إحدى المرّات وبينما هو كذلك
يتمشّى في الغرفة و يدخن بلا توقف وعيناه تسترقان نظرات إلى شباك الأماني
إذ ظهرت كالعادة لممارسة ذلك الطقس ..(طقس النظرات المتبادلة ). نظر في
عينيها مبتسماً فردت بابتسامة شفافة منحته جرأة فريدة فأمسك بالرسالة بيده
المتعرقة وأراها إياها فنظرت مستفسرةً ..وحرك شفتيه الداكنتين يريد القول
كيف سأعطيك هذا ؟ فردّت هازّةً كتفيها تقصد أنها لم تفهم شيئاً..لم تنتهي
نوبة الشجاعة تلك وبدون تفكير أشار لها بالانتظار وفتت من الخفانة التي
تستند عليه خزانته الخشبية وانتزع حصاة صغيرة ولف الرسالة بها وعاد مسرعاً
إلى الشباك حيث كانت تترقّب بفضول ماذا يريد , وألقى بها بخفة فوقعت في
غرفتها وابتعدت متجنّبةً إياها ..وغابت قليلاً في البحث عنها..ثم برزت من
جديد ألقت الحصاة الصغيرة ورفعت الرسالة له لتريه أنها وجدتها وأغلقت
النافذة .
لم يشعر كيف حصل هذا وكم من الوقت
استغرق ..وانتابه هيجان شديد مفاجئ فارتمى على السرير ودفن رأسه في
الوسادة ..
ـ ماذا سيكون الجواب !! سيطّر عليه
هذا الهاجس ..ربما لم يقدّم الرسالة بشكل لائق أو ربما لم يكتب
الكلمات المناسبة ..وسرح بين خواطر شتّى وهو يفكر ثمّة شيء غير صحيح لقد
أخطأت في أمر ما ! ولم يقدر على البقاء في الغرفة فخرج يلتمس بعض السكينة
وهو يحدّث نفسه ويهز رأسه . جلس في جولته تلك عند أبا حامدٍ دون أن يشارك
بكلمة ..ثم نهض وراح يتمشّى على طول الطريق وهو يلتهم السجائر التهاماً ,
ويراجع الكلمات كلمة كلمة وحرفاً حرفاً ..لابدّ أنها الآن ستغلق النافذة
لقد تسرّعتُ..وعاد بعد جولته إلى الغرفة كالطفل الذي يخاف العودة إلى
المنزل خوفاً من عقاب أهله ..كانت والدته تسقي المزروعات وتراقب توتره
المتزايد في الفترة الأخيرة فقالت له وهو يعبر الفناء كما لو كان طفلاً
:
ـ سهيل ..واقتربت منه ..مابك يا عيني
هل يؤلمك شيء ؟ بالله قل لي
..
ـ لاشيء ..اتركوني
..
فلحقت به وهو يسير إلى الغرفة
:
ـ الله يخليك أخبرني ما بك . يا سهيل
(توقف كلمني ! )
وقف بالرغم منه و أرسل تأففاً طويلاً
:
ـ لماذا لا تريد أن تعمل مع أبو أحمد
؟
ـ ( هيك ) ..(خلّصت كلامك ؟)
..اتركيني
وعندما انتبه إلى زوجة عباس
التي كانت تراقب الموقف من النافذة , دخل صافقا الباب بقوة تاركاً والدته
في الخارج تذوي من الحيرة والأسى والشتائم تحوم على رأس لسانه
..
كان
الحرّ شديداً في الغرفة والساعة ناهزت منتصف الليل .. تمدد على السرير يسب
ويردد في نفسه متى يتركونني (بحالي ) متذكراً يوم المشكلة مع شقيقه ووجه
زوجته وكلامها الاستفزازي وانعكس ذلك على قلقه في انتظار الردّ على
جسده ففاض بالغضب والتوتر و أسود مزاجه وهو يلوم حظّه وقدره الظالم .
دائماً في هذه الحالات يصب جام غضبه على القدر وعمره الذي لم ير فيه يوماً
سعيداً ..إذ يرد إلى تفكيره كل ماهو مزعج وما من شأنه أن يزيد في غضبه
كتفاصيل الحادث والفترة العصيبة من الآلام في المستشفى والضياع والمهندس
الذي تسبب له بإعاقة .. وقبع بحالته تلك على شفى نوبة عصبية بدأت بارتجاف
شديد في رؤوس أصابعه ..فجأة أرعبته حصاة صغيرة ملفوفة عليها ورقة سقطت في
غرفته..إنه الجواب !!
قفز
كالقرد , كانت هناك على النافذة .. وأشارت له أنها رمت الحصاة تناول
الورقة بيديه المرتجفتين وقلبه ينبض لهفة كأنه يريد القفز من بين أضلاعه
.كان مكتوباً فيها أنها غداً ستذهب إلى البحر مع شقيقاتها في الخامسة بعد
الظهر ..
وبدون تفكير رفع عينيه الفرحتين عن
الورقة وأشار برأسه الذي تحوم حوله السعادة والصدمة بالموافقة . لم يصدق أن
الأمر حدث بهذه السرعة.. تمشّى في الغرفة ورجلاه تذرعان المكان على نحو
احتفالي راقص ورفع صوت الراديو . هل ما حصل حقيقة..؟! إنه حقيقة
وعليه الآن الاستعداد . ولى تأزمه العصبي ليحل محله هيجان وتساؤل !
..كيف سيقضي هذا الوقت الآن حتى ما بعد ظهر الغد ؟ ما اشد مرارة الانتظار..
ماذا عليه ارتداءه في الغد ؟ نبش خزانته بحث عن بنطال وقميص يناسبان بعضهما
فوجد بنطالاً بلون سكريّ فاتح وقميص بلون أزرق غامق تفوح مهما رائحة عفن
مرعبة . يجب غسلهما ! لا بأس ثمّة وقت . رمى بهما في طشته الصغير حيث يغسل
ملابسه عادة..وكونه اعتاد على ارتداء البيجامة أغلب الوقت لابد له الآن من
استعارة المكواة من شقيقه..وأخيرا قرر وهو يجلس إلى الطشت لينظف الملابس
سأكويها في الغد عند رجاء , ولم تجرؤ والدته على عرض مساعدتها في غسيل
الملابس خوفاً من إغضابه.. وهكذا مضى الوقت ثقيلا بطيئاً فلم يظهر رياض
لاصطحابه إلى السهرة ..وتنقّل بين السطح والشارع والغرفة يفكّر في الغد وما
ينطوي عليه من مفاجآت . جسده يحفل بنشاط وفوضى و تلفه رعشة عندما يتذكّر
اللحظات الماضية بتفاصيلها التي مرّت بشكل سريع خاطف
..
في الصباح وكان قد رقد هينة قصيرة
اصطحب ملابسه..استعار عطراً من أسعد , وقامت شقيقته بكي ملابسه ولم يجب عن
استفساراتها الملحة عن سبب هبوط هذه الأناقة عليه بشكل مفاجئ ..وعاد بعد
الظهر عندما اقتربت الساعة من الخامسة إلى الحي حيث التهم جسده القلق
والرهبة من الدقائق القادمة وجف ريقه واصطبغ وجهه ذو البشرة الداكنة ببعض
الحمرة ..
الساعة الخامسة إلاّ خمس دقائق .كان
قد ارتدى ملابسه وبخ من العطر الرخيص الذي استعاره من أسعد حتى ابتل قميصه
. تمشّى قليلاً على الطريق العام ناظراً إلى بابها ثم وقف يدخن على زاوية
الشارع وهو بكامل أناقته , لقد جاوزت الخامسة ولم يظهر أحد
..
فمشى نحو البحر وقد أخذت تتقاذفه الظنون ..
قطع التلال الرملية.. خطوات شاردة محفوفة باليأس وتراءى البحر أزرق هادئاً
تنعكس الشمس على صفحته راسمةً درباً يتصل بالأفق و على الشاطئ توزّعت
مجموعات منفصلة من الزوار ومجموعة من الصبية يلعبون
بالكرة وأصوات ممزوجة بصوت الأمواج
..بحث بعينيه عنها , كانت وشقيقتها تسيران على طرف الأمواج حافيتين وتضحكان
دون توقّف . فتقدمن نحوهن يحدوه الاضطراب والخجل..لدى وصوله توقف لعبهن
الصاخب . وقفت أمامه ووجهها الممتلئ يفيض بحمرة خفيفة بينما راحت خصلات
شعرها الشديد السواد يتلاعب بها الهواء البحري ليغطي جبهتها وعينيها وهي
تبعده بحركة خجولة وعاين عن قرب ملامحها كانت عيناها كبيرتين ذات لمعان
هادئ وجسدها ممتلئ قريب إلى البدانة و اتخذا في سيرهما خط الشاطئ حيث تلقي
الأمواج بنفسها على الرمل الحار لتتلاشى وتعود من حيث أتت . أول سؤال وجهته
له :
ـ( لماذا تفتح الراديو دائماً
؟)
أجاب
:
ـ لأني أحب الموسيقا
.
ثم وجهت له فيضاً من الأسئلة ..كانت
تسأله عن كل شيء بفضول وتنظر إليه وهو يروي بلا حدود ولا ضوابط كل ما يخطر
على باله , أقاصيص مضحكة وأخرى مأساوية.. تتأثر وتضحك بدلال متأبطةً ذراع
شقيقتها.. ( ولم يتطرق إلى موضوع الحادث بالرغم من أسئلتها له عن آثار
الجروح في وجهه ) سألها وهو يتذكر الكورنيش
:
ـ أيعجبك الكورنيش ..هل ترغبين يوماً
ما في ( التمشاية هناك ) ..
أجابت وهي لا تتوقف عن حركاتها
الصاخبة واطئة الأمواج
:
ـ نعم أريد
..
واستمروا على هذا الحال حتى بدأ ضوء
النهار بالرحيل ..ثم انصرفت إلى البيت بعد أن قطعت له وعداً باللقاء من
جديد .
رجع إلى البيت طائراً قدماه لا
تلامسان الأرض والكون يضحك من حوله..لا يصدق ما حصل وكيف , كانت انطباعاته
عنها تفيض إعجاباً وسروراً من كل ما بدر منها , حركاتها العشوائية الصاخبة
, تألمّها عندما تطأ على حصاة حادة أو عندما تلتقط صدفة مخروطية وتضعها على
أذنها . ارتمى على سريره فرحاً بهذا التوتر المحبب وعقله يسترجع كل دقيقة
قضاها في هذا اللقاء ليتقمصها والانفعالات تعصف به , يبتسم حين يتذكر
ابتسامتها ويتأثر لتأثرها .وأمضى وقتاً يتقلّب دون أيّة رغبة بالأكل أو
النوم كان كالمخمور يريد فقط الغوص في تلك الانطباعات والبهجة المنبعثة
منها ..
في
الليل هبت ريح قوية أعادت بعض البرودة إلى الجو .. بعثرت أوراق الدفتر بعنف
فأغلق النافذة و أغراه الجو بالخروج إلى الفناء كان الهواء عاصفاً يهزّ
المزروعات بشدّة كأنه يريد انتزاعها ويلف الملابس على حبل الغسيل وقد تساقط
بعضها على الأرض ..كانت المحلاّت مغلقة ومصابيح السيارات تضيئه وهي تعبر
الطريق ..رفع نظره إلى السماء كانت صافية وثمّة غيوم قليلة مبعثرة ترحل
مسرعةً مع الريح لتغطي الهلال القمري والنجوم حوله وتتجاوزه كأنها أمواج
بحر صافٍ يبدو من تحتها الشعاب المرجاني . أعاد له وقوفه هنا ذكريات ليست
بالبعيدة فنزل به قنوط غريب وقد تذكر تجواله الذي لم يمارسه منذ أيّام
بذات الدافع القديم . أعادت له الريح التي تلطم وجهه وتبعثر شعره
شعوره بالبعد وتحوّل مجرى دخان السيجارة ليدخل في عينيه مسبباً له حرقة
مزعجة..نظر باتجاه المنزل وصوت قرع علب المشروبات الغازيّة المعلّقة على
العمود يدق برتم ثابت كأجراس توحي برحيل وفراغ . شعر بخوف مفاجئ لم يعرف
سببه وتناهى إليه من الوراء صوت محرّك فالتف مرعوباً كانت
درّاجة تقترب منه..كان ذلك رياضاً يقترب على دراجته من بين البيوت وقد لف
على رأسه عقالاً وصاح عندما اقترب
ـ معلم سهيل ..مرحبا معك سيجارة
أمعن فيه سهيل قليلاً بطريقة أثارت
دهشة رياض , وأعطاه سيجارة ثم زج أخرى بين شفتيه
:
ـ عزمنا على السهر اليوم ..لكن انظر
الهواء ( يطير الزلمي ) ! ربما غداً يتحسن الجو قليلاً
وساد صمت كان على خلفية صوت صفير
الريح وقرقعة علب المشروبات الغازية ..وقال رياض بعد أن راقب تلك العلب وهي
تتراقص على العمود ..
ـ هذا الرجل أقذر من( جربوع )
..أعتقد أنه (يهرّب ..ويشغّل نساءً
)..
ـ أي رجل ؟
ـ أبو حامد
.
وعاد الصمت ..بعد قليل أدار رياض
الدرّاجة وودّعه منطلقاً ..
دخل الغرفة أنار الضوء واستلقى على
السرير . واستمر حتّى تناهى إلى أذنيه من بين ضجّة الريح والموسيقا صوت
والده : أصبحنا و أصبح الملك لله العلّي القدير
.
وعادت ذكريات اللقاء الرائع اليوم
لتمدّه بلهفة دافقة استولت عليه كما أخذ الفجر يبتلع الليل بالتدريج
..واستسلم أخيراً للرقاد ..
عندما استيقظ بعد الظهر كان كل شيء
في مجراه الطبيعي بيد أن الحر خيم على الغرفة لإغلاقه النافذة
.
كانت
النافذة المقابلة مفتوحة..غسل وجهه وسرّح شعره بدقّة واصطحب فنجان قهوة إلى
غرفته و بعد قليل ظهرت و لوحت له بيدها .. وغابت
.
عندما وصل لعند أسعد لم يكن هذا
الأخير في مقرّه المعتاد ..فجلس يشرب المتّة ويراقب البحر الأزرق والسفن
الغافية بعيداً إلى جوار المرفأ ..وصورة حبيبته الصغيرة تلوح له رائعة
كصفحة البحر محفوفة بالأمل ..رجع أسعد حاملاً أدوات تصليح والتعب بادٍ عليه
وقال :
ـ في البارحة خلّعت الريح نصف
النوافذ ..سأتصل بالمدير و أخبره أن الشاليهات بالكامل بحاجة لتغيير
..
عندما مالت الشمس نحو المغيب ترك
أسعداً ومضى إلى المدينة ليتمشّى قليلاً .. راح في نشوة مع صورة فاتن
وضحكتها وشعرها الأسود الداكن الذي يمدّه بإعجاب ورغبة عارمة في لمسه
وتوسيده . وانتحى طريق الكورنيش ماشياً بمحاذاة الرصيف البحري حيث
طرطوس القديمة بأحجارها الرملية الصفراء ترتفع مقابل البحر كما كانت منذ
آلاف السنين والأمواج تصطدم بالصخور المدببة فتعانقها بقوة ثم ترتد وتعيد
الكرّة مرّة أخرى , فتيات بملابس بألوان صيفية مشرقة يتمشين , وبائعي
الفستق المحمص على الرمل البحري يحدّقون بالمارّة بنظرة حيادية كأنها تحيل
هذا الجمع إلى اللامبالاة وبائعي تحف مصنوعة من الصدف منشغلين بالتدخين
والثرثرة .. تمنّى لو أنها معاً يده تحتضن يدها والهواء البحري يرافقهما
وهما يتناولان الفستق والترمس أو حلوى ( التلاّج ) ذات الرقائق الغارقة في
القطر
في الحارة الأمور على حالها ..جوقة
أبو حامد الصاخبة ..أبو أمجد يدخن النرجيلة على شرفة منزله كأنه أسعد رجل
في العالم .. أدار الراديو كي تعرف أنّه في المنزل وقرأ ما كتبه أخيراً ثم
أشعل سيجارة ..بعد قليل لوحت له من النافذة .. ثم دخل ليأخذ حماماً وقد
تعرّق جسده بشدة من جراء الحركة في الغرفة والحماس وهو في مزاج رائع
..
سمع صوت رياض من الحمام يسأل والدته
:
ـ أين( المعلم )سهيل
..
ـ إنّه يستحم ..تفضّل
..
وناداه سهيل من الحمّام
:
ـ انتظر..( أنا خارج
) .
خرج مبتل الشعر .. وارتدى بيجامته .
ألقى نظرة أخيرة على النافذة ..وقفز وراء رياض على الدراجة وانطلقا للسهر
..فقالت والدته في أثره :
ـ ( سهيل ..ضع شيئاً ما على
رأسك فقد يسفقك الهواء )
فأجاب لأول مرّة ربما منذ سنتين
بنبرة عاديّة :
ـ لا تخافي
..
شهدت الخيمة القصبية احتفالاً صاخباً
وتم شرب العرق البلدي وتبادل النكات والغناء وراح سهيل يثرثر و يروي قصص
مختلفة وهم يضحكون ويوجهون له عبارات كالتي يوجهونها لبعضهم دون أن يسبب له
أي إزعاج.. ثم تعرّوا ومضوا للسباحة في البحر العاتم على ضوء القمر وارتفع
صراخهم منادين بعبارات مثل احذر سيبتلعك (فرخ سمك).. وصاح آخر لقد أمسكت
سمكة هنا ..قال سهيل ضاحكاً هذا قضيبك .. فقد شعر بنفسه واحد منهم في مثل
عمرهم وذلك الصخب والنشاط والحرارة أكثر ما يعبّر عنه في
هذه المرحلة ..وبينما هم متمددون على
الشاطئ يرتاحون من السباحة والركض قال رياض
:
ـ هل رأيتم بنات أبو قصي القادم الجديد إلى الحي
؟
علق أحدهم
:
ـ إنهن ( رهيبات ) لا ينبغي تركهن
هكذا ..
ارتفع الدم إلى رأس سهيل وهو يصغي
إلى التعليقات وعبارات الإعجاب وتسرّب الهم إلى صدره إذ شعر بغيرة مفاجئة
لم يكن يحسب لها حساباً على الإطلاق ..ورجع إلى البيت مصحوباً بهذا الإحساس
الجديد كان مرّاً وثقيل الوطأة تماماً كأثر العرق على رأسه .. النوم يبتعد
عن خلده وبقي يتقلّب مقلّباً الموضوع معه بين مدّ وجذر كيف يمكن له معرفة
مشاعرها نحوه ؟ لابد من ضمانة ودليل وتبدلت مشاعره نحو رياض والشبان
الآخرين إلى كره وتنافس ..يجب أن يحصل عليها بأي وسيلة ..الزواج الخطبة هذا
هو الحل ّ لقد آن الأوان . وجاء صوت والده
:
ـ أصبحنا وأصبح الملك لله العلي
القدير ..
النوم مستحيل مع كل هذا القلق
..مازال الوقت فجراً وعليه الانتظار ليحصل على دليل إنه يخاف أن تسلب
منه . وازداد الدوار والثقل في رأسه من جرّاء التفكير ومرّت اللحظات ببطء
على صوت صلاة ودعاء والده و أزيز صراصير في الفناء وبضع بعوضات أخذت تتلذذ
بالدوران حول أذنيه ..
لابد من الخطبة إنه السبيل الوحيد
..هكذا ختم أفكاره وهو يخضع لغفوات متفرّقة كانت آخرها عندما أيقظته منشرة
أبو ميخائيل ..
استيقظ في حال سيء يعاني من ألم في
معدته كأن بركاناً يفور في داخلها , منقبض الصدر والهم يأكل فؤاده ..كانت
زوجة عبّاس تنشر ملابس في الفناء ..ووالدته تشرب القهوة مع أم أمجد ..بحث
في المطبخ عن بعض اللبن ليخفف من حالة الغثيان في معدته ..ثم جلس ليشرب
القهوة مازال الوقت باكراً إنها نائمة وهو لن يغادر حتى يحصل على نظرةٍ
منها .. استمر انتظاره دون نتيجة ..انفعل وتوتر أن كلام الشبان البارحة لم
يأت من عبث ! أدار الراديو بصوت مرتفع دون فائدة وانتفض غاضبا وبدأ
بالتدخين وقد خنقته الغيرة خنقاً .. لم يغادر كعادته وبقي حتى منتصف
الظهر إلى غاية ظهورها على النافذة . وانطلق عقب ذلك إلى رجاء ليتحدّث معها
بالموضوع إذ لم يعد ثمة مجال للكتمان..دخل المحل فوراً حيث كانت شقيقته
تستعد لتصفيف شعر إحدى الزبونات
..
ـ خير إن شاء الله ماذا حصل .؟
ـ أتيت لموضوع مهم
..
ـ هل حدث شيء للأهل ؟
ـ لا..كنت أريد. فقاطعته قائلة
:
ـ لا يجوز أن تدخل هكذا عندما
يكون عندي زبائن .. انتظرني في البيت , هاك المفتاح سأكون عندك بعد نصف
ساعة .
في
البيت تناول إفطارا سريعاً أعده بنفسه وجلس يستعد لعرض الموضوع .. وقال لها
فور مجيئها :
ـ لا تؤاخذيني كنت مستعجلاً
..
ـ لابأس ..وجلست لتشاركه شرب المتّة..
ـ خير ما هذا الموضوع
.
صمت قليلاً وقال بعد أن أشعل سيجارة
:
ـ أريد أن اخطب
..
ـ تمزح ..علّقت رجاء بذهول
.
ـ( لا والله ) أنا جدّي
.
ـ ومن هي ؟؟
ـ جارتنا في الحارة
.
نظرت رجاء في عينيه التي تعودت أن
تراهما تعبتين قلقتين لتتأكد من أنها ليست إحدى القصص الكثيرة التي يبتكرها
فرأت فيهما هذه المرّة حماساً دافئاً ومع ذلك سألته مشككة
:
ـ وهل تكلّمت معها بالموضوع
.
ـ تقريباً ..نعم إنها موافقة ..إنها
تنتظرني كي آتي و أطلب يدها
.
بالرغم من كونها لم تثق بكلامه إلاّ
أن سعادة ملئت قلبها من هذا الخبر الذي يعني الكثير , وروى لها بالتفصيل عن
كيفية تعارفهما , وعندما قال أن عمرها سبعة عشر علّقت باستغراب وخيبة
:
ـ سبعة عشر !! إنها صغيرة
..!
ـ لا يهم فنحن متفاهمين
..
ـ كلمة أريد أن أتزوج ليست بهذه
البساطة ينبغي أن تجد عملاً على الأقل فالزواج منزل ومسؤولية ومصاريف...
ـ العمل موجود .. أجاب متذكّراً عرض
أبو أحمد صديق شقيقه له ..
ولم تسأله رجاء عن عمله هذا لأنها
شعرت بأنه يبتكر وصممت مساعدته بعد أن تتحقق من الأمر . ومن عند رجاء اتجه
فوراً إلى محل أبو أحمد الذي كان مغلقاً فأصيب بالخيبة
..
عاد إلى الحي مع غروب الشمس حيث كان
أبو حامد يسقف العارضة الحديدة أمام المحل بحصير قصبي بمساعدة أولاده
.. وقد امتلئ الهواء برائحة الشحم والبنزين المنبعث من مغسل السيارات
.
في فناء المنزل كانت تجتمع العائلة
لشرب القهوة ..
انتابه الأسى فور دخوله الغرفة وقد
عاودته الغيرة فقعد إلى الطاولة ينظر إلى شباكها وهو يسترجع ما فعله اليوم
وكلامه مع شقيقته والخطوة القادمة فكان قد التهم أظافره دون أن يشعر
..أثناء ذلك ظهرت على النافذة وأشارت ثم دخلت كان خلال ذلك ينظر في
عينيها باستجداء وقوّة ..هذا لا يكفي إنها الغيرة ! المزيد من القلق
والسجائر ..
في الأيام التالية تضخم خوفه ذاك إذ
أصبح يتجول معظم الوقت في الحارة يراقب المارّة أو الراكبين وما أكثرهم
!!كل شاحنة متجهة إلى المنطقة الصناعية وكل شاب يقود دراجته ويرتدي نظارات
سوداء قد يحوم هنا من اجلها ! كان يلاحقهم بنظراته حتى يغيبوا عن الحي
والشارع وحدث أن أثار ذلك غضب أحد سائقي الشاحنات الذي سأله (لما
تنظر هكذا خيو !!) وكانت مشكلة حقيقية على وشك الوقوع لولا تدخل أبا حامد
..وبالنسبة لتجواله وزيارته إلى أسعد فقد انعدمت إذ لم يكن بقادر على ترك
الحي مع كل ذلك الخوف . النظرات على ماهي عليه بيد أنها أبداً لم تلاحظ
تغير ّوحزن عينيه ولهفتهما ولمّا اعتذرت له عن الخروج عندما أرسل لها بورقة
ملفوفة بحجر ازدادت ظنونه وشدد الحراسة في الحي وعلى منزلها ومن الأمور
الأخرى التي كانت تفعّل غيرته وغضبه هي رؤية أولاد أبا أمجد وعائلاتهم
الذين يتقاطرون في هذا الوقت من العام لزيارته , والتفاهم والانسجام فيما
بينهم .
ومرّ الأسبوع لم يشتر ورقة يا نصيب
وغاب فيه كليّاً عن أسعد ..
أقلقت هذه التصرفات أهله . فتوجهت
والدته إلى رجاء الشخص الوحيد الذي يستطيع الحديث معه وروت لها ما يحصل وأن
هذه ولا بد مؤشر على انتكاسة مرضية ما وطلبت منه إقناعه بعيادة الطبيب
..أكّد هذه الكلام لرجاء ما قاله عن رغبته بالزواج فقالت
:
ـ لقد أخبرني أنّه يريد الزواج ! وهو
يشعر بالضيق لأنكم تهملونه ..على كل حال لقد طلبت من محمود أن يساعده في
إيجاد عمل ..
قالت الأم باكية
:
ـ والله نحاول الحديث معه لكنه يغضب
ويصرخ ويرفض أن يأكل.. لقد زوجنا عباس بالدّين وعباس ليس أغلى منه والله
سأبيع غرفتي أنا ووالده ونعيش في الشارع لأزوجه ..هكذا انتهى الكلام
..
بدأت التحركات في العائلة لدعم
الموضوع وقررت رجاء البدأ بالخطوة الرسمية الأولى وهي التعرّف على الفتاة
التي يريد الزواج بها .
في حين استمر حال سهيل كما كان .. في
إحدى المرّات قبل منتصف الليل جاء رياض ووقف أمام المنزل , أطلق بوق
الدراجة ونادا عليه ..خرج سهيل مضطرباً وقد برزت الغيرة لتأرّق فؤاده
.
ـ لا أستطيع السهر فغداً عليّ
الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى العمل
..
ـ هيا يا رجل , وقطع كلامه ناظراً
إلى النافذة حيث كانت تقف الفتاة وصفر بشفتيه
:
ـ ما هذا كلّه ..( لديك هذا الجمال
كلّه إلى جانب غرفتك ) .
تصاعد الدّم إلى رأسه ونهره قائلاً
:
ـ لا شأن لك احترم جيراني
..
ونظر إليه رياض مستغرباً ليعرف مدى
جدّية هذا ..أنت جدّي !! و أضاف بلغة ممازحة لم يستطيع سهيل تمييزها
بسبب الغيرة : (على رأسي ) ستراها بعد يومين معي
..
جنة جنونه عقب عبارته ودفعه في
صدره فسقط عن الدراجة , وقال
:
ـ إنها خطيبتي يا حيوان . نهض رياض
عن الأرض وهو يقول خطيبتك يا مجنون ألم تشبع كذباً ودفعه أيضاً.. ثم تماسكا
وخرج شقيقه والجيران وحالوا بينهما وابتعد رياض قائلاً
:
ـ لولا أنّك مكسّر من الحوادث لكنت
كسّرت عظامك .. لم يعلّق سهيل بشيء بقي واقفاً وسط الجمع القليل وصدره
ينتفض من الغيظ , ودخل والده وهو يسترجع إلى الله ويهزّ رأسه بعد أن يأس
منه ..بينما تأبط أبو حامد ذراع سهيل وقال
:
ـ انتهى كل شيء يا جماعة ارجعوا
..وسار به إلى المحل ..وهناك بقي على صمته ولم يستجب لإلحاحات أبو حامد
برواية ما حدث طلباً لبعض التسلية ونهض بعد قليل يتمشى وحيداً بعد أن طلب
سيجارةً من أحد الموجودين..وعلّق أبو حامد في أثره
:
ـ لقد فقد عقله بالكامل
..
كانت
المرحلة القادمة هي كل ما يبتغيه يريد أن يتخطّى كل المراحل السابقة للخطبة
ليصل إلى مراده بأي ثمن . راحت قدماه تنهبان الطريق في ذهاب و إيّاب ورئتيه
تفني السجائر وهو يتخيّل الوقت يفلت من بين يده كساعة رملية . لابد أن
يتجاوز كل هذا و
سيتزوجها بأي ثمن . وهزّته كلمات
صديقه العجوز في المرفأ من جديد كإنذار , لقد باتت حاله لا تحتمل ..عند
المنزل لم تقل والدته شيئاً بل نظرت إليه بأسى وأمل أن تنتهي عمّا قريب كل
فوضى حياته ..
في ذلك المساء وبينما كان يحاول
كتابة شيء ما بسبب فيض الأحاسيس التي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات أتاه
مرسال منها أعاد له بعض السكينة . كانت تسأله عن سبب ضربه للشاب ..وتعرض
عليه اللقاء غداً صباحاً في الساعة التاسعة في السوق حيث ستمضي مع شقيقتها
لشراء بعض الأغراض ..
كان الأمر مفاجئً بصورة مطلقة كاد
يقفز من الفرح كتب الردّ : ضربته لأنه لم يعد لي نقودي التي استدانها مني
..وإجابة عن عرضها كتب : أكيد يا ملاكي نلتقي في الكراج
..
وبعد أن غابت ابتعد قليلاً عن
النافذة كي لا تراه و أخذ بالرقص على أنغام أحدى الأغاني التي تبث من
الراديو ثم تناول المرآة وبدأ يحرك وجهه بتقلصات وابتسامات !يفتح فمه
ويغلقه ويمدّ لسانه :
ـ أرأيت هي من دعاك ..هي من يحترق من
الشوق ..آه يا ملك زمانك يا معلّم سهيل..
وأخيراً ناله بعض الطمأنينة . وساهمت
هذه الدعوة من قبلها بتفنيد جزء من شكوكه
ثم توجّه إلى أبا أحمد مرّة أخرى من أجل
موضوع العمل حيث أخبره العامل أنه لن يأتي حتى مساء الغد ..وتمشّى قليلاً
لأول مرّة منذ أسبوع في المدينة النابضة بالأشكال المختلفة وراح تفكيره
الذي غلب عليه موضوع الخطبة يتهادى في أحلام يقظة نديّة . ولفتت انتباهه
محلات الموبيليا والأدوات الكهربائية باتت تحمل معنىً خاصّاً يرتبط بموضوع
الزواج والمنزل بقي القليل من الوقت حتى الغدّ لكنه بحاجة لبعض المال
فطار إلى أسعد واقترض منه بعض المال . ثم تمدد في غرفته على السرير يحلم
بالغد ونتيجة لكثرة في ذلك اليوم غفا بعمق إلى
ما بعد شروق الشمس بقليل ..حيث
استيقظ وقد هزّه احتلام آخر بعد أن رآها في منامه تعانقه عند موقف
الحافلة ليلاً والطريق خال حتى من السيارات العابرة وفي ذراعها حقيبة صغيرة
كأنها مسافرة إلى مكان ما..نهض بمزاج سيء وقد ابتل سرواله , منذ زمن لم ينم
في الليل , إنها المرّة الأولى التي تغيب عنه الحارة في الليل ..ومضى
ليستحم فقد بقي عدّة ساعات للقاء وقلبه يلهج بالشوق والحنين العاصف حتى
كادت عيناه تدمعان وهو يتذكر صورتها في المنام كم كانت جميلة ووديعة
.
وحان الموعد .. كان قد استعد قبل
ساعة كاملة وانتظر ريثما تخرج من المنزل لتصعد في الحافلة كان النهار
مشمساً صيفياً والنّاس يقفون في الشوارع مستمتعين بأشعّة الشمس التي لم
تشتدّ بعد ..تناولا فنجاناً من القهوة في مقهى صغبر ثم توجها إلى الكورنيش
دون أن يتوقفا عن الثرثرة كان حديثها طفولياً روت له بلا انقطاع عن مدرستها
وصديقاتها والمدرسين , و أصغى مظهراً جديةً وسرد لها بعض مغامراته (
المبهّرة بأحداث أضافية ) عن أيام عمله , بيد انّه لم يذكر لها موضوع
الحادث ولم يؤثر وجود شقيقتها على جرأته في التغزّل بها , كان هائماً في
سعادته يريد ضبط الوقت بيديه ليبقى الوجود مزهراً جميلاً .. بعد أن تعبوا
من الحديث المتواصل وتناول الفستق المالح الحار حتى تجعّدت شفاههم . قال
:
ـ( أريد أن أزوركم في البيت
. )
سألته بدهشة
:
ـ ولماذا ؟
ـ سأتقدّم لخطبتك
..
وسرت دهشة واضحة انعكست على وجهها
ووجه شقيقتها . وصمتت خافضةً رأسها إذ لم تتوقع عرضاً كهذا إطلاقاً وتابع
حديثه دون أي اعتبار لردّة فعلها كأنه طرفي العلاقة .. ثم تبدل مزاحها
قليلاً ومنعته ثرثرته المتواصلة من ملاحظة ذلك
وكرر سؤاله عندما كان يوصلها إلى
الحافلة ..
ـ .. متى تشائين أنا جاهز ..وخطر له
هنا ذلك التاريخ ...
قالت بسرعة واختصار كأنها تريد إنهاء
الموضوع :
ـ أنا أخبرك متى
..
انتهى اللقاء . ذهبت اللحظات الرائعة مخلّفةً وراءها
انطباعاً بالفوضى والشوق , و في أعماق فؤاده كان ثمّة خوف من أن يفلت كل
شيء ويتلاشى كالدّخان ,فقرر أن يسخّر
كل قوّته للمرحلة القادمة ..الزواج
!
وعند أسعد الذي كان يستقبل أولى
مجموعات الوافدين إلى الشاليهات . أمضى قليلا من الوقت..ولدى عودته إلى
المنزل رأى سيارة صهره العسكرية تقف أمام الفناء كانت العائلة مجتمعة
لمناقشة الحالة المضطربة له ..سلم على صهره وشقيقته متجاهلاً الباقين
ولحقت به شقيقته إلى الغرفة
..
ـ ما هذه الأناقة كلها كدت لا أعرفك ..أين كنت
ما هذه الغيبة ؟
أجاب بسعادة كطفل
:
ـ ( كنت في مشوار خاص
) .
ـ مع الحبيب ؟
ـ نعم
..
دخل صهره بعد قليل فانقطع حديثهما
وجلس على طرف السرير وقد فاحت من ثيابه رائحة مسحوق تنظيف لطيفة
وتكلم ببطء :
ـ أسس زميلي و اسمه أبو وائل منذ
فترة بيتين بلاستيكيين في الوادي . من المؤكد أنك تعرف المنطقة جيّداً
..إنها غير بعيدة (من هنا عشر دقائق في الحافلة ) و أبلغني أنّه يريد
شابّاً للعمل معه . ما رأيك أن نذهب إليه غداً لترى إن كان يناسبك العمل
, إنه رجل جيّد وكريم من معارفي . (في هذه الأيام من لا يملك شهادة جامعية
لا يستطيع أن يعمل شيئاً فالأسعار ترتفع ورواتب الجامعيين تزداد بينما يبقى
أصحاب المهن الحرّة على حالهم ) ..وأنت لديك راتب من المرفأ وإن شاء الله
سيعجبك العمل عنده وبذلك ستكوّن راتباً جيداً .. سآتي غداً في الثامنة ..
وقبل أن تغادر رجاء قالت له
:
ـ أريد أن أتعرف عليها أتمانع ؟
ـ بالعكس
..
لقد تغير إحساسه بأهله كأنه خضع
لرقيّة أو لسحر فقد لمس بقوّة رغبتهم في مساعدته وعليه أن يجد معهم لغة
أخرى فقريباً سيخطب و لابد أن يكونوا معه حسب العادات والخطبة الوحيدة
القادرة على تصحيح علاقته بهم و ستلم بدون شك شمل هذا الشتات , وهذا في
الحقيقة ما رأته رجاء لذا عملت على مساعدته بكافة الوسائل
..
مضى للسهر عند أبو حامد الذي لم يعد
يستسيغه كالسابق بسبب صمته الدائم فقد تعوّد منه على سماع الحكايات الخارقة
والممتعة , ثم تمشّى في الحي قليلاً
..
وعند عودته قال له شقيقه عبّاس
:
ـ( يسلم عليك أبو أحمد ويقول )
أنك تستطيع أن تذهب منذ الغد كي تتعرّف على العمل ..وكالعادة لم يجب بشيء
.
يوم آخر سيمضي بلا نوم لكن لابأس
فثمة معنىً الآن للفراغ فعندما يدير التلفزيون يتصورها إلى جواره تشاهد
معه..وعندما خرج إلى المطبخ ليلتمس شيئاً للأكل تصوّر أنه يشربون القهوة في
الفناء
وانتشى بهجة بالأيام القادمة . عند
منتصف الليل وبينما هو متمدد على السرير سمع صوت دراجة رياض وقد جاء يحوم
حول المنزل وينادي مخمورا
:
ـ أخرج إن كنت رجلاً ( سأدهسك )
بالدرّاجة هنا أمام بيتك ..أخرج
.
وخرجت والدة سهيل تقول
:
ـ يا رياض الله يرضى عليك لا داعي
للمشاكل اذهب ..الله يوفقك . وقفز سهيل غاضباً وركض نحوه , حاولت والدته أن
تعترض طريقه دون فائدة ..حين رآه رياض فرّ بالدرّاجة وهو يضحك دون انقطاع
فناداه سهيل :
ـ تعال إلى هنا (يا حقير )..توقّف
..ورياض يقول : أنا أمزح ..أمزح
..
الفصل الرابع
كان أبو ميخائيل يفتح المنشرة في العاشرة صباحاً
ومن ثم ينضم إليه أبو أمجد ليشرب القهوة ووالد سهيل الذي لم يكن
متعلماً إلاّ أنه كان قادراً على المناقشة بفعالية وذكاء
في السياسة والعمل
..
وتمتلئ الحارة مع حلول منتصف
النهّار بأزيز المنشرة وأبواق السيارات عند المغسل والشاحنات المتجهة إلى
المنطقة الصناعية وعلى الطريق العام ويهبط الحرّ
.
كان سهيل قد رأى في الليلة الفائتة
مناماً كانت فاتن فيه تقف على شباك غرفته مرتديةً ملابس الزفاف البيضاء و
تطل في نفس الوقت من نافذة غرفتها بملابسها العاديّة
..
استيقظ مفعماً بأمل وقد فسّر الحلم
في اتجاه خطوته القادمة وهو علامة خير عما ينتظره , وجاء صهره لاصطحابه إلى
مكان العمل .
كان موقع البيوت البلاستيكيّة رائعاً
في منطقة زراعيّة خارج المدينة عند التقاء السهل الساحلي بالجبل و
يجري نبع صغير فيها مخترقاً أشجار السرو والليمون والكينا حيث يمكن دائماً
استنشاق الهواء النقي والتّمتّع بالجو المعتدل, وإلى الجوار توجد مزرعة
أبقار صغيرة يتناهى منها صوت خوار دائم يبعث على الطمأنينة ولا يمكن لمن
يقدر جمال الطبيعة حق قدره سوى أن يقع في أسر الهدوء والنقاء الموجود هناك
. وكان صاحب العمل شبيهاً بصهره إلى حدٍّ بعيد , فهو صارم الملامح ويتكلم
مثله ببطء يهابه المرء دون أن يتعرّف عليه ..جلسوا تحت فيء شجرة كينا
..وأخذ الرجل يشرح بالتفصيل عن العمل وقد أعجبه سهيل الذي كان الحماس يطل
من عينيه ..وفي النهاية وجّه ملاحظة مختصرة قائلاً
:
ـ أرجو ألاّ يصبح هذا المكان مضافة
لاجتماع الأصدقاء ..
وهزّ سهيل رأسه بالموافقة دون أن
يسأل أي شيء فقد آلمه رأسه من كثرة الكلام ..نظر صهره إلى الساعة و أومأ
بالنهوض ..وقال :
ـ بالنسبة للراتب ؟
ـ بالنسبة للراتب مبدئياً خمسة آلاف
وإذا أثبت جدارة ممكن أن يزداد ..قال بجدّية ثم أضاف
:
ـ أرجو أن تأتي من الغد
صباحاً..فعلينا نقل بعض الأشياء إلى هنا
..
وقال له صهره وهما في طريق العودة
:
ـ والله عمل ممتاز وغير متعب عدا
المنظر و ( القعدة ) الرائعة هنا إنها تطيل العمر ..هذا الرجل صديقي و
أعرفه إنّه يأتي في الأسبوع مرّة واحدة أو مرتين
...
وتمتم سهيل وفؤاده يحفل بنشوة ضاعف
منها صورة حبيبته التي تحلّق حوله أبداً : نعم ..إنه عمل ممتاز..
أوصله صهره إلى منتصف المدينة حيث
ركب حافلة إلى أسعد الذي كان جالساً يشرب البيرة على باب حجرته الصغيرة و
الموسيقا اليونانية تنبعث من حجرته لتملئ المكان . قال بعد أن انضم إليه في
شرب البيرة :
ـ غداً اليوم الأول في العمل
.
عقّب أسعد بهدوء وبصيغة مختصرة ألفت
ترديد سهيل للقصص الوهمية .
ـ مبروك . وتابع سهيل متحدّثاً
وعيناه تراقبان المجال البحري الأزرق أمام عينيه حيث تبعثرت أولى مجموعات
الحاجيّن إلى الاستجمام والتمس من المنظر لقاءه الأوّل معها الذي تمّ على
شاطئ البحر فازدادت سعادته وغرّد الأمل في صدره حتى ضاق هذا عن استيعابه
فتجلّى في إرهاصاته وقلقه كطفل أضنته الرغبة في الدخول إلى المرحاض غير أن
الخجل
منعه من الكلام . ثم اندفع على غير
قصد منه لسانه قائلاً :
ـ اشتركت مع صهري في شراء بيت
بلاستيكي . وبدت كذبة هائلة لم تندّ عن اسعد أية ردّة فعل عليها ... وغض
بصره ممعناً في الاستنكار , إن هذا غير مقبول بالجملة ! لقد بات هو نفسه
يستنكر هذا الكلام ..
وبعد قليل كانت ثمّة ردّة فعل على
وجه أسعد الذي قال : جيد ..جيد
.
لم يكن البحر الأزرق بانعكاس بريق
الشمس على صفحته ليدعه بمنئً عن استنزاف ذكريات اللقاء الأوّل فاسترسل على
غير قصد منه في اجترار تلك اللحظات السعيدة وتعدّى ذلك إلى وجودها معه في
الغرفة في منزل كبير لهما وقد مرّت كل تلك الإجراءات الممضّة التي تكاد
تجهّز عليه ببرودها المتناقض مع أجيج الشوق الحار المستعر في داخله .
وتحرّكت أطراف أصابعه مدفوعةً باضطراب الروح العاشقة في داخله بحركة خفيفة
كأنه يداعب صفحة ماء عذب بارد وقد أعياه قيظ الظهيرة متخيّلاً أنه يمرر
أصابعه على بشرتها الملساء وتابع مستنداً إلى الكرسي الخيزراني ومتجاهلاً
أسعد الذي إلى جواره في تخيلاته و أحلام يقظته إلى عنقها الأملس ومن ثم
يتشمم شعرها وخلف أذنيها الصغيرتين ..بعد أن تجاوز كل المشاكل والعقبات
ليختلي بحبه الأوحد . وسرى خدرٌ تام في أوصاله حتى استغرق في النوم
.
أيقظه اسعد وقد حلّ المساء وغابت
الشمس مصطحبةً معها اللون الفيروزي للبحر , ليتناول وجبة العشاء معه حيث
استلقت في صحن زجاجي بضع سمكات سردين مع الفليفلة الحمراء الحارّة وعلبة من
الجبنة المطبوخة ..وقال : سهيل انهض لتتعشّى
.
عندما نهض كان شوق شديد يحدوه إلى
الغرفة وجوّها وكان شعور الامتنان نحو اسعد يجعله عاجزاً عن تقدير إحسانه
فقال وهما منهمكان في الأكل
:
ـ ( أخي أسعد ) ألا تحضر إلى خطبتي إذا دعوتك ؟
وجاء كالعادة تعليق أسعد
متأخراً: أكيد .
ـ لقد نويت أن أخطب وهذا قريبا
..
وعندما نهض مغادراً قال له أسعد
بلهجة لا تخلو من سخرية :
ـ لا تنسى أن تخبرني متى بالضبط
..لأشتري ملابس خاصّة .
ومن جديد بعد أن غادر أسعداً طفق يطوف في المدينة
يتمشّى صافراً , يحرك حنجرته الحادة بأغنية شعبية وأصابعه التي أخذت بذلك
الخاطر الندي عن مداعبته لبشرتها ما زالت تتحرك بحثاً والتماساً لها و
الأضواء المختلفة للمحلات تنير وجهه وهو يعبر ناظراً إلى
غرف النوم المعروضة والكنبات الفخمة
وأجهزة الفيديو والتلفزيون ..توقف عند واجهة إحدى الواجهات وأخذ يراقب( طقم
كنبيات فاخر ) حالماً حتى لفت انتباه أحد العاملين
هناك فسأله
:
ـ خير أستاذ بماذا نستطيع مساعدتك ؟
ـ شكراً .. و غادر ملاحقاً
بنظرات الشاب الاستفهامية
.
في الحارة كانت رائحة الشواء منبعثة
من محل أبو حامد الذي سقف بغطاء مصنوعة من القصب محوّلاً محلّه إلى مقصف
صغير , وقد جلست عنده مجموعة صاخبة تبدر عنها بلا انقطاع قهقهات فظّة وسباب
فاحش ..ومن خلال حومة من الضباب وتماما كجنّي خرج من غمامة من الدخان ناداه
أبو حامد المتلهف لمتعة رواياته
:
ـ ( حوّل معلم سهيل
) ...
ولاحظ سهيل لدى اقترابه وجود وجوه
نسائية ذات مستوى فاحش من استخدام مساحيق التجميل و ( الحمرة ) والبودرة و
الكحلة.. ما أعاد إلى ذهنه افتراض رياض . وكان أحد الرجال الذي أتضح أنه
سائق حافلة يتحدث بصوت مبحوح عن حادثة فريدة استطاع تخليص فيها تخليص
سيارته من الحجز بمساعدة رجل صاحب نفوذ ..ولدى اقترابه أكثر بدا له أن
اتهام رياض ينطوي عن كثير من الجدية ومقاربة المعقول ..وبعد دقائق من الصخب
والدخّان ..ألم به ملل مفاجئ واجتذبته الغرفة بجوها الثري بالعواطف فاتجه
بدون تردد نحوها متجاهلاً استجداءات أبا حامدٍ وما تنطوي عليه من خبث له
بالجلوس وقد شعر أنه سيفارق بمفارقته الكثير من المتعة ..وفي أثناء سيره
مرّ بأبي أمجد الذي يدخن النرجيلة ويبتسم للمارين أمام بيته فحياه واعتذر
عن الجلوس والمشاركة .يجب أن يكون وقته مسخّر للأمور المهمّة فثرثرته
الحركية التي كان يقوم بها سابقاً باتت مزعجة ومخجلة
.
عندما شاهد والدته وزوجة شقيقه
تجلسان أمام البيت على الكرسي البلاستيكي ذو اللون الأبيض وهي تنحني على (
طبق ) كبير من الكوسا والباذنجان تقوم بحفرها لإعداد وجبة (المحشي) برق في
ذهنه خاطر أنه لابد من تحسن العلاقات مع أهله فالخطبة اقتربت سترافقه
إلى منزل فاتن حيث سيطلب يدها وهذا حظي به أن يحسن علاقته بها فقال في نفسه
أنت ماذا يجب أن تنسى كل شيء فالأيام القادمة تقتضي أن تحسن علاقتك بهم فهم
سيصحبونك للخطبة سأسلم عليهن وبالفعل حياهن قائلاً بصوت ثابت خلقه
الأمل القادم _ مساء الخير ..فأتاه الجواب حارّة كلّ الحرارة
:
ـ يسعد مساك ..وتابعت والدته قائلةً
الطعام في المطبخ يا عيني .
فأجاب وقد غدا على أعتاب باب غرفته
:
ـ ( يسلمو
) .
في الغرفة ألقى كل شيء وراءه ليتفرّغ
للحب ! لم يكن يرغب بأي حالة أخرى خارج هذا الإفراز للعواطف الذي يملئه
شعوراً بالثقة والثبات لذا حاول أن يبقى في منجىً عن نجواه الثقيلة
اليوميّة مع القلق من المسؤوليات بأن جلس على الطاولة تماماً مقابل
النافذة.منبع هيامه . ووضع يده على خدّه بعد أن أشعل سيجارة وجلس يترقّب
حبّه في إذاعة علنيّة له والدفتر في حضنه يستذكّر منه بعض ما كتب في ساعات
هيامه كمتعبد يتلو من كتاب ديانته سطوراً في خشوع و إيمان مطلق . وبعد قليل
وكما يبدر الأمل من رحم القدر برزت محبوبته من خلال نافذة غرفتها ولوحت له
بيدها لكن كان وجهها يفتقر للبسمة المرافقة لها عادة, وسلّم نفسه للنشوة
الناجمة عن النظرات المتبادلة التي لم يستشعر الخبو الغريب في بريقها . ثم
كتب لها على ورقة :
ـ تريد شقيقتي أن تتعرّف عليك , متى
نستطيع أن نلتقي . ورمى لها بها
.
تأخّرت
في ردّ الجواب وكان هذا مسبباً للقلق ثم جاء جوابها
:
ـ انتظرني حتّى منتصف الليل سأخبرك
..وغابت. ابتسم بعمق على أثر ذلك وترك عينيه ترتاحان على الدفتر أمامه
محقوناً بالسعادة وتحرّكت رغبة في رؤوس أصابعه ليكتب شيئاً ما توثيقا لحبّه
في هذه اللحظة فكتب :
ـ أحبك والورود تشهد أنني لا أعرف
الليل في هواك ..
وفي هذه الأثناء قرع الباب وظهرت
والدته بثوبها المورّد الطويل الفضفاض ذو الطابع القروي وقالت له
:
ـ هل أكلت ؟ والتفت إليها بحزم
مغلقاً الدفتر ..
ـ لست جائعاً ..وكانت أثناء ذلك قد
دخلت الغرفة وأخذت توضب سريره المبعثر منذ شهور
.
ـ يا لطيف ! لديك كومة من الأوساخ
هنا( إنّك تحتاج لعروس والله ).. وانصرفت لتحضر المكنسة
.
ـ لا داعي ..ونفخ بتأفف .وتابعت
والدته كلماتها السريعة وهي تكنس الأرض وترفع حذاءه لتضعه في خارج الغرفة
:
ـ لماذا يا عيني لا تكلّم شقيقك ؟
انظر إنّكم تعيشون تحت سقف واحد والله أنا ووالدكم نموت من رؤيتكم على هذا
الحال ...
لم يعلق بشيء بل بقي ينظر إليها
وتلقى عبارتها التالية .._ من لكم غير بعضكم ؟ ثم قال غاضباً
:
ـ قولي له أن يتعلّم الاحترام ثم (
يكون أخّاً ) . ونهض واقفاً ليغادر الغرفة
.
ـ والله إنّه يحبك ..إلى أين برضائي
عليك اجلس .. وتذكّر بشكل غريب مفاجئ أنه لم يشتري ورقة يا نصيب هذا
الأسبوع .. وخرج تاركاً صوتها يطير في أثره
:
ـ سأضع لك الطعام في الغرفة
..
قرر أولاً أن يتمشّى حتى حلول الساعة
الثانية عشرة ليلاً مستبعداً فكرة الجلوس عند أبو حامد . وبعد دقائق من
مسيره إلى جانب الطريق حيث تعبر السيارات ..حدّث نفسه
:
ـ لماذا لا تستمع لها ؟ ألا تريد أن
تخطب عمّا قريب !! تريد أن تذهب بدون اهلك ..ستكون عندك زوجة و أسرة ويجب
أن تحسن علاقاتك ..هل فاتن تعرف أنّك لا تكلّم أحداً من أهلك ..قد لا
يعجبها هذا ..! العمل جاهز والأمور ( تمام ) , و( الصلحة )معهم ستأتي
لوحدها لا أريد أن يطمعوا بي
.
دس سيجارة في فمه و أشعلها..
_ (ولك
أنسى .. خليك أكبر منهم إنه جبان ولا يستطيع مخالفة زوجته خذه على قد
عقله). وزوجته ستصبح جارتك ..وتوقف عند هذه الكلمة ونظر إلى المنظر الممتد
أمامه التلال الداكنة حيث ترقد المدينة الغابرة التي أسبغ عليه الليل
المزيد من الغموض وهي ترتفع وتنخفض في كتل غير متناظرة حتى تبدو في البحر
أنوار مراكب الصيادين التي أنيرت لإغواء الأسماك . وقال : يجب أن أشتري لها
هديّة !! وهنا كان لديه وقت أيضاً ليفكّر بذلك
.
قبل حلول الثانية عشرة بعشر دقائق من
تجواله , كان المذياع ما يزال يبث أغانيه فجلس يصفر مع أنغام إحدى الأغاني
..وبعد دقائق جاءه الجواب :
ـ بعد غدٍ سأنزل إلى البحر مع شقيقتي في الخامسة هل
تستطيع الذهاب إلى هناك .. ؟
وكتب بكل جوارحه الجواب
:
ـ نعم (كرمالك) أفعل كل شيء , ثم رمى
بها.. تلقتها وودعته ملوّحةً بيدها .. ابتعد قليلا عن النافذة وأخذ يرقص
ثم أكل بشهوة عارمة من الطعام الذي تركته والدته..أدار التلفزيون وارتمى
على السرير متقلباً كنمر صغير يتمرّغ فرِحاً على رمل حار . فكّر بالهديّة
وهو يتدشئ باستمرار حتى اهتدى لقرار بشراء زجاجة عطر , كان سعيداً متفرّداً
بسعادته لم يؤرقه شيء حتى الأصوات العادية المنبعثة من محيطه لم تكن لتجرؤ
على تلويث سعادته وأحلام يقظته التي استدعت فاتن تتمدد إلى جواره على
السرير ليشاهدا التلفاز سويّة وأخذ يلامس عنقها الناعم وخصرها ..وتشاورا
بالهمس :
ـ هل أنت مرتاحة هنا ؟
فتجيبه ملتفتةً إليه بوجه مضيء كوردة
متفتّحة :
ـ جدّاً !!أنا اشعر بالأمان هنا إلى
جوارك ..لكم أكره هذه الجدران التي تحجبنا عن بعضنا وتعيق لقاءنا , أريد أن
أبقى هنا إلى الأبد .
وطبع قبلة نديّة على كتفها الصغير ذو
البشرة السمراء واشتمه بعمق وقال
:
ـ أنا أتعذّب أكثر منك من هذه
الجدران ...
وتابعا للحظات مجريات الفيلم مأخوذ
كل منهما بهيام الآخر ..وهكذا حتى ذابا في نوم هانئ
.!
وفي الصباح حين استيقظ على صوت البث
التلفزيوني ـ وهو ما اعتمد عليه كمنبّه ـ كان قد رأى مناماً مزعجاً كان فيه
أبا حامد يهمس في أذن أحد السائقين شيئاً ما عنه ويضحكان بشكل استفزازي
.
الفصل الخامس
كان أبو وائل قد سبقه إلى هناك ووقف
يتفحص الشتلات الصغيرة مرتدياً (جزمة من الغوما السوداء ) وخاطبه لدى وصوله
:
ـ لن نعمل كثيراً اليوم , ينبغي نقل الشتلات إلى
داخل البيت البلاستيكي وهذا كل شيء ..وهكذا ساعده الحظ في توفر الوقت لشراء
هدية لمحبوبته . وبدأ العمل بهمة وبسرعة في جو من الجدّية والصمت لا
تقطعه إلاّ عبارة وتوجيهات ترتبط مباشرةٍ بالعمل وهذا ما أملتها شخصية
الرجل الجدّية الذي كان يكره الأحاديث و الثرثرة الفارغة ..انتهى العمل
في الثانية بعد الظهر وتناولا طعاماً
عقب ذلك عبارة عن وجبة أعدتها زوجته ..وأخيراً قال له
:
_
لن آتي إلى هنا في الغد , تستطيع
المغادرة بعد أن تنهي نقل الشتلات المتبقية .. من الأفضل أن تحضر ملابس
خاصّة للعمل ...
في المحل الذي حدده مسبقاً انتقى
نوعاً من العطر وضعه في علبة لفّت بورق أحمر مزين بقلوب..وطار إلى شقيقته
..ودخل إلى المحل لفوره حيث كانت رجاء تصفف شعر زبونة بدينة امتعضت من
الاقتحام السافر لهذا الرجل ذو الحاجبين الكثين المتشنجين من السعادة ونظرت
نحو رجاء باستنكار ..التي أسرعت نحوه لتطلب منه أن ينتظرها في المنزل .
وهناك أعدّ كأساً من المتة وجلس يدخن بهدوء مقلباً الهدية بين يديه
:
-
كيف سيقدمها لها في الغد ؟ وهو في حياته
لم يفعل مثل هذه الأمور ؟وهل يحتاج هذا إلى دراسة ! قال في نفسه دعك من هذا
أنت تحب تعقيد الأمور ببساطة (شيل ) زجاجة
العطر
من جيبك وأعطها إياها وكفى
!!
وأحنى رأسه أكثر من قبل حتى أصبح بين كفيه والسيجارة
في طرف فمه وهو ينظر إلى الأرض ..وبعد لحظات كانت الجدران قد اختفت وظهر
البحر المترامي بصوت أمواجه الهادر . هناك حيث الموعد المرتقب في الغد كانت
تقف مع شقيقتها متلفتة حولها كما تفعل عادةً و قدميها تلعبان بالزبد الذي
تلقيه الأمواج على الرمل البني , ورأى لمعان عينيها الدافئ وهي تقول
له (أهلين ) . مد يده لها بالهديةّ , فرمته بنظرة خاطفة من طرف عينيها ..
هذه لك !ولم يدري ماذا يضيف أيضاً ..فأضاف: لتفكري بي كل يوم .
وقالت بدلال وقد وقفت على رؤوس أصابعها ..سهيل !! لماذا تعذّب نفسك . ما
هذا؟
ـ زجاجة عطر
..
ـ شكراً .. قالت بدلال ورفعت عنقها
ورأسها الصغير الذي وزعت فيه العينين العسليتين ذات الأهداب الطويلة والأنف
الصفير بتناسق رائع واقتربت باستسلام نحوه.. إنها تريد أن تقبله لقد عرف
ذلك وكان واثقاً منه..واقترب أيضاً بوجهه والتقت الشفاه على صوت البحر
..
ومضت برهة من الوقت قبل أن يرجعه إلى
الغرفة صوت دخول شقيقته التي أرادت أن تعاتبه على اقتحامه المحل بهذا الشكل
فوقعت عيناها على العلبة الحمراء أمامه على الطاولة الصغيرة .فاقتضبت
العتاب بسرعة قائلةً :
ـ أرجوك في المرّة القادمة لا تدخل
إلى المحل هكذا ! لقد أربكت الزبونة .على الأقل اقرع الباب
.
وجلست مقابله على الديوانة وسألته
:
ـ هديّة
!
ـ نعم زجاجة عطر . أجاب
مبتسماً .
ـ يبدو أن الأخبار ( آخر انسجام )
والجو رائق .
ـ سأراها أم لا ؟
ـ نعم غداً في الساعة الخامسة
.
وأطرقت قليلاً ثم قالت مفكرةً
:
ـ في الغد علي أن أجهز عروساً في
السابعة لكن لابأس . أين الموعد ؟
ـ غير بعيد عن المنزل ..على الشاطئ ..ستأتين ؟
ـ سآتي ( ولا يهمك
) ..
رجع إلى الحي بمزاج جيد بعد أن تناول
الغداء مع شقيقته وزوجها حيث استمع بملل شديد لتحليلات صهره عن السياسة
وتقلبات الطقس ..كان الجو صيفياً معتدلاً وانتشرت في الحارة ذات البيوت
الغير متناسقة والتي تغشاها طوال النهار أصوات شتى نسائم بحرية لطيفة
أغرت الأهالي بالجلوس أمام بيوتهم بعد رش الماء البارد لاستقطاب وتفعيل تلك
النسمات وشحنها بمزيد من البرودة . وأثناء مروره أمام والديه الجالسين أمام
البيت : رفع صوته وحياهما بتحية المساء لأول مرّة منذ شهور عدّة في محور
خطته لتحسين العلاقة بهم استعداداً ليوم الخطبة
!
جلس إلى طاولته وحجّت عيناه إلى شباك
الحب ّ وتلك القبلة التي طبعتها على خده في خاطره الندي مازال يشعر بها
كأنها حصلت في الحقيقة و للتوّ
.
ثم انشغل بالعبث بالأدوية والدفتر
وتناول المرآة الصغيرة فحص شاربيه وشعره ..وفكّر بالتلفزيون الجديد
والموبيليا الفارهة التي يتحين عليه شراءها لمنزله هكذا كله دفعةً
واحدة عكست فوضى ذاته المترعة بالحب
.
وظهر والدها من النافذة كان بديناً
أصلع يقضم تفاحة مصدراً صوتاً كخروف ..ونظر نحو سهيل الذي تظاهر بأنه ينظف
الطاولة ثم دخل بهدوء دون أن يعيره انتباهاً ,وكانت هذه المرّة الأولى التي
يرى والدها فيها . بعد برهة على هذا الحال وافاه بوق دراجة رياض من
الخارج..وتلاه صوت والدته تقول له
:
ـ ( الله يخليك يا بني بلا مشاكل
)
وكان هو يجيب واضعاً يده على صدره
:
ـ لا تقلقي ..نحن أخوة
..
قال
سهيل مقترباً بحذر :
ـ ماذا تريد ؟
وأجاب رياض الذي لم يكن ثمة لديه أي
حقد تجاه سهيل :
ـ مساء الخير ..ألا تسهر اليوم
(الشباب) مجتمعون في الخيمة
.
وهكذا مضى إلى الخيمة القصبية ليسهر
هناك حيث مدّه الحظ أيضاً بإمكانية إضاعة الوقت حتى حلول بعد ظهر الغد . في
الساعات التي رافقت السهرة ازداد الليل سحراً وأنار القمر الوجود ومسحه
بلون فضي اكسب الموجودات نوراً خاصّاً حتّى أنهم لم يكونوا بحاجة
لإشعال المصباح داخل الخيمة القصبية . وراح يغوي أمواج البحر فتزداد صخباً
وغلياناً..وبعد ساعات متصلة من الغناء والشرب وقف رياض أمام سهيل وقال
رافعاً الكأس التي راح العرق يسيل على جانبيه لضعف توازنه من السكر
:
ـ المعلّم سهيل سيخطب . كأسك معلم
(وعقبالي ) عندما أفتح محل الكمبيوتر
..
وسرت موجة من التعليقات عقب عبارته
..واصطدمت الكؤوس في ذلك النخب وقال أحدهم
:
ـ يجب أن نحتفل اليوم و أشار إلى
زجاجة العرق . وقال اشتر لنا واحدةً فوراً
..
لم يغضب سهيل بل على العكس اصطبغ
وجهه بلون أحمر وتورّد من الفرحة كطفل
.
وانهمرت عليه الأسئلة صحيح
..صحيح..من هي ..
ـ صحيح ..ابنة أبو قصي قال سهيل بثقة
منحه إياها العرق .
وقال رياض
:
ـ لكن من أين (ستعيشها ) معلم ؟
نظر إليه سهيل شذرا ولم يعرف لماذا
قال :
ـ قريباً سيصبح عندي بيت بلاستيكي
..
ـ بيت بلاستيكي
!!!
ـ إذا كنت لا تصدق انزل غداً
..وستراني هناك ..
وعلّق أحدهم
:
ـ أنت نمس ..! (أفعى من تحت التبن ) من أين لك هذا
المال ؟
أضاف آخر بسخرية
:
ـ جدّته أورثته إياه ..وسرى ضحك شديد
.
_
معلم سهيل لماذا أحبتك الفتاة ؟
أجاب رياض
:
ـ على صدقه وصراحته
..
وتضاعف ضحك المجموعة بمن فيهم سهيل
..
ـ لا.. أحبته على ماله لقد قررت
الزواج بك على طمع فاحذر . الورثة التي تركها عمي أبو سهيل قد أغرت والدها
فأجبرها على الزواج بك ..
واستمروا على مرحهم حتى لاح الفجر
ومنعهم السكر من معاينة جماله الأخاذ وقت بزوغه حتى أخذوا يترنحون كشجيرات
تهزها الرياح إلى الحارة . وقال سهيل لرياض بنبرة آمرة
:
ـ أنا سأقود و ستتبعونني كلكم . نظر
إليه رياض بريبة ..تردد قليلاً ثم رمى له المفاتيح وقال : هيا
..
انطلق بسرعة دون توازن وكذلك انطلق
في أثره الباقين تفوح منهم التعليقات الساخرة و الضحك . ودخل سهيل في
الحيّ مارا من أمام بيت محبوبته ثم لفّ عدّة مرات بين الشوارع الترابية في
الحي المبعثر وأعادوا الكرّة ناشرين ضجيجاً فظيعاً ظن على أثره الأهالي أن
معركةً بين المهربين والشرطة تجري هنا ..وفي النهاية عانقه رياض وقال لا
تؤاخذني لقد كنت أمزح .. فقبض على يده بحرارة
:
_ (
و لايهمك
..)
عير
الفناء أمام والده الذي كان يسقي الورود والمزروعات بعد صلاة الفجر بمزاج
سيء بعد أن أزعجت أداءه لصلاة الفجر هذه الضوضاء , وسمعه يتمتم غاضباً من
رؤيته على هذه الحال (الرب يعطي البني آدم بالحسنة عشرة أضعافها وبالسيئة
مثلها ومع ذلك تجد ذنوبه إلى قمّة رأسه ) , توقف قليلاً ليصغي
حتى النهاية ثم دخل الغرفة الساكنة بلا مبالاة وأدار التلفزيون كي
يوقظه بعد ساعات ليمضي إلى العمل . تمدد على السرير شبه مخدّر وفكّر وهو
يتقلّب في نعم وخواطر الحب كم كانت حياته سوداء موحشة وتذكّر الأيام
الخالية عندما كان يستلقي بعد تجواله القلق ويتناهى إلى أذنيه صوت تكبير
والده وشعر بشفقة عظيمة واستنكار وخوف وتوجّه إحساسه إلى ما يشبه توسل
واستجداء كي لا يعود ذلك الزمن ..وبعد ثوانٍ تلاشت قوّته واستغرق في النوم
ليرى رجلاً غريباً يدخل البيت وينهال على والدته بالضرب أمام عينيه فتحفّز
و ثارت ثائرته وانقض على الرجل ليلاحظ أن ذاك الرجل لم يكن سوى والده
..فاستيقظ منزعجاً من تلك الحالة الغريبة التي خلفت عنده تنميلاً شديداً ,
وبعد قليل أتت فاتن لتفرض نفسها على مخيلته ومن خلال تفكيره المتواتر بها
شعر بأنها تدخل كنسيم ينسل عبر ستائر شفافة لتبعد الخيالات المزعجة و لتطوف
في الغرفة دون أن تطأ قدماها الأرض تماماً كالملائكة .. ثم اقتربت منه بعد
أن نشرت في الغرفة نسمة باردة منعشة كتلك التي تنشقّ من الفجر وعاين تفاصيل
جسدها وبشرتها بوضوح وانشدّ مستجيباً كأنها خاضع لمجال مغناطيسي وارتعدت
أوصاله دفعة واحدة بقوّة خفيّة ..وجاء صوت التلفزيون الذي بدأ البث للتو
ليوقظه مترافقاً وقد اضطهد جسده احتلام آخر ..ومع ذلك لم يتأثّر مزاجه
نظراًَ للغبطة والسعادة باللقاء اليوم
.
وبعد نصف ساعة كان قد استحم ووقف
ينتظر الحافلة ..وانطلق إلى العمل لسانه يتمتم بأغنية وعيناه تعاين أشجار
الكينا على طرف الطريق واللون الفيروزي للبحر على نحو احتفالي
..
أنجز عمله بسرعة ..وشرب المتّة تحت
فيء الكينا وكرر تلك البروفا التي سيقدم فيها زجاجة العطر لمحبوبته وقرابة
بعد الظهر غادر ليبدأ استعداداته للساعات المقبلة ..ولدى وصوله إلى البيت
كانت شقيقته هناك قد جاءت مصطحبةً بعض( الأغراض) للأهل .وبعد أن ارتدى
ملابسه ..
قالت له
:
ـ كدت لا أعرفك ! ما هذه الأناقة ؟
كان الابتهاج بادٍ عليها بالكامل فقد
اعتقدت أنّه لن يأتي أو أن القصة من أساسها مبتكرةً من نسج خياله وندمت على
اعتقاده ذاك . وحين اقتربت الساعة من الخامسة اضطرب جسده وتوترت أعصابه
تجلت بتنقله المستمر في المنزل و أخيراً سارا إلى الموعد
.
كان الشاطئ يحفل بحركة مستمرة بعد
حلول الصيف وانطلقت عدّة أصوات دفعة واحدة من مجموعة من الأولاد كانوا
يلعبون بالكرة ويرسلون صخباً يختلط بالأمواج , وثمّة أيضا مجموعة من الزوار
الغرباء هم عائلة انتحت مكاناً بعيداً عن مرمى الكرة ,تصاعد دخان شواء من
صوبهم . وقف وشقيقته متأبطة ذراعه يدير عينيه على الموجودين حتّى شاهدها مع
شقيقاتها قد انتحوا زاوية بعيدةً عن هذا كلّه بعضهن افترش الرمل ..أما هي
فقد أخذت تعبث على أطراف الموج
..
ـ ها هي هناك ..لنذهب . وسارت شقيقته تسأله بإلحاح :
أي واحدة هي ..؟
وهو يجيب : لحظة سترينها بنفسك
..
اضطربت لدى رؤيته فأوقفت لعبها وبقيت
مكانها بعد أن ابتعدت قليلاً عن الأمواج , وساد على وجهها تعبير بالتردد
والخجل ..
ـ مرحبا .. ابتدأ سهيل ووجهه لا يكاد
يُعرف من البهجة , وقدّم فاتن لشقيقته ..عقب ذلك وخلال الأسئلة العادية
الروتينية تمت عملية استكشاف الانطباعات بين الفتاتين , واتخذوا اتجاهاً
بمحاذاة الشاطئ ليسيروا فيه , سادت دقائق لم يتكلّم أحدُ بأي شيء سوى سهيل
الذي لم يتوقف عن الثرثرة عن عمله الجديد ّ. وغلب الوجوم على مزاج فاتن
ولاحظت ذلك رجاء – حين بدأت بتوجيه
بعض الأسئلة لها – من خلال الأجوبة الباردة وانعدام الفضول في حديثها كمن
يريد للوقت أن ينتهي , لمست عدم الجدية فيها وعبرت نصف ساعة ثقيلة غلب
عليها البرود من صوب الفتاة حتى لكانت بعض أجوبتها مهينة ولم يلاحظ سهيل
الذي راح يداعب علبة العطر في جيبه بلا انقطاع منتظراً اللحظة المناسبة ..
وأخيراً قالت رجاء :
ـ علي العودة لقد تأخرت
..
ـ مازال الوقت باكراً ..قال سهيل
.
ـ لقد أخبرتك أنني مرتبطة بعمل في
الساعة السابعة ..ألن توصلني إلى الطريق
..
والتفت قائلاً لفاتن انتظرني هنا
فرأى في وجهها ضيق لم يعهده من قبل
.
قالت له شقيقته في طريقهما وقد تبدّل
مزاجها بشكل واضح :
ـ هذه هي الفتاة إذاً
!
ـ نعم ما رأيك ؟
ـ ما حال مزاجها و ( ونفسيتها ) ..هل
هي دائماً هكذا ؟
والتمس الخيبة والنفور في كلمات
شقيقته فقال وقد تحسس المصيبة بإحساس الحيوانات قبل وقوع الزلازل والبراكين
..ربما لديها مشاكل في البيت
.
ـ يبدو لي أنها ما زالت صغيرة
..
وعندما وصلا إلى حيث سيفترقان نظرت
في عينيه المضطربتين وابتسمت بمرارة واستقلت حافلة إلى المدينة ..وعاد
أدراجه راكضاً إلى الشاطئ حيث كانت مازالت هناك مع شقيقاتها
.
ـ أريد أن أعود إلى البيت ..قالت له
بجفاف ..وتابعت إجابة لاستغرابه
..
ـ لقد تأخرت لأني وعدت والدي أني
سأعود باكراً ...
وارتاح قليلا لأنه عثر _ برأيه _ على
التفسير لتعكّر مزاجها اليوم إذاً لا علاقة لقدوم شقيقته بالأمر ..وقال وهو
يسير إلى جوارها بينما كانت عائدةً
:
ـ لقد أعجبت بك شقيقتي كثيراً
..
ـ شقيقتك ظريفة جدّاً ..واستوقفها
قائلاً :
ـ مابك كأنك تهربين هل رآك أحد تقفين معي..ماذا حصل
؟
وأجابت بغضب
:
ـ قلت لك وعدت والدي أن أعود باكراً
..
وعاد الصمت ليخيّم بينما يطأون الرمل
الناعم اللين ورائحة البحر تزكي أنوفهم وتسرّبت من خلاله أصوات الأولاد
..وزجاجة العطر كيف سيعطيها إياها الآن ؟ فالحالة فاقت كل توقعاته إنها لا
تقف لا بل لا تمشي أيضاً إنها تركض ركضاً !! فقرر أن يقدّم الهدية لها هكذا
..تناولها من جيبه وقال :
ـ فاتن هذه لك
!
بعد إصراره وإلحاحه توقفت . وإذ رأت
الهدية في يده الممتدة نحوها صدمت وازداد الوجوم على وجهها وطفقت تنظر
حولها كأنها تلتمس الفرار أو المساعدة من جهة ما..وسارت شقيقاتها متقدّمةً
عنهم ..
ـ لقد وقفت !! توقعاته في مكانها
..ولبث هينة من الوقت مادّاً يده بالهدية نحوها دون أن دون أدنى حركة ومن
يراهما يظن أنّه على العكس هو من يستجدي شيئاً منها . وكرر
قائلاً :
ـ هذا لك ألا تريدينه ..وظن أنها
تخجل فقرر القيام بالمبادرة وقبض على يدها كي يودعها الهدية باليد..فانتفضت
مذعورة بشكل غريب لفت انتباه بعض من كانوا هناك ..وقالت بعصبية
:
ـ ماذا تفعل ؟
تراجع وجبينه منكمش من الحرج
..
ـ أردت أن
..
ـ ماذا تظنني ؟!..
ومضت بسرعة تاركةً إياه وراءها يرفل
في الحيرة ! .. مشى في عقبها خطوتين ثم توقف وراقبها بصبر وهي تبتعد بجسدها
القصير الممتلئ وقدماها تطأن الرمال فتحفر قدراً بسيطاً يقذف بحبيبات إلى
الوراء والهواء ينشر شعرها الأسود كسحابة ترحل مع ريح شتوية إلى إحدى
الجهات ..
ـ الحق بها ..لا يجوز أن تتركها تذهب
هكذا فلن تعود أبداً ..
وانطلق منصاعاً يركض إليها
..
ـ أنا آسف إذا كنت قد أزعجتك ..توقفي فاتن ..! ماذا
حصل ؟؟
وأخيراً التفتت إليه ووجهها لا يفيض
بالضيق فقط بل بالاشمئزاز والنفور أيضا وقالت بنبرة لم يعهدها
:
ـ أنت لم تزعجني لكن ..لم أعد أستطيع
أن أراك ..
وصمت لثوانٍ قبل أن يسأل والخيبة لوت
حاجبيه وكسرتهما كجناحي نسر
..
ـ ولماذا ؟؟
ـ هكذا ..لم أعد أستطيع .. وأضافت
وقد رثت لهيئته ! ( أرجوك لا تزعل منّي
) .
ركبتاه تسمرتا في مكانهما ونادته
آلاف أصوات التهكم دفعة واحدة وانطلقت معها وجوه أخرى تتهكم وتبكي وتضحك في
نفس الوقت ابتلعت صوت الأمواج وصراخ الصبية ..وهدأ الدم في عروقه , ثم
استعاد إحساسه بالتدريج بما حوله بدأً من زجاجة العطر في يده..بينما كانت
فاتن قد ابتعدت دون أن تلقي نظرة نحوه.. تحولت ذاكرته إلى إحساس يدور حول
أكثر كلمات العالم غموضاً بالنسبة له : لم أعد أستطيع أرجوك لا تزعل منّي
..ورمى بزجاجة العطر عند قدميه فانغرست في الرمل .. وقام بحركة أشبه
بالانعكاسية وهي إشعال سيجارة بمنتهى الهدوء كمحكوم بالإعدام ينفذّ رغبته
الأخيرة قبل موته فيتظاهر بأنه على ما يرام ..وتلتها حركات أخرى لم يكن
لإرادته شيءٌ فيها نظر إلى البحر ثم إلى الأولاد ..وطرق تفكيره السؤال
الغامض :
ـ لم أعد أستطيع أن أراك ..فهزّ
كتفيه وقال تعليقاً :
ـ كما تريدين
..
لم يدر كيف قادته قدماه إلى الحارة
من جديد , كان الوقت غروباً ومرّ من أمام جيرانه و أهله دون أن يحيي أحداً
ودون أن يشعر بهم فضجيج نفسه طغى على كل الأصوات ..ودخل الغرفة التي كانت
معتمة على غير عادة فأزاح الستائر ليصطدم بالنافذة المغلقة .. وفكّر
متذكّراً عبارتها :
ـ طيب لماذا ؟ ماذا حصل اليوم ..
ونهض يستخرج سيجارة من العلبة بصعوبة نتيجة اضطرابه وأسنانه( تقرط )ما تصل
إليه من أطراف شاربيه ..(لأنتظر قليلاً حتى الغد ) ..وأطرق قليلاً يراجع
حديثهن هي ورجاء ..
ـ ربما لم تعجبها رجاء ..فانقلب
مزاجها ..
مستحيل ما دخل رجاء ؟ لكن
لماذا قالت لم أعد أستطيع رؤيتك ؟
والتفت إلى الشباك المغلق يريد
تحطيمه لينادي عليها ..أمسك نفسه وخرج من الغرفة مسرعاً ووجهه يغيب في حومة
من التعابير الغامضة . وركب إلى أسعد دون أن تسكت الأسئلة في عقله : لماذا
؟ ماذا حصل حتى أنه سال نفسه بصوت مرتفع . وأدرك أنه قام
بهذا على مرأى من الراكبين الذين
اخذوا ينظرون إليه بريبة فاضطر للنزول ..واستقل حافلة أخرى ..كان أسعد يجلس
أمام غرفته المنارة بمصباح تحلّقت حوله أسراب البعوض وغيره من الحشرات
..يشرب النرجيلة ويستمع إلى الأغاني اليونانية بمزاج هادئ ويراقب البحر
الذي بدأ يستولي عليه الليل ليبرز أنوار مبعثرة من السفن والمرفأ
.
وانضم إليه محدثاً ضجة نتيجة تعثره
بالكرسي ..وقال له أسعد :
ـ أهلا أين هذه الغيبة يا رجل ؟
تناول زجاجة بيرة من الثلاجة وتعال
..
وإذ وقف أمام الثلاجة كلم نفسه
:
ـ لا داعي للقلق .. عندما تعود إلى
البيت ستجدها بانتظارك واقفة على النافذة
.
فسأله أسعد من الخارج
:
ـ ماذا قلت ؟
..
ـ لاشيء
..
عندما جلس إلى جواره قال بدون مقدّمة
وكأنه يحدّث نفسه :
ـ اليوم ذهبت مع شقيقتي لأرى البنت التي كنت أريد أن
أخطبها , أراد شقيقتي أن تتعرف عليها ..وعندما رأتها انقلبت بالكامل وأصبح
وجهها يقطر سمّاً
_
من شقيقتك ؟
_
لا الفتاة ولماذا ؟ هذا ما لا أعرفه ؟!
ألقى أسعد أليه بنظرة مستغربة
خاطفة من طرف عينه إذ لاحظ اضطراب صوته وعلّق بعد قليل
:
ـ إنها تريد أن تلعب .. النسوان هكذا
يردن اللعب بالرجال دائماً ..هل قلت لها أحبك
..
ـ نعم
.
ـ هه ! ( خلاص ) تريد أن تلعب
بك إذاً . وعليك الاحتمال
..
وفكّر سهيل بجدّية متذكراً حفنة من
تصرفاتها ولعبها الطفولي :
ـ تريد أن تلعب !!..ثمّة شيء صحيح في
هذا ..
ثم قال بأسىً مفاجئ
:
ـ لكنها قالت إنها لم تعد تستطيع أن
تراني ..
ـ هذا دلال فقط .. ستعود بنفسها
..أظهر لها عدم اهتمام فقط ..وستعود
.
يظهر عدم اهتمام كيف سيظهره ! لم يكن
يدري أن الأمر بحاجة لسياسة
!!
ورقدت انفعالاته قليلاً ..مازال على
قناعه قويّة أنها تنتظره عند النافذة لتفسّر له ما حدث فنهض بعد قليل
إلى الحي من جديد ..فطبقاً للاحتمال الجديد لابد وأن تكون هناك
..
لقد خيّم الليل على الحارة مشيّعاً
بأصوات أزيز لصراصير قبعت بين الحشائش الجافة وركام الحجارة على هامش
البيوت , وطارت على ارتفاع منخفض خفافيش صغيرة تقتات بالبعوض والفراش ,
الأمور في الحارة تسير على نمطها المعهود , رتابة وتكرار يشي بالخوف
والكارثة . مجدداً كرر السؤال وعيناه معلقتان بالنافذة المغلقة : لماذا
؟؟ ومن جديد كان في الشارع وسيجارة تنتصب من فمه ..مشى ومشى والسيارات
تجاوزه في حالة أعادت إليه تلك الأيام الماضية
.
إنه حزين ..وكئيب حائر قدماه تعبر
المساحات التي قطعتها آلاف المرّات بحثاً هن لحظة هدوء ..وغابت الحارة عن
ناظره لم يبق سوى السيارات والتلال الغامضة وجسد ضئيل مليء بالمرارة وحطام
حادث .. ثمّة تساؤلٌ ملحٌ يجثم في عقله : لماذا علاقته بالكون هكذا
من يريد أن يستمر قلقه وانزعاجه بشكل دائم ! ماذا فعلت حتى يساء لي
بهذا الشكل ..هل الله من يفعل هذا !! وجال بعينيه على التلال الغامضة
والسماء إنه وجود غامض يزيد من حيرته التي تتضخم بلا ضوابط وتنبثق عنها
مئات الأصوات . لم يشعر في حياته بالعجز كما في هذه اللحظة
.
عندما عاد إلى الحارة لاحظ وجود
دورية شرطة أمام دكان أبا حامد .وثمّة جمهرة من أهالي الحي تتحلق حول
المكان في فضول . طلب احد عناصر الشرطة من أبا حامد إغلاق المحل و الصعود
في السيارة ففعل..وسرى لغط وتكهنات بين الموجودين عما حصل وعن السبب
..ونادته أم أمجد :
ـ سهيل ! ألا تعرف لماذا أخذوا
أبا حامد ..؟ أنت صديقه ..
وقبل أن يجيب شعر بأنها وقفة على
النافذة الآن ..فالتفت إلى ناحية الشباك بشكل مريب لفت انتباه أم أمجد ولم
يكن هناك من أحد ..واستنكر ذلك بانفعال في وجهه زاد من غرابة
تصرفاته..ثم حاول أن يبدو طبيعياً فقال
:
ـ
لا أنا منذ زمن لم اجلس عنده
..
الليل يطول وتتباعد دقائقه لتصبح كلّ
ثانيةٍ ساعة كاملة..لا مجال للتفكير بأي شيء آخر والأمل ذبل على أعتاب
النافذة المغلقة كأنها القبر , يكرر الحادثة في ذهنه فيجدها عصيّة على
التفكير وعقله لا يقبل موضوعاً سواه , ينحاز أحياناً متسائلا عما حصل لأبي
حامد بيد أنه يعود إلى لقاء اليوم ..خطر له كلام العجوز في الميناء
..ونصيحة أسعد دون استدعاء فتمتم بعدم مبالاة مزيفة : لماذا أنا ميت عليها
هكذا ؟ سأجد أية فتاة ليوم واحد ولليلة واحدة وانتهي ..طار خياله الخصب
وحلّق إلى الفتاة صاحبة المكياج والحمرة المبالغ فيها التي رآها يوماً عند
أبا حامد . كانت معجبةً بي و لا ريب ولن ترفضني !..ستدخل إلى الغرفة دون
مشاكل لن يسألني أحد من هذه ؟ ..وهنا ! رسم له خياله لحظات زاهرة حمراء
ساخنة يلتصق فيها الجسدان السمراوان والمسام تنبض شهوة وتعرّقاً واستمنأ
بشكل خاطف لا يدري هرباً من ماذا ..وتمدد كالميت ..بصق على الأرض وعلى
الحائط وهرب من ضجيج الأصوات والذنب في الغرفة إلى الشارع بينما تهب على
تفكيره المفتت عواصف مرعبة من الندم والشك والخيبة ..كانت الساعة قد ناهزت
منتصف الليل وهناك تذكر تحدّي رياض له
.
ـ معقول أن يكون قد فعلها بي ..وركض
نحو الخيمة علّه يجده هناك فيستفسر منه
..
لم يكن هناك من أحد ! سوى صوت أوراق
القصب الجاف التي تتحرش بها النسائم , والبحر بصوته الهائل كوحش يزأر بلا
انقطاع ..وزجاجات عرق فارغة ..وفحم أسود استخدم في شواء اللحم .. توقف في
وسط الخيمة وقلبه النابض بشدة يريد القفز من تجويفه الصدري من جرّاء اللهاث
والعرق يتفصّد من أسفل عنقه كدمٍّ يفور من نحر ثور ذبح للتو
ـ لا أحد ! أوحت له العتمة بأيامه
الغابرة حين كان يجوب الطرقات في الليالي و هدأ كل الصخب في داخله كموت
مفاجأ فابتسم باستسلام أمام غموض الصورة التي لا يدري منها شيئاً والتي
تزيده شعوراً بالغبن والظلم من جهة ما قويّة نافذة وشديدة الغموض
!
فرّ من الخيمة كالمذعور وعند طرف
التلال الغامضة وقف على نداء من داخله
:
ـ ( عدم التوفيق هذا ) كله من قلّة
الإيمان !!
صداع شديد في الرأس أوقف تدافع
الأصوات ذاك .لم يعد يحتمل ووقف على زاوية الشارع مقرفصاً يضع رأسه بين
كفيه ويضغطه كأنه يحاول أن يفرغه ..بينما كان الفجر يلوح منبثقاً من الشرق
يبقر بطن السماء ناشراً شفقاً بلون أحمر
..
وتبادر إلى ذهنه أن رجاء لابد تعرف
ما لخطب فنهض دون تردد يسير في الشوارع الخالية حيث تبحث بضع قطط شاحبة
نحيلة في أكياس القمامة , وسيارات الشحن الصغيرة
(
السوزوكي) تعبر محمّلة بالخضار الطازجة
في طريقها إلى السوق..خرج صهره وعلى وجهه تلوح آثار النوم وأطلت رجاء من
آخر الممر تنظر ..
ـ سهيل ! خير إنشاء الله ماذا حصل ؟؟
سألت بلهفة . وإذ رأت وجهه المتعب الغريب كأنه هارب من كابوس اعتصرت فؤادها
غصّة شديدة وفهمت الموضوع ..
جلسوا جميعاً في الصالون وانفرد
بالجلوس مطرقاً رأسه إلى الأرض ثم طلب سيجارة من صهره
..
ـ إنها صغيرة هذا كل ما في الأمر
..
ولم يبد أي تعليق واكتفى بشرب المتة
والتدخين بعمق ..ثم قال
:
ـ لهذا قالت لي لم أعد أستطيع رؤيتك
! .
ـ نعم . لأنها مراهقة ..وأنت تعرف
الفتاة في أول عمرها تتصرّف( هكذا ) كيفما اتفق ..إنها غير جدّية وغير
مستعدةٍ ( أصلاً) للزواج ..استغرب كيف صدقتها ! اظنها لم تصدقك حين عرضت
عليها الزواج .
وأطرق إلى الأرض من جديد وعلى وجهه
ارتسمت ابتسامة صفراء :
ـ فعلاً إنها كذلك ؟؟..صغيرة
..
وتكلّم صهره
:
ـ لا تفكّر بها يا رجل ستجد ..يا أخي
قل لنا أنك تريد الزواج ..( قلّة معارف عندنا) البنت صغيرة دعك
منها ..
ـ من أين تعرفها ؟ سأل باستنكار
..
ـ حكت لي رجاء
..
ـ لا يمكن لها أن تكون جدية أرأيت كيف تتكلم وتلعب
كالطفلة (عندما رايتها من البداية) عرفت أنها ما تزال صغيرة
. وحتى لو تزوجتها كانت ( ستعقدك ) فبينكم أجيال انساها سأعرفك على واحدة
تناسبك , والله العظيم سأجد لك . أنت تعرفني عندما أعد أنفذ لم يكن يتصور
أن الأمر على هذا السوء وأتضح له لأول مرّة أنه يغوص في حمأة
من الوهم التي نسجها حول نفسه ليس في
هذا الأمر بالذات وإنما في كل جوانب حياته ..ونهض لينصرف ..تبعته رجاء إلى
الباب وكررت وعدها له , وقبل أن ينصرف رأت في عينيه ذبول روحه ..فلم تستطع
أن تمنع نفسها من البكاء عندما أغلقت الباب في أثره
..
المدينة أخذت تستيقظ بالتدريج طاردةً
النسيم الصباحي الذي يشيعه الفجر تحت وطأة عوادم السيارات وأنفاس البشر
وثقل الهواء الرطب ومشى في وسط الزحام لا يلوي على شيء ..كان أحياناً يقف
محدقاً بالجموع وواجهات المحلات حيث رفرفت أحلامه الوردية سابقاً
وتلفه الخيبة ويستنكر كل شيء هازّاً رأسه . وصل الصداع به الآن إلى حدّ لا
يطاق ..ومن بين خيالاته لوّح له أمل ندي بشعاع : ستفتح النافذة هذا
اليوم حتماً !
ـ لماذا يجب أن يكون الأمر كما قالت
رجاء..ربما على العكس !! إنها صغيرة تريد فقط أن تتدلل وهذا كل شيء
..انبثقت عقب ذلك صورتها من بين دفتي خياله لتحرك روحه ..ثمة سبب لهذا و
يجب أن أعرفه ..
في الحارة كان دكان أبا حامد ما يزال
مغلقاً وصوت أغنية فيروز تنساب من منشرة أبا ميخائيل .. الذي خاطبه بلهفة
وكأنه كان ينتظر من يتكلم معه
:
ـ صباح الخير سهيل ..لماذا وجهك هكذا
؟
ـ من السهر ..أجاب باقتضاب وهو يسير
إلى غرفته ..
ـ (هل سمعت !!) أبو حامد يعمل
في تهريب الآثار مع بعض زبائنه..والله منذ زمن عرفت أنهم (جماعة وسخين
) ..
وبعد عبارته تلك تركه ومضى
..
لا شيء !! النافذة مغلقة ,
والفناء المقفر وشجرة الزيتون الوحيدة بين الإطارات المهترئة والحديد الصدأ
. لقد خسر الرهان . فتمدد قليلاً على السرير الرطب بفعل الندى
متذكّراً أبا حامد ثم ما لبث أن غاب هذا تحت قوّة خواطره
.
حان وقت الذهاب إلى العمل وهو متعب
..ومع ذلك ذهب ..بدّل ملابسه وراح يتمشّى كالنمر الحبيس ..منتظراً ساعة
الظهيرة ..شتلات البندورة والخيار ..والسقاية كم هو عمل مضن وكم هو لطويل
الوقت حتى حلول الظهيرة ..لم يخف على صاحب العمل توتره وشروده فقال
:
ـ تستطيع الذهاب إن كنت متعباً ..
وبالفعل عاد قبل حلول الظهيرة بقليل ومن جديد راهن نفسه ..لا أحد ! كانت
الحارة تموج في حرّ شديد هبط قاسياً كعقوبة وبرز صوت بوق سيارة في المغسل
..ولأول مرّة شعر بأن الهواء في الداخل فاسد وغير قابل للتنفس فصعد إلى
السطح ..تناول حصاة صغيرة ورمى بها إلى النافذة..وكرر العملية دون نتيجة
فكرر رميه للحصى بحالة عصبية هستيرية . وأخيراً فُتحت النافذة لتظهر
والدتها بوجه متجهم عابس ! وبحركة رشيقة تفاداها مرتداً إلى الوراء
!
ـ لا فائدة . فعلاً كما قالت رجاء
يجب أن تنساها إنها صغيرة ..ونزل عن السطح مثقلٌ بالخيبة فيما كانت والدته
تراقب بقلق تصرفاته الغير متوازنة وحركته الدائمة دون سمت وقلبها منفطر من
الحزن تنتظر الأخبار من رجاء
..
أغلق النافذة بعد أن نظر طويلاً إلى
نافذتها فارتفع الحرّ في الغرفة , كان مرهقاً ذاهلاً و ثمّة صداع غريب قاس
يغلف رأسه بينما جافاه النوم كأنه رحل عنه إلى الأبد ..نظر إلى كتاباته
وقرأ بعضاً منها بخجل , إنها صغيرة تعبق منها أحلام كبيرة . ورغب في
تمزيقها وتحويلها إلى آلاف القطع .. بيد انه ودون أرادة أخذ يتذكر كل كلمة
في أي لحظة كتبها والمشاعر المختبأة وراءها , فانتابه على العكس أمل رقراق
أوقف هيجان خواطره . وراح يقرأ بتمعن أكثر وينظر إلى النافذة المغلقة ثم
أشعل سيجارة والدفتر على ركبتيه يكرر قراءة الكلمات , كانت والدته تدق
الباب بشدّة وتناديه من الخارج فأجاب بعد طول صمت وبصوت ثابت ..اتركوني لا
أريد أن آكل , ولم يعر سمعاً لما قالته بعد ذلك .. هدوء ! ذهبت
والدته لم تعد تناديه . كانت الثقة تلفه بأنها ستظهر على النافذة من جديد
.
بعد قليل سيصعد إلى السطح ليدخن
سيجارة ويسترق النظرات إلى نافذتها , إن لم تظهر سيتمشى على الطريق
العام منتظراً حلول الصباح ربما تكون قد قررت الخروج لتراه أو لترمي له
بورقة كتب فيها شيءٌ ما وبكافة الأحوال لديه الكثير ليفعله لغاية حلول ذلك
الوقت ..
النهار يرحل ببطء مع انحدار الشمس
نحو الأفق , الإضاءة تنخفض ويخيم سكون حار يملئ غرفته بالحر والحشرات و
آلاف الأفكار والأصوات . يغلق أبو ميخائيل منشرته .. دكان أبا حامد مغلق
لكنه سيفتح من جديد في وقت ما..ويغّير الأولاد ألعابهم , يتوقفون عن ركل
الكرة والضجيج ويتجمعون في حلقة يروون لبعضهم قصصاً مخيفة أو مضحكة . وتقل
بشكل عام أصوات محركات السيارات التي تهز الحي طوال النهار . لأن
المنطقة الصناعية تغلق محلاتها في السابعة ويبقى صدى محركات السيارات التي
تعبر الطريق العام وهو يذوب تدريجياً في المدى , ويهبط الليل ناشراً
نجوماً زاهية بعيدة وخفافيشاً وأسراب من البعوض وتتحرك أمواج البحر
وتتراقص بإغواء في مدّ وجذر .. ثم يبتلع _ هذا الليل _ أحاديث النهار
وحركاته ويفرز بدلاً منها طقوسه الخاصة
...
|